تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4413 - عددالزوار : 850999 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3944 - عددالزوار : 386988 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 225 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28455 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60077 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 848 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 08-11-2019, 03:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (201)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(87) الى الأية(93)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

قال تعالى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ (87) أي: كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع النساء المتخلفات عن الجهاد، هل معهم فقه أو عقل دلهم على ذلك؟ أم طبع الله على قلوبهم فلا تعي الخير، ولا يكون فيها إرادة لفعل ما فيه الخير والفلاح؟ فهم لا يفقهون مصالحهم، فلو فقهوا حقيقة الفقه، لم يرضوا لأنفسهم بهذه الحال التي تحطهم عن منازل الرجال.

لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) .

يقول تعالى: إذا تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد، فاللّه سيغني عنهم، وللّه عباد وخواص من خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا الأمر، وهم ( الرَّسُولُ ) محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) غير متثاقلين ولا كسلين، بل هم فرحون مستبشرون، ( وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ) الكثيرة في الدنيا والآخرة، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الذين ظفروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب.
( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فتبا لمن لم يرغب بما رغبوا فيه، وخسر دينه ودنياه وأخراه، وهذا نظير قوله تعالى قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وقوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ .

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ كَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) .

يقول تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي: جاء الذين تهاونوا، وقصروا منهم في الخروج لأجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد، غير مبالين في الاعتذار لجفائهم وعدم حيائهم، وإتيانهم بسبب ما معهم من الإيمان الضعيف.
وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم، فقعدوا وتركوا الاعتذار بالكلية، ويحتمل أن معنى قوله: (الْمُعَذِّرُون� �) أي: الذين لهم عذر، أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعذرهم، ومن عادته أن يعذر من له عذر.
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في دعواهم الإيمان، المقتضي للخروج، وعدم عملهم بذلك، ثم توعدهم بقوله: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة.
لما ذكر المعتذرين، وكانوا على قسمين، قسم معذور في الشرع، وقسم غير معذور، ذكر ذلك بقوله:
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) في أبدانهم وأبصارهم، الذين لا قوة لهم على الخروج والقتال. (وَلا عَلَى الْمَرْضَى).
< 1-348 >
وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد، من عرج، وعمى، وحمى، وذات الجنب، والفالج، وغير ذلك.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ) أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله، بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد.
(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من سبيل يكون عليهم فيه تبعة، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد- أسقطوا توجه اللوم عليهم، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه، سقط عنه ما لا يقدر عليه.
ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي: أن من أحسن على غيره، في [نفسه] أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن مغفرته ورحمته، عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) فلم يصادفوا عندك شيئا (قُلْتَ) لهم معتذرا: (لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم، وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ما ذكره اللّه عنهم.
فهؤلاء لا حرج عليهم، وإذا سقط الحرج عنهم، عاد الأمر إلى أصله، وهو أن من نوى الخير، واقترن بنيته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدر عليه، ثم لم يقدر، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) يتوجه واللوم يتناول الذين يستأذنوك وهم أغنياء قادرون على الخروج لا عذر لهم، فهؤلاء (رَضُوا) لأنفسهم ومن دينهم (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) كالنساء والأطفال ونحوهم.
(و) إنما رضوا بهذه الحال لأن اللّه طبع على قلوبهم أي: ختم عليها، فلا يدخلها خير، ولا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية، (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) عقوبة لهم، على ما اقترفوا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 08-11-2019, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (202)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(94) الى الأية(99)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) .

لما ذكر تخلف المنافقين الأغنياء، وأنهم لا عذر لهم، أخبر أنهم سـ ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ) من غزاتكم.
( قُلْ ) لهم ( لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) أي: لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب.
( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) وهو الصادق في قيله، فلم يبق للاعتذار فائدة، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر اللّه عنهم، ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر اللّه الذي هو أعلى مراتب الصدق.
( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) في الدنيا، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب، وأما مجرد الأقوال، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك.
( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) الذي لا تخفى عليه خافية، ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر، ويجازيكم بعدله أو بفضله، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
وأعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات: إما [أن] يقبل قوله وعذره، ظاهرا وباطنا، ويعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنب. فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين، أن عذرهم غير مقبول، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم، وإما أن يعرض عنهم، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية، وهذه الحال الثالثة هي التي أمر اللّه بها في حق المنافقين، ولهذا قال: ( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ) أي: لا توبخوهم، ولا تجلدوهم أو تقتلوهم.
( إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) أي: إنهم قذر خبثاء، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم، ( وَ ) تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.
وقوله: ( يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ) أي: ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم، غير مجرد الإعراض، بل يحبون أن ترضوا عنهم، كأنهم ما فعلوا شيئا.
( فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) أي: فلا ينبغي لكم -أيها المؤمنون- أن ترضوا عن من لم يرض اللّه عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه.
وتأمل كيف قال: ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) ولم يقل: "فإن اللّه لا يرضى عنهم" < 1-349 > ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح، وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم، فإن اللّه يتوب عليهم، ويرضى عنهم.
وأما ما داموا فاسقين، فإن اللّه لا يرضى عليهم، لوجود المانع من رضاه، وهو خروجهم عن ما رضيه اللّه لهم من الإيمان والطاعة، إلى ما يغضبه من الشرك، والنفاق، والمعاصي.
وحاصل ما ذكره اللّه أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير عذر، إذا اعتذروا للمؤمنين، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين يريدون بذلك أن تعرضوا عنهم، وترضوا وتقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم والرضا عنهم، فلا حبا ولا كرامة لهم.
وأما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس، وفي هذه الآيات، إثبات الكلام للّه تعالى في قوله: ( قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) وإثبات الأفعال الاختيارية للّه، الواقعة بمشيئته [تعالى] وقدرته في هذا، وفي قوله: ( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) أخبر أنه سيراه بعد وقوعه، وفيها إثبات الرضا للّه عن المحسنين، والغضب والسخط على الفاسقين.
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) .

يقول تعالى: ( الأعْرَابِ ) وهم سكان البادية والبراري ( أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ) من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب كثيرة: منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام، فهم أحرى ( وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي، بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله، فيحدث لهم -بسبب هذا العلم- تصورات حسنة، وإرادات للخير، الذي يعلمون، ما لا يكون في البادية.
وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية، ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، وإن كان في البادية والحاضرة، كفار ومنافقون، ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة. ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال، وأشح فيها.
فمنهم ( مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ (98) ) من الزكاة والنفقة في سبيل اللّه وغير ذلك، ( مَغْرَمًا ) أي: يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه اللّه، ولا يكاد يؤديها إلا كرها.
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ) أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون فيهم دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء.
وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، ( وَاللَّهُ سميع عليم ) يعلم نيات العباد، وما صدرت عنه الأعمال، من إخلاص وغيره.
وليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم ( مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان.
( وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ ) أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه ( و ) يجعلها وسيلة لـ ( صَلَوَاتِ الرَّسُولِ ) أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: ( أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ) تقربهم إلى اللّه، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة.
( سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ) في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه، وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الأحوال.
ومنها: فضيلة العلم، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه، لأن اللّه ذم الأعراب، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك. فإن في معرفتها يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر بها أو النهي عنها.

ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 08-11-2019, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (203)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(100) الى الأية(106)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ < 1-350 > بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) .

السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه.
( مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ .
( و ) من ( الأنْصَارِ ) ( الذين تبوءوا الدار والإيمان [من قبلهم] يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) بالاعتقادات والأقوال والأعمال، فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم، وحصل لهم نهاية المدح، وأفضل الكرامات من اللّه.
( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة، ( وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ ) الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان، والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة.
( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، ومهما أرادوه، وجدوه.
( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) الذي حصل لهم فيه، كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح، ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كل محذور.

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) .

يقول تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أيضا منافقون ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ) أي: تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا.
( لا تَعْلَمُهُمْ ) بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.
( نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) يحتمل أن التثنية على بابها، وأن عذابهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.
ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم ونكرره.

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) .

يقول تعالى: ( وَآخَرُونَ ) ممن بالمدينة ومن حولها، بل ومن سائر البلاد الإسلامية، ( اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) أي: أقروا بها، وندموا عليها، وسعوا في التوبة منها، والتطهر من أدرانها.
( خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان، المخرج عن الكفر والشرك، الذي هو شرط لكل عمل صالح، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، من التجرؤ على بعض المحرمات، والتقصير في بعض الواجبات، مع الاعتراف بذلك والرجاء، بأن يغفر اللّه لهم، فهؤلاء ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) وتوبته على عبده نوعان:
الأول: التوفيق للتوبة. والثاني: قبولها بعد وقوعها منهم.
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا .
ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل، فإنه يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فهذه الآية، دلت على أن المخلط المعترف النادم، الذي لم يتب توبة نصوحا، أنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب.
وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرا على الذنوب، فإنه يخاف عليه أشد الخوف.
قال تعالى لرسوله ومن قام مقامه، آمرا له بما يطهر المؤمنين، ويتمم إيمانهم: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) وهي الزكاة المفروضة، ( تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة.
( وَتُزَكِّيهِمْ ) أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم.
( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي: ادع لهم، أي: للمؤمنين عموما وخصوصا عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم.
( إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) أي: طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم، ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) لدعائك، سمع إجابة وقبول.
( عَلِيمٌ ) بأحوال العباد ونياتهم، فيجازي كل عامل بعمله، وعلى قدر نيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل لأمر اللّه، ويأمرهم بالصدقة، ويبعث عماله لجبايتها، فإذا أتاه أحد بصدقته دعا له وبرَّك.
ففي هذه الآية، دلالة على وجوب الزكاة، في جميع الأموال، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة، فإنها أموال < 1-351 > تنمى ويكتسب بها، فمن العدل أن يواسى منها الفقراء، بأداء ما أوجب اللّه فيها من الزكاة.
وما عدا أموال التجارة، فإن كان المال ينمى، كالحبوب، والثمار، والماشية المتخذة للنماء والدر والنسل، فإنها تجب فيها الزكاة، وإلا لم تجب فيها، لأنها إذا كانت للقنية، لم تكن بمنزلة الأموال التي يتخذها الإنسان في العادة، مالا يتمول، ويطلب منه المقاصد المالية، وإنما صرف عن المالية بالقنية ونحوها.
وفيها: أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها، لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها.
وفيها: استحباب الدعاء من الإمام أو نائبه لمن أدى زكاته بالبركة، وأن ذلك ينبغي، أن يكون جهرا، بحيث يسمعه المتصدق فيسكن إليه.
ويؤخذ من المعنى، أنه ينبغي إدخال السرور على المؤمن بالكلام اللين، والدعاء له، ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة، وسكون لقلبه. وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقة وعمل عملا صالحا بالدعاء له والثناء، ونحو ذلك.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) .

أي: أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه ( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة عبده، إذا تاب أعظم فرح يقدر.
( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) منهم أي: يقبلها، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدهم كما يربي الرجل فلوه، حتى تكون التمرة الواحدة كالجبل العظيم، فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك.
( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ ) أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه تاب عليه، ولو تكررت منه [المعصية ] مرارا. ولا يمل اللّه من التوبة على عباده، حتى يملوا هم، ويأبوا إلا النفار والشرود عن بابه، وموالاتهم عدوهم.
( الرَّحِيمُ ) الذي وسعت رحمته كل شيء، وكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويتبعون رسوله.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) .

يقول تعالى: (وَقُلْ ) لهؤلاء المنافقين: ( اعْمَلُوا ) ما ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك، سيخفى.
( فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ ) أي: لا بد أن يتبين عملكم ويتضح، ( وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر، ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه.
ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير أو شر، فإن اللّه مطلع عليكم، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة.
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) .

أي: (وَآخَرُونَ ) من المخلفين مؤخرون ( لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) ففي هذا التخويف الشديد للمتخلفين، والحث لهم على التوبة والندم.

( وَاللَّهُ عَلِيمٌ ) بأحوال العباد ونياتهم ( حَكِيمٌ ) يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، فإن اقتضت حكمته أن يغفر لهم ويتوب عليهم غفر لهم وتاب عليهم، وإن اقتضت حكمته أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة، فعل ذلك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 08-11-2019, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (204)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(107) الى الأية(111)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) .

كان أناس من المنافقين من أهل قباء اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، يريدون به المضارة والمشاقة بين المؤمنين، ويعدونه لمن يرجونه من المحاربين للّه ورسوله، يكون لهم حصنا عند الاحتياج إليه، فبين تعالى خزيهم، وأظهر سرهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) أي: مضارة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه (وَكُفْرًا) أي: قصدهم فيه الكفر، إذا قصد غيرهم الإيمان.
(وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا، (وَإِرْصَادًا) أي: إعدادا (لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي: إعانة للمحاربين للّه ورسوله، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم، وذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، كفر به، وكان متعبدا في الجاهلية، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، وكان على وعد وممالأة، هو والمنافقون. فكان مما أعدوا له مسجد الضرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يهدمه ويحرقه، فهدم وحرق، وصار بعد ذلك مزبلة.
قال تعالى بعدما بين من مقاصدهم < 1-352 > الفاسدة في ذلك المسجد (وَلَيَحْلِفُنّï؟½ ï؟½ إِنْ أَرَدْنَا) في بنائنا إياه (إِلا الْحُسْنَى) أي: الإحسان إلى الضعيف، والعاجز والضرير.
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فشهادة اللّه عليهم أصدق من حلفهم.
(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) أي: لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا. فاللّه يغنيك عنه، ولست بمضطر إليه.
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ظهر فيه الإسلام في "قباء" وهو مسجد"قباء"أسس على إخلاص الدين للّه، وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديما في هذا عريقا فيه، فهذا المسجد الفاضل (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وتتعبد، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل، وأهله فضلاء، ولهذا مدحهم اللّه بقوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الذنوب، ويتطهروا من الأوساخ، والنجاسات والأحداث.
ومن المعلوم أن من أحب شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد، مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله.
وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ) الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث.
ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ) أي: على نية صالحة وإخلاص (وَرِضْوَانٍ) بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا) أي: على طرف (جُرُفٍ هَارٍ) أي: بال، قد تداعى للانهدام، (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لما فيه مصالح دينهم ودنياهم.
(لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم، (إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه.
(حَكِيمٌ) لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد .
وفي هذه الآيات فوائد عدة:
منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.
ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.
ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها.
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.
ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.
ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه:
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) .
ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه.
ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي:
كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.
ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.
ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم.
والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) .

يخبر تعالى خبرا صدقا، ويعد وعدا حقا بمبايعة < 1-353 > عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه (اشْتَرَى) بنفسه الكريمة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) فهي المثمن والسلعة المبيعة.
(بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح، والمسرات، والحور الحسان، والمنازل الأنيقات.
وصفة العقد والمبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته وإظهار دينه فـ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فهذا العقد والمبايعة، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات.
(وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق.
(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ) أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) أي: لتفرحوا بذلك، وليبشر بعضكم بعضا، ويحث بعضكم بعضا.
(وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان.
وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رقم، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 08-11-2019, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (205)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(112) الى الأية(117)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية


التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) .

كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال: هم (التَّائِبُونَ) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات.
(الْعَابِدُونَ) أي: المتصفون بالعبودية للّه، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين.
(الْحَامِدُونَ) للّه في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار.
(السَّائِحُونَ) فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.
(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع والسجود.
(الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه.
(وَالْحَافِظُونï؟½ ï؟½ لِحُدُودِ اللَّهِ) بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لم يذكر ما يبشرهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن.
وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، وإيمانهم، قوة، وضعفا، وعملا بمقتضاه.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) .

يعني: ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به ( أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) أي: لمن كفر به، وعبد معه غيره ( وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا استغفار المستغفرين.
وأيضا فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه اللّه، ويعادوا من عاداه اللّه، والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار مناف لذلك، مناقض له، ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه ( عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) في قوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.
فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه، سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير ( تَبَرَّأَ مِنْهُ ) موافقة لربه وتأدبا معه.
( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ ) أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور، كثير الذكر والدعاء، والاستغفار والإنابة إلى ربه.
( حَلِيمٌ ) أي: ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه، من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: لأَرْجُمَنَّكَ وهو يقول له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي .
فعليكم أن تقتدوا به، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنّ َ لَكَ كما نبهكم اللّه عليها وعلى غيرها، ولهذا قال:
وَمَا كَانَ اللَّهُ < 1-354 > لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) .


يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد، في أصول الدين وفروعه.
ويحتمل أن المراد بذلك (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له، عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، وبين لكم ما به تنتفعون.
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني المتعلق بإلهيته، ويترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، وهو أعظم توليه لعباده؟".

فلهذا قال: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي: ولي يتولاكم بجلب المنافع لكم، أو (نَصِيرٍ) يدفع عنكم المضار.
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) .

يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلى الله عليه وسلم (وَالْمُهَاجِرِï؟½ ï؟½نَ وَالأنْصَارِ) فغفر لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة"تبوك" وكانت في حر شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف.
فاستعانوا اللّه تعالى، وقاموا بذلك (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي: تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم. وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، وإن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي.

وقوله (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي: قبل توبتهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة، وقبلها منهم وثبتهم عليها.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 14-11-2019, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (206)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(118) الى الأية(122)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) .

(و) كذلك لقد تاب الله (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن الخروج مع المسلمين، في تلك الغزوة، وهم: "كعب بن مالك"وصاحباه، وقصتهم مشهورة معروفة، في الصحاح والسنن.

(حَتَّى إِذَا) حزنوا حزنا عظيما، و (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي: على سعتها ورحبها (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) التي هي أحب إليهم من كل شيء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء.
(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ) أي: تيقنوا وعرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، ويلجأ إليه، إلا اللّه وحده لا شريك له، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، وتعلقوا باللّه ربهم، وفروا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها (لِيَتُوبُوا) أي: لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ) أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، (الرَّحِيمُ) وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.
وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها.
ومنها: لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.
ومنها: أن العبادة الشاقة على النفس، لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر.
ومنها: أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.
ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطع عن المخلوقين.
ومنها: أن من لطف اللّه بالثلاثة، أن وسمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: (خُلِّفُوا) إشارة إلى أن المؤمنين < 1-355 > خلفوهم، [أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم، أو في رده] وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير، ولهذا لم يقل: "تخلفوا".
ومنها: أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) .

أي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) باللّه، وبما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، وهو القيام بتقوى اللّه تعالى، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.
( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الآية.
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) .

يقول تعالى -حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين، والأنصار، ومن حولهم من الأعراب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم-: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) أي: ما ينبغي لهم ذلك، ولا يليق بأحوالهم.
(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) في بقائها وراحتها، وسكونه (عَنْ نَفْسِهِ) الكريمة الزكية، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به، أن لا يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي: المجاهدين في سبيل اللّه (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) أي: تعب ومشقة (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: مجاعة.
(وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ) من الخوض لديارهم، والاستيلاء على أوطانهم، (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا) كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال (إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم.
ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا) في ذهابهم إلى عدوهم (إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ومن ذلك هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) .

يقول تعالى: -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) أي: من البلدان، والقبائل، والأفخاذ (طَائِفَةٌ) تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى.
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: (لِيَتَفَقَّهُو� �) أي: القاعدون (فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علما، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته وأجره، الذي ينمى له.
وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما.

وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 14-11-2019, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (207)
تفسير السعدى
سورة التوبة
من الأية(123) الى الأية(129)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة براءة
وهي مدنية

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ < 1-356 > غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) .

وهذا أيضا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدأون بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي: وليكن لديكم علم أن المعونة من اللّه تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى اللّه، يعنكم وينصركم على عدوكم.
وهذا العموم في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا.
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) .

يقول تعالى: مبينا حال المنافقين، وحال المؤمنين عند نزول القرآن، وتفاوت ما بين الفريقين، فقال: (وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ) فيها الأمر، والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث على الجهاد.
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) أي: حصل الاستفهام، لمن حصل له الإيمان بها من الطائفتين.
قال تعالى -مبينا الحال الواقعة-: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) بالعلم بها، وفهمها، واعتقادها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، والانكفاف عن فعل الشر.
(وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي: يبشر بعضهم بعضا بما من اللّه عليهم من آياته، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال على انشراح صدورهم لآيات اللّه، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم لما تحثهم عليه.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي: شك ونفاق (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أي: مرضا إلى مرضهم، وشكا إلى شكهم، من حيث إنهم كفروا بها، وعاندوها وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضهم، وترامى بهم إلى الهلاك (وَ) الطبع على قلوبهم، حتى (مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).
وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
قال تعالى -موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق-: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم.
(ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عما هم عليه من الشر (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيتركونه.
فالله تعالى يبتليهم -كما هي سنته في سائر الأمم- بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا إليه، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن، أن يتفقد إيمانه ويتعاهده، فيجدده وينميه، ليكون دائما في صعود.

وقوله : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) .

يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، إذا نزلت سورة ليؤمنوا بها، ويعملوا بمضمونها ( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ) جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ويقولون: ( هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ) متسللين، وانقلبوا معرضين، فجازاهم اللّه بعقوبة من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل ( صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أي: صدها عن الحق وخذلها.
( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) فقها ينفعهم، فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا نزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها.

والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره، من شرائع الإيمان، كما قال تعالى عنهم: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .

يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.
< 1-357 >
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. (بِالْمُؤْمِنِيï؟½ ï؟½َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.
ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره (فَإِنْ) آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن (تَوَلَّوا) عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل (حَسْبِيَ اللَّهُ) أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني، (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: لا معبود بحق سواه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.

تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 14-11-2019, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (208)
تفسير السعدى
سورة يونس
من الأية(1) الى الأية(6)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يونس

مكية


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) .

يقول تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) وهو هذا القرآن، المشتمل على الحكمة والأحكام، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد.
ومع هذا فأعرض أكثرهم، فهم لا يعلمون، فتعجبوا ( أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ) عذاب الله، وخوفهم نقم الله، وذكرهم بآيات الله.
( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) إيمانا صادقا ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: لهم جزاء موفور وثواب مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة.
فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به، فـ ( قَالَ الْكَافِرُونَ ) عنه: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) أي: بين السحر، لا يخفى بزعمهم على أحد، وهذا من سفههم وعنادهم، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم.
كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم، الذي بعثه الله من أنفسهم، يعرفونه حق المعرفة، فردوا دعوته، وحرصوا على إبطال دينه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) .

يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.
ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.
( ثُمَّ ) بعد خلق السماوات والأرض ( اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) استواء يليق بعظمته.
( يُدَبِّرُ الأمْرَ ) في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه.
( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.
( ذَلِكُمْ ) الذي هذا شأنه ( اللَّهُ رَبُّكُمْ ) أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.
( فَاعْبُدُوهُ ) أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية، ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.
( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُّمَ يُعِيدُهُ ) فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. ثم ذكر الدليل النقلي فقال: ( وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ) أي: وعده صادق لا بد من إتمامه ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.
( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات، ( بِالْقِسْطِ ) أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) بآيات الله وكذبوا رسل الله.
( لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ ) أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. ( وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ) من سائر أصناف العذاب ( بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) .

لما قرر ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله، في أسمائه وصفاته، من الشمس والقمر، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات، وأخبر أنها آيات ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) و ( لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ).
فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها، وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.
وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة، دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن، دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.
وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.
وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 14-11-2019, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (209)
تفسير السعدى
سورة يونس
من الأية(7) الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يونس

مكية

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) .

يقول تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به ( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) بدلا عن الآخرة.
( وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.
فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.
( وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود.
( أُولَئِكَ ) الذين هذا وصفهم ( مَأْوَاهُمُ النَّارُ ) أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها.
( بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) من الكفر والشرك وأنواع المعاصي، فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) .

يقول تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) الجارية على الدوام ( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
( و ) أما ( تَحِيَّتُهُمْ ) فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه ( سَلامٌ ) وقد قيل في تفسير قوله ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ) إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال.
فإذا فرغوا قالوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) .

وهذا من لطفه وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) أي: لمحقتهم العقوبة، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم، ويعفو عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
ويدخل في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم.
وقوله: ( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أي: لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله، ( فِي طُغْيَانِهِمْ ) أي: باطلهم، الذي جاوزوا به الحق والحد.
( يَعْمَهُونَ ) يترددون حائرين، لا يهتدون السبيل، ولا يوفقون لأقوم دليل، وذلك عقوبة لهم على ظلمهم، وكفرهم بآيات الله.

وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) .

وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.
( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ) أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!! يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.
( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ) أي: المتجاوزين للحد ( مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) .

يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سنته في جميع الأمم.
( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ ) أيها المخاطبون ( خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله وصدقتم رسله، نجوتم في الدنيا والآخرة.
وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم، أحل بكم ما أحل بهم، ومن أنذر فقد أعذر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 14-11-2019, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (210)
تفسير السعدى
سورة يونس
من الأية(15) الى الأية(20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يونس

مكية


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) .

يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فقبحهم الله، ما أجرأهم على الله، وأشدهم ظلما وردا لآياته.
فإذا كان الرسول العظيم يأمره الله، أن يقول لهم: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي) أي: ما ينبغي ولا يليق (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) فإني رسول محض، ليس لي من الأمر شيء، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى < 1-360 > إِلَيَّ) أي: ليس لي غير ذلك، فإني عبد مأمور، (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فهذا قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه، فكيف بهؤلاء السفهاء الضالين، الذين جمعوا بين الجهل والضلال، والظلم والعناد، والتعنت والتعجيز لرب العالمين، أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟!!.

فإن زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق بالآيات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك، فإن الله قد بين من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهو الذي يصرفها كيف يشاء، تابعا لحكمته الربانية، ورحمته بعباده.
(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا) طويلا (مِنْ قَبْلِهِ) أي: قبل تلاوته، وقبل درايتكم به، وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أني حيث لم أتقوله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل على ذلك، فكيف أتقوله بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي، بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد؟!!
فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء، وأعيا العلماء، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟
فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا شك أنكم ظالمون.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) ؟!!
فلو كنت متقولا لكنت أظلم الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي، ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم بها، فتعين فيكم الظلم، ولا بد أن أمركم سيضمحل، ولن تنالوا الفلاح، ما دمتم كذلك.
ودل قوله: (قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) الآية، أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم بلقاء الله وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن به، لأنه حسن القصد.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) .

يقول تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ ) أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
( مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.
( وَيَقُولُونَ ) قولا خاليا من البرهان: ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-: ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ ) أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه: ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ (20) .

أي: ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً ) متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، وصار هذا فارقا بينهم ( فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب.
< 1-361 >
( وَيَقُولُونَ ) أي: المكذبون المتعنتون، ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يعنون: آيات الاقتراح التي يعينونها كقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا الآيات.
وكقولهم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا الآيات.
( فَقُلْ ) لهم إذا طلبوا منك آية ( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) أي: هو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل، ولا غاية ولا تعليل.
( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ ) أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 278.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 272.03 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.19%)]