|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (459) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [3] جماهير السلف والخلف من الأئمة رحمهم الله على أن الظهار لا يصح إلا من الزوج، فإذا وقع ظهار من الزوجة تجاه زوجها فإنه لا يقع ولا تترتب عليه كفارة، وإنما عليها الندم والاستغفار. وقد نص العلماء رحمهم الله على حرمة أن يطأ المظاهر زوجته قبل أن يخرج الكفارة، واختلفوا في دواعيه ومقدماته، كما أن الراجح في الظهار أنه يصح من كل زوجة ولا يدخل في ذلك الإماء. تابع أحكام الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: وقوع الظهار من كل زوجة فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة] أي: يصح الظهار إذا كان متعلقا بالزوجة. وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها. كذلك أيضا يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] ، فأثبت أن الظهار متعلق بالنساء. والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنت علي كأمي، أو: أنت علي كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يعزره ويؤدبه لهذا الخطاب. كذلك أيضا في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنت علي كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظهار بالنساء بقوله: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] ، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن. [النور:31] ، وآية الأحزاب في قوله تعالى: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك. [الأحزاب:50] ، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن) دل على أن ملك اليمين غير النساء. والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظهار لا يتعلق بها الطلاق. فصح دليل النظر والأثر على أن الظهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية. وبناء على ذلك يختص الظهار بالمرأة التي عقد عليها عقدا شرعيا، سواء أو قع الدخول أم لم يقع. وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وكلك أيضا للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن علي كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار. ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظهار متعلق بالزوجات، وبناء على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات. ويبقى السؤال لو قال لها: أمرك بيدك. ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمرك بيدك فقالت: طلقت نفسي فحينئذ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمرك بيدك فقالت: أنت علي كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق. ما يصح من أنواع الظهار قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الظهار معجلا ومعلقا بشرط] . شرع رحمه الله في صيغة الظهار، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي فإما أن يعجل وينجز، وإما أن يعلق. فالحالة الأولى: أن يكون الظهار منجزا، فإذا أنجز يقول لها: أنت علي كظهر أمي، فقد أنجز ولم يعلق ظهاره على شيء، فيقع الظهار. والدليل ظاهر الكتاب وظاهر السنة، فالأصل في الظهار أنه يقع منجزا، والإجماع منعقد على أن صيغة الظهار المنجزة والمعجلة واقعة إذا صدرت مستوفية للشروط المعتبرة. والحالة الثانية: أن يكون الظهار معلقا، والتعليق بشرط كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي إن خرجت من البيت. أو: أنت علي كظهر أمي إن كلمت فلانة أو ذهبت إلى كذا، فهذا كله معلق بشرط، فإذا وقع الشرط وقع الظهار، فلو قال لها: أنت علي كظهر أمي إن خرجت من البيت فخرجت وقع الظهار، فكما أن الطلاق يقع معلقا كذلك يقع الظهار معلقا، فإذا وقع الشرط حكم بثبوت الظهار، وجرت الأحكام المعتبرة عليه. قال رحمه الله: [فإذا وجد صار مظاهرا] . قوله: [فإذا وجد] يعني الشرط، وقوله: [صار] أي: الزوج، وقوله: [مظاهرا] لأنه فيما بينه وبين الله علق ظهاره على وجود شيء، ووجد ذلك الشيء، فلزمه ما التزمه فيما بينه وبين الله، وقد تقدم معنا بيان الأدلة على ثبوت الطلاق معلقا، فكما أن الطلاق يقع معلقا كذلك الظهار يقع معلقا. قال رحمه الله: [ومطلقا ومؤقتا] . أي: ويصح الظهار مطلقا ومؤقتا، يعني التقسيم في قوله: [معجلا ومعلقا بشرط] فالمطلق أن يقول لها: أنت علي كظهر أمي، فهذا مطلق، فلم يقل: في الليل، ولا: في النهار، ولا: في اليوم، ولا: غدا، فما علق ولا قيد. وقوله: [ويصح مقيدا ومعلقا] كأن يقول: أنت علي كظهر أمي هذا الشهر. أو: أنت علي كظهر أمي هذا الأسبوع، أو: أنت علي كظهر أمي هذا اليوم. فإذا جاء مقيدا -وهو المعلق بوقت معين- نقول له: إن امتنعت من قربانها وإتيانها طيلة هذا الوقت فلا شيء عليك، فكما أنه لم يقع وطء، ولا عزم على الوطء، فحينئذ إذا مضى الشهر حلت له وارتفع الظهار؛ لأنه جعل كونها محرمة عليه كحرمة الأم مؤقتا بوقت معين، وهذا الوقت المعين المحدد يتقيد به الحكم الشرعي بالظهار، فبين رحمه الله أن الظهار المقيد بوقت أو بزمان يتقيد بذلك الزمان، فإن مضى هذا الزمان كاملا وانتهى فإنه ينتهي الظهار بانتهائه. لكن لو أنه قال لها: أنت علي كظهر أمي شهر جمادى الأولى، أو: أنت علي كظهر أمي شهر رمضان، وأراد في رمضان أن يجامعها، وأن يعود إليها أو يمسها فإنه حينئذ تلزمه الكفارة، ما دام أنه قيد الظهار بشهر رمضان وأراد أن يعود وحصل منه العود في رمضان، لكن لو أنه سكن وصبر حتى انتهى رمضان يرتفع الحكم وتعود حلالا له؛ لأنه جعل ظهاره مقيدا بزمان فيفوت بفواته. قال رحمه الله: [فإن وطأ فيه كفر] . قوله: [فإن وطأ فيه] يعني في الزمان الذي علق به أو قيد. وقوله: [كفر] أي: لزمته كفارة الظهار؛ لأنه سيأتي أن كفارة الظهار لا تلزم إلا بالعود؛ لأن الله تعالى جعل العود شرطا في وجوب الكفارة، قال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] ، فجعل لزوم الرقبة ووجوبها على الزوج مقيدا بالعود، وهذا هو شرط الكفارة، وسيأتي إن شاء الله بيانه. وإذا ثبت هذا أنه شرط الكفارة فحينئذ لو قال لها: أنت علي كظهر أمي هذا الشهر، أو أنت علي كظهر أمي هذه الساعة، أو هذا اليوم، ومضى اليوم كاملا دون عود فلا كفارة. قال رحمه الله: [وإن فرغ الوقت زال الظهار] . قوله: [وإن فرغ الوقت] أي: الذي علق وقيد به، وقوله: [زال الظهار] أي: رجعت حلالا له، ولا تلزمه كفارة. ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير قال رحمه الله: [ويحرم قبل أن يكفر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها] . يحرم على الزوج إذا ظاهر من زوجته أن يطأها قبل أن يكفر بنص القرآن: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] ، فألزم الله الكفارة قبل حصول المسيس، وهو كناية عن الجماع. وقال بعض العلماء: يدخل في حكم الوطء مقدمات الوطء، ومن أهل العلم من خص الحكم بالوطء نفسه، والخلاف في قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] هل المراد بقوله تعالى: {أن يتماسا} [المجادلة:3] الجماع أم لا؟ لأن الله عبر بالمس عن الجماع فقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237] ، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] فيعبر بالمسيس عن الجماع. ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للقرآن: (إن الله يكني) . وإذا ثبت هذا فمذهب طائفة من العلماء أن قوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] المراد به: من قبل أن يقع الجماع. وحينئذ لم يحرموا مقدمات الجماع، فيحلون للرجل المظاهر من زوجته أن يستمتع بالتقبيل والمباشرة فيما دون الفرج، وقالوا: لا حرج عليه ولا بأس. والذين منعوا قالوا: إن قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] يراد به الوطء وفي حكم الوطء مقدماته؛ لأن ما منع من الوطء، يمنع من مقدماته كالإحرام؛ فإن الإحرام كما يمنع الوطء يمنع من مقدماته من المباشرة ونحوها، وكذلك الاعتكاف يمنع من الوطء ويمنع من مقدمات الوطء بالنسبة للصائم. فإذا ثبت هذا قالوا: إن الحكم يبقى على الجماع ومقدمات الجماع، فلا يجوز له أن يستمتع بالمرأة بما يدعوه إلى وطئها، والآية محتملة. إلا أن بعض العلماء رجح القول الذي اختاره المصنف من جهة قوله: أنت علي كظهر أمي، فقال: إنه قصد التحريم، بدليل أنه لو قال لها: أنت علي كأمي كان ظهارا، والأم لا يجوز تقبيلها، ولا يجوز الاستمتاع بها مما دون الفرج، وقد وصفها بهذا الوصف، فحرمها تحريما يشمل الجماع ويشمل مقدماته، فرد الأولون وقالوا: هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ لأنه ما سمي ظهارا إلا لقوله: أنت علي كظهر، والظهر كني به عن الركوب والجماع، فبناء على ذلك يختص بالجماع. وكلا القولين له وجهه، ومن قال بالدواعي يستدل بأن الشرع يحرم الوطء -كما ذكرنا- ويقصد من تحريمه تحريم كل ما يدعو إليه، ولأن ما يدعو إلى الشيء يغري بالشيء، وما يدعو سيوقع في الشيء. وبناء على ذلك قالوا: نحرم عليه الوطء ودواعيه، كما اختاره المصنف رحمه الله. وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر قال رحمه الله: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود] . هذه الجملة من فوائدها أن الرجل لو ظاهر من امرأته ثم توفي قبل أن يجامعها فلا كفارة عليه، ولا يلزم إخراج الكفارة من تركته والتكفير عنه، لكن لو أنه ظاهر منها ثم جامعها ثم توفي بعد جماعها لزمته الكفارة ووجبت عليه، وهذا معنى قوله: [في الذمة] ، فتلزمه في ذمته أثناء حياته وبعد مماته، وهذا مخرج على القاعدة المعروفة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم) ، وقد ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام، ومنها هذه المسألة، فالشخص لو فعل وارتكب ما يوجب التكفير ثم توفي مباشرة ثبتت في ذمته، ونزلت ذمة الميت منزلة ذمة الحي، ووجب إخراج الكفارة من ماله وتركته. فلا تلزم بالذمة إلا بالجماع، فلو أنه لم يجامع لم يتحقق العود. قال رحمه الله: [ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه] . إذا أراد الرجل أن يعود في ظهاره، وأراد أن يطأ المرأة فلا يجوز له أن يطأها حتى يقع منه التكفير، وبناء على ذلك قالوا: إذا وجد العزم -أي: عزم على جماعها وإتيانها- يكفر وهذا مبني على حديث الترمذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمظاهر: (ولا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) ، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يكفر قبل أن يجامع، فأخذ العلماء من هذا دليلا على أنه يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل أن يقع الجماع. حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره] . بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظهار، خلافا لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهبا للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية. والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل. فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة. فلو أنه قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنت علي كظهر أمي. أنت علي كظهر أمي. فكرر ثلاثا في مجلس واحد، أو قال لها: أنت علي كظهر أمي. ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك علي كظهر أمي. ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي علي كظهر أمي. فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكدا أو مخبرا أو مؤسسا، كأن يقول: أنت علي كظهر أمي. أنت علي كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظهار فكرره ثلاثا أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيدا في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنت علي كظهر أمي. فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنت علي كظهر أمي تأكيدا لما قاله لها في الخلوة. وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواء أكان مؤكدا أم كان مؤسسا أم كان مخبرا، وهذه صورة. والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات) ، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة. وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنت علي كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنت علي كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية. وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء. فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير. قوله: [من واحدة] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة. وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة] . لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن علي كظهر أمي. فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن علي كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن. وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن علي كظهر أمي. وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة. فجعله ظهارا واحدا. وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع. وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن علي كظهر أمي فإنه يتعدد الظهار بتعدد المحل. وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع. والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخول بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولا بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية. فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها. وبناء على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول. وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها. قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات] هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها. فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعا: أنتن علي كظهر أمي، ويخاطبهن جميعا بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها. الأسئلة حكم من طلق زوجته بعد ظهار منها ثم مراجعة لها السؤال إذا ظاهر الزوج من زوجته، ثم طلقها طلقة واحدة، ثم راجعها بعد انتهاء عدتها بمهر جديد هل يعتد بالظهار في هذه الحالة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالذي اختاره طائفة من العلماء أن طلاقها وخروجها من العصمة لا يهدم الظهار، وكذلك أيضا دخول الطلاق ولو كان موجبا للبينونة، ولو أنها نكحت بعده فإنه يبقى ظهاره لها، فلو عادت إليه يعود الظهار، ولا تحل له إلا بعد أن يكفر؛ لأنه قد تعلقت ذمته بذلك الظهار وثبت له حكمه شرعا، فلزمه التكفير قبل الجماع. والله تعالى أعلم. حكم الفصل بين لفظ الظهار والتعليق السؤال لو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وأضاف بعد فترة يسيرة قوله: هذا الشهر أو هذا اليوم، فهل الظهار يتقيد الظهار حينئذ؟ الجواب هذه المسألة فصلنا في أحكامها، وهي مسألة التعليق في الطلاق، وبينا أن التعليق عند العلماء إذا حكموا بصحته يشترطون أن تكون عنده نية قبل أن يذكر التعليق، فلو كان عند ابتدائه بالظهار لم يكن في نيته التقييد، وإنما قصد ظهارا تاما، فقال: أنت علي كظهر أمي. ثم بدا له أن يعلق فقال: اليوم. أو: الشهر لم يصح؛ لأنهم اشترطوا أن تكون نيته للتعليق قبل وقوع الظهار منه، أما إذا وقع الظهار فقد وقع منه مطلقا بدون تعليق. وبناء على ذلك لا بد وأن يكون ناويا للتعليق، وأن يكون التعليق متصلا باللفظ، فيقول لها: أنت علي كظهر أمي هذا الشهر، أنت علي كظهر أمي هذا اليوم فإن حصل إخلال بهذين الشرطين لم يقع تعليقه معتبرا. والله تعالى أعلم. حكم ظهار الزوجة من زوجها إذا أسند الأمر إليها السؤال لو قال الزوج لزوجته: الأمر إليك فقالت: أنا عليك كظهر أمك، فهل يقع الظهار؟ الجواب إذا أسند إليها الأمر فظاهرت فإنه لا يقع الظهار منها؛ لظاهر الآية الكريمة. والله تعالى أعلم. حكم زكاة الحلي السؤال هل ذهب الهدية عليه زكاة، وبعضه قد لا يلبس إلا مرة؟ الجواب الذهب فيه الزكاة إذا كان حليا أو غير حلي، والدليل على ذلك عموم النصوص، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم نص يدل على استثناء الذهب الملبوس للحلي من الأصول الدالة على وجوب الزكاة، وأما حديث: (ليس في الحلي زكاة) فهذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية وهو ضعيف الرواية، والعمل على عدم ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن الحلي -سواء وكان ملبوسا أم غير ملبوس، لبس أكثر الحول أم بعض الحول -الزكاة واجبة فيه؛ لأن عموم النصوص دال على ذلك، وسواء أكان هدية أم اشترته المرأة بنفسها، فلو أنها أهدي إليها ذهب، وكان هذا الذهب الذي أهدي إليها قد بلغ النصاب فإنها تعتبر حول هذا الذهب من يوم القبض؛ لأن الهدية لا تملك إلا بالقبض، فإذا حكم بدخوله إلى ملكها حكم بوجوب الزكاة عليها، فتستقبل حولا كاملا، فإذا مر الحول وهو عندها فإنه يجب عليها أن تزكيه إذا كان بالغا النصاب. والله تعالى أعلم. حكم صلاة المرأة الفريضة والمؤذن يؤذن السؤال هل يجوز للمرأة أن تصلي الفريضة والمؤذن يؤذن، أم تنتظر حتى ينتهي الأذان؟ الجواب يجوز لها ذلك؛ لأنه إذا دخل الوقت جازت الصلاة، لكن الأفضل والأكمل والسنة أنها تردد مع المؤذن حتى تحل لها الشفاعة حينما تسأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة، وهذه هي السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي) ، فأي مؤمنة تفرط في هذا الفضل العظيم؟ وأي مؤمن يفرط في هذا الفضل العظيم. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام الذي وعده، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تامة كاملة إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (460) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [4] الكفارات هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتختلف بحسب اختلاف موجباتها، وتعتبر كفارة الظهار من الكفارات المغلظة التي نص عليها الكتاب والسنة، وزادها العلماء توضيحا وتفصيلا وجعلوا لها شروطا وضوابط حتى لا يتساهل الناس في أدائها ومراعاة حق الله المتعلق بها. كفارة الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الأثر المترتب على وجود الظهار من وجوب الكفارة على الزوج إذا أراد أن يعود، وقد بينا أنه لا يحل للزوج أن يطأ زوجته حتى يكفر، وذلك بنص كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم. ونظرا لذلك يرد السؤال ما هي الكفارة المترتبة على الظهار؟ فبين الله تبارك وتعالى هذه الكفارة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الكفارة وبعض مسائلها. قال رحمه الله: [وكفارته عتق رقبة] . الضمير في: [وكفارته] عائد إلى الظهار، والكفارة: مأخوذة من الكفر، وأصل الكفر في لغة العرب: الستر والتغطية، يقال: كفر الشيء: إذا ستره وغطاه عن الأنظار، ومنه سمي المزارع كافرا؛ لأنه يكفر البذر، بمعنى أنه إذا أراد الزراعة فإنه ينثر البذر ثم يغطيه عن الطير، فسمي كافرا من هذا الوجه. قال الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها .. أي: ستر النجوم الغمام. وسمي الكافر كافرا؛ لأنه كفر نعمة الله عليه فجحدها، فكأنه غطى ما أنعم الله به عليه، وادعى أنه ليس لله عليه نعمة، نسأل الله السلامة والعافية. كفارة الظهار من الكفارات المغلظة والكفارات: هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتأتي على أنواع وأحوال مختلفة، فتختلف بحسب اختلاف موجباتها، ولذلك تنقسم الكفارات إلى كفارات مغلظة وكفارات مخففة. وكفارة الظهار تعتبر عند العلماء رحمهم الله من الكفارات المغلظة، وهي الكفارات العظيمة التي أوجب الشرع فيها ما لا يوجبه في غيرها تعظيما للذنب أو للخطيئة أو التقصير الذي ارتكبه المكلف، وهذا النوع -وهو الكفارة المغلظة- منه ما يتعلق بالقتل، وهو -كما سيأتينا إن شاء الله- قتل الخطأ إجماعا، واختلف في قتل العمد، وكذلك أيضا كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك كفارة الظهار. والكفارة المخففة من أمثلتها: كفارة اليمين، والنذر، وكفارة الفدية في الحج ونحوها، والكفارة تارة ينص عليها الكتاب وتبينها السنة وتفصلها، وتارة تأتي في السنة ولا ينص عليها الكتاب. فالكفارة التي نص عليها الكتاب وفصلتها السنة وبينتها منها: كفارة الظهار، وكفارة الفدية في الحج؛ فإن الشارع سبحانه نص عليها في كتابه، وجاءت السنة ببيانها، قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] ، فهذا أصل للكفارة، فمن اكتسب محظورا بحلق الشعر أو نتفه، أو غطى رأسه، أو لبس المخيط فعليه الكفارة، ثم فصلتها السنة، فالله عز وجل قال: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ، لكن لم يفصل كم يوما يصومه المفتدي، وكذلك أيضا النسك الذي يذبحه لم يبين أنه من الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الإطعام لم يبين قدره، فجاءت السنة بالبيان، فهذا نوع من الكفارات. النوع الثاني: ما بينته السنة ولم يرد في القرآن نص عليه، وإنما ورد في القرآن بيان حرمة الفعل الذي يوجب الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، فقد نهى عنه القرآن ثم جاءت السنة وبينت ما هو الواجب، وبينت الكفارة اللازمة على المجامع في نهار رمضان، فليس في القرآن نص على إيجاب الكفارة على المجامع في نهار رمضان. فهذا نوع من الكفارات المغلظة وبينته السنة ولم يبينه القرآن، وهذا مما يدل على أن السنة تأتي بأمر زائد عما في القرآن، خلافا لمن يقول: إن السنة -فقط- بيان لمجمل القرآن وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك مما ذكروه، وعلى كل حال فكفارة الظهار بينها الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في قصة المظاهر من امرأة. عتق الرقبة عن الظهار قال المصنف رحمه الله: [كفارته عتق رقبة] . سيأتي -إن شاء الله- أن هذه الرقبة التي تجب على المظاهر ينبغي أن تتوفر فيها الشروط المعتبرة للحكم بصحتها أو بإجزائها في العتق، والأصل في إيجاب العتق على المظاهر قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} [المجادلة:3] ،فقوله تعالى: (فتحرير رقبة) أي: عتق رقبة فالتحرير للرقبة المراد به أنه يفكها من قيد العبودية فيعتقها لله عز وجل. وكفارة الظهار ترتيبية، والكفارات منها ما هو مرتب ومنها ما هو مخير فيه، فتارة يأمرك الشرع بكفارة ويجعلك مخيرا تختار فيها إحدى ثلاث خصال، أو إحدى خصلتين أو أكثر، وتارة يلزمك ويقول لك: كفر بكذا، فإن عجزت فبكذا، وإن عجزت فبكذا. وتارة يجمع بين الأمرين. فالكفارة التخييرية مثل كفارة الفدية، كقوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] . والكفارة المرتبة مثل كفارة الظهار، فهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فهي مرتبة لا يجزئ فيها الثاني مع القدرة على الأول، ولا يجزئ الثالث مع القدرة على الثاني. وأما الذي جمع التخيير والترتيب فكفارة اليمين، فإن الله تعالى أوجب فيها عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهذا تخيير، فإن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أن أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، ثم بعد ذلك قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم} [المائدة:89] ، فجاء بالترتيب عقب التخيير، فالتخيير في الثلاث الخصال الأول، ثم جاء الترتيب عقب ذلك. فهنا الكفارة -كفارة الظهار- مرتبة، فهي من النوع الذي أوجبه الشرع على وجه الترتيب، وبناء على ذلك لابد من تحصيل هذا الشرط، أعني أنه لا ينتقل إلى خصلة ما دام أن الشرع قد اشترط غيرها، حتى يتحقق شرط جواز الانتقال إلى غيرها. والرقبة في الكفارة يشترط ملكيتها، ثم السلامة من العيوب، وسيأتي تفصيل هذين الشرطين المعتبرين للحكم بصحة العتق. ولما قال [عتق رقبة] فهم منه أنه لا يصح عتق ما لا يوصف بكونه رقبة، والذي لا يوصف لا يستحق عتقه، كما لو أعتق جنين أمة، لأن الجنين في بطن الأمة صحيح أنه ملك للسيد، ولكن لا يوصف بكونه رقبة إلا إذا خرج حيا، فحينئذ يصح، وأما قبل ذلك فلو أعتقه لم يصح. وللعلماء قول آخر، فقالوا: إنه لو كان جنينا في بطن أمه فإنه قد يكون معيبا عيبا يوجب بطلان عتقه. كما سيأتي إن شاء الله في العيوب المؤثرة. صيام شهرين متتابعين عن الظهار قال رحمه الله: [فإن لم يجد صام شهرين متتابعين] . أي: فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين وهذا الترتيب هو الذي ذكرناه، فإذا كان قادرا على عتق الرقبة، فإنه لا يصح أن يصوم أو ينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين متتابعين، وعتق الرقبة يستقر بالملكية والمالك إما أن يكون مالكا للرقبة، أو يكون في حكم المالك، وفي حكم المالك من عنده قدرة أن يشتري الرقبة ويعتقها، فإن كان عاجزا أو كانت الرقبة غير موجودة -كما سيأتي إن شاء الله- فإنه ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4] ، فجعل الله عز وجل شرط الانتقال إلى الخصلة الثانية في كفارة الظهار -وهي الصيام- إذا كان المظاهر غير قادر على الرقبة -أي: غير واجد لها-، وهذا يدل على أن صيام الشهرين المتتابعين يجب في حق المظاهر إذا كان عاجزا عن الرقبة -كما ذكرنا-، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وظاهر السنة يدل عليه، كما في قصة المظاهر في حديث خولة رضي الله عنها وأرضاها، وقد سبق بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعتق الرقبة، فلما أخبره أنه لا يجدها أمره بصيام شهرين متتابعين. وصيامه الشهرين المتتابعين إما أن يبدأ فيه من أول الشهر، فحينئذ يعتد بالشهر القمري ناقصا أو كاملا، فلو أنه ابتدأ في أول شهر محرم وكان شهر محرم ناقصا أجزأه، فممكن -بناء على هذا- أن يصوم تسعة وخمسين يوما ويجزئه، ويمكن أن يصوم ثمانية وخمسين يوما إذا صام من أول الشهر، وهذا إنما يكون إذا ثبت بالرؤية أن الشهر ناقص، وهي السنة، وهذا يدل على أن ترائي الهلال أمر مطلوب من المسلمين، وأنه ينبغي عليهم أن يحيوا هذه السنة؛ لأنها تترتب عليها أحكام شرعية كثيرة، وأما العمل بالحساب الفلكي فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) ، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمهم الله جميعا، فمذهبهم أنه لا يعتد بالحساب الفلكي في إثبات الشهر وخروجه، وأن العبرة بالرؤية إن رؤي الهلال، وإلا حكم بتمام الشهر، كما سبق بيان هذه المسألة وتفصيل القول فيها في مسائل رؤية هلال رمضان. فإذا ابتدأ من أول الشهر اعتد به ناقصا أو كاملا، وإذا ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوما متتابعة، فينتقل إلى حساب الشهرين المتتابعين بالعدد على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أي: يجوز أن يبدأ بمنتصف الشهر، ويجوز أن يبدأ من أثناء الشهر، وأنه لا يشترط أن يبدأ من أول الشهر. إطعام ستين مسكينا عن الظهار قوله رحمه الله: [فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا] . أي: فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين فإنه يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا؛ لقوله تعالى: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله} [المجادلة:4] ، فبين سبحانه وتعالى أنه يجب على المظاهر إن عجز، أو لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين أن يطعم ستين مسكينا، وتقدم معنا بيان إطعام ستين مسكينا، ووصف المسكين وضابطه في كتاب الزكاة، وصفة الإطعام، وستأتي الإشارة إلى بعض المسائل المتعلقة بالإطعام، فهنا المصنف يذكر الكفارة إجمالا، وسيأتي إن شاء الله بتفصيل أحكامها، كما هي عادة العلماء رحمهم الله، حيث يجملون ثم بعد ذلك يفصلون. الشروط المتعلقة بمن أراد عتق الرقبة اشتراط التملك في الرقبة قال رحمه الله: [ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها] . قوله: [ولا تلزم] أي: لا يجب على المظاهر أن يعتق الرقبة إلا إذا كان مالكا لها، كأن يكون اشترى رقبة صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرا كانت أو أنثى، فإنه حينئذ انتقلت ملكيتها إليه، فيلزمه أن يعتق هذه الرقبة، ولا نلزمه بالعتق إلا إذا كانت الرقبة ملكا له، أو كان قادرا على شرائها. فهما أمران إذا تحقق أحدهما عمل به، فإما أن تكون الرقبة عنده وفي ملكيته، كأن يملكها بإرث، أو يملكها بشراء، أو يملكها بهبة صحيحة، كأن يقول له أخوه: وهبتك جاريتي فلانة، فقال: قبلت. أو قال: وهبتك عبدي فلانا. فقال: قبلته. فدخل في ملكه، ثم قال: هو حر لله عز وجل. وقصد بذلك عتقه كفارة عن الظهار. قوله: [أو أمكنه ذلك بثمن مثلها] أي: يمكنه أن يشتري الرقبة، أو أن يدخلها بشرائها بثمن مثلها والرقاب إذا بيعت فإما أن تباع بثمن المثل، وإما أن تباع فيبالغ في قيمتها ويزاد عن قيمتها، ومراد المصنف هنا أننا نلزم المظاهر أن يشتري الرقبة بمثل ثمنها، لكن إذا وجد رقبة واحدة وطلب صاحب الرقبة فيها مائة ألف، والرقبة تباع بعشرة آلاف ريال، فحينئذ ليس هذا بثمن المثل، فلو أنه لم يجد إلا هذه الرقبة فإننا لا نظلمه بها؛ لأنها فوق ثمن المثل، وفيها إجحاف به، وينتقل إلى عوضها إذا لم يجد بديلا عن هذه الرقبة بثمن المثل. اشتراط الكفاية وشراء الرقبة بما فضل عن الحاجة قوله رحمه الله: [فاضلا عن كفايته دائما وكفاية من يمونه] . قوله: [فاضلا] أي: هذا المال أو الثمن الذي يشتري به المظاهر الرقبة لابد أن يكون زائدا عن حاجته الضرورية التي يحتاجها من طعام وشراب، وكذلك أيضا مئونة من تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد. مثاله: لو كان عنده عشرة آلاف ريال، وظاهر من امرأته، وقيمة الرقبة ستة آلاف ريال، والأربعة آلاف ريال تكفيه لمئونته ومئونة أولاده وذريته ومن تلزمه نفقتهم، فحينئذ يجب عليه شراء الرقبة. لكن لو كانت قيمة الرقبة خمسة آلاف ريال، والنفقة التي تجب عليه لأولاده وذريته وأهله ولنفسه تصل إلى ستة آلاف ريال، فحينئذ أصبح عنده عجز فلا يلزم، فلابد أن تكون قيمة الرقبة زائدة عن مئونته ومئونة من تلزمه مئونتهم من أولاده وأهله، وتقدمت معنا هذه المسألة في الزكاة، وكذلك في زكاة الفطر، وذكرنا مسألة الزائد عن النفقة المحتاج إليها، وكلام العلماء رحمهم الله في ذلك. قال رحمه الله: [وعما يحتاجه من مسكن] . قوله: [وعما يحتاجه] خرج به الذي لا يحتاجه، فلو كان الشخص عنده مسكن وظاهر من امرأته، وقلنا له: اشتر الرقبة فوجدنا أن الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ومسكنه يحتاج إليه له ولأولاده فإنا نقول له: لا يلزم أن تبيع المسكن؛ لأن المسكن محتاج إليه، ولذلك لا يلزم ببيع مسكنه، إلا إذا كان مسكنه فيه زيادة، كأن يستطيع أن يبيع هذه العمارة التي قيمتها -مثلا- عشرة آلاف ريال، والرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ويستطيع أن يشتري سكنا يختص به بخمسة آلاف ريال، فنقول له: بع السكن الذي بعشرة آلاف ريال، واشتر الرقبة بخمسة آلاف ريال، واشتر السكن الذي يناسبك بخمسة آلاف ريال، وهذا إذا كان عنده زيادة وفضل في السكن، لكن إذا كان السكن على قدره وقدر أولاده، ولا يستطيع -إذا باع السكن- أن يجد قيمة الرقبة فاضلة عن سكن يجده له ولأولاده يليق بمثله فإنه لا يلزم بالبيع. قوله: [وخادم] . إذا كان يحتاج للخادم مثل الشيخ الكبير، والزمن، والمقعد، والمريض، والمشلول، ففي هذه الحالة لو كانت أجرة الخادم يستطيع أن يسقطها ثم يشتري بها رقبة نقول له: لا يلزمك ذلك، إلا إذا كنت مستغنيا عن هذا الخادم، فلو كان الخادم على سبيل الكمال فإنه حينئذ يلزمه أن يصرفه ويشتري بأجرته الرقبة. كذلك أيضا -على القول بأن الخادم تقدر نفقته على ما ذكره المصنف رحمه الله- لو كان الشخص الذي ظاهر عنده سكن وعنده خادم، والخادم له أجرة شهرية، والمال الذي عنده هو عشرة آلاف ريال، منها خمسة آلاف ريال على طعامه وشرابه وأجرة خادمه، ويمكن -لو صرف الخادم- أن يبقى شيء، فنقول: لو كان الخادم ضروريا فلا يصرفه ولا تقدر له نفقة، وأما إذا كان غير ضروري فإنه يحتسب الفضل، أي: يلغي قيمة الخادم من نفقته ومئونته، ويضمها إلى قيمة الرقبة. قوله: [ومركوب] . أي: إذا احتاج إلى المركوب، مثل الشخص الذي معه عمل ويذهب ويأتي على مركوب، لكن إذا كان لا يحتاج إلى المركوب، ويستطيع أن يعيش بدون المركوب ويقضي حوائجه -مثل أصحاب القرى وأصحاب البادية، حيث يسهل عليهم التنقل في أماكن قريبة- وكان عنده مركوب فاضل عن حاجته، فحينئذ يقال: إن هذا المركوب لا يحتسب بالنفقة الضرورية، لكن لو كان يحتاج إلى هذا المركوب كبير سن، أو من عنده عمل لابد له فيه من المركوب، فالمركوب في هذه الحالة يتعين. وكل هذا الكلام الذي ذكره المصنف رحمه الله استثناء من أصل قرره العلماء رحمهم الله، وحكى الإجماع عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وغيره، وهو أن الواجب إنفاقه في شراء الرقبة ما فضل عن الحاجة والمئونة اللازمة، فلما قالوا: بالإجماع لا نلزمه إلا بما فضل عن حاجته الضرورية يرد السؤال ما هي الأمور الضرورية؟ وما هي الأمور التكميلية الزائدة عن الحاجية والضرورية؟ و الجواب ان من ذلك مئونة لازمة في طعامه وشرابه، ومئونة لازمة في لباسه، ومئونة لازمة في مركوبه، ومئونة لازمة في خدمه، هذه كلها ذكر المصنف بعضها، وسيذكر بقيتها كلها مندرجة تحت قوله: المئونة اللازمة، والمئونة اللازمة: هي التي يحتاجها الإنسان. وهذه المسألة أيضا لا يستفاد منها في الظهار فحسب، بل يستفاد منها حتى في مسائل أخرى، فقد تجب الزكاة على شخص، وقد يجب الحق على شخص، فحينئذ ينظر في المئونة اللازمة، وينظر فيما هو غير لازم -أي: زائد عن المئونة اللازمة- حتى نلزمه ببيعه ورد الحقوق إلى أصحابها، وقد تقدم معنا هذا في باب التفليس، وذكرنا كيف يبيع القاضي على المفلس الأشياء التي ليست بضرورية، ولا يحتاجها الشخص لنفسه ولمن تلزمه مئونته. قوله: [وعرض بذلة] . كالفراش والأواني، فلو أن شخصا ظاهر من امرأته، وقال: الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنا ليس عندي نقود، وليس عندي رقبة، وأريد أن أنتقل إلى صيام شهرين متتابعين فقل له: هل عندك مسكن؟ فإن قال: عندي مسكن على قدري. وقدر حاجة أولادي ومن يلزمني إيواؤهم فهذا ليس فيه إشكال. فإذا فتش عن متاعه في المسكن فوجد أنه قد فرش سكنه بالكماليات، مع أن هذه الكماليات يمكن بيع جزء منها تتوفر منه قيمة الرقبة، كما لو كان بيته يمكن أن يؤثث بألفين فأثثه بعشرة آلاف ريال نقول له: بع الأثاث واستفضل منه قيمة الرقبة، ثم اشتر أثاثا على قدر حالك؛ لأنه لا يمكن في شريعة الله عز وجل أن يلزمه حق لله عز وجل -الرقبة-، ويجلس غنيا قادرا تحت ستار التكميليات التي ليست بحاجيات ولا ضروريات، ويضيع حق الله عز وجل. ومن هنا قرر العلماء مثل هذه المسائل في كتاب الظهار، وفي الخصومات، فلو خاصم شخص شخصا في حقه وقال: ما عندي شيء فإننا ننظر إلى الشيء الضروري حتى نقول: ما عنده شيء، أما أن تجده ثريا في ملبسه ومركبه، ثم يماطل في حقوق الناس، أو في حق الله عز وجل ككفارة الظهار، ويقول: هذا لازم لي في مئونتي فإننا نقول: لا. إنما يأخذ ما فضل عن حاجتك الضرورية، والزائد عن ذلك يجب صرفه للوفاء بحقوق الله، وبحقوق الآخرين. قوله: [وثياب تجمل] أي: الشيء الذي يتجمل به بالمعروف، لكن هذا يحتاج إلى نظر، وليس على كل حال، وهذه المسائل كلها يرجع فيها إلى المفتي، والذي يستطيع أن يقدر حاجته من الثياب بالمعروف؛ لأنها محتكم فيها إلى أعراف الناس. فالمرأة -مثلا- تتجمل بثياب، فلو فرضنا أنها تلبس ثيابا قيمتها عشرة آلاف ريال، ويمكنها أن تشتري ثيابا بألفين، فقالت: ما عندي شيء، فإنه تجب عليها الرقبة، ولو قالت: ما عندي إلا هذا الثوب -الذي هو الفستان الذي تلبسه-، والفستان بعشرة آلاف ريال، فلا يقول لها المفتي مباشرة: انتقلي إلى صيام شهرين متتابعين ولا يجزيها ذلك، ما دام أن قيمة الثوب فيها زيادة عن الحاجة الضرورية، وإنما يقال لها: بيعيه ثم اشتري قدر الكفاية، والزائد من ذلك قيمة للرقبة التي هي حق الله عز وجل، فحينئذ لا يرخص لها. وانظر إلى دقة العلماء والأئمة والمفتين، فإنهم لا يقبلون من الناس دعواهم هكذا، وهذا في الحقيقة هو الفرق بين فقه المتأخرين والمتقدمين الذين يحتاطون في حقوق الله عز وجل، مع أن حقوق الله فيها الكثير من الأمور المبنية على المسامحة، لكنهم يدققون ويشددون في المسائل، وكل ذلك تضييقا للتلاعب بحقوق الله عز وجل؛ لأن عتق الرقبة حق لله في كفارة الظهار. قوله: [ومال يقوم كسبه بمئونته] مثال هذا: لو كان عنده مزرعة، وهذه المزرعة فيها قوته وقوت أولاده، وعليه رقبة كفارة ظهار، فقلنا له: أعتق الرقبة، قال: ما أجد. قلنا: عندك مزرعة. قال: المزرعة هذه قوتي وقوت أولادي. فما عنده سيولة، وما عنده إلا هذه المزرعة، ولا يستطيع أن يستغني عن المزرعة ببيعها وشراء غيرها مما يدر عليه قوته وقوت أولاده، فنقول: المزرعة تبقى، لكن هناك في المزرعة أشياء يتوقف القوت والمئونة عليها، مثل مكينة الزراعة التي قد تكون قيمتها كبيرة، فلا نلزمه ببيعها؛ لأنها لو بيعت لما استطاع أن يأمن بقاء المزرعة حتى يجد مئونة من تلزمه نفقته من أهله وولده. وهذا راجع إلى أن لازم الشيء كالشيء، فإذا كان الشيء أذنت الشريعة أنه يخرج من حد الإلزام بعتق الرقبة -كما مر معنا- فهذا الشيء الذي يحتاجه للمئونة لا يحكم فيه ولا يلزم ببيعه، ولا يلزم بالتصرف فيه، فإذا كانت هذه الأشياء يحتاج إليها للمئونة فكل ما يحتاجه لبقاء ما يقوم بنفقته ونفقة أولاده لا يلزم ببيعه والتصرف فيه. قوله: [وكتب علم] . هذا محل نظر؛ لأن كتب العلم تباع، وإذا كانت تكفي لشراء الرقبة فلا رخصة في بقائها، بل يبيعها ويلزم ببيعها؛ لأن كتب العلم لها بديل عن طريق سؤال العلماء واستفتائهم، فلو فرضنا أن عنده مكتبة علم قيمتها عشرة آلاف ريال ولزمته الرقبة، والرقبة قيمتها خمسة آلاف، أو ستة آلاف، فنقول له: بع المكتبة، واشتر الرقبة وأعتقها. قوله: [ووفاء دين] . كذلك أيضا إذا كان عليه دين، فإذا وجبت عليه كفارة الظهار وقلنا له: أعتق رقبة فقال: عندي عشرة آلاف ريال، وفلان من الناس له دين علي عشرة آلاف ريال، أو فلان من الناس له دين علي ثمانية آلاف ريال، والرقبة قيمتها أربعة آلاف ريال، فتبقى ألفان، فإذا كان عليه دين لا يمكن معه شراء الرقبة، فإنه في هذه الحالة تسقط عنه الرقبة وهذا مبني على القاعدة: (إذا ازدحم حق الله وحق المخلوقين قدم حق المخلوقين على حق الله عز وجل) ؛ لأن الله يسامح بحقه، والمخلوق لا يسامح، وهذا له شواهد كثيرة في الكتاب والسنة كما تقدم معنا غير مرة، ويعمل على هذا الأصل في أبواب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبينا كلام العلماء رحمهم الله في هذه القاعدة. الشروط المتعلقة بالرقبة المعتقة في الكفارة اشتراط الإيمان في الرقبة قال رحمه الله: [ولا يجزي في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة] . من أعتق الرقبة فإنه يشترط لصحة العتق في إجزاء الكفارات الواجبة أن تكون مؤمنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92] ، فاشترط الله عز وجل في تحرير الرقبة الإيمان، والقاعدة: (المطلق محمول على المقيد) ، وكتاب الله يفسر بعضه بعضا، ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة: يجب في الرقبة التي تعتق في الظهار أن تكون مؤمنة، والإطلاق في آية المجادلة مقيد بما ورد في آية النساء من اشتراط الإيمان في الرقبة. فهذا دليلهم من الكتاب. أما دليلهم من السنة على اشتراط كونها مؤمنة فحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه، عند أبي داود والترمذي -وهو حديث صحيح-: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني صككت جارية صكة ندمت عليها، وأحب أن أعتقها -يعني أنه ضربها ولطمها على وجهها، فندم على ذلك، فأحب أن يعتقها-. فقال عليه الصلاة والسلام: ائتني بها، فلما جيء بالجارية قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) ، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة) ، فجملة: (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، ويستخدمها عليه الصلاة والسلام كثيرا، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة من الملبين) أي: أمرتكم بهذا الأمر؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا، أي: السبب في منعكم من هذا أنه في حكم المحرم؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) ، أي: ما أمرتكم بغسلها ثلاثا إلا لمكان احتمال النجاسة؛ لقوله: (فإن أحدكم لا يدري أن باتت يده) . فهذه جملة تنبه على العلة في أمره بالعتق (أعتقها؛ فإنها مؤمنة) أي: ما أمرتك بعتقها إلا لأنها مؤمنة، فكان مفهوم ذلك أنها لو لم تكن مؤمنة لما أمرتك بعتقها. ويستنبط من هذا أن الكافر لا يعتق، وهذا صحيح؛ لأن الكافر ضرب الرق عليه؛ لأنه لما كفر بالله وحارب دين الله عز وجل، جعله الله في مقام البهيمة بل أضل كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان:44] ، ففضل الله الآدمي على الحيوان بالعقل، فإذا كفر نعمة الله عز وجل عليه بالعقل، وكفر بالله عز وجل نزل عن الآدمية إلى البهيمة، فيباع ويشترى؛ لأنه كافر. ولذلك لا يختص الرق بطائفة، ولا يختص بلون، ولا يختص بجنس، وإنما هو في كل من كفر بالله عز وجل وألحد كائنا من كان؛ لأن الحكم فيه عام، والعلة فيه مبنية على الكفر، وإلا فكيف تقاتل الشريعة من كفر بالله عز وجل وتضرب عليه الرق، ثم بعد ذلك بكل سهولة يعتق، ويصير حرا كافرا دون أن يسلم، فهذا لا يتفق مع الشرع أبدا، ولذلك لما أراد معاوية أن يعتقها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها) ، فلما جيء بها اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحنها هل هي مؤمنة أو غير مؤمنة، وهذا يدل على أنه لا يمكن أن الشرع يقول: اضربوا الرق عليه بالكفر، ثم يقول: أعتقوهم وهم كفار، فهذا أشبه بفوات المقاصد التي من أجلها ضرب الرق. ولذلك قالوا: من الناس من يسلم بالسنان، ومنهم من يسلم بالحجة والبرهان، ومنهم من يسلم بالنعمة والإحسان، فالكافر حينما يجابه المسلمين ويرى قوة الإسلام قد لا يكفيه ذلك لسلم، فإذا عاش بين المسلمين ورأى أخلاقهم، ورأى فضل الإحسان، ورأى الأدب دعاه ذلك إلى الإسلام، ولذلك ضرب عليه الرق حتى يكون وسيلة لإسلامه وإيمانه، وهذا كله تنزيل من حكيم حميد، فما من أمر شرعه الله إلا وتجد وراءه من الحكم الشيء الكثير. فإذا كان الكافر يعتق على كفره فات المقصود من ضرب الرق عليه، لذلك فإن مذهب جمهور العلماء -وهو أصح القولين في هذه المسألة- أن الكافر لا يعتق، وأنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في الكفارات عموما، فلا يجزئ في كفارة اليمين إلا مؤمنة، فلو أعتق عبده الكافر فإنه لا يجزيه عن كفارة يمينه، ولا يجزئ في كفارة الظهار، ولا كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا كفارة القتل إلا أن تكون مؤمنة، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله. فإذا كان الرقيق مؤمنا، فلا إشكال، سواء أكان ذكرا أم أنثى، لكن الإشكال لو أنه أراد أن يعتق في كفارة قتل صبيا صغيرا، وهذا يقع، فيأتي شخص يريد أن يعتق في كفارة قتل فلا يجد إلا طفلا، فهل يجزيه ذلك؟ و الجواب ينظر في والد الطفل، فقيل: إنه يتبع خير الوالدين دينا، فإن كان أحدهما مسلما أبوه أو أمه لحقه، وحكم بأنه مسلم. وهذا مبني على القاعدة التي ذكرها العلماء، وأشار إليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام، تقول القاعدة: (التقدير تنزيل المعدوم بمنزلة الموجود، والموجود بمنزلة المعدوم) ، فالتقدير في الشريعة أما أن تنزل المعدوم بمنزلة الموجود أو تنزل الموجود بمنزلة المعدوم. فالصبي لم يشهد ألا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، ولكن يعامل معاملة أحسن والديه دينا من باب التقدير، فيقدر فيه الإسلام، كأطفال المسلمين قدر فيهم الإسلام مع أنهم لم يسلموا، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ، فمن دقة العلماء جعلوا الأولاد تبعا للوالدين؛ لأنه قال: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه) ، وهذا مسلك دقيق مبني على أن الغالب أن الوالدين سيجران الولد إلى دينهما، وإذا كان الوالدان مختلفين في الدين نظر إلى خيرهما؛ لأن الولد إذا اختلف والداه نظر إلى أيهما أقرب دينا، فهذا حاصل ما ذكر في هذه المسألة، فإذا كان صبيا دون البلوغ فإنه يحكم بكونه تبعا لخير والديه دينا. اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة قال رحمه الله: [سليمة من عيب يضر بالعمل ضررا بينا] . أي: يشترط في الرقبة أن تكون سليمة من العيب الذي يضر بالعمل ضررا بينا، والعيب في لغة العرب: النقص، يقال: عابه: إذا انتقصه. وقد تقدم معنا في البيوع في خيار العيب أن العيب: نقصان المالية في الشيء نقصانا مؤثرا، والعيب في الرقاب ينقسم إلى قسمين: عيب النفس، وعيب الذات. فعيب النفس: أن يكون به مرض يؤثر في أخلاقه ويؤثر في نفسه، وجسده كامل وذاته كاملة، مثل الجنون -أعاذنا الله وإياكم-، فهذا عيب ونقص، وكذلك أيضا يكون العيب متعلقا بالذات، كالعرج ونقص الخلقة بعمل أو غير ذلك كالشلل ونحوه مما يؤثر في الذاكرة، وسنفصل -إن شاء الله تعالى- في مسائل شرط السلامة من العيوب في رقبة الكفارة الواجبة في الظهار.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (462) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [6] أوجب الله سبحانه وتعالى عقوبات وكفارات لمن اجترأ على حدوده، ومن تلك الكفارات كفارة الظهار المغلظة، وقد بين ربنا تبارك وتعالى في محكم التنزيل ترتيب تلك الكفارات، فشرع بداية في عتق الرقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينا. وقد تدارس العلماء أحكام تلك الكفارات وأنواعها، ووضحوا كثيرا من الأمور التي يحتاجها الناس في أداء الكفارات، ومن ذلك: اشتراط التتابع في الصيام، وذكر الأمور والأعذار التي لا توجب استئناف الصيام بل رخص فيها الشارع، وحكم تبييت النية للصيام، وحكم مجامعة الزوجة المظاهر منها ليلا، وذكر الأمور المنبغي مراعاتها في كفارة الإطعام والمجزئ في ذلك. اشتراط التتابع في كفارة الصيام لشهرين متتابعين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يجب التتابع في الصوم] يبدأ المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الخصلة الثانية من خصال كفارة الظهار، وهي التي أوجبها الله عز وجل على من عجز عن إعتاق الرقبة، وهذه الخصلة هي صيام شهرين متتابعين، ولهذا الصوم أحكام، لذا قال رحمه الله: [فصل: يجب التتابع] . فمن أحكام هذا الصوم: أنه يجب على المكفر أن يصوم شهرين متتابعين، والتتابع المراد به الموالاة، فلا يفصل بين صوم يوم وآخر بالفطر، فلو أفطر يوما ولو قبل تمام الشهرين بيسير؛ فإنه ينقض التتابع إلا إذا كان معذورا شرعا بذلك القطع، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فصيام شهرين متتابعين} [المجادلة:4] ، فنص الله تبارك وتعالى على التتابع، والتتابع هو الولاء دون وجود فاصل، فلما قال: {شهرين متتابعين} أي: أنه تتتابع أيام الشهرين دون وجود فطر بينها، فإذا وجد الفطر فله حالات: الحالة الأولى: أن يكون معذورا فلا يقطع. الحالة الثانية: ألا يكون معذورا فيوجب القطع واستئناف صيام الشهرين متتابعين. وقد بين الله تعالى أنه يجب على المكفر أن يصوم شهرين دون أن يسمي شهورا معينة، ولذلك يجوز له أن يصوم الشهرين ولو كان في زمان اليسر، وزمان اليسر مثل أيام البرد، فإنه يطول ليلها ويقصر نهارها، فيسهل صيامها، ومن هنا نص طائفة من العلماء على أنه لو تحرى أيام البرد وصامها؛ فإن صيامه صحيح؛ لأن الله أطلق الشهرين، فكل من صام شهرين متتابعين؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه. كذلك لو قطع هذين الشهرين المتتابعين صوم رمضان، فلو ابتدأ الصوم بشهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد بأمر الله عز وجل، ثم صام بعده فإنه لا يقطع التتابع، ويصدق عليه أنه قد صام شهرين متتابعين، وسيبين رحمه الله الأمور التي يعذر فيها الصائم، فلو تخلل صيامه فطر لأسباب شرعية؛ فإن صومه صحيح ويجزئه، ولا يلزم باستئنافه من جديد. الأعذار التي لا تؤثر في قطع صيام الشهرين المتتابعين قال رحمه الله: [فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسيا أو مكرها أو لعذر يبيح الفطر؛ لم ينقطع] . يلاحظ أن الله تعالى أطلق الشهرين، ومن هنا لا يخلو الصائم للشهرين من حالتين: الحالة الأولى: أن يصوم من ابتداء الشهر، فإذا صام من ابتداء الشهر؛ فإنه إذا تبين أن الشهر ناقص فصومه تام، فلو مثلا صام المحرم وصفرا، وكان المحرم تسعة وعشرين يوما، فإنه يحكم بصحة صومه وإجزائه؛ لأنه صام شهرين متتابعين. الحالة الثانية: أن يصوم ستين يوما إذا كان صومه أثناء الشهر، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم فإنه يتم ستين يوما تامة كاملة، وقال بعض العلماء: إنه لو ابتدأ في العاشر من محرم اعتد بالعاشر في الشهر الذي يتم فيه الشهرين، فحينئذ من العاشر محرم إلى العاشر من صفر شهر، ومن العاشر من صفر إلى العاشر من ربيع الأول شهر، فلو كان شهر محرم ناقصا وصفر ناقصا؛ فإنه سيصوم ثمانية وخمسين يوما، فيعتد الابتداء. ولكن هذا المذهب محل نظر، والصحيح: أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر أجزأه الشهر ناقصا وكاملا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة) ، والمراد بهذا أن الشهر إذا كان تسعا وعشرين، فإن الله يكتب للصائم أجر الثلاثين، وقال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) ، فعقد ثلاثين في المرة الأولى، وخنس الإبهام في المرة الثانية، أي: يكون تسعة وعشرين وثلاثين، لكن نعتبر الشهر تسعة وعشرين إذا ثبت في الهلال أنه ناقص؛ لكن إذا ابتدأ أثناء الشهر؛ فإننا نلزمه بستين يوما، فالأصل في الشهر أنه ثلاثون يوما. وبناء على ذلك تقول: من صام شهرين متتابعين في كفارة الظهار أو القتل أو غيرها من الكفارات كالجماع في نهار رمضان، فإن ابتدأ من ابتداء الشهر، اعتد به ناقصا أو كاملا، وإن ابتدأ أثناء الشهر أتم ستين يوما ولو كان الشهران أو الثلاثة فيها نقص. صوم رمضان لا يقطع تتابع الكفارة قوله: (فإن تخلله رمضان) يعني ابتدأ الصوم في شعبان وأتم شهرا أو أتم بعض الشهر فدخل عليه رمضان، فرمضان لا يقطع التتابع، فيصوم رمضان، ولكن إذا جاء يوم العيد ففيه ثلاثة أوجه للعلماء: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: يصوم يوم العيد ولا يفطر. الوجه الثاني: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ولا يقطع تتابعه. الوجه الثالث: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ويقطع التتابع. والصحيح: أنه إذا ابتدأ بما قبل رمضان ثم صام؛ فإنه يفطر يوم العيد، ولا يقطع فطر يوم العيد التتابع؛ لأنه مأمور بفطره، وهذا الوجه هو المعتبر: أعني أن فطر يوم العيد مأمور به شرعا، فقد ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أنه خطب الناس على المنبر، وبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى) ؛ لأنهما يوم ضيافة من الله عز وجل. فالرخصة لمن ابتدأ الصوم وجاءه هذان اليومان أن يفطر، ولا يقطع ذلك التتابع حتى في صيام الكفارات الأخر، ككفارة اليمين على الصحيح أنه يصوم الثلاثة الأيام متتابعة، فلو أنه صام قبل يوم العيد في التاسع الذي هو يوم عرفة ناويا به الكفارة؛ فإنه يفطر يوم العيد -يوم النحر- ثم يصوم الحادي عشر والثاني عشر؛ لأنه يجوز صيام أيام التشريق لغير الحاج. الفطر الواجب لا يقطع تتابع الكفارة قوله: [أو فطر يجب كعيد] . أي: أو تخلله فطر يجب، صورة المسألة: أن يصوم شهرين متتابعين، ثم يجب عليه أن يفطر مثل ما ذكرنا لدخول يوم عيد؛ لأن يوم العيد يجب الفطر فيه، إذا تلاحظ أن صوم رمضان صوم يجب لشهر، ويوم العيد فطر يجب ليوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر. قوله: [وأيام تشريق] . أيام التشريق اختلف في صومها، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الصيام، وأن من العلماء من منع من صوم أيام التشريق، والحقيقة أنه لا إشكال أن الحجاج لا يصومون أيام التشريق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (أيام منى أيام أكل وشرب وبعال) ، فبين عليه الصلاة والسلام أنها أيام فطر، وهذا الأصل فيه أن يكون للحاج، لكن بعض العلماء ألحق غير الحاج بالحاج، فجعلها أيام ضيافة لعموم الأمة توسعة من الله عز وجل على العباد. فمن قال بالخصوص منع من صومها للحاج، ومن قال بالعموم منع من صومها مطلقا، سواء كان حاجا أو غير حاج، والأشبه والأصل الذي يقتضي أنها خاصة بالحاج. ومما يدل على أنها خاصة بالحاج، قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام أكل وشرب وبعال) ، لأن الحاج كان ممنوعا من جماع أهله، أما الحلال فلا يقال له: (أيام أكل وشرب وبعال) ، لأنه لما نص على البعال دل على التحلل الأكبر الذي يحصل بطواف الإفاضة، فنبه أنهم لما طافوا طواف الإفاضة يوم النحر حل لهم النساء، وحل لهم كل شيء، فهم فيها في ضيافة الله عز وجل. قوله: [وحيض] . فلو أن امرأة وجب عليها أن تصوم شهرين متتابعين، كفارة قتل أو جماع في نهار رمضان حيث كانت مطاوعة -كما تقدم معنا- فصامت ثم جاءها الحيض، فإن جاءها الحيض لم يقطع تتابعها، بحيث لو كانت عادتها ثمانية أيام فصامت شهر محرم، وجاءت الثمانية الأيام أثناء محرم؛ فإنها تفطر أيام الحيض فقط، ثم بعد ذلك تصوم من بعدها؛ لأنه لا يتيسر من المرأة أن تصوم الشهرين المتتابعين، إلا بتخلل للعادة؛ لأن الله جعل للمرأة أن تحيض في كل شهر مرة كما تقدم معنا في كتاب الحيض. قوله: [وجنون] . لو أنه وجبت عليه كفارة فعجز عن الرقبة، فصام شهرين متتابعين، فابتدأ في محرم فصامه، ثم جن ثم أفاق في ربيع، فحينئذ يبني على صومه السابق، وهو حال جنونه ساقط عنه التكليف، ثم إذا رجع له التكليف؛ يرجع مخاطبا بالأصل من إتمام العدة التي أوجب الله عليه، فيصوم ما بقي. ذكر المرض الذي لا يقطع التتابع في صوم الكفارة قوله: [ومرض مخوف] . إذا كان الصائم للشهرين المتتابعين مريضا مرضا مخوفا، يخشى لو أنه لو صام لهلك، وقال الأطباء: لا بد أن يفطر؛ فأفطر أياما، وبعدها رجعت له صحته، فهذه الأيام التي أفطرها لعذر المرض المخوف لا تقطع التتابع، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وتقدم معنا ما هو المرض المخوف، وبينا هذا في أحكام عطية المريض مرض الموت، فإذا قرر الأطباء ذلك وهم الأطباء الذين عندهم خبرة ومعرفة وهم الذين يرجع إليهم في هذا الأمر، وقد بينا أن علماء وفقهاء الإسلام رحمهم الله، يقولون: يسأل كل أهل علم عن علمهم، فإذا كان الأمر يتعلق بالمرض؛ رجعنا إلى الأطباء؛ لأنهم أعلم بأمور الصحة لتعليم الله لهم، فنسألهم: هل هذا المرض مخوف أم لا؟ كأن يكون صام شهرا ثم أصابه مرض، فإذا قال الطبيب: لا بد وأن يفطر، لأنه حدث عنده عجز في كليتيه مثلا، أو على الأقل يفطر عشرة أيام حتى تعود له صحته، فعادت له صحته بعد العشرة فاستأنف، فهذه العشرة الأيام التي قال الأطباء إنه ينبغي عليه فطرها، لا يضر قطعه الإتيان بها؛ لأنه معذور، وبناء على ذلك: أصبح العذر الشرعي: هو وجود أمر من الشرع بالفطر مثل أيام العيد، أو أمر من الشرع بالصوم مثل رمضان، أو يكون معذورا شرعا بجنون أو مأمورا شرعا بالفطر لسبب يتعلق به كالمريض. قوله: [ونحوه] . يعني لمن يعذر؛ فلو كان المرض غير مخوف، بمعنى أن المريض يشق عليه الصوم ولكنه ليس بمرض مخوف، فهل يفطر؟ الجواب لا؛ لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام في الصيام: القسم الأول: إذا كان المرض يغلب على الظن أن صاحبه لو صام لمات؛ فهذا يجب عليه أن يفطر، فحينئذ تنتقل الرخصة إلى عزيمة؛ لأن الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، والله تعالى يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78] ، فهذه النصوص تدل على حرمة تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والله تعالى جعل الشريعة شريعة رحمة، فلو قلنا له: صم، صارت شريعة عذاب، والله يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، ومعنى (من حرج) إزهاق الأنفس، فإذا يجب عليه الفطر. القسم الثاني: أن يكون المرض لا يسري بالإنسان إلى الهلاك إذا صام ذلك اليوم، ولكن يحدث عنده نوع من الحرج، ويمكنه أن يصبر، فحينئذ له أن يفطر فيأخذ برخصة الله، وله أن يصوم فيأخذ بالعزيمة، فإن صام فلا بأس، وإن أفطر فلا حرج، فهنا وجهان مشهوران مفرعان على مسألة الفطر في السفر، أقواهما أنه إذا أصابه حرج، فالأفضل أن يفطر، هذا في السفر وإذا كان صومه في رمضان. أما في الكفارة كما هنا: فإذا كان يستطيع أن يصوم ولو بنوع من العناء؛ فيجب عليه أن يتم ما أوجب الله عز وجل؛ لأن مقصود الشرع أن يؤدبه؛ ولذلك جعل الشهرين متتابعين حتى أن الصحيح القوي في صيامه للشهرين المتتابعين يجد المشقة والعناء، زجرا من الله له عن ارتكاب ما يوجب الكفارة مرة ثانية، وزجرا من الله عز وجل لعبده عن الوقوع فيما نهاه عنه، وزجره عنه لما حرمه، وإلا كانت الكفارات لا تؤدي ولا تحقق مقصود الشرع. القسم الثالث: أن يكون مرضا يسيرا خفيفا، فهذا مثله لا يعتد به ولا يوجب الرخصة، خلافا لمن قال من بعض فقهاء الظاهر: إن مطلق المرض يوجب الرخصة. والحاصل أنه إذا كان يصوم الكفارات التي يجب فيها التتابع وهو مريض؛ فإننا نسأل الأطباء، فإن قالوا: هذا المرض مرض مخوف ولا يمكن معه الصوم، نقول له: أفطر ولا يقطع فطرك التتابع، وإن كان مرضا يمكن الصبر معه؛ فإنه يبقى على الأصل من إلزامه بإتمام الصيام. حكم الفطر بالنسيان والإكراه في صوم الكفارة قوله: [أو أفطر ناسيا] . كان عليه صيام شهرين متتابعين، وفي يوم من الأيام أكل أو شرب يظن أنه غير صائم، فإذا أفطر ناسيا ففيه وجهان: الوجه الأول: من العلماء من قال: إن الفطر نسيانا يقطع التتابع. الوجه الثاني: ومنهم من قال: لا يقطع التتابع لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نسي فأكل أو شرب وهو صائم؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا نص واضح الدلالة على أن الناسي إذا أكل أو شرب ناسيا لصومه أن ذلك لا يؤثر في الصوم وهذا هو الصحيح، لدلالة السنة عليه. قوله: [أو مكرها] . الإكراه تقدم بيان حقيقته لغة وشرعا، وبيان شروط الإكراه ومتى يحكم بكون الإنسان مكرها، وصورة المسألة: لو كان يصوم شهرين متتابعين ثم في أثنائها هدده شخص، فوضع عليه -مثلا- السلاح وقال له: إذا لم تفطر فسأقتلك، فمذهب طائفة من العلماء: أنه إذا كان مكرها إكراها ملجئا؛ فإنه لا يؤثر في صومه، ومن الإكراه الملجئ أن تربط يداه ثم يوضع الطعام في فمه، أو تربط يداه ويسقى الماء بدون اختيار منه، فإذا فسد اختياره وانعدم رضاه؛ فإنه لا يقطع ذلك تتابع صيام الكفارة. حكم الترخص في صوم الكفارة بالإفطار برخص الفطر قوله: [أو لعذر يبيح الفطر] . هذا فيه نظر، والصحيح الاقتصار على الأعذار التي تقدمت، وهي التي فيها الإلزام أو فيها ما يدل على الرخصة، سواء كان بعذر من الشرع، كأن يرخص الشرع للإنسان فيفطر، أو يوجب عليه الصيام كرمضان، أو يكون عذرا متلبسا به يمنع من صحة صومه كالحائض، فهذه هي الأعذار المؤثرة. أما أن يكون العذر سفرا، والسفر عذر من أعذار الفطر، فلو سافر وهو صائم شهرين متتابعين وأراد أن يترخص؛ نقول له: لا رخصة، لأن هناك فرقا بين عذر الحيض الذي يغلب ولا يقطع التتابع ويهجم على الإنسان بالطبيعة، وبين عذر رمضان الذي هجم على الإنسان بحكم الشرع، وعينه الشرع وألزم به ولا محيد للصائم عنه، فصائم رمضان في السفر يمكنه أن يفطر ويمكنه أن يصوم فهو مخير، فجاء واختار أن يفطر. أما في الكفارة هنا فإذا اختار أن يفطر فقد اختار أن يقطع تتابع صومه، فهناك فرق بين رخصة السفر التخييرية وبين الرخصة التي معنا، فإن سافر ومرض في سفره مرضا؛ أوجب أن يرخص له؛ لأنه وصل إلى حد الخوف، فهذا ينتقل من رخصة السفر إلى رخصة الفطر بالمرض، وقد بينا أنها لا تقطع التتابع. قوله: [لم ينقطع] أي: لم ينقطع التتابع وصومه معتبر ومجزئ في الكفارة. الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكينا قال رحمه الله: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط] . الخصلة الثالثة من خصال الكفارة هي الإطعام، ومسائلها مفرعة على ما تقدم معنا في أحكام الزكاة؛ لأنها صدقة واجبة، فألحقت بالأصل الواجب من الزكوات كالزكاة الواجبة في الأصل وزكاة الفطر. قوله: (ويجزئ التكفير) بمعنى أنه يوجب براءة ذمة المكفر، فحد الإجزاء هو الذي يلزم به الشرع، فإذا قام به المكلف فقد برئت ذمته، وخلي من التبعية، وبناء على ذلك بين رحمه الله أنه يجزئ في كفارة الظهار ما يجزئ في صدقة الفطر، من بر وتمر وشعير وزبيب وأقط، ونحو ذلك من الطعام. قوله: [لا يجزئ من البر أقل من مد] . تقدمت معنا هذه المسألة: هل يعتد بنصف الصاع الذي هو مدان أو يعتد بربع الصاع الذي هو مد؟ وتقدم معنا أن هناك ما يسمى بالمد الصغير، الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك ما يسمى بالصاع النبوي، وهناك ما يسمى بالمد الكبير. فأما بالنسبة للمد الصغير: وهو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فلو أن شخصا وسط في الخلقة أخذ بكفيه تمرا أو برا، فإن هذا القدر غالبا يملأ المد، وهذا المد هو الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال موجودا توارثه الناس جيلا عن جيل ورعيلا عن رعيل إلى زماننا هذا؛ ولذلك نص العلماء: أن العبرة في المد والصاع والكيل بمد المدينة وصاعها وكيلها؛ لأنها توارثها الناس أمة بعد أمة، وتوافرت الدواعي على حفظه، والمحافظة عليه، وكان الوالد رحمه الله يحرر الصاع بكبار السن الذين هم من الثقات، وكان هناك رجل من حفظة القرآن كنت أحرر الصاع والمد على يديه -رحمه الله ورحمنا الله جميعا- فهذا الشيء توارث مثلما توارث الناس أن هذا المكان هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المكان هو الروضة، وأن هذا المكان هو مسجد قباء، وهذا ما يسمى بنقل الكافة عن الكافة، فما خالف هذا فإنه لا يعتد به؛ لأنه مما توافرت الدواعي لحفظه والمحافظة عليه. وقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- للمدينة بمدها وصاعها، وقال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا) ، وهذا أمر ثبت به النص ولا مجال لرده أو لإنكاره، بل إنه مجرب أنه إذا كيل الشيء بصاع المدينة ومده وضع الله فيه البركة، وقد لمست ذلك ووجدته، والحديث في الصحيحين ولا إشكال فيه. فهذا المد يخالف غيره مثل المد الشرقي الذي كان الحنفية رحمهم الله يخالفون فيه الجمهور، فالإمام مالك رحمه الله أخذ بمد المدينة، ولما نازعه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة قال الإمام مالك: يا فلان، قم فائتني بصاع، ويا فلان! قم فائتني بصاعك، فأمر رجالا من أهل المدينة أن يأتوا بآصبعهم فأحضروها، فقال كل واحد منهم: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الفطر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فحزروه وقدروه، فوجدوه موافقا لتقدير الإمام مالك، أن الصاع يسع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لهذا: مد، ويقال له: ربع صاع، وبعضهم يعتبره أصغر وأقل المكيلات الموجودة، فهناك من يقول: إن الصاع خمسة أمداد أو يقرب منها، وهذا القول غير محرر؛ لأن المعروف والثابت والذي نص عليه الأئمة والعلماء: أن مد النبي صلى الله عليه وسلم ربع الصاع، وهذا هو الذي عليه العمل عند العلماء والأئمة. واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: هل البر كغيره في الكفارة أم لا، على وجهين: الوجه الأول: يقول: إنه يختلف البر عن غيره. الوجه الثاني: التسوية بين البر وغيره. ثم الذين سووا أو خالفوا منهم من يبتدئ بالربع على الأصل ويقول: ستون مسكينا الذين يجب إطعامهم في كفارة الظهار، يكون لكل مسكين ربع صاع الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم الصغير، فإذا كان لكل مسكين ربع صاع والكفارة لستين مسكينا، فمعنى ذلك: أن خمسة عشر صاعا هي كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ لأن ربع الصاع لمسكين فـ (4 × 15 =60) ، هذا وجه لبعض العلماء رحمهم الله، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعرق من تمر، فأمر أوسا أن يطعمه أهله، والعرق فسره بعض أئمة السلف كـ سعيد بن المسيب رحمه الله وهو إمام المدينة وفقيهها قال: فيه خمسة عشر صاعا، العرق مثل الزنبيل أو القفة الموجودة في زماننا، والزنابيل الكبيرة هذه لها أسماء: مكتل، عرق، فهذا العرق فيه خمسة عشر صاعا، فإذا كان فيه خمسة عشر صاعا، فمعنى ذلك: أن لكل مسكين ربع صاع. وفي رواية أخرى لقصة خولة رضي الله عنها تقتضي أن يكون نصف صاع أي: مدين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعينه بعرق، فقالت هي: وأنا أعينه بعرق ثان) فأصبح المجموع ثلاثين صاعا؛ لأن عرقا مع عرق يكون خمسة عشر صاعا مع خمسة عشر صاعا فيكون المجموع ثلاثين صاعا، فهذان وجهان، أقواهما في الحقيقة الربع، وأحوطهما النصف. قوله: [ولا من غيره أقل من مدين] كما ذكرنا أن العلماء يفرقون بين البر وغيره كالتمر والزبيب والأقط، وبينا هذا في صدقة الفطر، وبينا وجهه. قوله: [لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم] كأن يكون مسكينا، أو فقيرا، فيعطى ربع صاع أو نصف صاع على التقدير الذي بيناه. قوله: [وإن غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه] أي: المعتبر ستون مسكينا، وإن غدى هؤلاء المساكين أو عشاهم اختلف العلماء رحمهم الله في الكفارة: هل يجب عليك أن تملك المسكين أو يجب عليك الإطعام؟ والفرق بين القولين: أننا لو قلنا: يجب عليك تمليك المسكين، فمعنى ذلك: أنك تدفع الزكاة إليه، وهو إن شاء طبخها اليوم أو طبخها بعد غد، أو باعها، فهو حر في نفسه؛ لأن الله أمرك أن تدفع هذا القدر له، وهو قدر ما يطعمه، فإن شاء طعمه اليوم، وإن شاء طعمه غدا، وإن شاء أطعمه غيره، فلا تلزمه بشيء، فهذا حق من حقوقه جعله الله عز وجل له. ومن أهل العلم من قال: إنه إذا صنع الطعام وأطعمه المسكين فقد أطعمه الطعام معتبر، فيصدق عليه إذا أكل المسكين طعامه أنه قد طعم، والله عز وجل أمره أن يطعم المسكين وقد أطعمه، ولا شك أن الأحوط أنه يعطى المسكين؛ لأن الله يقول: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19] فبين أن ما لزم واجبا للمسكين أنه يمكن منه، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله كـ أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع ثلاثين مسكينا في آخر يوم من رمضان ويطعمهم صدقة عن فطره في شهر رمضان، هذا فعل لبعض السلف، والأحوط أنه يعطى المسكين الطعام كما ذكرنا. حكم تبييت النية في صيام الكفارة قوله: [وتجب النية في التكفير من صوم وغيره] . وتجب النية في التكفير من صوم وغيره، وقد بينا في كتاب الصيام: أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، وذكرنا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أم المؤمنين بقوله: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) ، فدل على أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، ولأن هذا الصوم وجب كفارة، ولا يمكن أن يكون مبرئا للذمة إلا بنية وقصد، فوجبت النية. حكم مجامعة الزوجة ليلا أثناء فترة صيام الكفارة قوله: [وإن أصاب المظاهر منها ليلا أو نهارا انقطع التتابع] . وإن أصاب المظاهر زوجته نهارا فلا إشكال لأنه أصبح مفطرا، أو ليلا فإنه يقطع التتابع، وهكذا لو أفطر في يوم العيد، فجامع زوجته بناء على أنه مرخص له في الفطر، قطع التتابع، لا من أجل كونه مجامعا، بل من أجل كون الشرع اشترط أن تكون الكفارة قبل أن يتماسا، وإذا جامعها قبل تمام الكفارة قطع التتابع ووجب عليه أن يستأنف، ولذلك قال تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] ، فهذا يدل على أنه يجب أن يكون التكفير قبل المسيس، فإن حصل المسيس أثناء الكفارة من صيامه وجب عليه أن يستأنف، لأن ذلك يقطع تتابعه. قوله: [وإن أصاب غيرها ليلا لم ينقطع] . بلا خلاف بين العلماء، فإنه لو عنده زوجتان ظاهر من إحداهما، ثم صام كفارة، فجامع الثانية ليلا لم يقطع ذلك تتابعه؛ لأنه ممنوع ممن ظاهر منها دون التي لم يظاهر منها.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() كيفية التوفيق بين سد الفرجة في الصف والوقوف مع رجل منفرد خلف الصف الجواب لاشك أنك إذا وقفت مع أخيك صححت صلاته؛ لأن صلاة المنفرد لا تصح خلف الصف، فتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود هذا الرجل لما تركت آخر الصف. السؤال إذا وجدت فرجة في الصف الأخير، ووجدت رجلا واقفا في صف لوحده، فهل أسد الفرجة التي في الصف، أو أقف مع الرجل المنفرد؟ وبعض العلماء يقول: يجب عليك أن تدخل في الصف؛ لأنك مأمور بإتمام الصفوف، وحينئذ تنافس أخاك فتستبق إلى الفرجة وتمنعه من أن يسبقك إليها؛ لأنه إذا سبقك إليها كنت أنت الذي تتعرض صلاتك للبطلان؛ لأنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف. وبعض العلماء يقول: من حقك أن تتخلف من أجل أن تصحح صلاة أخيك، وتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود أخيك -كما ذكرنا- لسددت هذه الفرجة، ثم تنتظر حتى إذا جاء أحد معه تتقدم وتسد هذه الفرجة. وبعض العلماء يقول في الشخص الذي يأتي ولا يجد أحدا: يجذب من الصف واحدا ليصلي معه وهي رواية عند الحاكم في المستدرك حسنها بعض العلماء، والحقيقة أن في تحسينها نظرا؛ لأن الضعف فيها قوي. فكثير من العلماء رحمهم الله يرى أن الصلاة صحيحة للمنفرد خلف الصف فيمنعون من الجذب؛ لأنهم لا يرون أنها باطلة، لكن الذي ينبغي أن ينظر في المسألة على قول من يقول بالبطلان. فإذا كان الشخص الداخل يعتقد بطلان صلاة المنفرد في الصف فإنه مضطر ومحتاج لتصحيح صلاته. فحينئذ كونه يجذب فلا شك -من ناحية الأصول- أن له وجها، ولأن المحذور في سد الفرج أن يكون الشخص ممتنعا منها مع القدرة دون وجود عذر، وهنا قد يوجد عذر وهو وتصحيح صلاة المصلي، فقالوا: إن هذا لا يعتبر انتهاكا للحدود وانتهاكا للمحارم كما لو امتنع من سد هذه الفرجة مع الاختيار، وإنما كان مضطرا إلى ذلك تصحيحا لصلاة غيره. وعلى كل حال فمن جذب لا ينكر عليه، وأرى أن هذا له وجه، ولا بأس به ولا حرج عليه، وكون الشخص يبقى دون الصف منفردا ولا يجذب أحدا ويصلي لا شك أن هذا من حيث الأصول أقوى، لكن صلاته ستبطل. وينبغي أن ننتبه لأمر، وهو أن بعض العلماء يقول: إن الناس ينظرون إلى بعض الأحكام أن فيها شدة، والأمر على عكس من ذلك، وفيها الرفق والأجر؛ لأنه إذا صلى صلاة تامة دون الصف فإنها لا يعتد بها صلاة حكما، لكن الله يأجره الصلاة مرتين. وليس هناك مصل تصح منه الصلاة مرتين إلا إذا كان هناك عذر شرعي في التكرار، وهذا له نظائر، ولذلك من يحكم عليه ببطلان الصلاة يكتب له الأجر مرتين؛ لأنه في هذه الحالة دخل المسجد وألزم شرعا بالدخول مع الجماعة، وحكم ببطلانها عبادة، ولذلك لا تعقل علة بطلان صلاة المنفرد خلف الصف. وفي هذا حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه في السنن وعند أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وهو دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل الصلاة؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، ومذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث كـ إسحاق وغيره رحمة الله عليهم أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف إذا كان رجلا. وبناء على ذلك قالوا: لظاهر هذا الحديث يحكم ببطلان الصلاة من ناحية الإلزام الشرعي. أي أن صلاته يجب عليه أن يعيدها، لكن كونه قد قام بالصلاة وصلاها وركع وسجد وقرأ كتاب الله عز وجل فهذا العمل الذي أقامه مأمور به شرعا؛ لأنه إذا دخل المسجد فالواجب عليه أن يدخل مع الجماعة، فهو صلى بأمر شرعي، وصلى صلاة شرعية وأداها على وجهها المعتبر، وهذا عمل يثاب عليه ثواب من عمل، لكن لا تعتبر صلاة حكمية، أي: لا تبرأ وتسقط الذمة بها، فيلزم بإعادتها. ولذلك يقولون: الأمر بإعادة الصلاة تعبدي. أي: لا يعقل معناه، فلو أنه كان أحدث قلنا: بسبب الحدث. ولو أنه ترك واجبا قادرا عليه عامدا متعمدا. قلنا: لترك الواجبات، فتبطل صلاته فلا أجر ولا ثواب؛ لأنه تسبب في إخلالها وإفسادها، لكن الفساد هنا ليس بيده وليس منه، وإنما هو بحكم شرعي. ولذلك يقولون: يكتب له أجر العمل لقوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم} [آل عمران:195] ، فهو قد قام بعمل شرعي فيثاب ثواب العامل، لكنها لا تصح صلاة شرعية، بمعنى أن ذمته لا تبرأ، فيلزم بإعادتها مرة ثانية، ويكون له أجر العمل مرتين. وهذا على القول الذي يقول: إن الصلاة لا تصح خلف الصف للمنفرد. وبناء على ذلك يحق له أن يجذب تصحيحا لصلاته؛ لأنه مأمور أن يتعاطى الأسباب لتصحيح الصلاة. ثم إذا جذب يستحب بعض العلماء أن يكون الجذب من أطراف الصف؛ لأنه إذا جذب من طرف الصف يكون أخف من الجذب من وسط الصف. وبناء على ذلك يقولون: إنه يجذب من الطرف. واختار بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن يكون جذبه من وراء الإمام، فيأتي من منتصف الصف ويجذب؛ لأنه إذا جذب من وراء الإمام وجاء شخص آخر سيتقدم هذا، وسيكون إكمال الصفوف من وراء الإمام توسيطا للإمام، وهي مسألة من جهة المتسحبات، وليس فيها إلزام أن يكون من وراء الإمام أو من طرف الصف، لكنهم يستحبون دائما أن يكون ابتداء الصفوف من وراء الإمام، ويتحرى أول من دخل في الصف بعد تمامه أن يكون وراء الإمام حتى يكون توسيطا له. والله تعالى أعلم. حكم قراءة القرآن بغير العربية السؤال هل تجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؟ الجواب لا يجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؛ لأن الله وصف القرآن بأنه بلسان العرب، قال تعالى: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} [الشعراء:194 - 195] . فلا بد أن تكون القراءة بلسان عربي، ولا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن بغير اللسان العربي، وأما ترجمة معاني القرآن فلا تجوز القراءة بها؛ لأن بعضهم يأخذ هذه الترجمة ويقرأها على أنها قرآن يتعبد الله به، وهذا خطأ وينبغي التنبيه عليه. ولذلك في قرون الإسلام الأولى ما كانت توجد هذه الترجمات، ولا كانوا يترجمون معاني القرآن، وإنما كانوا يحرصون على كل من دخل الإسلام أن يعلموه اللغة العربية، حتى سادت اللغة العربية وانتشرت لغة القرآن، وأصبحت هي اللغة الأم لأهل الإسلام، وهي اللغة التي يرجع إليها بين المسلمين، وهي اللغة التي يعتزون بها. فكانت لها مقاصد شرعية عظيمة في جمع المسلمين وتآلفهم وقوتهم؛ لأن اللغة لها تأثير على الشعوب والأمم كما لا يخفى، وهذا معروف في التاريخ، وحتى في طبائع البشر والأمم والشعوب، لكن من ناحية قراءة القرآن لا تجوز قراءته إلا باللسان العربي. وأما نقل المعاني فلا بأس به؛ لأنه لا يمكن أبدا لأي لسان أن يأتي بالإعجاز الموجود في اللغة العربية، مثلا قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة:223] كيف تترجمه؟ وإذا ترجمته فكيف تدخل المعاني والأسرار العربية في الترجمة؟ لأن في كلمات وألفاظ القرآن معان ونكت ولطائف لغوية لا يمكن أبدا أن تظهر مع الترجمة، وقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] كيف يمكن ترجمته إلى لغة غير اللغة العربية؟ وهذا من فضل الله عز وجل، وليس هذا من باب الافتخار باللسان أو نحوه، وإنما هذا من بيان فضل الله عز وجل الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى وضعها في هذه اللغة وهذا اللسان، فلا يستطيع أي لسان أن يأتي بالمعاني التي يتضمنها هذا اللسان والدلائل التي فيه. ولذلك لما ترجمت معاني القرآن وقع إحراج في نفس الترجمة، فإلى الآن لا تستطيع أن تجد ترجمة تستطيع أن تؤدي المعنى المقصود؛ لأن اللسان العربي يرمي بالكلمة الواحدة في بعض الأحيان إلى عدة معان. كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، القرء: هو الحيض، وهو الطهر، فيحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ولو قلت بالطهر فله وجه، ولو قلت بالحيض فله وجه، فكيف تترجمها؟ فإن جئت تترجمها بالحيض خالفك أنها تحتمل الطهر، وإذا جئت تترجمها بالطهر خالفك أنها تحتمل الحيض. وكذلك قوله تعالى: {والليل إذا عسعس} [التكوير:17] ، فالعرب تقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية دخوله، وتقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية خروجه ودخول النهار، فتقصد به دخول ظلمة الليل وعند انتهاء الليل، وهذا ما يسمى بالمشترك. فإذا كان قوله تعالى: {والليل إذا عسعس} [التكوير:17] مشتركا -وإن كان في الآية قرينة تدل على ترجيح أحد الوجهين- فما هي اللغة التي تحتوي هذه الأسرار والمعاني؟! وصدق الله حيث قال: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف:52] ، فأتى بـ (قد) التي تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون مرية، واللام المؤكدة (ولقد) ، ثم التعبير بالعظمة وفي قوله تعالى: (جئناهم) ، ففصله سبحانه وتعالى الذي أحسن كل شيء وأتمه وأكمله جملة وتفصيلا سبحانه، فهو يقص الحق وهو خير الفاصلين. فهناك أسرار في هذا اللسان العربي لا يمكن أبدا لأي لغة أو لسان أن يحتملها، وخذ قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة:237] ، فالذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون ولي المرأة، ويحتمل أن يكون الزوج، وإن جئت تريد ترجمتها فعلى أي معنى ستترجمها؟ وعلى أي وجه من هذه الأوجه؟ فعلى كل حال أسرار اللغة موجودة في القرآن، والآية الواحدة يجتمع عليها العلماء فيجدون فيها من النكت واللطائف ما لا يمكن أن يحصى كثرة. وانظر إلى آية الوضوء، وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم. [المائدة:6] ، فهذه الآية اجتمع عليها علماء الفنون، في اللغة واللسان، والقراءات، والفقه، وعلوم الحديث فاستنبطوا منها ألف مسألة. وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: اجتمع علماؤنا لكي يحصلوا الألف مسألة فما وصلوا إلا إلى ثمانمائة مسألة. وثمانمائة مسألة خير كثير في هذا اللسان البديع الغريب، وهذه قدرة من الله سبحانه وتعالى. بل إن الألسنة سوف تحار عندما تقرأ قوله تعالى: (الر) كيف تترجمها؟ وكيف تستطيع أن تدخل المعاني التي تراد من هذه الحروف فيها؟ ثم كيف تجعله يقرأ وهناك حروف في اللسان العربي ما هي موجودة في غيرها من اللغات والألسنة؟! مع العلم أن النقل بالمعنى اختاره بعض العلماء، كما قيل: والنقل بالمعنى على المنصور ورأي الأربعة والجمهور فيجيزون نقل القرآن بالمعنى، أي: ترجمة معنى القرآن، ولذلك لا يقال: ترجمة القرآن وينبغي إذا كتبت هذه التراجم أن يكتب عليها أنه لا يجوز للمسلم أن يقرأ هذه الترجمة معتقدا أنها قرآن، ولا يجوز الاستشهاد بها أيضا على أنها من القرآن، وإنما يقال: إن هناك آية تدل على كذا. لأنه لا يجوز نقل القرآن بالمعنى، فلا يجوز أن يقال: قال الله تعالى فيما معناه. مثلما يقال في الحديث القدسي، إنما تأتي -إذا قلت: قال الله تعالى- بمنطوق الآية ونصها دون تغيير ولا تبديل. فالواجب على هذا أن يقتصر على اللسان العربي عند قراءة القرآن؛ لأن العلماء أجمعوا واتفقوا على تحريم الترجمة الحرفية لكتاب الله عز وجل. والله تعالى أعلم. حكم تغيير مكان الصلاة بعد الفجر لمن أراد أن يجلس حتى شروق الشمس فينال الأجر المعلوم السؤال من وفق للجلوس حتى شروق الشمس، هل له عند صلاة الركعتين أن يتقدم إلى سترة أم يشترط في الركعتين أن تكونا في نفس المكان؟ الجواب لا شك أن الأفضل والأكمل أن تكونا في نفس المكان، وأما السترة فالقول الصحيح وجوبها، ومعنى ذلك أنه إذا تقدم تحصيلا لهذا الواجب وامتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسترة فإنه يصدق عليه أنه صلى ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين) . ومن العلماء من يقول بالاستصحاب؛ لأنه يقول: (قعد في مصلاه) أي: صلى ركعتين في مصلاه، فيستصحب حكم الأصل، والأصل أنه في مصلاه، وكأن مقصود الشرع أن يصلي في نفس المكان. ومن أهل العلم من قال: إن العبرة بالركعتين أن تقع بعد طلوع الشمس، وأن يكون هذا الزمان الذي هو ما بين صلاته للفجر وطلوع الشمس مستغرقا بذكر الله عز وجل، سواء أصلى في نفس المكان أم غيره، بل قالوا: حتى لو أحدث وصلاها في البيت شمله الفضل؛ لأن المراد أن يصلي ركعتين بعد الزمان، ولا شك أن الأكمل والأفضل أن الإنسان يبقى في مصلاه، وأن يصلي في نفس المكان الذي هو فيه. والله تعالى أعلم. مضاعفة صلاة النافلة في الحرم النبوي السؤال هل صلاة النافلة في الحرم النبوي تساوي ألف صلاة مثل صلاة الفرض؟ الجواب أصح قولي العلماء أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى تشمل الفرائض والنوافل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة) و (صلاة) نكرة، والقاعدة في الأصول: (أن النكرة تفيد العموم) . أما الذين قالوا بالتفريق بين الفريضة والنافلة فدليلهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان أنه لما صلى الليلة الأولى ثم كثروا عليه في الليلة الثانية وامتنع من الخروج في الثالثة قال: (إنه لم يخف علي مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم) ، ثم قال: (صلوا في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قالوا: إن هذا يدل على أن النافلة الأفضل أن تكون في البيت. وهذا مرجوح، والصحيح أن قوله: (فإن خير صلاة المرء ... ) لا يعارض قوله: (صلاة في مسجدي بألف صلاة) ؛ لأن الخيرية من جهة الإخلاص، ومن جهة إرادة وجه الله عز وجل، ومن جهة مباركة المنزل، وليس لها علاقة بالمضاعفة؛ لأن القاعدة (لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا اتحدا دلالة وثبوتا) ، والدلالة هنا مختلفة؛ لأن مورد النصين مختلف. فحديث يقول: (صلاة في مسجدي بألف صلاة) ، وحديث يقول: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، وما قال: إنها بألفين، أو: بثلاثة، فما تعلقت بمضاعفة الأجر، وإنما تعلقت بالخيرية، والخيرية ترجع إلى الإخلاص، وترجع إلى أنه إذا صلى في بيته كان أخشع وأرضى لله عز وجل؛ لأنه لا يراه أحد، ولا يصلي لأحد، ولا يغتر به أحد، ثم إن الصلاة تبارك له في بيته. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيرا) ومنع عليه الصلاة والسلام من أن تكون البيوت قبورا، فهذه خيرية منفصلة، خيرية أخرى غير الخيرية المتعلقة بمضاعفة الصلاة. ولا يمكن أن نعارض بين النصوص مع اختلاف وجهاتها ومواردها، وإنما يحكم بالتعارض عند اتحاد المورد، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بأن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة) ، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء. والله تعالى أعلم. الاستعجال في الوضوء السؤال إذا أقيمت الصلاة فتوضأت بسرعة شديدة، فهل وضوئي صحيح؟ الجواب إذا توضأت وضوءا شرعيا تاما كاملا فهو وضوء صحيح، لكن مسألة الإسراع في الوضوء لا شك أنها جائزة، فيجوز للشخص في الحالات الضرورية أن يستعجل. ولذلك ثبت عن أسامة رضي الله عنه أنه ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام لما دفع من عرفات إلى مزدلفة أنه توضأ وضوءا خفيفا، وخفة الوضوء تشمل الوقت وتشمل الحال؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يسبغ الوضوء ويتأنى في وضوئه. لكنه لما كان وراءه مائة ألف نفس وكلهم ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام تعجل، ومن حكمة الشريعة أن العبد الصالح يكون في صلاحه، لكن إذا رأى ما هو آكد وأهم قدمه وتعجل، فمثلا: والدك يحتاجك في شيء، وأنت تريد أن تتوضأ وضوءا لنافلة، أو تحب أن تكون على طهارة فلا شك أن بر الوالد آكد من الوضوء، فتخفف في وضوئك حتى تدرك فضيلة الوضوء وفضيلة بر الوالدين، أو فضيلة الصلاة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا دخل الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) قالوا: لأن العلم أفضل من العبادة. وهذا يدل على فضل العلم؛ لأنه عندما يجلس ينصت للخطبة يصيب علما، والعلم أفضل من العبادة، وعندما يصلي يصلي لنفسه، لكن ربما يصيب علما ينتفع به وينفع به غيره، ويصلح ويصلح به غيره، ويهتدي ويهدي به غيره بإذن الله عز وجل. ومن هنا إذا دخل -مثلا- المحاضر، أو دخل الشيخ لدرسه وأراد أن يصلي تحية المسجد أو نافلة فالأولى أن يتجوز فيها؛ لأن هناك ما هو أفضل وأكمل وأعظم أجرا وهو نفع الناس؛ لأن العلم أفضل وأعظم، فإذا أردت أن تتوضأ وضوءا خفيفا، أو تستعجل في الوضوء فتنبه لإتمام أعضاء الوضوء. فالمهم أن تكون الأعضاء التي أمرك الله بغسلها أو أمرك بالمسح عليها قد نالت حقها وحظها من ذلك الوضوء الذي أمرت به، فإن فعلت ذلك بسرعة أو بأناة فالأمر في ذلك سيان، إلا أن الأناة أمكن وأكثر ضبطا. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله السؤال ذكر الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: {الذين هم يراءون} [الماعون:6] أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياء، فما توضيح ذلك؟ الجواب هذا كلام صحيح ومعتبر؛ لأن الرياء يكون في ابتداء العمل، فيعمل من أجل أن يراه الناس، قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء:142] ، فهو ابتداء قبل التلبس بالفعل، وأثناء الفعل؛ لكن بعد الفراغ من الفعل تبقى مسألة التشوف والطلب والتحدث، فالأكمل ألا يتحدث بطاعته، وألا يطلع أحدا على طاعته. وتبقى مسألة خفاء العمل، وخفاء العمل لا علاقة له بالعمل نفسه؛ لأنه إذا صلى وقام بطاعته على أتم الوجوه وأكملها فقد أصاب الموعود عليه شرعا لكن تبقى مسألة حبوط العمل بعد ثبوته، والحبوط قد يكون بغير الرياء، فقد يحبط عمل الإنسان -والعياذ بالله- بسبب ذنب. فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون -والعياذ بالله- سببا في حبوط العمل، ونسأل الله السلامة والعافية، وقد يحبط عمل الإنسان بعقوق والديه؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه، فيغضب على عبده فيحبط عمله، إلا أن هناك أمورا بين أنها من أسباب حبوط العمل والعياذ بالله. وقد يكون العمل صالحا صحيحا، لكن إن اطلع الناس على عمله فأعجب باطلاعهم فإننا ننظر في ذلك، فإذا كان يحب ذلك ويقصده ولم يتيسر له أثناء العمل، وكان يحب حصول ذلك له فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- يعمل للناس، فيكون قادحا في إخلاصه وإرادته وجه الله عز وجل، ومؤثرا في عمله. ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يتحرون في الأعمال الصالحة الصواب والسنة، فلا يعملون أي عمل إلا إذا كان عندهم حجة ودليل، ويخافون من الأعمال أن تكون على غير نهج الكتاب والسنة؛ لأن أهم شيء الصواب في العمل حيث يكون موافقا للكتاب وهدي السنة. وبعد الصواب تأتي الآثار الطيبة والعواقب الحميدة؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا إذا كان صوابا، قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} [الكهف:110] ، ولا يحكم للعمل بالصلاح إلا إذا كان على وفق الكتاب وثبت بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد كان السلف الصالح يحملون هم الصواب أولا، ثم يحملون هم الإعانة على الصواب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك العزيمة على الرشد) ، فكم من صواب تعلمته، وكم من حق دللت عليه وأرشدت إليه، ولكن ما أعنت عليه، فقيام الليل من منا يجهل فضله وعظيم أجره لكن من منا يقوم وصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس وغيرها من الأعمال الصالحة من منا يعمل بها؟ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله المعونة على الرشد، ولذلك قال الله عن أهل الكهف: {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} [الكهف:10] . وبعد أن يوفق للصواب ويعان على القيام بالعمل، يحمل هم الإخلاص فيه، فلا يفعل ولا يقول شيئا إلا لأجل الله عز وجل، وأبغض شيء إليه أن أحدا يطلع على ما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يعرف لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وفضل المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أن أكمل العمل وأطيبه ما كان خالصا لله عز وجل، ولا شيء أعظم في جلب الإخلاص من إخفاء الأعمال وسترها. ولذلك كان السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في هذا، حتى ذكر الإمام الحسن البصري رحمه الله أن الرجل ربما جمع القرآن في قلبه عشرين سنة لا يشعر به أحد. ولربما تجد الرجل من أصلح الناس وأكثرهم عبادة وقياما، ولا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك، حتى لربما يسافر معه غيره وإذا به يترك قيام الليل أمامه حتى لا يشعر أحد بما بينه وبين الله عز وجل. وهذه مرتبة لا يعطيها الله إلا لخاصة أحبابه وأصفيائه الذين يريد لهم إرادة وجه، وذاقوا لذة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى. فإذا وفق للإخلاص حمل هم القبول، ويعمل للقبول أسبابه التي منها ألا يعلم أحد عمله، فأبغض شيء إليه أن يطلع غيره على عمله، حتى إنه يضيق صدره ويحزن ويتألم إذا اطلع أحد على حسنة أخفاها فيما بينه وبين الله عز وجل. ومما ذكر عن بعض الصالحين -وهؤلاء هم الأولياء الذين يضرب بهم المثل، ولم يكن الأولياء بجر السبح، ولا بإطالة الأكمام والعمائم، وإنما كانوا أولياء لله بحق- أنه قال: صليت في المسجد الحرام صلاة الاستسقاء، فلم يفت الناس، حتى إذا انتصف النهار -وإني لجالس بالمسجد مضطجع- فإذا برجل مولى أسود دخل المسجد، فركع وسجد، وكان يظنني نائما، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إن بعبادك وبلادك وبهائمك من الجهد والبلاء ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد. اللهم أغث العباد والبلاد. فلما تشهد إذا بالسحابة تنتصف السماء ويمطر الناس، قال: فعظم عندي الرجل، فتبعته، فدخل إلى أشبه ما يكون بالرباط فتبعته، فلما جلس واستقر سلمت عليه وقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: وما شأنك بي؟ قلت: إنه لم يخف علي مكانك بالمسجد. قال: أو قد اطلعت على ذلك؟ قال: نعم. قال: أمهلني وأنظرني، فصلى وسجد، وقال: اللهم انكشف ما بيني وبينك، فاقبضني إليك غير مفتون. قال: والله ما رفعته إلا ميتا. فكانوا يخافون من ظهور أعمالهم حتى كان من أمرهم ما ذكر، وأويس القرني رحمه الله لما اكتشف أمره غاب عن الناس، وبسبب أنك تخفي ما بينك وبين الله من الأسرار والأعمال الصالحة يورثك الله بذلك حب العباد، ويضع لك بذلك القبول في السماء وفي الأرض. ولذلك كانوا يقولون: إن العبد يستوجب من الله محبة خلقه على قدر ما بينه وبين الله من الخوف، وكان الإمام مالك رحمه الله مهابا، فإذا جلس لا يستطيع أحد أن يتكلم في المجلس، وإذا سأله السائل لا يستطيع أن يعيد سؤاله مما ألقى الله عليه من الهيبة، كما قيل: يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان يقول محمد بن الحسن: جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد -ثلاثة خلفاء من المحيط إلى المحيط سادوا الدنيا- فوالله ما هبتهم كهيبتي لما جلست بين يدي مالك. يقول سحنون رحمه الله: ولا نظن ذلك إلا بشيء بين مالك وبين الله، فإنك تعامل؟ تعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فماذا تريد منه اطلاع الناس على صلاتك وزكاتك؟ وماذا تريد عند الناس؟ لو أن الناس مدحوك اليوم ذموك غدا، وكم من عبد تقي نقي أخوف ما عنده وأكره أن يشعر الناس به؛ لأنه يعلم أنه لا أمن له إلا عند الله، ولا عز له إلا من الله، ولا كرامة له إلا من الله، فماذا نريد عند الناس؟ قال تعالى: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان:9] . فأبغض شيء إليه أن يأتي أحد من الناس يثني عليه أو يظن به خيرا؛ لأنه يريد الشيء بينه وبين الله، فالذي للآخرة للآخرة، والذي للدنيا للدنيا، وأمور العبادة والطاعة ينبغي للإنسان دائما أن يخفيها فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يطلع عليها أحدا، والمحروم من حرم، فإذا أراد الله أن يخذل عبده -نسأل الله السلامة والعافية- صرف قلبه إلى الدنيا، وتنصرف شعب القلب إلى الدنيا، حتى إن طالب العلم تنصرف شعب قلبه بمدح الناس له والثناء عليه والإشادة به، وبموقفه في الملأ ومحبته للاستشراف ومحبته للظهور، وهي والله قاصمة الظهر والعياذ بالله. فتؤخذ شعب القلب شعبة شعبة للدنيا لا للآخرة، وتؤخذ لغير الله لا لله، فتؤخذ شعبة شعبة، وتنقض كالبيت يهدم لبنة لبنة، حتى يمسي ويصبح وليس في قلبه مثقال ذرة -والعياذ بالله- من الإيمان، وعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك. وعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يمقته الله مقتا فتجمع القلوب على كراهيته، والنفوس على النفور منه، ولو كان أعبد الناس لسانا، ولو كان أصبحهم وجها وأحياهم منطقا فإن الله يمقته. فالعبد يعامل الله لا يعامل أحدا سواه، وكم من إنسان أحب الناس فمدحوه، واستدرجه الله عز وجل، واجتمعت له القلوب، واجتمع له الناس، فجاء يوم ذم فيه بمذمة واحدة فانتشرت في الناس، فسبوه كما مدحوه، ووضعوه كما رفعوه، وأذلوه كما أعزوه، وأهانوه كما أكرموه، فتمنى أنه لم يعرفه أحد. فلا يلتفت الإنسان إلى الناس، وسلامة العبد فيما بينه وبين الله أن يفر من الله إلى الله لا إلى الناس، وأن يفر إلى الخالق لا إلى المخلوق، فلا يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه كما قال تعالى: {يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج:13] . فالله يناديك ويدعوك أن تكون معه، أن تكون له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] ، فتعبده بالإخلاص وتعمل الطاعة لله، فتتعلم وتتصدق وتركع وتسجد وتصلي لله وحده. فالواجب على المسلم دائما أن يوطن نفسه لإرادة وجه الله، وما أطيب العيش ولن يطيب إلا بالله، وما أطيب الحياة وما أسعدها ولا يمكن أن تكون سعيدة طيبة إلا بالله، قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [النحل:97] فمضى: (وهو مؤمن) موحد مخلص يريد وجه الله سبحانه وتعالى، أي: والله لنحيينه حياة طيبة، وإذا وعد الله بالحياة الطيبة فإن الله لا يخلف الميعاد، ولا شك أن العبد إذا بلغ هذه المرتبة التي يقول فيها لله، ويعمل فيها لله، ويتمنى فيها أن عمله فيما بينه وبين الله لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد، ولا يحس به أحد أدرك هذا الأجر، وإني لأعرف علماء كانوا قوامين بالليل صوامين النهار، حتى إن الواحد منهم إذا أصبح تجده مع الناس لبساطته وتواضعه، ولا تشعر أنه ذاك العابد الصالح، وكله من الخفاء. وتجد الواحد منهم يجلس في خلوته فيبكي ويتفطر قلبه من خ حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية السؤال هل يجوز الدعاء في صلاة الوتر بغير اللغة العربية؟ الجواب الدعاء في الصلاة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله، فبعض العلماء يقول: إنه لا يجوز إلا بالعربية، ومنهم من يقول: يجوز أن يدعو بغير العربية. والصحيح أن الدعاء ما كان منه توقيفي كالأذكار من التحيات ونحوها، والتمجيد الذي ورد به النص بعينه، كالتكبيرات والتسميع ونحوه فهذا يتقيد فيه باللغة العربية، وأما الأدعية فإنه يجوز أن تكون باللسان العربي، وبغير اللسان العربي إلا أنه ينبغي للشخص ألا يدعو بغير اللسان العربي، إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية. والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل الجواب لاشك أن من أعظم نعم الله عز وجل على طالب العلم أن يسيطر على بيته، وأن يهيئ له أسرة تعينه على طلب العلم، فيجمع بين مرضاة الله سبحانه وتعالى في طلبه للعلم ومرضاته سبحانه وتعالى في إدخال السرور على الأهل والتوسعة عليهم، شريطة ألا يتوسع في هذا الأمر على حساب ما هو آكد وأهم. فطالب العلم يرتب وضعه، فإذا كانت هناك إجازة صرفها لما هو أهم، خاصة أن الأمة الآن محتاجة إلى طلاب العلم، وفرضية طلب العلم في هذا الزمان آكد من غيره؛ لأنه كلما تأخر الزمان كلما اشتدت الحاجة، وانقراض العلماء وضعفهم وحصول المشاغل لبعضهم يحتم المسئولية أكثر على طلاب العلم، فيجعل الواجب عليهم آكد. فلا شك أن طلاب العلم معنيون بهذا، ويجب عليهم أن يشتغلوا بطلب العلم، وألا يفرطوا في أي وقت يستطيعون أن يستنفذوه في طلب العلم، والاقتراب من العلماء، والحرص على الدروس المؤقتة أو غير المؤقتة، وعدم التفريط فيها. وكان الوالد رحمه الله إذا قلت له: أستأذنك من أجل أن أذهب لغرض يقول لي: يا بني! لا أستطيع أن آذن لك وألقى الله سبحانه وتعالى بإذني لك أن تترك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي لا أغضب عليك؛ لأني أعرفك أنك تحفظ، وأنت عندك عذر، ولكن بيني وبين الله لا أتحمل المسئولية. وطالب العلم إذا طلب العلم عند شيخ عنده مكنه من درس خاص أو عام فهو مسئول أمام الله عز وجل عن كل ثانية، فضلا عن دقيقة أو عن ساعة، وستسأل عنها أمام الله عز وجل، وكل درس يهيأ لك تتخلف عنه ستحاسب عنه بين يدي الله عز وجل. وقد يوجد طالب علم ربما يكون هو الوحيد في قريته أو حيه أو حارته يتفرغ لقراءة العقيدة أو الحديث أو الفقه، وفي الساعة التي ينام أو يغيب أو يتأخر فيها عن مجلس العلم ربما تطرح مسألة، وتنزل هذه المسألة بقومه وجماعته فلا يفتيهم، فيقف بين يدي الله مسئولا عنها. فهذه مسئولية وليس بالأمر السهل، وهذا شيء جعل الله عز وجل فيه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) ، فهذا الأمر يجعل طالب العلم في رحمة الله عز وجل. فأوصي أهل طالب العلم من زوجة وابن وبنت وأخ وأخت وأب وأم أن يعينوا طالب العلم على مسئوليته، وأن يعينوه على القيام بأمانته، وألا يفرط في أي مجلس من مجالس العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وكنا نجلس المجلس مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ممن نعرفهم فنأخذ من سمته ما يعيننا على طاعة الله عز وجل قبل أن يتكلم. وهذه أشياء فيها البركة والخير وفيها النفع، فمن جاء من أهل العلم أو من طلاب العلم يريد أن يطلب العلم ويلتصق بصفوة خلق الله عز وجل حملة الكتاب والسنة فقد أعطي شيئا لا نظير له. ودعك من الدنيا، وما تسمع وما ترى من لهوها فزائل حائل، وانظر إلى أعز الناس في الدنيا من التجار والأغنياء يذهبون إذا ذهبت تجارتهم، ويذهبون بانتهاء أعمالهم، ولكن أهل العلم أبدا لا يذهبون، فهم وباقون في نفوس الناس وقلوبهم، باقون في أعمالهم وعباداتهم؛ لأنه لا يصلي ولا يعمل إلا إذا تعلم على يدي هؤلاء العلماء. فهم أمناء الله على الوحي، وهذه المنزلة الكريمة عليك أن تهيئ نفسك لها؛ لتنال من فضل الله العظيم الذي ليس هناك فضل بعد النبوة أفضل منه، وهو مقام العلم والعمل. فعلى طالب العلم أن يستشعر أنه لا يمكن أن يفرط في هذه المسئولية وهذه الأمانة على حساب أي شيء كائنا ما كان. ومن العجيب والغريب إن ملاذ الدنيا وشهواتها وملهياتها -ولا نقول هذا تزكية لأنفسنا، ولا نزكي أنفسنا على الله، لكن نقولها تمجيدا للرب سبحانه وتعالى، وبيانا لعظيم وفائه وكرمه- عرضت علينا لتحول بيننا وبين شيء من العلم، فتركناها لله فوجدنا من الله في حسن الخلف والعوض ما لم يخطر لنا على بال. وهذا شيء نشهد به لله عز وجل، في أمورنا الخاصة، وفي أمورنا مع عامة الناس، وفي أمورنا المالية، وفي الأمور الاجتماعية، فما كان طالب العلم يظن أنه إذا ضحى لهذا العلم أن الله سيخلفه أبدا. ولكن قال الله: إني معكم. فأنت معك أشرف شيء وأعظم شيء، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من نعمة عظيمة، لكن طالب العلم بحق الذي يقرأ العلم قبل مجلس العلم، ويقرأه في مجلس العلم، ويرجع إلى بيته فينكب على العلم يقرأه قائما وقاعدا، ويتفكر فيه جالسا وراقدا، يجد كيف يفي الله عز وجل له، فإذا وفى لله كاملا وفى الله له كاملا. فنقول: إذا اعترضت طالب العلم الأمور التي تتعلق بالأهل والأصحاب والأحباب وغيرها من الملهيات فعليه أن يحاول قدر المستطاع أن يصرفها بالتي هي أحسن، وبطريقة لا تشوش عليه؛ لأن الأهل لهم حق، والصديق له حق، والرفيق له حق. لكن إذا أمكنك جعل الأهل يذهبون إلى نزهة مع أكبر الأولاد فأعطهم مجالا ليذهبوا وتتفرغ أنت لطلب العلم، أو تذهب معهم ساعة أو ساعتين ثم ترجع، أو تذهب معهم وترتب أوقاتا لا تتعارض مع أوقات تحصيلك ولا أوقات مراجعتك، فتنظم نفسك تنظيما صحيحا وترتب نفسك ترتيبا كاملا، ولكن إياك وأي شهوة أو لذة أو سكرة من سكرات هذه الدنيا تأتيك فتنصرف عن العلم من أجلها، فهي ليست أعز من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن يكون عندك هذا الشعور. وإذا استغنى العبد عن ربه فإنه حينئذ يكون كما قال تعالى: {وتولوا واستغنى الله} [التغابن:6] ، وكما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] نسأل الله العافية، فيزيغ الإنسان عن الكمالات وعن المراتب العلى حينما يعتقد أن شيئا أفضل مما عند الله عز وجل. ولا أعتقد في قرارة قلبي أن أحدا أعز من طلاب العلم في بيت من بيوت الله إلا أحدا يعمل عملا صالحا أفضل مما هم فيه، فلا أشرف من العلم ولا أفضل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ... ) ، فالملائكة تتنزل، وانظر إلى شرف العلم وفضله، فإنه إذا كان يوم الجمعة جلست الملائكة على الأبواب وكتبوا المصلين والسابقين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الخطيب) -أي: جلس على المنبر- طووا الصحف وأنصتوا للخطبة)، وما قال: انصرفوا. فانظر إلى شرف العلم وفضله عندهم، فالعلم مقامه كبير ومنزلته عظيمة، ويبارك الله به في وقتك ويبارك به في عمرك، وتكفى ما أهمك، وهذا الفضل لا يدانيه السرور مع الأصحاب. ومما أعرفه أ، بعض طلاب العلم كان في أثناء طلبه للعلم يأتيه الأصحاب بأنواع الشهوات والملهيات، وكان أبي رحمه الله يثبته على طلب العلم، ويقول له: يا بني اصبر، وسيأتي اليوم الذي تحب أن تراه. وذهبت الأيام وتتابعت، فذاق أولئك من ملذات الدنيا وشهواتها وملهياتها، ثم لم يمت حتى رآهم يأتونه يسألونه عن العلم. فأولئك الذين كانوا في عزهم وكرامتهم، وكانوا في نعمة ورغد من العيش يرجعون إليه، فما تركت شيئا لهذا العلم إلا أبدلك الله خيرا منه وأفضل منه وأكثر بركة، ولو كنت مرقع الثياب حافي القدم فأنت أغنى الناس بالعلم. فلا تفرط في هذا العلم لأي شيء، لكن لا يمنع أنك تجعل لأهلك وقتا. فالتوسعة على الأهل أمر مطلوب؛ لأن الأهل إذا ارتاحوا مكنه ذلك من العلم وفرغ قلبه أكثر؛ لإنه أعطاهم حظهم من الدنيا وسرورها ولذاتها. فالواجب على طالب العلم أن يرتب وقته، ويدخل السرور على أهله وولده ويلاطفهم، وأي شيء فيه إحسان إلى الولد فإنه مكتوب أجره، وهذا من رحمة الوالد بولده، حتى إن القبلة من الوالد لولده يؤجر عليها إذا قصد بها وجه الله وقصد بها رحمة. فعلى كل حال نوصي طلاب العلم أن يحسنوا إلى أهليهم وزوجاتهم، لكن بشرط ألا يكون على حساب العلم، وألا يتوسع أكثر من اللازم، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن، وعلى كل امرأة وزوجة أن تصبر وتحتسب إذا رزقها الله طالب علم يفرغ لحمل هذه الأمانة والقيام بهذه الرسالة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حكم من تلفظ بالظهار هازلا السؤال ما الحكم لو تلفظ بالظهار هازلا؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أن الظهار يأخذ حكم الأصل؛ لأن الأصل في الهازل ألا يؤاخذ بقوله، فلا يوجب ثبوت حكم. ومن أهل العلم من قاسه على الطلاق، وقال: من هزل بالظهار كمن هزل بالطلاق. وهذا المذهب أحوط، وأبرأ للذمة، وأسلم للإنسان أن يحتاط لدينه ويستبرئ. أما الأصل فيقتضي أن الهازل لا يؤاخذ على هزله، وأن المزح لا يأخذ حكم الجد. ولذلك نقول: إن الأصل رجحان مذهب من يقول: إنه لا يعامل معاملة المطلق، فمن ظاهر هازلا وما قصد الظهار لا يقع ظهاره، وإذا أحب أن يحتاط ويخرج من الخلاف فهذا أفضل. أما من حيث الدليل ونحن قلنا: الأصل، فالأصل أن الهزل لا يأخذ حكم الجد، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) ، فلو كان الهزل يأخذ حكم الجد لما قال: (ثلاث) ، ولما خص الحكم بالطلاق والنكاح، ولذلك لما قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) دل أنه ما عدا الثلاث، لا يأخذ حكم الثلاث وإلا كان قال: أربع، أو: خمس، ولذلك اختص الحكم بما ورد، فإذا جاءت المسألة ترد إلى الأصل، فهل الهازل يقصد إيقاع الشيء أو لا يقصده؟ والجواب: يقصده، وليس في نيته ذلك، وليس بمتعمد إيقاع ذلك، ولذلك قال تعالى: {ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] ، فهو لم يقصد الظهار ولم يرده، وإنما أراد أن يهزل مع امرأته ويعبث معها، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، لكن مع ذلك نقول: الاحتياط أفضل. ومذهب الاحتياط يسمى فقه الفتوى والجواب، وهو أنه إذا كان الشيء لا عقوبة فيه وترجح القول بعدم عقوبته، وسمعه عوام الناس أو سمعه الناس فربما تساهلوا فيه وتلاعبوا به، فإنهم ينذرون منه تخويفا من انتهاك حدود الله عز وجل والاستخفاف بها، فما ينبغي لأحد أن يهزل بالظهار، ولا أن يهزل بالأشياء الشرعية التي عظمها الله عز وجل، ولذلك وصف الله الظهار بأنه منكر من القول وزور، ولا ينبغي للهازل أن يتلفظ بالظهار، كما ينبغي للمسلم دائما أن يحفظ حدود الله، وأن يتقي الله فيما يقوله. والله تعالى أعلم. حكم إعتاق الرقبة إذا كانت من ذوي الأرحام السؤال لو كانت الرقبة التي يريد أن يعتقها قريبة له كالوالد والأخ والعم، فهل تقع كفارته؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: لا يجزئ أن يعتق ذا الرحم المحرم، كما في حديث السنن، ومن أهل العلم من قال: إنه لا يجزئ أن يعتق الوالدين، وكذلك أيضا الفروع والإخوة. فخص الحكم بالأصول وفروع الأصول القريبة التي هي الإخوة وغيرها من الفروع القريبة. ويتأتى هذا فيما لو كان ولده كافرا ثم أسر في الحرب ثم بيع، أي: ضرب عليه الرق، ثم بيع، ثم اشترى ولده، فتأتي هذه المسألة على هذه الصورة، أو يكون والده كافرا فيؤسر، ثم يضرب عليه الرق فيشتريه. ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) ، وورد في الصحيحين أيضا: (لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ثم يعتقه) . فهم يقولون: إن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فيقتضي ذلك أن الأصل أن من ملك ذا رحم فلا يسمى رقبة؛ لأنه يعتق عليه بمجرد ملكه له، فهو إذا أعتق في كفارة الظهار حاز فضلا لنفسه بالتخلص من عتقها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يذهب الجمهور إلى هذا، والمالكية يذهبون إلى القول الثاني. والحقيقة أن قوله: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) هو من حديث سمرة، وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله، ولكن على القول بتحسينه يقوي قول من قال: إن ملكية ذا الرحم تمنع من إجزاء الرقبة في عتق الظهار وغيره مما تجب فيه الرقبة. والله تعالى أعلم. أجر من عفا عن القاتل السؤال هل من عفا عن القاتل يكون له أجر عاتق الرقبة؟ الجواب من عفا عن القاتل له أجر، وهذا الأجر مغيب، ولم يرد نص بتفسيره ولا ببيانه ولا قياسه على غيره، فالواجب على المسلم أن يقف عند هذا الموقف الذي حده الشرع، وهو أن نؤمن بأن الله يثيبه، قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40] ومن ابتغى الأجر من الله، فقد تولى كريما لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى، فنعم العطية ونعم المتحمل سبحانه وتعالى لهذا الفضل العظيم الذي سيبذله على عبده؛ لأن الناس يختلفون، من قتل أبوه وعفا ليس كمن قتل ولده، ومن قتل أبوه وهو يتيم يحتاج إلى حنانه وبره وإحسانه، ليس كمن قتل أبوه وهو كبير عاقل رشيد، هذه الأمور كلها يعلمها الله سبحانه وتعالى ويقدرها بأقدارها ويجزل ثوابها، {ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر:14] سبحانه وتعالى، فهذه الأمور لا يدخل في تفصيلها. فإن يقال: إن من أعتق الرقبة كمن عفا عن القتل. أو: من عفا عن القتل كمن أعتق الرقبة فهذا لا يدخل فيه القياس؛ لأن هذه الأمور ليست مجالا للقياس، وهذه أمور غيبية يقف المسلم فيها عند الحد الذي حده الشرع، فيؤمن إيمانا جازما كاملا بأنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا عفا المسلم عن أخيه المسلم لله ولوجه الله تولى الله ثوابه. أما ما هو الجزاء، وما هو الثواب فهذا أمر يتوقف فيه؛ للأصل الذي ذكرناه. والله تعالى أعلم. الاستدلال بحديث الجارية على إثبات علو الله عز وجل السؤال هل يستدل بحديث الجارية على ثبوت علو الله تعالى، وذلك في قول الجارية: في السماء؟ الجواب هذا دليل للمذهب الحق في إثبات الفوقية لله عز وجل، قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل:50] ، فأثبت سبحانه وتعالى لنفسه الفوقية والعلو سبحانه وتعالى، وتجد بعض المذاهب تقول: الله ليس فوق ولا تحت ولا هنا ولا هناك، -نسأل الله السلامة والعافية، فيردون هذه النصوص، ويتكلفون في إبطالها، حتى قال بعض أئمة العلم ودواوين العلم في ردهم لهذا القول الضعيف المصادم للنصوص: إن البهيمة إذا أصابها الكرب رمت ببصرها إلى السماء. حتى البهيمة أثبتت لله عز وجل هذه الصفة. والله سبحانه وتعالى أثبت أن إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فهي نصوص واضحة كالشمس، لا تحتاج إلى تأويل، ولا تحتاج إلى تعطيل، ولا تحتاج إلى تمثيل، فيؤمن بها المسلم كما جاءت وكما نزلت. ولذلك استدل العلماء والأئمة بقولها: (في السماء) على إثبات صفة العلو؛ لأن العرب تنص على أن السماء تطلق على العلو، وهو إثبات صفة العلو لله عز وجل، وهو العلي العظيم. فالمذهب الحق إثبات صفة الفوقية لله عز وجل؛ لثبوت نصوص الكتاب والسنة بذلك، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة: (اللهم هل بلغت. اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) ، فكان يرفع أصبعه إلى السماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا خطب خطبة الجمعة وأراد أن يدعو أشار بأصبعه إلى السماء) فهذه هي السنة، وهذا يدل على أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل، ولا يقبل تأويلها أو تعطيلها أو صرفها عن ظاهرها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) ، فهذه نصوص واضحة لا تحتاج إلى تأويل، بل تثبت أنه في العلو سبحانه وتعالى، والتنبيه بالضد يدل على ضده، فعلى كل حال أسفرت أدلة الكتاب والسنة على إثبات الصفة لله عز وجل، وأن المذهب الحق أن الله له هذه الصفة بدون تأويل ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه. والله تعالى أعلم. حكم الوضوء واستقبال القبلة عند سجود التلاوة السؤال هل يشترط لسجود التلاوة استقبال القبلة والوضوء؟ الجواب السجود لا يكون إلا للقبلة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه قال: (قبلتكم أحياء وأمواتا) يعني الكعبة، فأثبت أنه لا تستقبل إلا القبلة، ولا نجيز لأحد أن يسجد لغير القبلة، سواء أكان في صلاة أم غيرها، إلا إذا دل الدليل على جواز ذلك، كما في صلاة النافلة في السفر على الدابة حيث ما توجهت به، وأما ما عدا ذلك من القياسات والآراء فمذهبه ضعيف؛ لأنه مصادم للأصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قبلتكم أحياء وأمواتا) ، فينبغي استقبال القبلة عند السجود، سواء أكان سجود تلاوة أم سجود شكر أم سجود سهو، أم سجود صلاة، فكل ذلك سجود، وآخذ حكم الأصل من الإلزام باستقبال للقبلة، وهذا أصل شرعي عمل به جمهور العلماء رحمهم الله، أما أن يكون الشخص يتلو القرآن فلا تدري إلا وهو ساجد إلى جهة الشرق أو جهة الغرب والقبلة منحرفة عنه فربما ظن أنه يسجد للسارية أو يسجد لغير الله عز وجل، خاصة إذا كان في مسجد يمكن فيه أن يسجد للقبلة، لكنه ينحرف عن القبلة ويسجد إلى غيرها، فهذا أمر لا شك في خطئه وعدم صوابه، والمذهب الحق أنه يجب استقبال القبلة. أما الطهارة واشتراطها للسجود فالصحيح أن سجود التلاوة وسجود الشكر لا يشترط لهما الطهارة، والدليل على ذلك أن اشتراط الطهارة شرط زائد عن استقبال القبلة، وإنما تشترط الطهارة للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة) ، فهذا الأصل، وسجود التلاوة ليس بصلاة من كل وجه، وسجود الشكر كذلك ليس بصلاة من كل وجه، فلا يلزم أن يكون متوضئا. والله تعالى أعلم. حكم إعادة المأمومين للصلاة إذا صلى بهم إمام وهو غير طاهر السؤال إمام صلى بالناس وهو على غير طهارة، فهل يلزم المأموم أن يعيد الصلاة، أم تقتصر الإعادة على الإمام فقط؟ الجواب أصح الأقوال في هذه المسألة مذهب الجمهور، فقول الجمهور رحمهم الله أنه تصح صلاة من وراء الإمام، ويجب على الإمام أن يعيد الصلاة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، أي: إن أخطأو ولم يعلموا، وكان الخطأ مؤثرا في الصلاة كشرط الطهارة ولم يعلم من وراء الإمام به فعليه خطؤه ولكم صلاتكم تامة صحيحة، فهذا يدل على أن الإمام إذا صلى ولم يخبر المأمومين، أو إذا صلى ونسي أنه محدث ثم بعد الصلاة تذكر فإن صلاة المأمومين صحيحة، ولا تجب عليهم الإعادة. وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المأمومين أن يعيدوا، والحقيقة أن القول الذي يقول بعدم الإعادة أقوى من حيث السنة، خاصة أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف -والجرف في غربي المدينة يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب أربعة أميال، وهو الموضع الذي ينزل فيه الدجال كما في الحديث الصحيح: (أن منزله بسبخة من أرض جرف) ، وهي خارج حدود الحرم-، فنزل في مزرعته، فلما جلس على الساقية نظر إلى فخذه فرأى آثار المني، فقال رضي الله عنه وأرضاه: ما أراني إلا أجنبت فصليت وما اغتسلت. فاحتلم فاستيقظ وهو لا يدري أنه جنب، فصلى ولم يأمر أحدا بإعادة الصلاة، ومعلوم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس مأمورون باتباع سنته وهديه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك القول الصحيح في هذه المسألة أن الإعادة لا تجب على المأمومين. لكن إذا علم المأموم أن إمامه محدث، أو رأى على إمامه نجاسة فإنه يجب عليه أن يفارقه عند العلم، فإن علم قبل الصلاة فلا يجوز له أن يأتم به، فإن ائتم به بطلت صلاته، وهكذا لو أحدث الإمام أثناء الصلاة وسمع المأموم حدثه، كأن يخرج منه الريح -مثلا-، فإنه يستخلف مكانه، فإذا لم يستخلف، ينوي المؤتم مفارقته ويتم لنفسه، فلو اقتدى به بعد علمه بحدثه ركنا واحدا بطلت صلاته بالإجماع، كما حكاه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم. والله تعالى أعلم. ضابط المشتبه في قوله عليه الصلاة والسلام: (وبينهما أمور مشتبهات) السؤال ما هو ضابط المشتبه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمور مشتبهات) ؟ الجواب هذه المسألة حار فيها العلماء رحمهم الله، واختلفوا في حد المشتبه، ولا يوجد له قاعدة معينة أو ضابط معين. والفتوى ليست كلمات تقال لا يسأل ولا يحاسب عنها الإنسان، فكم من مسائل جثا بسببها السلف ودواوين العلم على ركبهم، فتمنوا أن أمهاتهم لم تلدهم قبل أن يقولوا فيها بشيء، فالإنسان يتقي الله عز وجل، فالشيخ الأمين رحمة الله عليه سئل عن مسألة في البيوع فقال: لا أعلم. لا أدري. الله أعلم. فكرر عليه السائل أكثر من مرة، وقيل له: إذا لم تفت أنت فمن يفتي؟! وكان رحمه الله من أعلم الناس في زمانه، وفي بعض الأحيان يحرج السائل المفتي، وقد يكون عونا للشيطان عليه، فيقول له: ما أحد يفتي غيرك، وأنت شيخنا، وأنت وأنت. وربما جره من حيث لا يشعر، وينبغي للإنسان أن يشفق على من يسأل، فجثا الشيخ الأمين على ركبتيه ورفع يده إلى السماء وقال: يا فلان لا تحملني ما لا أطيق، يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق. يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق. فالمسائل ووضع الضوابط والقيود أمور يتساهل فيها المتأخرون، ويخاف منها المتقدمون الورعون الصالحون. فالضوابط تحتاج منك أن تدرس جميع المسائل المشتبهة في مسائل العبادات والمعاملات في الفقه فقط، أما العقيدة ففيها أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس، منها ما أحل الله عز وجل أن يقوله الإنسان مما يعتقده، ومنها مما حرم الله عز وجل عليه أن يعتقده، وهناك أمور مختلطة ينبغي للإنسان التورع فيها، وأن يبتعد عنها، حتى في المسائل التي تتعلق بالعبادات والمعاملات، فعند أخذ المشتبهات في الطهارة وحدها يمكن أن يحار العقل في وضع ضوابط لها، أما فهمها ومعرفتها فالحمد لله عز وجل، فالله عز وجل ما قبض رسوله عليه الصلاة والسلام إليه إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء. فعلم المتشابهات ليس له ضابط أو قاعدة محددة، لكن هناك أمر يعين على فهم المتشابه، وهو أن المتشابه أمر فيه شبه من الحل يقتضي جوازه، وشبه من الحرمة يقتضي منعه، وحينئذ يتردد نظر الفقيه في إلحاقه بأقواهما شبها ليجزم بحله أو يجزم بحرمته، أو يقف موقف السلامة عند استواء الأمرين، فيقول فيه: الله أعلم. هذا فيه شبه من الحل وشبه من الحرمة. فمثلا: أحل الله لنا نكاح المرأة غير المسماة في المحرمات، فقال تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم} [النساء:23] ، ثم قال بعد ذلك: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24] ، أي: من غير ما سميت لكم. فهذا يقتضي حل النساء من غير ما سمى الله عز وجل، فالنص يقتضي أنه لو أن رجلا -والعياذ بالله- زنا بامرأة، فأنجبت هذه المرأة بنتا فهي بنت من الزنا، وإذا جئنا ننظر فإن البنت الحلال التي يجوز له أن يصافحها ويجلس معها ويختلي بها ويسافر ولا يحل له نكاحها هي بنت النسب، وهي من مائه ومن لحمه ودمه ومن فراشه، فهذه هي الحلال البينة التي لا إشكال فيها ولا شبهة. ولو جئنا إلى المحرمة، وهي التي لا تحل للرجل إلا بعد أن ينكحها، ويكون له وجه من حلها بملك يمين أو نحوه، وكونه زنا بها فالزنا حرام، ولا يقتضي أنها تأخذ حكم الحلال، فالبنت من الزنا هل نحكم بكونها بنتا من صلبه فلا يجوز له أن يتزوجها، أو نحكم بأنها أجنبية عنه ونجيز له ذلك؟ كذلك لو أن والده زنا بامرأة، فجاء يريد أن ينكح بنت هذه الزانية -والعياذ بالله-، وهي أخته من الزنا، فهل نقول بحلها؛ لأنها ليست من ذوات النسب، وليست مما سمى الله عز وجل من المحرمات؟ لأنه تعالى قال: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24] ، والبنت من الزنا ليست بالبنت من النسب، وليست من المحرمات بالمصاهرة، وليست محرمة من الرضاعة، وليس فيها نص يقتضي تحريمها، فإذا هي مما وراء ذلك. وإذا جئنا ننظر في المعنى الذي من أجله حرمت الشريعة نكاح البنت ولم تجز للرجل أن ينكح بنته أو أخته وجدناه موجودا في هذه البنت، فهي من صلبه ومائه ومن فراش وطئه، والذي فيها فقط هو الوصف الشرعي وعدمه، فاقتضى الأول حلها، واقتضى الثاني حرمتها، فصارت مشتبها، تشبه الحلال من وجه تشبه الحرام من وجه. فمثل هذا يأتي فيه الإنسان ويقول: لا أفتي بحله ولا أفتي بحرمته. وحينئذ يلقى الله سبحانه وتعالى لم يعتقد حرمة يحرم بها شيئا لم يحرمه الله، ولم يعتقد حلا؛ لأنه شيء لم يرد النص بتحليله جزما، فصار المشتبه يقتضي مثل هذا الحكم، وهذا قد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قضية عبد بن زمعة حينما وطئ أخو سعد رضي الله عنه جارية زمعة وولدت، فكان فيه شبه من أخي سعد رضي الله عنه وأرضاه، وقال أخوه قبل أن يموت: إن الذي أنجبته ولدي وابني، فإذا أنا مت فتعهد به. فعهد به إليه قبل موته، فلما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد: إنه ابن أخي عهد إلي به قبل موته. وقال عبد بن زمعة رضي الله عنه: يا رسول الله! إنه على فراش أبي، والأصل أنها وليدة لوالدي، وتأخذ حكم الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فاستدل بالأصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة) ، فانظر كيف عمل بالشبهين. وكذلك أيضا في قضية المرأة التي ادعت أنها أرضعت، فقال الزوج: (يا رسول الله! إنها لم ترضعني، فقال: كيف وقد قيل؟) ، فأمره بفراقها مغلقا الشبهة ودافعا لها. لكن الذي ينبغي على المسلم دائما أن يرد الأمر إلى العلماء، وأن يسأل من عنده علم، فربما كان الأمر مشتبها، عند عالم بينا عند عالم آخر، وربما كان ملتبسا على أحد، والله تعالى يقول: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف:76] ، وقد أخبر تعالى عن خيرة خلقه وصفوته من عباده وهم رسله، فقال تعالى في قضية داود وسليمان: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] . فقد يكون الشيء مشتبها عند عالم بينا عند غيره، وهذه نعم من الله تعالى يفتح بها على العلماء، ويفرق بين العلماء، حتى إن الخلاف في شريعتنا أظهر الله وكشف به العلماء الراسخين في العلم، فظهرت قوتهم في استنباط الأحكام من النصوص، وقوتهم في إحقاق الحق وبيان الأرجح والأقوى والأقرب إلى أصول الشريعة، وهذا كله راجع إلى فضل الله عز وجل وحده لا شريك له الذي يؤتي الحكمة من يشاء. نسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم. عدة المطلقة بعد مرور سنة على فراق زوجها لها السؤال امرأة طلقها زوجها بعد سنة من فراقها، فهل لها عدة، أم تكتفي بمدة الفراق؟ الجواب الواجب عليها أن تعتد بعد الطلاق، ولا تعتبر بمدة الفراق؛ فإن الله تعالى جعل العدة مرتبة على وجود الطلاق، وبناء على ذلك لا يمكن أن يحكم بالعدة قبل وقوع الطلاق، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. والله تعالى أعلم. نصيحة لطالب علم كثير النسيان الجواب القواعد والمنهجية مسائل كبيرة، فطلب النصائح والتوجيهات ممكن، لكن المنهجية أمر صعب جدا. السؤال لا أعرف كيف أقرأ كتب أهل العلم؛ إذ أنسى أول الكتاب إذا وصلت إلى آخره، ولا أعرف كيفية الضبط، فما المنهجية في ذلك؟ وعلى كل حال من أخلص لله فتح الله عز وجل عليه من فضله. أولا: لا يقرأ الإنسان في كتاب يختص بعلم حتى يحصل قواعده بالتلقي المباشر، وأنبه أن العلم لا يؤخذ عن طريق الكتب، ولا تؤخذ السنة إلا من أفواه الرجال، وأما كون كل شخص يأخذ كتابا ويأخذ علما، ويستقل بنفسه في دراسته وفهمه فمن السهل أن ينسى، وأن يفهم فهما خاطئا فيضل. ومعلوم أنه كلما تأخر جيل عن الذي بعده نقص اتباعهم لهديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجيل الأول تلقى الوحي مباشرة فشاهد مشاهد التنزيل، وجلس مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ منه مباشرة، وهذا أكثر بركة، وأكثر فهما وأكثر ضبطا, وأكثر تحقيقا، وكلما تأخرت الأمم كلما ضعف العلم، ومن هنا فرق بين القرن الذي يليه عليه الصلاة والسلام والقرن الذي بعده حتى تقوم الساعة، فالتلقي لابد أن يكون من أفواه العلماء ومن أفواه الرجال، كما كان حال السلف رحمهم الله والأئمة. ثانيا: الكتاب الذي تريد أن تقرأه لابد أن تراعي فيه أمورا. أولا: ينبغي على طالب العلم ألا يقرأ كتابا حتى يقرأ مقدمته، وتعرف ما الذي في المقدمة. ثانيا: لا تقرأ إلا بين يدي عالم، فتضن وتشح بنفسك وبوقتك عن أن تهدره عند من لا يقدره قدره من أنصاف المتعلمين والمجهولين، فلا تأخذ العلم إلا ممن يعرف، وإياك والجلوس عند من لا يعرف العلماء، ومن لا يعرفه العلماء، ولذلك تجد هذا الزخم الموجود في المكتبة الإسلامية إلى درجة أنه أصبح يضايق كتب السلف وأئمة العلم حتى في المسائل الواضحة، وكأن كتب العلماء والأئمة المتقدمين لا تشفي عليلا ولا تروى عليلا، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فلا تقرأ إلا كتب من يوثق بعلمه، وكثير من الآفات تأتي بسبب هذا، ولربما تجد الشخص يؤلف في مسألة كبيرة وهو يجهل مقدمات العلوم، وهذا هو الذي -نسأل الله السلامة والعافية- ابتليت به الأمة. خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، فتصدر للتدريس والكتابة من ليس بأهل لذلك إلا من رحم الله عز وجل. فلا يقرأ لكل أحد، ولا تؤخذ كتبا لأناس مجهولين لا يعرف من هم، خاصة في أمور العقيدة، وفي المسائل المهمة التي تتصل بعقيدة الإنسان، أو بعبادته فيما بينه وبين الله، وهذا لا يتساهل فيه، ونحن نشدد في هذا، والله يشهد أننا لا نريد إلا النصيحة لله ولكتابه ولدينه وشرعه، ولا نقصد بذلك شخصا، ولا نقصد طائفة ولا جماعة، لا نقصد إلا من تصدر لشيء ليس له بأهل. وهناك أمر آخر، وهو أن أي مسألة تريد أن تقرأ فيها فلا يخلو الأمر إما أن تكون قديمة بحث عنها فيها السلف ودواوين العلم وكتبوا فيها، وإما أن تكون مسألة نازلة جديدة. فإذا كانت المسألة قديمة بحثها أئمة السلف ودواوين العلم فالله الله في سلف الأمة، فأنت في غناء عمن بعدهم؛ لأن الذين من بعدهم إما أن يكرروا لما قالوه، وإما أن يأتوا بشيء من عندهم، فما علمت فإنه يكفيك، واقتد بالأولين، وهذه نصيحتي لكل طالب علم. فخذ أي كتاب من كتب العلماء المتقدمين، وخذ التفسير -على سبيل المثال- واقرأ في تفسير آيات الصبر، واقرأها بقلب خاشع وبنفس حاضرة، وتدبر الكلام الذي يقال لك فستجده كلاما ليس فيه أكثر من دلالة الآيات والنصوص، وصحيح أنه ليس فيه جرأة على القول على الله عز وجل، وليس فيه كلام معسول ولا كلام منمق، لكنه كلام عليه نور العلم لا يعرفه إلا من عرف العلم، وتجد العالم والله أصدق لسانا وأوضح بيانا، وأقوى حجة وبرهانا, وما كان يعجزهم أن يأتوا بالكلمات المعسولة والخطب الطنانة والعبارات المنمقة، لكنه الورع الذي سببه التقوى. فما الذي جعل بعض المتأخرين يأخذ الرسائل وهو بإمكانه أن يرجع إلى دواوين العلم وإلى العلماء الأولين، بل الأولى أن يعود شبابنا وصغارنا على الالتصاق بسلف الأمة، وأن يقرؤوا ويداوموا النظر في كتب المتقدمين حتى ينتهلوا مما انتهل منه العلماء الأولون ليجدوا بركة ذلك العلم الذي أثرت عليه دلائل الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل. لكن حينما يقرأ للمتأخر ويلتصق بالمتأخر تجده بعد ذلك -إذا كان خطيبا، أو كان واعظا- لا يستطيع أن يخطب خطبة في موضوع، أو يتكلم أو يحاضر في محاضرة، إلا إذا كان فيها رسالة معاصرة، قالوا: لأن كلام الأولين معقد، وكلام المتأخرين سهل والحقيقة أن قول الأولين ولكنه ألفاظ موزونة رصينة، وكتبت هذه الكتب والعلماء متواجدون متظافرون، فكان كل واحد منهم يخاف النقد، وكانت كل كلمة وجملة محسوبة، وكنا نقرأ في بعض الكتب فنحاول في بعض الأحيان أن نأتي ببديل عنها من الكلام المعسول، ليستقيم الكلام فلا نستطيع. وقال لي الوالد رحمة الله عليه مرة أنصحك. أو: أناشدك الله ألا تجد علما عند السلف وعند الأئمة المتقدمين وعند المتأخرين شيء منه إلا رجعت إلى علم المتقدمين. وأدركت -والله- فضل نصيحته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجزيه عني وعن الإسلام والمسلمين كل خير، والله وجدت بركتها وخيرها حتى في الفتاوى، ما أجمل أن ترجع فيها إلى كتب السلف والمتقدمين، ولا تخف من الناس، وإنما عليك أن تلقي العبارات، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، ولا تنتظر من الناس مدحا أو جزاء أو شكورا، ولا تبحث عن رسالة لعلمك أن عباراتها منمقة، أو كتاب عباراته سهلة وأنت تجد علما معروفا عن عالم معروف يخاف الله ويتقيه ويزكيه من أئمة العلم ودواوين العلم وتترك هذا من أجل ما تجده عند الناس من العجب بعبارتك أو بكلماتك، ولكنك تجد -إذا رجعت إلى كتب الأولين- من القبول من الله والمحبة والتوفيق ما لم يخطر لك على بال، وهذا الشيء نشهد لله به، فعلم المتقدمين أبرك وأكثر خيرا، وليس معنى ذلك أن المتأخرين ليس عندهم شيء، ولكنها الحقوق. ليس هناك عاقل حكيم يسأل عن عين زاكية نظيفة نقية لا تشوبها الشوائب، تجري على الأرض يعرف منبعها ويعرف فرعها فيقول: خذ من الفرع واترك الأصل. فقد اجتمعت العقول على أنها تدل على الأصول، ومن ذهب إلى الأصل وأخذ منه كان أصفى علما وأنقى وأبعد عن الشوائب، فنحن نوصي بهذا، ونوصي بكتب السلف ما أمكن. أما طريقة القراءة فباختصار: أولا: لا تقرأ إلا بعد أن تعرف منهج العالم -كما ذكرنا- الذي هو منهج الباحث، وكان العلماء رحمهم الله يعتنون ببيان منهجهم في كتبهم، فإذا قرأت المقدمة وعرفت منهج العالم فاسأل عما أشكل عليك، ولا تبدأ قراءة الكتاب إلا بعد أن تعرف ما مقصوده، خاصة إذا كان له مصطلحات خاصة، أو يعتبر مفاهيم معينة. وبعد أن تقرأ المقدمة وتفهم منهج العالم وطريقته في تناول المسائل والعبارات تقسم الكتاب بتقسيمه، فهناك ما يسمى الأصل، وهناك ما يبنى على الأصل من الفروع، فإذا جئت إلى مسألة تتعلق بحكم شرعي فهناك ما يسمى بالأركان والشروط تتحقق بها ماهية الشيء، وبعد الأركان والشروط تأتي الأحكام المترتبة على وجودها، وهي ما يسميها العلماء بالأثر، ثم تأتي مباحث يسميها العلماء بالطوارئ والنوازل. فإذا جئت تقرأ في مباحث الأحكام والأركان والشروط تعرف المقدمات. فلا تقرأ إلا وقد عرفت المقدمة، وعرفت مصطلحات من تقرأ كتابه، وكونك تقرأ الكتاب فينسيك آخره أوله فما أدري، هل العيب في القارئ، أو -والعياذ بالله- محقت بركة الكتاب المقروء، فليس فيه بركة، وإما أن يجتمع الأمران، فإما أن يكون القارئ -والعياذ بالله- عنده ذنوب أطفأت نور العلم، وأظلمت القلب فلم يفقه ولم يفهم، وإما أن يكون العيب في الكتاب -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تجد بعض الكتب لما تقرأها تبقى، وبعض الكتب تقرأها، ثم إذا انتهى الإنسان من حاجته في اختبار أو غيره ذهب علمها -نسأل الله السلامة والعافية-، فهذا راجع إلى نفس تأليف الكتب ووضعها، وكان السلف رحمهم الله يخافون من التأليف، ولا يؤلفون إلا إذا سئلوا. وإما أن يكون مجموع الأمرين: عيب في القارئ، وعيب في واضع الكتاب. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (461) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [5] من أعظم الشروط اللازم توافرها في الرقبة لإخراجها في كفارة الظهار سلامة الرقبة من العيوب، وهذه العيوب تناولها الفقهاء بكثير من الأحكام والمسائل، من أهمها: ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، وحكم ذهاب العضو أو بعضه من الرقبة، وحكم المريض الميئوس منه، وأم الولد في الإعتاق، وهل يصح إعتاق العبد الأحمق، أو المدبر، أو المرهون، أو الجاني، أو ولد الزنا، أو الأم الحامل مع حملها؟ العيوب المؤثرة في الرقاب في كفارة الظهار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدم معنا أن الرقبة التي أوجب الله عتقها في الكفارات لابد أن تكون مشتملة على بعض الصفات التي يحكم بإجزائها وبراءة الذمة في عتقها، وبين رحمه الله في هذه الجملة أنه يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وبينا دليل هذا الشرط، وأن أصح قولي العلماء رحمهم الله هو حمل المطلق على المقيد، فنحمل المطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل، ولذلك أوجبوا الإيمان في الرقبة التي يعتقها المظاهر. يقول والمصنف رحمه الله: [ولا يجزئ في الكفارات] ، وهذه عادة العلماء رحمهم الله، فهم يذكرون المسائل المتماثلة التي يشبه بعضها بعضا في المظان، فبين أنه يشترط في الرقاب التي يجب عتقها أن تكون مؤمنة، فلو أعتق رقبة كافرة فإنه لا يجزئه، لا في كفارة القتل، ولا في كفارة الظهار، ولا في كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا في كفارة اليمين، أي: في الكفارات التي تجزئ فيها الرقبة. ثم الشرط الثاني الذي يجب توفره لإجزاء الرقبة وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها: أن تكون سالمة من العيوب، وبينا حقيقة العيب، وأن أصله في اللغة النقص، يقال: عاب فلان فلانا إذا انتقصه بشيء مما يعد منقصة. والعيب ينقسم إلى قسمين في الرقاب، عيب في الجسد، وعيب في النفس والروح. فعيب الجسد: النقص في الخلقة الذي يضر ضررا بينا. وعيب الروح: متعلق بالأخلاق، كأن يكون فاقدا للعقل، أو يكون عصبيا إلى درجة لا يتحكم في نفسه في حالات الغضب، أو يكون يصاب بالصرع والإغماء، فهذا فيه نقص في الروح. ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقاب تقدم معنا في كتاب البيوع ذكر العيوب المؤثرة في الرقاب، وضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، إلا أنه هنا إذا كان النقص في الرقبة يكون النقص في الأعضاء، كقطع عضو كيد أو رجل، أو ذهاب حاسة كذهاب البصر ونحوه، فهذا إذا وجد في الرقبة فإنها لا تجزئ في العتق، فلو كان عنده عبد أو مملوك أعمى وأعتقه كفارة الظهار، أو كفارة لقتل، أو كفارة لجماع في نهار رمضان لا يجزئه، وهكذا لو كان أقطع اليد، أو أقطع الرجل، أو مشلولا شللا تاما، أو شللا جزئيا لبعض الأعضاء. ثم استأنف رحمه الله فقال: [يضر بالعمل ضررا بينا] ، وهذا يسمى عند العلماء بالضابط، وهو هنا أن يكون العيب مضرا بالعمل ضررا بينا، فالعيب يضر ويمنع الإنسان من العمل. والسبب في وضع هذا الضابط أن الرقبة إذا كانت لا تستطيع العمل فمعنى ذلك أن الشخص إذا أعتقها يتخلص من تبعة الإنفاق عليها؛ لأنها إذا كانت عاطلة لا تعمل، مثل رقيق مشلول -مثلا- فهو كما قال تعالى: {وهو كل على مولاه} [النحل:76] أي: كل على سيده فسيده إذا وجبت عليه الرقبة بانتهاكه حرمة من حرمات الله كقتل نفس محرمة، أو ظهار، أو جماع في نهار رمضان، فأصبح هنا من الخير له أن يعتق هذه الرقبة، وأصبح العتق في هذه الحالة تخلصا من التبعة، فبدلا من أن تكون زجرا له أصبحت نعمة عليه، وهذا خلاف مقصود الشرع في أن يتحمل الغرم الذي يؤثر فيه حتى يردعه عن انتهاك حرمات الله، ولذلك أوجب الله الكفارة من عتق الرقاب، والإطعام، ونحوهما من الكفارات التي تكف الإنسان في بعض الأحيان عن انتهاك حرمات الله، حتى يكون ذلك أبلغ في زجره. أقوال أهل العلم في الرقبة المعيبة إذا ثبت ما سبق فالعلماء على قولين: فمن أهل العلم من قال: إذا وجد العيب المؤثر لا يجزئ عتق الرقبة. فلو أعتق الأعمى -كما ذكرنا- فالجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وطائفة من أهل الحديث رحمة الله عليهم كلهم يقولون: إن من أعتق الرقبة التي فيها عيب مؤثر فذلك العتق لا يجزئه. وقال بعض العلماء: إنه إذا أعتق الرقبة التي فيها عيب -ولو كان مؤثرا كالعمى والشلل- فإنه يجزئه. وقال: حتى ولو أعتق عبدا مشلولا شللا كاملا يجزئه. وهذا مذهب الظاهرية رحمة الله عليهم وطائفة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الرقبة يشترط في صحة إجزائها وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها أن تكون سالمة من العيوب؛ لأن مقصود الشرع في إعتاق الرقبة الرفق والإحسان إليها، وزجر ذلك المرتكب لحرمات الله عز وجل بوجوب الكفارة عليه، وحينئذ لو قلنا بعتق هؤلاء خالفنا مقصود الشرع، فأصبح رفقا به من تبعة الإنفاق على تلك الرقبة، لذلك نقول: الله عز وجل أمر بعتق الرقبة، والأصل أن تكون الرقبة على الصفة المعتبرة، ودليل ذلك أننا وجدنا الشرع يسقط بالعيب عن الإنسان الواجبات، بل حتى في المستحبات كما في الأضحية -على القول باستحباتها-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجزئ في الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقي) ، وهي التي لا مخ فيها. فإذا كان في المستحبات لا تجزئ فكيف في الواجبات التي ألزم بها، وهذا حي وهذا حي، فالرقبة من الحيوان وكذلك الأضحية من الحيوان، فكوننا نقول في الرقبة: إن الإنسان حيوان فهذا من الوصف بالحياة، وهذا الوصف يطعن فيه بعض المتأخرين، وليس طعنهم بصحيح، فالإنسان حيوان، ووصفه بهذه الصفة من جهة الحياة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت:64] ، يعني: الحياة الحقيقة؛ فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. فالمراد بهذا أن نقول: إنه امتنع أن يجزئ المعيب في الأضحية على القول بوجوبها، فكما لا يجزئ المعيب في الأضحية لا يجزئ المعيب في الرقاب، من جانب أن هذا ثبت فيه حق الله عز وجل، وإما إذا قلنا: إن الأضحية ليست بواجبة فنقول: إذا كان العيب مؤثرا في الأضحية وليست بواجبة ففي باب الرقاب الواجبة من باب الأولى، فهذا من جهة الأدلة التي تدل على أنه لا يجزئ ما كان معيبا من الرقاب في الكفارات كلها، وهنا ذكر المصنف شرطين لجميع الرقاب: الإيمان، والسلامة من العيب. قوله: [كالعمى] . هو ذهاب البصر، والعمى يكون حسيا ويكون معنويا، وأشد العمى عمى البصيرة -نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجنبنا الله من عمى البصائر-، ولذلك قال الله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46] ، والمقصود هنا العمى الحسي وهو ذهاب البصر. قوله: [والشلل] . هو المرض المعروف، ويعجز الإنسان بسببه عن تحريك العضو، سواء أكان يدا أم رجلا، فلو كان الرقيق أشل اليد أو الرجل فإنه لا يجزئ، فلو سألك سائل وقال: قتلت نفسا خطأ، وكفرت بعتق عبد مشلول اليد تقول: لا يجزئ. فلا بد أن يكون سالما من الشلل. قوله: [أو أقطع اليد أو أقطع الرجل] . أقطع الرجل معناه أنه لا يمشي؛ لأن القطع مثل الشلل، بل هو أشد من الشلل، والمشلول قد يأذن الله له بالشفاء ويبرأ. قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام] . يلاحظ هنا أنه تدرج، وهذا أمر نجده عند علماء السلف، فبعد أن ذكر فقدان العضو كاملا ذكر فقدان بعضه، فذكر العمى مثالا على ذهاب العضو كاملا، فإذا ذهب البصر كاملا من العينين فإنه لا يبصر بهما، ثم قال: (والشلل) ، والشلل يكون لبعض الأعضاء دون بعضها، فالأول ذهاب للعضو كاملا، والثاني يقع في العضو فيذهبه كله، مثلا في اليد يسمى مشلول اليدين أو القدمين، وقد يقع لأحدهما، أي: يد واحدة أو رجل واحدة، فهناك ذهاب كلي لبعض الأعضاء. وبعد أن انتهى من العمى والشلل شرع في ذكر ذهاب جزء من العضو فذكر أقطع الأصابع، فإن أقطع الأصابع لم تذهب يده نفسها كاملة، ولكن ذهب بعض اليد، ثم اليد في الأصل تطلق ويراد بها اليد الكاملة من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف الذي هو مفصل العضو مع الساعد، وتطلق اليد ويراد بها من أطراف الأصابع إلى المنكب. لأنه قد يقول قائل: سلمت بأن الإضرار بالحاسة كاملة لا يجزئ بسببه عتق الرقبة، فما الحكم إذا ذهب بعض العضو، كقطع الأصابع أو بعض الأصابع؟ فهذه المسألة فيها وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: إن العضو موجود في الظاهر مفقود في الحقيقة، يعني: إذا قطع بعض أصابعه، -القطع الذي يرونه مؤثرا- يقولون: اليد موجودة، ولكن ذهاب بعض الأصابع التي هي منها تذهب فائدة اليد. فأصبح الذي نريد أن نقرره هنا أن السبب الذي من أجله حكم العلماء بأن ذهاب بعض العضو مؤثرا أنهم قالوا: إذا ذهبت المنفعة فحينئذ: من قطعت بعض أصابعه قطعا مؤثرا فإن منفعة يديه تزول، وكأن يده قد قطعت؛ لأنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يمسك الأشياء باليد على الوجه الذي يكون في من كانت له أصابع. فعندنا ثلاث حالات: الأولى: إذا ذهبت الحاسة كاملة، وهذا لا إشكال فيه، أو ذهب العضو كاملا كقطع اليد أو الرجل أو شلل أصابها، وأما الحالة الثالثة -وهي محل الإشكال- فهي إذا قطع بعض العضو، فهل هذا القطع ينزل العضو منزلة المعدوم أم لا؟ وهذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: إن قطع بعض الأصابع يؤثر، كما اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، أما القول الثاني فهو أنه لا يؤثر. قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى] . إذا كان أقطع الوسطى لا يرتفق باليد، فلو حمل ماء أو شيئا لا يرتفق بها. وقوله: [أو السبابة] هي التي تلي الإبهام؛ لأنه يشار بها عند السب. قوله: [أو الإبهام] هذه الثلاثة المتتالية يقول المصنف: إن ذهابها مؤثر ومضر. قوله: [أو الأنملة من الإبهام] . لأن الإبهام فيه أنملتان، والأنملة العليا لو قطعت ذهبت منفعة الإبهام، فتدرج أيضا من العضو إلى جزء العضو، وهذا خاص بالإبهام فقط، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، لكن الذي تميل إليه النفس هو ما اختاره بعض العلماء أن ذهاب بعض الأصابع ليس كذهاب الكل، إلا إذا ذهب أكثرها، كثلاث أصابع من الكف، فإنها تذهب المنفعة، سواء أذهب الأصبعان اللذان يليان الإبهام أم ذهب ما بعدهما. قوله: [أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة] أي: لابد أن يذهبا معا، فلو قطع الخنصر دون البنصر لم يؤثر، وهكذا العكس، لكن يشترط أن يكونا من يد واحدة، فلو قطع الخنصر من يد والبنصر من الأخرى فإنه لا يؤثر في الرقبة. الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات قال رحمه الله: [ولا يجزيء مريض ميئوس منه ونحوه] . أي: ولا يجزئ في عتق الرقبة مريض ميئوس من مرضه، وقد تقدم معنا في أحكام مرض الموت المرض الميئوس منه، وذكرنا جملة من مسائله وبعض الأمور المتعلقة به، وبعض التطبيقات في زماننا، يقولون: لأنه إذا كان الرقيق ميئوسا منه فعتقه تخلص منه، ففي هذه الحالة كلها مخالفة لمقصود الشرع من العتق. وهذا صحيح. ومثل المريض الهرم أو الزمن الذي سقط وأعيا، مع أنه لو أعتقه والحالة كما ذكر فمعنى ذلك أنه يهلكه؛ لأنه حينما يكون مملوكا له يقوم على نفقته والإحسان إليه وتعهده، لكنه إذا أعتقه فإنه يضره بذلك العتق. قوله: [ولا أم ولد] . أي: ولا يجزئ عتق أم الولد، وأم الولد: هي التي وطئها سيدها فأنجبت منه، فهي أم ولد تعتق بعد وفاته؛ لأن الولد لا يملك أمه، والولد سيرث من أبيه، فشبه إجماع أنها تعتق بوفاة السيد، فقالوا: إنه لا يجزئ عتقها؛ لأنه إذا أعتقها تخلص منها وهي معتقة عليه، فحينئذ لا يتحقق مقصود الشرع من عتق الرقبة في الكفارة، فقالوا: لا يجزئ عتق أم الولد من هذا الوجه. وهذا تقدم معنا في كتاب البيع في حكم بيع أمهات الأولاد، وتكلمنا على هذه المسألة بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وبينا خلاف السلف والأئمة رحمهم الله في مسألة بيع أمهات الأولاد، ومن العلماء من يفصل في هذا على أنها ليست مملوكة من كل وجه في التصرفات، فبناء على ذلك لا يصح عتقها في الكفارات الواجبة ولا يصح بيعها، والمسألة مشهورة، وتقدم بيانها في كتاب البيوع. ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ المدبر] . أي: ويجزئ عتق المدبر، والمدبر هو العبد الذي أعتقه سيده عن دبر، بمعنى: علق عتقه على موته، فقال: إذا أنا مت فعبدي فلان حر. فهذا التدبير ثابت بالنص، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف على صحة التدبير وجوازه، وإذا ثبت هذا فإنه لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي -أي: أعتقه عن دبر- فهل يجزئ في الكفارة الواجبة أم لا؟ فيه وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لو أعتقه عن دبر فله الحق في الرجوع ما لم يمت، وبعضهم يقول: من أعتق عبده عن دبر فليس له حق في الرجوع. فعلى القول بأن المدبر يستحق سيده الرجوع يصح عتقه في الكفارات الواجبة؛ لأنه حينما أعتقه في الكفارات الواجبة كان نوعا من الرجوع؛ لأن الرجوع نوعان: الرجوع الحقيقي، والرجوع الحكمي، فهو حينما قال: عبدي فلان حر بعد موتي ثم جاء في كفارة الظهار وأعتقه دل على أنه لا يريد أن يعتقه بعد موته، بدليل أنه بادر بعتقه، وهذا القول هو أصح القولين، فمن حق السيد أن يرجع عن عتق عبده قبل موته، ويقوي هذا ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق مملوكه عن دبر، وكانت به حاجة، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وباعه وسد حاجته، فهذا يدل على أنه لو كان التدبير لا يملك فيه الرجوع لما صح بيعهم؛ لأنهم أصبحوا معلقين كأم الولد، وهذا القول -أي: القول بصحة رجوع السيد عن عتقه للمدبر- هو أقوى القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب. قوله: [وولد الزنا] . ولد الزنا يعتق، وصورة المسألة أن تكون عنده أمة، وتغتصب ويزنى بها فتلد، فهذا الولد للفراش، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ، ويكون ملكا لمالك أمه؛ لأن الولد يتبع أمه رقا وحرية، ففي هذه الحالة إذا ملكه وصارت عليه كفارة ظهار أو قتل وقال: فلان حر فإنه يصح عتقه ويجزيه وإن كان ولد زنا. والدليل على أنه يصح عتقه ويجزيه أمره سبحانه وتعالى بعتق رقبة، وهذا عام يشمل ولد الزنا وغيره؛ لأن الله لم يشترط أن يكون من نكاح صحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أوس رضي الله عنه وأرضاه حينما ظاهر من امرأته: (أتجد رقبة؟) ، وقال لـ سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه حينما جامع في نهار رمضان وهو صائم: (أعتق رقبة) ، ولم يشترط ألا تكون على فراش الزنا أو غيره. قوله: [والأحمق] . أي: إذا كان به حمق لأن الحمق لا يمنع العمل ولا يضر به من كل وجه، وهناك منافع في الأعمال التي يقوم بها، وهذا العيب راجع إلى النفس، لكن في البيع ذكرنا أن الحمق وسوء الأخلاق وسوء الطبع يعتبر عيبا موجبا للخيار، وبينا أن الخيار يثبت إذا كان المبيع رقيقا مملوكا شديد الحمق ولم يبين ذلك لمشتريه، والحمق نوع من الغفلة وذهاب التمييز في الأشياء، والأحمق ناقص الكمال، فيقولون: إن هذا لا يؤثر تأثيرا مضرا بالرقبة، أي: لو كان عنده رقيق أحمق فلا بأس أن يكون كفارة في الظهار. ويقولون في الأحمق: لا تصاحب أحمقا؛ فإنه يضرك حيث تظن أنه ينفعك. فالأحمق عنده قصور في فهم الأشياء واستيعابها والتصرف تصرفا سليما يضع فيه الأشياء في مواضعها، فتجده كثيرا ما يأتي بالمشاكل والأضرار على من يملكه، فالرقبة إذا كان فيها حمق صح عتقها؛ لأن هذا لا يضر بالعمل ضررا بينا، وهو نقص في الكمال. لكن الأحمق لو زجرته وأخذته بالقوة يستقيم، فهو عيب لكنه يمكن تداركه، وذكرنا في البيوع أن بعض العيوب تؤثر وبعضها لا تؤثر؛ لأنه يمكن تلافي الضرر الموجود، فالأحمق ليس كالأعمى أو المشلول، فالحمق عيب -كما قلنا- راجع إلى النفوس، وأيضا لو أعتقه فإن هذا لا يمنعه من عتقه؛ لأن الرقبة ليس بها عيب يضر من ناحية بدنية ولا من ناحية نفسية؛ لأن الحمق نوع من الغفلة تذهب إذا ابتلي بشيء واستضر به مرة أو مرتين ففي الثالثة يتوب، وهذا معروف، فالحمق صفة عارضة، وبعض الأحيان مع شدة الخوف وشدة الأذى والضرر يستقيم أمره، فالناس يختلفون، ومن هنا قالوا: إنه ربما يكون العيب في حق قوم ولا يكون عيبا في حق آخرين، فإذا كان الرقيق أحمقا فإنه يجزئ عتقه في كفارة الظهار. قوله: [والمرهون] . أي: يصح عتق المرهون والسبب في ذلك أنه تعارض عندنا حق العتق وحق صاحب الدين، فإذا قال: أعتقت عبدي فلانا كفارة من ظهار أو قتل فإن العتق قد نفذ ومضى، والعتق أشد من حق الآدمي في الرهن؛ لأن استحقاق صاحب الدين الرهن لعارض قد يزول كما لو سدد المدين، ومن هنا يصحح العلماء العتق، وقد بينا ما الذي يجب في حالة إعتاقه للعبد المرهون، وبينا أنه يطالب بمثله، وقد قلنا هذه المسألة في كتاب الرهن، وبينا أن عتقه لا يخرج المدائن عن المطالبة ببديل عنه يقوم مقامه. فإذا تعارض ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه، وتوضيح المسألة أنه إذا ارتكب أمرا يوجب عليه الرقبة، وقال: إن عبدي فلانا حر، وقصد أن يكون كفارة لظهاره، أو لجماعه في نهار رمضان، وكان مرهونا، فإن فوات يد الرهن على الرقيق يمكن تعويضها بمال آخر يقوم مقامه، لكن العتق لا يمكن تعويضه، ولذلك في كثير من المسائل إذا أعتق مضى عليه؛ لدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح) ، فالعتق أمره عظيم في الشرع، ولذلك لو قال لعبده -وهو يمزح-: أنت حر، م قال: ما قصدت أنه حر نقول: لزمك العتق؛ لأن جده جد وهزله جد. فهذا يدل على أن العتق أقوى من الرهن، فحينئذ إذا أعتق رقبة مرهونة فإنه يصحح العتق، ويلزم بضمان الرهن. قوله: [والجاني] . الجاني: مأخوذ من الجناية. والعبد إذا جنى فالجناية تكون في رقبته، فلو أنه أعتقه لا يخلصه من الجناية، سواء أكانت قصاصا أم مالا، فيتحمل مسئولية ذلك ويصح العتق، وهذا لا يؤثر، فدخول الضمان بالجناية لا يمنع صحة العتق وإجزائه. قوله: [والأمة الحامل ولو استثني حملها] . أي: ويصح عتق الأمة الحامل ولو استثنى حملها، وصورة المسألة: إذا ظاهر ووجبت عليه كفارة وعنده أمة حامل، فأعتقها كفارة لظهاره واستثنى فقال: هي حرة إلا جنينها، فقال بعض العلماء: يبطل عتقها. ويراه من الأمور التي لا تصح في عتق الكفارات، وأنه يجب عليه أن يستبدل، فإما أن يعتق الكل أو يترك الكل، وليس عندهم استثناء في هذه الحالة. ومن أهل العلم من قال: يصح عتقها، ويصح الاستثناء، ومنهم من قال: يصح عتقها ويبطل الاستثناء، فهذه أوجه عند العلماء رحمهم الله فيها، والأقوى أنه لو استثنى الجنين وقال: هي حرة إلا جنينها فإنه يقوى القول بصحة العتق وإجزائه، والاستثناء معتبر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لك على ربك ما اشترطتي) ، فهذا اشترط واستثنى، وقياسه على البيع فيه علة ليست موجودة في الظهار، فنصححه في عتق الظهار، ولا نصححه في البيع.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة إعتاق العبد المدبر السؤال هل المدبر يعتق فورا عند وفاة سيده، أم ينظر هل يجاوز الثلث أم لا؟ الجواب الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة مفرعة على الحديث الذي تقدم معنا وبيناه، وذكرنا أن مسألة الثلث مؤثرة في الأموال، لكن المدبر خارج عن هذا، فمن أعتق عن دبر؛ فإنه يلزم الورثة بعتق مورثهم عند وفاة المورث، فعند وفاته يحكم بحريته، وتسري عليه أحكام الحر سواء بسواء. والله تعالى أعلم. حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه السؤال العبد المملوك لو ارتكب جناية ثم أعتق هل يقام عليه الحد بصفته الماضية أم الحالية؟ الجواب هذه مسألة لها نظائر، ففي بعض الأحيان الشريعة تنظر إلى حاله وقت الجناية لا إلى حاله وقت الاستيفاء والقصاص، وفي بعض الأحيان يكون الحكم بحال الشخص عند القصاص أو عند إقامة الحد عليه، ولها نظائر كثيرة، منها: لو أنه زنا -والعياذ بالله- ثم جن ففي هذه الحالة سقط عنه؛ لأنه أصبح غير مكلف، وإن كان في الأصل أنه زنى، وهذا يوجب عليه أن يقام عليه الحد، لكنه بجنونه منع من استيفائه. ومنها ما لو كان -مثلا- في أول الحال -أعني حال الجناية- ثم انتقل إلى صفة لا يؤاخذ بها عند إرادة القصاص منه. وكذلك لها نظائر في الحقوق الأخرى، كالحقوق المالية، والحقوق الشخصية الاعتبارية، فيختلف حال الإنسان من حالة إلى حالة، وهل ينظر إلى الابتداء أو إلى المآل؟ وفي مسألتنا عند الاستيفاء لا شك أنه يقوى -وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الجنايات- النظر إلى حاله عند تنفيذ الحكم عليه فيؤاخذ ويلزم به. والله تعالى أعلم. حكم إعتاق العبد إذا كان معيبا في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده السؤال العبد إذا كانت منفعته توجد في غير موضع الضرر، كأقطع الرجل لمن حرفته بيده هل يجزئ في الكفارة؟ الجواب لا يصح ذلك العبد أن يكون كفارة للمظاهر وغيره، وأحيانا قد يكون المشلول من أشد خلق الله عز وجل ذكاء، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ شيئا -خاصة من المؤمن- إلا عوضه خيرا منه، فليست القضية أنه يمكن التعويض، وإنما النظر إلى الحال، فاليد إذا ذهبت أثرت، بغض النظر عن كونه يستطيع أن يفعل باليد الثانية ما لا يفعله صاحب اليدين، وهذا موجود، وبعض الناس يكون أقطع اليسرى ولكن يده اليمنى السليمة يفعل بها ما لا يفعله صاحب اليدين، وبعض الناس يكون به عيب في عضو وهو معوض في عضو آخر بأشياء أفضل، وهذا لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الشخص من حيث هو، فأي ضرر يتعلق بعضو -بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له- فإن هذا في الأصل العام والقاعدة العامة أنه يمنع، فأقطع اليد منع من منفعة يده المقطوعة، وأقطع الرجل منع من منفعة رجله المقطوعة، فحينئذ يحكم بكونه ضررا بينا، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له، وهذا كله لا يلتفت إليه، وإنما قد يلتفت إليه في التعويضات، وفي الأروش، وفي مسائل الجنايات. وهنا مسألة أخرى، فلو أنه -والعياذ بالله- أتلف عين الأعور -وهي عين واحدة- يثبت عليه أداء دية كاملة؛ لأن منفعتها في الأصل منفعة العينين، فهذه أمور مستثناة لا علاقة لها بمسألتنا، وإنما مسألتنا في النظر الغالب أن ذهاب العضو كاملا، أو الجزء -على التفصيل الذي ذكرناه- مؤثر ومضر بالعمل ضررا بينا، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له. وقد تجد الرجل فيه آفة في عضو واحد تعطله عن الأعمال، فلا يستطيع أن يقدم أو يؤخر من أموره شيئا، والعكس، فقد تجد شخصا عنده أربع آفات في أربعة مواضع، ومع ذلك يفعل أشياء قد لا يستطيعها من كملت أعضاؤه، فهذه أمور لا يلتفت إليها، وإنما يلتفت إلى النظر الغالب، والشريعة تنظر إلى الغالب، ولذلك حينما حكمت الشريعة بجواز الفطر في السفر؛ فلأن الغالب في السفر المشقة، لكن لا يمنع أن تسافر في طائرة وأنت مستريح، ولا يمنع أن يسافر الغني الثري وهو في راحة واستجمام، أو يسافر الشخص المتعود على الأسفار ولا يجد تعبا، أو يسافر الشخص الذي هو في قوة وجلد وعنده صحة وعافية لا يتضرر بمشقة السفر، فهذه كلها أمور مستثناة وأمور نادرة، والشريعة لا تلتفت إليها. وكذلك -أيضا-: تحرم الشريعة لمس المرأة الأجنبية ومصافحتها، وقد تجد في الرجل من الإيمان بالله وخوف الله عز وجل ما لا يلتفت معه إلى امرأة حتى ولو صافحها، فلا يجد شهوة ولا يلتفت إليها، لكن هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى الأفراد، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام كلام في هذه المسألة قرره عند كلامه على مسألة الظنون المرجوحة، وبعض العلماء يسمونها المرجوحة أو الفاسدة أو الموهومة، وهي التي تأتي على الأحوال النادرة والقليلة، وإنما جعلت الشريعة الحكم للغالب، ففي هذه الحالة إذا كان مقطوع اليد فإنه في الأصل تعطلت مصالح ذلك العضو، بغض النظر عن كونه في بعض الأحيان يعوض، أو يفعل ما لا يستطيع أن يفعله من عنده العضو كاملا. حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله السؤال ما حكم انقطاع الصفوف في الصلاة، حيث إن يوم الجمعة يصلي بعض الناس خارج المسجد، والصفوف غير متصلة؟ الجواب السنة إتمام الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول) ، فالواجب على المصلين أن يتموا الصفوف الأول فالأول، سواء أكان داخل المسجد أم خارجه، ومن قصر في إتمام الصف الذي أمامه فإنه يأثم ويتحمل وزره في عدم إتمام الصف الذي يجب عليه إتمامه، سواء أكان ذلك داخل المساجد أم خارجها، وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس، وأن يعلموهم، وأن يوجهوهم، وأن يعذروا إلى الله ببيان هذه السنة لهم. والله تعالى أعلم. حكم زيادة ركعة في الصلاة سهوا السؤال صليت صلاة العشاء. فأشكل علي كم بقي علي من الركعات، فزدت ركعة، وبعد الصلاة تأكدت من أني صليت خمس ركعات، فماذا علي؟ الجواب تسجد سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) ، وقد بان لك أنك أخطأت فزدت في صلاتك، فأنت معذور بهذه الزيادة؛ لأنك بنيتها على ظن صحيح؛ لأن الأصل شرعا أنك تبني على الأقل؛ لحديث أبي سعيد الخدري: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة) ، وكذلك حديث ابن عباس في صحيح مسلم: (إذا صلى أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن أثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم) . فأنت في هذه الصورة لك حالتان: الحالة الأولى: ألا تستيقن، أو لم ينكشف لك الحال قبل السلام، فإذا لم ينكشف لك الحال قبل السلام فتسجد سجدتين قبل السلام، وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاتان السجدتان تسميان سجدتي الشك، فأنت لا تدري هل أنت زائد في صلاتك، أو صلاتك تامة، ففي هذه الحالة تسجد سجدتين في حالة الشك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعا فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان الذي صلاه خمسا فالسجدتان تشفعانها) ، ففي هذه الحالة إذا لم تعرف قبل السلام وسجدت السجدتين فإنك لا تسجد بعد السلام، ولو تبين لك أنت زدت، أما إذا تبين قبل السلام أنك زدت فتسلم ثم تسجد بعد سلامك؛ لأنك تحققت من الزيادة في صلاتك، والله تعالى أعلم. إذا كانت المرأة حائضا ومرت من الميقات ولم تحرم السؤال أنا من بلاد الشام سافرت إلى الرياض فمكثت فيها بضعة أيام، ثم أتيت مكة محرما، أنا وزوجتي، وكانت حائضا، ثم عندما تطهرت ذهبنا إلى التنعيم وأحرمنا من هناك، وهل هذا جائز، أم علينا الرجوع إلى ميقات أهل الرياض؟ الجواب يلزمكم الرجوع إلى ميقات الرياض، وكان من السنة أنك إذا مررت ومعك الأهل في حال العذر أن يغتسل الأهل في الميقات، ثم يحرمون بعد الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما نفست بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء- أن تغتسل وتهل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مرها فلتغتسل ثم لتهل) ، فمن جاء ومعه نسوة إلى الميقات وهن معذورات يحرم ويلبي، ويحرم النسوة ويلبين، ثم يمضين ولا يفعلن العمرة حتى يطهرن، فإذا تطهرن فإنهن يقمن بأداء العمرة. وأما إذا جئت ودخلت مكة وجلست فيها، وبعد ذلك أردت بعد أن طهرت أن تأتي بالعمرة، فإنه يجب عليك الخروج إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات أولا ناوية العمرة، وقد أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل من مر بهذه المواقيت وعنده نية العمرة أو الحج أن يحرم منها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) ، فأنت كان يجب عليك أن تذهبي إلى ميقاتك، أما وقد أحرمت من التنعيم فإن التنعيم ميقاتك إذا أنشأت النية من مكة، أما وقد أنشأت النية خارج مكة فيلزمك الإحرام من موضعك الذي أنشأت فيه، وعليك دم، وعلى الزوج أيضا دم، وإن كان معكم رفقة آخرون فإنه يجب عليهم الدم إذا فعلوا كفعلكم. والله تعالى أعلم. حكم ترك بعض الصلوات عمدا بسبب المرض السؤال مرض شخص في رمضان، فأجرى عملية استلزمت إفطاره خمسة أيام، وترك الصلاة في هذه الأيام الخمسة بأمر الأطباء، فهل عليه قضاؤها مثل قضاء الصيام؟ الجواب الأطباء ليس لهم علاقة بالشرع، فكيف أصبحت الصلوات تترك بأقوال الأطباء؟! فالأطباء يتكلمون في الأمور الشرعية، ولهم الحق أن ينصحوا المريض في الركوع والسجود، فيقولون: لا تحن. لا تفعل. في أمور تضر به، أما أن يقولوا له: اترك الصلاة فهذا ليس من حقهم أبدا، وليس من شأنهم، فعلى المسلم أن ينزل المسائل الشرعية على أهل العلم، وأن يأخذ من الأطباء الثقات ما اتفقوا عليه، أو غلب على ظنونهم أنه يجب على المريض أن يفعله أو يتركه. وبناء على ذلك فإنه إذا تعذر عليك في حال العملية الجراحية، أو كنت بحالة لا تستطيع معها القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود فينبغي أن تصلي على فراشك، وعلى أي حالة كنت، قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] . وقد جاء عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه ما يجده من البواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فتصلي على حالتك، ولست بمعذور في ترك الصلاة. وبناء على ذلك يجب عليك قضاء هذه الصلوات كاملة، ويأثم من أخذ العلم الشرعي من غير أهله، حتى ولو من أنصاف المتعلمين، أو ممن هم ليسوا بأهل للفتوى، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسأل ويستفتي، ولا أن يأخذ حكما شرعيا إلا ممن يوثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا شيء نعذر إلى الله منه، وهذا الذي نجده في زماننا من تكالب الناس على الفتوى وسهولة القول على الله بدون علم -نسأل الله السلامة والعافية- أمر منكر عظيم، وتنقض به عرى الإسلام عروة عروة، فالعلم له أهله، والوحي له من المؤتمنين عليه من الأنبياء وورثة الأنبياء من العلماء العاملين والأئمة المهتدين المهديين الذين هداهم الله وهدى بهم، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على أي أمر من أمور عبادته أو معاملته بناء على كلام الناس، ولو كان أرفع الناس كلاما، إنما يتخذ من يثق بدينه وعلمه وأمانته حجة بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقف بين يدي الله وقال له: لم أحللت هذا ولم حرمته؟ قال: أفتاني فلان أنه حلال، وأفتاني فلان أنه حرام، وعندها يكون فلان أهلا للحجة بين يدي الله. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله. فمن أحب أن يقف بين يدي الله وحجته العلماء الذين أمر أن يرجع إليهم فليفعل، ومن أراد أن يكون حجته من لا عذر له بين يدي الله عز وجل فليفعل، فإنما هي النار فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى، وأن يراقب الله عز وجل في هذه الأمور، وألا يتساهل فيها، خاصة في المجالس. ومن الغش أن يكون معك أولادك، أو معك إخوانك -خاصة إذا كنت من طلاب العلم-، وتأتي إلى شخص تعلم أنه ليس أهلا للفتوى فتسأله، ومن سأل شخصا لا يوثق بعلمه وجاء أحد واغتر بسؤاله فإنه يحمل وزر نفسه ووزر من سأله، حتى قال العلماء رحمهم الله: من سأل جاهلا وهو يعلم بجهله، أو يعلم أنه ليس بأهل للسؤال فأفتى بدون علم فعليه مثل وزره؛ لأنه هو الذي أعانه على ذلك، فلا يجوز تكثير سواد الجهال، ولا يجوز إنزال المسائل إلا بالعلماء الذين يوثق بدينهم وعلمهم وأمانتهم. ولو أن الناس أنزلوا الفتاوى بأهلها وبمن يوثق بدينه وعلمه لارتاح الناس في كثير من الأمور، ولاستقام أمر الأمة، ولكن إلى الله المشتكى، قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء) . فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ولايتنا واهتداءنا بالأئمة الهداة المهتدين الذين جعلهم الله هداة مهتدين يقومون بالحق وبه يعملون. والله تعالى أعلم. تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها) السؤال قول الصحابي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها) ، هل معناه ترك الدعاء مطلقا، وجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدل الدعاء؟ الجواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أحب الله هذا النبي الكريم محبة جليلة كريمة، أحبه الله فجعله رحمة للعالمين، وأحبه فجعله سيد الأولين والآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، وأحبه فصلى عليه من فوق سبع سماوات، وأمر بالصلاة والسلام عليه المؤمنين والمؤمنات، وصلى على من صلى عليه عشر مرات، وأحبه الله وشرفه وكرمه، وقد أقسم أنه بالليل والنهار، وبالعشى والإبكار فقال تعالى: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى:1 - 5] ، فهو مقام ما بلغه أحد، وهذا المقام ما بلغه نبي مرسل قبله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أجل النعم، ولذلك فتح له فتحا مبينا، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه وهداه صراطا مستقيما، فهو مقام أعطاه الله عز وجل هذا النبي الكريم ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة، وانظر كيف أن الخلائق تحشر فيجعل الله عز وجل له ذلك المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيسجد فيقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ولعظيم حقه على الأمة أمر الله الأمة بالصلاة والسلام عليه تشريفا له وتكريما، فصلى الله عليه وسلم تسليما، وزاده تشريفا وتكريما وتعظيما، فمحبته كثرة الصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض السلف إذا ذكر الحديث تغرورق عيناه من الدمع وهو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فضل الله أهل الحديث بكثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه من أجل القربات وأحب الطاعات، وللأسف أنها تركت عند كثير من أهل السنة إلا من رحم الله، بل أحيانا تجد الشخص إذا سمع شخصا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وضع عليه علامة استفهام، مع أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى. ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشرا، فتأمل ماذا يكون في العشر مرات التي يصلي بها، ثم انظر كيف فضله الله وشرفه، فما جعل الشخص يصلي عليه مباشرة، ولكن جعلك تدعو الله وتسأل الله أن يصلي عليه، وتقول: اللهم صل عليه، وهذا فضل من الله شرف به هذا النبي الكريم، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك) . وهذه كلمة عظيمة جدا، فقد عاشت معه عليه السلام ورأت أحواله، ورأت كيف يكرمه ربه ويشرفه، ففي عام الحزن ينكسر قلبه صلوات الله وسلامه عليه فيجبر الله كسره، ويعظم أمره، فيسري به ليلة من الليالي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويفضله على الأنبياء، ويقدمه على الأصفياء الأتقياء، ثم يرفعه إلى أطباق السماوات السبع الأولى إلى سدرة المنتهى، قال تعالى: {إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم:16 - 18] وأي مقام أرفع من مقام أعطاه له الله سبحانه وتعالى!! وأي مقام أعلى من مقام بلغه عليه الصلاة والسلام من حب ربه له، والمحبة التي وضعها بين عباده سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم. فحقه كبير، فعلينا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وخاصة يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه) ، وكان بعض العلماء يقول: إن على الإنسان أن يستحيي؛ لأن الحديث يقول: (فإن صلاتكم معروضة علي) ، فالإنسان ينظر إلى صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإنسان يوم الجمعة قد لا يصلي عليه إلا نزرا قليلا، فالإنسان يتفكر ويتدبر ويتشرف بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أجل القربات وأحبها إلى الله. وحديث كعب رضي الله عنه هذا من أقوى الدلائل -وحسنه غير واحد من العلماء- على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد المكثرين من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنالهم بركة ذلك، وهذا أمر لمسناه ووجدناه، فما وجدنا محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صادق المحبة مكثرا للصلاة والسلام عليه إلا وجدنا أشرح صدرا، وأثبت جنانا وقلبا، وأشرق وجها ونورا، فتجد عليه نور الطاعة والخير؛ لأنها من أجل الطاعات بعد القرآن، وبعد قول: (لا إله إلا الله) ، وليس هناك أشرف ولا أفضل بعد القرآن والباقيات الصالحات من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قربة للعبد ووسيلة له بين يدي الله، والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة:35] ، فهي عمل صالح وقربة إلى الله عز وجل، وطلاب العلم ينبغي عليهم أن يكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد وفق، ويحبه الله عز وجل؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه الخصلة العظيمة الكريمة الشريفة -وهي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- فيها وفاء لحقه عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم الذي حمل هم وغم الأمة كلها، ويشهد الله من فوق سبع سماوات أنه كان حريصا عليها، حيث قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة:128] ، فهو عزيز عليه عنتكم، ويشهد الله له بفضله. وانظر إلى رحمته عليه الصلاة والسلام حينما اغتم يوما من الأيام واهتم؛ لأن الله كشف له ما يكون لأمته من الفتن التي تكون في آخر الزمان فأهمه وأغمه، فاشتكى ذلك إلى الله، فأرسل الله إليه جبريل -والله أعلم بما قال وما يقول- فقال: (أقرئ محمدا مني السلام، وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك أبدا) ، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وهو يقول سبحانه: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى:1 - 5] ، فهو مقام عظيم لمن ملأ الله قلبه شفقة على هذه الأمة، فرحم هذه الأمة كبارا وصغارا، وشبابا وشيبا وأطفالا، ورحم الصغير حتى كان إذا صلى فسمع بكاءه خفف الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الصغير إذا امتطى ظهره فكان لا يزعجه وهو على ظهره، ورحم الصغير وهو يمر عليه ويسلم تواضعا منه وكرما صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الكبير، ورحم النساء، ورحم الرجال، وذلك كله بفضل الله وحده لا شريك له. فالذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة التي فضل بها عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء، وفضل بها على غيره من ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه يعرف حينما يقول: (اللهم صل على محمد) من هو هذا النبي الكريم الذي يصلي عليه، فتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تستشعر منزلته ومكانته، ولا تترك هذه السنن لمن لا يحسن التعامل مع هذه النصوص، ولذلك هجر بعض طلاب العلم ذلك -أصلحهم الله- حتى استغله من يغلو ومن يجهل، بل ينبغي على أهل السنة أن يكونوا أحرص على ذلك، فقد كان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا طيب مجلسه، وكان إذا جاءه الناس يقرعون بابه تسأل الخادمة والأمة: أتريدون الفتوى والفقه؟ فإن قالوا: نريد الفتوى والفقه خرج إليهم، أو جلس لهم وأفتاهم، فإذا قالوا: نريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيب وتوضأ وجلس على أريكة لا يجلس عليها إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالا وإكراما لهذا الحديث. وخرج ذات يوم فسأله أحد طلابه عن حديث فقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تمشي! إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يحدث على أجمل وأطيب الحالات توقيرا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالواجب علينا محبته عليه الصلاة والسلام محبة صادقة في قلوبنا، ومحبة صادقة في أقوالنا وأفعالنا تدعونا إلى الاتباع، فالمحبة شيء والاتباع شيء آخر، فإن المحبة تعين على الاتباع، فهناك فرق بين المحبة والاتباع، لكن المحبة الصادقة أن تتبع، أما نقول: المحبة هي الاتباع من كل وجه فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم -أي: لم يحصل منه الاتباع الكامل- فقال له: أنت مع من أحببت) ، فأثبت المحبة، والمحبة شعور في القلب، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبونه حبا أعز من أنفسهم التي بين جنوبهم، وهذا أمر فطري جبلي، وهو أن يكون عند الإنسان شعور هذا النبي الكريم، وأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلال، ومن ذلك أن نكثر الصلاة والسلام عليه. ومعنى الحديث أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله، أي: يصبح يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختار هذا الذكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، فيجعل له صلاته كلها، فمن المعروف أن الشرع خير المسلم بين الأذكار والطاعات، فمن اختار الصلاة على النبي صلى حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسيا السؤال إذا حلف شخص على عدم فعل أمر معين ثم فعله ناسيا فهل عليه كفارة؟ الجواب اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن أهل العلم من يقول: إن الناسي غير مكلف، فإذا حلف على شيء لا يفعله، أو على شيء أن يفعله، ثم نسي فلم يفعل أو فعل فإنه لا كفارة عليه. لأنهم يرون أنه غير مكلف، فحينئذ لا يعتبر منه ذلك التقصير إخلالا. ومن أهل العلم من قال: إن النسيان يسقط الإثم ويسقط الحرج، ولكنه لا يسقط الضمان، فيجب عليه أن يكفر. وهذا القول أحوط، والقول الأول أقوى من حيث الأصل. والله تعالى أعلم. حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها السؤال إذا خرجت المرأة من بيتها مع أولادها إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها وعلمه طالبة الطلاق، والزوج لا يرغب في تطليقها فهل يلزمه الإنفاق عليها وعلى الأولاد فترة مكوثها ببيت أهلها؟ الجواب هذا السؤال فيه تفصيل، وفيه أمور: الأمر الأول: على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم أن حق الزوج عظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزوج للمرأة جنة ونارا، فهو جنة إذا اتقت الله، ونار إذا اعتدت حدود الله عز وجل. الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تعلم أنه لا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه، فإذا أذن لها بالخروج خرجت، وإذا لم يأذن تبقى في بيت الزوجية. وإذا حدثت مشاكل فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يمكنها أن تبقى في البيت مع وجود هذه المشاكل حتى يأتي وليها ويتفاهم مع الزوج، فلا يحل لها أن تخرج. والحالة الثانية: أن يكون بقاؤها فيه خطر، كأن يكون زوجها مبتلى بالسكر، أو مبتلى بأشياء يخشى معها أن يقتلها أو يفعل بها أمرا يضرها أو يضر أولادها، وهذه حالات استثنائية، ويجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية ولو لم يأذن لها الزوج. أما أن تخرج كلما حدثت مشكلة وتذهب إلى أبيها أو أمها فلا، وهذا ليس من حقها، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للأب ولا للأم ولا للقريب أن يعينها على هذا المنكر، والمرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها) ، فالأصل أن النساء عليهن السمع والطاعة للزوج في الخروج، فإذا حدثت المشاكل فالله جعل لكل شيء قدرا، وجعل للمشاكل طرقا تحل بها، أما أن تذهب وتركب رأسها وتجلس عند أبيها وأمها بسبب مشكلة ما، فلا. وليس من العدل ولا من الإنصاف أن الزوج يدفع المهر، ويتكفل ببيت وبأسرة، ثم تأتي المرأة عند أمور معينة لتخرج من البيت، ولذلك أجاز الله عز وجل له أخذ ما أنفقه على زوجته -المهر- إذا شاءت أن تخالعه إذا لم يكن هناك موجب للطلاق. أما إذا ظلمها الزوج وآذاها وأضر بها فهذا على أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الضرر مما يمكن الصبر عليه، فتحتسب الثواب، وترجو عند الله حسن العاقبة والمآب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فإن استعانت بربها جبر كسرها وعوضها خيرا مما ذهب عنها، فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها من سوء في خلقه وسب وشتم فإن الله عز وجل لا يضيع أجر الصابرين، والله مع الصابرين، فالله معها ويؤيدها ويثبتها ويكفر خطيئاتها بهذا البلاء، ويرفع درجتها، فهذه نعمة عظيمة للمرأة المؤمنة، فتمضي عليها الأيام تلو الأيام، وتغيب عليها شمس اليوم وهي تؤذى في الله عز وجل، وتهان وتذل وهي صابرة لوجه الله عز وجل، فعندها يعظم أجرها وتحسن العاقبة لها، فكم من امرأة أذلها زوجها فأعزها الله في نفسها وأولادها، وجعل الله لها الخلف، فالأمور بالعواقب، فكم من امرأة بكت في أول حياتها وشقيت وتأذت وتضررت من زوجها فأقر الله عينها في آخر عمرها بذريتها، فتوفي عنها زوجها وبقي لها أولادها كخير ولد لوالدته، فعوض الله صبرها وجبر كسرها وأحسن العاقبة لها. ومن قرأ في أخبار الناس وأحوالهم يجد ذلك جليا، فهذا شيء نشهد به لله عز وجل، فلا أحد أحسن وفاء ولا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وكم من امرأة تقدم لزوجها وتضحي لبعلها فلا تجد لسانا شاكرا، ولا تجد قلبا معترفا بالجميل، ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن لها الخلف في دينها ودنياها وآخرتها. فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها فلا بأس أن تتحمل والله معها، وكل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعلم علم اليقين أن الدار الدنيا دار هم وغم وكرب، لا سرور فيها للمؤمن إلا بطاعة الله عز وجل، وتأمل في الحياة كلها، وانظر عن يمينك وشمالك، ومن أمامك وخلفك، ومن فوقك وتحتك، وابحث عن شيء يسرك، فلن تجد إلا ذكر الله وما والاه. والدنيا ما سميت دنيا إلا لدناءتها، وما سميت دنيا إلا لكفران الحق فيها، فالحق باطل والباطل حق، والخير شر والشر خير، وكل هذا من دناءة الدنيا، وهي سجن المؤمن، ولتعلم المرأة علم اليقين أنها حيثما ذهبت وولت ستبتلى من الله عز وجل، فإذا سلمت من بيت زوجها وخرجت من بيت الزوجية يسلط عليها إخوانها وأخواتها يؤذونها في بيت أبيها، وإن سلمت من إخوانها وأخواتها لم تسلم من كلام الناس، ولم تسلم من قرابة زوجها، ولم تسلم من صويحباتها، فعليها أن تتأمل، وأن تنظر أين الثواب العظيم وأين الجزاء الكبير، فتصبر وتحتسب، وهذا إذا أمكنها الصبر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وأما كيف نصير فالمرأة تعطى قوة من الله بالتصبر، ففرق بين الصبر والتصبر، فالتصبر فوق الصبر؛ لأن الصابر قد ألف سجية الصبر واعتادها ودأبها، لكن التصبر والتحمل والضغط على النفس هذا هو الذي يعلو به الإنسان إلى الكمالات، وهذا التصبر يحتاج إلى معاملة مع الله عز وجل، وأن يكون قلبك مع الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من يتصبر يصبره الله) ، فالمرأة إذا أرادت أن تصبر على زوجها جاء الشيطان وقال لها: كيف تصبرين وقد قال؟ وكيف تصبرين وقد فعل؟ وكيف تصبرين وقد حصل؟ فتتصبر وتقول: الله يهديه. وهذا من أجمل وأكمل ما يكون من المرأة المسلمة، فتقابل الإساءة بالإحسان، وتقابل الذنب بالصفح والغفران، وتدعو لزوجها وتدعو لبعلها، فإذا بالشيطان ينخنس، وإذا بذاك البيت المملوء بالمشاكل يعود أنوارا وخيرا وبركة على أمة الله المؤمنة لصبرها وفضل الله عز وجل عليها. فهي أمة تجدها لله قانتة صابرة، تضايق وتؤذى وتضطهد وهي جالسة في بيتها، ومع ذلك قل أن تجدها تشتكي لأبيها أو أمها أو أخيها؛ لأن قلبها مع الله، وكل يوم تؤذى بصنوف البلاء، وإذا بها تعطى درجة في كل يوم خيرا مما كانت فيه بالأمس، قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] ، فهذا وعد من الله عز وجل. فإن كانت المشاكل مما يسع الصبر عليها فلا تخرج. الحالة الثانية: إذا كانت المشاكل مما لا يمكن الصبر عليها، وكانت قد بلغت حدودا لا تستطيع المرأة أن تتحملها، أو بلغت حدودا فيها إضرار بأولادها وذريتها فالله عز وجل يقول: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء:130] ، فالله عز وجل يعد بحسن الخلف إذا فارقت زوجها إذا كان الأمر وصل إلى درجة يشرع فيها طلب الطلاق. فبعد أن تستنفد جميع الوسائل الشرعية لإصلاح الزوج وإصلاح بيت الزوجية تستخير الله عز وجل، فلا تطلب الطلاق حتى تستخير ربها: هل الخيرة أن تطلب الطلاق أو لا تطلبه فإن كان انشرح صدرها واطمأن قلبها فتقدم عليه، وقبلما تستخير، وقبلما تسأل الله عز وجل الخيرة عليها أن ترجع إلى العقلاء من العلماء والفضلاء، فتستشير من تثق بدينه وأمانته من أهل العلم، وكذلك من أهل العقل والحجا فتسألهم، حتى النساء من صويحباتها، فإذا استبان أنه لا بد من الفراق، وأن المصلحة في الفراق، واستخارت وانشرح صدرها تواجه زوجها به إن كانت المواجهة تحقق المصلحة وتدر المفسدة، وإن كانت المواجهة تحدث مشاكل، أو تحدث ضررا، ولربما تتفاقم الأمور أكثر فحينئذ تنظر إلى الأعقل والأرشد والأقوى، فتنظر إلى قوي أمين من قرابتها، فإن لم تجد قويا أمينا من والديها، ولم تجد قويا أمينا من إخوانها وقرابتها تنظر إلى القوي الأمين في عشيرتها وجماعتها، وتنزل الأمر به، وإخوانها وقرابتها عليهم أن يعينوها، وأن يتقوا الله عز وجل في ذلك إذا رأوا أن الحق معها، ثم تطلب الطلاق. وهذا هو الأمثل، فتخرج من بيت الزوجية بالطريقة الشرعية. أما أن تخرج قبل الطلاق وتجلس في بيت أبيها فكيف ستعتد عدة الطلاق؟ وكيف ستقوم بالأمور التي أوجب الله عز وجل على المطلقة أن تقوم بها من بقائها في بيت الزوجية؟! فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يأخذن بهذا الأصل الشرعي، فلا يطلب الطلاق إلا من ضرورة، والأصل أن تصبر المؤمنة وأن تتحمل، وإذا طلبت الطلاق بمسوغ شرعي فإنه لا بأس عليها ولا حرج. أما لو أن المرأة ظلمت وجارت وخرجت من بيت الزوجية فتعدت حدود الله عز وجل وتعالت على زوجها وطلبت الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غيرما بأس فالجنة عليها حرام) ، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أمر عظيم، وعلى المرأة أن تتقي الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا من جميع أمورنا فرجا ومخرجا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة الوقت المناسب لابتداء صيام الكفارة للنفساء السؤال بالنسبة للنفساء إذا كانت عليها كفارة فهل تبني وتستكمل صيامها منذ انقطاع الدم أم بعد تمام الأربعين يوما؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فهذا السؤال مفرع على مسألة الحكم على المرأة بكونها نفساء، فإن طهرت المرأة النفساء -كما تقدم معنا في كتاب النفاس- قبل الأربعين وحكم بطهرها؛ وجب عليها أن تتم الصوم ولا يجوز لها أن تفطر، فلو أنها نفست ثلاثين يوما ثم رأت علامة الطهر بعد الثلاثين؛ وجب عليها أن تتم ما عليها من صوم، ولا يجوز لها الفطر حينئذ. وأما إذا تخلل بحيث تقطع فنفست ثلاثين يوما فصامت يوما إتباعا لما قبله، فبان الدم في اليوم الذي يليه فتفطر، وقد بينا كما في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوما) وبناء على ذلك: لا يحكم بكونها منتهية من نفاسها طاهرة منه إذا تقطع دمها إلا بعد تمام الأربعين كما فصلناه وبيناه في كتاب النفاس، وبناء على ذلك تقطع وتفطر إذا عاودها الدم قبل تمام أربعين يوما. والله تعالى أعلم. حكم إسرار الإمام بالقراءة في الصلاة الجهرية السؤال إمام أسر بالقراءة في صلاة جهرية ساهيا هل يفتح عليه من المأمومين، وإذا كان قد شرع في قراءة الفاتحة سرا هل يبني جهرا أم يستأنف من بدايتها، وهل يسجد للسهو؟ الجواب الجهر بالقراءة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من يرى وجوبه، ومنهم من يرى سنيته، والذين يقولون بالسنية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صلاته الظهر، بأنه كان يسمعهم الآية أحيانا، فقالوا: هذا يدل على أن الجهر سنة، لكن لو حصل من الإمام هذا، فإنه يسبح له وينبه على ذلك بأنه حاصل منه على سبيل السهو لا على سبيل القصد، وما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان قصدا، فينبه على ذلك ويسبح له، وإذا لم ينتبه فلا بأس بأن يفتح عليه. وإذا نبه فإنه يبدأ من الموضع الذي انتهى إليه، كأن يكون قرأ مثلا آيتين من الفاتحة ثم نبه، فعليه أن يستأنف من الموضع الذي نبه فيه، ولا يرجع إلى الأول؛ لأنه لا يجوز أن يعيد الركن، ولا أن يعيد أجزاء الركن، وقد فعل ما أمر الله به من قراءة الفاتحة ولا تجب عليه قراءة الفاتحة إلا مرة واحدة، ولو قلنا: يرجع من أول الفاتحة فإنه بذلك يكررها، وهكذا لو أنه كان أثناء الفاتحة، فقالوا له: سبحان الله، يقول: {مالك يوم الدين} [الفاتحة:4] * {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] ، فيتمها من المكان الذي وصل إليه. ولو أتم قراءة الفاتحة فإنه يقرأ السورة التي تلي الفاتحة ولا يكرر قراءة الفاتحة، واختلف العلماء: هل إذا كرر المصلي الفاتحة تبطل صلاته أم لا؟ قال بعض العلماء: إذا كرر الفاتحة بطلت صلاته؛ لأن الفاتحة ركن، ومن كرر الفاتحة مرتين كان كمن ركع مرتين، فكما أن تكرير الأركان الفعلية يوجب البطلان، كذلك تكرير الأركان القولية موجب للبطلان. وعلى الإمام أن يحتاط ويستبرئ لدينه خاصة إذا كان إماما، فإنه يحتاط، وأميل إلى أنه يعيد الصلاة وأن تكرار الأركان القولية كتكرار الأركان الفعلية؛ لأن حكمهما في الشرع سواء من حيث الإلزام، فيكون تكرارهما موجبا عند القصد والتعمد لبطلان الصلاة، والله تعالى أعلم. حكم توكيل الدلال للشراء في بيع المزاد السؤال نحن مجموعة نرغب في التجارة في الرطب، ولكن وجدنا في حراج الرطب أمرا لم نعلم حلاله من حرامه، تنزل مجموعة من الرطب فيحرج عليها دلال، فيتزاود الناس من أجل شرائها، وإذا بلغ الزنبيل -مثلا- تسعين ريالا؛ يقول الدلال: سجله بخمس وتسعين ريالا لفلان من الناس، فنسأله: أين هو؟ فيقول: هو غائب، ولكنه وكلني، فهل يصح البيع، وهل يجوز أن يوكل المشتري الغائب الدلال على نفس البضاعة لكي يشتريها؟ الجواب ليس هناك حرج، والتوكيل جائز شرعا، إن شاء وكل الدلال أو غير الدلال، ولكن المحرم ألا يكون على وجه النصيحة بحيث يضر صاحب البضاعة، فإذا كان الدلال حابى بحيث علم أن وكيله قال له: لا تصل خمسة وتسعين وأريد هذه البضاعة وأرغبها، فحرج عليها حتى تصل تسعين أو ثمانين، وإذا وصلت التسعين خذ خمسة وتسعين واقفل المزاد، فإذا قفل المزاد فقد ظلم صاحب السلعة؛ لأنه ربما وجد من يرغبها بمائة، وربما وجد من يرغبها بست وتسعين، فإذا كان الدلال يتقي الله عز وجل وينصح لصاحب السلعة فلا بأس ولا حرج؛ لأن هذا توكيل شرعي، ويجوز أن يوكل الدلال وغيره، إنما المحظور أن يكون هناك ظلم لصاحب السلعة الأصلية، كأن يوقف السعر عند حد معين محاباة لمن وكله فإنه لا يجوز له ذلك شرعا، وليس هناك أي مانع شرعي؛ لأنه بيع صحيح لسلعة قيمتها خمسة وتسعون ريالا، فكما أن غير الدلال يجوز له أن يشتريها بخمسة وتسعين، فكذا الدلال، وكون الدلال وكيلا لا يوجب فساد البيع، ولا يؤخر في البيع ألبتة، والله تعالى أعلم. ومسألة المزاد في السلع ليس فيها شيء، وهناك من العلماء من منعه ونهى عن بيع المزايدة وفيه حديث ضعيف، والصحيح: أنه يجوز التحريج على السلع بشرط ألا يكون هناك نجش، فلا يدخل أشخاص يرفعون القيمة حتى يغروا الناس في شرائهم، وهذا بيناه وفصلناه في كتاب البيوع وأنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تناجشوا) ، وأما بيع المزاد فإنه بيع لا بأس به ولا حرج فيه، والله تعالى أعلم. لكن تبقى مسألة المحاذير الموجودة من بيان العيوب وكشفها، فهذه أمانة، وعلى كل بائع يتقي الله عز وجل، وليس هذا خاص ببيع المزاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) ، والله تعالى أعلم. متى يأخذ المغمى عليه حكم المجنون السؤال إذا كان المغمى عليه أشبه بالمجنون، فهل هذا الحكم يكون مطردا في جميع أبواب الفقه؟ الجواب المغمى عليه من حيث الأصل يأخذ حكم المجنون. وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على وجهين، منهم من يقول: إنه كالنائم، فهو مكلف وتجري عليه أحكام المكلفين، ومنهم من يقول: إنه كالمجنون، وتجري عليه أحكام سقوط التكليف ونحوها؛ لأنه أشبه بالمجنون منه بالنائم، والقول الذي يقول: إنه أشبه بالمجنون من النائم أقوى وأرجح؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ، والمغمى عليه إذا أيقظته لا يستيقظ، فهو في غلبة العقل كالمجنون، ثم القياس يضعف في الإلحاق بالنائم أكثر من ضعفه بالمجنون، لذلك فأنا أميل إلى القول بأنه في حكم المجنون من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على الاستثناء. والله تعالى أعلم. مدى تأثير الوسوسة في الصلاة السؤال الوسوسة في الصلاة هل تؤثر في أجر الصلاة؟ الجواب يوجد تفصيل: فإذا كانت الوسوسة -حديث النفس- تهجم على الإنسان بحيث لا يمكن أن ترفع، كالذي يكون واقفا في الصلاة ثم تذكر مالا من أمواله كأن تذكر مزرعته أو سيارته أو ابنه أو بنته، فهذا شيء يهجم دون أن يكون للمكلف فيه اختيار، فهذا لا يحاسب الله عليه العبد ولا يؤاخذه ولا ينقص درجة الكمال في الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يسلم منه أحد، وهذا شيطان للصلاة يوسوس للعبد، فإذا هجم عليه هجوما فأول الوسوسة لا يؤاخذ عليها، أما إذا استرسل معه ولم يقطع، فهذا يؤثر في كمال الصلاة ويؤثر في أجرها، ويؤثر في حصول المغفرة بها كما في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه: (أنه توضأ أمام الناس فأسبغ الوضوء ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، فصلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه) . فقوله: (لا يحدث) جعله كأنه هو الذي يحدث، فمعناه أن هناك شيئا يهجم على الإنسان ليس بيده، فالذي يسترسل مع هذه الوسوسة فذلك يؤثر ويقطع الكمال وينقص الأجر لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثلثها، ولما فاته منها خير له من الدنيا وما فيها) ، فهذه اللحظات التي يقضيها الشيطان بالوسوسة على الإنسان لو يعلم ما له من الأجر عند الله والمثوبة؛ فإن ذلك الذي له عند الله خير من الدنيا وما فيها، هذه اللحظات اليسيرة فقط! ولا شك أن هذا يدل على عظيم ما يكون في الصلوات من الأجر والمثوبة، وقد حكى الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون:1] * {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:2] ، أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، أي: ليس له من الأجر في الصلاة إلا قدر الذي عقله من الصلاة وأدرك، وقد يصلي الرجلان الصلاة الواحدة، كتف أحدهما بجوار كتف الآخر، وبينهما من الإخلاص وحضور القلب وعظم الأجر من الله كما بين السماء والأرض، فهذا كله لا يعلمه إلا الله عز وجل المطلع على سرائر الناس وضمائرهم وقلوبهم. نسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يجبر كسرنا وأن يكمل نقصنا، والله تعالى أعلم. حكم المشكك في السنة وغير المصدق بها السؤال ما نصيحتكم لشخص يقول: لا تصدقوا كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا الحديث رواه البخاري أو مسلم، لا يصدق ولا يكذب؟ الجواب اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بالله من طمس البصائر، ولا يزال الإنسان في خير ورحمة وبر وهدى في دينه ما تمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يحجب عن نار الله إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تنعم عينه ولن تطأ قدمه الجنة إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صراط إلى الجنة إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الزمان زمن فتن، تكلم فيه كل من هب ودب، وكل زاعق وناعق، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فالذي يوصى به الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق العلماء العاملين الذين عرفوا بضبطهم وإتقانهم وأخذهم للعلم، فهؤلاء الذين يحتكم إليهم في دين الله وشرع الله. وأما بالنسبة لهذه الكلمات الجارحة التي تمس مشاعر المسلمين، والتي يطلقها إما من لا دين عنده -والعياذ بالله- وإما أصحاب الأهواء الذين يريدون تشكيك المسلمين في عقائدهم ونزعهم عن دين ربهم، وإما الحسد كأن يحسد الإنسان على دينه كما ذكر الله عن أهل الكتاب، فهذا ليس إلا تشكيكا في بدهيات عند المسلمين هي أوضح من الشمس في رابعة النهار. وليعلم الإنسان أن خير ما يقال في هؤلاء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الفتن، وبين عليه الصلاة والسلام أن هناك همجا رعاعا أتباع كل زاعق وناعق، فالذي يتبع كل زاعق وناعق فإنه على هلاك بلا إشكال ولا مرية. والشخص الذي يجعل زمام دينه لكل من هب ودب عليه أن يعلم أنه على ضلال مبين، فلا يعرف الحق إلا بأهله الذين عرفوا بالتمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله جعل السنة مبينة لكتاب الله عز وجل: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44] . وصدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه حيث أخبر قبل هذا الزمان بقرون عديدة وكشف الله له ما هو كائن، فكان معجزة من معجزاته فقال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم جالسا على أريكته شبعان ريان، يبلغه الحديث مما قلته أو عملته فيقول: ما وجدنا هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه) ، فهذه هي السنة التي هي أحب إلينا من أنفسنا، ولا يصدنا عنها غرور المغرورين ولا فتن المفتونين ولا إرجاف المكتوفين ولا إبطال الملحدين، إنما علينا أن نتمسك بدين الله وشرعه. وليضع كل مسلم في كل دعوة مصادمة لدين الله عز وجل نصب عينيه كلمة قالها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات ثبتت قلوب المؤمنين والمؤمنات، وهي قوله عز من قائل: {فاستمسك بالذي أوحي إليك} [الزخرف:43] ، وزيادة المبنى في لغة العرب تدل على زيادة المعنى، ما قال له: أمسك الذي أوحي إليك، ولكن (( فاستمسك )) ، فورد التأديب بهذه الحروف التي لها الوقع القوي في النفوس، ومع أنه لو قال: (اثبت) لكان لها معنى، لكن (استمسك) حتى صوت الكلمات والحروف لها معنى وخطاب مباشر، وخطاب لخير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، فمن باب أولى غيره، فنبه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يزعزعها وأن الذي يحول بينها وبين وحيها شيء عظيم وكبير، يحتاج إلى قوة وثبات يحتاج إلى اللائق بالإنسان مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستمساك يدل على عظم الشيء الذي يحول بينك وبينه. فعلى هذا: ينبغي على كل مسلم أن يثبت على الحق وأن يوصي إخوانه بذلك، فالسنة حجة على من بلغته إذا صحت وثبتت فقل: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة:285] . من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعلمها، أنه إذا عود نفسه إذا صحت السنة أن يسلم ويستسلم ويعمل، فليعلم أن حظه من الهداية والرحمة على قدر تمسكه وعمله وتسليمه، وقل أن تجد عبدا من عباد الله إذا بلغته السنة طأطأ رأسه وأسلم لله نفسه إلا وجدته أثبت الناس جنانا، وأصلحهم حالا وأشرحهم صدرا وأكثرهم توفيقا من الله عز وجل، ولن تجد شخصا كثير الشكوك كثير الأوهام كثير الرد للسنة إلا وجدته أعمى البصيرة كثير الفتن والقلاقل، إلا أن يرحمه الله برحمته. وتأمل قول الله عز وجل: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63] ، فهذا وعيد شديد لكل من يعترض على السنة، ويردها ويخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالحذر كل الحذر! لا تقبل عن طريق الله وسبيلها تحويلا، ولا تقبل عن قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم بديلا أبدا، وعليك أن تستمسك بما أوحى الله، وهذه سنة ماضية للعلماء وورثة الأنبياء، فإنهم يدعوا الناس إلى التمسك بالحق، وعلى الخطباء وأئمة المساجد وطلاب العلم أن يعودوا الناس محبة السنة، وأن يذكروهم -خاصة في هذا الزمان- بقول الله وقول رسوله عليه الصلاة والسلام وهدي السلف الصالح في محبتهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملهم بها وتطبيقهم لها، وأن الله عز وجل أسعد أمما وسيسعد من بقي كما أسعد من مضى بهذه السنة. فهنيئا ثم هنيئا لمن نور الله بصيرته وثبت قلبه، وجعل محبة السنة في فؤاده، فلم يلتفت إلى هذه الفتن ولا إلى هذه المحن، وثبت على الحق بتثبيت الله. نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك بعزتك وقدرتك أن تعيذنا من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، ومن إلحاد المبطلين، ونسألك بعزتك وقدرتك على خلقك أن تكبت أعداء الدين. اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم. اللهم اكف الإسلام وأهله أهل الضلال بما شئت، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (463) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [1] حرصت الشريعة الإسلامية على حماية الأعراض من أن تنتهك حرمتها، وتوعد الله باللعنات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين والمسلمات، وشرع الله اللعان بين الزوجين حتى لا يلحق الزوج ما طرأ على فراشه من ولد الحرام، وأيضا حتى تدفع المرأة الضرر عن نفسها إذا اتهمت بالباطل، واللعان يدور على ثلاثة أحوال هي: الوجوب والحرمة والإباحة، كما أن للعان بين الزوج والزوجة كيفية مخصوصة بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وقد شرح ذلك الفقهاء رحمهم الله. تعريف اللعان وكيفيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [كتاب اللعان] . اللعان: مأخوذ من اللعن، وأصل اللعن الطرد والإبعاد، ويطلق اللعن بمعنى الشتم في لغة العرب، ولكن يراد به في شرع الله: الطرد والإبعاد من رحمة الله -والعياذ بالله- فمن لعنه الله فإنه مطرود من رحمته، ولن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من لعنته وغضبه وشر عقابه! أما في الاصطلاح فالمراد باللعان: شهادات مؤكدات بأيمان مقرونة باللعنة والغضب، وهذه الشهادات مخصوصة تصدر من شخص مخصوص، وهو إما الزوج وإما الزوجة، فليس هناك لعان في الإسلام يقع بين غير الزوجين، فهو مختص بحالة معينة حددها الشرع، لأمور وأسباب سننبه عليها إن شاء الله تعالى. وهذه الشهادات يشهد فيها الرجل الذي هو الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما يدعيه من زنا زوجته أو من نفي ولدها منه، فهو إما أن يقذفها بأنها زنت، وإما أن ينفي الولد، فيقول: هذا الولد ليس بولدي، فاللعان من الزوج على أحد هذين الأمرين، وقد يجتمع الأمران بأنها زنت، وأن الولد ليس بولده؛ لأنه إذا كان اللعان بأحدهما، فمن باب أولى إذا اجتمعا، وهذا بالنسبة لشهادات الزوج. وأما شهادات الزوجة فإنها تشهد بالله أربع شهادات مقرونة باليمين أن زوجها كاذب فيما ادعاه من زناها، أي: فيما قذفها به من الزنا، وتشهد إذا كان الزوج قد نفى ولدها منه أن الولد ولده. إذا: إما أن يشهد الزوج على أنها زنت، وإما أن يشهد على أن هذا الولد ليس بولده، والمرأة حينما تشهد الأربع الشهادات تضاد بها وتقابل بها شهادات الزوج، فتشهد أربع شهادات مؤكدة بالأيمان أنه كذب عليها فيما ادعاه من زناها، وكذلك أيضا أنه كاذب في نفي الولد، وأن الولد ولده. وهذه الشهادات الأربع المؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، أما كونها مقرونة باللعن فمن جهة الزوج، وأما كونها مقرونة بالغضب فمن جهة الزوجة، والمراد باللعن والغضب: لعن الله عز وجل وغضب الله، فالزوج يحلف اليمين الخامسة وهي -والعياذ بالله- الموجبة، ووصفت بكونها موجبة؛ لأنه إذ حلفها أوجبت عليه لعنة الله -والعياذ بالله-، وأوجبت عليه عقوبة الآخرة إذا كان كاذبا فاجرا في يمينه، وفيما ادعاه من زنا زوجته أو نفي ولده منها، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الزوج لما حلف الزوج الأربعة الأيمان والشهادات الأربع الأولى أوقفه بعدها، وجاء في بعض الروايات: أنه أخذ على فمه، وكل هذا خوفا عليه من لعنة الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويحك إنها الموجبة) ، أي: اتق الله في نفسك، ولا تحمل ما لا تطيق، فإن كنت كاذبا فارجع عما قلته، فحلف الرجل. وأما بالنسبة للمرأة فالغضب في حقها، فتحلف اليمين الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين -أي زوجها-، وهذه الخامسة -والعياذ بالله- موجبة لغضب الله عز وجل، وإذا حل غضب الله على العبد فقد هوى، يعني: هلك هلاكا عظيما؛ ولذلك جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أوقف المرأة عند الخامسة وقال لها: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة) ، فلما قال لها: إنها الموجبة، أي: أنك لو حلفت هذه الخامسة بأن غضب الله عليك، فإنه سيحل عليك غضب الله، والله تعالى يقول في كتابه: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه:81] ، وهذا إشارة إلى عظيم ما يصيبه من البلاء، حتى هوى وسقط سقوطا قد لا يسلم معه أبدا، وهذا أمر عظيم جدا، ولذلك إذا حدث اللعان على هذه الصورة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة، ويكون أمر الزوجين إلى الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟) ، أي: منكما، وقد جاء في رواية أنس رضي الله عنه: أن المرأة لما أوقفت، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها الموجبة) ؛ تلكأت وكادت أن تعترف ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفتها! سبب نزول آيات اللعان هذا اللعان وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء رحمهم الله في قصتين صحيحتين ثابتتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصة الأولى: وقعت لصحابي يدعى: عويمر العجلاني من بني عجلان، والثانية: لـ هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عز وجل عليهم كما في قصة غزوة تبوك، فاختلف العلماء رحمهم الله: هل نزلت آيات اللعان بسبب قصة عويمر أو بسبب قصة هلال؟ والذي عليه أكثر الأئمة رحمهم الله واختاره بعض أئمة التفسير أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عن الجميع، واختار الإمام النووي رحمه الله أنها نزلت في عويمر العجلاني، وقصته أنه أتى إلى عاصم العجلاني، وهو ابن عمه فقال: يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي -يا عاصم - عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام لا يحب المسائل التي لم تقع خشية أن تحدث تشريعات وأحكام تضيق على الأمة؛ ولذلك كان يقول كما في مسند أحمد: (أعظم المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته) ، وقال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها) ، فكان يكره المسائل، فلما جاء عاصم وسأل هذا السؤال ولم يبين أنه وقع لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عاصم إلى قومه فجاءه عويمر، وقال: يا عاصم! هل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عاصم: قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، فقال عويمر: والله! لا أنتهي حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، وكانت زوجته ابنة عمه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ يعني: لو أنه قتله، ليس عنده شهود يثبتون أنه زان؛ ولذلك سيقتل به؛ لأنه لو فتح هذا الباب لأمكن كل شخص يكره شخصا أن يدعوه إلى بيته ثم يقتله، وقد يكون كارها لزوجته، فيدعي زناها بالرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فذهب وجاء بامرأته، وتلاعنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وأما قصة هلال بن أمية رضي الله عنه -وكان أخا للبراء بن مالك لأمه- فإنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه فقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، أما عويمر ففي قصته أنه قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه؟ أما هلال بن أمية فإنه تلفظ باللفظ الصريح أن امرأته زنت بـ شريك بن سحماء، قال عبد الله بن عباس كما في صحيح البخاري وغيره: إن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، يعني: سمى الرجل الذي وجده، وقال: يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، والله! يعلم إني صادق فيما أقول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فقال هلال: (والله! ما كذبت يا رسول الله! والله! يعلم إني صادق وسينزل الله في قرآنا يصدقني) ، فقال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حد في ظهرك؛ لأن الله عز وجل أثبت الحد في أول الإسلام على كل من قذف زوجته أو غيرها، فإما أن يثبت زناها بالبينة أو يقام عليه الحد، وهو ثمانون جلدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -على الأصل-: (البينة أو حد في ظهرك) ، يعني إما أن تحضر البينة أو أقمت عليك الحد، وسياق الحديث في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤكد أن القصة أول ما حدثت مع هلال بن أمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالأصل الذي سبق نزول آيات اللعان، فقال له: (البينة أو حد في ظهرك) ، وهذا يرجع ويقوي أنها نزلت أول ما نزلت في هلال، وهو مذهب الأكثرين، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، اعتذر الرجل بما اعتذر، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، فلما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي أمره أن يحضر المرأة ثم أمرهما أن يتلاعنا، فبدأ بـ هلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وإنها زنت، وإن الحمل الذي في بطنها ليس منه، ثم خمس بشهادة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بعد ذلك شهدت المرأة أيمانها، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به أصيهبا أحمش الساقين فهو لـ هلال -يعني: قد كذب والولد ولده-، وإن جاءت به أورق خدلج الساقين فهو للذي ذكر) ، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله! الحكمة من تشريع اللعان بين الزوجين اللعان تشريع حكيم شرعه الله من فوق سبع سماوات، وبين شأن هذا الأمر العظيم، وجعل له أحكاما خاصة، والسبب أن القضايا التي تقع فيها الخيانة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتيسر فيه الدليل وتقوم فيه الحجة من إقرار أو شهود عدول يشهدون بأن المرأة أو الرجل قد وقعا في زنا، وحينئذ لا إشكال. القسم الثاني: لا يتيسر فيه وجود الدليل؛ ولذلك قال سعد رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: يا رسول لله! أرأيت لكعا لو أنه تفخذها رجل أيقتله فيقتل أو يذهب فيحضر الشهود فيفرغ الرجل من حاجته؟ لأنه يصعب إحضار أربعة شهود، وهذا الباب شددت فيه الشريعة كما سيأتي -إن شاء الله في باب حد الزنا- بيان حكمة التشريع في وجوب أن يبلغ النصاب أربعة شهود، وقد خص أمر الزنا بذلك، لعظيم البلاء فيه، فالضرر لا يقتصر على المرأة ولا على الزوج، بل ينتشر إلى أهل المرأة وإلى أهل الزوج، ومثل هذا الأمر تسفك به الدماء، ويحصل فيه من الشر ما الله به عليم، إضافة إلى أن الناس عندهم نوع من التساهل في القذف بسبب شدة الغيرة، فقد يكون الرجل شديد الغيرة فيتهم امرأته ويبادر باتهامها، والعكس أيضا. وعلى كل حال، لما كان أمرا زوجيا له أحكام خاصة وضعت الشريعة له هذا التشريع، إذ غالب الظن أن الرجل لا يقدم على اتهام امرأته ولا يقدم على نفي ولده منها والأمر بخلاف ما يقول؛ فالغالب أن الرجل لا يقدم على اللعان إلا إذا كان صادقا، أما الشذوذ وكون الرجل -والعياذ بالله- جريئا على محارم الله وجريئا على الكذب على الله عز وجل بشهادة الأيمان؛ فهذه أحوال نادرة، لكن الغالب أن الزوج لا يمكن أن يأتي إلى فراش الزوجية فيتهم زوجته وينفي ولده منها إلا وهو صادق فيما يقول أو عنده ما يدل على ما يثبت صدق دعواه، فنظرا إلى أن الرجل يحتك بزوجته ويطلع على أمور زوجته ويدخل على زوجته في أحوال مختلفة؛ ففي ذلك مظنة أن يقع على شيء، ثم هذا الشيء قد يقع فجأة فلا يتيسر له وجود الدليل، وهذا الذي جعل بعض الصحابة يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الشريعة حلا خاصا بهذه الأيمان التي يدفع بها الضرر عن الزوج فلا يلحق به ما دنس فراشه من ولد الحرام، وأيضا يدفع به الضرر عن المرأة إذا اتهمت بالباطل، فعدل الله عز وجل بين الاثنين، وجعل هذه الحالة الخاصة والأمر الخاص مرده إلى الآخرة إذا أصر الزوج على أمره وكذبه أو أصرت الزوجة على كذبها؛ لأنه لابد أن يكون أحدهما كاذبا، فجعل لها هذا التشريع الخاص الذي يخوف به الزوج وتخوف به الزوجة، فإما أن يقدما وإما أن يحجما، وأمر اللعان فيه تفصيل، فتارة يجب على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارة يحرم على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارة يباح له فإن شاء لاعن وإن شاء ترك ويكون الأفضل له الستر. أما في الحالة الأولى وهي التي يجب على الرجل أن يلاعن زوجته فهي أن يتحقق من زناها أو يتحقق أن الولد ليس بولده، مثل أن يدخل فيراها على الزنا، فيرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويتحقق أنه قد وقعت الفاحشة بالصفة المعتبرة في إثبات جريمة الزنا، فيرى فرجه في فرجها على الصفة التي لا لبس فيها ولا غموض، فلو أنه رآه مختليا بالمرأة فلا يكفي هذا لإثبات الزنا، فإنه ربما كان الرجل لم يجامعها بعد، وقد يكون ما بينهما علاقة غرام ومحبة، وتمنعه المرأة من نفسها كما يحدث من بعض النساء فتتمنع، فليس وجود الرجل مع المرأة كافيا لإثبات الزنا، وهذا أمر عام لا يختص بالزوجين، فعلى كل مسلم أن يعلم أن الله سائله ومحاسبه عن اتهامه إخوانه المسلمين، فلا يجوز له أن يثبت الزنا على رجل أو على امرأة حتى يرى بعينه أو تقر المرأة للزوج أو يقر الرجل على نفسه. فالزوج يحكم بأنه متأكد وعلى يقين من زناها بدليلين أحدهما: أن يرى بعينيه الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية! ثانيهما: أن تقر له زوجته وتخبره أنها فعلت هذا الشيء، وأنه وقع منها. وفي حكم اليقين غلبة الظن أن يأتي شهود يثق فيهم وفي أمانتهم وصدقهم وعدالتهم فيشهدون عنده أنهم رءوا زوجته على الزنا ويشهدون بالصفة المعتبرة في إثبات حد الزنا. إذا: هناك حالتان يتحقق فيها الزوج من زنا الزوجة: الأولى: أن يرى بعينيه ويشهد ذلك بنفسه. الثانية: أن يشهد عنده العدول، فالأولى تندرج تحت اليقين والثانية هي غالب الظن، ويندرج في حكم اليقين أن تخبره الزوجة كما ذكرنا. حكم اللعان الحالة التي يجب فيها اللعان الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلا لأنه لم يجامعها، أو مثلا حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكا لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطا فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالا ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجرا عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوب إليه شرعا، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالس في المسجد، وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) ، فكرر عليه أربع مرات. وجه الدلالة: أن ماعزا اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفر، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه) ، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال: (أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) . فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه. ولوجوب الملاعنة جانبان: الأول: أن يتحقق من زناها. الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه. فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟ هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبة نصوحا، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصة إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصة إذا كانت قريبة أو نحو ذلك. وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعا إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعا شرعيا؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيرا منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها. ويشكل على هذا حديث: (إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها) ، هذا الحديث -أولا- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبين أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس) ، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله: {ولا متخذات أخدان} [النساء:25] ، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحد ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصة إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديوثا -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلا في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان. الحالة التي يحرم فيها اللعان الحالة الثانية: يحرم اللعان إذا كان الرجل كاذبا على زوجته فيتهمها بالباطل ويتهمها بالزور، وهذا الأمر من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيح، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، ومنها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وتوعد الله عز وجل من فعل ذلك باللعنة في الدنيا واللعنة في الآخرة، والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة، ويفضحه الله على رءوس الأشهاد؛ فتشهد عليه يده وتشهد عليه رجله ويشهد عليه لسانه بما افتراه على المرأة البريئة من الزور والبهتان، والتساهل في التهم والقذف أمر عظيم، ومن تأمل نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تعظم حرمة المسلم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن العرض بالدم، ولربما كان قتل الإنسان أهون عنده من أن يطعن في عرضه، ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعين البريء ويحفظه ويثبته؛ لأن من يصبر يصبره الله، وهذا البلاء يرفع الله به درجته؛ ولذلك قدر الله عز وجل هذا البلاء لخير الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يعلم أمته الصبر على التهم، ويعلم كل مؤمن وكل مؤمنة أن يتجلدا في مثل هذا البلاء الذي يصدر من هذه النوعية من الناس التي لا تبالي بما تقول، وتلصق التهم بأتفه الأشياء، فتجد الرجل بمجرد أن يرى غريبا دخل بيتا اتهمه بالزنا! وبمجرد أن يرى امرأة في مكان اتهمها بالزنا! فهذا أمر ينبغي للمسلم أن يتقي الله عز وجل فيه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، وأن يلتمس لإخوانه وأخواته المؤمنات الأعذار، وأن ينزل نفسه منزلتهم، وإذا فعل ذلك حفظ الله له دينه، وحفظ له عرضه، ومن صان أعراض الناس صان الله عرضه، ومن عف عن الناس عفت الناس عنه، قال الإمام مالك رحمه الله: (أعرف أناسا لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أناسا لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبا) . فتهمة الزوج لزوجته بالحرام أمر عظيم، وأجمع العلماء على أن اللعان في هذه الحالة محرم على الزوج، ولا يجوز له أن يلاعن، فإذا بلغت به الجرأة أن ادعى ذلك في مجلس القضاء، وطلب أن يلاعن زوجته فالأمر أشد والمصيبة عليه أعظم؛ لأنه سيحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة -والعياذ بالله- ثم يقول في الموجبة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا قالها حلت عليه لعنة الله عز وجل والعياذ بالله! الحالة التي يجوز فيها اللعان وعدمه ذكرنا الحالة الأولى وهي: الوجوب، والحالة الثانية وهي: التحريم، وهما شبه مجمع عليها بين العلماء رحمهم الله. والحالة الثالثة هي: الجواز، إذا اطلع الرجل على زنا زوجته ولم يحدث من هذا الزنا حمل، ففي هذه الحالة من حقه أن يضيق عليها فيما بينه وبينها حتى تفتدي، ومن حقه أن يلاعنها، فإذا شاء أن يلاعنها لاعنها، وإذا شاء أن يضيق عليها حتى تفتدي ويسرحها فعل ذلك، والأفضل والأكمل -كما ذكرنا- أن يسترها ألا يلاعنها، وإذا أراد أن يأخذ حقه بأن تفتدي أخذه، وإذا أراد أن يطلقها ولا يأخذ شيئا فإن الله عز وجل سيعوضه. وصية لمن ابتلي في عرضه والذي ينبغي أن ينبه عليه في مثل هذا: أن خيانة الفراش والوقوع في الحرام بلاء عظيم، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يصبر، وأن يعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى؛ لأن البلاء إذا حل بالعبد ليس هناك أحب إلى الله من أن يصبر ويرضى بقضاء الله وقدره، وقد جاءت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تبشر من صبر عند البلاء، فكما أن البلاء يكون في الجسد يكون أيضا في العرض؛ ولذلك ابتلى الله عز وجل بالبلاء بالعرض أنبياء الله، فموسى عليه السلام تكلموا فيه وقالوا: إنه آدر، أي: له خصية واحدة كما ثبت في الصحيحين: (أن الله عز وجل ابتلاه بكلام بني إسرائيل فيه فقالوا: إنه آدر؛ لأنه كان لا يغتسل معهم، فقالوا: لا يغتسل معنا وإلا وفيه عيب) ، فاختلقوا له هذا العيب، وهذا ابتلاء من الله عز وجل للذين في قلوبهم مرض، فالقلب يمرض فيما بينه وبين الله، ويمرض فيما بينه وبين الناس، فللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق الله عز وجل ومحارمه، وللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق المسلمين وواجباتهم، فإذا وجد المرء نفسه لا يرعوي عن إلصاق التهم بإخوانه فهذا مرض في القلب نسأل الله السلامة والعافية! وقد ذكر الله عز وجل أن القوم البهت كاليهود يحل الله عليهم سخطه وغضبه بسبب أذيتهم للناس، فأوذي موسى عليه الصلاة والسلام فقيل عنه: إنه آدر، فشاء الله عز وجل أن ينزل ويغتسل، وأمر الله الحجر أن ينطلق بثيابه، فأصبح موسى يركض وراء الحجر عاريا أمام الناس، وهذا ابتلاء، فلا يظن أحد أنه سيخرج من الدنيا -ما دام عنده إيمان- دون أن يمحص ودون أن يؤذى ودون أن يبتلى، فتجد من عنده ضعف إيمان إذا ابتلي بمثل هذه المصائب طاش عقله وذهب عنه رشده، فأخذ يسب ويشتم ويضيق على نفسه ويكدر عيشه؛ فيزداد ضيقا إلى ضيق كما قال صلى الله عليه وسلم: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط) ، فيضيق على نفسه، وهذا من علامة الخسران، حتى إنه -والعياذ بالله- قد تزني امرأته ويطلع على زناها فيتكلم فيها ويفضحها ويشهر بها ويغتابها، فيحمل ذنوبا وسيئات قد تذهب صلاته وصيامه -والعياذ بالله- فيجمع الله له بين مصيبتين: مصيبته في أهله، وأذيته لها بعد وقوعها في هذا الحرام، فيجب عليه أن يصبر ويتجلد، ولذلك قرن الله الصبر بالتقوى، والتقوى: حفظ اللسان، وحفظ الجوارح والأركان، وحفظ الجنان. فإذا ابتلي شخص بمثل هذه الأمور فإنه يوصى بالصبر، والأئمة والخطباء وطلاب العلم والعلماء والموجهون والأصدقاء والقرناء عليهم إذا اطلعوا على مثل هذه الأمور أن يثبتوا من ابتلي بها؛ لأنه ليس هناك فرج أقرب من فرج الله لمن صبر وصابر ورابط، ويوصى المبتلى بذلك بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه كما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها التي هي من أعظم القصص عبرة وعظة، في قوة إيمانها وثبات جنانها وصدق التجائها إلى ربها، حتى جاءها الله بالفرج من حيث لم تحتسب وقالت: (ما كنت أظن أن ينزل الله في قرآنا) ، فأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات، حتى أنها من كمال إيمانها وتوحيدها وتعظيمها لله سبحانه وتعالى لما قيل لها: (اشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا، والله! بل أشكر الله) ، فابتدأت بشكر الله قبل شكر أي أحد؛ لأنها مرت عليها ساعات وأيام قاست فيها وعانت وليس معها إلا الله وحده، حتى أنها رضي الله عنها وأرضاها لما عظم البلاء وجلست عند والديها جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) ، وانظروا كيف الرحمة واليسر! إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه، ليس هناك أعظم من الشرك، وليس بعد الكفر ذنب، ومع ذلك أمر الله المشركين أن يتوبوا إليه فقال: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38] ، فرحمة الله واسعة، إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه، قصة فيها عبرة للزوج وعبرة للزوجة، وعبرة لأهل الزوج وأهل الزوجة، وسلوى للمؤمن، فقال لها هذه الكلمات، فقالت لأبيها وأمها رضي الله عنهم وأرضاهم: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا أن يجيبوه، فقالت: لا أقول إلا كما قال أبو يوسف -ما استطاعت من شدة ما تعانيه أن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام-: {قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} [يوسف:86] ، فصبرت صبرا جميلا واستعانت بالله جل وعلا، فما لبث أن نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءتها، والعلماء رحمهم الله لما تكلموا عن بعض أهل الزيغ والضلال الذين يطعنون في أمهات المؤمنين ويتكلمون في الصحابة كان بعض العلماء يقول: لا أشك في كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها؛ لأنه يكذب نص القرآن، وهذا بلا مرية، ويكاد يكون بالإجماع أن من قذف عائشة كافر؛ لأن الله عز وجل نص على براءتها، ونص على طيبها، ونص على أنها مبرأة مما اتهمت به، فجعل الله لها هذا الشرف وهذا الفضل، حتى أن القرآن يتلى ويتقرب إلى الله عز وجل ببراءتها رضي الله عنها وأرضاها، فهذه عاجل بشرى الله عز وجل لأوليائه، وحينما تنزل مثل هذه البلايا على الإنسان تضيق عليه الدنيا بما رحبت، ولكن حبل الباطل قصير، وكما بين الله عز وجل أن كيد الشيطان ضعيف، فتضيق الأمور وتعظم وتشتد ويصبح الإنسان في هم وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن لا يلبث أن يأتيه الفرج ويكون أقرب إليه من حبل الوريد، فإذا بالأمر كأن لم يكن شيئا: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء:18] ، ولكن العجيب أن بعض الناس لقوة إيمانه وثباته -ولعل الله عز وجل يحبه- يجعل الله براءته في الآخرة ولا يجعل براءته في الدنيا، فقد يتكلم فيه الناس فإذا وقف بين يدي الله عز وجل وأظهر الله صدق الصادقين وكذب الكاذبين، فعندها كما قال الله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة:119] فالمرأة والرجل إذا ابتليا بمن لا يتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين، فيتكلم فيهم ويتهمهم بالزور والباطل، فما عليهما إلا أن يصبرا، والأمر في حق النساء آكد وأوجب، فإن النساء يظلمن كثيرا في هذه الأمور، وبالأخص إذا كان الظلم من القريب، فأخوها بمجرد أن يرى أقل الأشياء يضخم الأمور ويتهمها عند والديها أو يضيق عليها، فهذا أمر ينبغي أن ينصح فيه الناس وأن يذكروا بالله عز وجل، وعلى المرأة أيضا ألا تفتح على نفسها أبواب التهم، وعليها -دائما- أن تحافظ على دينها وعلى كرامتها وعلى عفتها، وعليها إذا رأت من أخيها أو زوجها أو قريبها تضييقا في أمر ألا تعتقد أنه يسيء الظن بها، بل إنه قد يخاف الإنسان على عرضه، والله يعلم أنه قد يضحي بدمه وبأغلى ما يملك من محبته لأهله وقرابته، فعليها أن تتحمل ذلك وأن تتقبله.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |