مؤسسة الزواج.. القيادة والنظام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7820 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 45 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859385 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393696 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215914 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الأسرة المسلمة > ملتقى الأمومة والطفل
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الأمومة والطفل يختص بكل ما يفيد الطفل وبتوعية الام وتثقيفها صحياً وتعليمياً ودينياً

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-12-2023, 11:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي مؤسسة الزواج.. القيادة والنظام

مؤسسة الزواج.. القيادة والنظام (1 – 2)


. فايز بن سعيد الزهراني






نزلت سورة النساء تحمل في ثناياها عددًا من التوجيهات الاجتماعية الحكيمة؛ لتربية الناس على العدل والتقوى في علاقاتهم، وحثّهم على التعاطف والالتئام فيما بينهم، فأمرت بحفظ مال اليتيم، وشدَّدت في ذلك، وأمرت بإعطاء النساء حقّهن من المهر، وحددت العدد المأذون به في تعدّد الزوجات، بعد أنْ كان الرجل في الجاهلية يتزوج سبعة من النساء وثمانية، وربما عشرة، وفرضت للمرأة نصيبًا من الإرث بعد أنْ كانت محرومة منه، ووزّعت تركة الميت بقسمة مُحكمة، ودعت إلى التوبة وإصلاح البيوت لتستقيم على أمر الله، ونزَّهت المرأة أنْ تكون متاعًا يُورَث كما كانت في الجاهلية، وبيَّنت حدود القرابة التي لا يمكن التزويج بها، ووبَّخت الرجل الذي يتطلع إلى مهر زوجه بغير وجه حق، وفي ذات الوقت نبَّهت الزوجة إلى سقوط حقها في المهر ببعض الاعتبارات الشرعية، إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة، والتي بها ارتفع شأن الزوجة في الإسلام عما كانت عليه في الجاهلية.
واقتضت البلاغة القرآنية لحماية هذه الأحكام أنْ تستفتحها بالأمر بالتقوى ومراقبة الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١] ، والتذكير بأساس تكوين النظام الاجتماعي: الولدية والزوجية المتَّصلَين بالنساء بالدرجة الأولى؛ ليجعل في الإنسان رادعًا وجدانيًّا يدفعه إلى حفظ المسؤولية الزوجية، ويتجنّب مزالق الجاهلية. قال السعدي: «وفي الإخبار بأنه خلَقهم من نفس واحدة، وأنه بثَّهم في أقطار الأرض -مع رجوعهم إلى أصل واحد-؛ ليعطف بعضهم على بعض، ويُرقِّق بعضهم على بعض»[1].
وأرشد -في ختام تلك الحزمة من التوجيهات- إلى ما يَحفظ المسؤولية الزوجية في البيوت، وهو أنْ يتولى الأزواج من الرجال مسؤولية «القوامة» في البيوت على النساء والأولاد والأتباع؛ باعتبارها الإجراء الإداري والأخلاقي الذي يُنمِّي البيوت ويُسهم في حمايتها من التصدُّع والتَّمزُّق. وذلك مقتضى عِلْم الله بأحوال البيوت وما يُصلحها، ومقتضى حكمته التي بها نزلت هذه الأحكام العادلة الصالحة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
تكليف القوامة
قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْـمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
القيِّم في أصل اللغة: السيد وسائس الأمر. فهو المُطاع؛ لأنه المسؤول عن إدارة الأمر وسياسته والاعتناء بشؤونه، ولا يكون للأمر الواحد مسؤولان وسيدان.
وقيِّم المرأة: زوجها في بعض اللغات، وقام الرجل على المرأة: صانَها، وإنَّه لقوَّام عليها: مائنٌ لها، من قولهم: قمت بأمرك، وكأنه -والله أعلم- الرجال قوامون على النساء: مَعنيُّون بشؤونهن[2].
قال الزمخشري: كما يقوم الولاة على الرعايا[3]. وقال ابن عاشور: القوَّام الذي يقوم على شأنِ شيءٍ ويليه ويُصْلحه، يقال: قوَّام وقيَّام وقيُّوم وقيِّم، وكلها مشتقة من القيام المجازي؛ لأنَّ شأن الذي يهتم بالأمر ويعتني به أنْ يقف ليُدير أمره[4].
إذن؛ فالقوامة في أصلها اللغويّ مسؤولية تُعنَى بحفظ الأمور وحمايتها ونمائها وإصلاحها، وتستلزم أنْ يكون القائم هو صاحب الأمر والنهي فيها، وإليه ترجع شؤون ما يقوم به. ولذلك كانوا يسمون مدير المدرسة قيِّمًا، ومنه عرفنا ابن «قَيِّم» الجوزية، أو ابن «القَيِّم»؛ أي ابن مدير المدرسة التي تسمَّى «الجوزية». وكذلك كانوا يسمون مدير المؤسسة الحكومية أو أمير الولاية من الولايات أو المدينة من المدن: «قائمًا».. وهكذا؛ وهذه المقدمة اللغوية مُهمَّة في إدراك مفهوم القوامة في القرآن.
والقوامة في لغة القرآن لا تختلف عن هذا المعنى، فالرجل قَيِّم المرأة زوجًا كان أو أبًا أو أخًا بحسب الحال.
ويلتئم معنى «القوامة» بأربعة أركان:
الأول: القيام برعاية مصالحهن، وما يحتجنه من نفقة ومسكن وملبس ومعاش وحاجات الحياة الأساسية. قال البغوي: «وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب»[5]. وبنحوه قال القرطبي والسعدي[6]. ومن هنا وجب على الرجل أنْ ينفق على زوجته فيما يلزمها من الحاجات الأساسية، وأنْ يستمرّ على ذلك.
الثاني: حمايتهن من الأجانب ودفع العدو عنهن وتحمُّل مسؤولية حفظهن كريمات عزيزات شريفات. قال القرطبي: «يقومون بالنفقة عليهن والذَّبّ عنهن»[7]. وهذا المعنى هو الذي دفع موسى -عليه السلام- لأنْ يأمر زوجه بالمُكْث في مكانها، قال تعالى: {إذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]، وذلك أنه ضلَّ الطريق بالليل، وكان الجو باردًا، فلم يشأ أنْ يغامر بزوجه معه في الذهاب إلى ذلك المكان المجهول، فلعل فيه ناسًا، وربما يكونون أشرارًا، فتحمَّل موسى -عليه السلام- مسؤولية الحفاظ على زوجه والإقدام لوحده على تلك النار، وجلْب ما يدفئ به زوجه منها، وبقيت هي في مكانها مصونة محفوظة.
وفي قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]، لجوء المرأة إلى زوجها في طلب الحماية ورد الاعتداء؛ لأنه من البديهي فطرةً أنْ يتحمَّل الرجل مسؤولية حِفْظ أهله وحمايتهم والدفاع عنهم. وقد ندَب النبي صلى الله عليه وسلم إلى القتال دون الزوجة؛ فقال: «مَن قُتِلَ ‌دون ‌أهله ‌فهو ‌شهيد»[8].
الثالث: الإصلاح والتأديب والتعليم، بأنْ يُصحِّح الأخطاء ويقوِّم الانحرافات ولو بالعقاب؛ والعقاب درجات. قال الطبري: «الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم»[9]. وبنحوه قال السدي. وقال مجاهد: «بالتأديب والتعليم»[10].
وهذا المعنى هو الذي بسببه نزلت الآية، ومن خلاله تكوَّن الحُكم العامّ للقوامة؛ حيث نزلت الآية في رجل لطم امرأته، فخُوصِمَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقضى لها بالقصاص، فنزلت الآية تقضي بأنْ لا قصاص ما دام تأديبًا، وذُكِرَ هذا عن الحسن وقتادة[11]؛ لأنَّ تأديب المرأة يقع ضمن مسؤوليات الرجل، كما أنَّ تأديب الرجل يقع ضمن مسؤوليات آخرين بحسب الحال.
الرابع: الرئاسة والحكم والسيادة؛ بأنْ يكون الرجل هو صاحب الأمر والنهي، والحَكَم بأنْ يكون هو صاحب الفصل في القرارات والمواقف، وهو السَّيِّد في بيته؛ بحيث لا يُتَّخذ شيء في بيته إلا بإذنه. لذلك قال ابن كثير: «الرجل قيِّمٌ على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومُؤدِّبها إذا اعوجت»[12]. وهو مستلٌّ من تفسير ابن عباس لقوله تعالى {قَوَّامُونَ}؛ حيث قال: «أمراء، عليها أنْ تُطيعه فيما أمرها الله به من طاعته»[13].
وهذا الركن مما تقتضيه سائر الأركان قبله؛ إذ لا يتم للرجل والمرأة ذلك إلا بأنْ يكون الرجل هو الأمير والسيد والحاكم في بيته، لذلك قال ابن عطية: «وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أنَّ للرجال عليهن استيلاء ومِلْكًا ما». وقال البغوي: «مُسلَّطون على تأديبهن»[14]؛ أي لهم سُلطة وحُكم.
وتأمل وصف القرآن للزوج بالسيادة في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ} [يوسف: 25] على سبيل الإقرار، وتأديب نساء الأُمَّة بهذا الأدب وتعريفهن بأنَّ حق السيادة للزوج قديم وأصيل في الأمم قبلنا، فلذلك قالت امرأة سعيد بن المسيب، وهو سيد التابعين: «ما كنّا نُكلّم ‌أزواجنا إلا كما تُكلّمون ‌أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله»[15].
ومن هنا يعرِّف الفقهاء القوامة بأنها «ولاية شرعية» للرجل على أهله، فقالوا: هي ولاية يُفَّوَض بموجبها الزوج بتدبير شؤون زوجته وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز[16]؛ أي أنَّ له الصلاحية، وعليه المسؤولية، ويَنْفُذُ أمره.
وبهذه الأركان الأربعة: رعاية المصالح، والحماية، والتأديب، والسيادة يتشكل مفهوم القوامة الشرعية الوارد في كتاب الله تعالى.
والقوامة بهذا المعنى الملتئم: تكليف وعمل دؤوب، ومسؤولية تتطلب الكدّ والجهد واليقظة والانتباه بشكل دائم، ومَن استعان بالله أعانه، ومن دعا الله أجابه، وبقدر الوفاء بمتطلبات التكليف يكون التشريف.
أهلية القوامة
شُرعت القوامة للرجال على النساء لسببين: وهبي فطري وكسبي، ذكرهما الله في محكم التنزيل، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. وتوضيحهما كما يلي:
السبب الأول: الوهبي الفِطْري. وهو أنَّ الله تعالى جعل في أصل خلقة جنس الرجال زيادة على أصل خلقة جنس النساء، كما في قوّتهم البدنية وقوتهم العقلية وقوتهم النفسية، قال تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}؛ أي: بما زاد به جنس الرجال على جنس النساء. قال السمعاني: «بالعقل، والعلم، والحِلم»[17]. وقال القرطبي: «ويقال: إنَّ الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأنَّ طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف»[18].
وقال السعدي: «وبما خصَّهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلَد الذي ليس للنساء مثله»[19]. وقال ابن عاشور: «المزايا الجِبليِّة التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذَّبّ عنها وحراستها لبقاء ذاتها، كما قال عمرو بن كلثوم:
يَقُتْنَ جيادنا ويقُلْن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مر العصور والأجيال، فصار حقًّا مُكتسبًا للرجال، وهذه حُجَّة برهانية على كون الرجال قوامين على النساء؛ فإنَّ حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرة، وإنْ كانت تقوى وتضعف»[20].
وعمرو بن كلثوم هو الشاعر الجاهلي المعروف، وهذا البيت من معلقته المعروفة، والتي يقول فيها:
إذا لم نحمِهنَّ فلا بقينا
لشيءٍ بعدهن ولا حَيينا
وما منعَ الظَّعائنَ مثلُ ضرْبٍ
ترى منه السَّواعدَ كالقُلينا
وهذه الزيادة في جنس الرجال على جنس النساء طبيعية؛ فإنَّ المرأة خُلقت من ضلع آدم أصلًا، فهي جزء منه، ووجود الرفق بين الأصل والفرع وبين الكل والجزء طبيعي، وقد اختار الله ذلك قدرًا لحكمته البالغة التي اقتضت أنَّ نظام الاجتماع الإنساني لا يكون بغيره، وأنه متى ما سعَى المجتمع في إلغاء الفارق الفطري الطبيعي الخَلقي بين المرأة والرجل خرِب المجتمع وفسد وشقي الرجل وشقيت المرأة.
والسبب الثاني: الكَسْبي. وهو مبني على ما قبله، وهو مسؤولية الرجل في الإنفاق، بشِقَّيْه: المهر والنفقة المستمرة على الزوجات طيلة الحياة[21]، فإنه بموجب هذه المسؤولية استحق السيادة له عليها وطاعتها له، فقد قضى الله في النظام الاجتماعي أنْ تكون مسؤولية الإنفاق والكسب والسعي في طلب الرزق على الرجل لا المرأة، وأنْ تكون هي مكفية مخدومة في الكسب والإنفاق والسكنى مقابل القوامة عليها. قال تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. قال الطبري: «يعني بما فضَّل الله به الرجال على أزواجهم من سَوْقهم إليهن مهورهن، وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهن؛ وذلك تفضيل الله -تبارك وتعالى- إياهم عليهن، ولذلك صاروا قُوَّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن»[22]. وقال ابن كثير: «مِنَ المهور والنفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم »[23].
وابن عاشور يُرجِع صيغة الماضي في {وَبِمَا أَنفَقُوا} إلى أنَّ ذلك أمر قد تقرَّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات. ويقول: «وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال؛ لأنَّ الاكتساب من شأن الرجال، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث، وذلك من عمل الرجال، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارة والأبنية، ونحو ذلك، وهذه حجة خطابية؛ لأنها ترجع إلى مصطلح غالب البشر، لا سيما العرب»[24].
ولذلك فإنَّ جنس الرجال هم مَن وقع عليهم التكليف الشرعي بإقامة الجهاد والجمعة والجماعات وإقامة الشعائر، والشهادة في مجامع القضايا وعقل الديات، ولذلك خصُّوا بالنبوة والخلافة والإمامة العظمى والصغرى والعصمة الزوجية والتطليق[25].
هذان السببان هما الموجبان للقوامة، فإذا تخلّف أحدهما سقطت القوامة بقدره، فإذا كان الرجل -مثلًا- عاجزًا عن الإنفاق على زوجته لم تَجِب له القوامة عليها[26]، وإذا كان ضعيفًا عاجزًا عن حماية زوجته سقطت عنه القوامة، ولها حينئذ حقّ فسخ النكاح؛ إنْ شاءت.
ولا تُعيَّرُ الزوجة بالإنفاق أو القوامة؛ فإنَّ ذلك مِن جُحود النعمة ورذيل الأخلاق ونقص المروءة، فإنها تبذل له ما هو أعز من المال؛ قلبَها وجسدَها وحياتها، لذلك كانت القوامة حقًّا مبذولًا في مقابل حقّ مبذول، وكما أنها إذا نشزت لم تجب في حقها النفقة؛ فكذلك الرجل إذا لم يُنْفِق لم تجب له القوامة.



[1] تيسير الكريم الرحمن 1/273.
[2] انظر: المحكم لابن سيده 6/592.
[3] الكشاف 1/505.
[4] التحرير والتنوير 5/38.
[5] معالم التنزيل 2/207.
[6] الجامع لأحكام القرآن 5/168، تيسير الكريم الرحمن 1/302.
[7] الجامع لأحكام القرآن 5/168.
[8] أخرجه أحمد ح1625، والترمذي ح1421، وقال: حسن صحيح.
[9] جامع البيان 8/290.
[10] تفسير القرآن لابن المنذر 2/686.
[11] جامع البيان 8/291.
[12] تفسير القرآن العظيم 2/292.
[13] جامع البيان 8/290.
[14] معالم التنزيل 1/519.
[15] حلية الأولياء 5/198.
[16] الموسوعة الفقهية الكويتية 34/75.
[17] تفسير القرآن للسمعاني 1/423.
[18] الجامع لأحكام القرآن 5/169.
[19] تيسير الكريم الرحمن 1/303.
[20] التحرير والتنوير 5/39. وانظر: معالم التنزيل 1/519، والمحرر الوجيز 3/132، وأنوار التنزيل 2/72.
[21] المحرر الوجيز 3/132.
[22] جامع البيان 6/587.
[23] تفسير القرآن العظيم 3/94.
[24] التحرير والتنوير 5/39.
[25] معالم التنزيل 1/519، أنوار التنزيل 2/72، فتح القدير 1/531.
[26] الجامع لأحكام القرآن 5/169.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-01-2024, 01:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مؤسسة الزواج.. القيادة والنظام

مؤسسة الزواج.. القيادة والنظام (2-2)


. فايز بن سعيد الزهراني








هل تستقيم مؤسسة بلا مدير؟
وهل تستقيم مَدرسة بلا ناظر؟
وماذا سيحدث لو أصبحت «الدولة» يومًا ما بلا رئيس؟
وماذا لو رفض أحدنا العمل في مؤسسة؛ لأنَّ فيها وظيفة «مدير»، ويشغلها «إنسان» آخر؟
وماذا لو امتنع العامل عن عمل ما؛ بسبب أنَّ مديرًا أمره به؟
فما فائدة المدير إذن؟
وكيف تنجح هذه المؤسسة في تحقيق أهدافها؟
فكذلك البيوت؛ لا بد لها من قائم عليها يُدير شؤونها ويُصلح أحوالها ويقوِّم انحرافاتها، ولا يكون ذلك إلا بالرجل، فهو المُكلّف بالقوامة على زوجاته، وعلى أولاده وخدمه ومماليكه، ليلتئم معنى البيت ويستقيم حاله.
وهو السيد، وإنْ استشار زوجته وأولاده، وإنْ فوَّضهم في بعض الأعمال، أيْ أنَّ مسؤولية ذلك كله وتَبِعاته تقع على كاهله. فهي تشبه ما يسمى في لغة الإدارة «الوظيفة القيادية». ولا بد في هذه البيوت من لزوم طاعته مِن قِبَل أهل البيت: زوجات وأولاد وغيرهم.
معادلة القوامة
ولا تستقيم الحياة الزوجية بمجرد قوامة الرجل؛ فإنَّ على المرأة واجبًا كذلك، وهو الطاعة لزوجها في غير معصية، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. فهذه الآية المُحكَمة بيّنت معادلة استقامة البيوت: رجل قوّام وزوجة صالحة.
وصلاح الزوجة يكون بأمرين:
الأول: قُنوتها، أي طاعتها الدائمة له، والسير في هواه؛ ما لم يكن في معصية.
والثاني: حِفْظها لزوجها في غيبته؛ في نفسها وجوارحها وفي ماله وسرّه. هكذا قال المفسرون[1].
وفي معنى صلاح الزوجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير النساء التي تسرّه إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره»[2]. وقال أيضًا: «إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أيّ أبواب الجنة شاءت»[3].
وقد هيَّأ الله تعالى فطرَة المرأة لقبول قوامة الرجل، فأصبحت القوامة بذلك إكسيرًا لبناء المجتمعات القوية والعابدة لربها.
وكما أنَّ الله تعالى هيَّأ فطرة الرجل للعمل الشاقّ، ومكابدة السوق والبحث عن الرزق والابتعاد عن البيت، والقدرة على الجهاد في سبيل الله، وكثرة الخطى في المصالح العامة، والإنفاق على مَن يعول، حتى هذه الغيرة الكامنة في الرجل جعلها الله بابًا لحماية المرأة مما يسوؤها وصيانةً لها عن عدوان الرجال عليها وعن الانفلات الأخلاقي، وما يسببه من اختلاط الأنساب وضياع النسل.
فكما كان ذلك في الرجل؛ فإنَّ الله سبحانه هيَّأ فطرة المرأة لقبول هذه القوامة فحبَّب إليها أنْ تكون في معية الرجل، تأتمر بأمره وتسارع في هواه، وتحبّ طاعته، وتتطلع إلى ثنائه لها، وهذا أحد الأسباب التي لأجلها حرَّم الله تعالى اختلاط الرجال بالنساء؛ إذ تدفعها فطرتها وطبيعتها إلى تلك المعية التي لا تنبغي أنْ تُبذَل إلا للزوج أو لذي محرم، وتدفعها إلى الخضوع بالقلب والجوارح بما لا ينبغي أنْ يكون إلا للزوج، وهي تحب -بفطرتها- إدارة الرجل لها أكثر من إدارة المرأة، فمن الرجل السيادة ومن المرأة الطاعة، ومن الرجل السكن المادي ومنها السكن النفسي، ومن الرجل بذل المال ومن المرأة بذل الخدمة، ومن الرجل غيرة تدفعه لحمايتها ومنها غيرة تدفعها إلى قربها منه.
ألا ترى أنَّ الله تعالى حرَّم على المرأة الخضوع بالقول عند الأجانب، فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]؛ وذلك لأنها تنقاد بفطرتها إلى الخضوع بالقول عند الرجل، فأرشد الله تعالى النساء بأنَّ هذا الخضوع لا ينبغي أنْ يكون إلا عند الأزواج؛ لأنه يستميلهم ويجذبهم إلى النساء ويحدث فيهم الحركة الغريزية، ولذلك نبَّه أهل العلم إلى أنه خاصّ بالزوج، قال ابن كثير: «أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها»[4]؛ لأنَّ من طبيعة الخضوع بالقول استمالة قلب الزوج وإيناسه، فكان حسنًا في موضعٍ وسيئًا في غير هذا الموضع.
وفي فطرة المرأة تطلُّعٌ إلى قوامة الرجل وتشوُّفٌ إلى سيادته وقبول أمره ونهيه، والقدرة على العيش في كنفه وخبائه. ومن حكمة ذلك: استقرار البيوت تحت قيادة واحدة ورأس واحد -كما المؤسسات والكيانات والحكومات-؛ فينتظم أمر الأمة كلها بانتظام بيوتها. هذا هو نظام الحياة والخلق.
ذلك صلاح الزوجة في شقّه الأول.
وصلاح المرأة في شقه الثاني يكون في حفظها لزوجها في غيبته عنها، فلا يدخل بيتها أحد إلا بإذنه، ولا تخرج هي إلا بإذنه، ولا تُفشِي سرّه، ولا تعبث بماله، ولا تصنع لنفسها خصوصية عنه وهي في عصمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «ولكم عليهن أنْ لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه»[5].
قال النووي: «والمختار أنَّ معناه أنْ لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم؛ سواء كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأة أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء: أنها لا يحل لها أنْ تأذن لرجل أو امرأة ولا محرمٍ ولا غيره في دخول منزل الزوج؛ إلا مَن علمتْ أو ظنتْ أنَّ الزوج لا يكرهه؛ لأنَّ الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يُوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجّح شيء ولا وُجِدَت قرينة: لا يحل الدخول، ولا الإذن»[6].
فإذا كان هذا الحكم يسري على القرابة والصحبة، فكيف بغير ذلك مما تسميه بعض النساء اليوم «خصوصيات»، فتنخرط في التطبيقات التواصلية دون اطلاع من الزوج أو إذن منه، وبعضهن تُواعد صديقاتها خارج البيت دون معرفة زوجها بهن ومن يكن، أو تخرج من بيتها بغير إذنه. وكل ذلك معدود في انفراط عقد الصلاح الذي ينبغي أنْ تتحلى به الزوجة. قال ابن عطية: «الغيب معناه كل ما غاب عن عِلْم زوجها مما استرعته، وذلك يعمُّ حال غيب الزوج وحال حضوره»[7].
وبحفظ الزوجة لزوجها في نفسها وفي بيته وسرّه وماله يكتمل معنى السكن النفسي الحاصل بالزواج، ولا سكون ولا اطمئنان لزوج فاقد الثقة في زوجته، وإنَّ كثيرًا من السلوكيات الحادثة كالمشاركة في التطبيقات الإلكترونية التواصلية، والخروج من البيت لغير الحاجة، والذهاب إلى الأماكن التي يكون فيها اختلاط بين الجنسين، واجتماع الصديقات المتكرر بدون حاجة.. إن كثيرًا منها ليعبث باستقرار البيت وسكون الزوج ونشوء القلق والاضطراب، ويُحْدِث شروخًا في بناء الزوجية، وقد يُفْضِي إلى انهياره.
وما جمال الحياة الزوجية إلا بزوج يَفْقَه معنى القوامة وبزوجة تُلبِّي مطالبها، إنها اللوحة مكتملة الجمال في عالم الاجتماع، وهو جمال حقيقي غير مصطنع، ولا يصبغ بالمحسنات، وإنها -والله الذي لا إله غيره- أجمل وأرقى وأعذب من تلك اللوحات التي يرسمها الإعلام والفن بين الأخدان والعشاق؛ وإنْ أسرفوا فيها تجميلًا وتحسينًا في الصورة والصوت، والشكل والقول.
القيادة الرحيمة
ومع ثبوت حق القوامة للرجل على زوجه، إلا أنه ينبغي أنْ يُكْسَى هذا الحق بثياب من الرحمة، وأنْ يتحلى هذا التسيُّد بالعطف، وأنْ تكون المروءة عنوانًا له. ينبغي أنْ يكون الرجل أكثر حلمًا وعقلًا، وأكرم سجية وبذلًا، وأحسن عشرةً وصحبةً، وهذا مقتضى التفضيل والزيادة، ولهذا رجَّح الطبري في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْـمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قولَ ابن عباس: «إنَّ الدرجة في هذا الموضع: الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه»[8]. فقال ابن عطية تعليقًا عليه: «وهذا كلام حَسَن بارع». ثم قال: «وإذا تأملتَ هذه الوجوه التي ذكر المفسرون؛ فيجيء من مجموعها: درجة تقتضي التفضيل»[9].
وهذا مقتضى مروءة القوامة: أنْ يجعل الزوجُ الرحمةَ والإحسانَ ومكارمَ الأخلاق هي أصل العلاقة وقاعدة العِشْرَة، فإنَّ الله يحب الرفق، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله»[10]. وفي رواية: «يا عائشة، إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العُنْف، وما لا يعطي على ما سواه»[11].
والقيادة الرحيمة استجابة لأمر الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. قال ابن كثير: «طَيِّبوا أقوالكم لهنَّ، وحَسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْـمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»[12].
وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العِشْرة دائم البِشْر، يداعب أهله ويتلطَّف بهم، ويُوسعهم نفقته، ويُضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك. قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أنْ أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: «هذه بتلك»[13]. ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله؛ يسمر مع أهله قليلًا قبل أنْ ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]»[14].
وكل ذلك يتطلب مستوًى من الرقابة الذاتية التي تراعي حق الله تعالى وأمره، وتراعي شرف النفس وتقديرها الذاتي.
فإذا اقتضى -بعد ذلك- التأديبُ قسوةً مشروعة وذكية وقع التأديب في موقعه المناسب والحكيم، وكان مَرضيًا عند الله تعالى، ثم عند كل عاقل.
قِسمة التفاضل
تقول بعض النساء: لماذا القوامة للرجال؟
وبعضهن تقول: لماذا لا نستقل بخياراتنا في الحياة دون إذن الأزواج؟
وبعضهن تقول: لماذا يُعطى الرجل سهم اثنتين في الميراث؟
وربما قالت إحداهن: لماذا ينفرد الرجال بالجهاد وإقامة الشعائر فيسبقونا إلى الأجر الكثير؟
إنَّ سؤالات المساواة قديمة، وقد ورد بعضها في زمن الوحي، فأجاب الوحي عنها في قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32] ؛ فأول ما يكون هو قبول أمر الله تعالى وقسمته، وهذا مقتضى العبودية الحقة لله، فلا يُسأل عما يفعل سبحانه، وهو الذي له الخلق والأمر، لهذا أشارت الآية إلى أصل المسألة، وهو أنَّ التفضيل صادر عن أمر الله الكوني والشرعي {مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
عن مجاهد قال: قالت أم سلمة -رضي الله عنها-: أيْ رسول الله، أتغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟ فنزلت الآية. وعنه قال: قول النساء: ليتنا رجال فنغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال[15].
وعن قتادة قال: كان أهل الجاهلية لا يُورِّثون المرأة شيئًا ولا الصبيّ شيئًا، وإنما يجعلون الميراث لمن يَحترف وينفع ويدفع، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ قال النساء: لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال. وقال الرجال: إنا لنرجو أنْ نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فأنزل الله الآية[16].
لقد نُهِيَت النساء عن هذا التمنّي، وكذلك نُهي الرجال عن تمني ما ليس لهم؛ وهو مضاعفة الأجر لكونهم رجالًا، قال السدي: «فإنَّ الرجال قالوا: نريد أنْ يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، فنريد أنْ يكون لنا في الأجر أجران. وقالت النساء: نريد أنْ يكون لنا أجر مثل الرجال، فإنا لا نستطيع أنْ نقاتل، ولو كُتب علينا القتال لقاتلنا، فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سلوا الله من فضله؛ يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم»[17].
فالنهي هنا عن وجود نوع اعتراض على قسمة التفاضل، وتمني ما ليس بالاختيار، فنُهِيَ الرجال عن تمنّي مضاعفة الأجر مُعلّلين كونهم رجالًا يُفضّلون على النساء في بعض الأمور، ونُهِيَ النساء عن تمنّي الوصول إلى ما للرجال من أفضلية.
أما الاختلاف بين الرجل والمرأة ووجود الفوارق الجسدية والنفسية مما فطر عليه الجنسان فمعروف ملموس مُشاهَد، بل هو بدهي قطعي، وانظر إلى حال المرأة حين يعتريها القصور الطبيعي حال حيضتها ونفاسها، فإنَّ الشرع يتسامح معها في بعض التكاليف المهمة كالصلاة والصيام، مراعاةً لهذا الظرف، وتيسيرًا لها في طاعة ربها، بينما لا تسقط الصلاة عن الرجل ولو كان في الصفوف الأولى في القتال، بل لا تسقط ولو كان على خط النار.
وانظر إلى حاجة القضاء إلى شهادة امرأتين معًا، قال تعالى: {فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: ٢٨٢]، مع أنَّ الشريعة تقبل روايتها للعلم وللحديث منفردة؛ لأنه شأنٌ عامّ ليس فيه خصوصية عليها؛ فهي قادرة على ضبطه، وقد أكثرت عائشة -رضي الله عنها- من رواية الحديث. بينما قد يغلب على المرأة في الشهادة شيء من الانحياز العاطفي؛ وقد لا يُمكِّنها من النظر الشامل في كل زوايا الموضوع {أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ؛ فوجب تكميل شهادتها بشهادة امرأة أخرى. والضلال عن الشهادة هو نسيان جزء منها لا كلها[18]، وهو يقع للمرأة غالبًا في مسألة الشهادة؛ لانحيازها العاطفي الطبيعي.
وكل ذلك معدود في النقص الجِبِلّي لجنس النساء عن جنس الرجال، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: «ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن». قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها»[19].
وفي سياق الزوجية؛ فإنَّ القوامة إسناد للمرأة، ومفيدة لمصلحتها، ورعاية لحقها الذي لو استقلت بنفسها لتحصيله لربما فاتها أجزاء منه، وهي مقتضى الرحمة الإلهية بها، ومقتضى الحكمة الربانية في تحقيق مصلحتها، ولذلك حرَّم الله نكاح المرأة بغير ولي من الرجال، فإنها ربما أخطأت تقدير صلاح الخاطب بتأثير عاطفتها فاحتاجت إلى من يشاركها الرأي ويُقدِّر المصلحة معها. فقوامة الولي في هذا السياق تكريم للمرأة وتشريف لها.
ولا تحتاج المرأة إلى مداراة هذا النقص الجِبِلّي ولا إخفائه، فإنه بعض زينتها وجزء من الجمال المحبّب إلى الرجال، كما يقول جرير:
إنَّ العيونَ التي في طرفِها حَوَرٌ
قتلْنَنا ثم لم يُـحييـنَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللبِّ حتى لا حراكَ بهِ
وهنَّ أضعفُ خلق الله أركانا
ويقول ابن الدمينة:
بنفسي وأهلي مَن إذا عرضوا له
ببعضِ الأذى لمْ يدْرِ كيف يُجيبُ
فلم يعتذرْ عُذرَ البريءِ ولم تزلْ
بهِ سكتةٌ، حتى يُقالَ: مريب
فالأول تشبَّب بهن بضعف أركانهن، والثاني بعجزهعن الإبانة في الخصام! فما هو معدود في معايب الرجال يعدُّ من جملة محاسن النساء[20].
وأُذَكِّر بهذا لأنَّ المرأة اليوم تتعرَّض لخِطاب ثقافي مُغرِض، يجعلها تختار مضطرة بين قناعتين: إما أنها ناقصة معيبة، أو كاملة مساوية للرجل، وهي ثنائية مُقزِّزة ليس فيها مسحة الجمال، فضلًا عن النظرة الموضوعية، ونتيجة لذلك هربت بعض النساء من الخيار الأول «ناقصة معيبة» لتسقط في فخّ الخيار الآخر «كاملة مساوية للرجال»؛ فصارت بذلك أضحوكة الدهر، وتعبت وشقيت وأتعبت من حولها.
تفاضل الأجناس لا الأفراد
أفضلية الرجال على النساء هي لجنس الرجال على جنس النساء؛ لكونهم أهل النبوات والجهاد والولايات العامة، وإقامة الجُمَع والجماعات والشعائر، والسعي في الأرض وطلب الرزق والإنفاق والقوامة، وغيرها مما سبق ذكره[21].
لكن هنا تنبيه مهمّ للغاية، وهو أنَّ أفضلية جنس الرجال على جنس النساء لا يلزم منها أفضلية أفراد الرجال على أفراد النساء، وإنما ذلك مرهون بعمل كل واحد، والتكريم بحسب التقوى لا الاسم، ولا يسري القانون على كل فرد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقد أرشد الله تعالى في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] إلى أنَّ الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء، وذلك أنَّ الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال والنساء؛ وإنْ فضل الرجال في الدنيا على النساء[22]. قال ابن كثير: «أي كلٌّ له جزاء على عمله بحسبه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشرٌّ، وهو قول ابن جرير»[23].
ولربما أدَّت الواحدة من النساء حقّ الله عليها فنالت مرتبة عند الله أعلى من مرتبة زوجها المُقصّر في حق الله، وذلك بكسبها وعملها، ونحن نعلم يقينًا أنَّ مريم -عليها السلام، وهي امرأة - خير من كثير من أفاضل الرجال، فإنها نالت درجة الصديقية وكملها الله تعالى، كما نعلم يقينًا أنَّ امرأة فرعون خيرٌ من كثير من الأزواج المؤمنين.
وكما يُفضَّل جنس الرجال بما ذكر سابقًا؛ فإنَّ جنس النساء يُفضَّل على الرجال بما اختُصُّوا به فطرةً من الحمل والإنجاب وما يصحبهما من جهد وألم، والحنان على الولد وإرضاعه والصبر عليه مما لا يستطيعه أشداء الرجال، وبما اختصوا به شرعًا كلزوم البيت والحجاب وطاعة الأزواج، وبكل ذلك ينلن من الأجور العظيمة ما لا يمكن للرجال نَيْله. قال الراغب الأصفهاني: «بيَّن تعالى أنَّ السياسة للرجل دون المرأة، وأنَّ لكلِّ واحد من الرجل والمرأة فضيلتين؛ إحداهما تسخير من الله تعالى، والأخرى من كسبه»[24].
فالتفاضل قسمة بين الرجال والنساء.
وكل واحد عليه الرضا بحكمة الله وقدرته، ثم عليه الاجتهاد في القيام بواجبه الذي سيُؤجر عليه أو يأثم بالتفريط فيه، ثم عليه تجنّب التمني في مسألة المساواة، قال الطبري: «نهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أنْ يسألوه من فضله؛ إذ كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق»[25].
قوامة لا سلطة
والقرآن يسميها قوامة، لما تحمله من معاني التسيُّد الممزوجة بالحفظ والنظر والرحمة، ولا يسميها سلطة كما تفعل قواميس الحضارة الغربية فتقول «سلطة الرجل».
وفرقٌ بين الاسمين وما يحملانه من معاني ودلالات، قال ابن فارس: «السين واللام والطاء أصل واحد، وهو القوة والقهر، من ذلك السلاطة، من التسلط وهو القهر»[26]. وهذا مدعاة إلى تأمل الأسماء والمصطلحات التي أثبتتها النصوص الشريفة، وما تدل عليه ومقارنتها بالأسماء والمصطلحات التي وضعها الناس وفق أهوائهم وأفكارهم.
وإنما تُسمّي قواميس الحضارة الغربية القوامة سلطةً لتُنفِّر النساء عن فطرة الزواج وجمال القوامة؛ كما هي عادة المحرفين من المنافقين ومن أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
وإنما تفعل ذلك لتكرّس في وجدان المرأة: الفردانية والاستقلال، وتنزع منها القبول لقوامة الرجل وما يقتضيه من الطاعة والصلاح والصيانة، وفي ذلك تقول الكاتبة الأمريكية أدريان ريتشي Adrienne rich: «إنَّ نظام الزوجية تم فرضه على النساء ترهيبًا وترغيبًا، كما أنَّ هوية النساء تُعدُّ مصدر قوة تم تحجيمها وتبديدها بعنف في ظل نظام الزوجية. الوضع يحتاج إلى إدراكٍ جريء للترويج السياسي والاقتصادي والثقافي للزواج؛ إدراك نتجاوز به الحالات الفردية أو حالات المجموعات المختلفة إلى نوع من الرؤية المركبة المطلوبة لإزالة سلطة الرجال التي يُلوّحون بها في كل مكان في وجه النساء»[27].
وهكذا يتنادون اليوم بضرورة نقل المفهوم من القوامة إلى السلطة والقهر والعنف، ليتم تنفير المجتمعات المسلمة من شريعة الله التي رَفقت بالمرأة وارتقت بها ونظّمت حياتها وكرّمتها وشرّفتها وجمّلتها.



[1] انظر: معالم التنزيل 1/519، وتيسير الكريم الرحمن 1/303.
[2] أخرجه النسائي ح3231، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح1838.
[3] أخرجه ابن حبان ح4163، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح660.
[4] تفسير القرآن العظيم 6/182.
[5] أخرجه مسلم ح1218.
[6] شرح النووي 8/184.
[7] المحرر الوجيز 3/133.
[8] جامع البيان 4/123.
[9] المحرر الوجيز 2/60.
[10] أخرجه البخاري ح6024 ومسلم ح2165.
[11] أخرجه مسلم ح2593.
[12] أخرجه الترمذي ح3895 وقال: حسن صحيح.
[13] أخرجه أبو داود ح2578، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح7007.
[14] تفسير القرآن العظيم 3/44.
[15] جامع البيان 6/664.
[16] جامع البيان 6/667.
[17] جامع البيان 6/666.
[18] المحرر الوجيز 2/270.
[19] أخرجه البخاري ح304، ومسلم 79.
[20] انظر: أضواء البيان 3/501.
[21] تفسير القرآن العظيم 3/94، وتيسير الكريم الرحمن 1/303.
[22] معالم التنزيل 1/517.
[23] تفسير القرآن العظيم 3/89.
[24] تفسير الراغب الأصفهاني 3/1222.
[25] جامع البيان 6/663.
[26] مقاييس اللغة 1/567.
[27] الأسرة في الغرب ص294.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 99.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 96.37 كيلو بايت... تم توفير 2.80 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]