الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انت أخي في الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الفساد الأخلاقي ...عند غياب الرقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          كن نبيهاً ذكياً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          آية الإسراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مستقبل اليهود كما تحدده سورة الأعراف والإسراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          طاهر بن الحسين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إسلام حمزة رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          تاريخ المسلمين في القرم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مصنع الحياة - الزواج الطريق القويم للمتعة الحلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أبناؤكم يبثون همومهم إليكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-11-2021, 07:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (69)
صـ328 إلى صـ 337

المسألة الخامسة

العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية ; فإما على المقاصد الأصلية ، أو المقاصد التابعة ، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع ، فلنضع في كل قسم مسألة ، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل ; فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا ، فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ ، لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع ; إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وهذا كاف هنا .

وينبني عليه قواعد وفقه كثير :

من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة ، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية .

وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه ، على قولنا : إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به ; إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد ، وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي ; فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن كاف في [ ص: 329 ] حصول كل غرض ، في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع ، فالعامل على وفقه ملبيا له ; برئ من الحظ ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة ، بل هو المقدم شرعا على الغير .

فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر ، أو اعتبارا بعلة الأمر ، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها ، كان هو المقدم شرعا : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض ، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها ، أو بحياة من تحت نظره ، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله ، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر ; لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة ، وتقع نفقته حيث لم يقصد ، ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره فإنه لم يكل التدبير إلى ربه ، وأما الثاني ; فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير ، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره ، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ، ولا يفوته من [ ص: 330 ] حظه شيء .

بخلاف مراعاة المقاصد التابعة ; فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه ; لأنه إنما يراعي مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك ، وهذا وإن كان جائزا ; فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي ، وهو منجر معه ، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا ; فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم ، فإذا لم يراع ; لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة ، هذا وجه .

ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك ، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه ، وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده ; فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء .

[ ص: 331 ] وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر ; فهو عامل بمحض العبودية ، مسقط لحظه فيها ; فكأن السيد هو القائم له بحظه ، بخلاف العامل لحظه ; فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ، ولا من حيث فهم مقصود الأمر ، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ ; فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه ، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه ، والتعبد بذلك العمل منتف ، وإن لم يمتثل الأمر ; فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد ، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه ، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين ، إذا غلب عليه طلب حظه ، وذلك نقص .

ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا ، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب ، بل يطلب حظه بما هو أخف ، وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى ، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف ، وقد قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] .

فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد ، بخلاف طالب الحظ ; فإنه [ ص: 332 ] عامل بنفسه ، وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه ، فالأول محمول ، والثاني عامل بنفسه ، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق ، فإن رأيت من يدعي تلك الحال ; فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام ، فإن أوفى به ; فهو ذاك ، وإلا ; علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى ، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول ; فذلك أثر من آثار الإخلاص ، وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه ، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول ، وثبت له الإخلاص ، وصارت أعماله عبادات .

فإن قيل : فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، بل قد جاء عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الطيب ، والنساء ، والحلواء والعسل ، وكان تعجبه الذراع ، ويستعذب له الماء ، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس ; إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال ، بل كان يستعمله إذا وجده ، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، وهو أتقى الخلق وأزكاهم ، وكان خلقه القرآن ، فهذا في هذا الطرف .

ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ، ومع ذلك فليس له في الآخرة من [ ص: 333 ] خلاق ، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله ، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة ; حتى صار في الناس آية ، وكل ما يعمله مبني على باطل محض ، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين .

فالجواب من وجهين :

أحدهما :

أن ما زعمت ظواهر ، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة ; فانظر ما قاله الإسكاف في " فوائد الأخبار " في قوله عليه الصلاة والسلام : حبب إلي من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة ، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان ، وهكذا يمكن أن يقال في سواها .

وأيضا ; فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك ، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال ; فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ ، دون أن يتناوله من حيث الإذن ؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته .

وأما الكلام عن الرهبان ، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ ، بل هي عين الحظ ، واستهلاك في هوى النفس ; لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه ، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه ; لأن حظ النفس في الجاه أعلى ، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك ، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم ; فإنها أعلى ، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ [ ص: 334 ] التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها ، وذلك أول منهي في مسألتنا ; فلا كلام فيمن هذا شأنه ، ولذلك قالوا : " حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين " ، وصدقوا .

والثاني : أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ ، وقد لا يكون كذلك ، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أو لا ، فإن كان أمر الشارع ، فهو الحظ المبرأ المنزه ; لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره ، فكما يكون في مصالح غيره مبرء عن الحظ ، كذلك يكون في مصالح نفسه ، وذلك بمقتضى القصد الأول ، وهذا شأن من ذكر في السؤال ، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد ; لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه ; فله حكمه ، فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول ; فإنه سعي في الحظ ، وليس ما نحن فيه هكذا .

وأما شأن الرهبان ومن أشبههم ; فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع ; فينقطعون في الصوامع والديارات ، ويتركون الشهوات واللذات ، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ ، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه ، وما يظنون أنه سبب إليه ، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ، ولا أقول : " إنهم غير مخلصين ، بل هم مخلصون إلى من عبدوا ، ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا ، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم ، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة ; لأنهم بنوا على غير أصل : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ الغاشية : 2 - 4 ] ، والعياذ بالله " .

[ ص: 335 ] ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة ، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة : دعه ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم الحديث ; فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره ، لكنه مبني على غير أصل ، فلذلك قال فيهم : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير .

[ ص: 336 ] [ ص: 337 ] وعلى الجملة ; فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه مع اطراح الحظوظ ; لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله ، وإن كان على أصل فاسد فبالضد ، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة ; فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان .

فإذا ; قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص ، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ، ولا أنفيه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-11-2021, 07:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (70)
صـ338 إلى صـ 343

فصل

ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات ، كانت من قبيل العبادات أو العادات ; لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا ، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم ، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ، ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب .

أما باليد ; فظاهر في وجوه الإعانات .

[ ص: 338 ] وأما باللسان ; فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين ، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم .

وبالقلب لا يضمر لهم شرا ، بل يعتقد لهم الخير ، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم ، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد .

بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها ، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : في كل ذي كبد رطبة أجر ، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها ، وحديث : إن الله كتب الإحسان على كل مسلم ، فإذا قتلتم ; [ ص: 339 ] فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك .

فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه ، واقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام ; فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها ؟ بخلاف من كان عاملا على حظه ; فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه ، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق ، بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه ، والمباح لا يتعبد إلى الله به ، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع ; فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة ، وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة .
فصل

ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب ; إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب ، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق ، وإذا كانت كذلك ; صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة ، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل ، وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله ; فقد صار عاملا بالوجوب .

[ ص: 340 ] فأما البناء على المقاصد التابعة ; فهو بناء على الحظ الجزئي ، والجزئي لا يستلزم الوجوب ، فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب ; فقد يكون العمل مباحا ; إما بالجزء ، وإما بالكل والجزء معا ، وإما مباحا بالجزء مكروها ، أو ممنوعا بالكل ، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام .
فصل

ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة ; فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع ; إما بعد فهم ما قصد ، وإما لمجرد امتثال الأمر ، وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع ، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها ، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ ; كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا ، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع ; فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة .

وأما القصد التابع ; فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه ، وخص عمومه ; فلا ينهض نهوض الأول .

شاهده قاعدة " الأعمال بالنيات " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : الخيل لرجل أجر ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر ; فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من [ ص: 341 ] المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حسنات ; فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول ; لأنه قصد بارتباطها سبيل الله ، وهذا عام غير خاص ، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ; فهي له ستر ، فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه ; كان حكمها مقصورا على ما قصد ، وهو الستر ، وهو صاحب القصد التابع ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ; فهي على ذلك وزر ; فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ، ولا كلام فيه هنا .

[ ص: 342 ] ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بالصحابة أو التابعين ، لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء ، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به ; كما في قول بعض الصحابة في إحرامه : " بما أحرم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال .
فصل

ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم ، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم .

أما الأول ; فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [ العام ] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق ; لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر ، وإذا فعل [ ذلك ] جوزي على كل نفس أحياها ، وعلى كل مصلحة عامة قصدها ، ولا شك في عظم هذا العمل ، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا ، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه ، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده ; لأن الأعمال بالنيات ، فمتى كان قصده أعم ; كان أجره أعظم ، ومتى لم يعم قصده ; لم يكن [ ص: 343 ] أجره إلا على وزان ذلك ، وهو ظاهر .

وأما الثاني ; فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام ، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام ، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر ; فالعامل على ضده يعظم به وزره ، ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة ; لأنه أول من سن القتل ، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ، و من سن سنة سيئة ; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها .
فصل

ومن هنا تظهر قاعدة أخرى ، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية ، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها ، ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا ; فإنك تجده مطردا إن شاء الله .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-12-2021, 04:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (72)
صـ361 إلى صـ 373


فصل

وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا ; فهو قسمان :

قسم يرجع إلى صلاح الهيئة ، وحسن الظن عند الناس ، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله .

وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا ، وهذا ضربان :

أحدهما : يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل .

والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك ; فهذه ثلاثة أقسام .

[ ص: 361 ] أحدها : يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة .

فإن كان هذا القصد متبوعا ; فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير ، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله ، وهذا بين .

وإن كان تابعا ; فهو محل نظر واجتهاد ، واختلف العلماء في هذا الأصل ; فوقع في العتبية في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ، ويحب أن يلقى في طريق المسجد ، ويكره أن يلقى في طريق غيره ; فكره ربيعة هذا ، وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان ; أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير ; فيقول له : إنك لمراء وليس كذلك ، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك ، وقد قال تعالى : وألقيت عليك محبة مني [ طه : 39 ] .

وقال عن إبراهيم عليه السلام : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] . وفي حديث ابن عمر : وقع في نفسي أنها النخلة ، فأردت أن أقولها ، فقال عمر : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا .

وطلب العلم عبادة ، قال ابن العربي : سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا [ البقرة : 160 ] [ ص: 362 ] ما بينوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات . قلت : ويلزم ذلك ؟ قال : نعم ; لتثبت أمانته ، وتصح إمامته ، وتقبل شهادته " .

قال ابن العربي : ويقتدي به غيره ; فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة .

والثاني : ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه ، مع الغفلة عن مراءاة الغير ، وله أمثلة :

أحدها : الصلاة في المسجد للأنس بالجيران ، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال .

والثاني : الصوم توفيرا للمال ، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه ، أو احتماء لألم يجده ، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له .

والثالث : الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس .

والرابع : الحج لرؤية البلاد ، والاستراحة من الأنكاد ، أو للتجارة ، أو لتبرمه بأهله وولده ، أو إلحاح الفقر .

[ ص: 363 ] والخامس : الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال .

والسادس : تعلم العلم ليحتمي به عن الظلم .

والسابع : الوضوء تبردا .

والثامن : الاعتكاف فرارا من الكراء .

والتاسع : عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك .

والعاشر : تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث .

والحادي عشر : الحج ماشيا ليتوفر له الكراء .

وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة ، وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص ، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض ، وأماابن العربي ، فذهب إلى خلاف ذلك ، وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ; فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات ، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا ، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، والخلاف فيها واقع ، ورأي أصبغ فيها البطلان ، فإذا كان كذلك ; اتجه [ ص: 364 ] النظران ، وظهر مغزى المذهبين .

على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه ; لما جاء [ ص: 365 ] [ ص: 366 ] من الأدلة على ذلك ; ففي القرآن الكريم : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] ، يعني في مواسم الحج .

وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة : إنه دأب المرسلين ; فقد قال الخليل عليه السلام : إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ الصافات : 99 ] ، وقال الكليم : ففررت منكم لما خفتكم [ الشعراء : 21 ] ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت قرة عينه في الصلاة ; فكان يستريح إليها [ ص: 367 ] من تعب الدنيا ، وكان فيها نعيمه ولذته ، أفيقال : إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها ؟ كلا ، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها .

وفي الصحيح : يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج ; فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ; فعليه بالصوم فإنه له وجاء .

ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد ; قال : حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه ، على ما لم يكن يعهد من نفسه ، وسأله عن الدواء ، فقال : اسرد الصوم تصلح معدتك . فقال له : يا أبا عبد الله ! على غير هذا دلني ، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا ، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها . قال أبو علي : وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام - يعني : هذا الحديث - وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس ، وأحسبني ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس ; فسلم للحديث .

[ ص: 368 ] وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب ، فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد .

[ ص: 369 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة ; كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث ، وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره ، وكالتخفيف لأجل [ ص: 370 ] الشيخ والضعيف وذي الحاجة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إني لأسمع بكاء [ ص: 371 ] الصبي " الحديث .

وكرد السلام في الصلاة ، وحكاية المؤذن ، وما أشبه ذلك مما هو [ ص: 372 ] عمل خارج عن حقيقة الصلاة ، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ، ومع ذلك ; فلا يقدح في حقيقة إخلاصها .

بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواه ; لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى ، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه ، وانتظار الصلاة ، والكف عن إذاية الناس ، واستغفار الملائكة له ، فإن كل قصد منها شاب غيره ، وأخرجه عن إخلاصه عن غيره ، وهذا غير صحيح باتفاق ، بل كل قصد منها صحيح في نفسه ، وإن كان العمل واحدا ; لأن الجميع محمود شرعا ، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه ، لاشتراكهما في الإذن الشرعي ، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها ، كالحديث ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، والرياء ، وما أشبه ذلك ، أما ما لا منافاة فيه ، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة ؟ هذا لا ينبغي أن يقال ، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان [ ص: 373 ] الحكم للغالب ، فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد .

والثالث : ما يرجع إلى المراءات ، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه ، فهو الرياء المذموم شرعا ، وأدهى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا ، وحكمه معلوم ; فلا فائدة في الإطالة فيه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19-12-2021, 04:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (73)
صـ374 إلى صـ 379

فصل

وأما الثاني ; وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد ، كالنكاح ، والبيع ، والإجارة ، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة ; فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهي ، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له ، وإذا علم ذلك بإطلاق ; فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع ; فكان حقا وصحيحا ، هذا وجه .

[ ص: 374 ] ووجه ثان : أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحا في التماسه وطلبه ; لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال ، وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية ، وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه ، أو ليعد من أهل العفاف ، أو لغير ذلك لصح تزوجه من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث تزوج ، فيقدح فيها الرياء والسمعة ، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا .

ووجه ثالث : أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا ، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة ، كقوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .

وقال : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ يونس : 67 ] .

وقال : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] .

وقال : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ القصص : 73 ] .

وقال : وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا [ النبأ : 10 - 11 ] .

إلى آخر الآيات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .

وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان ; لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات ، وقطع للأهواء ; كالصلاة ، [ ص: 375 ] والصيام ، والحج ، والجهاد ، إلا ما نحا نحو قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] ، بعد قوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ البقرة : 216 ] ، بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضى به الأوطار ، وتفتح به أبواب التمتع ، واللذات النفسانية ، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ، ودفع المضرات ، وأضراب ذلك ; فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب ، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها ، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية ، ولا نقصا من حق الربوبية ، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذي امتن بها ، وذلك صحيح .

فإن قيل : فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا ; إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به ، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق ; لما تقدم .

فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية ; لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا ، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ ; لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل ، ثم أتبعه آثارا حسنة ; من التمتع باللذات ، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة ، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع ، فكان قصد هذا القاصد بريئا من الحظ ، وقد انجر [ ص: 376 ] في قصده الحظ ; فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع ; فلا مخالفة للشارع من جهة القصد ، بل له موافقتان : موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول ، وهو التمتع ، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب ، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف .

وأيضا ; ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل ، فهو بامتثال الأمر ملب للشارع في هذا القصد ، بخلاف طلب الحظ فقط ; فليس له هذه المزية .

فإن قيل : فطالب الحظ في هذا الوجه ملوم ; إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة .

فالجواب أنه لم يهمله مطلقا ; فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع ، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي .

وأيضا ; فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد ، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد ; كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها ، لكن لا يستوي القصدان : قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن ، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن ; فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم [ ص: 377 ] غير قادح في العمل .

فإن قيل : فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال ، وإنما طلب حظه مجردا ، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به ، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع ; فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا ؟

فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا ; لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع ; فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه ، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن ، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل ، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع ، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [ لو ] يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه ، فليس من الحق في شيء ، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر .

فإن قيل : أما كونه عاملا على قصد المخالفة ; فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق ، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق ; فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي ، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق ، وإذا وافق أمر الشرع جهلا ، فسيأتي أن يصح عمله على الجملة ، فلا يكون عمله بالهوى أيضا وإلى هذا ، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول : إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر آنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا .

فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة ; فلا يستلزم أن يكون موافقا له ، بل الحالات ثلاث :

[ ص: 378 ] حال يكون فيها قاصدا للموافقة ; فلا يخلو أن يصيب بإطلاق ; كالعالم يعمل على وفق ما علم ; فلا إشكال أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب ، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل ، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا ، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه لم يقصد مخالفة ، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل ، فيؤاخذ في الطريق ، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا ، ويمضي عمله إن كان موافقا .

وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف [ فإنه لا اعتبار بموافقته كما ] لا اعتبار بما يخالف فيه ; لأنه مخالف القصد بإطلاق ، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف ; لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته ، كمن عقد [ ص: 379 ] عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا ، أو شرب جلابا يظنه خمرا ; إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم .

وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة ; فهو العمل علي مجرد الحظ أو الغفلة ; كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل ، أو يدري ولكنه إنما قصد مجرد العاجلة ، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع ، وحكمه في العبادات عدم الصحة ; لعدم نية الامتثال ، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل ، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع ، وإلا ; فعدم الصحة .

وفي هذا الموضع نظر إذ يقال : إن المقصد هنا لما انتفى ; فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور ; كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال ، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا ، وإن وافقت المصلحة ، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها ، على تفصيل أصله هذا النظر ، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض ، فهو بهذا القصد مخالف للشارع ، وقد يقال : القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه ، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع ; فصح .
فصل

حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع ; فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء ، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام ; فكل ما خالف قصد الشارع ; فهو باطل على الإطلاق ، لكن بالتفسير المتقدم ، والله أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19-12-2021, 04:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (74)
صـ380 إلى صـ 386

المسألة السابعة

المطلوب الشرعي ضربان :

أحدهما : ما كان من قبيل العاديات الجارية بين الخلق ، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية ، التي هي طرق الحظوظ العاجلة ; كالعقود على اختلافها ، والتصاريف المالية على تنوعها .

والثاني : ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف ، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود .

فأما الأول ; فالنيابة فيه صحيحة ، فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه فيما لا يختص به منها ; فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه ، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه ; لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه ; كالبيع والشراء ، والأخذ والإعطاء ، والإجارة والاستئجارة ، والخدمة ، والقبض ، والدفع ، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا ; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، وغير ذلك مما جرت به العادات ، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا ، فإن مثل هذا مفروغ من النظر فيه ، لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره ، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار ; لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال ; فإن النيابة فيه تصح ، فإن كان دائرا بين الأمر المالي [ ص: 381 ] وغيره ; فهو مجال نظر واجتهاد ، كالحج والكفارات ; فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد ; فلا تصح النيابة فيه ، أو المال ; فتصح ، والكفارة بناء على أنها زجر فتختص ، أو جبر فلا تختص ، وكالتضحية في الذبح بناء على ما بني عليه في الحج ، وما أشبه هذه الأشياء .

فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف ; فلا نيابة ، وإلا صحت النيابة ، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة دليل لوضوح الأمر فيه .

وأما الثاني ; فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد ، ولا يغني فيها عن المكلف غيره ، وعمل العامل لا يجتزى به غيره ، ولا ينتقل بالقصد إليه ، ولا يثبت إن وهب ، ولا يحمل إن تحمل ، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا .

فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور :

أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] .

[ ص: 382 ] وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] .

وفي القرآن : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] في مواضع .

وفي بعضها : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ فاطر : 18 ] .

ثم قال : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه [ فاطر : 18 ] .

وقال تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [ العنكبوت : 12 ] .

وقال : وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ القصص : 55 ] .

وقال تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء [ الأنعام : 52 ] الآية .

وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا ، كقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا [ الانفطار : 19 ] ; فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها .

وقال : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا [ لقمان : 33 ] .

وقال : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [ البقرة : 48 ] الآية .

[ ص: 383 ] إلى كثير من هذا المعنى .

وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين : يا بني فلان ! إني لا أملك لكم من الله شيئا .

والثاني : المعنى ، وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله ، والتوجه إليه ، والتذلل بين يديه ، والانقياد تحت حكمه ، وعمارة القلب بذكره ; حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ، ومراقبا له غير غافل عنه ، وأن يكون ساعيا في مرضاته ، وما يقرب إليه على حسب طاقته ، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده ; لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها ، إذا ناب عنه غيره في ذلك ، وإذا قام غيره في ذلك مقامه ; فذلك الغير هو الخاضع المتوجه ، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية ، والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره ، والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب ، حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب ، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات ; فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المدان صار المدان متصفا بأنه مؤد لدينه ; فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به ، وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب ، ولا نيابة إذ ذاك على حال .

والثالث : أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال [ ص: 384 ] القلبية ; كالإيمان وغيره من الصبر والشكر ، والرضى والتوكل ، والخوف والرجاء ، وما أشبه ذلك ، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة ; فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة ، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات ; كالأكل ، والشرب ، والوقاع ، واللباس ، وما أشبه ذلك ، وفي الحدود والقصاص ، والتعزيرات ، وأشباهها من أنواع الزجر ، وكل ذلك باطل بلا خلاف ; من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة ; فكذلك سائر التعبدات .

وما تقدم من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص ; لأنها محكمات نزلت بمكة احتجاجا على الكفار ، وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا ، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا [ ص: 385 ] المعنى ; لم يكن فيها رد عليهم ، ولما قامت عليهم بها حجة ، أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي ; فظاهر ، وأما على قول غيرهم ; فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره ، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة ; فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية ، ولا ينصرف عنها .

فإن قيل : كيف هذا ؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير ، وعلى ما لم يعمل أشياء :

أحدها : الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم ، وهي جملة منها أن الميت يعذب ببكاء الحي عليه .

وأن من سن سنة حسنة أو سيئة ; كان له أجرها أو عليه وزرها .

[ ص: 386 ] وأن " الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث " .

وأنه ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها .

وفي القرآن : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ الطور : 21 ] .

وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم .

وفي الحديث : إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ; أفأحج عنه ؟ قال : نعم .

وفي رواية : أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان يجزئه ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 19-12-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله




الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (75)
صـ387 إلى صـ 400

ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه .

وقيل : يا رسول الله ! إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه . قال : فاقضه عنها .

وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء ، وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل ، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى ; فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها ، وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم ; فلا تكون صحيحة .

والثاني : أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها ، وهي قاعدة الصدقة عن الغير ، وهى عبادة ; لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره ، فإذا تصدق الرجل عن الرجل ; أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع [ ص: 388 ] به ، ولا سيما إن كان ميتا ، فهذه عبادة حصلت فيها النيابة ، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضا كالزكاة ; فإن إخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير ، والزكاة أخية الصلاة .

والثالث : أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها ، وهى تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ ; فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو ، وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه ، ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام ، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه ، وكذلك الدعاء للغير ; فإن حقيقته خضوع لله وتوجه إليه ، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة ، وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما ، وقد استغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبويه حتى نزل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [ التوبة : 113 ] .

[ ص: 389 ] [ ص: 390 ] وقال في ابن أبي : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " حتى نزل : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [ التوبة : 80 ] ، ونزل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] الآية .

وإن كان قد نهي عنه ; فلم ينه عن الاستغفار لمن كان حيا منهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر لقومي ; فإنهم لا يعلمون .

وعلى الجملة ; فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة .

والرابع : إن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات صحيحة ، وكذلك [ ص: 391 ] بعض العبادات البدنية ، وإن كانت واجبة على الإنسان عينا ، وكذلك المالية ، وأولها الجهاد ; فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل ، إذا أذن الإمام ، والجهاد عبادة ، فإذا جازت النيابة في مثل هذا ; فلتجز في باقي الأعمال المشروعة لأن الجميع مشروع .

والخامس : إن مآل الأعمال التكليفية أن يجازى عليها ، وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل ، خيرا كان الجزاء أو شرا ، وهو أصل متفق عليه في الجملة ، وذلك ضربان :

أحدهما : المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه ; فإنه إن كانت باكتساب كفر بها من سيئاته ، وأخذ بها من أجر غيره ، وحمل غيره وزره ، و [ لو ] لم يعمل بذلك ، فضلا عن أن يجد ألمه ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في المفلس يوم القيامة ، وإن كانت بغير اكتساب ، فهي كفارات فقط ، أو كفارات وأجور ، وكما جاء فيمن " غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه [ ص: 392 ] إنسان أو حيوان أنه له أجر " ، وفيمن ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة ، أو شرب في نهر ، أو استن شرفا أو شرفين ، ولم يرد أن يكون ذلك ; فهي له حسنات " ، وسائر ما جاء في هذا المعنى .

والضرب الثاني : النيات التي تتجاوز الأعمال كما جاء : " إن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عن عذر " .

[ ص: 393 ] وكذلك سائر الأعمال ; حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمني أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان : " فهما في الأجر سواء " ، وفي الآخر : " فهما في الوزر سواء " .

[ ص: 394 ] وحديث : من هم بحسنة فلم يعملها ; كتبت له حسنة .

والمسلمان يلتقيان بسيفيهما الحديث .

إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر ، فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره ; فأولى أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل .

[ ص: 395 ] فالجواب : أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة النيابة ; فإن للنظر فيها متسعا .

أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة ; فليست من هذا الباب ; فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه ، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية ، ولا كلام فيها .

وأما قاعدة الدعاء ; فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة لأنه شفاعة للغير ; فليس من هذا الباب .

وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية ; فإنها مصالح معقولة المعنى لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية ، بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه ; فله أجر ذلك ، فإن العبادة منه صدرت لا من النائب ، والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال ، والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات ، فهي في الحقيقة معقولة المعنى ، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح الدنيا ، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى ، وإعلاء كلمة الله ، فإن قصد الدنيا ، فذلك حظه مع أن المصلحة الجهادية قائمة ; كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد شعبة منها ، على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد بالجعل ; لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا ، ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل ; لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا ; فهذا الأصل لا اعتراض به أيضا .

وأما قاعدة المصائب النازلة ; فليست من باب النيابة في التعبد ، وإنما [ ص: 396 ] الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك ، وكون حسنات الظالم تعطى المظلوم ، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم ; فمن باب الغرامات ; فهي معاوضات ; لأن الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار ; إذ لا دينار هناك ولا درهم ، وقد فات القضاء في الدنيا .

ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال ، ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه .

ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلى الجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة ; إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى ، مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر ، ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى ، كما أنه لو تمنى أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر ; كان له وزر من عمل ، ولا يعد في الدنيا كمن عمل ، حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة ; فليست من النيابة في شيء ، وإن فرضت النيابة ; فالنائب هو المكتسب ، فعمله عليه أو له ، فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل .

ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال ; فإنه عمدة من خالف في المسألة .

[ ص: 397 ] فحديث تعذيب الميت ببكاء الحي ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض - إذا ظن الموت - أهله على البكاء عليه ، وأما " من سن سنة . . . " ، وحديث ابن آدم الأول ، وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث ، وما أشبه ذلك ، فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور ; لأنه الذي تسبب فيه أولا ، فعلى جريان سببه تجري المسببات ، والكفل الراجع إلى المتسبب [ الأول ] ناشئ عن عمله ، لا عن عمل المتسبب الثاني ، وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم [ الطور : 21 ] الآية ; لأن ولده كسب من كسبه ، فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب ، وبذلك فسر قوله تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ المسد : 2 ] أن ولده من كسبه ; فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به ، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة ، وذلك قوله تعالى : وما ألتناهم من عملهم من شيء [ الطور : 21 ] .

وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث ; فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها ، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة - وذلك الصيام والحج - ، وأما النذر ; فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام .

والذي يجاب به فيها أمور :

أحدها : أن الأحاديث فيها مضطربة ، نبه البخاري ومسلم على [ ص: 398 ] اضطرابها ; فانظره في الإكمال ، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا ; فكيف إذا عارضته ؟

وأيضا ; فإن الطحاوي قال في حديث من مات وعليه صوم صام عنه وليه : إنه لم يرو إلا من طريق عائشة ، وقد تركته فلم تعمل به وأفتت بخلافه ، وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر : إنه لا يرويه إلا ابن عباس ، وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد .

والثاني : أن الناس على أقوال في هذه الأحاديث : منهم من قبل ما صح منها بإطلاق ; كأحمد بن حنبل ، ومنهم من قبل من قال ببعضها ، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام ، وهو مذهب الشافعي ، ومنهم من منع بإطلاق ، كمالك بن أنس ، فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح ، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر ، ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي ، وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف ; لأنهم تبع ، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره ; كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت ، وبيع العبد بماله ، واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية .

[ ص: 399 ] والثالث : أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا ; وذلك أنه قال : سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير ، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم ، فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا ، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه ، وقال هذا القائل : لا يعمل أحد عن أحد شيئا ، فإن عمله ; فهو لنفسه كما قال تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] .

والرابع : أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال ، كما إذا أمر بأن يحج عنه ، أو أوصى بذلك ، أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] ، وهو قول بعض العلماء .

والخامس : أن قوله : " صام عنه وليه محمول على ما تصح فيه النيابة ، وهو الصدقة مجازا ; لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي ، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره ، وذلك في الصيام الإطعام ، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه ، أو [ ص: 400 ] ما أشبه ذلك .

والسادس : أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي ، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي ; فلا يعارض الظن القطع ، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي ، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة ، وهذا الوجه هو نكتة الموضع ، وهو المقصود فيه ، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث ، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن ، وبالله التوفيق .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19-12-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (76)
صـ401 إلى صـ 412

فصل

ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع ، وهي مسألة هبة الثواب ، وفيها نظر .

[ ص: 401 ] فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين :

أحدهما : أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص ، وهو المال ، وأما في ثواب الأعمال ; فلا ، وإذا لم يكن لها دليل ; فلا يصح القول بها .

والثاني : أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب ، وقد نطق بذلك القرآن ; كقوله تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات [ النساء : 13 ] .

ثم قال : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ النساء : 14 ] ، وقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 14 ] .

[ ص: 402 ] ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] .

وهو كثير .

وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات ; كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع ، واستباحة البضع مع عقد النكاح ; فلا خيرة للمكلف فيه ، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ، ولا في يده منه شيء ، فإذا لا يصح فيه تصرف ; لأن التصرف من توابع الملك الاختياري ، وليس في الجزاء ذلك ; فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك ، كما لا يصح لغيره .

وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين :

أحدهما : أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها ; إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها ، وإما بالقياس عليها ; لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر ، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر ، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب ، لا يصح فيها غير ذلك ، فإذا كان كذلك ; صح وجود الدليل ، فلم يبق للمنع وجه .

والثاني : أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب ، وكالتوابع مع المتبوعات ، يقضي بصحة الملك لهذا العامل ; كما يصح في الأمور الدنيوية ، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة .

لا يقال : إن الثواب لا يملك كما يملك المال ; لأنه إما أن يكون في الدار [ ص: 403 ] الآخرة فقط ، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا ، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] الآية ; فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة ، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه ، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم ، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته ، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن .

لأنا نقول : هو وإن لم يملك نفس الجزاء ; فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى ، واستقر له ملكا بالتمليك ، وإن لم يحزه الآن ، ولا يلزم من الملك الحوز ، وإذا صح مثل هذا في المال ، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها ; صح فيما نحن فيه ; فقد يقول القائل : ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ، ويقول : إن اشترى لي وكيلي عبدا ، فهو حر أو هبة لأخي ، وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك ، في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله ، وإن لم يعلم به الموكل ، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل ; يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل ; فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب ، والله الموفق للصواب .
[ ص: 404 ] المسألة الثامنة

من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ، والدليل على ذلك واضح ؛ كقوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ المعارج : 22 - 23 ] .

وقوله : يقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] .

وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة ، وجاء هذا كله في معرض المدح ، وهو دليل على قصد الشارع إليه ، وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة ; كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 83 ] .

وفي الحديث : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

وقال : خذوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لن يمل حتى تملوا .

[ ص: 405 ] وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته ، وكان عمله ديمة .

وأيضا ; فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات ; من مفروضات ومسنونات ، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ; ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال ، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا : فما رعوها حق رعايتها [ الحديد : 27 ] ، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار .
فصل

فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات ، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق ، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم ; فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه ، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا ؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين :

أحدهما : من جهة شدة التكليف في نفسه ، بكثرته أو ثقله في نفسه .

والثاني : من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا .

وحسبك من ذلك الصلاة ; فإنها من جهة حقيقتها خفيفة ، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت ، والشاهد لذلك قوله تعالى : [ ص: 406 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر ، واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة ; لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق ، والرجاء الذي هو حاد ، وذلك ما تضمنه قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ البقرة : 46 ] الآية ، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب ، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار ، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ، ونهي عن التشديد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الدين متين ; فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وقال : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا يشمل التشديد بالدوام ، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
المسألة التاسعة

الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة ، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة ، والدليل على ذلك - مع أنه واضح - أمور :

أحدها : النصوص المتضافرة ; كقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] .

وقوله : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .

وقوله عليه الصلاة والسلام : بعثت إلى الأحمر والأسود .

[ ص: 408 ] وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره ; لم يكن مرسلا للناس جميعا ; إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به ; فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف ، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن ، فلا اعتراض به ، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع ; فظاهر الأمر فيه .

والثاني : أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد ; فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة ، فلو وضعت على الخصوص ; لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق ، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه ; فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص ، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; كقوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .

[ ص: 409 ] وقوله : ترجي من تشاء منهن [ الأحزاب : 51 ] الآية .

وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل ، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة ; فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه ; كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق [ ص: 410 ] الجذعة ، وخصه بذلك بقوله : ولن تجزئ عن أحد بعدك ; فهذا لا نظر فيه ، إذ هو راجع إلى جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص .

والثالث : إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولذلك صيروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها ، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم ; إما بالقياس ، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي ، أو غير ذلك من المحاولات ، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به ، وقد قال تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] ; [ ص: 411 ] فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس ، وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد ، لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة .

والرابع : أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس ; لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها ، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر ، وهذا باطل ، فما لزم عنه مثله ، ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها ; من القضاء ، والإمامة ، والشهادة ، والفتيا في النوازل ، والعرافة ، والنقابة ، والكتابة ، والتعليم للعلوم وغيرها ; فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها ، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به ; فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق ، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها ; فالتكليف عام لا خاص ، [ ص: 412 ] [ وبسقوطه أيضا عام لا خاص ] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى ، بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص ; كمراتب الإيغال في الأعمال ، ومراتب الاحتياط على الدين ، وغير ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19-12-2021, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (77)
صـ413 إلى صـ 438


فصل

وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة :

منها : أنه يعطى قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه ، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع ; فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق - إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد ، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور ، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها ، وهو معنى القياس ، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم ، فانشرح الصدر لقبوله ، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله .

ومنها : أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور ، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة ، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ، ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا ; [ ص: 413 ] فقال : على مذهبنا أو على مذهبكم ؟ ثم قال : أما على مذهبنا ; فالكل لله ، وأما على مذهبكم ، فكذا وكذا ، وعند ذلك افترق الناس فيهم ، فمن مصدق بهذا الظاهر ، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور ، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة ، وكلا الفريقين في طرف وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق ، كما تبين آنفا ، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة ، حتى يتبين ذلك ، والله المستعان .

ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم ; لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها ; فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور ; فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه ، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها ، واستجلاب النشاط في الطاعة ، لا على قصد التلهي ، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم : إن [ ص: 414 ] التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص ، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم ; فليعتن به ، وبالله التوفيق .
[ ص: 415 ] المسألة العاشرة

كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما خص به ، كذلك المزايا والمناقب ; فما من مزية أعطيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا ; فهي عامة كعموم التكاليف ، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله [ ص: 416 ] جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه ، وأشركهم معه فيه ، ثم ذكر من ذلك أمثلة .

وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء .

أما أولا ; فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة ، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط ، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون ، ولكن الله من على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام ; إذ قال تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله [ النساء : 105 ] .

وقال في الأمة : لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] .

وهذا واضح ; فلا نطول به .

وأما ثانيا ; فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة ، نقتصر منها على ثلاثين وجها :

أحدها : الصلاة من الله تعالى ; فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] الآية .

وقال في الأمة : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور [ الأحزاب : 43 ] الآية .

[ ص: 417 ] وقال : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ البقرة : 157 ] .

والثاني : الإعطاء إلى الإرضاء ، قال تعالى في النبي : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ الضحى : 5 ] .

وقال في الأمة : ليدخلنهم مدخلا يرضونه [ الحج : 59 ] .

وقال : رضي الله عنهم ورضوا عنه [ المائدة : 119 ] .

والثالث : غفران ما تقدم وما تأخر ، قال تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] .

وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة : هنيئا مريئا ; فما لنا ؟ فنزل : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم [ الفتح : 5 ] ; فعم ما تقدم وما تأخر .

[ ص: 418 ] وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله : ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما [ الفتح : 2 ] .

وقال في الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [ المائدة : 6 ] الآية .

وهو الوجه الرابع .

[ ص: 419 ] والخامس : الوحي وهو النبوة ، قال تعالى : إنا أوحينا إليك [ النساء : 163 ] ، وسائر ما في هذا المعنى ، ولا يحتاج إلى شاهد ، وفي الأمة : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

[ ص: 420 ] والسادس : نزول القرآن على وفق المراد ; قال تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء [ البقرة : 144 ] ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة ، وقال تعالى أيضا : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء [ الأحزاب : 51 ] ; لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف فيهن على عدد معلوم .

وفي الأمة قال عمر : " وافقت ربي في ثلاث " . قلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة : 125 ] [ ص: 421 ] وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . قال : وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ; فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن . فأنزل الله : عسى ربه إن طلقكن [ التحريم : 5 ] الآية .

وحديث التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زوجي ظاهر مني ، وقد طالت صحبتي معه ، وقد ولدت له أولادا ; فقال عليه الصلاة والسلام : " قد حرمت عليه " . فرفعت رأسها إلى السماء ; فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه . ثم عادت ، فأجابها ، ثم ذهبت لتعيد الثالثة ; فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها
[ المجادلة : 1 ] الآية .

[ ص: 422 ] ومن هذا كثير لمن تتبع .

ونزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - من الإفك على وفق ما أرادت ; إذ قالت : وأنا حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها .

[ ص: 423 ] وقال هلال بن أمية : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد . فنزل : والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] الآية ، وهذا خاص بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الوحي بانقطاعه .

والسابع : الشفاعة ; قال تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

وقد ثبتت شفاعة هذه الأمة ; كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس : يشفع في مثل ربيعة ومضر .

[ ص: 424 ] " أئمتكم شفعاؤكم " ، وغير ذلك .

[ ص: 425 ] والثامن : شرح الصدر ; قال تعالى : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] الآية .

وقال في الأمة : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ الزمر : 22 ] .

والتاسع : الاختصاص بالمحبة ; لأن محمدا حبيب الله ، ثبت ذلك في الحديث ; إذ خرج عليه الصلاة والسلام ، ونفر من أصحابه يتذاكرون ; فقال بعضهم : عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليما ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله . فخرج عليهم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا ، وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر ، [ ص: 426 ] وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر .

وفي الأمة : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية .

وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك ، وهو العاشر .

وأنه أكرم الأولين والآخرين ، وقد جاء في الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] .

[ ص: 427 ] وهو الحادي عشر .

والثاني عشر : أنه جعل شاهدا على أمته ، اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام .

وفي القرآن الكريم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .

والثالث عشر : خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حق الأمة كرامات ، وقد وقع الخلاف : هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا ؟ وهذا الأصل شاهد له ، وسيأتي بحول الله وقدرته .

والرابع عشر : الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ; ففي القرآن : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ الصف : 6 ] ، وسميت أمته الحمادين .

والخامس عشر : العلم مع الأمية ، قال تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .

وقال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله [ الأعراف : 158 ] الآية .

[ ص: 428 ] وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب .

والسادس عشر : مناجاة الملائكة ; ففي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يكلمه الملك ; كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا .

والسابع عشر : العفو قبل السؤال ، قال تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .

وفي الأمة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم [ آل عمران : 152 ] .

والثامن عشر : رفع الذكر ، قال تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .

وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الأيمان ، وفي كلمة الأذان ; فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به ، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير .

وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام ; أنه قال : [ ص: 429 ] اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم .

والتاسع عشر : أن معاداتهم معاداة لله ، وموالاتهم موالاة لله ، قال تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله [ الأحزاب : 57 ] [ هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله ] .

وفي الحديث : من آذاني ; فقد آذى الله .

[ ص: 430 ] وفي الحديث : من آذى لي وليا ; فقد بارزني بالمحاربة .

وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] .

ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله .

وتمام العشرين : الاجتباء ; فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ الأنعام : 87 ] .

وفي الأمة : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق .

[ ص: 431 ] وقال في الأمة : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [ فاطر : 32 ] .

والحادي والعشرون : التسليم من الله ; ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام .

وقال تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [ النمل : 59 ] .

وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ الأنعام : 54 ] .

وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة : اقرأ عليها السلام من ربها ومني .

والثاني والعشرون : التثبيت عند توقع التفلت البشري ، قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ الإسراء : 74 ] .

[ ص: 432 ] وفي الأمة : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [ إبراهيم : 27 ] .

والثالث والعشرون : العطاء من غير منة ، قال تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون [ القلم : 3 ] .

وقال في الأمة : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .

والرابع والعشرون : تيسير القرآن عليهم ، قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 17 - 19 ] .

قال ابن عباس : علينا أن نجمعه في صدرك ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ; علينا أن نبينه على لسانك .

وفي الأمة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] .

والخامس والعشرون : جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة ; إذ يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

والسادس والعشرون : أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم ، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم .

والسابع والعشرون : أمر الله تعالى بالطاعة لهم ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، [ ص: 433 ] وهم الأمراء والعلماء .

وفي الحديث : من أطاع أميري ; فقد أطاعني .

وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .

والثامن والعشرون : الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان ; كقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه : 1 - 2 ] .

وقوله : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به [ الأعراف : 2 ] .

واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] .

وفي الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .

يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .

ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] .

والتاسع والعشرون : العصمة من الضلال بعد الهدى ، وغير ذلك من [ ص: 434 ] وجوه الحفظ العامة ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى من ذلك كله .

وجاء في الأمة : لا تجتمع أمتي على ضلالة .

[ ص: 435 ] [ ص: 436 ] [ ص: 437 ] وجاء : احفظ الله يحفظك .

وفي القرآن : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 83 ] ، تفسيره في قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة .

وفي قوله : وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .

وتمام الثلاثين : إمامة الأنبياء ; ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء ; قال : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . . . فحانت الصلاة فأممتهم " .

وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان : إن إمام هذه الأمة منها ، وإنه يصلي مؤتما بإمامها .

[ ص: 438 ] ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا ، [ مجموعه ] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات ، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة ، والحمد لله على ذلك .
يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19-12-2021, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (78)
صـ413 إلى صـ 438


وهو الحادي عشر .

والثاني عشر : أنه جعل شاهدا على أمته ، اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام .

وفي القرآن الكريم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .

والثالث عشر : خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حق الأمة كرامات ، وقد وقع الخلاف : هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا ؟ وهذا الأصل شاهد له ، وسيأتي بحول الله وقدرته .

والرابع عشر : الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ; ففي القرآن : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ الصف : 6 ] ، وسميت أمته الحمادين .

والخامس عشر : العلم مع الأمية ، قال تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .

وقال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله [ الأعراف : 158 ] الآية .

[ ص: 428 ] وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب .

والسادس عشر : مناجاة الملائكة ; ففي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يكلمه الملك ; كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا .

والسابع عشر : العفو قبل السؤال ، قال تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .

وفي الأمة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم [ آل عمران : 152 ] .

والثامن عشر : رفع الذكر ، قال تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .

وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الأيمان ، وفي كلمة الأذان ; فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به ، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير .

وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام ; أنه قال : [ ص: 429 ] اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم .

والتاسع عشر : أن معاداتهم معاداة لله ، وموالاتهم موالاة لله ، قال تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله [ الأحزاب : 57 ] [ هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله ] .

وفي الحديث : من آذاني ; فقد آذى الله .

[ ص: 430 ] وفي الحديث : من آذى لي وليا ; فقد بارزني بالمحاربة .

وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] .

ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله .

وتمام العشرين : الاجتباء ; فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ الأنعام : 87 ] .

وفي الأمة : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق .

[ ص: 431 ] وقال في الأمة : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [ فاطر : 32 ] .

والحادي والعشرون : التسليم من الله ; ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام .

وقال تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [ النمل : 59 ] .

وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ الأنعام : 54 ] .

وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة : اقرأ عليها السلام من ربها ومني .

والثاني والعشرون : التثبيت عند توقع التفلت البشري ، قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ الإسراء : 74 ] .

[ ص: 432 ] وفي الأمة : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [ إبراهيم : 27 ] .

والثالث والعشرون : العطاء من غير منة ، قال تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون [ القلم : 3 ] .

وقال في الأمة : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .

والرابع والعشرون : تيسير القرآن عليهم ، قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 17 - 19 ] .

قال ابن عباس : علينا أن نجمعه في صدرك ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ; علينا أن نبينه على لسانك .

وفي الأمة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] .

والخامس والعشرون : جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة ; إذ يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

والسادس والعشرون : أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم ، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم .

والسابع والعشرون : أمر الله تعالى بالطاعة لهم ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، [ ص: 433 ] وهم الأمراء والعلماء .

وفي الحديث : من أطاع أميري ; فقد أطاعني .

وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .

والثامن والعشرون : الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان ; كقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه : 1 - 2 ] .

وقوله : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به [ الأعراف : 2 ] .

واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] .

وفي الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .

يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .

ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] .

والتاسع والعشرون : العصمة من الضلال بعد الهدى ، وغير ذلك من [ ص: 434 ] وجوه الحفظ العامة ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى من ذلك كله .

وجاء في الأمة : لا تجتمع أمتي على ضلالة .

[ ص: 435 ] [ ص: 436 ] [ ص: 437 ] وجاء : احفظ الله يحفظك .

وفي القرآن : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 83 ] ، تفسيره في قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة .

وفي قوله : وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .

وتمام الثلاثين : إمامة الأنبياء ; ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء ; قال : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . . . فحانت الصلاة فأممتهم " .

وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان : إن إمام هذه الأمة منها ، وإنه يصلي مؤتما بإمامها .

[ ص: 438 ] ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا ، [ مجموعه ] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات ، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة ، والحمد لله على ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19-12-2021, 04:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (79)
صـ439 إلى صـ 444


فصل

وهذا الأصل ينبني عليه قواعد :

منها : أن جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات ، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، لكن على مقدار الاتباع ; فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته ، كيف وهو السراج المنير الذي يستضئ به الجميع ، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق .

ولعل قائلا يقول : قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم ; كفرار الشيطان من ظل [ ص: 439 ] عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد نازع النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته الشيطان ، وقال لعمر : ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك .

وجاء في عثمان بن عفان رضي الله عنه : أن ملائكة السماء تستحي منه ، ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر : أنهما خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة ، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا ، فافترق النور معهما ، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام .

إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم ، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فيقال : كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من [ ص: 440 ] الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها ; فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي ، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي ، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي ، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي ، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي ؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته ; فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته .

والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتباع والاقتداء به ، ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال [ ص: 441 ] لم تكن المتابعة شرطا فيها ، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر .

ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه ، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي ، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا ; فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر .

وأيضا ; فإن فرار الشيطان أو بعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة ، وقد زادت مزية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خواص :

منها : أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان ، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد ، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ ص : 35 ] ، ولم يقدر عمر على شيء من ذلك .

[ ص: 442 ] ومنها : أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع على ذلك من نفسه ومن عمر ولم يطلع عمر على شيء منه .

ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزغات الشيطان وإن قرب منه ، وعمر لم يكن آمنا وإن بعد عنه .

وأما منقبة عثمان ; فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل نقول : هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه ; إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها .

وأيضا ; فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهى شدة حيائه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء ، وأشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا كان الحياء أصلها ; فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال .

وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه ; لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة ، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره ، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء ، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة ، فكان يرى [ ص: 443 ] من خلفه كما يرى من أمامه ، وهذا أبلغ ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به ، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [ من ] بعده وفي زمانه .

فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، والأخذ لهذه الأمور من [ ص: 444 ] جهته لا على الجملة ، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال ، ولا إشكال فيها بحول الله ، وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 238.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 232.81 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]