تأثير العلم في العمل - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         لمسات بيانية الجديد 12 لسور القرآن الكريم كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أسئلة بيانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 637 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 270 )           »          معنى حديث «من ستر مسلماً ستره الله..» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          ركعتا تحية المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حكم صيام من دخل بعض الماء إلى جوفه دون قصد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 368 )           »          قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-12-2019, 05:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي تأثير العلم في العمل

تأثير العلم في العمل
محمد رشيد رضا

(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) (فاطر: 28)
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده ومجموعه صحيحة، منطبعة في النفس بتكرر العمل، أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه أعمال جليلة، وآثار جميلة، ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام، أو غير منطبعة في النفس؛ لعدم التربية عليها، والعمل بها، والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار، فلا جرم أنَّ الأعمال تأتي مختلة سيئة، والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة الجاهلة بعيدة عن السعادة.
العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تُنفَى إلا بالعلم التفصيلي الكامل، ألا ترى أنَّ أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أُمَّهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو كان هذا العلم صحيحًا كاملًا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس والأرواح؛ لأنَّ كلَّ صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملًا بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإنَّ النزيه ربما ينطق بالسبِّ والهجر من القول؛ لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده، وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم، ولا تنحرف بهم عن جادة السعادة (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) (النساء: 17)، خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس، وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أنَّ العلم لا يُؤثِّر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنَّهم على شيء من العلم، ويمارون في القول؛ لأنَّه جاء مجملًا، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من التمثيل.
إنَّ الذي يعلم علمًا ناقصًا أنَّ الحسد والكبر (( وهو غمط الحق واحتقار الناس)) رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنَّه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر، ويرى أنَّه غير حاسد ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل، فيقول في الحق الذي غمطه ولم يخضع له- لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنَّه ليس بحقٍّ.
وينتحل ما تجود به قريحته من الشُّبه؛ لإثبات أنَّه ليس بحقٍّ، وإذا لم يجد شبهة يطفئ بها نور الحق؛ لقوة شعاعه يقول: إنَّه حقٌّ، ولكن جاء في غير وقته، ووُضع في غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته، بل لأنَّه لم يأتِ على منهاج الحكمة، " وكأن الحكمة مختصة به، لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور" ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إنَّ ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره- لم أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.
والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا، وأعماه عن جزئيات رذائله- أنَّ ما وقع منه لو عُرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم بأنَّه حسد وكبر، لا يحتمل التأويل، وعجيب أنَّ مثل هذه التعلَّات تصدر من أمثل العلماء...
ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله، حتى ما تصدر عنه آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت- أنَّ عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش والمنكرات، وهم يسلمِّون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في الغالب إلا لأنَّ علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين، عارضتها وصارعتها، فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض، كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة، فإنهم يسمعون من الوعاظ والخطباء أنَّ مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين- السنة السابقة والسنة اللاحقة- ومن صام يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأنَّ من سبَّح كذا في وقت كذا غُفِرت له ذنوبه، وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأنَّ الله يعتق في كل ليلة من رمضان كذا، والمجموع يستغرق الأُمَّة، وكالشفاعات فقد توسَّع فيها الوعَّاظ والقُصَّاص، وفي الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه، بعد الشفاعة لأهله وخلانه،ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظِّموهم، وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع... وبعضه له معانٍ صحيحة، لا يترتب عليها هذا الغرور الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان، مثلًا: إن ما ورد في المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تُكَفَّر هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات؛ كأكل أموال الناس بالباطل، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وعدم الوفاء بالوعد؛ فإنَّ مثل هذه لا تُكفَّر إلا بالإقلاع عنها، وردِّ الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يُباح للإنسان معها كلُّ شيء، ولبطلت فائدة النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.
كيف يصحُّ أن نقول: إنَّ حركة اللسان بكلمات، أو صيام يوم أو أيام يُكفِّر هذه السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء، وأنزلت بها صواعق البلاء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحجَّ واعتمر، وقال: إني مسلم- إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتجٍّ به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (( وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم)) وظاهر هذا الحديث أنَّ مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة، ولا يغني عنه ادِّعاء الإسلام، والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة؛ كالصوم والصلاة والحج، ولكن العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به النفاق العملي، ولكن لا يستطيع أحد منهم أن يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث، ورفض له.
وأما العفو وشفاعة النبي- وهي عبارة عن دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيب الله - تعالى -له- فالحكمة في الأول: أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنَّه إذا يئس يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه، والحكمة في الثانية: إظهار كرامة للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى، والكتاب والسنة طافحان ببيان ما يرتضيه - تعالى -وما لا يرتضيه، ونكتفي هنا بقوله - تعالى -: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: 8) على أنَّ العفو والشفاعة مبهَم أمرهما، والأصل أنَّ الجزاء على الأعمال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنزل عليه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) فقال: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمة يا بنت محمد، سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا)).
وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء، الذين تتغيَّر انفعالاتهم، ويمكن للمقرَّب منهم أن يُؤثِّر في نفوسهم، ويحملهم على ما يريد منهم، ونحو هذا مما هو ممتنع في جانب الله - تعالى -، هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات جهرًا اتكالًا على عفو الأمير، أو السلطان، أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد المقربين إليه؟! كلا، إنَّ مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان، أو المقرَّب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أنَّ العفو يناله، بل إنَّه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا يتقيَّد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين - سبحانه وتعالى -، وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أنَّ العمل إنما ينشأ عن العلم الأثبت والأقوى في النفس، وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية التي صدَّرنا بها هذه المقالة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) (فاطر: 28) وحديث: (( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)).
ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أنَّ العلم الصحيح، السالم من الشوائب والعلل- هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل، فيصحُّ أن يُستدلَّ بأعمال الأفراد، وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها، وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً، ومعلوم أنَّ سعادة الأمم بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق، وتقويم العادات، وتصحيح العقائد التي يُبنَى عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على ذلك حديث: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي الشقاء، فثبت بهذا كله أنَّ مبدأ ما حلَّ بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه، واصطلام [استئصال] الجراثيم التي يتولَّد هو منها...
والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.
... الإسلام يقرِّر ثباتَ الخلُق، ويُوجبه، ويُنشئ النفسَ عليه، ويجعله في حِياطة المجتمع وحراسته؛ لأنَّ هنالك حدودًا في الإنسانية تتميز بحدود في الحياة، ولابد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكونَ وضْعٌ إلا وراءَه تقدير، ولا تقديرٌ إلا معه حكمة، ولا حكمةٌ إلا فيها مصلحة، وحتى لا تعلوَ الحياةُ ولا تنزلَ إلا بمثل ما ترى من كفَّتيْ ميزان شدَّتا في علاقة تجمعهما وتحرِّكهما معًا؛ فهي بذاتها هي التي تنزلُ بالمنازل لتدلَّ عليه، وتَشِيل بالعالي لتبين عنه؛ فالإسلامُ من المدنية هو مدنية هذه المدنية.
إنَّها لن تتغيَّر مادةُ العظمِ واللحمِ والدمِ في الإنسان، فهي ثابتةٌ مقدَّرةٌ عليه، ولن تتبدَّل السُّننُ الإلهيةُ التي تُوجدها وتُفنيها؛ فهي مُصرِّفة لها قاضيةٌ عليها، وبين عمل هذه المادة وعملِ قانونِها فيها تكونُ أسرارُ التكوين، وفي هذه الأسرارِ تجد تاريخَ الإنسانية كلَّه سابحًا في الدَّم.
هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملَها الإلهي، وهي محدَّدةٌ محكمة على ما يكونُ من تعاديها واختلافِ بينها، وكأنها خُلقتْ بمجموعها لمجموعها، ومن ثَمَّ يكون الخُلق الصحيح في معناه قانونًا إلهيًّا على قوَّةٍ كقوَّةِ الكونِ وضبطٍ كضبطه.
وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلُق أن يحوِّل المادة التي تعارضه إذا هو اشتدَّ وصلُب، ولكنَّه يتحوَّلُ معها إذا هو لانَ أو ضعُفَ، فهو قدَرٌ إلا أنه في طاعتك؛ إذ هو قوَّةُ الفَصْل بين إنسانيَّتِك وحيوانيتك، كما أنَّه قوَّةُ المزج بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سُوِّغَ القُدرةَ على هذه الأحوالِ جميعًا، ولولا أنَّه بهذه المثابة لعاشَ الإنسانُ طولَ التاريخ قبل التاريخ؛ إذ لن يكونَ له حينئذ كونٌ تؤرَّخُ فضائلُه، أو رذائلُه بمدح أو ذمٍّ.
فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد؛ إذ الفردُ مقيَّدٌ في ذاتِ نفسه بمجموع هو للمجموع، وليس له وحده؛ فإنَّك ترى الغرائزَ دائبةً في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسُنَنٍ من أعمالها، ودائبةً كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسننٍ أخرى، فليس قانونُ الفرد إلا أمرًا عارضًا كما ترى، وبهذا يمكن أن يتحولَ الفردُ على أسباب مختلفة، ثم تبقى الأخلاقُ التي بينه وبين المجموع ثابتةً على صورتها.
فالأخلاق على أنها في الأفراد هي في حقيقتها حكمُ المجتمع على أفراده، فقِوامها بالاعتبار الاجتماعي لا غير.
وحينَ يقعُ الفسادُ في المُجْمَع عليه من آداب الناس، ويلْتوي ما كان مستقيمًا، وتشْتَبِه العاليةُ والسافلةُ، وتُطَّرحُ المبالاةُ بالضمير الاجتماعي، ويقومُ وزن الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبرة فيما يعتبرونه، بالرذائل والمحرمات، ولا يُعجبُ الناسَ إلا ما يُفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون، ويَحِلُّ في محل العادة- فهناك لا مِساكَ للخُلُق السليم على الفرد، ولابد من تحوُّل الفرد في حقيقته؛ إذ كان لا يجيء أبدًا إلا مُتصدِّعًا في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسورًا أو مثلومًا، وكأنه منتقلٌ من عالم إلى عالم ثانٍ بغير نواميس الأول.
وما شذَّ من هذه القاعدة إلا الأنبياءُ، وأفرادٌ من الحكماء، فأما أولئك فهم قوةُ التحويل في تاريخ الإنسانية، لا يُبعثُ أحدهم إلا ليهيجَ به الهيْجُ في التاريخ، ويتطرَّقُ به الناس إلى سُبُل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصفُ والزلازلُ والبراكينُ، لا شريعتُه ومبادئُه وآدابُه...
الأخلاقُ في رأيي هي الطريقةُ لتنظيم الشخصية الفردةِ على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكونُ من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه، وعندي أن للشعبِ ظاهرًا وباطنًا، فباطنُه هو الدينُ الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكمُ الجميع، ولن يصلُحَ للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكمُ الدينيُّ المتصلُ بالغيب مثلَه.
ومن هنا تتبيَّن مواضعُ الاختلال في المدنية الأوربية الجديدة، فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسدٌ بها في ذاتِ نفسه إذا هو تحلَّل من الدين، ولكنَّه مع ذلك يبدو صالحًا منتظمًا في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرحُ هازئًا من الأخلاق ساخرًا بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقًا يعتدُّ بها إلا إذا درَّتْ بها منافعه، وإلا فهي ضارَّة إذا كانت منها مضرَّة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات، ولا ينفكُّ هذا الفرد يتحوَّل؛ لأنَّه مطلقٌ في باطنه غيرُ مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغايةُ المتاعُ واللذةُ والنجاحُ، وليكن السبب ما هو كائن.
وبهذا فلن تقومَ القوانين في أوربا إذا فَنِيَ المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليومَ يُبصرون بأعينهم ما فعلت عقليةُ الحرب العظمى في طوائفَ منهم قد خَرِبتْ أنفسهم من إيمانهم؛ فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محارِبةً مقاتِلة ترمي في كلِّ شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتَّعفن والبِلى، وانتهت الحربُ بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.
وقديمًا حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوَّخوا الأمم، فأثبتوا في كلِّ أرضٍ هديَ دينهم، وقوةَ أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو من ورائها في السِّلْم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحوَّل، ولا تستخفُّه الحياةُ بِنَزَقِها، ولا تتسَفَّهه المدنيَّات؛ فتحمله على الطيش.
ولو كانوا هم أهلَ هذه الحرب الأخيرة بكلِّ ما قذفت به الدنيا، لبقيتْ لهم العقلية المؤمنة القوية؛ لأنَّ كلَّ مسلم فإنما هو وعقليته في سلطان باطنه الثابت القارِّ على حدودٍ بيِّنةٍ محصَّلةٍ مقسومةٍ، تحوطها وتُمسكها أعمال الإيمان التي أحكمها الإسلامُ أشدَّ إحكام بفرضها على النفوس منوَّعةً مكرَّرة: كالصلاة والصوم والزكاة؛ ليمنعَ بها تغيرًا ويُحدِثَ بها تغيرًا آخر، ويجعلَها كالحارسة للإرادة ما تزال تمر بها، وتتعهدها بين الساعة والساعة.
إنما الظاهر والباطنُ كالموج والساحل، فإذا جُنَّ الموج فلن يضِيره ما بقي الساحلُ ركينًا هادئًا مشدودًا بأعضاده في طبقات الأرض، أما إذا ماجَ الساحل فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير، ولا جرمَ ألا يكون إلا خسْفًا بالأرض والماء وما يتصل بهما.
في الكون أصل لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، هو قانون ضبط القوة، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الحكمة، ويقابله في الإنسان قانونٌ مثلُه لابد منه لضبط معاني الإنسان، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الكمال، وكلُّ فروض الدين الإسلاميّ وواجباته وآدابه، إنْ هي إلا حركة هذا القانون في عمله، فما تلك إلا طرقٌ ثابتةٌ لخَلْق الحسِّ الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموسٍ طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكلِّ ذلك قوةً في باطنها، فتسمَّى الواجباتُ والآدابُ فروضًا دينية، وما هي في الواقع إلا عناصرُ تكوين النفس العالية، وتكون أوامرَ وهي حقائق.
ومن ذلك أُرانا- نحن الشرقيين- نمتاز على الأوربيين بأننا أقربُ منهم إلى قوانين الكون، ففي أنفسنا ضوابط قويةٌ متينة إذا نحن أقررنا مدنيَّتهم فيها- وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسن هذه المدنية- سبقناهم وتركنا غبارَ أقدامنا في وجوههم، وكنَّا الطبقةَ المصفَّاة التي ينشُدُونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم نُنشئ هذه المدنية، ولم تنشئنا، فليس حقًّا علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرَها في حقيقتها، وأن نُسيغَ منها الحلوةَ والمرَّة، والناضجةَ والفجَّة، وإنما نحن نحصلها، ونقتبسها، ونرتجعُ منها الرَّجعة الحسنة؛ فلا نأخذ إلا الشيء الصالحَ مكان الشيء قد كان دونه عندنا، وندعُ ما سوى ذلك، ثم لا نأخذ ولا ندَعُ إلا على الأصول الضابطةِ المحكمة في أدياننا وآدابنا، ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم.
بيدَ أنَّ العجبَ الذي ما يفرغُ عجبي منه أنَّ الموسومين منَّا بالتجديد لا يحاولون أولَ وهلةٍ وآخرها إلا هدمَ تلك الضوابط التي هي كلُّ ما نمتاز به، والتي هي كذلك كلُّ ما تحتاج إليه أُوربا؛ لضبط مدنيتها، ويسمُّون ذلك تجديدًا، ولَهُوَ بأن يسمى حماقةً وجهلًا أولى وأحقُّ.
أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقلَ من لغاتِ أوربا، ولا عقلَ إلا عقلُ ما ينقلونه، فصَنَعتْهم الترجمةُ من حيثُ يدرون أو لا يدرون صنعةَ تقليدٍ محْضٍ ومُتابعةٍ مُستعبَدة، وأصبح عقلهم- بحكم العادة والطبيعة- إذا فكَّر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه، ولا يتحوَّل عنه، وإذا صحَّ أنَّ أعمالَنا هي التي تعملُنا- كما يقول بعض الحكماء- فهم بذلك خطرٌ أيُّ خطر على الشعب وقوميَّته وذاتيته وخصائصه، ويُوشكُ إذا هو أطاعهم إلى كلِّ ما يدعون إليه أن... أن يترجموه إلى شعبٍ آخر...
إنَّ أوربا ومدنيتها لا تساوي عندنا شيئًا إلا بمقدار ما تُحقِّق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها؛ فإنما الذاتيةُ وحدَها هي أساسُ قُوَّتنا في النزاع العالمي بكلِّ مظاهره أيَّما كان، ولها وحدَها، وباعتبارٍ منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أُوربا، ونُهمل ما نُهمل، ولا يجوز أن نتركَ التثبتَ في هذا، ولا أن نتسامحَ في دقةِ المحاسبةِ عليه.
فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخالُ الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته، ثم تنسيق مظهر الأُمَّة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العمل على اتحاد المشاعر، وتمازُجها؛ لتقويم هذا المظهر الشعبيِّ في جملته بتقويم أجزائه- هذه هي الأركان الأربعةُ التي لا يقوم على غيرها بناءُ الشرق.
والإلحادُ، والنزعاتُ السافلة، وتخانيثُ المدنية الأوربية التي لا عملَ لها إلا أن تُظهِرَ الخطرَ في أجمل أشكاله، ثم الجهل بعلوم القوَّة الحديثة، وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى هذا المجرى، ثم التدليسُ على الأُمَّة بآراء المقلِّدين والزائفين والمستعمرين لمحْقِ الأخلاق الشعبية القوية وما اتصل بذلك، ثم التخاذلُ والشقاقُ، وتدابُرُ الطوائف، وما كان بسبيلها- تلك هي المعاولُ الأربعةُ التي لا يهدمُ غيرُها بناءَ الشرق.

فليكن دائمًا شعارُنا- نحن الشرقيين- هذه الكلمة: أخلاقُنا قبل مدنيَّتِهم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.06 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.85%)]