تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 54 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13219 - عددالزوار : 350733 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 257 - عددالزوار : 47586 )           »          قيمة إسلامية حثَّ عليها القرآن الكريم والسُنَّة النبوية – الجودة الشاملة في مؤسساتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 150 )           »          التداوي من السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 169 )           »          حكم المرابحة للآمر بالشراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 158 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 400 )           »          حكم الغرر في عقود التبرعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 166 )           »          الفرق بين الرجل والمرأة في التلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 122 )           »          أخطاء في التحليل والتحريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 186 )           »          حكم الصلح على الدين ببعضه حالا (ضع وتعجل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 205 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #531  
قديم 24-08-2024, 04:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الدَّهْرِ
الحلقة (531)
صــ 430 إلى صــ 444






قوله تعالى: ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا ) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، "سلاسل" بغير تنوين، ووقفوا بألف . ووقف أبو عمرو بألف . قال مكي بن أبي طالب النحوي: "سلاسل" و"قوارير" أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب . وقيل: إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف . قال مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم . وقد شرحنا معنى "السعير" في [النساء: 10] .

قوله تعالى إن الأبرار واحدهم بر، وبار، وهم الصادقون . وقيل: المطيعون . وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر "يشربون من كأس" أي: من إناء فيه شراب "كان مزاجها" يعني: مزاج الكأس "كافورا" وفيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد "بالكافور" ثلاثة أقوال . أحدها: برده، قاله الحسن . والثاني: ريحه، قاله قتادة . والثالث: طعمه، قاله السدي .

والثاني أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب .

والثالث أن المعنى: مزاجها كالكافور لطيب ريحه، أجازه الفراء، والزجاج .

قوله تعالى: عينا قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عينا . وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من عين، "يشرب بها" فيه ثلاثة أقوال .

[ ص: 431 ] أحدها: يشرب منها . والثاني: يشربها، والباء صلة . والثالث: يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها . وفي هذه العين قولان .

أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره .

والثاني: التسنيم، "وعباد الله" ها هنا: أولياؤه "يفجرونها تفجيرا" قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة . قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرها لنفسه .

قوله تعالى: يوفون بالنذر قال الفراء: فيه إضمار "كانوا" يوفون بالنذر . وفيه قولان .

أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة .

والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة . ومعنى "النذر" في اللغة: الإيجاب . فالمعنى: يوفون بالواجب عليهم "ويخافون يوما كان شره مستطيرا" قال ابن عباس: فاشيا . وقال ابن قتيبة: فاشيا منتشرا . يقال: استطار الحريق: إذا انتشر، واستطار الفجر إذا انتشر الضوء . وانشدوا للأعشى:


فبانت وقد أسأرت في الفؤا د صدعا على نأيها مستطيرا


[ ص: 432 ] وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات، فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس والقمر في الأرض، ونسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل، وبناء، وفشا شر يوم القيامة فيها .

قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب . آجر نفسه ليسقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح . فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلما استوى جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطووا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوما، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل .

[ ص: 433 ] وفي هاء الكناية في قوله تعالى: على حبه قولان .

أحدهما: ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يؤثرون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور .

والثاني: ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني . وقد سبق معنى "المسكين واليتيم" [البقرة: 83] . وفي الأسير أربعة أقوال .

أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة، قاله عطاء، ومجاهد، وابن جبير . والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة . والثالث: المرأة، قاله [ ص: 434 ] أبو حمزة الثمالي . والرابع: العبد، ذكره الماوردي .

فصل

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك . قال: وهذا منسوخ بآية السيف . وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثوابا، وهذا محمول على صدقة التطوع . فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفار، ذكره القاضي أبو يعلى .

قوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله أي: لطلب ثواب الله . قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب .

قوله تعالى: لا نريد منكم جزاء أي: بالفعل "ولا شكورا" بالقول "إنا نخاف من ربنا يوما" أي: ما في يوم "عبوسا" قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله تعالى: "في يوم عاصف" [إبراهيم: 18]، أراد عاصف الريح . فأما "القمطرير" فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه الطويل . وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبض فيه الرجل ما بين عينيه . فعلى هذا يكون اليوم موصوفا بما يجري فيه، كما قلنا في "العبوس" لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين . وقال مجاهد، وقتادة: [ ص: 435 ] "القمطرير" الذي يقلص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته . وقال الفراء: هو الشديد . يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر . وأنشدني بعضهم:


بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر


وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعصيب، والعصبصب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء .

قوله تعالى: فوقاهم الله شر ذلك اليوم بطاعتهم في الدنيا "ولقاهم نضرة" أي: حسنا وبياضا في الوجوه "وسرورا" لا انقطاع له . وقال الحسن: النضرة في الوجوه، والسرور في القلوب "وجزاهم بما صبروا" على طاعته، وعن معصيته "جنة وحريرا" وهو لباس أهل الجنة "متكئين فيها" قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها .

وقد شرحنا هذا في [الكهف: 31] .

قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا فيؤذيهم حرها ولا "زمهريرا" وهو البرد الشديد . والمعنى: لا يجدون فيها الحر والبرد . وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر، وأنشد:


وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر


أي: لم يطلع القمر .

[ ص: 436 ] قوله تعالى: ودانية قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة، ودانية عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها "وذللت قطوفها تذليلا" قال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول ما يريد . وقال غيره: قربت إليهم مذللة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياما، وقعودا، ومضطجعين، فهو كقوله تعالى:قطوفها دانية [الحاقة: 23] . فأما "الأكواب" فقد شرحناها في [الزخرف: 71] "كانت قواريرا" أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة . قال ابن عباس: لو ضربت فضة الدنيا حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة . وقال الفراء: وابن قتيبة: هذا على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير . وكان نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم يقرؤون "قواريرا قواريرا" فيصلونهما جميعا بالتنوين . ويقفون عليهما بالألف . وكان ابن عامر وحمزة يصلانهما جميعا بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف . وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين، ويقف عليه بالألف، ويصل الثاني بغير تنوين، ويقف بغير ألف . وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ "سلاسل" و"قوارير قوارير" يصل الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف . وكان أبو عمرو يقرأ الأول "قواريرا" فيقف عليه بالألف، ويصل بغير تنوين . وقال الزجاج: الاختيار عند النحويين أن لا يصرف "قوارير" لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف . ومن قرأ "قواريرا" يصرف الأول علامة رأس آية، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية . ومن صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب [ ص: 437 ] الشيء لتتبع اللفظ اللفظ، كما قالوا: جحر ضب خرب . وإنما الخرب من نعت الجحر .

قوله تعالى قدروها تقديرا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر "قدروها" برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها . وقرأ حميد، وعمرو بن دينار "قدروها" بفتح القاف، والدال، وتخفيفها .

ثم في معنى الآية قولان .

أحدهما: قدروها في أنفسهم، فجاءت على ما قدروا، قاله الحسن . وقال الزجاج: جعل الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم .

والثاني: قدروها على مقدار لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد . وقال غيره: قدر الكأس على قدر ريهم، لا يزيد عن ريهم فيثقل الكف، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذ الشراب . فعلى هذا القول يكون الضمير في "قدروا" للسقاة والخدم . وعلى الأول للشاربين .

قوله تعالى: ويسقون فيها يعني في الجنة "كأسا كان مزاجها زنجبيلا" والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين . قال المسيب بن علس يصف فم امرأة:


فكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر


[ ص: 438 ] وقال آخر:


كأن القرنفل والزنجبي لـ باتا بفيها وأريا مشارا


الأري: العسل . والمشار: المستخرج من بيوت النحل . قال مجاهد: والزنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرب . وقال الدينوري: ينبت في أرياف عمان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رطبا، وأجود ما يحمل من بلاد الصين . قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور . وقيل: شراب الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك .

قوله تعالى: عينا فيها قال الزجاج: يسقون عينا . وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية . وهو في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة . فكأن العين وصفت وسميت بصفتها . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله تعالى: تسمى سلسبيلا قيل: هو اسم أعجمي نكرة، فلذلك انصرف . وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أجري، لأنه رأس آية . وعن مجاهد قال: حديدة الجرية . وقيل: سلسبيل: سلس ماؤها، مستقيد لهم . وقال ابن الأنباري: السلسبيل صفة للماء، لسلسه وسهولة مدخله في الحلق . يقال: شراب سلسل، وسلسال، وسلسبيل . وحكى الماوردي: أن عليا قال: المعنى: سل سبيلا إليها، ولا يصح .

[ ص: 439 ] قوله تعالى: ويطوف عليهم ولدان مخلدون قد سبق بيانه [الواقعة: 17] "إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا" أي: في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظرا . وإنما شبهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة . ولو كانوا صفا لشبهوه بالمنظوم . "وإذا رأيت ثم" يعني: الجنة "رأيت نعيما" لا يوصف "وملكا كبيرا" أي: عظيما واسعا لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه، ولا يدخل عليهم ملك إلا باستئذان .

قوله تعالى: عاليهم قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء . وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي عن أبي بكر قرأ "عاليتهم" بزيادة تاء مضمومة . وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد، وقتادة "عليهم" بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاء، ولا ألف .

قال الزجاج: فأما تفسير إعراب "عاليهم" بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون الخبر"ثياب سندس" وأما "عاليهم" بفتح الياء، فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما: من الهاء والميم، والمعنى: يطوف على الأبرار ولدان مخلدون عاليا للأبرار ثياب سندس، لأنه وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء . ويجوز أن يكون حالا من الولدان . المعنى: إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب . وأما "عاليتهم" فقد قرئت بالرفع وبالنصب، وهما وجهان جيدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف، فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير "عاليهم" .

قوله تعالى: ثياب سندس خضر قرأ ابن عامر، وأبو عمرو "خضر" رفعا "وإستبرق" خفضا . وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم "خضر" [ ص: 440 ] خفضا "وإستبرق" رفعا . وقرأ نافع، وحفص عن عاصم "خضر وإستبرق" كلاهما بالرفع . وقرأ حمزة، والكسائي "خضر وإستبرق" كلاهما بالخفض . قال الزجاج: من قرأ "خضر" بالرفع، فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع، ومن قرأ "خضر" فهو من نعت السندس، والسندس في المعنى راجع إلى الثياب . ومن قرأ "وإستبرق" فهو نسق على "ثياب" المعنى: وعليهم إستبرق . ومن خفض، عطفه على السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين . وقد بينا في [الكهف 31] معنى السندس، والإستبرق، والأساور .

قوله تعالى: وسقاهم ربهم شرابا طهورا فيه قولان .

أحدهما: لا يحدثون ولا يبولون عن شرب خمر الجنة، قاله عطية .

والثاني: لأن خمر الجنة طاهرة، وليست بنجسة كخمر الدنيا، قاله الفراء . وقال أبو قلابة: يؤتون بعد الطعام بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بذلك بطونهم، ويفيض من جلودهم عرق مثل ريح المسك .

قوله تعالى: إن هذا يعني: ما وصف من نعيم الجنة "كان لكم جزاء" بأعمالكم "وكان سعيكم" أي: عملكم في الدنيا بطاعته "مشكورا" قال عطاء: يريد: شكرتكم عليه، وأثيبكم أفضل الثواب "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا" أي: فصلناه في الإنزال، فلم ننزله جملة واحدة "فاصبر لحكم ربك" وقد سبق بيانه في مواضع [الطور: 48،والقلم: 48] . والمفسرون يقولون: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، "ولا تطع منهم" أي: من مشركي أهل مكة "آثما أو كفورا" "أو" بمعنى الواو، كقوله تعالى: أو الحوايا [الأنعام: 146] . وقد سبق هذا . وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال .

[ ص: 441 ] أحدها: أنهما صفتان لأبي جهل . والثاني: أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور: الوليد بن المغيرة . والثالث: الآثم: الوليد . والكفور: عتبة، وذلك أنهما قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج .

"واذكر اسم ربك" أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة "بكرة" يعني: الفجر "وأصيلا" يعني: العصر . وبعضهم يقول: صلاة الظهر والعصر "ومن الليل فاسجد له" يعني: المغرب والعشاء . "وسبحه ليلا طويلا" وهي: صلاة الليل، كانت فريضة عليه، وهي لأمته تطوع "إن هؤلاء" يعني: كفار مكة "يحبون العاجلة" أي: الدار العاجلة، وهي الدنيا "ويذرون وراءهم" أي: أمامهم "يوما ثقيلا" أي: عسيرا شديدا . والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له . ثم ذكر قدرته، فقال تعالى: "نحن خلقناهم وشددنا أسرهم" أي: خلقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج . قال ابن قتيبة: يقال: امرأة حسنة الأسر، أي: حسنة الخلق، كأنها أسرت، أي: شدت . وأصل هذا من الإسار، وهو: القد . [الذي تشد به الأقتاب] يقال: ما أحسن ما أسر قتبه، أي: ما أحسن ما شده [بالقد] . وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم . وعن الحسن قال: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب "وإذا شئنا بدلنا أمثالهم" أي: إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلا منهم "إن هذه تذكرة" قد شرحنا الآية في [المزمل: 19] .

قوله تعالى: وما تشاءون إيجاد السبيل "إلا أن يشاء الله" ذلك لكم . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، "وما يشاؤون" بالياء .

[ ص: 442 ] قوله تعالى: يدخل من يشاء في رحمته قال المفسرون: الرحمة ها هنا: الجنة "والظالمين" المشركون . قال أبو عبيدة: نصب "الظالمين" بالجوار . المعنى: ولا يدخل الظالمين في رحمته . وقال الزجاج: إنما نصب "الظالمين" لأن قبله منصوبا . المعنى: يدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين، ويكون قوله تعالى: أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة "والظالمون" رفعا .

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ

مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ

وحكي عن ابن عباس، وقتادة، ومقاتل أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [المرسلات: 48] .

بسم الله الرحمن الرحيم

والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن [ ص: 444 ] لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون

قوله تعالى: والمرسلات عرفا فيه أربعة أقوال .

أحدها: أنها الرياح يتبع بعضها بعضا، رواه أبو العبيدين عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة .

والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال أبو هريرة، ومقاتل . وقال الفراء: هي الملائكة .

فأما قوله تعالى: عرفا فيقال: أرسلت بالمعروف، ويقال: تتابعت كعرف الفرس . والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عرفا واحدا: إذا توجهوا إليه فأكثروا . قال ابن قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسل به . وأصله من عرف الفرس، لأنه سطر مستو بعضه في إثر بعض، فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #532  
قديم 24-08-2024, 04:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ النَّبَإِ
الحلقة (532)
صــ 3 إلى صــ 10




والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، وهذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج .

والرابع: الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة . قال: ومعنى "عرفا": يتبع بعضها بعضا . يقال: جاؤوني عرفا . وفي "العاصفات" قولان .

أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور .

والثاني: الملائكة، قاله مسلم بن صبيح . قال الزجاج: تعصف بروح الكافر . وفي "الناشرات" خمسة أقوال .

أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور .

والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح .

والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك .

والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع .

والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي .

وفي "الفارقات" أربعة أقوال .

أحدها: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون .

والثاني: آي القرآن فرقت بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان .

والثالث: الريح تفرق بين السحاب فتبدده، قاله مجاهد .

والرابع: الرسل، حكاه الزجاج .

"فالملقيات ذكرا" قولان .

أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور .

والثاني: الرسل يلقون ما أنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب .

قوله تعالى: عذرا أو نذرا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم "عذرا" خفيفا "أو نذرا" مثقلا . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف "عذرا أو نذرا" خفيفتان . قال الفراء: وهو مصدر، مثقلا كان أو مخففا . ونصبه على معنى: أرسلت بما أرسلت به إعذارا من الله وإنذارا . وقال الزجاج: المعنى: فالملقيات عذرا أو نذرا . ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكرا للإعذار والإنذار . وهذه المذكورات مجرورات بالقسم . وجواب القسم "إنما توعدون لواقع" قال المفسرون:إن ما توعدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لواقع، أي: لكائن . ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: فإذا النجوم طمست أي: محي نورها "وإذا السماء فرجت" أي: شقت "وإذا الجبال نسفت" قال الزجاج: أي: ذهب بها كلها بسرعة . يقال: انتسفت الشيء: إذا أخذته بسرعة .

قوله تعالى: وإذا الرسل أقتت قرأ أبو عمرو "وقتت" بواو مع تشديد القاف . ووافقه أبو جعفر ، إلا أنه خفف القاف . وقرأ الباقون: "أقتت" بألف مكان الواو مع تشديد القاف . قال الزجاج: وقتت وأقتت بمعنى واحد . فمن قرأ "أقتت" بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو . وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة . وقال الفراء: الواو إذا كانت أول حرف، وضمت، همزت تقول: صلى القوم أحدانا . وهذه أجوه حسان . ومعنى "أقتت": جمعت لوقتها يوم القيامة . وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة . وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة .

قوله تعالى: لأي يوم أجلت أي: أخرت . وضرب الأجل لجمعهم، يعجب العباد من هول ذلك اليوم . ثم بينه فقال تعالى: ليوم الفصل وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق . ثم عظم ذلك اليوم بقوله: "وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين" بالبعث . ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذبة، فقال: "ألم نهلك الأولين" يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم "ثم نتبعهم الآخرين" والقراء على رفع العين في "نتبعهم"، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين . قال الفراء: "نتبعهم" مرفوعة . ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود "وسنتبعهم الآخرين: . ولو جزمت [ ص: 448 ] على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجها جيدا . وقال الزجاج: الجزم عطف على "نهلك"، ويكون المعنى: لمن أهلك أولا وآخرا . والرفع على معنى: ثم نتبع الأول الآخر من كل مجرم . وقال مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني"كفار مكة حين كذبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جرير: الأولون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومدين .

قوله تعالى: كذلك أي: مثل ذلك "نفعل بالمجرمين" يعني: المكذبين .

فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله تعالى: " ويل يومئذ للمكذبين " ؟

فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئا قال: "ويل يومئذ للمكذبين" بهذا .

قوله تعالى: ألم نخلقكم قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف . وقرأ الباقون بإدغامها .

قوله تعالى: من ماء مهين أي: ضعيف "فجعلناه في قرار مكين" يعني: الرحم "إلى قدر معلوم" وهو مدة الحمل "فقدرنا" قرأ أهل المدينة، والكسائي "فقدرنا" بالتشديد . وقرأ الباقون: بالتخفيف . وهل بينهما فرق؟ .

فيه قولان .

أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد . قال الفراء: تقول العرب: قدر عليه، وقدر عليه . وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشددة لقال: فنعم المقدرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع العرب بين اللغتين،كقوله تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [الطارق: 17] . قال الشاعر:


وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا


يقول: ما أنكرت إلا ما يكون في الناس .

والثاني: أن المخففة من القدرة والملك، والمشددة من التقدير والقضاء . ثم بين لهم صنعه ليعتبروا فيوحدوه . فقال تعالى: ألم نجعل الأرض كفاتا قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم . والمعنى: أنها تضم أهلها أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها . قال ابن قتيبة: يقال: اكفت هذا إليك، أي: ضمه . وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضم الموتى .

وفي قوله تعالى: أحياء وأمواتا قولان .

أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياء وأمواتا، قاله الجمهور . قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نونت نصبت كما يقرأ "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما" [البلد: 14] . وقال الأخفش: انتصب على الحال .

والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات والعمارة، وأمواتا بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة .

قوله تعالى: وجعلنا فيها رواسي قد سبق بيان "شامخات" أي: عاليات "وأسقيناكم" قد سبق معنى "أسقينا"، [الحجر: 22: والجن: 16] ومعنى "الفرات" [الفرقان: 53، وفاطر: 12] والمعنى: إن هذه الأشياء أعجب من البعث . ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: "انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون" في الدنيا، وهو النار "انطلقوا إلى ظل" قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر . وقرأ أبي بن كعب وأبي عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي . قال ابن قتيبة: "والظل" هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار "لا ظليل" أي: يظلكم من حر هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس . قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به . وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضريع، والزقوم، والغسلين . فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار .

قوله تعالى: ولا يغني من اللهب أي: لا يدفع عنكم لهب جهنم . ثم وصف النار فقال تعالى: إنها ترمي بشرر ، وهو جمع شررة ، وهو ما يتطاير من النار متفرقا "كالقصر" قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنية . وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول الجمهور . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء "كالقصر" بفتح الصاد . وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب [بقصر] ثلاثة أذرع أو أقل [فنرفعه] للشتاء، فنسميه: القصر . قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أصول النخل المقطوعة . المقلوعة قال الزجاج: أراد أعناق الإبل . وقرأ سعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل ، وابن يعمر "كالقصر" بفتح القاف، وكسر الصاد . وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي "كالقصر" برفع القاف والصاد جميعا . وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير "كالقصر" بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ "كالقصر" بضم القاف وإسكان الصاد .

قوله تعالى: كأنه جمالت قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم "جمالات" بألف، وكسر الجيم . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم "جمالة" على التوحيد . وقرأ رويس عن يعقوب "جمالات" بضم الجيم . وقرأ أبو رزين ، وحميد، وأبو حيوة "جمالة" برفع الجيم على التوحيد . قال الزجاج: من قرأ "جمالات" بالكسر، فهو جمع جمال، كما تقول: بيوت، وبيوتات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات . ومن قرأ "جمالات" بالضم، فهو جمع "جمالة" ومن قرأ جمالة" فهو جمع جمل وجمالة، كما قيل: حجر، وحجارة . وذكر، وذكارة . وقرئت "جمالة" على ما فسرناه في جمالات بالضم . و"الصفر" هاهنا: السود . يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إبل صفر . وقال الفراء: الصفر: سود الإبل لا يرى الأسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، فلذلك سمت العرب سود الإبل: صفرا، كما سموا الظباء: أدما لما يعلوها من الظلمة في بياضها .

قوله تعالى: هذا يوم لا ينطقون قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة . قال عكرمة: تكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون بحجة تنفعهم . وقرأ أبو رجاء، والقاسم ابن محمد، والأعمش، وابن أبي عبلة "هذا يوم لا ينطقون" بنصب الميم .

قوله تعالى: هذا يوم الفصل أي: بين أهل الجنة وأهل النار "جمعناكم" يعني مكذبي هذه الأمة "والأولين" من المكذبين الذين كذبوا أنبياءهم [ ص: 452 ] "فإن كان لكم كيد فكيدون" أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب أي: إن قدرتم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم . ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال تعالى: "إن المتقين في ظلال" يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور "وعيون" الماء، وهذا قد تقدم بيانه، إلى قوله تعالى كلوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله . ثم قال لكفار مكة: "كلوا وتمتعوا قليلا" في الدنيا إلى منتهى آجالكم "إنكم مجرمون" أي: مشركون بالله .

قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا فيه قولان .

أحدهما: أنه حين يدعون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي: صلوا "لا يركعون" أي: لا يصلون . وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح . وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مسبة علينا، فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع .

قوله تعالى: فبأي حديث بعده يؤمنون أي: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب بعده يصدقون، ولا كتاب بعده: !

تم - بعون الله تعالى وتوفيقه - الجزء الثامن من كتاب "زاد المسير في علم التفسير للإمام ابن الجوزي، ويليه الجزء التاسع ، وأوله تفسير سورة

سُورَةُ النَّبَإِ

ويقال لها: سورة التساؤل

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون [ ص: 4 ] منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا .

قوله تعالى: عم يتساءلون أصله " عن ما " فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف " ما " كقولهم: فيم، وبم . قال المفسرون: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به؟ ويتجادلون، ويختصمون فيما بعث به، فنزلت هذه الآية . واللفظ لفظ استفهام، والمعنى: تفخيم القصة، كما يقولون: أي شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه . ثم بين ما الذي يتساءلون عنه، فقال تعالى: عن النبإ العظيم يعني: عن الخبر العظيم الشأن . وفيه ثلاثة أقوال .

أحدها: القرآن، قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء . قال الفراء: فلما أجاب صارت " عم " كأنها في معنى: لأي شيء يتساءلون عن القرآن .

والثاني: البعث، قاله قتادة .

والثالث: أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه الزجاج .

قوله تعالى: الذي هم فيه مختلفون من قال: إنه القرآن، فإن المشركين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: [ ص: 5 ] أساطير الأولين، إلى غير ذلك . وكذلك من قال: هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من قال: إنه البعث والقيامة، ففي اختلافهم فيه قولان .

أحدهما: أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به، فمنهم من صدق وآمن، ومنهم من كذب، وهذا معنى قول قتادة .

والثاني: أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه، فصدق به المسلمون، وكذب به المشركون، قاله يحيى بن سلام .

قوله تعالى: كلا قال بعضهم: هي ردع وزجر . وقال بعضهم: هي نفي لاختلافهم، والمعنى: ليس الأمر على ما قالوا سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثم كلا سيعلمون وعيد على إثر وعيد . وقرأ ابن عامر " ستعلمون " في الحرفين بالتاء . ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال تعالى: ألم نجعل الأرض مهادا أي: فراشا وبساطا والجبال أوتادا للأرض لئلا تميد وخلقناكم أزواجا أي: أصنافا، وأضدادا، ذكورا، وإناثا، سودا، وبيضا، وحمرا . وجعلنا نومكم سباتا قال ابن قتيبة: أي: راحة لأبدانكم . وقد شرحنا هذا في [الفرقان: 47] وشرحنا هناك قوله تعالى: وجعلنا الليل لباسا .

قوله تعالى: وجعلنا النهار معاشا أي: سببا لمعاشكم . والمعاش: العيش، وكل شيء يعاش به، فهو معاش . والمعنى: جعلنا النهار مطلبا للمعاش . وقال ابن قتيبة: معاشا، أي: عيشا، وهو مصدر وبنينا فوقكم سبعا شدادا قال مقاتل: هي السموات، غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك، وهي فوقكم يا بني آدم . فاحذروا أن تعصوا فتخر عليكم .

[ ص: 6 ] قوله تعالى: وجعلنا سراجا يعني: الشمس وهاجا قال ابن عباس: هو المضيء . وقال اللغويون: الوهاج: الوقاد . وقيل: الوهاج يجمع النور والحرارة .

قوله تعالى: وأنزلنا من المعصرات فيها ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها السموات، قاله أبي بن كعب، والحسن، وابن جبير .

والثاني: أنها الرياح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل . وقال زيد بن أسلم: هي الجنوب . فعلى هذا القول تكون " من " بمعنى " الباء " فتقديره: بالمعصرات . وإنما قيل للرياح: معصرات، لأنها تستدر المطر .

والثالث: أنها السحاب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية . والضحاك، والربيع . قال الفراء: السحابة المعصر: التي تتحلب بالمطر ولما يجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تحض . وكذلك قال ابن قتيبة: شبهت السحاب بمعاصير الجواري، والمعصر: الجارية التي قد دنت من الحيض . وقال الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجز الزرع، فهو مجز، أي: صار إلى أن يجز، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر، فقد أعصر .

قوله تعالى: ماء ثجاجا قال مقاتل: أي: مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا . وقال غيره: يقال: ثج الماء يثج: إذا انصب لنخرج به أي: بذلك الماء حبا ونباتا وفيه قولان .

أحدهما: أن الحب: ما يأكله الناس، والنبات: ما تنبته الأرض مما يأكل [ ص: 7 ] الناس والأنعام، هذا قول الجمهور . وقال الزجاج: كل ما حصد حب، وكل ما أكلته الماشية من الكلإ، فهو نبات .

والثاني: أن الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب . قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرا، إلا أنبت به في البحر لؤلؤا، وفي الأرض عشبا .

قوله تعالى: وجنات يعني: بساتين ألفافا قال أبو عبيدة: أي: ملتفة من الشجر ليس بينها خلال، الواحدة: لفاء، وجنات لف، وجمع الجمع: ألفاف . قال المفسرون: فدل بذكر المخلوقات على البعث . ثم أخبر عن يوم القيامة فقال تعالى: إن يوم الفصل أي: يوم القضاء بين الخلائق كان ميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب . يوم ينفخ في الصور فتأتون من قبوركم أفواجا أي: زمرا زمرا من كل مكان وفتحت السماء قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " وفتحت " بالتشديد . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، وإنما تفتح لنزول الملائكة فكانت أبوابا أي: ذات أبواب وسيرت الجبال عن أماكنها فكانت سرابا أي: كالسراب، لأنها تصير هباء منبثا فيراها الناظر كالسراب بعد شدتها وصلابتها إن جهنم كانت مرصادا قال المبرد: مرصادا يرصدون به، أي: هو معد لهم يرصد بها خزنتها الكفار . وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو . ثم بين لمن هي مرصاد فقال تعالى: للطاغين قال ابن عباس: للمشركين مآبا أي: مرجعا .

قوله تعالى: لابثين وقرأ حمزة " لبثين " والمعنى: فيهما واحد . يقال: هو لابث بالمكان، ولبث . ومثله طامع، وطمع، وفاره، وفره . وأما الأحقاب فجمع حقب، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في [الكهف: 60] .

[ ص: 8 ] فإن قيل: ما معنى ذكر الأحقاب، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان .

أحدهما: أن هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب . ولو أنه قال " لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة " دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة، والجمهور . وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية .

والثاني: أن المعنى: أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون في الأحقاب بردا ولا شرابا فأما خلودهم في النار فدائم . هذا قول الزجاج . وبيانه أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب . وفي المراد " بالبرد " ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه برد الشراب . روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لا يذوقون فيها برد الشراب، ولا الشراب .

والثاني: أنه الروح والراحة، قاله الحسن، وعطاء .

والثالث: أنه النوم، قاله مجاهد، والسدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وأنشدوا:


فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


قال ابن قتيبة: النقاخ: الماء، والبرد: النوم، سمي بذلك لأنه تبرد فيه الحرارة . [ ص: 9 ] وقال مقاتل: لا يذوقون فيها بردا ينفعهم من حرها، ولا شرابا ينفعهم من عطش إلا حميما وغساقا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " غساقا " بالتخفيف . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وحفص عن عاصم بالتشديد .

وقد تقدم ذكر الحميم، والغساق [ص: 57] جزاء وفاقا قال الفراء: وفقا لأعمالهم . وقال غيره: جوزوا جزاء وفاقا لأعمالهم على مقدارها فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار .

إنهم كانوا لا يرجون حسابا فيه قولان .

أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور .

والثاني: لا يرجون ثواب حساب، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزجاج .

قوله تعالى: وكذبوا بآياتنا كذابا قال الفراء: الكذاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذبت به كذابا، وخرقت القميص خراقا، وكل " فعلت " فمصدره في لغتهم مشدد . قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلق أحب إليك، أم القصار؟ وأنشدني بعض بني كلاب:


لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائيا


وأما أهل نجد، فيقولون: كذبت به تكذيبا . وقال أبو عبيدة: الكذاب أشد من الكذاب، وهما مصدر المكاذبة . قال الأعشى:





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-08-2024 الساعة 02:50 AM.
رد مع اقتباس
  #533  
قديم 24-08-2024, 04:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ النَّازِعَاتِ
الحلقة (533)
صــ 10 إلى صــ 24




فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه


قوله تعالى: وكل شيء أحصيناه قال الزجاج: " كل " منصوب بفعل مضمر تفسيره: أحصيناه، والمعنى: أحصينا كل شيء، و كتابا توكيد لـ " أحصيناه " ، لأن معنى " أحصيناه " و " كتبناه " فيما يحصل ويثبت واحد . فالمعنى: كتبناه كتابا . قال المفسرون: وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فذوقوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء فعالكم فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين الذين لم يشركوا مفازا وفيه قولان .

أحدهما: متنزها، قاله ابن عباس، والضحاك .

والثاني: فازوا بأن نجوا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة . قال ابن قتيبة: " مفازا " في موضع " فوز " حدائق قال ابن قتيبة: الحدائق: بساتين نخل، واحدها: حديقة .

قوله تعالى: وكواعب قال ابن عباس: الكواعب: النواهد . قال ابن فارس: يقال: كعبت المرأة كعابة، فهي كاعب: إذا نتأ ثديها . وقد ذكرنا معنى " الأتراب " في [ص: 52] .

قوله تعالى: وكأسا دهاقا فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها الملأى، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد .

[ ص: 11 ] والثاني: أنها المتتابعة . رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير . وعن مجاهد كالقولين .

والثالث: أنها الصافية، قاله عكرمة .

قوله تعالى: لا يسمعون فيها أي: في الجنة إذا شربوها لغوا وقد ذكرناه في [الطور: 23] وغيرها ولا كذابا أي: لا يكذب بعضهم بعضا، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة منزهون عن ذلك .

قال الفراء: وقراءة علي رضي الله عنه " كذابا " بالتخفيف، كأنه -والله أعلم- لا يتكاذبون فيها . وكان الكسائي يخفف هذه ويشدد، " وكذبوا بآياتنا كذابا " لأن " كذبوا " يقيد " الكذاب " بالمصدر، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيرها مصدرا . وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة . وقال أبو علي الفارسي: " الكذاب " بالتخفيف مصدر " كذب " ، مثل " الكتاب " مصدر " كتب " .

قوله تعالى: جزاء قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء، وكذلك " عطاء " ، لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد . و حسابا معناه: ما يكفيهم، أي: فيه كل ما يشتهون . يقال: أحسبني كذا بمعنى كفاني . رب السماوات قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو ، والمفضل: " رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن " برفع الباء من " رب " والنون من " الرحمن " على معنى: هو رب السموات . وقرأ عاصم، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من " ربك " . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون، واختار هذه القراءة الفراء، ووافقه على هذا جماعة، وعللوا بأن الرب قريب من المخفوض، والرحمن بعيد منه .

[ ص: 12 ] قوله تعالى: لا يملكون منه خطابا فيه قولان .

أحدهما: لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب . والثاني: لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، قاله مقاتل .

قوله تعالى: يوم يقوم الروح فيه سبعة أقوال .

أحدها: أنه جند من جند الله تعالى، وليسوا بملائكة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون .

والثاني: أنه ملك أعظم من السموات والجبال، والملائكة، قاله ابن مسعود، ومقاتل بن سليمان . وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح: ملك ما خلق الله أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم .

والثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام، رواه عطية عن ابن عباس .

والرابع: أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك .

[ ص: 13 ] والخامس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن، وقتادة .

والسادس: أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم .

والسابع: أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان .

قوله تعالى: والملائكة صفا قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة . فعلى هذا يكون المعنى: يوم يقوم الروح صفا، والملائكة صفا . وقال ابن قتيبة: معنى قوله تعالى: صفا صفوفا .

قوله تعالى: لا يتكلمون يعني: الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن في الكلام وقال صوابا أي: قال في الدنيا صوابا، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين . وقال مجاهد: قال حقا في الدنيا، وعمل به ذلك اليوم الحق الكائن الواقع بلا شك فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي: مرجعا إليه بطاعته . ثم خوف كفار مكة، فقال تعالى: إنا أنذرناكم عذابا قريبا وهو عذاب الآخرة، وكل آت قريب يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي: يرى عمله مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا يا ليتني لم أبعث . وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا: إبليس، وذلك أنه عاب آدم، لأنه خلق من التراب، فتمنى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم، فقال: يا ليتني كنت ترابا .

سُورَةُ النَّازِعَاتِ

مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

بسم الله الرحمن الرحيم

والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة .

قوله تعالى: والنازعات فيه سبعة أقوال .

أحدها: أنها الملائكة تنزع أرواح الكفار، قاله علي، وابن مسعود . وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم، وبه قال مسروق .

والثاني: أنه الموت ينزع النفوس، قاله مجاهد .

والثالث: أنها النفس حين تنزع، قاله السدي .

والرابع: أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان .

[ ص: 15 ] والخامس: أنها القسي تنزع بالسهم، قاله عطاء، وعكرمة .

والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي .

والسابع: أنها الرماة، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: غرقا اسم أقيم مقام الإغراق . قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقا، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد .

قوله تعالى: والناشطات نشطا فيه خمسة أقوال .

أحدها: أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغم، قاله علي رضي الله عنه . قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه أي: يجذبها- كما ينشط السفود من الصوف المبتل . والثاني: أنها تنشط أرواح المؤمنين بسرعة، كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس . وقال الفراء: الذي سمعته من العرب: كما أنشط من عقال بألف . تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته .

والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا . وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك .

[ ص: 16 ] والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد .

والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش . ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع . قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها . قال هميان بن قحافة:


أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا


والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السدي .

قوله تعالى: والسابحات سبحا فيه ستة أقوال .

أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله علي رضي الله عنه . قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء . فأحيانا ينغمس، وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح .

والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء .

والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضا .

والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء .

والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة .

والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي .

[ ص: 17 ] قوله تعالى: فالسابقات سبقا فيه خمسة أقوال .

أحدها: أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله علي، ومسروق . والثاني: أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق . والثالث: أنها سبقت بني آدم إلى الإيمان، قاله الحسن .

والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقا إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود .

والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضا .

والرابع: أنها الخيل، قاله عطاء .

والخامس: أنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير، قاله قتادة .

قوله تعالى: فالمدبرات أمرا قال ابن عباس: هي الملائكة . قال عطاء: وكلت بأمور عرفهم الله العمل بها . وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة أملاك: جبريل، وهو موكل بالرياح والجنود . وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات . وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس . وإسرافيل، وهو ينزل بالأمر عليهم . وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور . وقال ابن قتيبة: فالمدبرات أمرا: تنزل بالحلال والحرام .

فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام، فعنه جوابان .

أحدهما: أن الجواب قوله تعالى: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ، قاله مقاتل .

[ ص: 18 ] والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره: لتبعثن، ولتحاسبن، ويدل على هذا قوله تعالى: أإذا كنا عظاما نخرة قاله الفراء .

قوله تعالى: يوم ترجف الراجفة ، وهي النفخة الأولى التي يموت منها جميع الخلائق . و " الراجفة " صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمحض . و " ترجف " بمعنى: تتحرك حركة شديدة تتبعها الرادفة وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها . وكل شيء جاء بعد شيء فهو يردفه قلوب يومئذ واجفة أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال القيامة أبصارها خاشعة أي: ذليلة لمعاينة النار . قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام . ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث، فقال تعالى: يقولون أإنا لمردودون في الحافرة قرأ ابن عامر وأهل الكوفة " أئنا " بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف نافع وأبو عمرو .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

أحدها: أن الحافرة: الحياة بعد الموت . فالمعنى: أنرجع أحياء بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي . قال الفراء: يعنون: أنرد إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلانا، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت . قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج .

والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فسميت حافرة، والمعنى: محفورة، كما يقال: ماء دافق [الطارق: 6] و عيشة راضية [الحاقة: 21] وهذا قول مجاهد، والخليل . فيكون المعنى: أئنا لمردودون إلى الأرض خلقا جديدا؟!

[ ص: 19 ] قال ابن قتيبة: " في الحافرة " أي: إلى أول أمرنا . ومن فسرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنا منها بدئنا . قال الشاعر:


أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار


[كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا " بعد ما شبت وصلعت؟! " .

والثالث: أن الحافرة: النار، قاله ابن زيد] .

قوله تعالى: أإذا كنا عظاما نخرة وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم " ناخرة " . قال الفراء: وهما بمعنى واحد في اللغة . مثل طمع، وطامع . وحذر، وحاذر . وقال الأخفش: هما لغتان . وقال الزجاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر . مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن . وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الريح كالنخير . قال المفسرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نرد أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تلك إذا كرة خاسرة أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا مما يعدنا به محمد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال تعالى: فإنما هي يعني النفخة الأخيرة زجرة واحدة أي: صيحة في الصور يسمعونها من إسرافيل وهم في الأرض فيخرجون فإذا هم بالساهرة وفيها أربعة أقوال .

[ ص: 20 ] أحدها: أن الساهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، واللغويون . قال الفراء: كأنها سميت بهذا الاسم، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم .

والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبه .

والثالث: أنها جهنم، قاله قتادة .

والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان .

هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم .

قوله تعالى: هل أتاك حديث موسى أي: قد جاءك . وقد بينا هذا في [طه: 9] وما بعده إلى قوله تعالى: طوى اذهب قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : " طوى اذهب " غير مجراة . وقرأ الباقون " طوى " منونة فقل هل لك إلى أن تزكى وقرأ ابن كثير، ونافع: " تزكى " بتشديد الزاي، أي: تطهر من الشرك وأهديك إلى ربك أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فتخشى عذابه فأراه الآية الكبرى وفيها قولان .

[ ص: 21 ] أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين . والثاني: أنها اليد، قاله الزجاج .

قوله تعالى: فكذب أي بأنها من الله، وعصى نبيه ثم أدبر أي: أعرض عن الإيمان يسعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فحشر أي: فجمع قومه وجنوده فنادى لما اجتمعوا فقال أنا ربكم الأعلى أي: لا رب فوقي . وقيل: أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربها وربكم . وقيل: أراد: أنا رب السادة والقادة .

قوله تعالى: فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فيه أربعة أقوال .

أحدها: أن الأولى قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " [القصص: 38] والآخرة قوله: " أنا ربكم الأعلى " ، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء . ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة . قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة . قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى .

والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة . وقال الربيع بن أنس: عذبه الله في أول النهار بالغرق، وفي آخره بالنار .

والثالث: أن الأولى: تكذيبه وعصيانه . والآخرة قوله: " أنا ربكم الأعلى " ، قاله أبو رزين .

والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد . قال الزجاج: النكال: منصوب مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة [ ص: 22 ] والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة .

قوله تعالى: إن في ذلك الذي فعل بفرعون لعبرة أي: لعظة لمن يخشى الله .

ثم خاطب منكري البعث، فقال تعالى: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين إلى أن قوله تعالى: بناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها . وقال قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقا، أم السماء أشد خلقا . ثم بين كيف خلقها، فقال تعالى: بناها قال المفسرون: أخلقكم بعد الموت أشد عندكم، أم السماء في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد . ومعنى: " بناها " رفعها . وكل شيء ارتفع فوق شيء فهو بناء . ومعنى: رفع سمكها رفع ارتفاعها وعلوها في الهواء فسواها بلا شقوق، ولا فطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وأغطش ليلها أي: أظلمه فجعله مظلما . قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كله بمعنى أظلم .

قوله تعالى: وأخرج ضحاها أي: أبرز نهارها . والمعنى: أظهر نورها بالشمس . وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران والأرض بعد ذلك أي: بعد خلق السماء دحاها أي: بسطها . وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن " بعد " هاهنا بمعنى " قبل " كقوله [ ص: 23 ] تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر [الأنبياء: 105] . وبعضهم يقول: هي بمعنى " مع " كقوله تعالى: عتل بعد ذلك زنيم [القلم: 13]، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل السماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص . وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في [البقرة: 29] . ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله تعالى: دحاها .

أخرج منها ماءها أي: فجر العيون منها ومرعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام والجبال أرساها قال الزجاج: أي: أثبتها متاعا لكم أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك . وقال ابن قتيبة: " متاعا لكم " أي: منفعة [لكم] .

فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها .

قوله تعالى: فإذا جاءت الطامة الكبرى والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها، أي: تعلو فوقه . وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال .

أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث .

[ ص: 24 ] والثاني: أنها حين يقال لأهل النار; قوموا إلى النار .

والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار .

قوله تعالى: يتذكر الإنسان ما سعى أي: ما عمل من خير وشر وبرزت الجحيم لمن يرى أي: لأبصار الناظرين . قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق . وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع " لمن ترى " بالتاء . وقرأ ابن عباس، ومعاذ القاريء " لمن رأى " بهمزة بين الراء والألف .

قوله تعالى: فأما من طغى في كفره وآثر الحياة الدنيا على الآخرة فإن الجحيم هي المأوى قال الزجاج: أي هي المأوى له . وهذا جواب " فإذا جاءت الطامة " فإن الأمر كذلك .

قوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه قد ذكرناه في سورة [الرحمن: 46] .

قوله تعالى: ونهى النفس عن الهوى أي: عما تهوى من المحارم . قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها .

قوله تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قد سبق في [الأعراف: 187] فيم أنت من ذكراها أي: لست في شيء من علمها وذكرها . والمعنى: أنك لا تعلمها إلى ربك منتهاها أي: منتهى علمها إنما أنت منذر من يخشاها وقرأ أبو جعفر " منذر " بالتنوين . ومعنى الكلام: إنما أنت مخوف من يخافها . والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها، وهو المؤمن بها . وأما من لا يخافها فكأنه لم ينذر كأنهم يعني: كفار قريش يوم يرونها أي: يعاينون القيامة لم يلبثوا في الدنيا . وقيل: في قبورهم إلا عشية أو ضحاها أي: قدر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع [ ص: 25 ] الشمس . قال الزجاج: والهاء والألف في " ضحاها " عائدان إلى العشية .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #534  
قديم 24-08-2024, 08:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ عَبَسَ
الحلقة (534)
صــ 25 إلى صــ 39






والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية . قال الفراء:

فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟

فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتها، أو آتيك الغداة، أو عشيتها، فتكون العشية في معنى " آخر " ، والغداة في معنى " أول " . أنشدني بعض بني عقيل:


نحن صبحنا عامرا في دارها عشية الهلال أو سرارها


أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيتها .

سُورَةُ عَبَسَ

مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة .

قوله تعالى: عبس وتولى قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأمية وأبيا ابني خلف، ويدعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: علمني يا رسول الله مما علمك الله، وجعل يناديه، ويكرر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحبا بمن عاتبني فيه [ ص: 27 ] ربي . وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم اشتغالا بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات .

ومعنى عبس قطب وكلح وتولى أعرض بوجهه أن جاءه أي: لأن جاءه . وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " أن جاءه " بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة . وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع " أأن " بهمزتين مقصورتين مفتوحتين . و الأعمى هو ابن أم مكتوم، واسمه عمرو بن قيس . وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو وما يدريك لعله يزكى أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلمه منك . وقال مقاتل: لعله يؤمن أو يذكر أي: يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فتنفعه الذكرى قرأ حفص عن عاصم " فتنفعه " بفتح العين، والباقون برفعها . قال الزجاج: من نصب، فعلى جواب " لعل " ، ومن رفع، فعلى العطف على " يزكى " .

قوله تعالى: أما من استغنى قال ابن عباس: استغنى عن الله وعن الإيمان بماله . قال مجاهد: " أما من استغنى " عتبة، وشيبة، فأنت له تصدى . قرأ ابن كثير، ونافع: " تصدى " بتشديد الصاد . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، [ ص: 28 ] وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " تصدى " بفتح التاء، والصاد وتخفيفها، وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وعمرو بن دينار: " تتصدى " بتاءين مع تخفيف الصاد . قال الزجاج: الأصل: تتصدى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين . ومن قرأ: " تصدى " بإدغام التاء، فالمعنى أيضا: تتصدى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد . قال ابن عباس: " تصدى " تقبل عليه بوجهك . وقال ابن قتيبة: تتعرض . وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، والجحدري: " تصدى " بتاء واحدة مضمومة، وتخفيف الصاد .

قوله تعالى: وما عليك أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام؟ يعني: أنه ليس عليه إلا البلاغ .

وأما من جاءك يسعى فيه قولان .

أحدهما: يمشي .

والثاني: يعمل في الخير، وهو ابن أم مكتوم وهو يخشى الله فأنت عنه تلهى وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وأبو الجوزاء " تتلهى " بتاءين .

وقرأ أبي بن كعب، وابن السميفع، والجحدري " تلهى " بتاء واحدة خفيفة مرفوعة . قال الزجاج: أي: تتشاغل عنه . يقال: لهيت عن الشيء ألهى عنه: إذا تشاغلت عنه .

قوله تعالى: كلا أي: لا تفعل ذلك . إنها في المكني عنها قولان .

أحدهما: آيات القرآن، قاله مقاتل .

والثاني: هذه السورة، قاله الفراء " والتذكرة " بمعنى التذكير فمن شاء ذكره مفسر في آخر [المدثر: 55] . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده، فقال تعالى: [ ص: 29 ] في صحف مكرمة أي: هو في صحف، أي: في كتب مكرمة، وفيها قولان .

أحدهما: أنها اللوح المحفوظ، قاله مقاتل .

والثاني: كتب الأنبياء، ذكره الثعلبي . فعلى هذا يكون معنى " مرفوعة " عالية القدر . وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء .

وفي معنى " المطهرة " أربعة أقوال .

أحدها: مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن . والثاني: مطهرة من الشرك والكفر، قاله مقاتل . والثالث: لأنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله الفراء . والرابع: مطهرة من الدنس، قاله يحيى بن سلام .

قوله تعالى: بأيدي سفرة فيهم قولان .

أحدهما: أنهم الملائكة، قاله الجمهور .

والثاني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله وهب بن منبه .

وفي معنى " سفرة " ثلاثة أقوال .

أحدها: أنهم الكتبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج . قال الزجاج: واحدهم: سافر، وسفرة، مثل كاتب، وكتبة، وكافر، وكفرة . وإنما قيل للكتاب: سفر، وللكاتب: سافر، لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه . يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء . وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها . ومنه: سفرت بين القوم، أي: كشفت ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأصلح بينهم .

والثاني: أنهم القراء، قاله قتادة .

[ ص: 30 ] والثالث: أنهم السفراء، وهم المصلحون . قال الفراء: تقول العرب: سفرت بين القوم، أي: أصلحت بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله، كالسفير الذي يصلح بين القوم . قال الشاعر:


وما أدع السفارة بين قومي وما أمشي بغش إن مشيت


قوله تعالى: كرام أي: على ربهم بررة أي: مطيعين . قال الفراء: واحد " البررة " في قياس العربية: بار، لأن العرب لا تقول: فعلة ينوون به الجمع إلا والواحد منه فاعل، مثل كافر، وكفرة، وفاجر، وفجرة .

قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم .

قوله تعالى: قتل الإنسان أي: لعن . والمراد بالإنسان هاهنا: الكافر . وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه أشار إلى كل كافر، قاله مجاهد . والثاني: أنه أمية بن خلف، قاله الضحاك . والثالث: عتبة بن أبي لهب، قاله مقاتل .

وفي قوله تعالى: ما أكفره ثلاثة أقوال .

أحدها: ما أشد كفره، قاله ابن جريج .

[ ص: 31 ] والثاني: أي شيء أكفره؟ قاله السدي . فعلى هذا يكون استفهام توبيخ .

الثالث: أنه على وجه التعجب، وهذا التعجب يؤمر به الآدميون، والمعنى: اعجبوا أنتم من كفره، قاله الزجاج .

قوله تعالى: من أي شيء خلقه ثم فسره فقال تعالى: من نطفة خلقه . وفي معنى: " فقدره " ثلاثة أقوال .

أحدها: قدر أعضاءه: رأسه، وعينيه، ويديه، ورجليه، قاله ابن السائب .

والثاني: قدره أطوارا: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، قاله مقاتل .

والثالث: فقدره على الاستواء، قاله الزجاج .

ثم السبيل يسره فيه قولان .

أحدهما: سهل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن، ومجاهد . قال الفراء: والمعنى: ثم يسره للسبيل .

والثاني: يسر له السبيل في خروجه من بطن أمه، قاله السدي، ومقاتل .

قوله تعالى: فأقبره قال الفراء: أي: جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير، فكأن القبر مما أكرم به المسلم . ولم يقل: قبره، لأن القابر هو الدافن بيده .

والمقبر الله، لأنه صيره مقبورا، فليس فعله كفعل الآدمي . والعرب تقول: بترت ذنب البعير، والله أبتره، وعضبت قرن الثور، والله أعضبه . وطردت فلانا عني، والله أطرده، أي: صيره طريدا . وقال أبو عبيدة: أقبره: أي: أمر أن يقبر، وجعل له قبرا . قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل [ ص: 32 ] صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه . والذي يدفن بيده هو القابر . قال الأعشى:


لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم يسلم إلى قابر


قوله تعالى: ثم إذا شاء أنشره أي: بعثه . يقال: أنشر الله الموتى، فنشروا، ونشر الميت: حيي [هو] بنفسه، وواحدهم ناشر . قال الأعشى:


حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر


قوله تعالى: كلا قال الحسن: حقا لما يقض ما أمره به ربه، ولم يؤد ما فرض عليه . وهل هذا عام، أم خاص؟ فيه قولان .

أحدهما: أنه عام . قال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه .

[ ص: 33 ] والثاني: أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة، قاله يحيى بن سلام . ولما ذكر خلق ابن آدم، ذكر رزقه ليعتبر وليستدل بالنبات على البعث، فقال تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه قال مقاتل: يعني به عتبة بن أبي لهب . ومعنى الكلام: فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بين فقال تعالى: أنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " إنا " بالكسر . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: أنا صببنا بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل، فإذا ابتدأ كسر . قال الزجاج: من كسر " إنا " فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح، فعلى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان أنا صببنا . قال المفسرون: أراد بصب الماء: المطر ثم شققنا الأرض بالنبات شقا فأنبتنا فيها حبا يعني به جميع الحبوب التي يتغذى بها وعنبا وقضبا قال الفراء: هو الرطبة . وأهل مكة يسمون القت: القضب . قال ابن قتيبة: ويقال: إنه سمي بذلك، لأنه يقضب مرة بعد مرة، أي: يقطع، وكذلك القصيل، لأنه يقصل، أي: يقطع .

قوله تعالى: وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا قال الفراء: كل بستان كان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل: حديقة . والغلب: ما غلظ من النخل . قال أبو عبيدة: يقال: شجرة غلباء: إذا كانت غليظة . وقال ابن قتيبة: الغلب: الغلاظ الأعناق . وقال الزجاج: هي المتكاثفة، العظام .

[ ص: 34 ] قوله تعالى: وفاكهة يعني: ألوان الفاكهة وأبا فيه قولان .

أحدهما: أنه ما ترعاه البهائم، قاله ابن عباس، وعكرمة، واللغويون . وقال الزجاج: هو جميع الكلإ التي تعتلفه الماشية .

والثاني: أنه الثمار الرطبة، رواه الوالبي عن ابن عباس .

متاعا لكم ولأنعامكم قد بيناه في السورة التي قبلها [النازعات: 33] .

فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة .

قوله تعالى: فإذا جاءت الصاخة وهي الصيحة الثانية . قال ابن قتيبة: الصاخة تصخ صخا، أي: تصم . يقال: رجل أصخ، وأصلخ: إذا كان [ ص: 35 ] لا يسمع . والداهية صاخة أيضا . وقال الزجاج: هي الصيحة التي تكون عليها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها . ثم فسر في أي وقت تجيء، فقال تعالى: يوم يفر المرء من أخيه قال المفسرون: المعنى: لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه، لعظم ما هو فيه . قال الحسن: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أمه وأبيه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح . وقال قتادة: يفر هابيل من قابيل، والنبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم من أبيه، ولوط من صاحبته، ونوح من ابنه .

قوله تعالى: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه قال الفراء: أي: يشغله عن قرابته . وقال ابن قتيبة: أي: يصرفه ويصده عن قرابته، يقال: اغن عني وجهك، أي: اصرفه، واغن عني السفيه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع، وابن محيصن، وابن أبي عبلة " يعنيه " بفتح الياء والعين غير معجمة . قال الزجاج: معنى الآية: له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره . وكذلك قراءة من قرأ: " يغنيه " بالغين، معناه: له شأن لا يهمه معه غيره .

[ ص: 36 ] وقد روى أنس بن مالك قال: قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: أنحشر عراة؟ قال: نعم . قالت: واسوءتاه، فأنزل الله تعالى: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .

قوله تعالى: وجوه يومئذ مسفرة أي: مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحكة لسرورها مستبشرة أي: فرحة بما نالها من كرامة الله عز وجل ووجوه يومئذ عليها غبرة أي: غبار . وقال مقاتل: أي: سواد وكآبة ترهقها أي: تغشاها قترة أي: ظلمة . وقال الزجاج: يعلوها سواد كالدخان . ثم بين من أهل هذه الحال؟ ، فقال تعالى: أولئك هم الكفرة الفجرة وهو جمع كافر وفاجر .

سُورَةُ التَّكْوِيرِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت .

روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إذا الشمس كورت .

وفي قوله تعالى: كورت أربعة أقوال .

[ ص: 38 ] أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل .

والثاني: ذهبت، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلت .

والثالث: غورت، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسية: كوربكرد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسية كوربور .

والرابع: أنها تكور مثل تكوير العمامة، فتلف وتمحى، قاله أبو عبيدة .

قال الزجاج: ومعنى: " كورت " جمع ضوؤها، ولفت كما تلف العمامة . ويقال: كورت العمامة على رأسي أكورها: إذا لففتها . قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف ويرمى بها في البحر . وقيل: في النار . وقيل: تعاد إلى ما خلقت منه .

قوله تعالى: وإذا النجوم انكدرت أي: تناثرت، وتهافتت . يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقض وإذا الجبال سيرت عن وجه الأرض، فاستوت مع الأرض وإذا العشار عطلت قال المفسرون وأهل اللغة: العشار: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أحسن زمان حملها، وهي تضع إذاوضعت لتمام في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يشغلهم عنها، وإنما [ ص: 39 ] خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل . ومعنى " عطلت " سيبت وأهملت، لاشتغالهم عنها بأهوال القيامة .

قوله تعالى: وإذا الوحوش يعني: دواب البحر حشرت وفيه قولان .

أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس .

والثاني: جمعت إلى القيامة، قاله السدي . وقد زدنا هذا شرحا في [الأنعام: 111] .

قوله تعالى: وإذا البحار سجرت قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، " سجرت " بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها .

وفي المعنى ثلاثة أقوال .

أحدها: أوقدت فاشتعلت نارا، قاله علي وابن عباس .

والثاني: يبست، قاله الحسن .

والثالث: ملئت بأن صارت بحرا واحدا، وكثر ماؤها، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة .

قوله تعالى: وإذا النفوس زوجت فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: قرنت بأشكالها، قاله عمر رضي الله عنه . الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة .

والثاني: ردت الأرواح إلى الأجساد، فزوجت بها، قاله الشعبي . وعن عكرمة كالقولين .

والثالث: زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #535  
قديم 24-08-2024, 08:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ الِانْفِطَارِ
الحلقة (535)
صــ 40 إلى صــ 54




[ ص: 40 ] قوله تعالى: وإذا الموءودة سئلت قال اللغويون: الموؤودة: البنت تدفن وهي حية، وكان هذا من فعل الجاهلية . ويقال: وأد ولده، أي: دفنه حيا . قال الفرزدق:


ومنا الذي منع الوائدا ت فأحيا الوئيد ولم يوأد


يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جد الفرزدق . قال الزجاج: ومعنى سؤالها: تبكيت قاتليها في القيامة، لأن جوابها: قتلت بغير ذنب . ومثل هذا التبكيت قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟! [المائدة: 116] . وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو: " سألت " بفتح السين، وألف بعدها بأي ذنب قتلت بإسكان اللام، وضم التاء الأخيرة . وسؤالها هذا أيضا تبكيت لقاتليها . قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاما حبسته .

قوله تعالى: وإذا الصحف نشرت قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب " نشرت " بالتخفيف، والباقون بالتشديد . والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب وإذا السماء كشطت قال الفراء: نزعت، فطويت . وفي قراءة عبد الله: " قشطت " بالقاف، وهكذا تقوله قيس، وتميم، وأسد: بالقاف . وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد . [ ص: 41 ] والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط . وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يقال: حدث، وحدت . قال ابن قتيبة: كشطت كما يكشط الغطاء عن الشيء، فطويت . وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف . و سعرت أوقدت . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " سعرت " مشددة . قال الزجاج: المعنى واحد . إلا أن معنى المشدد: أوقدت مرة بعد مرة . و أزلفت قربت من المتقين . وجواب هذه الأشياء علمت نفس ما أحضرت أي: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبت على قدر عملها . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى: علمت نفس ما أحضرت : لهذا جرى الحديث . وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة .

فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .

قوله تعالى: فلا أقسم لا زائدة، والمعنى: أقسم بالخنس وفيها خمسة أقوال .

[ ص: 42 ] أحدها: أنها خمسة أنجم تخنس بالنهار فلا ترى، وهي: زحل، وعطارد، والمشتري، والمريخ، والزهرة، قاله علي، وبه قال مقاتل، وابن قتيبة . وقيل: اسم المشتري: البرجس . واسم المريخ: بهرام .

والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة .

والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود .

والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير .

والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي . والأكثرون على أنها النجوم .

قال ابن قتيبة: وإنما سماها خنسا، لأنها تسير في البروج والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تخنس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كر راجعا إلى أوله، وسماها كنسا، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء . وقال الزجاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها . وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر . ووقف يعقوب على " الجواري " بالياء .

قوله تعالى: والليل إذا عسعس فيه قولان .

أحدهما: ولى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء .

والثاني: إذا أقبل . قاله ابن جبير، وقتادة . قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل . وعسعس: إذا أدبر . واستدل من قال: إن المراد: إدباره [ ص: 43 ] بقوله تعالى والصبح إذا تنفس وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط:


حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا


وفي قوله تعالى: تنفس قولان .

أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله علي وقتادة .

والثاني: طلوع الشمس، قاله الضحاك . قال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهارا بينا . وجواب القسم في قوله: فلا أقسم بالخنس وما بعده .

قوله: إنه لقول رسول كريم يعني: أن القرآن نزل به جبريل . وقد بينا هذا في [الحاقة: 40] . ثم وصف جبريل بقوله تعالى: ذي قوة وهو كقوله تعالى: ذو مرة وقد شرحناه في [النجم آية: 6] ذي قوة عند ذي العرش مكين يعني: في المنزلة مطاع ثم أمين أي: في السموات تطيعه الملائكة . فمن طاعة الملائكة له: أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتح له عنها حتى نظر إليها . وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة: " ثم " بضم الثاء . ومعنى: " أمين " على وحي الله ورسالاته . قال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن .

قوله تعالى: وما صاحبكم بمجنون يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة . قال الزجاج: وهذا أيضا من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدا ليس بمجنون كما يقول أهل مكة .

[ ص: 44 ] قوله تعالى: ولقد رآه بالأفق المبين قال المفسرون: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق . وقد ذكرنا هذا في سورة [النجم :7] .

قوله تعالى: وما هو يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم على الغيب أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض بضنين قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، والكسائي، ورويس " بظنين " بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد . وقال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمتهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غاب عنكم مما ينفعكم . وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه .

قوله تعالى: وما هو يعني: القرآن بقول شيطان رجيم قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمد .

قوله تعالى: فأين تذهبون قال الزجاج: معناه: فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ إن هو أي: ما هو، يعني: القرآن إلا ذكر للعالمين أي: موعظة للخلق أجمعين لمن شاء منكم أن يستقيم على الحق والإيمان . والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق . وقد بينا سبيل الاستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل . ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بينا هذا في سورة [الإنسان: 30] قال أبو هريرة: لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقيل: القائل لذلك أبو جهل . وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " وما يشاؤون " بالياء .

[ ص: 45 ] فصل

وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى: لمن شاء منكم أن يستقيم وقوله تعالى في [عبس: 12]: فمن شاء ذكره ، وقوله تعالى في سورة [الإنسان: 29] وفي سورة [المزمل: 18]: " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " كله منسوخ بقوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ولا أرى هذا القول صحيحا، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجه النسخ . فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنسخ وجه .

سُورَةُ الِانْفِطَارِ
وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .

قوله تعالى: إذا السماء انفطرت انفطارها: انشقاقها . و انتثرت بمعنى تساقطت . و فجرت بمعنى فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا . وقال الحسن: ذهب ماؤها، و بعثرت بمعنى أثيرت . قال ابن قتيبة: قلبت فأخرج ما فيها . يقال: بعثرت المتاع وبحثرته: إذا جعلت أسفله أعلاه .

[ ص: 47 ] قوله تعالى: علمت نفس ما قدمت وأخرت هذا جواب الكلام . وقد شرحناه في قوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [القيامة: 13] .

قوله تعالى: يا أيها الإنسان فيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه عني به أبو الأشدين، وكان كافرا، قاله ابن عباس، ومقاتل . وقد ذكرنا اسمه في [المدثر: 30] .

والثاني: أنه الوليد بن المغيرة، قاله عطاء .

والثالث: أبي بن خلف، قاله عكرمة .

والرابع: أنه أشار إلى كل كافر، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: ما غرك قال الزجاج: أي: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ . وقال غيره: المعنى: ما الذي أمنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة، وقال: ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرني ستورك المرخاة . وقال يحيى بن معاذ: لو قال لي: ما غرك بي؟ قلت: برك سالفا وآنفا . قيل: لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقن عبده الجواب، ليقول: غرني كرم الكريم .

قوله تعالى: الذي خلقك ولم تك شيئا فسواك إنسانا تسمع وتبصر [ ص: 48 ] فعدلك قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: " فعدلك " بالتشديد . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " فعدلك " بالتخفيف . قال الفراء: من قرأ بالتخفيف، فوجهه -والله أعلم-: فصورك إلى أي صورة شاء، إما حسن، وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير . وقيل: في صورة أب، في صورة عم، في صورة بعض القرابات تشبيها . ومن قرأ بالتشديد، فإنه أراد -والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدل الخلقة . وقال غيره: عدل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما .

قوله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك قال الزجاج: يجوز أن تكون " ما " زائدة . ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك . وفي معنى الآية أربعة أقوال .

أحدها: في أي صورة من صور القرابات ركبك، وهو معنى قول مجاهد .

والثاني: في أي صورة، من حسن، أو قبح، أو طول، أو قصر، أو ذكر، أو أنثى، وهو معنى قول الفراء .

والثالث: إن شاء أن يركبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله مقاتل . وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير .

والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير . وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو خنزير بالشره، ذكره الثعلبي .

قوله تعالى: بل تكذبون بالدين وقرأ أبو جعفر " بالياء " أي بالجزاء والحساب، تزعمون أنه غير كائن . ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال [ ص: 49 ] تعالى: وإن عليكم لحافظين أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كراما على ربهم كاتبين يكتبون أعمالكم يعلمون ما تفعلون من خير وشر، فيكتبونه عليكم .

قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وإن الفجار وفيهم قولان .

أحدهما: أنهم المشركون .

والثاني: الظلمة . ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده، فقال: وأين أجده؟ قال: عند قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين .

قوله تعالى: يصلونها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين حرها يوم الدين أي: يوم الجزاء على الأعمال وما هم عنها أي: عن الجحيم بغائبين وهذا يدل على تخليد الكفار . وأجاز بعض العلماء أن تكون " عنها " كناية عن القيامة، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث . ويشتمل هذا على الأبرار والفجار . ثم عظم ذلك اليوم بقوله تعالى: وما أدراك ما يوم الدين ثم كرر ذلك تفخيما لشأنه، وكان ابن السائب يقول: الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى: يوم لا تملك نفس لنفس قرأ ابن كثير، وأبو عمرو " يوم " [ ص: 50 ] بالرفع، والباقون: بالفتح . قال الزجاج: من رفع " اليوم " ، فعلى أنه صفة لقوله تعالى: " يوم الدين " . ويجوز أن يكون رفعه بإضمار " هو " ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئا قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلا الله، ولم يملك أحدا من الخلق شيئا كما ملكهم في الدنيا . وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة . والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلا فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين . والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه .

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ

وفيها ثلاثة أقوال

أحدها: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والضحاك، ويحيى بن سلام .

والثاني: مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلا أن ابن عباس، وقتادة قالا: فيها ثماني آيات مكية، من قوله تعالى: إن الذين أجرموا [المطففين: 29] إلى آخرها . وقال مقاتل: فيها آية مكية، وهي قوله تعالى: إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين [المطففين: 13] .

والثالث: أنها نزلت بين مكة، والمدينة، قاله جابر بن زيد وابن السائب، وذكر هبة الله ابن سلامة المفسر: أنها نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة، نصفها يقارب مكة، ونصفها يقارب المدينة .

بسم الله الرحمن الرحيم

ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين .

قوله تعالى: ويل للمطففين قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 52 ] المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك . وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية . وقد شرحنا معنى " الويل " في [البقرة: 79] . وقال ابن قتيبة: المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طفان: إذا لم يكن مملوءا . وقال الزجاج: إنما قيل: مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طف الشيء، وهو جانبه .

قوله تعالى: الذين إذا اكتالوا على الناس أي: من الناس . فـ " على " بمعنى " من " في قول المفسرين واللغويين . قال الفراء: " على " ، و " من " يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك [كيلا]، وإذا قلت: اكتلت منك، فهو كقولك: استوفيت منك [كيلا] . قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتزنوا، ولم يذكر " إذا اتزنوا " لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن، فأحدهما يدل على الآخر وإذا كالوهم أي: كالوا لهم أو وزنوهم أي: وزنوا لهم . يخسرون أي: ينقصون في الكيل، والوزن . فعلى هذا لا يجوز أن يقف على " كالوا " ، ومن الناس من يجعل " هم " توكيدا لما كالوا، ويجوز أن يقف على " كالوا " والاختيار الأول . قال الفراء: سمعت أعرابية تقول: [ ص: 53 ] إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل .

قوله تعالى: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن ليوم عظيم يعني به يوم القيامة يوم يقوم الناس منصوب بقوله تعالى مبعوثون . قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين . ومعنى: يقوم الناس، أي: من قبورهم لرب العالمين أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه . وقيل: يقومون بين يديه لفصل القضاء . وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " . وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام . قال مقاتل: وذلك إذا خرجوا من قبورهم .

كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون .

[ ص: 54 ] قوله تعالى: كلا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا . وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء . وكان أبو حاتم يقول: " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى " حقا " إن كتاب الفجار قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لفي سجين وفيها أربعة أقوال .

أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل . وروي عن مجاهد قال: " سجين " صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم .

والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن .

والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة .

والرابع: لفي حبس، فعيل من السجن، قاله أبو عبيدة .

قوله تعالى: وما أدراك ما سجين هذا تعظيم لأمرها . وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #536  
قديم 24-08-2024, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
الحلقة (536)
صــ 55 إلى صــ 69




قوله تعالى: كتاب مرقوم أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب [ ص: 55 ] مرقوم، أي: مكتوب . قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب . قال أبو ذؤيب:


عرفت الديار كرقم الدوا ة يزبره الكاتب الحميري


وأنشده الزجاج: " يذبرها " بالذال المعجمة، وكسر الباء . قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ . وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي- كتبت . وذبرت بالذال- أتقنت ما حفظت . قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم . وقال ابن قتيبة: يروى " يزبرها " و " يذبرها " وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويزبره . وذبره يذبره، ويذبره . وقال قتادة: رقم له بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر . وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .

قوله تعالى: ويل يومئذ للمكذبين هذا منتظم بقوله تعالى: يوم يقوم الناس ، وما بينهما كلام معترض . وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: بل ران على قلوبهم قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: " بل ران " بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم: " بل ران " مدغمة بكسر الراء . وقرأ حفص عن عاصم " بل " بإظهار اللام " ران " بفتح الراء . قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران . قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى . ويقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا: إذا [ ص: 56 ] غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدإ يغشى على القلب . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن " كلا بل ران " وفي الحديث: " إنه ليغان على قلبي " وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب " بالغين " ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما . قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم . قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب .

قوله تعالى: كلا أي: لا يصدقون . ثم استأنف إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته . وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى . وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى [ ص: 57 ] في القيامة . ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم . ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى: ثم إنهم لصالو الجحيم .

قوله تعالى: ثم يقال أي: يقول لهم خزنة النار: هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون كلا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: لفي عليين وفيها سبعة أقوال .

أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد .

والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة . وقال مقاتل: ساق العرش .

والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك .

والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن . وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع .

والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج .

قوله تعالى: وما أدراك ما عليون هذا تعظيم لشأنها .

قوله تعالى: كتاب مرقوم الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها .

[ ص: 58 ] قوله تعالى: يشهده المقربون أي: يحضر المقربون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: ينظرون وفيه قولان .

أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة .

والثاني: إلى أعدائهم حين يعذبون .

قوله تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقرأ أبو جعفر، ويعقوب " تعرف " بضم التاء، وفتح الراء " نضرة " بالرفع . قال الفراء: بريق النعيم ونداه . قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور . وفي " الرحيق " ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور . ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال . أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد . والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش . والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل . والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة .

والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن .

والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج . وفي قوله تعالى: مختوم ثلاثة أقوال .

أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود .

والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد .

[ ص: 59 ] والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: ختامه مسك، أي: عاقبته . هذا قول أبي عبيدة .

ختامه مسك قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة " ختامه " بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعة الميم . وقرأ الكسائي " خاتمه " بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة . وروى الشيزري " خاتمه " مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء . وقرأ أبي بن كعب، وعروة، وأبو العالية: " ختمه " بفتح الخاء والتاء و [بضم] الميم من غير ألف .

وللمفسرين في قوله تعالى: ختامه مسك أربعة أقوال .

أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد .

والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، [قاله ابن عباس .

والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة .

والرابع: أن آخر طعمه مسك] قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين .

قوله تعالى: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أي: فليجدوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله . والتنافس: كالتشاح على الشيء، والتنازع فيه .

قوله تعالى: ومزاجه من تسنيم فيه قولان .

[ ص: 60 ] أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين .

والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك . قال مقاتل: وإنما سمي تسنيما، لأنه يتسنم عليه من جنة عدن، فينصب عليهم انصبابا، فيشربون الخمر من ذلك الماء . قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة . ويقال: إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم، أي: من علو . وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور . وهذا أعجب إلي، لقول المسيب بن علس في وصف امرأة:


كأن بريقتها للمزا ج من ثلج تسنيم شيبت عقارا


أراد: كأن بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلا . قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يتسنم عليهم من الغرف . فـ " عينا " في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما [البلد: 15] . ويجوز أن تكون " عينا " منصوبة بقوله: يسقون عينا، أي: من عين . وقد بينا معنى " يشرب بها " في [هل أتى: 6] .

إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون .

قوله تعالى: إن الذين أجرموا أي: أشركوا كانوا من الذين آمنوا يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمار، وبلال، وخباب، وغيرهم . يضحكون [ ص: 61 ] على وجه الاستهزاء بهم وإذا مروا يعني: المؤمنين بهم أي: بالكفار يتغامزون أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاء بهم وإذا انقلبوا يعني: الكفار إلى أهلهم انقلبوا فكهين أي: متعجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم . وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر: " فكهين " بغير ألف . وقد شرحنا معنى القراءتين في [يس: 55] وإذا رأوهم أي: رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إن هؤلاء لضالون يقول الله تعالى: وما أرسلوا يعني الكفار عليهم أي: على المؤمنين حافظين يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يوكلوا بحفظ أعمالهم فاليوم يعني: في الآخرة الذين آمنوا من الكفار يضحكون إذا رأوهم يعذبون في النار . قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غلقت أبوابها دونهم . والمؤمنون على الأرائك ينظرون إلى عذاب عدوهم . قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى .

قوله تعالى: هل ثوب الكفار وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو: " هل ثوب " بإدغام اللام . أي: هل جوزوا وأثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الاستفهام بمعنى التقرير .

سُورَةُ الِانْشِقَاقِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور .

قوله تعالى: إذا السماء انشقت قال المفسرون: انشقاقها من علامات الساعة . وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن . [الفرقان: 225، الرحمن: 37، الحاقة: 16] وأذنت لربها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا:


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


[ ص: 63 ] وحقت أي: حق لها أن تطيع ربها الذي خلقها وإذا الأرض مدت قال ابن عباس: تمد مد الأديم، ويزاد في سعتها . وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناء إلا دخل فيها .

قوله تعالى: وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلت أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء . واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال .

أحدها: أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردد في القرآن .

والثاني: أنه يا أيها الإنسان ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس ترون ما عملتم، فيجعل: يا أيها الإنسان هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، كأن المعنى: يرى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت، وذكر القولين الفراء .

والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت " قاله المبرد .

والرابع: أن الجواب مدلول عليه بقوله تعالى: " فملاقيه " . فالمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزجاج .

قوله تعالى: إنك كادح إلى ربك كدحا فيه قولان .

أحدهما: إنك عامل لربك عملا، قاله ابن عباس .

والثاني: ساع إلى ربك سعيا، قاله مقاتل . قال الزجاج: و " الكدح " في اللغة: السعي، والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة . قال تميم بن مقبل:


وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح


[ ص: 64 ] وفي قوله تعالى: إلى ربك قولان .

أحدهما: عامل لربك . وقد ذكرناه عن ابن عباس .

والثاني: إلى لقاء ربك، قاله ابن قتيبة . وفي قوله تعالى: فملاقيه قولان .

أحدهما: فملاق عملك . والثاني: فملاق ربك، كما ذكرهما الزجاج .

قوله تعالى: فسوف يحاسب حسابا يسيرا وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له . وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " ؟! قال: ذلك العرض . قوله تعالى: وينقلب إلى أهله يعني: في الجنة من الحور العين والآدميات مسرورا بما أوتي من الكرامة وأما من أوتي كتابه وراء ظهره قال المفسرون: تغل يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كل من وقع في هلكة .

قوله تعالى: ويصلى سعيرا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: " ويصلى " بضم الياء، وتشديد اللام . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة: " ويصلى " بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها . وقد شرحناه في سورة [النساء: 11] .

[ ص: 65 ] قوله تعالى: إنه كان في أهله يعني في الدنيا مسرورا باتباع هواه، وركوب شهواته إنه ظن أن لن يحور أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر . قال اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد:


وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع



بلى إن ربه كان به بصيرا فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون .

قوله تعالى: بلى قال الفراء: المعنى: بلى ليحورن، ثم استأنف، فقال تعالى: إن ربه كان به بصيرا قال المفسرون: بصيرا على جميع أحواله .

قوله تعالى: فلا أقسم قد سبق بيانه .

فأما " الشفق " فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض، فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل .

وللمفسرين في المراد " بالشفق " هاهنا ستة أقوال .

أحدها: الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس . وقد روى ابن [ ص: 66 ] عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الشفق: الحمرة " ، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيب، وابن جبير، وطاووس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج . قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ: كأنه الشفق، وكان أحمر .

والثاني: أنه النهار .

والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد .

والرابع: ما بقي من النهار، قاله عكرمة .

والخامس: السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر محمد بن علي .

والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز .

قوله تعالى: والليل وما وسق أي: وما جمع وضم . وأنشدوا:


إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا


[ ص: 67 ] قال أبو عبيدة: وما وسق ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها . وقال بعضهم: معنى: " ما وسق " : ما جمع مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه إلى مأواه .

قوله تعالى: والقمر إذا اتسق قال الفراء: اتساقه: اجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ست عشرة .

قوله تعالى: لتركبن طبقا عن طبق قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: " لتركبن " بفتح التاء والباء، وفي معناه قولان .

أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم في معناه قولان . أحدهما: لتركبن سماء بعد سماء، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد . والثاني: لتركبن حالا بعد حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيكم .

والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء . والمعنى: أنها تتغير ضروبا من التغيير، فتارة كالمهل، وتارة كالدهان، روي عن ابن مسعود أيضا .

وقرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " لتركبن " بفتح التاء، وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس . ومعناه: لتركبن حالا بعد حال . وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب " ليركبن " بالياء، ونصب الباء . وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر " ليركبن " بالياء، وضم الباء . و " عن " بمعنى " بعد " . وهذا قول عامة المفسرين واللغويين، وأنشدوا للأقرع بن حابس .


إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق


[ ص: 68 ] ثم في معنى الكلام خمسة أقوال .

أحدها: أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، [قاله الحسن .

والثالث: أنه كون الإنسان رضيعا ثم فطيما ثم غلاما شابا ثم شيخا]، قاله عكرمة .

والرابع: أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعا، ويتضع من كان مرتفعا، وهذا مذهب سعيد بن جبير .

والخامس: أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة .

وكان بعض الحكماء يقول: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه .

قوله تعالى: فما لهم يعني: كفار مكة لا يؤمنون أي: لا يؤمنون بمحمد والقرآن، وهو استفهام إنكار وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون فيه قولان .

أحدهما: لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب .

[ ص: 69 ] والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى . قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه .

قوله تعالى: بل الذين كفروا يكذبون بالقرآن، والبعث، والجزاء والله أعلم بما يوعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب . قال ابن قتيبة: " يوعون " : يجمعون في قلوبهم . وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم .

قوله تعالى: فبشرهم بعذاب أليم أي: أخبرهم بذلك . وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذاب الأليم . و " الممنون " عند أهل اللغة: المقطوع .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #537  
قديم 24-08-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ الْبُرُوجِ
الحلقة (537)
صــ 70 إلى صــ 84





سُورَةُ الْبُرُوجِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .

قوله تعالى: والسماء ذات البروج قد ذكرنا البروج في [الحجر: 16] واليوم الموعود هو يوم القيامة بإجماعهم وشاهد ومشهود فيه أربعة وعشرون قولا .

[ ص: 71 ] أحدها: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد . فعلى هذا سمي يوم الجمعة شاهدا، لأنه يشهد على كل عامل بما فيه، وسمي يوم عرفة مشهودا، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة .

والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر .

والثالث: أن الشاهد: الله عز وجل، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس .

والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس .

والخامس: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي .

والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله .

[ ص: 72 ] والسابع: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الضحاك .

والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب .

والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير .

والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك .

والحادي عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

والثاني عشر: أن الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة .

الثالث عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار .

والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود: الله عز وجل، قاله محمد بن كعب .

والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم .

والسادس عشر: أن الشاهد: عيسى عليه السلام، والمشهود: أمته، قاله أبو مالك . ودليله قوله تعالى: وكنت عليهم شهيدا [المائدة: 117] .

والسابع عشر: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [النساء: 41] .

[ ص: 73 ] الثامن عشر: أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله لتكونوا شهداء على الناس [البقرة: 143] .

والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه .

والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد .

والحادي والعشرون: أن الشاهد: الحجر الأسود، والمشهود: الحاج .

والثاني والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه وإذ أخذ الله ميثاق النبيين . . . الآية [آل عمران: 81] .

والثالث والعشرون: أن الشاهد: الله عز وجل، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران: 18]، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي .

والرابع والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم السلام، والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .

وفي جواب القسم ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه قوله تعالى: إن بطش ربك لشديد قاله قتادة، والزجاج .

[ ص: 74 ] والثاني: أنه قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود ، كما أن القسم في قوله تعالى: والشمس وضحاها قد أفلح ، حكاه الفراء .

والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير .

قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود أي: لعنوا . والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع: أخاديد . وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقوا فيها من لم يكفر .

واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال .

أحدها: أنه ملك كان له ساحر فبعث إليه غلاما يعلمه السحر، وكان الغلام يمر على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به الملك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله رب الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخد الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في " المغني " و " الحدائق " بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني: أن ملكا من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها: [ ص: 75 ] ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز وجل قد أحل نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسوه، خطبتهم فحرمته . ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السوط، ثم جرد السيف، فأبوا، فخد لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله علي بن أبي طالب .

والثالث: أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر كفارهم، فأخذوهم، فقال له رجل من المؤمنين: أوقدوا نارا، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتبعكم أقحم النار فاسترحتم منه، ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة .

والرابع: أن قوما من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا، فخد لهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس .

والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى، فخد لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود " وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل .

والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنما، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، [ ص: 76 ] فعلموا بهم، فخدوا لهم أخدودا، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج .

واختلفوا في الذين أحرقوا على خمسة أقوال .

أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله علي كرم الله وجهه .

والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس .

والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن . وقال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة .

والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد .

والخامس: من النبط، قاله عكرمة .

وفي عددهم ثلاثة أقوال .

أحدها: اثنا عشر ألفا، قاله وهب .

والثاني: سبعون ألفا، قاله ابن السائب .

[ ص: 77 ] والثالث: ثمانون رجلا، وتسعة نسوة، قاله مقاتل .

قوله تعالى: النار ذات الوقود هذا بدل من " الأخدود " كأنه قال: قتل أصحاب النار . و " الوقود " مفسر في [البقرة: 24] . وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة " الوقود " بضم الواو إذ هم عليها قعود أي: عند النار . وكان الملك وأصحابه جلوسا على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألقوه وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود أي: حضور، فأخبر الله عز وجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم .

قوله تعالى: وما نقموا منهم قرأ ابن أبي عبلة " نقموا " بكسر القاف . قال الزجاج: أي: ما أنكروا عليهم إيمانهم . وقد شرحنا معنى " نقموا " في [المائدة: 59] و [براءة: 74] وشرحنا معنى " العزيز الحميد " في [البقرة: 129، 267] .

قوله تعالى: والله على كل شيء شهيد أي: لم يخف عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا .

قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي: أحرقوهم، وعذبوهم . كقوله تعالى: يوم هم على النار يفتنون [الذاريات: 13] ثم لم يتوبوا من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين فلهم عذاب جهنم بكفرهم ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابين في جهنم عند الأكثرين . وذهب الربيع بن [ ص: 78 ] أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا . قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسهم النار . وحكى الفراء أن المؤمنين نجوا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة .

قوله تعالى: ذلك الفوز الكبير لأنهم فازوا بالجنة . وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة .

قوله تعالى: إن بطش ربك قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة والجبابرة لشديد .

قوله تعالى: إنه هو يبدئ ويعيد فيه قولان .

أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور .

والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس . وقد شرحنا في [هود: 90] معنى " الودود " .

قوله تعالى: ذو العرش المجيد وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم " المجيد " بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع " المجيد " جعله من صفات الله عز وجل، ومن كسر جعله من صفة العرش .

قوله تعالى: هل أتاك حديث أي: قد أتاك حديث الجنود وهم الذين تجندوا على أولياء الله . ثم بين من هم، فقال تعالى: فرعون وثمود بل الذين كفروا يعني: مشركي مكة في تكذيب لك والقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم والله من ورائهم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بل هو [ ص: 79 ] قرآن مجيد أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون بشعر، ولا كهانة، ولا سحر . وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع: " بل هو قرآن مجيد " بغير تنوين وبخفض " مجيد " في لوح محفوظ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله، محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه . وقرأ نافع " محفوظ " رفعا على نعت القرآن . فالمعنى: أنه محفوظ من التحريف والتبديل .

سُورَةُ الطَّارِقِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر .

قوله تعالى: والسماء والطارق قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي: يطلع ليلا، وكل من أتاك ليلا، فقد طرقك . ومنه قول هند ابنة عتبة:


نحن بنات طارق نمشي على النمارق


تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوه

قوله تعالى: وما أدراك ما الطارق قال المفسرون: ذلك أن هذا الاسم [ ص: 81 ] يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله تعالى: النجم الثاقب يعني: المضيء، كما بينا في [الصافات: 10] .

وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه زحل، قاله علي رضي الله عنه . وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد .

والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد .

والثالث: أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

قوله تعالى: إن كل نفس قرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل [إن] بالتشديد " كل " بالنصب لما عليها حافظ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم الجحدري، وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب " لما " بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف . قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لعليها حافظ و " ما " لغو . ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت " لما " في موضع [ ص: 82 ] " إلا " في موضعين . أحدهما: هذا . والآخر: في باب القسم . تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت . قال المفسرون: المعنى: ما من نفس إلا عليها حافظ . وفيه قولان .

أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس . قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر .

والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلمه إلى المقادير، قاله الفراء . ثم نبه على البعث بقوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق أي: من أي شيء خلقه الله؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته .

قوله تعالى: من ماء دافق قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب . سر كاتم، وهم ناصب، وليل نائم، وعيشة راضية . وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا . قال الزجاج: ومذهب سيبويه، وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماء ذي اندفاق .

قوله تعالى: يخرج من بين الصلب قرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة " الصلب " بضم الصاد، واللام جميعا . يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة . قال الفراء: يريد يخرج من الصلب والترائب . يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير . بمعنى: يخرج منهما .

[ ص: 83 ] وفي " الترائب " ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس . قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب: موضع القلادة من الصدر، وأنشدوا لامرئ القيس:


مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل


قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: السجنجل: المرآة بالرومية . وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب . ويروى: البيت " بالسجنجل " .

والثاني: أن الترائب: اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك .

والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزجاج .

قوله تعالى: إنه الهاء كناية عن الله عز وجل على رجعه الرجع: رد الشيء إلى أول حاله . وفي هذه الهاء قولان .

أحدهما: أنها تعود على الإنسان . ثم فيه قولان . أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حيا بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة . قال الزجاج: ويدل على هذا القول قوله تعالى: يوم تبلى السرائر . والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر [ ص: 84 ] إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضحاك .

والقول الثاني: أنها تعود إلى الماء . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد . والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك . والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد .

قوله تعالى: يوم تبلى السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سر، فكان زينا في الوجه، أو شينا . وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب .

قوله تعالى: فما له من قوة أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #538  
قديم 24-08-2024, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ الْأَعْلَى
الحلقة (538)
صــ 85 إلى صــ 99






والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .

قوله تعالى: والسماء ذات الرجع أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعا لأنه يجيء ويرجع ويتكرر والأرض ذات الصدع أي: ذات الشق، وقيل لها هذا، لأنها تتصدع وتتشقق بالنبات، هذا قول المفسرين وأهل اللغة في الحرفين .

قوله تعالى: إنه لقول فصل يعني به القرآن، وهذا جواب القسم . [ ص: 85 ] والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وما هو بالهزل أي: باللعب . والمعنى: أنه جد، ولم ينزل باللعب . وبعضهم يقول: الهاء في " إنه " كناية عن الوعيد المتقدم ذكره .

قوله تعالى: إنهم يعني مشركي مكة يكيدون كيدا [أي: يحتالون] وهذا الاحتيال المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة . وأكيد كيدا أي: أجازيهم [على كيدهم] بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار . فمهل الكافرين هذا وعيد من الله لهم . ومهل وأمهل لغتان جمعتا هاهنا . ومعنى الآية: مهلهم قليلا حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك ببدر، ونسخ الإمهال بآية السيف . قال ابن قتيبة: ومعنى " رويدا " مهلا، ورويدك بمعنى أمهل . قال تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي: أمهلهم قليلا، فإذا لم يتقدمها " أمهلهم " كانت بمعنى " مهلا " . ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأمورا بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر .

قال الشاعر:


كأنها مثل من يمشي على رود


أي: على مهل .

سُورَةُ الْأَعْلَى
وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا .

[ ص: 87 ] وفي معنى سبح خمسة أقوال .

أحدها: قل: سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور .

والثاني: عظم .

والثالث: صل بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس .

والرابع: نزه ربك عن السوء، قاله الزجاج .

والخامس: نزه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثعلبي .

وفي قوله تعالى: اسم ربك قولان .

أحدهما: أن ذكر الاسم صلة، كقول لبيد بن ربيعة:


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر


[ ص: 88 ] والثاني: أنه أصلي . وقال الفراء: [سبح ربك، و]سبح اسم ربك سواء في كلام العرب .

قوله تعالى: الذي خلق فسوى أي: فعدل الخلق . وقد أشرنا إلى هذا المعنى في [الانفطار: 7] والذي قدر قرأ الكسائي وحده " قدر " بالتخفيف فهدى فيه سبعة أقوال .

أحدها: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد .

والثاني: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء .

والثالث: قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي .

والرابع: قدرهم ذكورا وإناثا، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل .

[ ص: 89 ] والخامس: أن المعنى: قدر فهدى وأضل، فحذف " وأضل " ، لأن في الكلام دليلا على ذلك، حكاه الزجاج .

والسادس: قدر الأرزاق، وهدى إلى طلبها .

والسابع: قدر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثعلبي .

قوله تعالى: والذي أخرج المرعى أي: أنبت العشب، وما ترعاه البهائم فجعله بعد الخضرة غثاء قال الزجاج: أي: جففه حتى جعله هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل . وقد بينا هذا في سورة [المؤمنين: 41] فأما قوله تعالى: أحوى فقال الفراء: الأحوى: الذي قد اسود عن القدم، والعتق، ويكون أيضا: أخرج المرعى أحوى: أسود من الخضرة، فجعله غثاء كما قال تعالى: مدهامتان [الرحمن: 64] .

قوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى قال مقاتل: سنعلمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبدا .

قوله تعالى: إلا ما شاء الله فيه ثلاثة أقوال .

[ ص: 90 ] أحدها: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة .

والثاني: إلا ما شاء الله أن تنسى شيئا، فإنما هو كقوله تعالى: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [هود: 107]، فلا يشاء .

قوله تعالى: إنه يعلم الجهر من القول والفعل وما يخفى منهما ونيسرك لليسرى أي: نسهل عليك عمل الخير فذكر أي: عظ أهل مكة إن نفعت الذكرى وفي " إن " ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها الشرطية، وفي معنى الكلام قولان، أحدهما: إن قبلت الذكرى، قاله يحيى بن سلام . والثاني: إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري .

والثاني: أنها بمعنى " قد " ، فتقديره: قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل .

والثالث: أنها بمعنى " ما " فتقديره: فذكر ما نفعت الذكرى، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: سيذكر سيتعظ بالقرآن من يخشى ويتجنبها [ ص: 91 ] ويتجنب الذكرى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى أي: العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه . وقال ابن جرير: تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا .

قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .

قوله تعالى: قد أفلح قال الزجاج: أي: صادف البقاء الدائم، والفوز من تزكى فيه خمسة أقوال .

أحدها: من تطهر [من] الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس .

والثاني: من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة .

والثالث: من كان عمله زاكيا، قاله الحسن، والربيع .

والرابع: أنها زكوات الأموال كلها: قاله أبو الأحوص .

والخامس: تكثر بتقوى الله . ومعنى الزاكي: النامي الكثير، قاله الزجاج .

قوله تعالى: وذكر اسم ربه قد سبق بيانه [الأحزاب : 31] .

وفي قوله تعالى: فصلى ثلاثة أقوال .

أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل .

[ ص: 92 ] والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري .

والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص . والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد .

قوله تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب: " بل يؤثرون " بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أبي بن كعب: " بل أنتم تؤثرون " . فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى: أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها، وإن أريد به المسلمون، فالمعنى: يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الاستحسان من الثواب . قال ابن مسعود: إن الدنيا عجلت لنا، وإن الآخرة نعتت لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل [وتركنا الآجل] .

قوله تعالى: ( والآخرة خير لك ) يعني: الجنة أفضل وأبقى أي: أدوم من الدنيا .

إن هذا لفي الصحف الأولى في المشار إليه أربعة أقوال .

[ ص: 93 ] أحدها: أنه قوله تعالى: والآخرة خير وأبقى قاله قتادة .

والثاني: هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي .

والثالث: أنه لم يرد [أن معنى] السورة [في الصحف الأولى]، ولا الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة .

والرابع: أنه من قوله تعالى: قد أفلح من تزكى إلى قوله: وأبقى قاله ابن جرير .

ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال: صحف إبراهيم وموسى وقد فسرناها في [النجم: 36] .

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع .

قوله تعالى: هل أتاك أي: قد أتاك، قاله قطرب . وقال الزجاج: والمعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك .

وفي " الغاشية " قولان .

أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة .

والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل .

[ ص: 95 ] قوله تعالى: وجوه يومئذ خاشعة أي: ذليلة وفيها قولان .

أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام .

قوله تعالى: عاملة ناصبة فيه أربعة أقوال .

أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم .

والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها [لم] تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن . وقال قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب . قال الضحاك: يكلفون ارتقاء جبل في النار . وقال ابن السائب: يخرون على وجوههم في النار . وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب .

والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة، والسدي . والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها . وقد بينا معنى " النصب " في قوله تعالى: لا يمسهم فيها نصب [الحجر: 48] .

[ ص: 96 ] قوله تعالى: تصلى نارا حامية قرأ أهل البصرة وعاصم إلا حفصا " تصلى " بضم التاء . والباقون بفتحها . قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تسقى من عين آنية أي: متناهية في الحرارة . قال الحسن: وقد [أوقدت] عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها [وردا] عطاشا .

قوله تعالى: ليس لهم طعام إلا من ضريع فيه ستة أقوال .

أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش " الشبرق " فإذا هاج سموه: ضريعا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة .

والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس .

والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير .

والرابع: أنه السلم، قاله أبو الجوزاء .

والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد .

[ ص: 97 ] والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان .

قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يسمن ولا يغني من جوع وكذبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا، وحينئذ يسمى شبرقا، لا ضريعا، فإذا يبس يسمى: ضريعا لم يأكله شيء .

فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: " ليس لهم طعام إلا من ضريع " وفي مكان آخر ولا طعام إلا من غسلين [الحاقة: 36] فكيف الجمع بينهما؟

فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طعامه الزقوم، [ومنهم] من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد . قاله ابن قتيبة .

وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم .

[ ص: 98 ] قوله تعالى: وجوه يومئذ ناعمة أي: في نعمة وكرامة لسعيها في الدنيا راضية والمعنى: رضيت بثواب عملها في جنة عالية قد فسرناه في " الحاقة " [آية: 22] لا تسمع فيها لاغية قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، ورويس " لا يسمع " بياء مضمومة . " لاغية " بالرفع . وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاء مضمومة، والباقون بتاء مفتوحة، ونصب " لاغية " والمعنى: لا تسمع فيها كلمة [لغو] فيها سرر مرفوعة قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وأكواب موضوعة عندهم وقد ذكرنا " الأكواب " في [الزخرف: 71] ونمارق وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون . قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نمرقة، بكسر النون والراء مصفوفة بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس [التي] لها خمل رقيق [مبثوثة] كثيرة . قال ابن قتيبة: كثيرة مفرقة . قال المفسرون: لما نعت الله سبحانه ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفرة، فذكرهم صنعه، فقال تعالى: أفلا ينظرون [ ص: 99 ] إلى الإبل وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع [سرر] الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية . قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أنفس أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العبر الدالة على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم [و] من عجيب خلقها، وهي على عظمها مذللة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها . وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو: " الإبل " بإسكان الباء، وتخفيف اللام . وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو: " الإبل " بكسر الباء، وتشديد اللام . قال هارون: قال أبو عمرو: " الإبل " بتشديد اللام: السحاب الذي يحمل الماء .

قوله تعالى: كيف خلقت وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة " خلقت " بفتح الخاء، وضم التاء .

وكذلك قرؤوا: " رفعت " و " نصبت " و " سطحت " .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #539  
قديم 24-08-2024, 08:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سورة الفجر
الحلقة (539)
صــ 100 إلى صــ 118






قوله تعالى: وإلى السماء كيف رفعت من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد وإلى الجبال كيف نصبت على الأرض لا تزول ولا تتغير وإلى الأرض كيف سطحت أي: بسطت . والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على [قدرة] خالقه فذكر أي: عظ إنما أنت مذكر أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله تعالى: لست عليهم بمصيطر أي: بمسلط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان . ثم نسختها آية السيف . وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والحلواني عن ابن عامر: " بمسيطر " بالسين . وقد سبق بيان " المسيطر " في قوله تعالى: أم هم المصيطرون [الطور: 37] .

قوله تعالى: إلا من تولى وهذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وكفر بعد التذكر . وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير: " ألا من تولى " بفتح الهمزة وتخفيف اللام فيعذبه الله العذاب الأكبر وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عذبوا في الدنيا [ ص: 101 ] بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إن إلينا إيابهم قرأ أبي بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر: " إيابهم " بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثم إن علينا حسابهم قال مقاتل: أي: جزاءهم .

سورة الفجر

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد .

قوله تعالى: والفجر قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظلمة عن الصبح، وانفجر الماء: انبجس . قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال: انفجر النهر ينفجر انفجارا: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء، ومن هذا سمي الفاجر فاجرا، لأنه خرج عن طاعة الله .

وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال .

[ ص: 103 ] أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله علي رضي الله عنه . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي .

والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس .

والثالث: النهار كله، فعبر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس .

والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد .

والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك .

والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة .

قوله تعالى: وليال عشر فيها أربعة أقوال .

أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل .

[ ص: 104 ] والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك .

والرابع: العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب .

قوله تعالى: والشفع والوتر قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " والوتر " بكسر الواو، وفتحها الباقون، وهما لغتان . قال الفراء: الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز .

وللمفسرين في " الشفع والوتر " عشرون قولا .

أحدها: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة، [رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك] .

[ ص: 105 ] والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال قتادة .

[ ص: 106 ] والرابع: [أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى]، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح .

والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس .

والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النفر الأخير، قاله عبد الله بن الزبير، واستدل بقوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه [البقرة: 203] .

والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية .

والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس .

والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد، ومجاهد في رواية .

والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن .

والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام [منى] الثلاثة، قاله الضحاك .

[ ص: 107 ] والثاني عشر: أن الشفع: هو الله، لقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [المجادلة: 7] والوتر: هو الله، لقوله تعالى: قل هو الله أحد ، قاله سفيان بن عيينة .

والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء . والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان .

والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة [بعده]، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان .

والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دركات النار لأنها سبع، فكأن الله أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل .

والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عز وذل، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة . والوتر: انفراد صفات الله عز وجل: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الوراق .

والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت .

والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس .

والتاسع عشر: أن الشفع: القران بين الحج والتمتع، والوتر: الإفراد .

والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة، كالصلاة، والصوم، والزكاة، [ ص: 108 ] والوتر: العبادة التي لا تتكرر، وهو الحج، حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي .

قوله تعالى: والليل إذا يسر وقرأ ابن كثير، ويعقوب: " يسري " بياء في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع، وأبو عمرو . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " يسر " بغير ياء في الوصل والوقف . قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتباع المصحف . وفي قوله تعالى: والليل إذا يسر قولان .

أحدهما: أن الفعل له، ثم فيه قولان . أحدهما: إذا يسري ذاهبا، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج . والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة .

والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة .

وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر .

والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جمع: قاله مجاهد وعكرمة .

والثالث: ليلة القدر، حكاه الماوردي .

[ ص: 109 ] قوله تعالى: هل في ذلك أي: [هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها] قسم لذي حجر أي: لذي عقل، وسمي العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلا، لأنه يعقل عما لا يحسن، وسمي العقل النهى، لأنه ينهى عما لا يحل . ومعنى الكلام: أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته . وجواب القسم قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد فاعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد فخوف أهل مكة بإهلاك من كان أشد منهم . وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر: " بعاد إرم " بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة .

وفي " إرم " أربعة أقوال .

أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفراء . ولم يجر " إرم " لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، [ ص: 110 ] وخالد الربعي . والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب . والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب . وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .

والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد .

والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل . قال الزجاج: [ ص: 111 ] وإنما لم تنصرف " إرم " لأنها جعلت اسما للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض .

والرابع: أنه اسم لجد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن إسحاق . قال الفراء: فإن كان اسما لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجمي، قال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: هي إرم، وهي التي قال الله تعالى: وأنه أهلك عادا الأولى [النجم: 50] .

وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم .

وفي قوله تعالى: إرم ذات العماد أربعة أقوال .

أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء .

والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة . قال الزجاج: يقال: رجل معمد: إذا كان طويلا .

[ ص: 112 ] والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك .

والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد . وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناء بناه بعضهم .

قوله تعالى: التي لم يخلق مثلها في البلاد وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: " لم تخلق " بتاء مفتوحة ورفع اللام " مثلها " بنصب اللام .

وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: " لم نخلق " بنون مفتوحة، ورفع اللام . " مثلها " بنصب اللام .

وفي المشار إليها قولان .

أحدهما: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهذا معنى قول الحسن .

والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة .

وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة . وهذه الإشارة إلى ذلك .

روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة . فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله، فلم ير خارجا ولا داخلا، فنزل عن دابته، وعقلها، وسل سيفه، ودخل من باب [ ص: 113 ] الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين [لم ير أعظم منهما] والبابان مرصعان بالياقوت [الأبيض و]الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كل قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت . ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضا، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران . فلما عاين ذلك، ولم ير أحدا، هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة . فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه . وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه، فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة: [ ص: 114 ] " إرم ذات العماد " ، قال: فحدثني حديثها، فقال: إن عادا المنسوب إليهم عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد . فلما مات [عاد]، ثم مات شديد وبقي شداد، ملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعا بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى . فأمر بصنع " إرم ذات العماد " ، فأمر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة، فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند [ ص: 115 ] كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا ذلك، فأمر الملك الوزراء -وهم ألف وزير- أن يتهيئوا للنقلة إلى " إرم ذات العماد " ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد .

[ ص: 116 ] وروى الشعبي عن دغفل الشيباني عن علماء حمير قالوا: لما هلك شداد بن عاد ومن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه مرثد بن شداد، وقد كان أبوه خلفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت وأمر [بدفنه] فحفرت له حفيرة في مفازة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب وكتب عليه:


اعتبر يا أيها المغـ ـرور بالعمر المديد

أنا شداد بن عاد
صاحب الحصن المشيد

وأخو القوة والبأ
ساء والملك الحشيد

[ ص: 117 ] دان أهل الأرض طرا
لي من خوف وعيدي

وملكت الشرق والغر
ب بسلطان شديد

وبفضل الملك والعد
ة فيه والعديد

فأتى هود وكنا
في ضلال قبل هود

فدعانا لو قبلنا
ه إلى الأمر الرشيد

فعصيناه ونادى
ما لكم هل من محيد؟

فأتتنا صيحة تهـ
ـوي من الأفق البعيد

فتوافينا كزرع
وسط بيداء حصيد


قوله تعالى: وثمود الذين جابوا الصخر قطعوه ونقبوه . قال إسحاق: والوادي: وادي القرى . وقرأ الحسن: " بالوادي " بإثبات الياء في الحالين وفرعون ذي الأوتاد مفسر في سورة [ص: 12] الذين طغوا في البلاد يعني: عادا، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبروا على أنبياء الله فأكثروا فيها الفساد القتل والمعاصي فصب عليهم ربك سوط عذاب [ ص: 118 ] قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط . وقال الزجاج: [أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب] إن ربك لبالمرصاد أي: يرصد من كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله تعالى: كانت مرصادا [النبإ: 21] .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #540  
قديم 24-08-2024, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء التاسع

سُورَةُ الْبَلَدِ
الحلقة (540)
صــ 119 إلى صــ 133





فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .

قوله تعالى: فأما الإنسان فيمن عنى به أربعة أقوال .

أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني: أبي بن خلف، قاله ابن السائب .

والثالث: أمية بن خلف، قاله مقاتل .

[ ص: 119 ] والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فأكرمه بالمال ونعمه بما وسع عليه من الإفضال فيقول ربي أكرمن فتح ياء " ربي " " أكرمني " " ربي " " أهانني " أهل الحجاز، وأبو عمرو ، أي: فضلني بما أعطاني، ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وأما إذا ما ابتلاه بالفقر فقدر عليه رزقه وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: " فقدر " بتشديد الدال، والمعنى: ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فيقول ربي أهانن أي: هذا الهوان منه لي حين أذلني بالفقر .

واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قلتها .

[ ص: 120 ] قوله تعالى: كلا أي: ليس الأمر كما يظن . قال مقاتل: ما أعطيت [من أغنيت] هذا الغنى لكرامته علي، ولا أفقرت [من] أفقرت لهوانه علي، وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى . ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى: بل لا تكرمون اليتيم قرأ أهل البصرة " يكرمون " و " يحضون " و " يأكلون " و يحبون " بالياء فيهن، والباقون بالتاء . ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم . والآية تحتمل معنيين .

أحدهما: أنهم كانوا لا يبرونه .

والثاني: لا يعطونه حقه من الميراث، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان . ويدل على المعنى الأول قوله تعالى: ولا تحاضون على طعام المسكين قرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة " تحاضون " بألف مع فتح التاء . وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء . والمعنى: لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة . ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى: وتأكلون التراث أكلا لما قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واو، [ ص: 121 ] كما قالوا: تجاه، والأصل: وجاه، وقالوا: تخمة، والأصل: وخمة .

و لما أي: شديدا، وهو من قولك: لممت بالشيء: إذا جمعته، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى .

قوله تعالى: وتحبون المال أي: تحبون جمعه حبا جما أي: كثيرا فلا تنفقونه في خير كلا أي: ما هكذا ينبغي أن يكون [الأمر] . ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال تعالى: إذا دكت الأرض دكا دكا أي: مرة بعد مرة، فتكسر كل شيء عليها، وجاء ربك قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله [البقرة: 210] .

قوله تعالى: والملك صفا صفا أي: تأتي [ملائكة] كل سماء صفا [صفا] على حدة . قال الضحاك: يكونون سبعة صفوف، وجيء يومئذ بجهنم روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله [ ص: 122 ] صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع [كل زمام] سبعون ألف ملك يجرونها " . قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش .

قوله تعالى: يومئذ أي: يوم يجاء بجهنم يتذكر الإنسان أي: يتعظ الكافر ويتوب . قال مقاتل: هو أمية بن خلف وأنى له الذكرى أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يقول يا ليتني قدمت العمل الصالح في الدنيا لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها فيومئذ لا يعذب عذابه أحد قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل: " لا يعذب " بفتح الذال، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة .

[ ص: 123 ] قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي .

والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك .

والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل .

والرابع: في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حكاه الماوردي .

والخامس: [في] جميع المؤمنين، قاله عكرمة .

وفي معنى " المطمئنة " ثلاثة أقوال .

أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس . وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان .

والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد .

والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة .

واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين .

أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون .

والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، والضحاك .

[ ص: 124 ] وفي قوله تعالى: ارجعي إلى ربك راضية أربعة أقوال .

أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنت في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك .

والثاني: ارجعي إلى ربك بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح .

والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن .

والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة [إلى الدنيا] ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: فادخلي في عبادي أي: في جملة عبادي المصطفين . قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فادخلي في عبادي وقال الفراء: ادخلي مع عبادي . وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران: " في عبدي " على التوحيد . قال الزجاج: فعلى هذه القراءة -والله أعلم- [ ص: 125 ] يكون المعنى: ارجعي إلى ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجت منه، فادخلي فيه .

سُورَةُ الْبَلَدِ

وهي مكية كلها بإجماعهم

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين .

قوله تعالى: لا أقسم قال الزجاج: المعنى: أقسم . و " لا " دخلت توكيدا، كقوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد: 29] وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية: " لأقسم " قال الزجاج: وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول " القيامة " .

قوله تعالى: وأنت حل بهذا البلد فيه ثلاثة أقوال .

[ ص: 127 ] و " البلد " هاهنا: مكة .

أحدها: حل لك ما صنعت في هذا البلد من قتل أو غيره، قاله ابن عباس، ومجاهد . قال الزجاج: يقال: رجل حل، وحلال، ومحل . قال المفسرون: والمعنى: إن الله تعالى وعد نبيه أن يفتح مكة على يديه بأن يحلها له، فيكون فيها حلا .

والثاني: فأنت محل بهذا البلد غير محرم في دخوله، يعني: عام الفتح، قاله الحسن، وعطاء .

والثالث: أن المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: ووالد وما ولد فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: أنه آدم وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة .

[ ص: 128 ] والثاني: أولاد إبراهيم، وما ولد: ذريته، قاله أبو عمران الجوني .

والثالث: أنه عام في كل والد وما ولد، حكاه الزجاج .

قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم .

وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال .

أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس .

والثاني: أنه أبو الأشدين الجمحي، وقد سبق ذكره، [المدثر: 29، والانفطار: 5] قاله الحسن .

[ ص: 129 ] والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنبا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل .

والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد .

والخامس: الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: في كبد فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: في نصب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، فإنهم قالوا: في شدة . قال الحسن: يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء، لأنه لا يخلو من أحدهما ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة . قال ابن قتيبة: في شدة غلبة ومكابدة لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته .

والثاني: أن المعنى: خلق منتصبا يمشي على رجلين، وسائر الحيوان [ ص: 130 ] غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد: الاستواء والاستقامة .

والثالث: في وسط السماء، قال ابن زيد: " لقد خلقنا الإنسان " يعني: آدم " في كبد " أي: في وسط السماء .

قوله تعالى أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يعني الله عز وجل أي: [أيحسب أن] لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟! يقول أهلكت مالا لبدا أي: كثيرا، قال أبو عبيدة، هو فعل من التلبد، وهو المال الكثير بعضه على بعض . قال ابن قتيبة: وهو المال المتلبد، [ ص: 131 ] كأن بعضه على بعض . قال الزجاج: وهو فعل للكثرة، كما يقال: رجل حطم: إذا كان كثير الحطم . وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر: " لبدا " بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " لبدا " بفتح اللام وتسكين الباء خفيفة . وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد: " لبدا " برفع اللام والباء وتخفيفهما . وقرأ علي، وابن أبي الجوزاء: " لبدا " بكسر اللام، وفتح الباء مخففة .

وفيما قال لأجله ذلك قولان .

أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد، قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق .

والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالا كثيرا، قاله مقاتل . فكأنه ندم على ما أنفق .

قوله تعالى: أيحسب أن لم يره أحد يعني الله عز وجل . والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟! وكان قد ادعى ما لم ينفق .

[ ص: 132 ] قوله تعالى: ألم نجعل له عينين والمعنى: ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه؟!

قوله تعالى: وهديناه النجدين فيه ثلاثة أقوال .

أحدها: سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء . وقال ابن قتيبة: يريد طريق الخير والشر . وقال الزجاج: النجدان: الطريقان الواضحان . والنجد: المرتفع من الأرض، فالمعنى: ألم نعرفه طريق الخير والشر كتبين الطريقين العاليين .

والثاني: سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس . وقال مجاهد: هو سبيل الشقاوة والسعادة .

والثالث: الثديان ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال ابن المسيب، والضحاك، وقتادة .

فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة .

[ ص: 133 ] قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة قال أبو عبيدة: فلم يقتحم العقبة [في الدنيا] . وقال ابن قتيبة: فلا هو اقتحم العقبة . قال الفراء: لم يضم إلى قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة كلاما آخر فيه " لا " ، والعرب لا تكاد تفرد " لا " في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى: فلا صدق ولا صلى [القيامة: 31]، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62] . ومعنى " لا " مأخوذ من آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال: فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ثم كان من الذين آمنوا ففسرها بثلاثة أشياء . فكأنه كان في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا، وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام، والمعنى: فهلا أنفق ماله في فك الرقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! .

فأما: الاقتحام فقد بيناه في [ص: 59] .

وفي العقبة سبعة أقوال .

أحدها: أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 471.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 466.00 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]