الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فوائد البنوك أسوأ من ربا الجاهلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ضوابط البديل الشرعي المنضبط للمعاملات المصرفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          فضل الصلاة وآثارها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ربط أحكام المعاملات المالية بمنظومة الأخلاق الإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          مخالفات في لباس المرأة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 9 )           »          خطابات الضمان، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 29 )           »          خصم الأوراق التجارية، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ومناقشة البدائل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حكم مقلوب التورق المصرفي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حكم معاقبة المتأخر عن سداد دينه بحلول بقية الأقساط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          من مخالفات النكاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #71  
قديم 26-04-2024, 11:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (73)


{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2-2)


قال بعض المؤرخين: من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب، ولكن لم ير إنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها العبادة. فالعبادة من ضروريات حياة الإنسان، فهي ليست أمرا تكميليا، وليست ترفا فكريا، وإنما هي حاجة فطرية أساسية ومطلب قلبي ملح، يقول شيخ الإسلام: القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين، من جهة العبادة - وهي العلة الغائية - ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده.
والعبادة وإن كانت مطلوبا شرعيا، وحقا إلهيا، إلا إن لها ثمرات طيبة، وفوائد مباركة ترجع على العباد في الدنيا والآخرة، وقد اجتهد العلماء في الوصول إلى بعض وظائف العبادة والثمرات التي تحققها في الفرد والمجتمع، ومن تلك الوظائف:
أولا: تحقيق العبودية لله تعالى والتقرب منه:
خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته، فقيام الإنسان بالشعائر التعبدية هو مظهر من مظاهر طاعة الله تعالى، ودليل على صدق عبودية المكلف؛ لأن الدعاوى إذا لم تؤيدها البراهين كانت أقوالا كاذبة، قال ابن القيم: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة؛ ولهذا جعل تعالى اتباع الرسول علما عليها وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، وهذا معنى قول الحسن: ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ثانيا: العبادة تحرير للإنسان:
تحقيق العبادة لله تعالى وحده تحرير للإنسان من كل عبودية أخرى، وذلك أن الإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأن له قلبا إما أن يكون عبدا لله، وإلا استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه، ويؤكد شيخ الإسلام هذا المعنى فيقول: فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله، فقيرا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه.
ويقول: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، ويقول: الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده.
ويبين رحمه الله الأثر المترتب على حرية القلب ورقه فيقول: فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
أما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس».
ثالثاً: تزكية النفس وتطهيرها:
العبادة سبب عظيم لتهذيب النفوس البشرية من الذنوب والأمراض التي قد تطرأ عليها، والأخلاق الرديئة التي قد تنطبع بها، وهذا ما يظهر واضحا من خلال نصوص كثيرة تربط بين العبادة والتزكية مثل قوله تعالى:{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقوله:{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}، ونصوص كثيرة تشير إلى أثر العبادة في تزكية الإنسان وتقويمه.
رابعاً: إعداد الفرد الصالح في المجتمع:
للعبادة وظيفة اجتماعية مهمة تتمثل في تخريج أفراد صالحين بكل معاني الصلاح، فتزكية النفوس وتهذيبها بأنواع العبادات المختلفة يعود أثره على واقع المجتمع، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفائدة هذا عائدة على المجتمع كما لا يخفى، الزكاة تطهير للفرد من البخل والشح، ولا شك أن أفرادا كثيرين سيستفيدون من صرف الزكاة على مستحقيها في المجتمع، وقس على ذلك سائر العبادات من الصيام والحجاب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعبادة الصحيحة توجد الفرد الصالح القائم بحقوق الله وحقوق العباد.
خامسا: العبادة مظهر من مظاهر الشكر:
العبادة تعبير عملي عن شكر النعم الكثيرة التي امتن الله تعالى بها على عباده، والله تعالى يحب أن يشكر ولا يكفر، ومن صور الشكر القيام بعبادته على الوجه المشروع كما أشار إلى ذلك تعالى في قوله: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}، وحقق النبي [ هذا المعنى حين كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له: لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال مبينا أن ذلك من موجبات الشكر و الزيادة: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» أخرجه البخاري.
سادساً: العبادة سر السعادة:
يقول شيخ الإسلام: إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، فالموحد سعيد بتوحيده كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}، فهذا مثل ضربه الله للمشرك الشقي بطاعة غير الله، والموحد المخلص لله فهو سعيد مرتاح.
وأيضا فإن العابد المطيع يسعد في الدنيا بالنعم العاجلة كما قال تعالى:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وقال تعالى:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، وقال ابن عباس مبينا الأثر العاجل للطاعة والمعصية: «إن للحسنة نورا في القلب، وزينا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشينا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق».
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فذلك - كما يقول ابن القيم - أنفع الدعاء وهو طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وبهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا فقال: «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».


اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-10-2024 الساعة 08:46 PM.
رد مع اقتباس
  #72  
قديم 26-04-2024, 03:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (74)


- شر الناس ذو الوجهين



يحث الإسلام أتباعه المؤمنين على الصدق في الأقوال والأفعال، والوضوح في المواقف، والثبات على المبادئ، فقال تعالى:{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويحذر من التلون والتقلب في المواقف حسب المصالح الدنيوية والأهواء الشخصية، ويعد هذا من صفات المنافقين كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}.
قال الشيخ ابن سعدي: «فهذه الأوصاف المذمومة تدل -بتنبيهها- على أن المؤمنين متصفون بضدها من الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا».
وللأسف تجد بعض الناس ليس له شخصية مستقلة، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبها بالسائل الشفاف يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم.
ووقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ولا سيما إذا صاحب ذلك نميمة أو غيبة أو إفساد ، فقد أخرج الشيخان عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ».
ويوضح الباجي سبب وصفه بذي الوجهين فيقول: «وصف بذلك لأنه يأتي هؤلاء بوجه التودد إليهم والثناء عليهم والرضا عن قولهم وفعلهم، فإذا زال عنهم وصار مع مخالفيهم لقيهم بوجه من يكره الأولين ويسيء القول فيهم والذم لفعلهم وقولهم».
ويذهب القرطبي إلى أبعد من ذلك فيعد ذلك من أحوال المنافقين فيقول: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس». ومثله الإمام النووي رحمه الله إذ يقول: «ذو الوجهين: هو الذي يأتي كل جماعة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة».
ومما يؤكد خطورة هذه الخصلة الذميمة ما ورد في شأنها من وعيد شديد، فعن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وظاهر أن هذا الجزاء من جنس العمل كما علله في «عون المعبود» فقال: «معناه: أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار كما كان له في الدنيا لسان عند كل طائفة».
وهذا الحكم يستوي فيه الدخول على مجالس العامة ومجالس الوجهاء والأمراء على حد سواء، فقد قال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: «كنا نعده نفاقا». أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك).
وذكر الحافظ أن في بعض الروايات أنهم قالوا: «إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال ابن عمر: «كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم»؟
وهذا للأسف ما يفعله بعض الناس، حيث يدخل على الحكام والمسؤولين فيمدحهم ويتزلف لهم، فإذا خرج من عندهم بادر بانتقاصهم واغتيابهم وذكر مساوئهم، فيقال له: ما منعك من نصحهم سرا في مجلسهم أداء للأمانة ونصحا لأئمة المسلمين وعامتهم؟! أم إنه الجبن والتلون وموافقة الجلساء في الغيبة والخوف من مخالفتهم لأجل الحق والمبادئ؟!
وينبغي التفريق بين التلون في المواقف والتنازل عن المبادئ -وهو المداهنة- واستعمال الحكمة عند مخالطة الناس، والترفق بهم للإصلاح والتوعية -وهي المداراة- قال أبو حاتم البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه».
قال النووي: «فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود»، ونقل ابن حجر عن غيره الفرق بينهما: أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح».
وقال ابن القيّم مبينا الفرق بين المداراة والمداهنة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمّ، والفرق بينهما أنّ المداري يتلطّف بصاحبه حتّى يستخرج منه الحقّ أو يردّه عن الباطل، والمداهن يتلطّف به ليقرّه على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النّفاق. وقد ضرب مثل لذلك مطابق، وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطّبيب المداوي الرّفيق، فتعرّف حالها ثمّ أخذ في تليينها، حتّى إذا نضجت أخذ في بطّها برفق وسهولة، حتّى إذا أخرج ما فيها وضع على مكانها من الدّواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثمّ تابع عليها بالمراهم الّتي تنبت اللّحم، ثمّ يذرّ عليها بعد نبات اللّحم ما ينشّف رطوبتها، ثمّ يشدّ عليها الرّباط، ثمّ لم يزل يتابع ذلك حتّى صلحت، أمّا المداهن فقال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثمّ أله عنها، فلا تزال مدّتها تقوى وتستحكم حتّى عظم فسادها».
وقال البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، قال ابن حجر: «والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله: ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك».
ثم أخرج بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: «يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟» فقال: «أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط; لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك».
فعلى المسلم أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، ثابتا في مواقفه ومبادئه، حكيما في دعوته إلى الله تعالى، متوسطا بين الحزم والرفق، مفرقا بين الصراحة والوقاحة، وموازنا بين المصالح والمفاسد، جامعا بين العلم والعمل، والله تعالى الموفق لكل خير وسداد.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-10-2024 الساعة 08:50 PM.
رد مع اقتباس
  #73  
قديم 26-04-2024, 07:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (75)


- عَـشِّ ولا تغتر



يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر، فتارة يبتليهم بالفقر والمرض والحروب ونحوها من المصائب، وتارة يبتليهم بالأموال وكثرة الأولاد والتمكين في الأرض وتسخير الخيرات لهم كما قال عز وجل:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: « أي نبتليكم بالشر والخير فتنة: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال»، وقال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ونحو ذلك من الآيات.
والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر؛ لأن الشر أمره ظاهر ويتفطن له غالب الناس، أما الابتلاء بالخير فقد يغرق الإنسان في النعم ولا يتنبه إلى أن هذا اختبار من الله تعالى له ليبلوه أيشكر أم يكفر، وتجري عليه النعم سابغة وهو غافل عن المقصود منها، وقد يغتر بها ويسوقه البطر إلى نسيان شكر المنعم، والغفلة عن القيام بحقه، والمسلم الواعي لا ينشغل بالنعم عن المنعم، ولا يغتر بالدنيا، ولا يثق بزينتها وزخرفها، ويأخذ بأوثق الأمور، ويستعد لأسوأ الاحتمالات، ويعمل بأسباب النجاة؛ فالسفر طويل، والعقبة كؤود، والناقد بصير.
وهذا المثل العربي يصور هذه الحقيقة، ويقرب ذلك المعنى بأوجز عبارة وأقصر لفظ، قال الميداني في مجمع الأمثال: «أصل المثل -فيما يُقَال- أن رجلا أراد أن يُفَوِّزَ -أي يسير في المفازة-بإبله ليلا، واتّكَل على عشب يجده هناك، فقيل له‏:‏ عّشِّ ولا تَغْتَر، إي لا تغتر بما لست منه على يقين.
ويروى أن رجلاً أتى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقال‏:‏ كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فكلهم قَال‏:‏ «عشِّ ولا تّغْتَر»، يقولون‏:‏ لا تُفَرِّطْ في أعمال الخير وخُذْ في ذلك بأوثقَ الأمور، فإن كان الشأن على ما ترجو من الرُّخصَة والسَّعة هناك، كان ما كسبت زيادةً في الخير، وإن كان على ما تخاف كنت قد احْتَطْتَ لنفسك.
ويوضح الغزالي أهمية اليقظة وخطورة الغرور فيقول: «إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى، فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا».
ويعرف الغرور بأنه: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم».
وزيادة في الإيضاح يبين ابن القيم الفرق بين الثقة والغرور فيقول: «الفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أُمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود».
وقال رحمه الله: «إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها، فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يُسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير، كحال المغتر بالسراب».
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في ذم الغرور بأنواعه، والتحذير من آثاره الوخيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي».
وقال عز وجل: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، قال ابن سعدي: «يقول تعالى معاتبا الإنسان المقصر في حقه، المجترئ على معاصيه:{يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟»، قال قتادة: «ما غر ابن آدم غير هذا العدو والشيطان».
وقال تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}، قال ابن كثير: «أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاء لِأَنَّكُمْ اِتَّخَذْتُمْ حُجَج اللَّه عَلَيْكُمْ سِخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
وقال عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، قال ابن سعدي: «هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر».
وقال تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني}، قال الطبري: «وقوله: {وغرتكم الأماني} يقول: وخدعتكم أماني نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم {حتى جاء أمر الله} يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم فاجتاحتكم، وعن قتادة في قوله تعالى:{ وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: {وغركم بالله الغرور} يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بما يرجع» أخرجه مسلم.
قال النووي: «ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر».
والخلاصة أن المطلوب من المسلم أن يكون متنبها إلى ما يطرأ له من ابتلاءات وفتن بالخير قبل الشر، وعليه أن يقوم بواجبه من الشكر والصبر، عدم الاغترار بالدنيا والانغماس فيها إلى درجة الاستغراق والغفلة عن الحقائق الكبرى وهي الموت والبعث والجزاء، قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر»، فليحرص كل مسلم على ما ينفعه، ويستعين بالله على طاعته وحسن عبادته، فذلك أفضل مطلوب وأعظم موهوب، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 28-10-2024 الساعة 04:58 AM.
رد مع اقتباس
  #74  
قديم 26-04-2024, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (76)


- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم



التغيير سنة ماضية، فطبيعة الزمان والمكان وأحوال الناس تتغير بشكل دائم ومستمر، فالمتأمل لأحوال الناس، والدارس لتاريخ البشرية يجد هذا الأمر واقعا ملموسا، وحقيقة محسوسة.
والتغيير قد يكون بالأفراد، كما قد يحدث بالمجتمعات، وقد يكون تغييرا نحو الأفضل، وأحيانا قد يصير التغيير للأسوأ.
فهناك تغيير مذموم، وهو اتباع سبيل الشيطان في تغيير فطرة الإنسان، والانحراف به عن شريعة الرحمن كما قال تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا}.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن من إضلال الشيطان (تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله)، ويلتحق بذلك الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، وأوضح أن تغيير خلق الله يتناول الخلقة الظاهرة؛ بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن، ويتناول تغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة السليمة التي تقبل الحق وتنقاد له، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
وقال جماعة من أهل التفسير منهم مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيـّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
وروي عن ابن عباس في معنى {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي: دين الله، واختاره الطبري فقال: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه».
وقال مجاهد أيضا: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
ومن التغيير المذموم ما ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» أخرجه أحمد، وهو صحيح.
فما يفعله بعض النساء من هذه الأفعال المنكرة بحجة التزين والتجمل داخل تحت هذا الوعيد، ومشمول بهذا الذم.
وقد يكون التغيير محمودا، وذلك بأن يتبع المكلف سبيل الرحمن في تزكية نفسه بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، ويترك ما كان عليه من عقائد منحرفة وعبادات مبتدعة وأخلاق رذيلة، وإنما يتحقق ذلك باتباع شرع الله تعالى، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما أولياؤهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك».
والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن سنته الماضية، وقاعدته المطردة وهي أنه تبارك وتعالى يعين من تغير إلى الخير ويوفقه، ويخذل من تغير إلى الشر ويعاقبه، فقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
قال الشيخ ابن سعدي: «{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها؛ فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم».
وقال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيـروا ما بأنفسهم}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ذَلِكَ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم؛ بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها إن ازدادوا له شكرا، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم، وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره».
قال الشيخ ابن عاشور : «فقوله: {لم يك مغيرا} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته; لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
والمراد بهذا التغيير (تغيير سببه) وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران؛ ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه; فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم، مثل قوم يونس وهم أهل نينوى، وإذا كذبوا وبطروا النعمة، غيـّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة».
والخلاصة أن التغيير سنة ماضية، وهو وسيلة شرعية لتحصيل النعم الدينية والدنيوية والأخروية واستدامتها، إذا أخلص المسلم النية، وأحسن العمل، واستعان بربه في القيام بعبادته، وشكر نعمته، فأفضل مطلوب، وأحسن موهوب هو (الإعانة على العبادة).
والتغيير يبدأ بنية صادقة، وعزم أكيد، يحدوه علم صحيح، وعمل مستقيم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}وقال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 28-10-2024 الساعة 05:00 AM.
رد مع اقتباس
  #75  
قديم 29-04-2024, 04:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (77)


- نعــم المــال الصــالح للرجــل الصـــالح



قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم»
شاع لدى بعض الناس مقولة غريبة هي: «إن الفلوس وسخ دنيا»، وظنوا أن المال أمر مذموم، وأن جامعه ملوم، وكأن المسلم الصالح لا بد أن يكون فقيرا معدما، ولا يليق به أن يكون غنيا محترما، ولعل ذلك تأثرا بقدامى الصوفية كما قال ابن الجوزي: «كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية - لصدقهم في الزهد - فيريهم عيب المال، ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال، ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة، وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم».
والمتأمل في أدلة الشريعة الإسلامية وأحكامها ومقاصدها يجد أنها قد أولت الأموال اهتماما كبيرا، يقوم على الاعتدال ومراعاة الفطرة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، مع القيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
فالشريعة الإسلامية تقرر أن المال - وإن كان في يد مالكه - إلا أنه في الحقيقة مال الله تعالى كما قال عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، والإنسان مستخلف في هذا المال كما قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، ومالك المال الحقيقي سيسأل الإنسان عن تصرفه في هذه الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ» أخرجه الترمذي.
والشريعة الإسلامية جعلت المال من مقاصدها الكلية، وعدته من الضروريات الخمس التي جاءت لتحصيلها وحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا أمر مقرر وثابت باستقراء الشريعة في أدلتها وقواعدها كما هو معلوم من أصول الفقه وقواعده.
كما أن الشريعة الإسلامية تراعي الفطرة وتهذبها، ولا تصادمها أو تعارضها، فالقرآن يقرر أن حب المال والرغبة في تملكه أمر فطري كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}، وقال تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} أي: المال، فحب المال غريزة، والدين جاء ليهذبها.
والشريعة الإسلامية تعد المال عونا على طاعة الله تعالى، فالله تعالى أمر بأداء الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وهل يمكن أداؤها إلا بتحصيل الأموال أولا؟ وشرع الله تعالى الصدقات وعدها من أبواب القربات، وأوجب الكفارات لبعض المخالفات وفيها الإطعام والكسوة وتحرير الرقاب، وألزم الله تعالى المكلف بنفقات واجبة تجاه نفسه ومن يعول كزوجته وأبنائه وأقربائه بشروط وضوابط، حيث مدح المنفقين فقال عن المتقين: {ومما رزقناهم ينفقون}، ويلزم من ذلك تحصيل الأموال ليقدر المكلف على القيام بهذه الطاعات، ولا يفرط في تلك الواجبات.
وندب الله تعالى إلى نصرة الدين بالنفس والمال فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، وقد ضرب الصحابة الكرام في ذلك أروع الأمثلة، فتبرع أبو بكر بماله كله، ودفع عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة كاملا، رضي الله عنهم أجمعين، وما ذلك إلا لأنهم كانوا أغنياء سخروا أموالهم في خدمة الدين.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى - وهو أن المال عون المسلم - فعن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلاحِي ثُمَّ آتِيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسْلِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ». رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «هذا الخبر يصرح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة جمع المال من حيث يجب، ويحل للقائم فيه بحقوقه؛ لأن في تقرينه الصلاح بالمال والرجل جميعا بيانا واضحا؛ لأنه إنما أباح في جمع المال الذي لا يكون بمحرم على جامعه، ثم يكون الجامع له قائما بحقوق الله فيه».
والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال عز وجل: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
وروى البيهقي أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفقر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم»، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين أراد أن يوصي بشطر ماله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه.
وقال لكعب بن مالك حين أراد أن يتصدق بكل ماله في حديث توبته: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» أخرجه البخاري.
ولما طلبت أم سليم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها أنس بن مالك قال: «اللهُمّ أكثِرْ مالَهُ ووَلدَهُ وأطِلْ حَياتَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد. قال الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله».
وفي عهد عثمان رضي الله عنه ذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز يعرض مالكه للوعيد، ذكر البخاري ذلك في كتاب الزكاة باب ما أديّ زكاته فليس بكنز، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «أجمع الصحابة في عهد عثمان على مخالفة أبي ذر في دعوته الناس إلى الانكفاف عن المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالا عليهم في الآخرة».
وفي المقابل فإن الشريعة الإسلامية تحذر من الافتتان بالمال؛ لأنه محبب للنفس وقد يعيق الإنسان عن طاعة الله تعالى كما قال عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التنافس في الأموال على غير الوجه المشروع سبب للهلاك، فعن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين» فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
وحذرت الشريعة من تقديم المال وكسبه على المقصد الأصلي وهو عبادة الله تعالى وحده، فعند التزاحم تقدم العبادة وحقوقها على الدنيا وزينتها كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «قوله: (عبد الدينار) أي: طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: «قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا».
ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى فقال: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قال ابن حجر: «وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات».
والشريعة الإسلامية تحث المكلفين على اكتساب الأموال دون استشراف ولا إلحاح ولا تعلق القلوب بها، فعن حكيم بن حِزامٍ رضيَ اللّهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمّ سألتهُ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثمّ قال: «يا حكيمُ ! إنّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذَهُ بَسخاوةِ نفسٍ بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشْرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السّفلى». قال حكيمٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ، والذي بَعثكَ بالحقّ لا أرزأُ أحداً بعدَكَ شيئاً حتى أُفارِقَ الدنيا. متفق عليه.
قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم».
فالمال رزق من الله تعالى، وكثرته وقلته ليست معيار الكرامة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، فالكرامة عند الله تعالى بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ومن التقوى بذل الأموال في طاعة الله ما كان منها واجبا أو مستحبا.
فبذل الأموال في الطاعات والقربات من سمات المؤمنين، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ووعدهم على ذلك بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وحذر من الشح والبخل، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وخلاصة القول بعد هذا العرض الموجز أن الشريعة أولت الأموال عناية كبيرة، وحثت على اكتسابها بالوجوه المشروعة، وإنفاقها في مصارفها المقبولة، دون إفراط ولا تفريط كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملموما محسورا}، فحيازة الأموال على هذا الوجه من الأمور المحمودة، وهي خير للفرد والمجتمع والدولة، حيث تعود على الجميع بالمصالح العديدة وتدرأ عنهم الفقر والمرض والجهل والذل والحاجة للآخرين.
وأختم بوصية قيس بن عاصم لبنيه عند موته حيث قال: «عليكم بالمال واصطناعه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل».
ومثله قول أبي قيس بن معديكرب لبنيه: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة».


اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-11-2024 الساعة 04:37 AM.
رد مع اقتباس
  #76  
قديم 29-04-2024, 09:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (78)

-الرفيق الجيد يقصر الطريق


المسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس
يحتاج الإنسان عادة في أسفاره وتنقلاته إلى من يعينه في سفره، فيحمل عنه أثقاله، ويذهب ضجره، ويؤنس وحدته، ويسانده في محنته؛ لذا كان الرفيق في السفر مطلبا ملحا، وحاجة ضرورية نفسية وشرعية، فعنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بلَيْلٍ وَحْدَهُ» رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده».
ونقل ابن حجر عن الطبري قوله: «هذا الزجر زجر أدب وإرشاد؛ لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة، وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، ولا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف».
والمسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس، وأمامه مراحل عديدة في الدنيا والبرزخ وأهوال الآخرة، إلى أن يضع عصاه في الجنة بإذن الله ورحمته، وما أحكم الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ فأجاب: «عند أول قدم يضعها في الجنة»، وقال ابن القيم: «الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار».
ومما يعين المسلم على الصبر في هذه الرحلة، وتحمل مشاق الطريق: حسن اختيار الرفيق، الذي يعينه ولا يعطله، ويرفع همته ولا يخذله، وتأمل قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، كيف أن ذكر الرفيق في الجنة يسهل على السالك السبيل، ويهون عليه الصعاب؛ شوقا إلى رفقتهم، وخوفا من الحرمان من صحبتهم، قال القرطبي: «والرفق لين الجانب، وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض».
ولأن الصحبة الصالحة والأخوة الصادقة مفيدة في الدنيا والأخرة أمرنا الله تعالى بملازمتهم وعدم الإعراض عنهم فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «فيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على محبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
فمن الفوائد الدنيوية دعاء بعضهم لبعض ولو طال الزمان وتباعد المكان، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين، من الصحابة ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا».
وأما في الآخرة، فإن الأخوة الإيمانية تستمر وشائجها، وتدوم فوائدها كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير: «أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ».
ولأهمية الأخوة في الله والصحبة الصالحة حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الأخيار وملازمة الأبرار فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ذكر الشيخ ابن باز كلاما نفيسا في شرح هذا الحديث فقال رحمه الله: «الذي نفهمــه من هـــذا الحديث، والله أعلـــم، أن النبــي صلــى الله عليه وسلم يضــع للمسلــم منهـــجاً ينطلـــق عليه في حيـــاته، ألا يصـــاحب إلا مؤمنــــاً ولا يــأكل طعــامه إلا تقــــي، ولا يعنــــي الحديـــث أنه لا يجـــوز للمسلــم أن يُطعــم غــير المــؤمن الصالـــح، وإنـــما يقصــد الحديــث أنه ينبغــي له ألا يخــالط إلا مؤمـــناً، وألا يــأكل طعـــامه إلا تقـــي، فالمخالطـــة والمصـــاحبة والمصـــادقة شـــيء، وأن يُطعــم بمنـــاسبة ما كافراً أو فــاسقاً شـــيء آخر فهـــذا يجـــوز، ولكـــن ينبغـــي ألا يكــون ذلك منهـــج حيـــاته؛ ذلك لأن المصــاحب الصالح كمثــل بائع المســـك، إما أن يحذيـك، أي: يعطيك مجـــاناً، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشــم منه رائحــة طيبـــة، ومثل جليـــس الســوء كمثل الحداد، إما أن يحرق ثيــابك، وإما أن تشــم منه رائــحة كريهــة؛ لذلك لا يجـــوز للمسلـــم أن يخــــالط إلا الصــــالحين، هذا هـــو المقصــــود من قولـــه عليـــه الســـلام في الحديـــث الســـابق المسؤول عنه: «لا تصاحب إلا مؤمـناً، ولا يـأكل طعـــامك إلا تقي».
والنبي صلى الله عليه وسلم يصور اللحمة الإيمانية بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه، قال النووي في فوائد الحديث: «تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه».
وقد تكاثرت أقوال السلف في الحث على صحبة الإخوة العقلاء الناصحين، فقال عمر: «عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء»، وقال بلال بن سعد بن تميم: «أخ لك كلما لقيك ذكـّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا».
قال الراغب الأصفهاني: «الصديق محتاج إليه في كل حال: أما عند سوء الحال فيعينونه، وأما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكن الاستغناء عن صديق فمغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه».
وقال أبو حاتم البستي: «العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
ويبين ابن القيم أنواع اللقاء بالإخوة وآثار كل منها فيقول: «الاجتماع بالإخوان قسمان:
- أحدهما: اجتماع على مؤانسة طبع وشغل وقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
- الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
- إحداها: تزّين بعضهم لبعض، الثانية: الكلام والمخالطة أكثر من الحاجة، الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح: إما للنفس الإمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة المستفادة من اللقاح أن من طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك».
فكما يحرص الإنسان على رفقة العقلاء الناصحين في سفر الدنيا، فليحرص على صحبة الإخوة الصالحين الصادقين لسفر الآخرة، وحسن أولئك رفيقا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-11-2024 الساعة 04:38 AM.
رد مع اقتباس
  #77  
قديم 01-05-2024, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (79)


-المجـالــس بالأمـانـة



حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».



الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم ، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه، ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم : «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
ويبين العلماء أن معنى الحديث : تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال ، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه.
وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال شراح الحديث: «والمعنى: إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني،أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب منه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين؛ فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة .
قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
قال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فَأْتِنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا».قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ : فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
فخلاصة القول: أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 08-11-2024 الساعة 12:15 AM.
رد مع اقتباس
  #78  
قديم 04-05-2024, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (80)


- يمحــق الـلـه الـــربا





عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم
شرع الله عز وجل لعباده أبواب الكسب المشروعة كالبيع والإجارة والشركة والمضاربة وإحياء الموات ونحوها من معاملات الكسب الطيب والرزق الحلال مما يرجع بالنفع العظيم والخير الوفير على المسلمين أفرادا ومجتمعات. وفي المقابل نهى الله تعالى عن الكسب الخبيث المحرم بأنواعه كالسرقة والغصب والغش وأكل أموال الناس بالباطل والبيوع الفاسدة ونحوها، فالشرع والعقل والواقع يشهد بأنها لا تعود على مرتكبها إلا بالحسرة والخسارة في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما نهى الله تعالى عنه وحذر منه أشد التحذير وأنذر من تعامل به أبلغ إنذار (الربا)؛ فقد جاء في شأن الربا من النصوص الشرعية الكثيرة ما فيه عظة وواعظ لكل من تسول له نفسه الوقوع في هذه المخالفة الجسيمة والمعصية العظيمة.
قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} قال ابن كثير: «يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ومنها أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل، فحرم عليهم طيبات كان أحلها لهم وذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم لرسولهم واختلافهم عليه».
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين}، قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا؛ فأنزل الله عز وجل:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} قال القرطبي: (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت العبارة المؤكدة على شناعة فعلهم وقبحه ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا وهو أخذ زيادة على أصل الدين ورأس المال في مقابل الأجل، فإذا حل الأجل يقول صاحب الحق للمدين: أتقضي أم تربي؟ يعني يزيده في الأجل ويزيده في الحق، وهكذا يتضاعف الدين ويتراكم على المدين وهو ما يعرف بربا الجاهلية.
ونقل عن أبي حنيفة عن هذه الآية أنها أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.
وقال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال ابن كثير: «أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له»، وقال ابن عباس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق»، وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، وقيل: يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} قال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وقال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، والمحق هو النقص والذهاب، قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يمحق الربا، أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة».
وقال سبحانه وتعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن عباس: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب».
قال القرطبي: «دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك، ونقل أنه جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رجلا سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت: امرأتي طالق إن كان دخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، ثم قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا لأن الله آذن فيه بالحرب».
وأما السنة المطهرة فهي مليئة بالأحاديث الدالة على حرمة الربا والتحذير من مغبته، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه، والموبقات هي المهلكات، قال ابن حجر الهيتمي: عدّ الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه؛ اتباعا لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة بل من أكبر الكبائر وأعظمها.
وعن عبد الله بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية» أخرجه أحمد والمنذري، قال المناوي: هذا خرج مخرج الزجر والتهويل لاعتياد الجاهلية أكل الربا وعمومه فيهم.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم،
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه» أخرجه ابن ماجه، قال المناوي: هذا زجر وتخويف لأن العرب قد تظاهروا عليه وشق عليهم تحريمه.

وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلٍّ» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي وإن كان زيادة في المال عاجلا يؤول إلى نقص ومحق آجلا.
وعن جابر قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء» أخرجه مسلم، قال النووي: «هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل».
وقال أيضا: «فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر ».
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي تسببوا في وقوعه بهم، ولم يقل العذاب، بل زاد الاسم زيادة في التهويل والزجر، وذلك لمخالفتهم ما اقتضته الحكمة الإلهية من حفظ الأنساب الأموال، وقال ابن القيم: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن بهلاكها.
ومن صور الربا المعاصرة ما تقدمه البنوك التجارية من فوائد نظير الإيداع، وما تأخذه من فوائد لقاء القروض التي تقدمها لعملائها، وقد توالت فتاوى العلماء بتحريم هذا النوع من المعاملات، ففي سنة 1907 أفتى الشيخ بكري الصدفي مفتي مصر بالحرمة، وتلاه الشيخ عبد المجيد سليم مفتي مصر أيضا عام 1930 بالقول بالحرمة، وبعدهما نص على الحرمة قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1965، وقرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة سنة 1985، وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة سنة 1406هجرية.
فواجب المسلمين أفرادا ومجتمعات التخلص من الربا وآثاره المدمرة استجابة لله ورسوله وابتعادا عن أسباب الهلاك التي توعد بها الله تعالى المرابين في الدنيا والآخرة، والله الموفق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 08-11-2024 الساعة 12:16 AM.
رد مع اقتباس
  #79  
قديم 06-05-2024, 06:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (82)


- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده



اشتلمت النصوص الشرعية على مدح أسماء جميلة، والثناء على ألقاب جليلة؛ مما يدل على أن الله تعالى يحبها ويحب من اتصف بها، ويأمر بالتحلي بها والتخلي عن ضدها، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وزاد الترمذي: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، وزاد البيهقي: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
قال الشيخ ابن سعدي: «ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة؛ وهي الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد، وذكر حدودها بكلام جامع شامل».
ومن المقرر أن الإنسان لا بد أن يعرف حقيقة الأشياء قبل طلبها والعمل بها، فالعلم قبل القول والعمل، فمن الأهمية أن يعرف المسلم حدود الأسماء الدينية والألقاب الشرعية كما قال ابن القيم: «ومعلوم أن الله سبحانه حدّ لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذمّ من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزل الله هي الوقوف عند حدّ الاسم الذي علق عليه الحلّ والحرمة»، وقال أيضا: «ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخيته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها»، ولهذا العلم فضيلة ومزية كما قال ابن القيم: «فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحلّ والحرمة».
فمن الأسماء الشرعية المذكورة في الحديث (الإسلام)، والإسلام في اللغة: هو الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام، وفي الاصطلاح: له معنيان:
الإسلام بالمعنى العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام هو التعبد لله بما شرع على ألسنة رسله، وهو بهذا المعنى دين جميع الرسل كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقال عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وقال عن موسى عليه السلام: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، وقال عن عيسى عليه السلام: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون}.
وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فهو الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله، قال الله تعالى: {ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}، وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}.
وفي الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة المسلم فقال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، قال النووي: «معناه: من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لما ذكرناه»، وقال ابن حجر: «قوله (المسلم) قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين»، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
تنبيه: ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك، وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيه اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
قال ابن سعدي: «وذلك أن الإسلام الحقيقي هو الاستسلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه وحقوق المسلمين، ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده، فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده كيف يكون قائما بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟! فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه».
وأما (الإيمان) فهو في اللغة التصديق، كما جاء في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أي: لست بمصدق لنا، وفي الشرع: يختلف معناه بحسب إطلاقه، وله حالتان أيضا:
- الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: {الله ولي الذين آمنوا} وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ ولهذا أجمع السلف على أنه: «تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية».
- والحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام؛ وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وقوله في الحديث: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» يبين حقيقة المؤمن وهو الأمين العفيف، قال في شرح الترمذي: «والمؤمن: أي الكامل، من أمنه الناس: أي جعلوه أمينا وصاروا منه على أمن على دمائهم وأموالهم لكمال أمانته وديانته وعدم خيانته».
قال ابن سعدي: «وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به؛ لما يعلمون منه من مراعاة الأمانة، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وأما (الهجرة) فمَعْنَاهَا في اللغة الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع , وفي الاصطلاح: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
وذكر ابن القيم أن الهجرة هجرتان: الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، والثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره إلى خوفه.
وحكم الهجرة باق إلى يوم القيامة، وهو قول عامة أهل العلم، ولهم في ذلك أدلة منها قوله عليه السلام: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» فقد قال ابن حجر: «والمهاجر هو بمعنى هجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع الفعل من اثنين، ولكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل ان يكون على بابه؛ لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه.
وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه. ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الحكم والأحكام».
قال ابن سعدي: «وفسر الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات والإقدام على المعاصي، والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة جزء من هذه الهجرة وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة».
وأما (المجاهد)؛ فالجهاد في اللغة: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء. وفي الاصطلاح للجهاد إطلاقان:
- الأول: بالمعنى الأعم: هو اسم جامع لكل سبب يحقق ما يحبه الله ودفع ما يبغضه سبحانه، كما قال شيخ الإسلام: «الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان»، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، قال ابن سعدي: «بذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته» وقوله صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
الإطلاق الثاني للجهاد بالمعنى الأخص: وهو قتال مسلم كافرا غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه إعلاء لكلمة الله.
ويبين ابن القيم حقيقة الجهاد الشرعي ومراتبه المتعددة فيقول: «فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافق.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:
- إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عمله شقيت في الدارين.
- الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
- الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
- الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السموات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: إحداهما: جهاد على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.
قال ابن سعدي: «وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.ومن أشرف هذا النوع وأجله مجاهدتها على قتال الأعداء ومجاهدتهم بالقول والفعل، فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين».
فهذا الحديث قد اشتمل على ذكر أوصاف حميدة، وألقاب كريمة، على المسلم أن يفحص نفسه بحثا عنها، فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليجتهد في التحلي بها والتخلق بحقائقها؛ ليفوز بآثارها وثمراتها العاجلة والآجلة، والله الموفق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #80  
قديم 06-05-2024, 07:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,135
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (82)


- للباطل جولة ثم يزول



للباطل صورعديدة، ومظاهر كثيرة، إلا أن حقيقته واحدة، ومآله إلى زوال، فالباطل زيف وسراب وإن انتفش وانتفخ وعلا في السماء، فمصيره إلى سقوط واضمحلال مهما طال الزمان.
فالباطل: نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ: جعله باطلا كما قال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل}.
قال ابن الجوزي: «الباطل ما لا صحة له، وضده الحق، ويقال: بطل الشيء: إذا تلف، وبطل البناء: انتقض، وقد فرق بعض العلماء بين الباطل والفاسد فقال: الباطل هو الذي لا وجود له، والفاسد: موجود إلا أنه قد اختل بعض شروطه، وذكر أهل التفسير أن الباطل في القرآن على أربعة أوجه:
- أحدها: الكذب، ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {إذا لارتاب المبطلون}، وفي حم السجدة: {لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه}.
- والثاني: الإحباط، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وفي سورة محمد: {لا تبطلوا أعمالكم}.
- والثالث: الظلم، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام}، وفي سورة النساء: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
- والرابع: الشرك، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تلبسوا الحق بالباطل}، وفي سورة النحل: {أفبالباطل يؤمنون}، وفي سورة العنكبوت: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}، وقال بعض المفسرين: إن الباطل في هذه الآية الشيطان، فيكون ذلك وجها خامسا».
وللباطل على مر التاريخ صولات وجولات، وأيام ظهر فيها وارتفع، إلا أن سنة الله تعالى ثابتة في نصرة الحق دائما، وإبطال الباطل وإزالته وفضحه، فقد بشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال سبحانه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}، وقال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}.
فالباطل لا بقاء وإن جال جولة ردهة من الزمن، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ}، قال ابن كثير: «اِشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاته وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِل فِي اِضْمِحْلَاله وَفَنَائِهِ».
وقال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، قال ابن سعدي: «هذا وصف للباطل، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته».
قال ابن كثير عن الآية الكريمة أن فيها تَهْدِيدا وَوَعِيدا لِكُفَّارِ قُرَيْش، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ اللَّه الْحَقّ الَّذِي لَا مِرْيَة فِيهِ، وَلَا قِبَل لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَالْعِلْم النَّافِع، وَزَهَقَ بَاطِلهمْ أَيْ اِضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِل لَا ثَبَات لَهُ مَعَ الْحَقّ، وَلَا بَقَاء، ونقل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَحَوْل الْبَيْت سِتُّونَ وَثَلَثمِائَةِ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنهَا بِعُودٍ فِي يَده وَيَقُول {جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا}. أخرجه البخاري.
ومن الآيات الدالة على زوال الباطل قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد}، قال ابن سعدي: «أي: ظهر وبان، وصار بمنزلة الشمس، وظهر سلطانه، {وما يبدئ الباطل وما يعيد}أي: اضمحل وبطل أمره، وذهب سلطانه، فلا يبدئ ولا يعيد».
وَقَال تعالى مبينا ظهور الحق على الباطل بقوة ووضوح: {بَلْ نَقْذِف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِل}، قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كان باطل قيل وجودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل، ويتبين لكل أحد بطلانه، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أو رد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد».
فواجب المسلم إخلاص الدين لله تعالى، وحسن الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بالعلم الشرعي، ويسترشد بتوجيهات العلماء المعتبرين حتى يسلم من اتباع الباطل والركون إليه، لأن الجهل وإتباع الهوى والتقليد الأعمى من مزالق الباطل ومدارج الشيطان لإغواء بني آدم للوقوع في حضيض الضلال والانغماس في الباطل، والله سبحانه يتولى المخلصين الصالحين، ويوفق الساعين للخير والمجتهدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، وقد توعد الضالين المضلين، فليختر المسلم ما يحب أن يعرف به وينسب إليه، وما يريد أن يختم له به، فقد أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث كل عبد على ما مات عليه»، قال المُناوي: «أي يموت على ما عاش عليه ويبعث على ذلك»، وقد أشار القرآن الكريم لهذه القاعدة الكريمة بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }، فشتان بين أصحاب الحق علما وعملا، وأهل الباطل دعوة وانحرافا وإفسادا، نسأل الله تعالى السلامة والاستقامة، وبالله التوفيق.



اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; اليوم الساعة 07:13 PM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 14 ( الأعضاء 0 والزوار 14)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 174.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 168.82 كيلو بايت... تم توفير 6.12 كيلو بايت...بمعدل (3.50%)]