موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 65 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 568 - عددالزوار : 92950 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 118 - عددالزوار : 56999 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 81 - عددالزوار : 26305 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 745 )           »          كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 41 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          { ويحذركم الله نفسه } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #641  
قديم 10-05-2008, 10:47 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الإعجاز التشريعي في مكافحة الجريمــة

د . منصور رحمانـي
جامعة سكيكدة -الجزائر
[FONT='Arial','sans-serif'][email protected]

لا ينسب النجاح إلى أي تشريع فيما وضع لأجله إلا إذا تحققت فيه أربعة عناصر، أولها أن يؤدي الغرض الذي وضع من أجله، وثانيها أن يتم له ذلك في أقل زمن، وثالثها أن يكون ذلك الغرض قد تحقق بأقل ما يمكن من التكاليف، وآخرها ألا تكون سلبياته أكثر من إيجابياته، فإذا انعدم عنصر واحد من هذه العناصر لم يكن التشريع ناجحا ولا فعالا في ما وضع من أجله، وفي موضوع مكافحة الجريمة فإن النجاح مرهون بالتقليل من نسب الجريمة في زمن قياسي مع اجتناب التكاليف الباهضة والإفرازات السلبية التي تخلفها عملية المكافحة.
ومن خلال دراساتي المتعددة لأنظمة التجريم والعقاب من العصور البدائية إلى اليوم(1) لم أجد هذه العناصر الأربعة قد تحققت كلها ولا حتى نصفها إلا في تشريع واحد هو التشريع الذي جاء به القرآن الكريم في ميدان مكافحة الجريمة، والموجود في نصوص القرآن، والمبين في السنة الشريفة، والمفسر في أقوال الصحابة الكرام وتطبيقاتهم وأقوال العلماء من بعدهم . ورب سائل عن حقيقة توفر هذه العناصر في التشريع القرآني ومدى تفرده في ذلك، وسوف أقدم بيانا بذلك من ما يلي :
أولا : نجاح التشريع القرآني في مكافحة الجريمة في زمن يسير:
إن أصدق ما يدل على نجاح هذا التشريع في مكافحة الجريمة هو ما تسفر عنه المقارنة بين حال الجريمة في المجتمع العربي قبل الإسلام وما أصبحت عليه بعده بزمن يسير، فعندما نزل القرآن الكريم على العرب كانت الجريمة فيهم هي الأصل، فكانت الأوثان تعبد، والأرحام تقطع، والأموال تنهب، والأرواح تزهق، والغزوات على قدم وساق، ولعل أوجز ما يعبر عن حالهم هو قول شاعرهم وحكيمهم زهير ابن أبي سلمى :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ولم يلبث نزول الوحي فيهم إلا ثلاثا وعشرين عاما حتى تغير حالهم من النقيض إلى النقيض، وأصبحت الجرائم فيهم استثناء بعد أن ظلت أصلا لمئات السنين، فتحولت العداوة إلى أخوة فاقت أخوة النسب، وتحول الانتقام إلى تسامح، وانتشر الأمن في ربوعهم حتى سار الواحد منهم من شرق الجزيرة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، وتحقق فيهم قول القرآن الكريم : (واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )(2)، في حين أن القوانين الوضعية الحديثة التي يعتبرها أهلها أكثر القوانين إحكاما في مجال مكافحة الجريمة لم تنجح بعد فيما وضعت من أجله وهو مكافحة الجريمة بعد مرور أكثر من قرنين على تاريخ وضعها، وهذا باعتراف أهلها الأصليين ومنهم قاض في محكمة النقض الفرنسية الذي تعتبر بلاده قبلة العالم اليوم في مجال التشريع خصوصا مستعمراتها السابقة ومنها الجزائر . قال السيد موريس باتان رئيس محكمة النقض الجزائية الفرنسية في افتتاح مؤتمر الوقاية من الإجرام المنعقد في باريس سنة 1959 : أنا لست إلا قاض في جهاز العدالة لم يخطر على بالي في أي وقت من الأوقات الاهتمام بأسس الوقاية من الإجرام لأن وظيفتي لم تكن هناك بل على العكس فقد كانت ولا تزال في العقاب لا في الحماية، كرست حياتي تبعا لمهنتي القضائية الطويلة في محاربة المنحرفين حربا سجالا لا هوادة فيها، سلاحي الوحيد الذي وضعه القانون تحت تصرفي سلاح العقاب التقليدي، أوزع الأحكام القاسية والشديدة أحيانا على جيوش المجرمين والمتمردين ضد المجتمع ،ساعيا ما أمكن إلى التوفيق بين نوعية العقاب وماهية الجريمة ،وكنت أسأل نفسي دوما كما كان الكثيرون من زملائي يتساءلون أيضا عما إذا كان هذا السلاح قد أصبح في يدنا غير ذي شأن، وقد شعرت ولا أزال أشعر بكثير من الألم والمرارة بما كان يشعر به أولئك الذين تحدثنا الأساطير عنهم، أنهم كانوا يحاربون المسخ فكانوا كلما قطعوا رأسا من رؤوس هذا المسخ تنبت محله رؤوس ورؤوس، وقد تعاقبت السنوات وأنا ألاحظ بدهشة أن عدد المجرمين لا يزال مستقرا إن لم يصبح متزايدا، وأنه كلما كنا نرسل الكبار منهم إلى السجن أو إلى المنفى أو إلى المقصلة كان غيرهم يخلفهم في نفس الطريق بأعداد أكثر منهم(3).
فهذا كما هو واضح اعتراف صريح بفشل القوانين الحديثة في مكافحة الجريمة وشواهد الحال والإحصائيات تؤكد هذا الكلام، وإنما نقلته في هذا المقام من باب (وشهد شاهد من أهلها )(4) .
إن نجاح التشريع القرآني غير مرتبط بالصرفة كما يمكن أن يدعيه البعض، كأن يقولوا مثلا إنما صرف الله القلوب والنوازع عن أن تفكر في الجريمة أو تقدم عليها على نحو صرفه للعرب أن يأتوا بمثل القرآن، وهو كلام غير صحيح أيضا فقد حاول بعض المتنبئين أن يأتوا بمثل القرآن ولكنهم فشلوا في ذلك مثل مسيلمة الكذاب، وإنما نجح التشريع القرآني فيما فشلت فيه القوانين الوضعية الحديثة بحكم اعتماده على منهج علمي فريد في مكافحة الجريمة، وكل مجتمع استند إلى هذا المنهج لا يشك أبدا في نجاحه مهما كان زمانه ومكانه، وهذا المنهج استقرأناه من النصوص المختلفة الواردة سواء في القرآن أو السنة، وهذا المنهج هو الذي نجح به التشريع القرآني في تلك الفترة الزمنية اليسيرة .
منهج الإسلام في مكافحة الجريمة
الجريمة سلوك شاذ، يهدد أمن الأفراد، واستقرار المجتمعات، ويقوض أركان الدول، ولذلك اهتمت المجتمعات قديما وحديثا بموضوع التصدي للجريمة ومكافحتها، ولم يخل مجتمع من آلية ما لمكافحة الجريمة، وقد تطورت هذه الآليات مع تطور المجتمعات، فبعد أن كانت مقصورة على العقاب وحده، وصلت في الدول والمجتمعات الحديثة إلى ثلاث، هي الوقايةوالإصلاح –العلاج – والعقاب، وتكشف الإحصائيات الحديثة أن هذه الوسائل لم تحقق ما هو مطلوب منها، ولذلك انبرى الباحثون في علمي الإجرام والعقاب للبحث عن وسائل بديلة، ولا يزال البحث ساريا. كما التأمت الجهود الدولية حول مؤتمرات علم الإجرام التي تنظمها هيئة الأمم المتحدة بصورة دورية ابتداء من عام 1951 ووصل عدد تلك المؤتمرات إلى عشر، عقد آخرها في فيينا سنة 2000، هذا فضلا عن المؤتمرات التي كانت تعقد تحت ما يسمى بالقومسيون، وقد توسع المشاركون كثيرا في تشخيص الأسباب، كما اختلفت نظرياتهم في سبل الكفاح والعلاج، وأنفقت بشأن ذلك أموال طائلة ولم يتغير شيء في أرصدة الدول المشاركة من نسب الجريمة، بل إن الجريمة في زيادة مطردة، وفي كل يوم يتخرج إلى المجتمع أو منه دفعات من المجرمين في مختلف صنوف الإجرام وأنواعه مما يدل على أن المناهج المتبعة في مكافحة الجريمة منيت بفشل ذريع الأمر الذي يدعو إلى البحث عن مناهج بديلة إذا كانت هناك نية صادقة لمكافحة الجريمة .
والإسلام باعتباره دين صلاح وإصلاح قد تصدى للظاهرة الإجرامية حتى أصبح وقوع جريمة استثناء من الأصل العام في الاستقامة، وكثيرا ما كان المجرم يسعى بنفسه إلى إقامة الحد عليه أملا في تطهير نفسه من الذنب الذي ارتكبه، وقد حدث ذلك كله في مجتمع كانت الجريمة فيه هي الأصل، خصوصا جرائم القتل والسرقة والنهب والزنى، إلى جانب بقية الجرائم الأخرى وإلى بعض ذلك يشير قوله تعالى : ( واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )(5)، كما عبر عن ذلك جعفر ابن أبي طالب في خطبته أمام النجاشي عندما قال : (كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الأرحام و نسيء الجوار و يأكل القوي منا الضعيف )(6).
إن الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي، وتحويل الظاهرة الإجرامية من أصل إلى استثناء فيه دليل قاطع على أن آلياته في مكافحة الجريمة كانت ناجحة جدا، وما دام أن المجتمعات الإسلامية الحديثة لم يصل فيها مستوى الجريمة لأن يكون أصلا كما كان عند العرب قبل الإسلام فإن منهج الإسلام هو الأقدر على مكافحتها بفعالية وبثمن أقل، ولذلك فإن الكشف عن هذا المنهج أصبح من قبيل الواجب الذي ينبغي أن يوضع موضع التنفيذ، خصوصا مع استفحال الظاهرة الإجرامية وعجز المناهج والأساليب التي وضعت لمكافحتها.
وباستقراء نصوص الوحي المتعلقة بالموضوع والواردة في القرآن والسنة، وبالتأمل في أحداث السيرة النبوية وما صاحبها من أخبار، وما حكم به الخلفاء الراشدون، وما قاله بعض الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – وجدت أن منهج الإسلام في مكافحة الجريمة بقوم على أسلوبين رئيسيين، الأول هدفه منع وقوع الجريمة أصلا، أما الثاني فهو يأتي بعد وقوعها وهدفه منع تكرارها سواء من فاعلها أو من غيره.
ويسمي علماء الإجرام المحدثون الأسلوب الأول وقاية، والثاني يسمونه علاجا أو عقاباً .
أولا : الأسلوب الوقائي :
يشكل هذا الأسلوب سبقا تشريعيا انفرد به الإسلام على مدى يصل إلى أكثر من عشرة قرون، ولم يلتفت المشرعون الغربيون إلى هذا الأسلوب إلا في القرنين الأخيرين بعد دراسات وبحوث طويلة يعود فيها الفضل إلى علماء الإجرام ومع ذلك فإن ما اقترحوه لا يزال عديم الفعالية بدليل ما يسجل من زيادات مطردة في نسب الإجرام، ثم إن هذا الأسلوب عندهم يشغل حيزا صغيرا جدا إلى جانب الحيز الأكبر الذي يشغله العلاج والعقاب . أما الإسلام فلا تقل مساحة حيز هذا الأسلوب عن مثيلتها في العلاج إن لم تزد عليها بقليل، ويمتد هذا الأسلوب بشكل متدرج من نفس الجاني المفترض إلى أن يصل إلى المجتمع كله وفق تسلسل منطقي لا يليق تقديم مرحلة أو تأخيرها عن مكانها، وهذا امتثالا لسنة الله في التغيير والإصلاح التي تلخصها هذه الآية : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(7) . ويقوم هذا المنهج على المراحل التالية:
1-الإصلاح الذاتي : فأول ما جاء به الإسلام هو تغيير النفوس من الداخل عن طريق الإقناع بالحجة والبرهان، فالقلب هو الذي بيده أمر الجوارح التي تقترف بها المعاصي وترتكب بها الجرائم، فإذا أمسك بزمام القلب فقد تم الإمساك أيضا بزمام الجوارح، لكن كيف تم للإسلام الإمساك بزمام القلوب ؟ . لقد تم للإسلام ذلك عن طريق ربطه بالإيمان بالله تعالى لأن الإيمان عملية ضرورية و قوة خلاقة تحمل الناس على العمل و الالتزام، و لم ينكر أحد هذا الدور للإيمان حتى الملحدون أنفسهم و في هذا المعنى يقول الشيخ يوسف القرضاوي :ولقد رأينا من المفكرين و الفلاسفة من لا يؤمنون بالله ولكنهم يؤمنون بالإيمان بالله - أي يعتقدون بنفع هذا الإيمان - باعتباره قوة هادية موجهة، و قوة مؤثرة دافعة، وقوة منشئة خلاقة، لم
يستطع هؤلاء أن يجحدوا ما للإيمان بالله من طيب الأثر فـي نفس الفرد و في حياة المجتمع، فقال بعضهم : لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقـه (8)، ولعل هذا أيضا ما يفسر اتخاذ المجتمعات القديمة لآلهة من صنع أيديهم لما يعلمونه من فائدة بالنسبة للاستقرار الاجتماعي، و يقوم الإيمان في الإسلام على ستة أركان و لكل دوره في التأثير على الفرد، فعندما يؤمن الفرد بالله و ما له من صفات كالسمع والبصر يشعر و يعلم أنه مراقب في كل مكان وفي كل زمان وتتولد عنده رقابة ذاتية و هي أهم بكثير من رقابة الغير الذين يجوز عليهم الغفلة و النسيان و غير ذلك من النقائص، وعندما يؤمن بالملائكة وخصائصهم و طبيعة وظائفهم يعلم أن كل ما يقوله أو يفعله يسجلونه عليه فيدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يسجل عليه و منها الجرائم، و عندما يؤمن باليوم الآخر و ما فيه من حساب و عقاب يدفعه ذلك إلى اجتناب ما قد يحاسب عنه يومئذ، روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سمع يوما امرأة غاب عنها زوجها في الجهاد تقول : تطاول هذا الليل واخضر جانبه وأرقني إذ لا خليل ألاعــبه
فوا الله لولا الله لا شيء غـيره لحرك من هذا السرير جوانبه

وفي رواية أخرى ذكرت أبيات غير هذه آخرها هذا البيت:
ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
فسأل ابنته حفصة كم تحتاج المرأة إلى زوجها ؟قالت : في ستة أشهر، فكان لا يغزو جيشاً له أكثر من ستة أشهر(9). وروى ابن القيم في الطرق الحكمية عن علي – رضي الله عنه – أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط – أي يضطرب – في دمه، فسأله فقال : أنا قتلته، قال : اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعا، فقال : يا قوم، لا تعجلوا ردوه إلى علي، فردوه فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله ؟ قال : يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة وخفت ألا يقبل مني، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله . فقال علي : بئس ما صنعت فكيف كان حديثك ؟، قال : إني رجل قصاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها،
فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي فأخذوني، فقال الناس : هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه . فقال للمقر الثاني : فأنت كيف كانت قصتك ؟ فقال : أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعا في ماله، ثم سمعت العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس، فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق . فقال للحسن: ما الحكم في هذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين : إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالىومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )(10)، فخلى علي عنهما، وأخرجت دية القتيل من بيت المال(11). فهذان المثالان فيهما إشارة واضحة إلى أثر الإيمان، ففي المثال الأول كان الإيمان باليوم الآخر و ما فيه من العذاب مانعا من جريمة الزنا، ونفس الإيمان هو الذي كان السبب في إحياء نفسين في المثال الثاني .
و لم يكن الإيمان الذي دعا إليه الإسلام مجرد أقوال أو أفكار،بل ضبطه و حوله إلى حقيقة واقعية عن طريق العبادات، وهي أقوال وأفعال تصقل النفوس و تربيها حتى يكون تغيير القلب مصحوباً بتغير في الجوارح كلها، والمتأمل في أنواع العبادات وحسن ترتيبها وتنويعها يدرك هذه الحقيقة، فالصلاة مثلا وهي من أوائل وأهم العبادات المفروضة في الإسلام تتوزع على خمسة أوقات في اليوم وذلك يؤدي إلى المحافظة على تهذيب النفس وصفائها طوال اليوم، وقد كان لهذا التوزيع أثر كبير في صرف الناس عن شرب الخمر قبل تحريمها نهائيا و ذلك عند نزول قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )(12)،كما أن الصيام يعتبر مدرسة روحية لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و إماتة نوازع الشر فيها قبل أن تتحول إلى حقيقة واقعة و لذلك قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كماكتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )(13).وورد في الحديث الشريف قوله –صلى الله عليه و سلم – : ( ..و الصيام جنة ..) (15)
إن أكثر الجرائم التي تقع من المسلمين اليوم تقع في العادة من أناس ضعيفي الإيمان، تاركي الصلاة والصيام، وهذا ما لاحظته بحق في المحيط الذي أعيش فيه، فما أحوج أولوا الأمر من المسلمين اليوم أن يهتموا بتقوية الإيمان و حمل الناس على الالتزام بالعبادات، لأن الجرائم تأتي في الحال الذي ينزل فيه الإيمان إلى أدنى درجاته، و لذلك ورد في الحديث : (لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)(16)، وبالمقارنة بين إحصائيات الجرائم في كل من أمريكا وروسيا ومصر والعربية السعودية لاحظت أن أدنى نسبة سجلت في السعودية تم تليها مصر ثم أمريكا التي تسرق فيها سيارة كل دقيقتين، وأعلى نسبة سجلت بروسيا، وهي نسب تتماشى مع مدى الالتزام الديني لا مع كثرة القوانين وكثرة رجال الشرطة وهذا الجانب على أهميته لا وجود له في التشريعات الوضعية الحديثة.
2 – واجب الأسرة : وفيها يتعين وجوب التربية على الأبوين أساسا وهذا العامل يساعد على إنشاء العامل السابق، لأن الإيمان والالتزام بالعبادات ومكارم الأخلاق لا ينشأ من فراغ بل هو يبدأ قبل ولادة الإنسان ويستمر إلى وقت البلوغ، واهتمام الإسلام بهذا الجانب يبدأ من وقت اختيار الزوجة المنتظر أن تكون أول مدرسة يتعلم فيها الطفل، ولذلك حرم الإسلام الزواج من غير المؤمنات، ودعا إلى اختيار ذوات الدين منهن، وحث على الاهتمام بالتربية، ومن ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة )(17)،وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : ( من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة (18)،وقد أعطى النبي – عليه الصلاة والسلام – توجيهات تطبيقية لكيفية تربية الأبناء، فبعد أن أمر بحسن اختيار أمهاتهم، أمر أيضا بحسن اختيار أسمائهم، كما أعطاهم المنهاج الذي يجب اتباعه في حملهم على تكاليف الدين وأخلاقه فقال : ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) (19)،ونبههم إلى أن الأولاد يتعلمون بالقدوة بما يعني واجبهم في الالتزام أمام أبنائهم، ولقد أتت هذه التربية أكلها فانخفضت نسبة الإجرام في زمن التابعين – وهم أبناء الصحابة – انخفاضا كبيرا .
وقد أنشأ المسلمون بعد ذلك ما يعرف بالحسبة والمحتسب، ووظيفة المحتسب هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه (30).
3- واجب الأسرة الكبيرة (العاقلـــة ):العاقلة هم أقارب الشخص من جهة أبيه، وقد حملهم الإسلام جزء من تربية الأولاد، ويتضح ذلك من خلال ما فرضه الإسلام في دية القتل الخطأ ودية القتل شبه العمد التي يجب أن تشترك في أدائها العاقلة مع القاتل، وهذا خلاف للقاعدة القرآنية التي تجعل المسؤولية على إطلاقها سواء كانت مدنية أو جزائية مقصورة على القاتل وذلك بنص قوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )(20)، ومفيد ذلك أن أقارب الرجل من جهة أبيه مدعوون لمراقبة أبناء بعضهم بعضا حتى لا يجدون أنفسهم يوما مضطرين للتعويض عما لم يقترفوه، و هذا يؤدي بهم حتما إلى التعاون في التربية، و هذا من شأنه أن يعوض عن النقص الذي يشوب عمل بعض الأولياء في تربية أبنائهم، فيعودونهم على التزام الحيطة و الحذر، فضلا عن الانحراف، وموضوع العاقلة لا يوجد له نظير في التشريعات الحديثة .
4 - واجب الجيران و الرفاق :
فقد حمل الإسلام جيران الجاني أو رفاقه جزء من المسؤولية فيما يرتكب من جرائم على أرضهم أو في محالهم و ذلك من خلال تشريع القسامة التي اعتبرها العلماء أصلا من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد أخذ بها كافة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (21)، وأصل القسامة أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فلما جاء أهله إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لهم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ...(22)، و لا شك أن هذا يؤدي إلى التضامن في الحيطة والمراقبة والتفقد، وهذا يعسر على الجاني ارتكاب جريمة القتل خاصة، وفي الوقت ذاته فإنه يدعو إلى التثبت في الشهادة بما يكفل الأمان من الخطأ في حق المتهم، ولذلك فإن القسامة تؤدي دورا مزدوجا في شأن مكافحة الجريمة الأول يتعلق بالقاتل الذي يعلم أن ارتكابه للجريمة يترتب عليه – إن لم يكشف عنه – توريطا للمحلة كلها مما يدعو إلى المزيد من التحري وذلك يؤدي في العادة إلى الكشف عنه فيحجم على ما أراد فعله، والثاني يتعلق بالأولياء الذين تمنعهم القسامة من اتهام بغير يقين، فأين نحن اليوم من هذا التشريع و قد أصبحت الجرائم ترتكب و ليس هناك ما يجبر مشاهديها المفترضين على الإدلاء بشهاداتهم . ثم إن قيمة الأيمان التي تتضمنها القسامة لا تنفع ما لم يكن أصحابها ممن يعرف قيمة هذه الأيمان وما يترتب على الكذب بها، ولا يكون ذلك إلا في مجتمع مؤمن يتقي الله ويخشى عذابه، ولذلك رفض أولياء عبد الله بن سهل أيمان اليهود في القسامة، واضطر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أن وداه . وكأن القسامة شرعت عقابا لمن وجد القتيل بينهم بسبب تقصيرهم في منع الجريمة، أو في الكشف عن القاتل، ويقول الكاساني في بيان السبب في وجود القسامة : سبب وجوبها هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجبت عليه النصرة والحفظ، فلما لم يحفظ مع القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب، فيؤاخذ بالتقصير، زجرا عن ذلك، وحملا على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية، لأنه أولى بالحفظ، فكان التقصير منه أبلغ، ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف، كانت منفعته له، فكانت النصرة عليـه، إذ الخراج بالضمـان كما جاء على لسان . رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (23)، وقال تبارك وتعالى : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )(24)، ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد، أو جماعة إما بالملك أو باليد، وهو التصرف فيه، فيتهمون بالقتل، فالشرع ألزمهم بالقسامة دفعا للتهمة، والدية لوجود القتيل بينهم، وإلى هذا المعنى أشار عمر رضي الله عنه – حينما قيل له : أنبذل أيماننا و أموالنا ؟ فقال – رضي الله عنه - : أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين ظهرانيكم (25).
[/FONT]
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــع
  #642  
قديم 10-05-2008, 10:50 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـع موضوع .... الإعجاز التشريعي في مكافحة الجريمــة

5- واجب المجتمع :أشركت الشريعة الإسلامية المجتمع كله في الإصلاح عموما بما في ذلك مكافحة الجريمة، ليؤدي المجتمع بذلك الدور الذي يعجز عنه الفرد مع نفسه أو الأسرة مع أفرادها، فالمجتمع لا يخلو من ضعاف النفوس والضمائر الذين لا ينتفعون بالإيمان والعبادات، كما أن فيه أولياء مهملين لتربية أبنائهم وتنشئتهم بما يقيهم المزا لق المؤدية إلى الجريمة، فلم يبق لهؤلاء من حاجز يحول بينهم وبين ارتكاب الجريمة سوى المجتمع، والمجتمع الذي يريده الإسلام هو المجتمع الذي يسود فيه رأي عام فاضل، لا يظهر فيه الشر ويكون فيه الخير بينا واضحا معلنا، ولذلك دعت الشريعة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبر الإسلام البريء مسؤولا عن السقيم إن رأى فيه اعوجاجا وكان قادرا على تقويمه فعليه أن يفعل، وأن يقومه بلسانه وهدايته ودعوته إلى الخير من غير عنف ولا غلظة، بل يدعوه بالتي هي أحسن ...(26).
وقد أوجب الإسلام تغيير المنكر على كل أفراد المجتمع، كل حسب طاقته، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره ، يدل على الوجوب قوله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )(27)، وورد في الحديث الشريف قوله – صلى الله عليه وسلم - : < من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان>(28). وقد ربط الإسلام هذا الواجب بحقيقة المسلم الكبرى وهي الإيمان، وهي أكثر حثا للمؤمن على الفعل من العقاب، والكثير من الفتن القائمة اليوم في بعض البلاد الإسلامية سببها وجود منكرات شرعية يحميها القانون وذلك يتعارض بوضوح مع واجب تغيير المنكر الذي يستشعره المؤمن، بينما لا نجد ذلك عند غير المسلمين، فحتى ولو وجدت عندهم منكرات اجتماعية أو عقائدية فليس عندهم ما يدفع إلى تغييرها وإزالتها كما هو الشأن في الإسلام . ولم يكتف الإسلام بهذا الأمر العام لكل الناس، بل أمر القرآن نفسه بإنشاء جماعة مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بنص قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )(29).

وقد أنشأ المسلمون بعد ذلك ما يعرف بالحسبة والمحتسب، ووظيفة المحتسب هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه (30).
إن دور المجتمع بصفة عامة والمحتسب بصفة خاصة هو دور وقائي لا يمنع وقوع الجرائم فحسب بل يمنع أيضا ما لا يرقى إلى مستوى الجرائم من مختلف المنكرات التي كثيراً ما تكون نهايتها جرائم، فكم من منكر صغير يتحول اليوم إلى جريمة كبيرة، فرب معاكسة شاب لفتاة تنتهي إلى جريمتين، جريمة الزنا وجريمة القتل، وقد أثبتت الإحصائيات أن نسبة هامة من جرائم القتل كان سببها الانتقام للشرف، كما أن ترك الأمر بالمعروف كثيرا ما يؤدي هو الآخر إلى الجريمة، و كثير من الجرائم يرتكبها أصحابها بدافع من الشعور بالظلم، فلو كان هناك من أمر بالعدل والإحسان ما وقع كل ذلك.

6- الدور التشريعي :يتجلى هذا الدور في النصوص التشريعية الواردة في القرآن والسنة، وكذلك فيما اتخذه الخلفاء الراشدون بعد ذلك من قرارات أو ما نطقوا به من أقوال في هذا المجال، ولن نتحدث في الأسلوب الوقائي عن النصوص التي تتناول العقاب نوعا ومقدارا لأن هذا لا ينفذ إلا بعد ارتكاب الجريمة وسنراه في الأسلوب العلاجي، وإنما نتحدث هنا عما وضعته النصوص لمنع وقوع الجريمة ،وذلك هو ما يطلق عليه سد الذرائع، حيث حرم الإسلام بعض السلوكيات لا لذاتها وإنما لما تفضي إليه من جرائم مثل النهي عن سب الكافرين لئلا يؤدي ذلك إلى سب الخالق – عز وجل – ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم )(31)، وفي السياق ذاته جاء نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – للرجل أن يلعن والديه، فلما قالوا : كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه (32)،فالوقاية من سب الأب تبدأ من عدم سب آباء الآخرين، وفي مجال الجريمة نجد نصوصا متعددة تمنع من أمور ليست جرائم في ذاتها ولكن التمادي فيها عادة ما ينتهي إلى جرائم ومن ذلك الأمر بغض البصر، والنهي عن التبرج لأن ذلك غالبا ما يؤدي إلى جريمة الزنى،وهذه الجريمة تؤدي إلى الإجهاض والقتل، ومثال ذلك أيضا النهي عن إشارة الرجل على أخيه بالسلاح لأنها ذريعة إلى الإيذاء، حيث ورد في الحديث : < لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار >(33)وفي هذا المعنى جاء النهي عن تعاطي السيف مسلولا فقد يخطئ المعطي أو الآخذ فيصاب أحدهما أو غيرهما بالأذى ،وفي مناولته في قرابه سد لهذه الذريعة (34).
ومن ذلك أيضا نجد حديث : < إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما >(35)لأن وجود خليفتين في وقت واحد مدعاة إلى الشقاق والاختلاف والفتنة والحرب وضياع نفوس كثيرة ؛ كما أن الإسلام قد نهى عن بيع السلاح في وقت الفتنة لأن ذلك معين لها ومشجع عليها .
وعن الشعبي قال : بينما عمر يعس بالمدينة إذ مر بامرأة في بيت وهي تقول :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
وكان رجلا جميلا . فقال عمر : أما والله وأنا حي فلا، فلما أصبح بعث إلى نصر بن حجاج فقال له : اخرج من المدينة فالحق بالبصرة، وفي رواية أنه جز شعره فازداد جمالا فأمره أن يعتم فظل كذلك ثم نفاه إلى البصرة، ولفساد فيه نفاه والي البصرة أبو موسى الأشعري إلى فارس، وعاود الكرة هناك فأراد أن ينفيه واليها عثمان بن أبي العاص الثقفي أيضا، فهدد أن يلحق ببلاد الشرك، فكتبوا إلى عمر، فكتب إليهم عمر أن جزوا شعره، وشمروا قميصه، وألزموه المسجد(36)، وقال الإمام علي لما سئل عن عقوبة شارب الخمر : إنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة (37). وإذا كان التشريع القرآني قد أخذ بسد الذرائع ورأينا العلة من ذلك فإن التشريعات الحديثة قد سلكت مسلكا غريبا حيث تبيح الفعل وتعاقب على ما ينتج عنه، فهي تبيح الزنا مثلا ثم تعاقب على الإجهاض .
ثانيا : الأسلوب العلاجي
و يأتي هذا الأسلوب بعد وقوع الجريمة، و هذا الأسلوب واضح المعالم في الشريعة الإسلامية، فلا غموض فيه و لا اختلاف بشأنه، والهدف منه منع تكرار الجريمة التي وقعت وإصلاح ما خلفته من أضرار، ويتضمن هذا الأسلوب العقاب وبدائله كالدية والصلح والعفو بالإضافة إلى الكفارة.
1 – العقـاب :لا خلاف بين المسلمين جميعا حول العقاب، لا في مشروعيته ولا في أنواعه، و هذا بخلاف الأمر اليوم في القوانين الحديثة، التي اختلفت في العقاب اختلافا كبيرا بين داع إلى إلغائه حتى دعا بعضهم إلي تغيير تسمية قانون العقوبات، ومدافع عن بقائه، وهؤلاء المدافعين اختلفوا في أنواع العقوبات وخاصة عقوبة الإعدام، كما اختلفوا حتى في العقوبات السالبة للحرية والبدائل المطروحة، أما العقاب في الإسلام فهو من المبادئ التي لا يمكن حتى مجرد التفكير في إلغائها، و يمتاز العقاب في الإسلام عنه في القوانين الوضعية الحديثة بعدة مميزات، كل منها له دوره الفعال في مكافحة الجريمة، وهده المميزات هي :
أ- أنه جمع بين العدل و الرحمة، و الجمع بينهما ليس من السهولة بمكان ، ففي الوقت الذي غلبت القوانين الحديثة منطق الرحمة اعتمادا على العبارة المشهورة _العدل فوق القانون و الرحمة فوق العدل – و أصبح اهتمامها منصبا على الجاني وحده فتتحدث عن سلوكه الإجرامي، و طبيعة فعله، فاعل أصلي أم شريك، و ظروفه و أعذاره دون أدنى اهتمام بالمجني عليه، في توجه واضح ضد العدل، و اعتماد مفضوح على الإحساس دون العقل، حتى قال جيرمي بنتام : و إنا لنعجب كل العجب من حال قوم سخفاء العقول يريدون أن يجعلوا من إحساسهم قانونا للناس، و يدعون أنهم من الخطأ معصومون لأن أصلهم الذي ركنوا إليه و سموه وجدانا ليس عقليا بل العقل يأباه كل الإباء (38). وبالتالي فإن العقاب المطبق لا يعود على المجني عليه أو وليه بأي فائدة و لا بأي إحساس، وهذا ناشئ عن إذابة حق الفرد في حق الدولة و المجتمع، أما الإسلام فإنه أبقى على حق الفرد وكيانه مستقلا عن الدولة، و أخذ بالعدل و لكنه لم يهمل الرحمة، و العدل يقتضي أن من أجرم يعاقب، وفي هذا رحمة عامة بالمجتمع كله، كما أنه أبقى هامشا للرحمة الخاصة و لكنها في إطار العدل، وذلك حين خير المجني عليه أو وليه بعقاب المجرم أو التصالح معه أو العفو عنه ورغب في العفو، قال تعالى : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم و رحمة )(39). والرحمة التي أقرها الإسلام موزعة بين الجاني والمجني عليه، فأين هذا من العفو الذي يصدره حكام اليوم على القتلة والمجرمين، وحتى لو حكم على القاتل بالإعدام فإن هذه العقوبة لا تكاد تطبق، و يذكر أستاذنا الدكتور أبو المعاطي أن المحاكم في مصر أصدرت سنة –1971- عقوبة واحدة بالإعدام و كان عدد جنايات القتل في ذلك العام 1611 بين قتل و ضرب أدى إلى الموت، و في عام 1970 لم تصدر المحاكم عقوبات بالإعدام إطلاقا، و كان عدد جرائم القتل 1562 جريمة __(40)، وفي الجزائر أوقف تنفيذ حكم الإعدام منذ عام 1994، وهناك اليوم دول كثيرة ألغت حكم لإعدام فلا تحكم به إطلاقا مثل دول الاتحاد الأوربي، وهذا يجعل المجني عليه أو وليه يشعر بالظلم من جهة، و يزيد المجرم عتوا و إجراما من جهة أخرى، و الإفراط في الرحمة بالجاني جعل الجرائم تكثر و تنتشر بشكل رهيب، فرغم الدراسات و المؤتمرات التي تعقد الآن من أجل مكافحة الجريمة لم تستطع أن تسهم إلا في زيادتها نظرا للاقتراحات التي تقدمها بشأن مراعاة الإنسانية عند التعامل مع المجرمين الخطرين.
ب- المساواة بين الناس في العقاب :لا تفرق العقوبات في الشريعة الإسلامية بين حاكم ومحكوم ،ولا بين شريف ووضيع، إذ أن كل الناس أمام العقاب سواء، لا فرق بين رئيس الدولة و أضعف إنسان فيها، فعن أبي فراس قال: خطبنا عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي أقصه منه ،فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه ؟ فقال : إي والذي نفسي بيده أقصه وقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أقص من نفسه (41)،والأمثلة على هذا في تاريخ الإسلام كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال حديث المرأة المخزومية الشهير (42)،و حكم عمر على جبلة ابن الأيهم الذي لطم رجلا من فزاره وأمر عمر بالقصاص منه (43)، و فعل عمر مع عمرو ابن العاص والي مصر و ابنه الذي ضرب ابن القبطي (44)،و بمثل هذه الأحكام و ميزاتها يكون القضاء على ظلم الحكام والمسؤولين .
ولا نجد مثل هذه المساواة في القوانين العقابية الحديثة بل إن تمييز بعض المسؤولين أصبح أمرا مقننا تحت ما يسمى بالحصانة، سواء كانت ديبلوماسية أو برلمانية، ومن شأن هذه الحصانة أن تدفع إلى الإجرام لأن المتمتع بها لا يخشى ما يخشاه سائر الناس من خوف من العقاب، وهذا ما لاحظناه بالنسبة لبعض المتمتعين بالحصانة، فهذا يخرج مسدسه لأتفه سبب ويهدد بالقتل، وذاك أطلق النار على من كان له معه خلاف، وذلك أنقذته من المحاكمة بفرنسا حصانة ديبلوماسية .وكل ما ارتكبه هؤلاء ما كان ليحدث لو كانت هناك مساواة بين كل الناس .
ج- يمتاز العقاب في الإسلام بكونه يحقق الردع، ويجبر خاطر المجني عليه أو وليه، وهذان العنصران ضروريان جدا في العقاب، فأما الردع ويقصد به أن العقوبة عندما توقع على مجرم معين تصرفه عن العودة إلى هذه الجريمة، وهذا هو الردع الخاص، كما تصرف غيره عن فعل مثلها، و هذا هو الردع العام، و كل عقوبة لا تحقق الردع بنوعيه فهي لغو ضررها أكبر من نفعها، و العرب في الجاهلية كانوا يراعون هذا الهدف، فعندما كانوا يقتلون القاتل يقولون : (القتل أنفى للقتل) – فقتله يمنع الثأر وما ينجر عنه، و يمنع باقي الناس من القتل، و الذي يتأمل في العقوبات الشرعية يلاحظ بوضوح هذه الخاصية، فالذي يسرق مثلا و تقطع يده، فإن مظهر يده المقطوعة أكبر رادع بحيث تذكره هو و تذكر غيره بعقاب السرقة فيتحاشونها، و نفس الشيء يقال عن عقوبة الزنا، و يفهم الردع جيدا في قوله تعالى: (و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) وأما القانون الوضعي فلا يتوفر على هذه الخاصية و دليل ذلك كثرة العود في ارتكاب الجريمة الواحدة نظرا لتفاهة العقوبة، وأما الجبر فيقصد به عمل شيء ما، يرضي الأولياء، ويواسيهم جراء ما وقع عليهم، وله أهمية أوسع وأبلغ من أهمية الردع، ذلك أن الردع قد يمنع المجرم من العود، كما يمنع بعض الناس من الجريمة، أما الجبر فإنه إذا لم يراع فإنه يؤدي بالتأكيد إلى وقوع جرائم أخرى من قبل أولياء المجني عليه أو خصومهم، فهناك غريزة فطرية في الإنسان وهي غريزة الانتقام فلا بد من إخراجها وإفراغها من نفوس الأولياء بشكل منظم وتحت إشراف الدولة، فإن لم نفعل وقع أحد أمرين، فإما أن تخرج بشكل غير منظم بعيدا عن القانون، وقد يكون إخراجها فظيعا، بعيدا عن العدل، ويمكن أن تنجر عنها جرائم جديدة، وإما ألا تخرج وتبقى حبيسة في الباطن تحرق القلب وتعذبه باستمرار، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية .
والمتأمل في العقوبات التي جاء بها الإسلام يلاحظ لأول وهلة فعاليتها في مكافحة الجريمة، بسبب تحقيقها للردع والزجر والجبر، فالقصاص الذي يطبق في الجرائم العمدية سواء كانت قتلا أو جرحا أو ضربا يمنع الجاني بلا شك من العود كما يمنع غيره من أن يسلك سبيله، فالذي يسعى لقتل غيره يعلم أنه يسعى أيضا إلى قتل نفسه، ولا نجد شخصا سويا يسعى لقتل نفسه أو قطع بعض أطرافه، وهذه العقوبة التي يفعل فيها بالجاني المتعمد مثل ما فعل ما لم يكون تعذيبا من أعدل العقوبات، وأكثرها تحقيقا للردع والزجر والجبر أيضا، وفي هذا يقول الأستاذ عبد القادر عودة : وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص فهي أعدل العقوبات إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالبا والذي يدفع المجرم بصفة عامة إلى القتل والجرح هو تنازع البقاء، وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته (45).
يتبـــــــــــــــــع
  #643  
قديم 10-05-2008, 10:53 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـع موضوع .... الإعجاز التشريعي في مكافحة الجريمــة


وإلى جانب عقوبة القصاص التي تطبق في الجرائم العمدية التي يمكن فيها المماثلة ولم يكن فيها عفو من جانب الأولياء نجد العقاب بالجلد على الجرائم الحدية كما هو الحال في القذف والزنى لغير المحصن والسكر، وهذه العقوبة تنطوي على فوائد متعددة فهي تحقق الردع والزجر كونها تطبق أمام الناس، كما أنها لا تفوت على الجاني المعاقب القيام بمصالحه ومصالح أسرته بخلاف عقوبة السجن المطبقة اليوم التي توفر للجاني فرصة أفضل للتكوين الإجرامي بمخالطته لمجرمين آخرين داخل السجن، إضافة إلى الإهمال الذي يصيب الأسرة ويؤدي بأولاده في غيابه إلى سلوك سبيله، ومن أجل هذه السلبية التي تتصف بها عقوبة السجن تعالت الأصوات في المؤتمرات الدولية تنادي بإلغاء العقوبات السالبة للحرية، وضرورة إيجاد بدائل لها، ومن ذلك المؤتمر السادس لعلم الإجرام الذي انعقد عام 1980 في كرا كاس بفنزويلا الذي نوقشت فيه عيوب العقوبات السالبة للحرية، وأجمعت الآراء على جعل هذه العقوبة استثناء وعدم التوسع فيها (46). وكما يتحقق الزجر بالعقوبات البدنية التي ذكرنا بعضها لأننا لم نتحدث عن القطع والرجم والتعزير، يتحقق أيضا مع الجبر حين العقاب بالدية في الجرائم التي تعذر فيها تطبيق القصاص سواء في الجرائم الواقعة على النفس أو على الأطراف، وحتى حق العفو الذي منحه الإسلام للمعني بالضرر شخصيا ولم يمنحه للحكام كما هو حال القوانين اليوم يحقق الردع والجبر، فالمجني عليه عندما يشعر أن أمر الجاني متعلق بمشيئته في العقاب أو العفو تستكن نفسه وتطيب، فإذا عفا وهو أعلم بمن يستحق العفو، فإن عفوه يشكل في الحقيقة عقوبة نفسية للجاني الذي عفا عنه على نحو قول المتنبي :
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليد
وهذا العفو مقصور على الجرائم التي تمس حق الفرد أو أن حقه فيها هو الغالب أما التي تمس حق المجتمع فلا عفو فيها، ومن الملاحظ اليوم أن عفو الحاكم عن المجرمين في المناسبات والأعياد أصبح من أسباب انتشار الجريمة، يدل على ذلك موجة الإجرام التي نلاحظها بعد كل إفراج عن المحكوم عليهم .

2- الكفــارة: الكفارة عقوبة أيضا، ولكنها تختلف عما سبق من عقوبات وهي تتعلق بجرائم القتل لا غير، وتختص بالصيام أو العتق، ووجه اختلافها عما تقدم ذكره من عقوبات أن تنفيذها ذاتي موكول إلى الجاني نفسه فلا القاضي ولا الحاكم يمكنه أن يلزمه بها، ولذلك فهي مرتبطة بإيمان الجاني ليستدرك ما فاته بارتكابه للجريمة، وهذه الكفارة من شأنها أن تمحو الإثم الذي اقترفه، ومشروعيتها فيها ربط واضح للفرد بالإيمان بالله واليوم الآخر وتذكير بذلك بعد النسيان أو الإهمال الذي أصابه أثناء ارتكاب الجريمة .

ثانيا : قلة تكاليف وسلبيات التشريع القرآني
وقلة هذه التكاليف تدرك جيدا عندما نقارنها بما يقابلها اليوم في التشريعات الحديثة سواء على المستوى العالمي أو الدولي أو حتى المحلي، فعلى المستوى العالمي أنشئت اليوم مؤسسات دولية هدفها مكافحة الجريمة على غرار الشرطة الدولية، ومحاكم الإجرام الدولية، ناهيك عن المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك للغرض ذاته، ولا يمكن تصور ما تحتاج إليه هذه الإجراءات من نفقات، ومقابل ذلك لا يشعر العالم بأدنى تحسن في مجال مكافحة الجريمة، بل لعل بعض الاقتراحات التي ما فتئ يقدمها بعض المختصين في الإجرام قد ساهمت إلى حد ما في استفحال الظاهرة الإجرامية، ثم إن الكثير من المبادئ لم يحصل بشأنها اتفاق، مثل تعريف الجريمة، والإرهاب وغيرها .
وأما على المستوى الدولي ولنأخذ الجزائر على سبيل المثال لنلاحظ تكاليف مكافحة الجريمة، فماذا نجد ؟ إننا نجد وزارتين على الأقل في خدمة مكافحة الجريمة هما وزارتا السجون والعدل، بالإضافة إلى الهياكل الإدارية التابعة لكل واحدة منهما في مختلف الولايات كالمحاكم والسجون وما فيهما من موظفين ومساجين، ففي سجن يتسع ل650 سجينا نجد 250 من الموظفين أي ما يعادل موظف واحد لكل سجينين أو ثلاثة، وإذا قرأنا الرقم بشكل آخر فنقول بأن هذا السجن يضم في الحقيقة 900 فرد، وإذا حسبنا نفقات صيانة السجن وحاجيات المقيمين فيه من مساجين وحراس، بالإضافة إلى نفقات المحاكم والوزارات وحتى الشعب المختصة بالتشريع نجد أرقاما خيالية، وبتعبير آخر فإن تكاليف مكافحة الجريمة من وقت التشريع إلى وقت التنفيذ مرورا بمرحلة القضاء لا تتناسب بتاتا مع نتائج المكافحة ففي ولاية عنابة على سبيل المثال سجلت مصالح الأمن ارتكاب أكثر من 2500 جريمة خلال ثلاثة أشهر(47)، وهي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2003، وهذا الرقم يعني أن هناك أكثر من 27 جريمة ترتكب في اليوم، وهذا في فصل الشتاء الذي عادة ما تقل فيه الجرائم .
وأما السلبيات التي تخلفها عملية المكافحة فهي ترتبط بصفة أساسية بعقوبة السجن التي لا يكاد يعرفها الإسلام وهي التي تطبق اليوم على نطاق واسع على الرغم من أن بعض العلماء في مؤتمر كاراكاس عام 1980 قد نادوا بعدم التوسع فيها، واقترح بعضهم عقوبات بديلة مثل الجلد، وسلبيات هذه العقوبة اليوم نلخصها في النقاط التالية :
1-أن السجن في حد ذاته لا يشكل عقوبة رادعة، لأن منشأن العقوبة الرادعة الألم، وأن تنفذ أمام الناس لكن هل يسبب السجن اليوم ألما؟ لقد قال يوسف عليه السلام- ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)(48)،وقالت امرأة العزيز لزوجها: ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم)(49)مما يدل على أن السجن شيء والألم شيء آخر، في سجون كانت تفتقر بكثير إلى ما هو متوفر فيها اليوم، بل يمكن الجزم أن بعض السجون تتوفر على مرافق لا تتوفر في البيت أو البيئة التي يحيا فيها المجرم، مما يجعل السجن يغوي بالإجرام لا مانعا منه، فقد جاء في التقرير الذي تقدمت به هيئة سجن مصر إلى مؤتمر جنيف عام 1955 ما نصه: " حتى جاءت الثورة المصرية عام 1952، وانقلبت الجمهورية المصرية بأسرها إلى مجموعة من النهضات المتباينة في مختلف الشؤون، نالت السجون المصرية حظا وفيرا منها، إذ تحسن الغذاء والكساء، وأنشئت الكانتينات، وأبيح التدخين، وأدخلت إذاعات الراديو، وعرض الأفلام السينمائية، والألعاب الرياضية، والتمثيل، وسهلت الزيارات، والمراسلات، وأنشئت المكتبات، وألغيت المراقبة الإدارية، وكذلك السابقة الأولى1، ونتيجة هذه الإصلاحات أوجزها كمال دسوقي حين نقل عن صحف الصحاح الصادرة بتاريخ 18/09/1957 قصة السجين الذي تعمد لدى خروجه خنق أول طفل يصادفه وتسليم نفسه ليعود إلى السجن2 . وأما في الجزائر فكثيرا ما يلقى القبض مساء على من أطلق سراحه في الصباح، وكم من متشرد ارتكب جريمة وليس له من غرض إلا الحصول على مأوى .
2 – أن عقوبة السجن تفوت على من عوقب بهاالكثير من المصالح، فإذا كان عاملا فقد عمله، وإذا كان طالبا فاتته دراسته، وإذا كان تاجرا كسدت تجارته، ناهيك عن الآثار المتعلقة بأولاده وأسرته، ويفقد العقاب صفة التفريد التي نادى بها علماء الإجرام، فيحرم الأولاد من عاطفة الأبوة وتفقد الزوجة أهم حقوقها الزوجية، وعندما يخرج من السجن يجد أسرته قد شردت وأولاده قد سلكوا سبيله .
3 – إن الواقع اليوم يجعل السجن يساهم في الفسادأكثر من الإصلاح، بل يمكن أن يؤدي دور مدرسة في تعليم فنيات الإجرام بسبب الجمع فيه بين فئات مختلفة من المجرمين، وكل واحد يمكن أن يتعلم من غيره، فالسارق البسيط قد يتحول إلى لص محترف، والذي انكشف أثناء ارتكاب الجريمة أو بعدها، يتعلم كيف يخفي آثار إجرامه، هذا بالإضافة إلى أن الحجز في السجن لمدة طويلة يجعل السجين يخرج وهو متخلف حضوريا عن واقع المجتمع، ويكون تأقلمه بعد ذلك صعبا، كما قد يفوت عليه السجن مصالح كثيرة، فيخرج فيجد نفسه في حالة يأس، ولا يجد وسيلة للحاق بالمجتمع والتعويض عما أصابه إلا بسلوك سبيل الجريمة خصوصا وأن المتابعة الإصلاحية منعدمة بعد الخروج من السجن، ومن جهة ثالثة فإن السجين عندما يخرج من السجن يجد دون الاندماج في الناس سورا عاليا من التحفظ والاحتياط، فكل الناس يحذرونه وكلهم يحتاطون من التعامل معه، ولن يجد من يطمئن إليه إلا من كان سجينا مثله أو من كان يريد أن يتعلم منه صنعة الإجرام وفي كل الأحوال يؤدي به ذلك إلى سلوك طريق الجريمة .
إن التشريع القرآني قد تفادى جميع هذه السلبيات وغيرها ممن لم نذكره في هذا المقام، والعقوبات التي نص عليها لا تفوت على المعاقب بها حقا ولا واجبا، فإذا عوقب بالجلد أو بالقصاص فيمكنه على إثرها مباشرة أن يلتحق بعمله وبأسرته دونما حاجة إلى بناء يضمه وحرس يقومون على خدمته، وفوق هذا كله فهو عقاب رادع زاجر جابر مكفر عن الإثم الناتج عن الجرم . وهذه الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم على سهولتها وبساطتها وقلة تكاليفها قد حققت من النتائج في وقت وجيز ما لم يحققه غيرها بإمكانيات ضخمة في وقت طويل مما يدل على إعجاز القرآن التشريعي في مكافحة الجريمة .
الحواشي:
(1) انظر كتابنا الوجيز في القانون الجنائي العام – دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع – عين مليلة ص05 وما بعدها .
(2) آل عمران : 103
(3) – القاضي فريد الزغبي –الموسوعة الجزائية –دار صادر بيروت –الطبعة الثالثة 1995 ج1 ص40
(4) يوسف : 26
(5) آل عمران : 103
(6) ابن هشام مختصر سيرة ابن هشام – دار النفائس – بيروت الطبعة الثانية 1979 ص 60
(7) الرعد : 11 .
(8) القرضاوي يوسف – الإيمان و الحياة – دار الشهاب، باتنة – الجزائر الطبعة ؟1987 ص 25 .
(9) ابن الجوزي أبو الفرج – تاريخ عمر بن الخطاب – الزهراء للنشر والتوزيع – الجزائر –الطبعة الأولى 1990 ص77 .78
(10) المائدة : 34
(11) ابن قيم الجوزية –الطرق الحكمية في السياسة الشرعية - المؤسسة العربية للطباعة و النشر، القاهرة 1961 ص 66 –67 .
(12) النساء : 43 .
(13) البقرة –183
(14) البخاري –صحيح البخاري –دار إحياء التراث العربي، الطبعة ؟، كتاب الصيام ج 3 ص 34
(15) البخاري – المرجع السابق – كتاب الحدود باب السارق حين يسرق
(16) التحريم : 6
(3) رواه أبو داوود في كتاب الأدب، باب في فضل من عال يتيما من حديث أبي سعيد الخذري
(17) رواه أبو داوود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
(18) فاطر : 18
(19) النووي – شرح صحيح مسلم – كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب القسامة
(20) صحيح مسلم – كتاب القسامة
(21) ورد الحديث في صحيح الجامع الصغير يلفظ الغلة بالضمان خرجه السيوطي عن عائشة وهو حسن رقم4179
(22) البقرة : 285
(23) أبو زهرة محمد– العقوبة – دار الفكر العربي - ص 560 561
(24) أبو زهرة محمد – المرجع السابق – ص26
(25) ابن تيميه – الحسبة ومسؤولية الحكومات الإسلامية – الطريق للنشر والتوزيع، الجزائر العاصمة ص 1
(26) التوبة : 71
(27) رواه مسلم – كتاب الإيمان – باب كون النهي عن المنكر من الإيمان
(28) آل عمران : 104
(29) ابن تيميه – المرجع السابق – ص20
(30) الأنعام : 108
(31) البخاري – المرجع السابق – كتاب الأدب باب لا يسب الجل والديه
(32) البخاري – المرجع السابق – كتاب الفتن باب من حمل علينا السلاح فليس منا .
(33) البرهاني محمد هاشم – سد الذرائع في الشريعة الإسلامية – مطبعة الريحاني، بيروت، الطبعة الأولى 1985 ص 485 .
(34) مسلم – كتاب الإمارة – باب إذا بويع لخليفتين
(35) ابن الجوزي – المرجع السابق – ص 83
(36) القرطبي – الجامع لأحكام القرآن - تفسير الآية 93 من سورة المائدة ج6 ص 273 ،والآية 2 من النور
(36) جرمي بنتام -أصول الشرائع – ترجمة فتحي زغلول ج 1 ص 21
(37) البقرة : 76
(38) أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح – النظام العقابي الإسلامي – مؤسسة دار التعاون للطبع و النشر 1976 ص 410-411
(39) أبوداوود – صحيح سنن المصطفى – كتاب الديات باب القصاص من النفس
(40) مسلم كتاب الحدود – باب قطع السارق الشريف و غيره ج 5 ص 114
(41) الأندلسي – ابن عبد ربه – العقد الفريد – دار الكتاب العربي – بيروت –لبنان –ج 2 ص 56 حتى 62
(42) ابن الجوزي أبو فرج –تاريخ عمر بن الخطاب –الزهراء للنشر و التوزيع –الطبعة الأولى ص 93- 94
(43) عودة عبد القادر – التشريع الجنائي الإسلامي – مؤسسة الرسالة - الطبعة السادسة 1985 ج 1 ص 447 .
(44) منصور رحماني – الوجيز في القانون الجنائي العام - دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع – الجزائر ص 59 .
(45) جريدة الخبر عدد يوم 22 ماي 2003 رقم 3785 ص05 تحت عنوان معدل الإجرام في تزايد مستمر بعنابة .
(46) - (47) - يوسف : 33 ،25
(48)- دسوقي كمال –علم النفس العقابي - ص 161
(49)- دسوقي- المرجع السابق- ص315
1 - دسوقي كمال –علم النفس العقابي - ص 161
2- دسوقي- المرجع نفسه- ص315
قائمـة المراجع :
1-ابن هشام مختصر سيرة ابن هشام – دار النفائس – بيروت الطبعة الثانية 1979
2--القرضاوي يوسف – الإيمان و الحياة – دار الشهاب، باتنة – الجزائر الطبعة ؟1987
3- ابن الجوزي أبو الفرج – تاريخ عمر بن الخطاب – الزهراء للنشر والتوزيع – الجزائر –الطبعة الأولى1990
4 - ابن قيم الجوزية –الطرق الحكمية في السياسة الشرعية - المؤسسة العربية للطباعة و النشر، القاهرة 1961 .
5- البخاري –صحيح البخاري –دار إحياء التراث العربي، الطبعة ؟، كتاب الصيام
6- النووي – شرح صحيح مسلم – كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات – باب القسامة
7 - أبو زهرة محمد – العقوبة – دار الفكر العربي – ص26
8- بن تيميه – الحسبة ومسؤولية الحكومات الإسلامية – الطريق للنشر والتوزيع، الجزائر العاصمة
9 - البرهاني محمد هاشم – سد الذرائع في الشريعة الإسلامية – مطبعة الريحاني، بيروت، الطبعة الأولى
10- جرمي بنتام -أصول الشرائع – ترجمة فتحي زغلول
11 - أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح – النظام العقابي الإسلامي – مؤسسة دار التعاون للطبع و النشر 1976
12 - أبوداوود – صحيح سنن المصطفى – كتاب الديات باب القصاص من النفس
13 - مسلم كتاب الحدود – باب قطع السارق الشريف و غيره
14 الأندلسي – ابن عبد ربه – العقد الفريد – دار الكتاب العربي – بيروت –لبنان
15 - عودة عبد القادر – التشريع الجنائي الإسلامي – مؤسسة الرسالة - الطبعة السادسة 1985
16 - منصور رحماني – الوجيز في القانون الجنائي العام - دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع – الجزائر .
17- ابن قتيبة – الشعر والشعراء – دار إحياء العلوم – بيروت الطبعة الثانية 1986
18 – القرطبي – الجامع لأحكام القرآن
19 - القاضي فريد الزغبي –الموسوعة الجزائية –دار صادر بيروت –الطبعة الثالثة 1995
  #644  
قديم 10-05-2008, 10:55 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

من الإعجاز التشريعي في الإسلام: إيجاب الدية على عاقلة القاتل




ورد سؤال إلى الموقع عن الحكمة من إيجاب دية القتل الخطأ على أهل الجاني، مع أنه لا ذنب لهم، فكانت الإجابة بما يلي:
- تعريف الدية:
المال المؤدّى إلى مجنيٍّ عليه، أو وليّه، أو وارثه بسبب جنايةٍ. وتسمّى الدّية عقلاً أيضاً، وذلك لوجهين: أحدهما أنّها تعقل الدّماء أن تراق، والثّاني أنّ الدّية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل، ثمّ تساق إلى وليّ الدّم.
- تعريف العاقلة:
عاقلة القاتل هم عصباته (الذكور من أقاربه)، فلا يدخل في العاقلة الإخوة لأم ولا الزوج ولا سائر ذوي الأرحام.
ويدخل في العصبة سائر العصبات مهما بعدوا؛ لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم كن وارث أقرب منهم، ولا يشترط أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون لولا الحجب، تجب عليهم الدية.
- مقدارها:
حسب الأزهر: جملة الدية 4250 جراماً من الذهب تُدفع عيناً لولي القتيل، أو قيمتها بالنقد السائد حسب سعر الذهب يوم ثبوت هذا الحق.
من أحكام الدية الواجبة على العاقلة:
- تجب الدية على العاقلة عند القتل الخطأ، أما العمد فيتحملها الجاني وحده.
- تقسم الدية على العاقلة مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
- أقصى زمن مسموح به لجمع الدية ثلاث سنوات.
- إذا كان الجاني صغيراً أو مجنونا فالدية الواجبة تحملها العاقلة ولو تعمَّد الفعل؛ لأنَّ عمدَ الصغير والمجنون خطأ لا عمد.
- لا تكلف العاقلة ما يشق عليها؛ لأنه لزمها من غير جناية، بل على سبيل المواساة.
- مقدار ما يحمله كل فرد: قال مالك وأحمد: يترك الأمر للحاكم يفرض على كل واحد ما يسهل عليه ولا يؤذيه.
- ليس على الفقير ولا المرأة ولا الصبي ولا المجنون دية؛ لأن تحميل الفقير إجحاف به، ولأن المرأة والصبي والمجنون ليسوا من أهل النصرة، ولكن هؤلاء إذا كانوا جناة يُعقل عنهم.
سبب تحميل العاقلة الدية:
هذا استثناء من القاعدة الشرعية {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فظروف الجناة والمجني عليهم هي التي سوغت هذا الاستثناء وجعلت الأخذ به لازماً لتحقيق العدالة والمساواة، ولضمان الحصول على الحقوق، ويمكن تبرير هذا الاستثناء بالمبررات الآتية:
1 -لو أخذنا بالقاعدة العامة فتحمَّلَ كل مخطئ وزر عمله، لكانت النتيجة أن تنفذ العقوبة على الأغنياء وهم قلة، ولامتنع تنفيذها على الفقراء وهم الكثرة، ويتبع هذا أن يحصل المجني عليه أو وليه على الدية كاملة إن كان الجاني غنياً، وعلى بعضها أن كان متوسط الحال. أما إذا كان الجاني فقيراً وهو كذلك في أغلب الأحوال فلا يحصل المجني عليه من الدية على شيء، وهكذا تنعدم العدالة والمساواة بين الجناة كما تنعدم بين المجني عليهم.
2 -إن الدية ـ وإن كانت عقوبة ـ إلا أنها حق مالي للمجني عليه أو وليه، وقد روعي في تقديرها أن تكون تعويضاً عادلاً عن الجريمة، فلو أخذ بالقاعدة العامة وتحمَّل المتهم وحده الدية، لما أمكن أن يصل معظم المجني عليهم إلى الدية التي يحكم بها؛ لأن مقدار الدية أكبر عادة من ثروة الفرد. إذ الدية الكاملة مائة من الإبل، ولاشك أن ثروة الفرد الواحد في أغلب الأحوال أقل بكثير من مقدار الدية الواحدة، فلو طبَّقنا القاعدة العامة وتحمَّلَ الجاني وحده وزر عمله لكان ذلك مانعاً من حصول المجني عليهم على حقوقهم، فكان ترك القاعدة إلى هذا الاستثناء هو الضمان الوحيد الذي يضمن وصول الحقوق المقررة إلى أربابها.
ملاحظة: المجني عليهم في جرائم القتل العمد لا يتعرضون لمثل هذه الحالة؛ لأن العقوبة الأصلية هي القصاص، ولا تستبدل بها الدية إلا إذا عفا المجني عليه ـ أو وليه ـ عن القصاص، ولن يعفو أحدهم عن القصاص إلا إذا كان ضامناً الحصول على الدية، فإذا عفا أحدهما عن القصاص وقبل الدية ولم يكن مال الجاني كافياً لسداد الدية فذلك هو اختيار المجني عليه أو وليه، وليس لأحدهما أن يتضرر من هذا الوضع الذي وضع فيه نفسه.
3 -إن العاقلة تحمل الدية في جرائم الخطأ، وأساس جرائم الخطأ هو الإهمال وعدم الاحتياط، وهذان سببهما سوء التوجيه وسوء التربية غالباً، والمسؤول عن تربية الفرد وتوجيهه هم المتصلون به بصلة الدم. فوجب لهذا أن تتحمل أولاً عاقلة الجاني نتيجة خطئه، وأن تتحمل الجماعة أخيراً هذا الخطأ كما عجزت العاقلة عن حمله.
ويمكننا أن نقول أيضاً: إن الإهمال وعدم الاحتياط هو نتيجة الشعور بالعزة والقوة، وإن هذا الشعور يتولد من الاتصال بالجماعة، فالمُشاهَد أن من لا عشيرة قوية له يكون أكثر احتياطاً ويقظة ممن له عشيرة، وأن المنتمين للأقليات يكونون أكثر حرصاً من المنتمين للأكثريات. فوجب لهذا أن تتحمل العاقلة والجماعة نتيجة الخطأ ما دام أنهما هما المصدر الأول للإهمال وعدم الاحتياط.
4 -إن نظام الأسرة ونظام الجماعة يقوم كلاهما بطبيعته على التناصر والتعاون، ومن واجب الفرد في كل أسرة أن يناصر باقي أفراد الأسرة ويتعاون معهم. وكذلك واجب الفرد في كل جماعة. وتحميل العاقلة أولاً والجماعة ثانياً نتيجة خطأ الجاني يحقق التعاون والتناصر تحقيقاً تاماً، بل أنه يجدده ويؤكده في كل وقت. فكلما وقعت جريمة من جرائم الخطأ اتصل الجاني بعاقلته واتصلت العاقلة بعضها ببعض وتعاونوا على جمع الدية وإخراجها من أموالهم. ولما كانت جرائم الخطأ تقع كثيراً فمعنى ذلك أن الاتصال والتعاون والتناصر بين الأفراد ثم الجماعة كل أولئك يظل متجدداً مستمراً.
5 -إن الحكم بالدية على الجاني وعلى عاقلته فيه تخفيف عن الجناة ورحمة بهم وليس فيه غبن وظلم لغيرهم؛ لأن الجاني الذي تحمل عنه العاقلة اليوم دية جريمته ملزم بأن يتحمل غداً بنصيب من الدية المقررة لجريمة غيره من أفراد العاقلة، وما دام كل إنسان معرضاً للخطأ فسيأتي اليوم الذي يكون فيه ما حمله فرد بعينه عن غيره مساوياً لما تحمله هذا الغير عنه.
6 -إن القاعدة الأساسية في الشريعة هي حياطة الدماء وصيانتها وعدم إهدارها، والدية مقررة بدلاً من الدم وصيانة له عن الإهدار، فلو تحمل كل جانٍ وحده الدية التي تجب بجريمته وكان عاجزاً عن أدائها، لأهدر بذلك دم المجني عليه، فكان الخروج عن القاعدة العامة إلى الاستثناء واجباً حتى لا تذهب الدماء هدراً دون مقابل.
وسبحان مَن هذه شريعته!
المرجع الرئيس: التشريع الجنائي في الإسلام ، للشهيد: عبدالقادر عودة .
للتواصل: د. عبد الرحيم الشريف
[email protected]
  #645  
قديم 12-05-2008, 05:20 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
Unhappy الإعجاز اللغوي والبياني .................................................. ....


من هنــــا يبدا موضوع


الإعجاز اللغوي والبياني




من بديع الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم


أولاً- يعرف علماء البلاغة الإيجاز بأنه التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، ويقابله الإطناب؛ وهو التعبير عن المراد بلفظ أزيد من الأول. ويكاد يجمع الجمهور على أن الإيجاز، والاختصار بمعنى واحد؛ ولكنهم يفرقون بين الإطناب، والإسهاب بأن الأول تطويل لفائدة، وأن الثاني تطويل لفائدة، أو غير فائدة.
ويعدُّ الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة عند علمائها، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: اللغة هي الإيجاز والإطناب. وقال الزمخشري صاحب الكشاف: كما أنه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع .
ثانيًا- ومن بديع الإيجاز قوله تعالى في وصف خمر الجنة:﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ(الواقعة: 19)، فقد جمع عيوب خمر الدنيا من الصداع، وعدم العقل،وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وحقيقة قوله تعالى:﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ﴾. أي: لا يصدر صداعهم عنها. والمراد:لا يلحق رؤوسهم الصداع، الذي يلحق من خمر الدنيا. وقيل: لا يفرقون عنها، بمعنى: لا تقطَع عنهم لذتهُم بسبب من الأسباب، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد:﴿لَا يَصَدَّعُونَ، بفتح الياء وتشديد الصاد، على أن أصله: يتصدعون، فأدغم التاء في الصاد. أي: لا يتفرقون؛ كقوله تعالى:﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ(الروم: 43). وقُرِىءَ:﴿لَا يَصَدَعُونَ، بفتح الياء والتخفيف. أي: لا يصدع بعضهم بعضًا، ولا يفرقونهم. أي: لا يجلس داخل منهم بين اثنين، فيفرق بين المتقاربين؛ فإنه سوء أدب، وليس من حسن العشرة.
وقوله تعالى:﴿وَلَا يُنْزِفُونَ، قال مجاهد، وقتادة، والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها، من نزف الشارب، إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. قيل: وهو من نزف الماء: نزحه من البئر شيئًا فشيئًا.
ثالثًا- ومن بديع الإطناب قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام:﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِإِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى(يوسف: 53).
ففي قوله:﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي تحيير للمخاطب وتردد، في أنه كيف لا يبرىء نفسه من السوء، وهي بريئة، قد ثبت عصمتها ! ثم جاء الجواب عن ذلك بقوله:﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِإِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى.
والمراد بالنَّفْسَ النفس البشرية عامة. وأمَّارَةٌ صيغة مبالغة على وزن: فعَّالة. أي: كثيرة الأمر بِالسُّوءِ. أي: بجنسه. والمراد: أنها كثيرة الميل إلى الشهوات. والمعنى: إن كل نفس أمارة بالسوء، إلا نفسًا رحمها الله تعالى بالعصمة.
وهذا التفسير محمول على أن القائل يوسف عليه السلام. والظاهر أنه من قول امرأة العزيز، وأنه اعتذار منها عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات. والمعنى: وما أبريء نفسي، مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قذفته، وقلت:﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(يوسف: 25)، وأودعته السجن. تريد بذلك الاعتذار مما كان منها. ثم استغفرت ربها، واسترحمته مما ارتكبت.
رابعًا- ومن الآيات البديعة، التي جمعت بين الإيجاز والإطناب، في أسلوب رفيع من النظم بديع، قول الله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(النمل: 18)
أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة:﴿يَا أَيُّهَا ﴾،وقولها:﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. أما قولها:﴿يَا أَيُّهَا ﴾ فقال سيبويه: الألف والهاء لحقت { أيًّا } توكيدًا؛ فكأنك كررت { يا } مرتين، وصار الاسم تنبيهًا .
وقال الزمخشري: كرر النداء في القرآن بـ﴿يَا أَيُّهَا ﴾، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد،وأسبابًا من المبالغة؛ منها: ما في { يا } من التأكيد، والتنبيه، وما في { ها } منالتنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في { أيّ } إلى التوضيح. والمقام يناسبهالمبالغة، والتأكيد .
وأما قولها:﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فهو تكميل لما قبله، جيء به،لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام- وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقعمنهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي: وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام .
ومثل ذلك قوله تعالى:﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ(الفتح:25). أي: تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.
وأماالإيجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النملة في قولها من أجناس الكلام؛ فقد جمعت أحد عشر جنسًا: النداء، والكناية، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والقصص، والتحذير، والتخصيص،والتعميم، والإشارة، والعذر.
فالنداء:{يا }. والكناية:{أيُّ }. والتنبيه:{ها }. والتسمية:{ النمل }. والأمر:{ادخلوا }. والقصص:{ مساكنكم }. والتحذير:{لا يحطمنكم }. والتخصيص:{سليمان }. والتعميم:{جنوده }. والإشارة:{هم }. والعذر:{لا يشعرون }.
فأدَّت هذه النملة بذلك خمسة حقوق: حق الله تعالى، وحق رسوله، وحقها، وحقرعيتها، وحق الجنود.
فأما حق الله تعالى فإنها استُرعيت على النمل، فقامت بحقهم. وأما حق سليمان- عليه السلام- فقد نبَّهته على النمل. وأما حقها فهو إسقاطهاحق الله تعالى عن الجنود في نصحهم. وأما حق الرعية فهو نصحها لهم؛ ليدخلوا مساكنهم. وأما حق الجنود فهو إعلامها إياهم. وجميع الخلق، أن من استرعاه الله تعالى رعيَّة، وجب عليه حفظها، والذبِّ عنها، وهو داخل في الخبر المشهور: كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته . هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة المبنى ( اللفظ ) فإن كلمة { نملة } من الكلمات، التي يجوز فيها أن تكون مؤنثة، وأن تكون مذكرة؛ وإنما أنث لفظها للفرق بينالواحد، والجمع من هذا الجنس. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:لا تضحِّيبعوراءَ، ولا عجفاءَ، ولا عمياءَ كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة، ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة !
وأما تنكير { نملة } ففيه دلالة على البعضيَّة، والعموم. أي: قالت نملة من هذا النمل. وهذا يعني أن كل نملة مسؤولة عن جماعة النمل.
وأما قولها:﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ ففيه إيجاز بالحذف بليغ؛ لأن أصله: ادخلوا في مساكنكم، فحذفمنه { في }، تنبيهًا على السرعة في الدخول.
ولفعل { دخل } استعمالات دقيقة في اللغة والقرآن، تخفى حتى على الكثير من علماء اللغة والتفسير، لخصها الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقالته النقدية ( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ).
وأما قولها:﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾، بنون مشددة أو خفيفة، فظاهره النفيُ؛ ولكن معناه على النهي. والنهيُ إذا جاء على صورة النفي، كان أبلغ من النهي الصريح. وفيه تنبيه على أن من يسير في الطريق، لا يلزمه التحرُّز؛ وإنما يلزممن كان في الطريق.
خامسًا- وفي التعبير بـ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾، دون غيره من الألفاظ، دلالة دقيقة على المعنى المراد، لا يمكن لأيِّ لفظ أن يعبِّر عنه. ويبيِّن ذلك أن الحَطْمَ في اللغة هو الهَشْمُ، مع اختصاصه بما هو يابس، أو صلب.والحطمة من أسماء النار؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها. وعن بعض العرب: قد تحطمت الأرض يبسًا، فأنشبوا فيها المخالب، وهي المناجل. أي: تكسرت زروع الأرض، وتفتتت لفرط يبسها، فجزوها. ومن هنا نجد القرآن الكريم يستعمل لفظ الحطم للزرع اليابس المتكسر. قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾(الزمر: 21)
وقد ثبت للعلماء أن الزرع يحتوي في ساقه وورقه على نسب كبيرة من الزجاج؛ ولهذا نراه يتكسر حين يصفر، كما يتكسر الزجاج. وكذلك النمل، فقد ثبت أن جسم النملة يحتوي على نسبة كبيرة من الزجاج، وأنه مغلف بغلاف صلب جداً قابل للتحطم؛ كالزرع اليابس، والزجاج الصلب. وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن إلى جانب إعجازه البياني، الذي يسمو فوق كل بيان!
وبعد.. فقدأدركت هذه النملة الضعيفة فخامة ملك سليمان، وأحسَّت بصوت جنوده قبل وصولهم إلى وادي النمل، فنادت قومها، وأمرتهم بالدخول في مساكنهم أمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها، فأتت بأحسن ما يمكن أن يؤتى به في قولها من الحكم، وأغربه،وأفصحه، وأجمعه للمعاني؛ ولهذا تبسم سليمان عليه السلام حين سمع قولها، وروي عنه- عليه السلام- أنه قال لها: لم قلت للنمل:﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟! فقالت: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما يرَوْا من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله !
وفي حديث سليمان- عليه السلام- مع النملة، وحديثها مع قومها إعجاز آخر من إعجاز القرآن. فقد أثبت العلماء أن للنمل لغته الخاصة، التي يتفاهم بها، كما أثبت أن النملة المؤنثة هي التي ترعى قومها، وتتولى الدفاع عنهم، وتنبههم لأي خطر قادم، أو مفاجىء، وليس للذكر أي دور في ذلك؛ لأن مهمته مقتصرة على تلقيح الأنثى العذراء مرة واحدة في حياته، ثم يختفي.
وأسرار النمل وعجائبه كثيرة، ليس هذا المقال موضع بسطها، ويكفي أن أشير إلى أن النمل- على ضعفه- مخلوق قويُّ الحسِّ، شمَّامٌ جدًّا، نشيط جدًّا، يتميز بذكاء خارق، وقبل تخزين الحب يقوم يشق الحبة من القمح قطعتين؛ لئلا تنبت، ويشق الحبة من الكزبرة أربع قطع؛ لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، والحب الذي لا يستطيع شقه، يقوم بنشره تحت أشعة الشمس بصفة دورية ومنظمة، حتى لا يصيبه البلل، أو الرطوبة فينبت، ويأكل في عامه بعض ما يجمع، ويدَّخر الباقي عدة أعوام، وحياته مثل حياة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى جميعها بإتقان رائع، يعجز البشر غالبًا عن إتباع مثله، على الرغم مما أوتوا من عقل راق، وإدراك عال.
بقي أن تعلم أن النمل يضرب المثل به في الضعف والقوة والكثرة، فمن أمثال العرب قولهم: أضعف وأكثر وأقوى من النمل . وحكي أن رجلاً قال لبعض الملوك: جعل الله قوَّتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه ذلك، فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله تعالى بالنمل أمة من الأمم، وهي جرهم. ومن أمثالهم أيضًا قولهم: أحرص من نملة، وأروى من نملة لأنها تكون في الفلوات، فلا تشرب ماء.
فتأمل حكمةالله تعالى في أضعف خلقه، وردِّدْ مع سليمان- عليه السلام- قوله:﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾.. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلــــب
[email protected]
  #646  
قديم 12-05-2008, 05:23 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الرسم القرآني وأسراره



إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
إن القرآن الكريم الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقرأه أناء الليل وأطراف النهار ونتدبر كلماته ومعانيها هو نفسه الكتاب الذي أنزل من اللوح المحفوظ في شهر رمضان دون زيادة أو نقصان, حيث أنزله الله سبحانه وتعالى من اللوح المحفوظ جملة واحدة في ليلة القدر المباركة, قال الله عزّ وجل: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر{1}?[سورة القدر]. وقال سبحانه وتعالى: ?حم{1} والكتاب المبين{2} إنا أنزلناه في ليلة مباركة{3}?[الدخان].
فَوضِعَ في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم كان جبريل عليه السلام يَنزل به منجماً بالأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. [1].
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب المبين الذي أنزله بلسان عربي متحدياً البلغاء والشعراء أن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض عوناً وظهيراً,
قال الله تبارك وتعالى: ?حم{1} والكتاب المبين{2} إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون{3}?.[الزخرف].
و(جعلناه) أي سميناه ووصفناه, ولذلك تعدى الفعل جعل إلى مفعولين.
و(قرآناً عربياً) أي أنزلناه بلسان العرب لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه, وقال مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي.[2].
والقرآن الكريم ليس أمر ونهي وكلمات ومعاني فقط بل ورسم أيضاً
والمقصود بالرسم القرآني هو رسم الكلمات القرآنية من حيث نوعية حروف كل كلمة وردت في القرآن الكريم وعدد حروفها.
وليس المقصود منه نوعية خط الكتابة سواء نسخ أو كوفي أو غيره, فقد أجمع معظم العلماء أن رسم المصحف هو توقيفي لا يجوز مخالفته واستدلوا على ذلك من قول الله سبحانه وتعالى:
?وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5}?[سورة النجم].
وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحيكلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته, مبالغة في تسجيله وتقييده, وزيادة في التوثيق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى, حتى تظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ.
وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم, وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة, فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس.
ثم جاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف, ثم حذا حذوه عثمان بن عفان رضي الله في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف وأقرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وانتهى الأمر إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم.{3}.
وبالرسم القرآني حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق, وكلمات تأتي في آيات قرآنية برسم مختلف, وكلمات أخرى تأتي برسم يختلف عن الرسم المعتاد. وكلمات تنقص أو تزيد حروفها. وكلّ ذلك لأغراض شريفة وهي من الأسرار التي خصّ الله بها كتابه العزيز.
وذكر العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ, إذ يقول في كتابه(( الإبريز)) ما نصه: ( رسم القرآن سرٌّ من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة وهو صادرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكُّتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على هذه الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول, وهو سر من الأسرار خصَّ الله تعالى به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية, وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه معجز, وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية, وإنما خفيت على الناس, لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور فإن لها أسراراً عظيمة ومعاني كثيرة, وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها, ولا يدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أُشيرَ إليها, فكذلك أمرُ الرسم الذي في القرءان حرفاً بحرف.
وقال الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله): تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف, أو غير ذلك.
وإنه لممّا يطمئن له القلب ويرتاح له الفكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أملى كتابة الرسم القرآني على كتّاب الوحي حسب الرسم المنزل عليه والذي نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام, ومما يؤيد ذلك أن أول كلمة قرآنية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت (اقرأ) وهي تعني اقرأ القرآن من الكتاب, حتى إنَّ الرسول الأكرم ردّ على جبريل عليه السلام قائلا: ما أنا بقارئ.
ولو كان قرءانا فقط لكانت أول كلمة هي: قل.
وقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ..... الخ. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ?ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين{2}?.[سورة البقرة].
إنها إشارة على الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال له: اقرأ. كذلك فإن ما يؤيّد ذلك أيضاً قول الله تعالى: ?رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة, فيها كتب قيمة{2}?[البينة]. وقوله تعالى: ?بل هو قرآن مجيد{21} في لوح محفوظ{22}?[سورةالبروج].
وفي هذه الدراسة نتعرض لبعض هذه الكلمات القرآنية التي جاء رسمها مخالفاً للقواعد الإملائية ونحاول أن نتلمس الحكمة في ذلك لأننا نعتقد كما قال الإمام الرازي إن كل حرف وكل كلمة وكل حركة في القرآن الكريم لها فائدة, ونحاول في هذه الدراسة أن نلتمس الحكمة وبالطبع لن نصل إليها كاملة فهناك متسع لمزيد من الاجتهادات والتدبر في معاني هذه الكلمات القرآنية وأسرارها.
ونضرب هنا أمثلة لبعض الكلمات القرآنية التي جاءت على رسم مختلف.
- لماذا جاءت (بسم) بدون ألف حينما نسبت إلى لفظ الجلالة(الله) وجاءت برسمها المعتاد(باسم) حين نسبت إلى ربك.
- لماذا جاءت (رءى) في القرآن الكريم كلّه ما عدا موضعين اثنين فقط جاءت برسم (رأى).
- لماذا جاءت (تشاء) برسمها المعتاد في جميع القرآن الكريم ما عدا مرة واحدة فقط جاءت برسم مختلف( نشؤا).
- لماذا جاءت كلمة (تسطع) مرة واحدة ناقصة حرف تاء بهذا الرسم وكلمات أخرى كثيرة جاءت بشكل مختلف نتعرض لها في هذا القسم ذلك بعد دراسة الآيات الكريمة التي أحاطت بهذه الكلمات وتدبر المعاني التي احتوتها والغاية من ذلك. ومن خلال الدراسة لهذه الكلمات فقد تبين على وجه العموم الآتي:
- إن وجود كلمة قرآنية برسم مختلف في آية يلفت النظر إلى أن هناك أمراً عظيماً يجب تدبره.
- في حالة زيادة أحرف الكلمة عن الكلمة المعتادة فإن هذا يعني زيادة في المبنى يتبعه زيادة في المعنى.
- كذلك فإن زيادة المبنى يمكن أن يؤدي إلى معنى التراخي أو التمهل أو التأمل والتفكر أو انفصال أجزاءه.
- في حالة نقص حروف الكلمة فإن هذا يعني إما سرعة الحدث أو انكماش المعنى وضغطه أو تلاحم أجزائه.{5}.
هذا هو كتاب الله سبحانه وتعالى أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وأنزله الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منجماً, وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف بالزيادة أو النقصان.
قال الله سبحانه: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}?.[سورة الحجر].

الإعجاز في حذف بعض الأحرف من بعض الكلمات
أ- حذف الألف
بسم – باسم
وردت كلمة (بسم) ثلاث مرات في القرآن (بخلاف فواصل السور):
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة: 1].
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [النمل: 30].
كما وردت كلمة (باسم) أربع مرات في القرآن:
قال الله تعالى: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 73-74].
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 95-96].
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1].
{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الحاقة: 51-52].
لماذا وردت كلمة (بسم) في الحالات الأولى مقصورة بدون ألف ووردت في الحالات الأخرى كلمة (باسم) كاملة بدون قصر.
إن حذف الألف من كلمة (بسم) والتي جاء بعدها لفظ الجلالة (الله) يدل ويوحي بأنه يجب علينا الوصول إلى الله سبحانه وتعالى وعمل الصلاة معه بأقصر الطرق وأسرع الوسائل وهو ما يدل عليه { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو الذي يوصل بأسرع وأقصر الطرق... والحرف الوحيد الذي يمكن حذفه من كلمة (باسم) دون تغيير نطق الكلمة هو حرف الألف.. لذا فقد تم حذفه للتوجه إلى الله وأخذ البركة منه في أي عمل نعمله بأسرع ما يمكن وبأقصر طريق... ولفظ الجلالة (الله) هو العلم على الذات الإلهية ولا يشاركه فيه أحد.. أما في الحالات الأخرى والتي ورد فيها (باسم) فإن كلمة (ربك) تأتي مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وخلقه فقد جاء في الآية 42 من سورة يوسف قوله للساقي: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [يوسف: 42]...
إن حذف حرف من الكلمة يضغط مبناها ويسرع من واقعها فتؤدي المعنى المطلوب وهو السرعة على خير وجه وهذا إعجاز القرآن الكريم والرسم القرآني...
سموات – سموات
وردت كلمة (سموات) بهذا الرسم بدون ألف صريحة 189 مرة في القرآن الكريم كله... ووردت مرة واحدة فقط بألف صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآني (سموات) وذلك في الآية الكريمة رقم 12 من سورة فصلت والتي يقول سبحانه فيها: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ }...
وحين نتدبر هذه الآية الكريمة وما قبلها من آيات نجد أن القرآن الكريم يتعرض لقضية كبرى هي قضية خلق السماوات والأرض وترتيب هذا الخلق ومدته وتقدير الأقوات في الأرض لذا فإن القضية مهمة جداً وتحتاج إلى تدبر وتفكر وعليه فقد جاءت كلمة (سموات) بالرسم الغير عادي هذه المرة لتفت النظر إلى ضرورة الوقوف وتدبر المعاني الجليلة لهذه الآيات والتي صعب فهمها على بعض الناس خاصة في حساب أيام الخلق الستة حيث لم يقدّر لهم فهم جملة (أربعة أيام سواء) بأن هذه الأيام تشمل يومي خلق الأرض والتي قول فيها سبحانه: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12].
الميعاد – الميعـد
وردت كلمة (الميعاد) وذلك بألف صريحة في وسط الكلمة 5 مرات في القرآن الكريم كله... وكلها تتكلم عن الميعاد الذي وعده الله.. لذلك جاء هذا الميعاد واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه..
ونذكر فيما يلي الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الميعاد):
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 9].
{ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 194].
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [الرعد: 31].
{ { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ } [سبأ: 30].
{ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر: 20].
غير أن هذه الكلمة وردت مرة واحدة فقط وذلك برسم يختلف بدون ألف صريحة على شكل (الميعـد) وذلك حين نسب هذا الميعاد إلى البشر حيث قال تعالى: { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَـدِ } [الأنفال: 42].
سعوا – سعو
وردت (سعوا) بشكلها العادي مرة واحدة، ووردت (سعو) بشكلها الغير عادي بدون ألف في آخرها مرة واحدة أيضاً في القرآن الكريم كله، وتوحي كلمة (سعو) بنقص الألف في آخرها أن هذا السعي سريع جداً وكله نشاط وهو حسب الآية الكريمة سعي في إنكار آيات الله وهو ما جلب على الكافرين عذاب من رجز أليم في الدنيا... بالإضافة إلى عذاب جهنم في الآخرة..
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [الحج: 51].
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5]. أي في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة.
صحب – صاحب
في الآية 34 من سورة الكهف يقول القرآن الكريم على لسان مالك الجنين: { فَقَالَ لِصَـحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ }. حيث جاءت كلمة (صـحبه) بألف متروكة لتبين ما كان يظنه مالك الجنتين من أن صاحبه ملتصق به التصاقاً كاملاً سواء في الرفقة أو الإيمان...
غير أن الرد يأتيه من صاحبه المؤمن في الآية 37 من نفس السورة: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } حيث جاءت كلمة (صاحبه) بألف صريحة فارقة لتوضح لقارئ القرآن أن هذه الصحبة في الرفقة فقط وأما في الإيمان فهناك افتراق ومسافة بينهما.. وقد جاء هذا المعنى أيضاً واضحاً في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نُسب إلى قومه فجاءت كلمة (صاحبكم) بالألف الصريحة مفرقة بينه وبين قومه في الإيمان بالرغم من مصاحبته لهم في المكان والزمان.. وذلك في الآيات الكريمة الآتية:
{ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم: 2].
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22].
{ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } [الأعراف: 184].
غير أنه حين يتكلم القرآن الكريم عن سيدنا أبي بكر صاحب رسول الله تأتي (صـحبه) بألف متروكة لتبين مدى الالتصاق بينهما وتوضح الصحبة الحقيقية في الرفقة والإيمان:
{ إِذْ يَقُولُ لِصَـحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]، وهذا يبين جزءاً من الحكمة في كتابة الكلمة القرآنية باستخدام الألف الصريحة والمد بالألف المتروكة كما سبق أن أوضحنا...
حذف حرف الواو
من بعض الأفعال
ورد في كتاب (مناهل العرفان) للزرقاني: أنه تم كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
(ويدعو الإنسان – ويمحو الله الباطل – يوم يدعو الداع – سندع الزبانية) ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
قالوا: والسر في حذفها من (ويدع الإنسان) هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير....
والسر في حذفها من (ويمح الله الباطل) الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله...
والسر في حذفها من (يوم يدع الإنسان) الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين...
والسر في حذفها من (سندع الزبانية) الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش.. ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: (والسر في حذفها سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود).
وسئل – فسئل
ورد في القرآن الكريم كله فعل الأمر من (سأل) ناقصاً حرف (ا) في البداية... ونذكر فيما يلي نماذجاً من الآيات الكريمة التي ورد فيها هذا الفعل:
قال تعالى: { فَسْئلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94].
- وقال تعالى: { وَسْئلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82].
- وقال تعالى: { وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء: 32].
- وقال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43].
ويدل حذف حرف (ا) من مبنى الكلمة الأصلية وهو (اسئل) أو (اسأل) على أن الكلمة القرآنية في رسمها تعبر عن المعنى أصدق تعبير إذ أن السؤال دائماً يأتي في عجلة وسرعة فقلما ينتظر الإنسان فهو دائماً يريد سرعة الإجابة.. لذلك جاءت كلمة (سئل) في فعل الأمر ناقصة حرفاً لتحض على سرعة السؤال انتظاراً لسرعة الإجابة.
وكما ذكرنا فإن نقص مبنى الكلمة يدل على العجلة والسرعة وعدم الصبر....
أيد – أييد
وردت كلمة (أيد) وهي جمع (يد) مرتين في القرآن الكريم كله بهذا الرسم العادي وذلك في الآيتين التاليتين:
قال تعالى: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } [الأعراف: 195].
وقال تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 17].
غير أنها وردت مرة واحدة برسم مختلف يزيد حرف (ي) في منتصفها وذلك في الآية الكريمة الآتية:
قال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47].
وكما سبق أن ذكرنا فإن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى فهل هناك أشد من خلق السماء...؟
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27]، إن زيادة حرف (ي) في كلمة (أيد) يوضح قوة وشدة السماء ومتانة سمكها وبنائها...
إن شاء الله تعالى سوف نعرض المزيد من الدراسات في مقالات أخرى
يمكن التواصل مع المؤلف على الإيميل التالي:
[email protected]
موبايل: 0020101692635
المراجع:
القرآن الكريم
1 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ج2 في تفسير الآية 185 من سورة البقرة.
2 - الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي في تفسير الآيات الثلاث الأولى من سورة الزخرف.
3 - كتاب مناهل العرفان للزرقاني.
4- ((كتاب تأملات في إعجاز الرسم القرآني وإعجاز التلاوة والبيان )) للمهندس: محمد شملول.
  #647  
قديم 12-05-2008, 05:27 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ




قال الله جل وعلا:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الحاقة: 38- 43)
أولاً- في هذه الآيات الكريمة يقرر الله جل وعلا تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول، الذي جاء به الرسول الكريم، هذا القول، الذي تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيب، والسخرية، والتكذيب.ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق ثابت؛ لأنه صادر عن الحق، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر، أو كهانة كاهن، أو افتراء مفتر؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء مما نبصر، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب.
وقد كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: إنه شاعر، وإنه كاهن، متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع.. وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر والكهانة، وهي شبهة واهية سطحية، حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات، عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في علاه !
وكبراء قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم، ويردُّون على هذه الشبهة بين الحين والحين؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق، ويصمُّ الآذان عن سماعه..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ(الأحقاف: 11)
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة، وينفونها فيما بينهم، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة..
فما كان قولهم: ساحر، أو كاهن، أو غير ذلك إلا حيلة ماكرة أحيانًا، وشبهة مفضوحة أحيانًا.. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبُّر، وأول تفكُّر، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بما يبصرون، وما لا يبصرون:
﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾
﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَإنما هو:
﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
وكانت مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي. ولقد عجبت من أحد المساكين، الذي عرَّف بنفسه أنه باحث عقلاني في القرآن الكريم، حين سمعته يكفِّر كل من يقول بالتحدي في القرآن، ويسفِّه رأيه؛ لأن الله سبحانه- على حدِّ زعمه- لا يليق به أن يتحدَّى البشر؛ بل يليق به أن يستهزئ بهم.
وسأنقل هنا شيئًا مما قاله هذا الباحث العقلاني في هذا الصدد، وأترك للقارئ الكريم التعليق عليه. ومن يدري فلعله يكون محقًّا فيما قاله! ومن ذلك قوله:
الله نسب الاستهزاء بالكفرة إلى نفسه، فذلك يجوز في حقه، ولم ينسب التحدي؛ لأنه لا يجوز. ومن ظن أن الآيات فيها شبهة تحدًّ، فهو واهم، والله لا يستحي أن يقول للكفرة: إني أتحداكم نصًّا صريحًا فيالقرآن، أو على لسان رسوله الكريم؛ ولكن ليس هناك من أثر واحد فيه دعوة الله تعالى بالتحدي؛ وإنما هي نصوص أولها الناس على التحدي، وهذا ما لا يجوز بحقه سبحانه وتعالى.
وأضاف هذا المسكين قائلاً:
هل خرج سيدنا محمد على كفار قريش، وقال لهم إني جئتكم بقرآن من ربكم، أتحداكم أن تؤتوا بمثله ؟ أين الجهابذة عندكم ، فليعارضوا القرآن، وهو معجزة؛ لأنكم لا تستطيعونأن تأتوا بمثله ؟ هل جاء بالأثر مثل هذا ؟؟؟ لا، والله ، ما جاء؛ ولكنه وهم، وتحريف للكلم عن مواضعه.. شهادة بالغة لله في عنقي، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾، ونوِّر بصائرنا، ﴿ فََإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
ثانيًا-ذكرت في مقالي السابق﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِأن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم ، تحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أن يأتوا:
﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)
و﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13)
و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
ثم أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
وذكرت في مقالي الآخر ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ أن قول الله عز وجل:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
كان بمثابة الإعلان في مكة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة، والأمم عامة، إنسهم وجنهم، عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا، ولو تظاهروا على ذلك. وهذا ما دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ﴿ لَا ﴾ نفيًا شاملاً على سبيل القطع والجزم في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يمكن أبدًا، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن مجتمعين.
ثم ذكرت أن هذا المثل للقرآن ليس مثلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مثل موجود، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن يشك في وجوده، ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مثل موجود:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه الآية الكريمة ما يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى أن الله تعالى طلب من المكذبين خاصة، والناس عامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، خلافًا للمشهور؛ إذ كيف يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بهذا المثل للقرآن، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المثل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن يأتوا:﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾، حين كانوا في ريب منه، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(البقرة: 23)
ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم، فقال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة: 24)
وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:21-22)
والخطاب هنا عام للناس كل الناس، في كل زمان وكل مكان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه، وإن كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله.
وما في اللفظ يدل على خلاف ذلك..
ففي اللفظ قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، وهو خطاب يراد به العموم، والعرب بعض من هذا العموم.
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا، والريب هو الشك بتهمة، وهو معلق بإن الشرطية، التي تدل على إمكان حدوث ما بعدها، وعدم إمكان حدوثه. وحدوثه، إن كان مع قلته، أخطر تهمة توجه إلى القرآن الكريم، فهو أخطر من الافتراء، ومن التقوُّل، ومن غيرهما.
ولهذا نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول لكل جنس من أجناس الريب في القرآن، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا؛ لأنه المعجزة الكبرى، التي أيَّد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(السجدة: 2)
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(فصلت: 42)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ، والإتيان بالشيء يكون بالمجيء به، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان قريب بسهولة ويسر، دون جهد يبذل. ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير كما في قوله تعالى هنا:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
أو يكون ذلك بالاختراع من الجالب كما في قوله تعالى:
﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ(البقرة: 258)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِنْ، وهي لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى:
﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ ﴾(القصص: 49)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِثْلِهِ، ومِثْلُ الشيء، بكسر فسكون، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في الجنس في تمام ذاته، أو حقيقته وماهيته، أو جوهره، لا في صفاته؛ فإن المثل لا يكون مثلاً لغيره، إلا وذلك الغير مثلاً له. والمثلان- بإجماع علماء التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، بحيث يسد مسدَّه. والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مثل الشيء في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. وقد بينت ذلك ووضحته في مقالي المذكور:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فليس من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال: إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا القرآن، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه، وما أشبه ذلك؛ لأنها صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره، أو حقيقته وماهيَّته، لا يعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومن قال خلاف ذلك، فإنه لا يعرف جوهر الكلام، ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان. وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا يفهمون معنى المثلية في هاتين الآيتين كما فهمها جمهور المفسرين، وأعني: المثلية في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة: 23)
ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾، وبين تحدِّي الناس كلهم أن يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ - أن اعترض الكفار في مكة على صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل الافتراء تارة، وعلى سبيل التقوُّل تارة أخرى، فبيَّن الله تعالى في هذين المقامين أن إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(يونس: 37)
فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله. أي: ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا القرآن، وينسبه إلى الله جل وعلا. فنفى تعالى فعل ذلك، ونفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع؛ بل يمتنع وقوعه، فيكون المعنى: ما يمكن، ولا يحتمل، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك.
ثم قال سبحانه في الرد على القائلين بالتقوُّل:
﴿ أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُون ﴾(الطور: 30- 33)
وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحيًا من الله سبحانه، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله سبحانه. فالاستفهام إنكار لقولهم، واستبعاد له. وهم قد أكثروا من الطعن، وتمالؤوا عليه؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر:﴿ يَقُولُونَ ﴾، المفيدة للتجدد، ثم أتبع بقوله تعالى:﴿تَقَوَّلَهُ ﴾، بدلاً من قوله، فيما تقدم:﴿افْتَرَاهُ ﴾؛ وذلك لاختلاف المقامين.
والتقوُّل معناه: قال عن الغير: إنه قاله. فهو عبارة عن كذب مخصوص؛ كقوله تعالى:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (الحاقة: 38)
أي: قال عنا ما لم نقله. وليس كذلك الافتراء؛ إذ كل تقوُّل افتراء، وليس كل افتراء بتقوُّل.
ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله، فقال في جواب الآية السابقة:
﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (الحاقة: 39- 40)
ثم قال تعالى:﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ جوابًا لقوله:﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾، فابتدأ الرد عليهم؛ لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله:﴿لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، بمنزلة دليل ثان.
والمعنى: لا يؤمنون بسبب كفرهم وعنادهم، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن الكريم بيِّنةٌ لديهم؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا، وبادروا إلى الطعن في القرآن الكريم دون نظر، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم، وجهلهم، وغرورهم؛ من نحو ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم؛ كقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) ، وقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾(يونس: 15) ،وقوله تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ*وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾(الزخرف: 30- 31 )
فأخبر تعالى عنهم: أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل القرآن، ووصفوه بأكاذيب الأولين، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم؛ كالأضاحيك والأعاجيب. وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن مرة، أو تبديله. وأنهم قالوا مرة، لما جاءهم: هذا سحر، وكفروا به، ثم قالوا: لولا نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم؛ كالوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد الحثُّ عليه.

يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
  #648  
قديم 12-05-2008, 05:31 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ


رابعًا- وقداحتج الله تعالى على صحة هذا القرآن، وأنه ليس بمفترى، بأن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، ويبطل بذلك دعواهم بافترائه، فقال سبحانه:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
ثم قال سبحانه:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13)
فتحداهم أن يأتوا﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾. ثم تحداهم أن يأتوا﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله، إن كانوا صادقين، فقال سبحانه:
﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالبهم أن يأتوا بسورة مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك.
ومن الواضح أن الآيتين السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب. والفرق الوحيد بينهما هو أن التحدي في الأولى أتى﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾، وفي الآية الثانية أتى﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾. وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ﴿ أَمْ، وهي للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي. والغرض منه إبطال دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا.
و﴿ أَمْ هذه هي التي تتقدر عند النحاة بـ( همزة الإنكار ) و( بل ). وعليه يكون تقدير الكلام: بل، أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل: إنكار لقولهم واستبعاد.
والافتراء معناه: الكذب. وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك، والظلم، والكذب عن عمد؛ نحو قوله تعالى:
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾(النساء: 48)
وقوله تعالى:
﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ﴾(النساء: 50)
وواضح أن المراد بقوله تعالى في آية هود:
﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ(هود: 13)
أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن مفتريات. ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى:﴿افْتَرَاهُ ﴾ يعود على قوله:﴿بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾(هود: 12)
أما قوله تعالى في آية يونس:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
فالمراد به: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء، لا سورة واحدة مثله. والدليل على ذلك:
1- أن الضمير في:﴿مِثْلِهِ ﴾ يعود على:﴿ هَذَا الْقُرْآَن ﴾ في الآية السابقة، لهذه الآية على أرجح الأقوال، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾(يونس: 37)
2-أن من معاني السُّورة في اللغة: المنزلة الرفيعة؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب
3-أن السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل، وتشتمل على ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب، وغير ذلك، وتطلق في الأكثر على السورة الواحدة من القرآن. وقد تطلق، ويراد بها القرآن كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن )، فإنه يطلق، ويراد به القرآن كله، وقد يراد به بعضه.
4- أنَّ آية يونس، التي تتحدى البشر أن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾(يونس: 39)
أي: كذبوا بالقرآن؛ لأنهم لم يحيطوا بعلمه، الذي أحاط بكل شيء.
ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى: السُّمو والرفعة، ومعنى: الإحاطة. ومعنى الإحاطة يتضمن: الاشتمال، والتمييز، وتحديد المعالم.
5-قرأ عمرو بن قائد:﴿بسورةِ مثلِهِ ﴾ على الإضافة. أي: بكلام مثله. أي: مثل القرآن.
6- جاء في كتاب معاني القرآن:وقيل: المعنى: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. والسورة قرآن، فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى. ولو كان على اللفظ ، لقيل مثلها.
7- أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر في أول خمسين سورة ، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد جاء التحدي ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة يونس، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول.
ثم جاء التحدي ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة هود، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول. وهذا يعني أنّ العرب، في زمن الوحي، قد أَلِفَت معنى لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة. وهناك الكثير من السُّور القصار، التي نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم: سورة.
خامسًا- ثم احتج سبحانه على صحة القرآن، وأنه ليس بمتقوَّل، فقال:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(الطور: 34)
والفاء هنا للتعقيب. أي: إذا كان القرآن متقوَّلاً كما يدعون، فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين.
وقال تعالى هنا:﴿فَلْيَأْتُوا ﴾، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر، وبدون وساطة:﴿ قُلْ ﴾، خلافًا للآيتين السابقتين؛ إذ قال فيهما:﴿قُلْ فَأْتُوا ﴾. والسِّرُّ في ذلك:
أولاً: أن التحدي بقوله تعالى:﴿فَلْيَأْتُوا ﴾ تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن تارة، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى. أما التحدي بقوله تعالى:﴿قُلْ فَأْتُوا ﴾ فهو تحد مباشر، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم افتراء القرآن.
وثانيًا: أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر﴿ فَلْيَأْتُوا ﴾ يفيد تجدد التحدي واستمراره دون انقطاع، بخلاف صيغة الأمر﴿ فَأْتُوا ﴾؛ فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة، ووقوعه أكثر من ذلك.
ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا ﴾(إبراهيم: 31)
أي: يداوموا، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع. والتقدير على أحد الأقوال: قل لعبادي الذين آمنوا، ليقيموا الصلاة، ولينفقوا مما رزقناهم.
سادسًا-وواضح مما تقدم أن المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة: 23)
هي غيرها في قوله تعالى:
﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37) ، وقوله تعالى:
﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13) ، وقوله تعالى:
﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
فتلك يراد بها المثل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، لا المثل المفترض، وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا: بكلام أو قرآن مثل القرآن، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن، وبحديث متقوَّل مثل القرآن. وهذا المثل لا وجود له في واقع الناس، لا على سبيل الافتراض، ولا على سبيل غيره؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا، وكلام الله لا يماثله كلام البشر، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس؛ كما أن ذات الله تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر، للسبب ذاته..
ولكن الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي، لم يفرقوا بين مثلية، وأخرى، فهي مثلية واحدة عندهم، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو النظم، أو غير ذلك..
ونعود إلى هذه الآيات الثلاثة، فنجد أن المفسرين قد اتفقوا على أن المراد بالمثلية في آية هود:
﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
مثلية في البلاغة والفصاحة وحسن النظم.
أما المراد بالمثلية في آية يونس:
﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
فاختلفوا فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال:
أحدها: أنها مثلية في كثرة العلوم، والأحكام، والوعد والوعيد والإخبار عن الغيب.
والثاني: أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
والثالث: أنها مثلية تامة في غيوب القرآن، وعلومه، ونظمه، ووعده ووعيده.
قال الثعالبي عند تفسير آية يونس﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾:والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز، اللتين في القرآن: إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة. والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل. وحين تحداهم بعشر مفتريات؛ إنما تحداهم بالنظم وحده .
أما ابن عاشور فقال: وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن. أي: تشابهه في البلاغة وحسن النظم .
ثم قال: فالمماثلة في قوله:﴿مِثْلِهِ ﴾هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته، لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه، وتصديق بعضه بعضًا .
وكذلك اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور:
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾
فقال أبو حيان: أي: مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم .
وقال ابن عاشور: ومعنى المثلية في قوله:﴿مِثْلِهِ ﴾: المثلية في فصاحته وبلاغته .
وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته، لا باشتماله على المغيبات، وكثرة العلوم؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن لقوله سبحانه:﴿ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾معنى. أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة، صح ذلك؛ لأن فصاحة الكلام تظهر، إن صدقًا، وإن كذبًا.
قال الألوسي: واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق .
ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله: مماثل للقرآن في النعوت، التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى .
إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا طائل من الجري وراءها وتتبعها؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا، ولا توضح معنى. وإذا اختلفت الأقوال، لم يكن بعضها أولى من بعض، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ، وفهم غير صحيح.
وهنا أذكر بما نقلته في مقالي ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ عن صاحب كتاب( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ) من قوله:
لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ.
وأضاف قائلاً:
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــع
  #649  
قديم 12-05-2008, 05:32 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ


هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟.
وقلت تعقيبًا على ذلك: هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية .
وأقول هنا: هذه المثلية، التي تحدَّى الله تعالى بها الناس جميعهم، ولم يستطع أحد منهم أن يقاوم ذلك التحدي إما أن يكون المراد منها معلومًا. أو يكون مجهولاً. والثاني باطل حكمًا؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يتحدى خلقه بشيء لا يعلمون عنه شيئًا، فلم يبق إلا أن يكون المراد من هذه المثلية معلومًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان المراد من هذه المثلية معلومًا، فلمَ اختلف المفسرون، وما زالوا يختلفون في تحديد المراد منها ؟
هذا ما ينبغي الإجابة عنه.. وسأكتفي هنا بأن أذكر قول الخطابي، الذي ردَّ به على الجمهور، الذين يرون أن الله تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن تماثله في البلاغة، فقال في مقدمة كتابه ( إعجاز القرآن ) تعقيبًا على القول السابق بعد أن ردَّ غيره من الأقوال:
وهذا لا يقنِع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحيل به على إبهام.
وأعود بعد هذا إلى الآيات الثلاثة السابقة، فأقول: من تدبَّر هذه الآيات حق التدبُّر، وجد أن المراد بقوله تعالى:
﴿ قُلْ فَأْتُوابِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
كما سبق أن ذكرنا: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن، من غير تحديد الجهة التي يأتون به منها، يكون مماثلاً للقرآن في حقيقة وماهيَّته، لا في صفاته، وإن كان مفترى على حد زعمهم. فإن كانت لديهم القدرة على ذلك، استطاعوا أن يثبتوا أن هذا القرآن مفترى، وإلا فهو كما وصفه الله تعالى بقوله في الآية، التي سبقت هذه الآية، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(يونس: 37)
ولما ظهر عجزهم عن ذلك طالبهم الله تعالى أن يأتوا:
﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
أي: مختلقات، إن صح عندهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم اختلقه من عنده، وكذب به على ربه. و﴿ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾لـ﴿ عَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾، وكان حقها أن تتقدم على ﴿ مِثْلِهِ ﴾، فيقال: بعشر سور مفتريات مثله. ولكنها أخرِّرت عن ﴿ مِثْلِهِ ﴾؛ لأن المثل هو المقصود بالتكليف، وأنه لو قدِّمت عليه، لتوهم أن القرآن مفترى، تنزه عن ذلك.
ولما ادعوا أنمحمدًا صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن على ربه جل وعلا، قالتعالى:
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾، ولم يقل:
﴿فَلْيَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
لأن لفظ ( الحديث ) يطلق على الكلام تارة، وعلى القصة والخبر تارة أخرى. وقد يكون ذلك صحيحًا، وقد يكون متقوَّلاً، فناسب المجيء به- هنا- ما تقدم من قوله تعالى:﴿تَقَوَّلَهُ ﴾؛ لأن التقول- على ما تقدم- هو الكذب المخصوص.
بقي أن نشير إلى وجه الإعجاز في قوله تعالى:﴿فَأْتُوا ﴾، وقوله:﴿ فَلْيَأْتُواْ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{ فقولوا }،{ فليقولوا }. أو:{ فجيئوا }،{ فليجيئوا }، أو نحو ذلك من صيغ الطلب؛ ولكن جاء التعبير عن ذلك بالإتيان؛ لأن الإتيان- كما سبق أن ذكرت- يعني المجيء بالشيء، وجلبه بسهولة، إما بالاسترفاد من الغير، أو بالاختراع من الجالب، وليس كذلك القول.
ولهذا طلب الله تعالى منهم في آيتي ( يونس وهود ) أن يستعينوا بمن استطاعوا من خلق الله، لنصرتهم وإعانتهم على الإتيان بما تحداهم به، فقال سبحانه:
﴿ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾
والدعاء هنا هو طلب الغوث. إي: استغيثوا بمن استطعتم.
أما قوله تعالى:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، ﴿إِن كَانُواْ صَـادِقِينَ ﴾
فالمراد به: إن كانوا صادقين في قولهم:﴿ افْتَرَاهُو﴿ تَقَوَّلَهُ ﴾؛ وذلك راجع إلى ما سبق من قولهم: إنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه شاعر، وإنه مفترى، ومتقوِّل. ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك، لهان عليهم الإتيان بكلام مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بحديث مثله متقوَّل.
وأكرر، فأقول: مثله في حقيقته وماهيَّته، لا في صفاته. وحقيقته وماهيته، لا يعلم كنهها أحد؛ لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا مغاير لكلام البشر في الحقيقة والماهية والجنس، كما أن ذاته الشريفة مغايرة لذوات البشر في الحقيقة والماهية والجنس. ومن هنا يأتي عجزهم عن الإتيان بشيء مما طلب منهم، قليلاً كان، أو كثيرًا. ولما ظهر عجزهم، علم أنهم كاذبون، وأن هذا القرآن الكريم:
﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
والحمد لله رب العالمين !
بقلم الأستاذ الباحث
محمد إسماعيل عتوك

  #650  
قديم 12-05-2008, 05:39 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الفرق بين النصيب والكفل


قال الله تعالى:﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾( النساء: 85 )
فاستعمل سبحانه لفظ ( النصيب ) مع الشفاعة الحسنة، واستعمل لفظ ( الكفل ) مع الشفاعة السيئة، فدل على أن بينهما فرقًا في المعنى.
وأكثر المفسرين على القول بأن النصيب، والكفل بمعنى واحد، وهو الحظ، أو المِثْل، إلا أن الثاني أكثر ما يستعمل في الشر؛ كاستعماله- هنا- في الشفاعة السيئة.
وفرَّق بعضهم بينهما بأن النصيب يزيد على المثل، والكفل هو المِثْلُ المساوي، فاختار تعالى النصيب مع الشفاعة الحسنة؛ لأن جزاء الحسنة يضاعف بعشرة أمثالها، واختار الكِفْلَ مع الشفاعة السيئة؛ لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها.
وهذا القول مبنيٌّ على اعتبار أن ( من ) في قوله تعالى:﴿ مِنْهَا ﴾، في الموضعين، للسبب، وعلى اعتبار أن جزاء الشفاعة الحسنة كجزاء فعل الحسنة، وجزاء الشفاعة السيئة كجزاء فعل السيئة، قياسًا على قوله تعالى:
﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾( الأنعام: 160 ).
وعليه يكون المعنى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب بسببها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل بسببها. أي: يكن لكل منهما ذلك بسبب شفاعته.. وهذا خلاف ما نصَّت عليه الآية الكريمة من المعنى تمامًا؛ لأن ( من ) في قوله تعالى:﴿ مِنْهَا ﴾، في الموضعين، ليست للسبب؛ وإنما هي للتبعيض. والمراد من الآية الكريمة: أن للشفيع، الذي يشفع في الحسنة، نصيبًا من جزاء المشَفَّع على شفاعته، وأن للشفيع، الذي يشفع في السيِّئة كِفْلاً من جزاء المشَفَّع على شفاعته.
فههنا شَفيعٌ، ومُشَفَّعٌ، ومُشَفَّعٌ له، وشَفاعَةٌ. والشفاعةُ نوعان: حسنة، وسيئة. فالشفاعة الحسنة هي التي يُراعَى بها حق المسلم، فيُدفَع بها عنه شر، أو يُجلَب بها إليه خير، ابتغاء مرضاة اللهتعالى. وأما الشفاعة السيئة فهي التي تكون في معصية الله ابتغاء لجاه أو غيره، وأعظمُها جُرْمًا ما كان في حَدٍّ من حدود الله تعالى.
وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادَّ الله تعالى في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله تعالى حتى ينزع . قال الألوسي تعقيبًا على الخبر:واستثني من ذلك الحدود في القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الديَّة غير محرمة .
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً ، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا ، فَقَدْ أتى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا.
وروت عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح:أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ وَأََيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.
فإذا كانت الشفاعة في حق، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ حسنٌ. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( النصيب )، ومعناه في اللغة: الحظ الجيد المعيَّن من الشيء. تقول: هذا نصيبي. أي: حظي. قال تعالى:
﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾( النساء: 7 ).
ثم قال:﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ( النساء: 11 )، فدل على أن النصيب هو الحظ المعين، وأن هذا النصيب تابع للتركة في الزيادة، والنقصان. ونحو ذلك قول إبليس اللعين:﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾( النساء: 118 )
واشتقاقه من النَّصْب، بإسكان الصاد، وهو إقامة الشيء في استواء، وإهْداف، ووضعُه موضعًا ناتئًا؛ كنصْب الرمح، والحجر في الأرض.والنصْبُ، والنصيبُ حجر كان ينصَبفي الأرض، فيعبَده العرب في الجاهلية.
وإذا كانت الشفاعة في باطل، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ رديء. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( الكفل )، وهو من الأجر والإثْم: الضِّعْفُ، في أصح الأقوال. وأصله مركَب يُهَيَّأ علىظهر البعير، أو كساء يدار حول سنامه، وأكثر ما يستعمل في الشرِّ. ومنه ما جاء في الصحيحين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.. وقد يستعمل في الخير، ومنه قول الله تعالى:
﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ( الحديد: 28 )
ولهذا كانت عقوبة الشفاعة السيئةفي الإثم، والمؤدية إلى إسقاط الحقعظيمة عند الله تعالى تتناسب مع المعنى، الذي يؤديهلفظ الكفل، وليس كذلك السيئة، التي تجزى بمثلها. وكذلك كان ثواب الشفاعة الحسنة المؤدية إلى إحقاق الحق يتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ النصيب. فإذا عرفت ذلك، تبين لك السِّرُّ في اختيار ( النصيب ) للشفاعة الحسنة، و( الكفل ) للشفاعة السيئة ترغيبًا في الأولى، وتنفيرًا من الثانية.
ومما ينبغي أن يعلَم أيضًا أن الحديث عن الشفاعة بنوعيها يخص قومًا بعينهم، وأن أصحاب الشفاعة السيئة أكثر من أصحاب الشفاعة الحسنة، وأن وجودهم في المجتمع من أخطر الآفات، التي تهدد سلامته؛ ولهذا كانت عقوبتهم مضاعفة. أما الحديث عن فعل الحسنة، وفعل السيئة فهو حديث عام يعم أفراد المجتمع كلهم. ومن لطف الله تعالى بعباده أن جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، ومن منِّه وكرمه سبحانه أن جعل جزاء الحسنة بعشرة أمثالها، ويزيد من فضله لمن يشاء. ومن هنا لا يجوز قياس الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة على فعل الحسنة وفعل السيئة.
وشيء آخر ينبغي أن يعلم ، وهو أنه لما كان الجزاء بالنصيب، والكفل من الأمور، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:
﴿ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾
فبين سبحانه أنه كان وما زال ولا يزال شاهدًا وحفيظًا وحسيبًا على هذه الأعمال، ومجازيًا على كل عمل بما يناسبه ، وقادرًا على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه كاملاً، لا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع.
والمُقيت من أسماء الله تعالى، وفسّره الغزالي بموصل الأقوات، فيؤول إلى معنى الرازق، إلا أنه أخص، وبمعنى المستولي على الشيء، القادر عليه، فيكون راجعًا إلى القدرة والعلم. والظاهر أنه جامع للمعاني السابقة كلها.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسؤول .
محمد إسماعيل عتوك
[FONT='Arial','sans-serif'][email protected]
[/FONT]
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 35 ( الأعضاء 0 والزوار 35)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 278.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 272.70 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]