الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         التذكّر... في لحظة الغفلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          لماذا نرغب بما مُنعنا عنه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          عشرة أشفية للحزن في القرآن العظيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          العمل الصالح .. صاحبك الذي لا يخذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          عزلة مؤقتة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          خواطر بلا صخب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الممحاة الروحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          حين تُرِبِّت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          العنوان : أفرأيتم الماء الذي تشربون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          رحلتي مع الكمبيوتر من صخر إلى الذكاء الصناعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-10-2021, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (51)
صـ136 إلى صـ 150

فصل

ومنها : أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب; فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني ، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب ، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها ، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم ، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة ، فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة ، التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها ، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها .

فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة ، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات [ ص: 137 ] حتى كانت قبائل العرب تفهمه .

وأيضا; فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط; لأن الضعيف ليس كالقوي ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العادة الجارية ، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموا ذلك من طريقهم : بالحجة القائمة ، والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ، ولا تذكير ، ولطوقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لم يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] .

لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم : من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه ، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله ، وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم .

[ ص: 138 ] وقد خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب; قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، فقال : يا جبريل ! إني بعثت إلى أمة أميين; منهم العجوز ، والشيخ الكبير ، والغلام ، والجارية ، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . قال يا محمد : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف .

فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم .
فصل

ومنها : أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها ، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية; فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد ، والمعنى هو المقصود ، ولا أيضا كل المعاني ، فإن [ ص: 139 ] المعنى الإفرادي قد يعبأ به ، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه ، كما لم يعبأ ذو الرمة " ببائس " ولا " يابس " اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم .

وأبين من هذا ما في " جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري " عن أنس بن مالك; أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] ، قال : ما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا ، أو قال : ما أمرنا بهذا .

وفيه أيضا عن أنس ; أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] : ما الأب ؟ فقال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف .

ومن المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن " المرسلات [ المرسلات : 1 ] " و " العاصفات " [ المرسلات : 2 ] ونحوهما .

وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه; لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح; نبه عليه قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية ، فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي; لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه ، كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى : أو يأخذهم على تخوف [ النحل : 47 ] فإنه سئل عنه على المنبر ، فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :

[ ص: 140 ]
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
.

فقال عمر : أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ، فإن فيه تفسير كتابكم ، فليس بين الخبرين تعارض; لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه ، بخلاف الأول ، فإذا كان الأمر هكذا ، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب; لأنه المقصود والمراد وعليه ينبني الخطاب ابتداء ، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة ، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي ، فتستبهم على الملتمس ، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب ، فيكون عمله في غير معمل ، ومشيه على غير طريق ، والله الواقي برحمته .
[ ص: 141 ] فصل

ومنها : أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها .

أما الاعتقادية - بأن تكون من القرب للفهم ، والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ، ولم تكن أمية ، وقد ثبت كونها كذلك ، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ .

وأيضا; فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق ، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه ، وأرجت غير ذلك ، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات ، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة ، وهو قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول ، نعم ، لا ينكر [ ص: 142 ] تفاضل الإدراكات على الجملة ، وإنما النظر في القدر المكلف به .

ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة ، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها; حتى قال : لن يبرح الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ .

وثبت النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني عاما في الاعتقاديات والعمليات ، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل ، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما [ ص: 143 ] سكت عنه ، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه .

وعلى هذا; فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية; فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها; فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، ولله در القائل :


وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
.

ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها .

وأما العمليات ; فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور ، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم; كتعريفها بالظلال ، وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها; نزل : من الفجر .

وفي الحديث : إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس; فقد أفطر الصائم .

[ ص: 144 ] وقال : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا .

وقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم; فأكملوا العدة ثلاثين .

ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل; لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ، ولدقة الأمر فيه ، وصعوبة الطريق إليه ، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين ، وعذر الجاهل فرفع [ ص: 145 ] عنه الإثم ، وعفا عن الخطأ ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور ، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية ، فإنها مظنة الضلال ، ومزلة الأقدام .

فإن قيل : هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ، ومظان الشبهات ، ومجاري الرياء ، والتصنع للناس ، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات - التي هي عند الجمهور من الدقائق - التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص ، وقد كانت عندهم عظائم ، وهي مما لا يصل إليها الجمهور .

وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة ، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة ، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية ، وهكذا سائر القرون إلى اليوم ، فكيف هذا ؟

وأيضا; فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة ، وما يعرفه العلماء خاصة ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك المتشابهات فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق ، وما لا يوصل إليه على الإطلاق ، وما يصل إليه البعض دون البعض ، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة ؟

فالجواب أن يقال : أما المتشابهات; فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت [ ص: 146 ] آية التنزيه ، وإما راجعة إلى قواعد شرعية; فتتعارض أحكامها ، وهذا خاص مبني على عام هو ما نحن فيه ، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه :

أحدها : أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة ، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف ، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها ، حتى زايل الأمية من وجه ، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته ، فنسبته إلى ما فهمه ، نسبة العامي إلى ما فهمه ، والنسبة إذا كانت محفوظة ، فلا يبقى تعارض بين ما تقدم ، وما ذكر في السؤال .

والثاني : أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ، ورفع بعضهم فوق بعض ، كما أنهم في الدنيا كذلك ، فليس من له مزيد في فهم الشريعة ، كمن لا مزيد له ، لكن الجميع جار على أمر مشترك .

والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك ، بل يدخلون مع غيرهم فيها ، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك [ ص: 147 ] بعينه ، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك ، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك .

كما نقول : إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ، ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل ، كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم ، وهو منها عند قوم آخرين ، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة ، وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول ، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته ، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون; فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة .

والثالث : أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده ، بل وكلت إلى نظر المكلف ، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا ، فهو المطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول ، فهو المطلوب منه ، وربما تفاوت [ ص: 148 ] الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته ، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها ، بل بما هو دونها ، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا ، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم ، والله أعلم .

فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها ، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه ، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية - وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده - بخلاف من كان له بذلك عهد ، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ، ولم تنزل دفعة واحدة ، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة ، وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك ، قال له : " ما لك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق " . قال له عمر : " لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة " .

[ ص: 149 ] وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي; فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس ، وكان أكثرها على أسباب واقعة; فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية ، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة ، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف ، وعن العلم به رأسا ، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له ، ثم كذلك في الثالث والرابع .

ولذلك أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام ، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه ، يقول تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .

ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 123 ] .

إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [ آل عمران : 68 ] .

إلى غير ذلك من الآيات ، فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف; فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين .

[ ص: 150 ] وفي الحديث : الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه ، وانشرح به صدره; فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول ، هذا في عادة الله في أهل الطاعة ، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه ، فكان يحب الرفق ويكره العنف ، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله; لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد ، وأسهل في التشريع للجمهور .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-11-2021, 07:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (61)
صـ248 إلى صـ 255


فصل

وأما الثاني; فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ، ولا محيص له عنها ، يقوم فيها بحق ربه تعالى ، فإذا أوغل في علم شاق; فربما قطعه عن غيره ، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به ، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به; فيقصر فيه ، فيكون بذلك ملوما غير معذور; إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ، ولا بحال من أحواله فيها .

ذكر البخاري عن أبي جحيفة; قال : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء - وهي زوجه - متبذلة; فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا . فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما ، فقال له : كل فإني صائم . فقال : ما أنا بآكل حتى [ ص: 248 ] تأكل; فأكل . فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام . ثم ذهب ليقوم ، فقال : نم . فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن . فصلينا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر له ذلك; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صدق سلمان .

وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : أفتان أنت ، أو أفاتن أنت ؟ ( ثلاث مرات ) ، فلولا صليت ب سبح اسم ربك الأعلى [ الأعلى : 1 ] ، والشمس وضحاها [ الشمس : 1 ] ، و والليل إذا يغشى [ الليل : 1 ] ، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ، وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل ، فوافق معاذا يصلي ، فترك ناضحيه ، وأقبل إلى معاذ ، فقرأ سورة البقرة والنساء; فانطلق الرجل . انظره في البخاري .

وكذلك حديث : إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث .

[ ص: 249 ] ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين ، فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل .

وأيضا; فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ، ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى .

وقيل لابن مسعود رضي الله عنه : وإنك لتقل الصوم . فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه .

[ ص: 250 ] ونحو هذا ما حكى عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا; لأنه كان في الموقف يوما صائما ، وكان شديد الحر فاشتد عليه . قال : فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار .

وكره مالك إحياء الليل كله وقال : لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله أسوة . ثم قال : " لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح ، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم; فلا ، وإن كان وهو به فتور أو كسل; فلا بأس به " .

فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل ، وأنه يسبب تعطيل وظائف ، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة ، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة ، نهي عن ذلك ، وإن لم يكن شيء من ذلك; فالإيغال فيه حسن ، وسبب القيام [ ص: 251 ] بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة .

فإن قيل : دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه ، وإن كان له وازع الخوف ، أو حادي الرجاء ، أو حامل المحبة ، لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ، ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل ، صائما النهار ، واطئا أهله ، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال ، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها ، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد ، وإغاثة اللهفان ، وقضاء حوائج الناس ، وغير ذلك من الأعمال ، بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها ، وقد لا تضادها ، ولكن تؤثر فيها نقصا ، وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول ، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ؟ ولهذا جاء : من يشاد هذا الدين يغلبه .

وأيضا; فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال ومسقطي الحظوظ; فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها ؟

فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان :

أحدهما : أرباب الحظوظ ، وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا ، لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ، ولا يضر بحظوظهم .

فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا ، وقطع العوائد المباحة قد يوقع في [ ص: 252 ] المحرمات ، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية; لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه ، وذلك فساد كبير ، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع ، كما أن ما في السماوات وما في الأرض مسخر للإنسان .

فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل ، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ، ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن ، فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه; كالنكاح مثلا ، وينهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلا; كالصلاة في الأوقات المكروهة ، وينظر في المندوب الذي لا حظ له فيه ، وفي المكروه الذي له فيه حظ - أعني : الحظ العاجل - ; فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي لما يكره شرعا ، أو لترك مندوب هو أعظم أجرا; كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى; كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات ، حسب ما نبه عليه حديث : إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته [ ص: 253 ] إلخ .

وكذلك ترك الصوم يوم عرفة ، أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن .

[ ص: 254 ] وفي الحديث : إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر أقوى لكم .

وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه; غلب الجانب الأخف; كما قال الغزالي : إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات ، على التورع عنها مع عدم طاعتهما; فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ ، فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله ، فإن كان في تناولها رضا الوالدين; رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية ، وهو مخالفة الوالدين ، ومثله ما روي عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس .

فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال; فيقع الترجيح بينها ، فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه ، وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه .

[ ص: 255 ] والثاني : أهل إسقاط الحظوظ ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال ، غير أن سقوط حظوظهم لعزوف أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال ، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق ، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم; فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة; فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات ، وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة; فمتعذر ، إلا في المنهيات; فإنه ترك بإطلاق ، ونفي أعمال لا إعمال ، والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ، ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر ; كقوله : إن لنفسك عليك حقا ، وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده ، أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه; فحظه إذا آخر الأشياء المستحقة ، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها; لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا ، فدخل فيه من الأعمال كثير ، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر; فهو عبادة كما سيأتي; فصار عبادة بعد ما كان عادة ، فهو ساقط من جهته ، ثابت من جهة الأمر; كسائر الطاعات ، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس ، بل يصير أكثر عمله في الواجبات ، وهنا مجال رحب له موضع غير هذا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-12-2021, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (71)
صـ344 إلى صـ 360

المسالة السادسة

العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة ; فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية ، أو لا .

فأما الأول ; فعمل بالامتثال بلا إشكال ، وإن كان سعيا في حظ النفس .

وأما الثاني ; فعمل بالحظ والهوى مجردا .

والمصاحبة إما بالفعل ، ومثاله أن يقول مثلا : هذا المأكول ، أو هذا الملبوس ، أو هذا الملموس ، أباح لي الشرع الاستمتاع به ; فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه ، وإما بالقوة ، ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه ، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله ، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني ، فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول ، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا ; إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ، ويجري غير المباح مجراه في الصورتين .

فإذا تقرر هذا ; فبيان كونه عاملا بالحظ والامتثال أمران :

[ ص: 345 ] أحدهما : أنه لو لم يكن كذلك ; لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر ، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك ، بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك ، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها ، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى ; فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال .

فإن قيل : كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها ؟

قيل : معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع ، لا يقصد بها عمل جاهلي ، ولا اختراع شيطاني ، ولا تشبه بغير أهل الملة ; كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر ، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم ، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية ، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك .

كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن [ ص: 346 ] إسماعيل المخزومي أجرى عينا ، فقال له المهندسون عند ظهور الماء : لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها ، فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم ، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام ، فأكل وأكلوا ، وقسم سائرها بين العمال فيها ، فقال ابن شهاب : بئس والله ما صنع ، ما حل له نحرها ولا الأكل منها ، أما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن ؟ ; لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح [ ص: 347 ] على النصب وسائر ما أهل لغير الله به .

وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب ، وهي أن يتبارى الرجلان [ ص: 348 ] فيعقر كل واحد منهما ، يجاود به صاحبه ; فأكثرهما عقرا أجودهما ، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به . قال الخطابي : وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان ، وأوان حوادث يتجدد لهم ، وفي نحو ذلك من الأمور .

وخرج أبو داود : " نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل " ، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه ; فهذا وما كان نحوه إنما [ ص: 349 ] شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل ، فإذا زيد فيه هذا القصد ; كان تشريكا في المشروع ، ولحظا لغير أمر الله تعالى ، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز ، وقوله فيها : إنها مما [ ص: 350 ] أهل لغير الله به وهو باب واسع .

والثاني : أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية ; لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق ، وذلك باطل قطعا ; فيبطل ما يلزم عنه .

أما بيان الملازمة ; فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ ; إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل ، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة فيه ، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا .

وأما بطلان التالي ; فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي ، واعملوا يدخلكم الجنة ، واتركوا تدخلوا الجنة ، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ، ومن يعمل كذا يجز بكذا ، وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس ، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل ، وذلك باطل باتفاق ، فكذلك ما يلزم عنه .

وأيضا ; فإن النبي كان يسأل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار ; فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك ، وقد أخبر الله تعالى عمن قال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ الإنسان : 9 ] .

[ ص: 351 ] بقولهم : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ الإنسان : 10 ] .

وفي الحديث : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث ، وهو نص في العمل على الحظ .

وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك واشترط لنفسك . فلما اشترط ; قالوا : فما لنا ؟ قال : الجنة الحديث .

[ ص: 352 ] وبالجملة ; فهذا أكثر من أن يحصى ، وجميعه تحريض على العمل بالحظ ، وإن لم يقل : اعمل لكذا ; فقد قال : اعمل يكن لك كذا ، فإذا لم [ ص: 353 ] يكن مثله قادحا في العبادات ; فأولى أن لا يكون قادحا في العادات .

فإن قيل : بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول .

أما المعقول ; فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة ، لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه ، وقد فرضناه أنه يعمله ليصل به إلى غيره ، وهو حظه ; فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة ، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها ، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل ، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها ، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار ، بل كانت تكون كالعبث ، وإذا ثبت هذا ، فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس ، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد ، فأشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك ، والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها ، فإذا أخذت من جهة [ ص: 354 ] الحظوظ سقط كونها متعبدا بها ; فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ، ينبغي أن يسقط التعبد بها ، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به ; فحظ النفس متعلق به ، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة ; فصار مهمل الاعتبار في العبادة ، فبطل التعبد فيه ، وذلك معنى كون العمل غير صحيح .

وأيضا ; فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه ، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ ؟ ! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا ؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه ; فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة ، وعلى هذا نبه القائل بقوله :


هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق
ثناء العباد على المنعم
ويعني بالوجوب بالشرع ، فإذا جعل وسيلة ; أخرج عن مقتضى المشروع ، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع ، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل ، والعمل المبني ، عليه مثله ; فالعمل المبني على الحظ كذلك .

وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ، ولا حجة له عليه ، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه ، بل لو عذب أهل السماوات والأرض لكان له ذلك بحق الملك ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] ; فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد ; فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه .

[ ص: 355 ] وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر ; فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله ، وعلى أن ما لم يخلص لله منها ; فلا يقبله الله ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .

وقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .

وفي الحديث : أنا أغنى الشركاء عن الشرك .

وفيه : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ; أي : ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء ، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ; ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله ; فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء ، وفي الآثار من ذلك أشياء ، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .

وأيضا ; فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال ; فقال الغزالي : كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ، ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل ، تكدر به صفوه ، وقل به [ ص: 356 ] إخلاصه .

قال : " والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة [ من هذه الأجناس ] ، ولذلك [ قيل ] : من سلم له في عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا ، وذلك لعز الإخلاص ، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب ، بل الخالص هو الذي لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى " .

ثم قال : " وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها ، حتى يتجرد فيه قصد التقرب ; فلا يكون فيه باعث سواه " .

قال : " وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر ، مستغرق الهم بالآخرة ، بحيث لم يبق ل [ حب ] الدنيا في قلبه قرار ، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا ، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة ; فلا يشتهي الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على العبادة ، ويتمنى [ أن ] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل ; فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية ; فلا يكون له هم إلا الله تعالى ، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته ; كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته ، فلو نام مثلا ليريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده ; كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ، ومن ليس كذلك ; فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور " . ثم تكلم على باقي المسألة ، وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله ، فإذا كان كذلك ; فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على [ ص: 357 ] خلاف ما وقع الكلام عليه .

فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين :

أحدهما : العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة ، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات .

والثاني : العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق ، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق ، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ، وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى ، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا ، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم .

فأما الأول ; فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا .

فإن كان أخرويا ; فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم ، وإذا ثبت شرعا ; فطلبه من حيث أثبته صحيح ، إذ لم يتعد ما حده الشارع ، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ، ولا قصد مخالفته ; إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال ; فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي ، وذلك غير قادح في [ ص: 358 ] إخلاصه ; لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره ; لأنه عز وجل يقول : إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم [ الصافات : 40 - 43 ] الآية .

فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص - ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره - ; فهذا قد عمل على وفق ذلك ، وطلب الحظ ليس بشرك ، إذ لا يعبد الحظ نفسه ، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب ، وهو الله تعالى ، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد ; فهذا هو الذي أشرك ، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل ، والله لا يقبل عملا فيه شرك ، ولا يرضى بالشرك ، وليست مسألتنا من هذا .

فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها ، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى ; فذلك باعث له على الإخلاص ، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك .

وأيضا ; فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة ، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله ; لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه ، والتلذذ بمناجاته ، وذلك حظ عظيم ، بل هو أعظم ما في الدارين ، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك ، فإن الله تعالى غني عن العالمين ، قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ العنكبوت : 6 ] .

[ ص: 359 ] وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد ، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص ، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص ، وذلك قليل ، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق ، وهذا شديد .

وعلى أن بعض الأئمة قال : " إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ، ومن ادعاه فهو كافر ، قال أبو حامد : وما قاله حق ، ولكن القوم إنما أرادوا به - يعني الصوفية - البراءة عما يسميه الناس حظوظا ، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط ، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة ، والنظر إلى وجه الله العظيم ; فهذا حظ هؤلاء ، وهذا لا يعده الناس حظا ، بل يتعجبون منه " .

قال : " وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة ، وملازمة الشهود للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة ، لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها ; فحركتهم لحظ ، وطاعتهم لحظ ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره " . هذا ما قال ، وهو إثبات لأعظم الحظوظ ، ولكن هؤلاء على ضربين :

[ ص: 360 ] أحدهما : من يسبق له امتثال أمر الله الحظ ، فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ ، وأصحاب هذا الضرب على درجات ، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء .

والثاني : من يسبق له الحظ الامتثال ، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء ، وسبق له الخوف أو الرجاء ، فلبى داعي الله ، فهو دون الأول ، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا ; إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه ، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه ، من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 08-01-2022, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (81)
صـ457 إلى صـ 471



المسألة الحادية عشرة

وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية ; فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام لا خاص ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة ; فهو فاسد باطل .

ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع .

[ ص: 458 ] وما روي " أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل .

وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه .

وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 459 ] ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث ; فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه .

وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ; وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ; لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه ; فذلك بالنسبة إلى العلم [ ص: 460 ] المستفاد من العادات ، لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، قال : " ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه " ، هذا ما قال ، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها .

فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :

أحدهما : أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها ، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين ; فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة : أن لا تأكل مني فإني ليهودي .

وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة ، فليلة الدخول وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ; فامتنع وخرج ، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج .

[ ص: 461 ] وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ; هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ; فيمتنع منه .

وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه : فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم ; فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث ; فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك القول ، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار .

وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها ; فأحياه الله وأخبر بقاتله ; فرتب عليه الحكم بالقصاص ، وفي قصة الخضر في خرق [ ص: 462 ] السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى ، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .

والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب ; فكذلك هاهنا ; إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي ; فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك ، [ ص: 463 ] ومن فرق بينهما ; فقد أبعد .

فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا ، وعملا بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :

أحدهما : الاعتبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيلحق به في القياس ما كان في معناه ، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به من حيث كان معجزا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا ، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء ، بناء على ما ثبت عنده من العادات ، أما قتل [ ص: 464 ] [ ص: 465 ] [ ص: 466 ] الغلام ; فلا يمكن القول به ، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند فلان .

والثاني : على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس ، ولكن إن قدرنا عدمه ; فنقول : إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ، فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند [ ص: 467 ] من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ; فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .

ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال : " خوفا أن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه " ; فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ; فلا حرج .

[ ص: 468 ] لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر ، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ; فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ; فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة [ ص: 469 ] في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه ; فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت ; فجعلها الله شهادتين ; فما ظنك بآحاد الأمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك ، والنمط واحد ; فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من الشيطان ، وإذا ثبت هذا ; فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة .

وما ذكر من تكليم الشجرة ; فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم ، كما لو وجد في الفلاة صيدا ; فقال له : إني مملوك ، وما أشبه ذلك ، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله ، أو ظن طعام بموضع آخر ، أو غير ذلك ، وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير [ ص: 470 ] ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى ; فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله ; فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به ، فلا حرج عليه ، ولا لوم ; إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض ، كيف وهي نتائج عن اتباعه ; فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع ، أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة .

وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين ; إذ قال عليه الصلاة والسلام : إن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ، وإن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ; فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه ، ومع ذلك ; فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها . والجواب على السؤال الثاني أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها ; [ ص: 471 ] فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ، إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به .

وأيضا ; فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة ، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة ، كمن يقال له : " لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله ، أو " افعل كذا " ، وهو منهي عنه ، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة ، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .

فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها .

قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها مع الموافقة ; فليس بمنفي .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-10-2021, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (52)
صـ151 إلى صـ 162

المسألة الخامسة

إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟

أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول .

وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر .

فللمصحح أن يستدل بأوجه :

أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب .

والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين .

والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها .

واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره .

وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر .

وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب .

واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] .

وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد .

واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص .

واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع .

وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر .

إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به .

وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه :

أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] .

وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .

فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال .

والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن .

[ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى .

لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب .

وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره .

والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك .

فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام .

ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب .

فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-10-2021, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (53)
صـ163 إلى صـ 169

فصل

قد تبين تعارض الأدلة في المسألة ، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين ، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية ، وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة .

لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي ، هي آداب شرعية ، وتخلقات حسنة ، يقر بها كل ذي عقل سليم ، فيكون لها اعتبار في الشريعة ، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة ، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا .

وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة :

أحدها : أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ، ومن العباد لله سبحانه ، إما حكاية ، وإما تعليما ، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد ثابتا غير محذوف ، كقوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة [ العنكبوت : 56 ] .

قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] .

قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .

يا أيها الناس [ الأعراف : 158 ] .

يا أيها الذين آمنوا [ البقرة : 104 ] .

فإذا أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى; جاء من غير حرف فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل ، والله منزه عن التنبيه .

[ ص: 164 ] وأيضا; فإن أكثر حروف النداء للبعيد ، ومنها " يا " التي هي أم الباب ، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا ، لقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [ البقرة : 186 ] الآية .

ومن الخلق عموما ، لقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [ المجادلة : 7 ] .

وقو‌‌‌‌له : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] .

فحصل من هذا التنبيه على أدبين :

أحدهما : ترك حرف النداء .

والآخر : استشعار القرب .

كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة ، وهو العبد ، والدلالة على ارتفاع شأن المنادى ، وأنه منزه عن مداناة العباد; إذ هو في دنوه عال ، وفي علوه دان ، سبحانه !

والثاني : أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه ، فأتى في النداء القرآني بلفظ : الرب ‌‌‌‌في عامة الأمر; تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعو بها ، وذلك أن الرب في اللغة : هو القائم بما يصلح المربوب; فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] إلى آخرها ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] ، [ ص: 165 ] وإنما أتى قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ الأنفال : 32 ] من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به ، بل هو مما ينافيه ، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [ المائدة : 114 ] الآية; فإن لفظ الرب فيها مناسب ‌‌‌‌جدا .

والثالث : أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها; كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة ، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط ، وكما قال في نحوه : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع ، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل .

والرابع : أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه; كقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ الفاتحة : 2 - 4 ] .

ثم قال : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] .

وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا; كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] .

[ ص: 166 ] وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 - 2 ] حيث عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقدار من هذا العتاب ، لكن على حال تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ، ثم رجع الكلام إلى الخطاب ، إلا أنه بعتاب أخف من الأول ، ولذلك ختمت الآية بقوله : كلا إنها تذكرة [ عبس : 11 ] .

والخامس : الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى ، وإن كان هو الخالق لكل شيء ، كما قال بعد قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [ آل عمران : 26 ] إلى قوله بيدك الخير [ آل عمران : 26 ] ولم يقل : " بيدك الخير والشر " ، وإن كان قد ذكر القسمين معا; لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر ، نعم ، قال في أثره : إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه; حتى جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : والخير في يديك ، والشر ليس إليك [ ص: 167 ] وقال إبراهيم عليه السلام : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين [ الشعراء : 78 ] إلخ ، فنسب إلى رب العالمين الخلق ، والهداية ، والإطعام ، والسقي ، والشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض ، فإنه سكت عن نسبته إليه .

والسادس : الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة; كما في قوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] .

وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ الزخرف : 81 ] .

قل إن افتريته فعلي إجرامي [ هود : 35 ] .

وقوله : قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون [ الزمر : 43 ] .

أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ المائدة : 104 ] .

لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية .

والسابع : الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها ، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية; كقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده [ المائدة : 52 ] .

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] .

[ ص: 168 ] ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى : لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .

لعلكم تذكرون [ الأنعام : 152 ] .

وما أشبه ذلك ، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا; فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر ، بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور - أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم ، دخولا في غمار العامة ، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها ، وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات ، وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ، ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون; لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر; فما نحن فيه نوع من هذا الجنس ، والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك; ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى ، وهو توهين لما تقدم اختياره .

[ ص: 169 ] والجواب : أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني ، وإنما استفيد من جهة أخرى ، وهي جهة الاقتداء بالأفعال ، والله أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14-10-2021, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (54)
صـ170 إلى صـ 179

النوع ‌‌‌الثالث

في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

ويحتوي على مسائل

المسألة الأولى

ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا; فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ، ولكن نبني عليها ونقول : إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه; [ ص: 172 ] فقول الله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وقوله في الحديث : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، وقوله : " لا تمت [ ص: 173 ] وأنت ظالم " ، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة ، وهو الإسلام ، وترك الظلم ، والكف عن القتل ، والتسليم لأمر الله ، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل .

ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا [ ص: 174 ] تشرف يا رسول الله ، لا يصيبوك الحديث; فقوله : " لا يصيبوك " من هذا القبيل .
[ ص: 175 ] المسألة الثانية

إذا ثبت هذا; فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها ، فإنه من تكليف ما لا يطاق ، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ، ولا تكميل ما نقص منها; فإن ذلك غير مقدور للإنسان ، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل ، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل ، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب .
[ ص: 176 ] المسألة الثالثة

إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان ; فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان :

منها : ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم .

ومنها : ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ، ومثاله العجلة ، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه; لقوله تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .

وفي الصحيح : إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك .

وقد جاء أن : " الشجاعة والجبن غرائز " .

و " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها " .

[ ص: 177 ] إلى أشياء من هذا القبيل ، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات .

وجاء : " يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " .

[ ص: 178 ] وإذا ثبت هذا; فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا ، وهذا قليل; كقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به .

والثاني : ما كان داخلا تحت كسبه قطعا ، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه ، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها .

والثالث : ما قد يشتبه أمره; كالحب والبغض وما في معناهما; فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها ، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه ، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا; إما لأنها من أصل الخلقة ، فلا يطلب إلا بتوابعها; فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية ، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه ، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب ، وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر ، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه; فالطلب يرد عليه كقوله : " تهادوا تحابوا " فيكون كقوله : " أحبوا [ ص: 179 ] الله لما أسدى إليكم من نعمه " مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى [ ص: 180 ] على العبد وكثرة إحسانه إليه ، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل ، وعين الشهوة لم ينه عنه ، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه; [ ص: 181 ] فالطلب يرد على اللواحق; كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 14-10-2021, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (55)
صـ180 إلى صـ 190

فصل

ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ، وما ينشأ عنها من آفات اللسان ، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره .

وعليه يدل كثير من الأحاديث ، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة; كالعلم ، والتفكر ، والاعتبار ، واليقين ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وأشباهها مما هو نتيجة عمل ، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها ، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا ، فليس تحصيله بمقدور أصلا ، فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات ، فهو حاصل ولا يمكنه الانصراف عنه ، وإن كان غير ضروري لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر ، وهو المكتسب دون نفس العلم; لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة ، لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هو المكتسب ، فيكون المطلوب وحده ، وأما العلم على أثر النظر ، فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها ، كما هو رأي المحققين ، أم لم نقل ذلك ، فالجميع متفقون على [ ص: 183 ] أنه غير داخل تحت الكسب نفسه ، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال .

وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا ، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل ، وإذا كانت على هذا الترتيب; لم يصح التكليف بها أنفسها ، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك; فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها ، أو يتأخر عنها ، أو يقارنها ، والله أعلم .
المسألة الرابعة

الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين :

أحدهما : ما كان نتيجة عمل ، كالعلم والحب في نحو قوله : " أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه " .

والثاني : ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل ، كالشجاعة ، والجبن ، والحلم ، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس ، وما كان نحوها .

فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة ، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة ، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها ، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض ، على ذلك الترتيب .

والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين :

إحداهما : من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له .

والثانية : من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع ؟

فأما النظر الأول; فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما [ ص: 185 ] الله : الحلم ، والأناة .

وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما ، وفي بعض الحديث : " الشجاعة والجبن غرائز " .

[ ص: 186 ] وجاء : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية [ ص: 187 ] وفي الحديث : الأرواح جنود مجندة; فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وهذا معنى التحاب والتباغض ، وهو غير مكتسب .

وجاء في الحديث : وجبت محبتي للمتحابين في .

وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [ ص: 188 ] من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر ، والضعف خلاف ذلك .

وجاء : إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها .

[ ص: 189 ] وجاء : يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب .

وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .

وجاء في معرض الذم والكراهية ، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة .

ولا يقال : إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال; لأن ذلك : أولا : خروج عن الظاهر بغير دليل .

وثانيا : أنهما يصح تعلقهما بالذوات ، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات; كقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية .

أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه .

و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله .

[ ص: 190 ] ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال : إن المراد حب الأفعال فقط; فكذلك لا يقال في الصفات - إذا توجه الحب إليها في الظاهر - إن المراد الأفعال .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 14-10-2021, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (56)
صـ191 إلى صـ 203

فصل

وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال; كقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] .

ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] .

أبغض الحلال إلى الله الطلاق .

ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه .

[ ص: 191 ] وهذا كثير .

وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .

والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] .

إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .

وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] .

والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] .

وفي الحديث : إن الله يبغض الحبر السمين .

[ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل .

وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟

هذا يتصور في ثلاثة أوجه :

أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب .

والثاني : أن يتعلقا معا بها .

والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر .

أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما .

فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين :

أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب .

والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب .

وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين :

أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب .

والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك .

[ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك .

وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا .

[ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل .

أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، ومن أتى عرافا; فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل .

وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه .

ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته :

أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها .

وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات .

وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب .

فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 14-10-2021, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,434
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (57)
صـ204 إلى صـ 213

المسألة الخامسة

تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق .

وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم .

[ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة .

ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] .

والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية :

أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة .

والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة .

إلا أن هذا الوجه على ضربين :

أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك .

والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

وقوله : القصد ، القصد تبلغوا .

والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي .

[ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا .

والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق .

فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة :

فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به .

وأما الثاني : وهي :
[ ص: 210 ] المسألة السادسة

فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : النصوص الدالة على ذلك; كقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .

وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] الآية .

وفي الحديث : " قال الله تعالى : قد فعلت " .

وجاء : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

[ ص: 211 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .

ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .

وفي الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة .

وما خير بين شيئين; إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

[ ص: 212 ] وإنما قال : " ما لم يكن إثما " ; لأن ترك الإثم لا مشقة فيه ، من حيث كان مجرد ترك ، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ، ولكان مريدا للحرج والعسر ، وذلك باطل .

والثاني : ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص ، وهو أمر مقطوع به ، ومما علم من دين الأمة ضرورة; كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة ، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف ، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف .

والثالث : الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف ، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه ، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض [ ص: 213 ] والاختلاف ، وذلك منفي عنها; فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة ، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير; كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا ، وهي منزهة عن ذلك .

وأما الثالث : وهي :


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 231.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 225.38 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.54%)]