شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4474 - عددالزوار : 958993 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4009 - عددالزوار : 479421 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح منطقة الأنف وتوحيد لون البشرة.. هتحسى بفرق كبير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 206 )           »          7 قطع لتزيين الحمام بأقل تكاليف.. أبرزها الشموع العطرية والنباتات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 154 )           »          طريقة عمل الكريب في البيت بنصف كوب دقيق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 134 )           »          6 نصائح لاختيار الستائر المثالية للصيف.. تمنح الخصوصية وتساعد في التبريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          مستحضرات العناية بالبشرة مش كفاية.. 4 أسرار لوجه نضر ومشرق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 124 )           »          عصائر طبيعية تعتبر كبسولة النجاح لطلاب الثانوية العامة 2024 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 140 )           »          طريقة عمل البيض باللحم المفرومة.. طبق شهي بأقل المكونات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 141 )           »          4 أشكال لغرف أطفال تناسب جميع الأعمار هتساعدك على الاختيار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 108 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 04-07-2022, 07:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 19الى صــ 32
(41)

قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَمَاعِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَنْعَنٌ أَوْ قَالَ نَافِعٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَلْبَسِ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخُفَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَلَى مَا قَالَ اللَّيْثُ - يَعْنِي مَرْفُوعًا - وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ مَوْقُوفًا، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» ". وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ حَدِيثٍ.
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرْتُ لِابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ - يَعْنِي يَقْطَعُ - الْخُفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ، ثُمَّ حَدَّثَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُفَّيْنِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: " «وَلَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا» " رَوَاهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ» ".
فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ اللِّبَاسِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَحْرُمُ - فَإِنَّهُ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - وَذَلِكَ أَنَّ اللِّبَاسَ إِمَّا أَنْ يُصْنَعَ فَقَطْ فَهُوَ الْقَمِيصُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجُبَّةِ وَالْفَرُّوجِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لِلرَّأْسِ فَقَطْ وَهُوَ الْعِمَامَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ لَهُمَا وَهُوَ الْبُرْنُسُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ لِلْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقِ وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ تُبَّانٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ لِلرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ وَنَحْوُهُ. وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَإِنَّهُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَلَا يَفْتِقُهُ. بَلْ يَلْبَسُهُ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَمُهَنَّا وَإِسْحَاقَ وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
وَرَوَى عَنْهُ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: " «وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ الرِّوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - وَهُوَ مُقَيَّدٌ - فَيُقْضَى بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ وَالسَّبَبَ وَاحِدٌ وَفِي مِثْلِ هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وِفَاقًا. ثُمَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ حَفِظَهَا ابْنُ عُمَرَ وَلَمْ يَحْفَظْهَا غَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ زِيَادَةٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» " وَفِي لَفْظٍ " «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ مُسْلِمٌ: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ " «يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ» " غَيْرُ شُعْبَةٍ وَحْدَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ: " «مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا وَوَجَدَ سَرَاوِيلَ فَلْيَلْبَسْهُ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَوَجَدَ خُفَّيْنِ، فَلْيَلْبَسْهُمَا " قُلْتُ: وَلَمْ يَقُلْ: لِيَقْطَعْهُمَا؟ "قَالَ: لَا» ".
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً فَلَمَّا انْصَرَفَ لَبَّى، وَلَبَّى الْقَوْمُ - وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ فَلَبَّى مَعَهُمْ كَمَا لَبَّوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السَّرَاوِيلُ إِزَارُ مَنْ لَا إِزَارَ لَهُ، وَالْخِفَافُ نَعْلَانِ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ» " رَوَاهُ النَّجَّادُ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: " «رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَطُوفُ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: تَطُوفُ وَعَلَيْكَ خُفَّانِ؟! فَقَالَ: لَقَدْ لَبِسَهُمَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ فِي شَرْحِهِ، وَرَوَاهُ النَّجَّادُ، وَلَفْظُهُ: " «فَرَأَى عَلَيْهِ خُفَّيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ".
فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ وَالسَّرَاوِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِزَارِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَغْيِيرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِفِدْيَةٍ، وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ كَانَ بِعَرَفَاتٍ وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ وَلَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ يَتَعَلَّمُونَ وَبِهِ يَقْتَدُونَ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.
فَلَوْ وَجَبَ تَغْيِيرُهُمَا، أَوْ وَجَبَتْ فِيهِمَا فِدْيَةٌ: لَوَجَبَ بَيَانُ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَمَنْ جَهِلَ جَوَازَ لُبْسِ الْإِزَارِ وَالْخُفَّيْنِ فَهُوَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ أَوِ التَّغْيِيرَ وَأَجْهَلَ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَرَسُولَهُ حَيْثُ أَبَاحَ شَيْئًا لِعُذْرٍ: فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْفِدْيَةَ كَقَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: " «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً أَوِ انْسُكْ شَاةً» ".
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّامَ فِي السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ لِتَعْرِيفِ مَا هُوَ مَعْهُودٌ وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَذَلِكَ هُوَ السَّرَاوِيلُ الصَّحِيحُ وَالْخُفُّ الصَّحِيحُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَقْصُودَ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَفْتُوقَ وَالْمَقْطُوعَ لَا يُسَمَّى سَرَاوِيلًا وَخُفًّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْصَرِفُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ كَقَوْلِهِ " «أَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا» "،وَقَوْلُهُ: " «امْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا فِي خِطَابِ النَّاسِ مِثْلُ الْوِكَالَاتِ وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَرَ بِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَالسَّرَاوِيلِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يُسَمَّى خُفًّا وَسَرَاوِيلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ وَإِنْ سَمَّى خُفًّا وَسَرَاوِيلَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ بِاللَّامِ الَّذِي تَقْتَضِي تَعْرِيفَ الْحَقِيقَةِ، أَوْ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي مُجَرَّدَ الْحَقِيقَةِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَجُوزَ مُسَمَّى الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ وُجُودَ الْمُعَبِّرِ عَنْ هَيْئَةِ الْخِفَافِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ نَادِرٌ جِدًّا لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَصْدٍ، وَاللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ مِنْ مَجَازَاتِهِ؟!.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ أَوْ وَجَبَتْ فِيهِ فِدْيَةٌ: لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ مِقْدَارَ التَّغْيِيرِ الَّذِي يُبِيحُ لُبْسَهُ، أَوْ مِقْدَارَ الْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ.
وَأَيْضًا فَقَدْ رَأَى عَلَى الْأَعْرَابِيِّ سَرَاوِيلَ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ السَّرَاوِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْخُفَّ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُزُرَ وَالنَّعْلَ لَا فِدْيَةَ فِيهِمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَوَّزَ لُبْسَهُمَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ، فَلَوِ افْتَقَرَ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ أَوْ وَجَبَتْ فِدْيَةٌ: لَاسْتَوَى حُكْمُ وُجُودِ الْأَصْلِ وَعَدَمِهِ فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إِذَا غُيِّرَا؛ إِنْ صَارَا بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ وَالنَّعْلِ فَيَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُغَيَّرَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ وَالنَّعْلِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ نَعْلٍ وَنَعْلٍ، وَإِزَارٍ وَإِزَارٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: " «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ» " فَجَعَلَهُمَا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: " «مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ» " وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: " «السَّرَاوِيلُ إِزَارُ مَنْ لَا إِزَارَ لَهُ وَالْخُفَّانِ نَعْلَانِ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ» " وَهَذَا وَاضِحٌ.


وَإِنْ لَمْ يُصَيَّرْ بِالتَّغْيِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ وَالْخُفِّ: فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّغْيِيرِ بَلْ هُوَ إِتْلَافٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا وَإِفْسَادٌ لَهُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ عَامَّةَ الصَّحَابَةِ وَكُبَرَاءَهُمْ عَلَى هَذَا؛ فَرُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: " سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَقَالَ: الْخُفَّانِ نَعْلَانِ لِمَنْ لَا نَعْلَ لَهُ ".
وَعَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ ".
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ ".
«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. قَالَ: " كُنْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - فِي سَفَرٍ - وَمَعَنَا حَادٍ، أَوْ مُغَنٍّ، فَأَتَاهُ عُمَرُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: أَلَا أَرَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ أَذْكُرُ اللَّهَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى عَلَيْهِ خُفَّيْنِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - قَالَ: وَخُفَّيْنِ؟! فَقَالَ: قَدْ لَبِسْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ» ".
وَعَنْ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ خُفَّيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟! فَقَالَ: أَمَرَتْنَا عَائِشَةُ بِهِ ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَزِيَادَتُهُ صَحِيحَةٌ مَحْفُوظَةٌ، وَقَدْ زَعَمَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي اتِّصَالِهِ.
فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ الْقَطْعُ وَتَرْكُهُ؛ فَإِنَّ النَّجَّادَ رَوَى عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ» ".
وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي اتِّصَالِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُتَّصِلَةٌ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ أَبُو دَاوُدَ فِي قَوْلِهِ: " «لَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ: مِنَ النَّاسِ مَنْ وَقَّفَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ عَنَى زِيَادَةَ الْقَطْعِ: فَقَدْ غَلِطَ - عَلَيْهِ - غَلَطًا بَيِّنًا فَاحِشًا.
وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ - عَنْهُ - بِأَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ وَلَا يَقْطَعَهُمَا» " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتَى بِقَطْعِهِمَا، قَالَتْ صَفِيَّةُ فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ بِهَذَا رَجَعَ.
وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ - أَيْضًا - فَإِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ. لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَتْرُوكَةٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُقَالُ فِيهِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَفِظَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، وَغَيْرَهُ عَقَلَهَا وَذَهَلَ عَنْهَا أَوْ نَسِيَهَا؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ حَدِيثَانِ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمَا فِي وَقْتَيْنِ وَمَكَانَيْنِ.
فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ عَلَى مِنْبَرِهِ لَمَّا سَأَلَهُ السَّائِلُ " «عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ» " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ سَمِعْتُهُ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ إِذَا أَحْرَمُوا عَمَّا يُكْرَهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مِنْبَرِهِ بِالْمَدِينَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ " «أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَتَقَدَّمَ فِي لَفْظٍ آخَرَ صَحِيحٍ: " «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا أَحْرَمْنَا»؟ " فَعَلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمُوا.

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعَرَفَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ بُيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْقَطْعَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ فِي حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَجُوَيْرِيَةَ ابْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ: مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ»؟. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ» " هَذَا بَعْدَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حَفِظَهَا ابْنُ عُمَرَ دُونَ غَيْرِهِ: فَقَدْ أَخْطَأَ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ احْتَجَجْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ وَذَاكَ حَدِيثٌ.
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُتَغَايِرَا اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي هَذَا مَا لَيْسَ فِي هَذَا، وَفِي هَذَا مَا لَيْسَ فِي هَذَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَأَخِّرُ، فَإِمَّا أَنْ يُبْنَى عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَيُقَيَّدَ بِهِ، أَوْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ وَيَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِقَطْعِهَا، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ فِي لُبْسِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِلُبْسِ الْخِفَافِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَمُوجَبُ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ لُبْسُ الْخُفِّ الْمَعْرُوفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذِكْرَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ أَوَّلًا بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا بَعْضَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِعَرَفَاتٍ، وَأَكْثَرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاءُوا بِعَرَفَاتٍ مِنَ النَّوَاحِي لَيْسُوا مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ، بَلْ قَوْمٌ حَدِيثُوا عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَفِيهِمُ الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ فِي الْمَوْسِمِ: " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ". فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِلُبْسِ الْخِفَافِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَمُرَادُهُ الْخُفُّ الْمَقْطُوعُ وَالسَّرَاوِيلَاتُ الْمَفْتُوقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ مَقَالِيَّةٌ وَلَا حَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الْقَرَائِنُ تَقْضِي بِخِلَافِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَطْعِ لِنَاسٍ غَيْرِهِمْ. هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ ذَلِكَ تَلْبِيسٌ وَتَأْخِيرٌ لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَمَا هَذَا إِلَّا بِمَثَابَةِ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِخَيَّاطٍ: خِطْ لِي قَمِيصًا أَوْ خُفًّا، فَيَخِيطُ لَهُ صَحِيحًا، فَيَقُولُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ قَمِيصًا نَفِيرًا أَوْ خُفًّا مَقْطُوعًا لِأَنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِذَلِكَ لِلْخَيَّاطِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: وَإِذَا أَمَرْتَ ذَاكَ وَلَمْ تَأْمُرْنِي أَفَأَعْلَمُ الْغَيْبَ، بَلْ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلُبْسِ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ وَسُكُوتُهُ عَنْ تَغْيِيرِهِمَا يَدُلُّ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ سَمِعُوا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ أَرَادَ لُبْسَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَغْيِيرَهُمَا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا، كَمَا فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكْتَفِيًا بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لَاكْتَفَى بِهِ فِي أَصْلِ الْأَمْرِ بِلُبْسِ الْخُفِّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَ، وَلَمْ يُعِدْهُ ثَانِيًا. فَإِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ يَسْتَغْنِي عَنْ صِفَتِهِ وَيَتْرُكُهُ مُلَبَّسًا مُدَلَّسًا، وَقَدْ كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ أَصْلِهِ وَصِفَتِهِ أَوْلَى فِي الْبَيَانِ - لَوْ كَانَ حَاصِلًا بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ - مِنْ ذِكْرِ لَفْظٍ يُفْهِمُ خِلَافَ الْمُرَادِ.
الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ مُطْلَقًا كَمَا نَهَى عَنْ لُبْسِ الْعِمَامَةِ وَالْقَمِيصِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي لُبْسِهِ بِحَالٍ، وَنَهَى عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ إِلَّا إِذَا عُدِمَ النَّعْلُ فَيُلْبَسُ مَقْطُوعًا. فَفَهِمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِعُمُومِ الْخِطَابِ لَهُمَا كَمَا عَمَّهُمُ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ ثَوْبٍ مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَعُمُّهُمُ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ ثَوْبِ الْقَمِيصِ وَالْبَرَانِسِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى سَتْرِ بَدَنِهَا وَرَأْسِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ تُعْلِمُهُ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِهَا حَاجَةٌ إِلَى الْخُفِّ الصَّحِيحِ، فَجَوَّزَ أَنْ تُنْهَى عَنْ لُبْسِ مَا يُصْنَعُ لِرِجْلِهَا كَمَا نُهِيَتْ عَنِ الْقُفَّازِ وَالنِّقَابِ، فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ وَهَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ إِلَّا أَنْ يَفْتِقَهُ، أَوْ يُفْتَدَى بِلُبْسِهِ صَحِيحًا. وَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ عَدَمَ الْإِزَارِ وَالنَّعْلِ لَا يُبِيحُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَذَكَرَ هَذَا فِي ضِمْنِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ سَائِرِ الْمَلَابِسِ؛ مِثْلِ الْعِمَامَةِ وَالْبُرْنُسِ وَالْقَمِيصِ وَالْمَصْبُوغِ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ.

فَمَضْمُونُ هَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ اللِّبَاسِ لِيَجْتَنِبَهُ النَّاسُ فِي إِحْرَامِهِمْ، وَكَانَ قَطْعُ الْخُفِّ إِذْ ذَاكَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ إِتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَيْثُ لَا رُخْصَةَ فِي الْبَدَلِ، ثُمَّ جَاءَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - بَعْدَ هَذَا - بِعَرَفَةَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ، إِنَّمَا فِيهِ: الْأَمْرُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ، وَلِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّ، وَتَرَكَ ذِكْرَ بَقِيَّةِ الْمَلَابِسِ وَهَذَا يُبَيِّنُ لِذِي لُبٍّ أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةٌ بَعْدَ نَهْيٍ حَيْثُ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَيَّامِ الْإِحْرَامِ الْمَشَقَّةَ وَالضَّرُورَةَ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى السَّرَاوِيلَاتِ وَالْخِفَافِ، فَرَخَّصَ فِيهِمَا بَدَلًا عَنِ الْإِزَارِ وَالنَّعْلِ، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ بَقِيَّةِ الْمَلَابِسِ إِذْ لَا بَدَلَ لَهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْبَدَلِ مِنْهَا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 04-07-2022, 07:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 33الى صــ 46
(42)

فَإِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً عَامَّةً إِلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ شَرْعًا، وَبِهِمْ حَاجَةٌ عَامَّةٌ إِلَى الِاحْتِذَاءِ طَبْعًا، فَإِنَّ الِاحْتِفَاءَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ خُصُوصًا عَلَى الْمُسَافِرِينَ فِي مِثْلِ أَرْضِ الْحِجَازِ. وَاقْتَطَعَ ذِكْرَ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ دُونَ غَيْرِهِ: لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ إِنْشَاءُ حُكْمٍ - غَيْرِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ - وَبَيَانُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ إِعَادَةَ مَا كَانَ ذَكَرَهُ بِالْمَدِينَةِ. إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ بَيَانَ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ لَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا، وَأَفْتَى بِمَضْمُونِهِ خِيَارُ الصَّحَابَةِ وَعَامَّتُهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعِ ابْنُ عُمَرَ هَذَا فَبَقِيَ يُفْتِي بِمَا سَمِعَهُ أَوَّلًا.
كَمَا أَنَّ حَدِيثَهُ فِي الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ فِيهِ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ بَعْدُ، وَكَمَا أَفْتَى النِّسَاءَ بِالْقَطْعِ حَتَّى حَدَّثَتْهُ عَائِشَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخِفَافِ مُطْلَقًا»، أَوْ أَنَّهُنَّ لَمْ يَعْنِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ.
وَلِهَذَا أَخَذَ بِحَدِيثِهِ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ فِي أَنَّ السَّرَاوِيلَ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ، وَأَنَّ لَابِسَهُ لِلْحَاجَةِ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ حَدِيثِهِ. فَإِذَا نُسِخَ مُوجَبُ حَدِيثِهِ فِي السَّرَاوِيلِ: نُسِخَ مُوجَبُهُ فِي الْخُفِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا وَسَبِيلُهُمَا وَاحِدٌ.
قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ. . . النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» " قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا، وَلَا أَرَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ سَرَاوِيلَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلَاتِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهَا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا كَمَا اسْتَثْنَى فِي الْخُفَّيْنِ.
فَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا فَهِمَ مِمَّا سَمِعَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: " «الْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ وَالسَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ» " لَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْخُفَّ الْمَقْطُوعَ لَوَجَبَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَطْعِ الْخُفِّ تَشْبِيهُهُ بِالنَّعْلِ، فَكَذَلِكَ السَّرَاوِيلُ يَنْبَغِي أَنْ يُشَبَّهَ بِالْإِزَارِ، بَلْ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَخِيطٌ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُحِيطُ بِهِ الْخُفُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي فَتْقِهِ إِفْسَادٌ لَهُ، بَلْ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ سَرَاوِيلًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْإِحْرَامِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ فَتْقَ السَّرَاوِيلِ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ حَتَّى يَجُوزَ لُبْسُهُ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْخُفِّ، فَإِنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى النَّعْلِ وَلَا يَجْعَلُهُ مِثْلَهُ. فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا السَّرَاوِيلَ الْمَعْرُوفَ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْخُفُّ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ إِلَّا الْخُفُّ الْمَعْرُوفُ. وَإِنْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَهُ إِلَّا مِنَ الْقَطْعِ: جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ صُورَتِهِ إِلَى مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ، وَذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ، بَلْ هُوَ بِالسَّرَاوِيلِ أَوْلَى فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ كَتَقْيِيدِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ. لَكِنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَالْآخَرُ مِثْلُهُ. وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُهَنَّا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ حَكَى لَهُ أَنَّهُ نَاظَرَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي قَطْعِ الْخُفَّيْنِ، وَأَنَّ سَبِيلَ السَّرَاوِيلِ وَسَبِيلَ الْخُفِّ وَاحِدٌ. فَتَبَسَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا احْتَجَجْتَ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُطْلَقَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ صَالِحًا لَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلِغَيْرِهِ، فَيَتَبَيَّنُ بِاللَّفْظِ الْمُقَيَّدِ أَنَّمَا الْمُرَادُ هُوَ دُونَ غَيْرِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] فَإِنَّهُ اسْمٌ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنَةُ وَالْكَافِرَةُ، فَإِذَا عُنِيَ بِهِ الْمُؤْمِنَةُ جَازَ لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ وَزِيَادَةٌ. وَكَذَلِكَ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَصْلُحُ لِلْمُتَتَابِعَةِ وَلِلْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِذَا بَيَّنَ أَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ جَازَ.
وَهُنَا أَمَرَ بِلُبْسِ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ، وَمَتَى قُطِعَ الْخُفُّ حَتَّى صَارَ كَالْحِذَاءِ وَفُتِقَ السَّرَاوِيلُ حَتَّى صَارَ إِزَارًا: لَمْ يَبْقَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُفٍّ وَلَا سَرَاوِيلَ. وَلِهَذَا إِذَا قِيلَ امْسَحْ عَلَى الْخُفِّ، وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمَقْطُوعُ وَالْمَدَاسُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْطُوعَ وَالْمَدَاسَ وَنَحْوَهُمَا يُسَمَّى خُفًّا، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ: " «فَلْيَلْبَسْ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " فَسَمَّاهُمَا خُفَّيْنِ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَمَرَ بِقَطْعِهِمَا كَمَا يُقَالُ: افْتِقِ السَّرَاوِيلَ إِزَارًا، وَاجْعَلِ الْقَمِيصَ رِدَاءً، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَمَّى قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ لَا يُسَمَّى بَعْدَ قَطْعِهِ خُفًّا أَصْلًا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: خُفٌّ مَقْطُوعٌ، كَمَا يُقَالُ: قَمِيصٌ مَفْتُوقٌ وَهُوَ بَعْدَ الْفَتْقِ لَيْسَ بِقَمِيصٍ وَلَا سَرَاوِيلَ، وَكَمَا يُقَالُ: حَيَوَانٌ مَيِّتٌ، وَهُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ أَصْلًا. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَوَانِ: الشَّيْءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةٌ، وَكَمَا يُقَالُ لِعِظَامِ الْفَرَسِ: هَذَا فَرَسٌ مَيِّتٌ، وَيُقَالُ لِخَلِّ الْخَمْرِ: هَذَا خَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ خَمْرًا؛ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِذَا وُصِفَ بِالصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ يُنْبِئُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ وَحْدَهُ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِلَّا مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَاهُ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ هُنَا بِلُبْسِ الْخُفِّ، وَمَا تَحْتَ الْكَعْبِ لَا يُسَمَّى خُفًّا، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ، بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْأَيَّامِ الْمُتَتَابِعَاتِ فَإِنَّهَا رَقَبَةٌ وَأَيَّامٌ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ سَمَّى خُفًّا فَإِنَّ وُجُودَهُ نَادِرٌ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى الْخِفَافِ الصِّحَّةُ، وَإِنَّمَا يَقْطَعُ الْخُفَّ مَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النِّعَالَ» " فَذَكَرَ الْخِفَافَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مُعَرَّفَةً بِلَامِ التَّعْرِيفِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الشُّمُولَ وَالِاسْتِغْرَاقَ، فَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَقِلُّ وُجُودُهُ مِنَ الْخِفَافِ؛ لَكَانَ حَمْلًا لِلَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى صُوَرٍ نَادِرَةٍ.
وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ أَصْلًا؛ وَلِهَذَا أَبْطَلَ النَّاسُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا» " عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ النَّادِرَةُ بَعْضَ مَجَازَاتِ اللَّفْظِ؟! فَإِنَّهُ أَعْظَمُ فِي الْإِحَالَةِ، لِأَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ عَامٍّ، وَأَرَادَ بِهِ مَا يَقِلُّ بِهِ وُجُودُهُ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ وَيَنْدُرُ وَلَا يُسَمَّى بِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّجَوُّزِ مَعَ نَوْعِ قَرِينَةٍ - مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبَ وُجُودًا وَاسْتِعْمَالًا غَيْرُهُ - لَا يَكُونُ مُبَيِّنًا بِالْكَلَامِ، بَلْ مُلْغِزًا، وَهَذَا أَصْلٌ مُمَهَّدٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى: " «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» " فَإِنَّ الْخُفَّيْنِ مُطْلَقٌ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِثْلُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ بِصُورَةٍ نَادِرَةِ الْوُجُودِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ إِلَّا مَجَازًا بَعِيدًا، وَصَارَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: الْبَسْ قَمِيصًا، وَيَعْنِي بِهِ قَمِيصًا بُقِرَتْ أَكْمَامُهُ وَفُتِقَتْ أَوْصَالُهُ، فَإِنَّ وُجُودَ هَذَا نَادِرٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَا يُسَمُّونَهُ قَمِيصًا.
وَلَمَّا تَفَطَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ لِمِثْلِ هَذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْنَى بِهِ مَا عُنِيَ بِالْآخَرِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلَّا أَنْ قَالُوا: هُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِيهِ زِيَادَةٌ حَفِظَهَا بَعْضُهُمْ، وَأَغْفَلَهَا غَيْرُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ مَا قَدْ يُورِدُ عَلَى هَذَا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: التَّخْصِيصُ وَالتَّقْيِيدُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ، أَوْ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ يُبْنَى عَلَى الْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ هُمَا الْمُتَأَخِّرَانِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّمَا ذَاكَ حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ وَالتَّقْيِيدُ وَاقِعًا، فَيَكُونُ الْخِطَابُ الْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ يُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ. أَمَّا إِذَا دَلَّنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ إِطْلَاقُهُ وَعُمُومُهُ، أَوْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ وَتَقْيِيدَهُ لَا يَجُوزُ، أَوْ أَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِتِلْكَ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُقَيَّدَةِ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ قَصْدَ النَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُوجِبَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَبِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَ [قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] نَاسِخٌ.
لِقَوْلِهِ: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] فَكَيْفَ وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَعِيدٌ عَنِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ الْخُفَّ قَالَ: قَدْ لَبِسْتُهُ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَبِسَ الْخُفَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانَ خُفًّا صَحِيحًا وَهَذَا بَيِّنٌ.
السَّابِعُ: أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ؛ مِثْلَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: رَخَّصُوا فِي لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَتَرْكِ قَطْعِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ لُبْسِ الْخِفَافِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ نَهْيًا عَامًّا قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ، فَتَرْخِيصُهُمْ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَالنَّعْلَ: أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ وَالْخُفَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاجْتِهَادٍ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ عِلْمٍ عِنْدَهُمْ بِالسُّنَّةِ. ثُمَّ ابْنُ عُمَرَ أَمَرَ بِالْقَطْعِ وَغَيْرُهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، بَلْ جَوَّزَ لُبْسَ الصَّحِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اعْتُبِرَ سَمَاعُهُ بِالْمَدِينَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَاقِينَ عِلْمٌ نَاسِخٌ يَنْسَخُ ذَلِكَ، وَمَجِيءُ الرُّخْصَةِ فِي بَعْضِ مَا قَدْ كَانَ حُظِرَ لَمْ يُحِلُّوا الْحَرَامَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي. . . .
الثَّامِنُ: أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى جَوَازِ الْقَطْعِ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَكُونُ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ أَنَّ قَطْعَهُمَا فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ يُنْهَى عَنْهُ بِخِلَافِ حَالِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَهُوَ التَّشْبِيهُ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ: أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَصِيغَةُ أَفْعَلَ إِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ حَظْرٍ إِنَّمَا تُفِيدُ مُجَرَّدَ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ نَظَرٌ.
فَعَلَى هَذَا هَلْ يُسْتَحَبُّ قَطْعُهُمَا؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -: يُحْمَلُ قَوْلُهُ " «وَلْيَقْطَعْهُمَا» " عَلَى الْجَوَازِ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ قَطْعُهُمَا لِغَيْرِ الْإِحْرَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْإِحْرَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالنَّعْلَيْنِ الَّتِي هُمَا شِعَارُ الْإِحْرَامِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا -: «وَيَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَلَا يَقْطَعُهُمَا» حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُ فِيهِ: يَقْطَعُهُمَا. هُشَيْمٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ: " «إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ» " وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَقَدْ كَرِهَ الْقَطْعَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ، فَقَالُوا: الْقَطْعُ فَسَادٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "قَطْعُ الْخُفَّيْنِ فَسَادٌ يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا ".
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي لُبْسِهِمَا مَا كَانَ رُخْصَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ قَطْعِ الْخُفِّ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِقَطْعِهِمَا مَنْسُوخٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمُ الْفِدْيَةَ مَعَ اللُّبْسِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ وَالْخُفَّ لِحَاجَةٍ. وَالْمُحْرِمُ إِذَا اسْتَبَاحَ شَيْئًا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لِحَاجَةٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْفِدْيَةِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ الْقَمِيصَ، أَوِ الْعِمَامَةَ، لِبَرْدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ مَرَضٍ؟.
قُلْنَا: لَوْ خُيِّلَ إِلَيْنَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ لَوَجَبَ تَرْكُهُ لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ لِلْحَاجَةِ الْفِدْيَةَ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، حَيْثُ أَبَاحَ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ لَمَا أَمَرَ بِقَطْعِهِ أَوَّلًا وَسْمًا مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. فَإِذَا قِسْنَا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى الرِّبَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَكَيْفَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ وَفِعْلَ مَحْظُورَاتِهِ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ إِذَا فُعِلَتْ لِعُذْرٍ خَاصٍّ يَكُونُ بِبَعْضِ النَّاسِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ.
فَأَمَّا مَا رُخِّصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ وَهُوَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ غَالِبًا فَإِنَّهُ لَا فِدْيَةَ مَعَهُ، وَلِهَذَا رُخِّصَ لِلرُّعَاةِ وَالسُّقَاةِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ وَرُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ الْوَدَاعِ مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ أَمْرٌ مُعْتَادٌ غَالِبٌ. فَكَيْفَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَهُوَ الِاحْتِذَاءُ وَالِاسْتِتَارُ، فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إِلَيْهِ كُلُّ النَّاسِ - لِمَا فِي تَرْكِهِمَا مِنَ الضَّرَرِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَطَبْعًا - لَمْ يَحْتَجْ هَذَا الْمُبَاحُ إِلَى فِدْيَةٍ، لَا سِيَّمَا وَكَثِيرًا مَا يَعْدِلُ إِلَى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ لِلْفَقْرِ حَيْثُ لَا يَجِدُ ثَمَنَ نَعْلٍ وَإِزَارٍ، فَالْفَقْرُ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ - قَالَ: " «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» ".
فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ - أَيْضًا - لِلصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ.
قُلْنَا: يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّشِحَ بِالْقَمِيصِ كَهَيْئَةِ الرِّدَاءِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِصُورَتِهِ، وَذَلِكَ يُغْنِيهِ عَنْ لُبْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ.


(فَصْلٌ)
وَمَعْنَى كَوْنِهِ لَا يَجِدُهُ: أَنْ لَا يُبَاعَ، أَوْ يَجِدُهُ يُبَاعُ وَلَيْسَ مَعَهُ ثَمَنٌ فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي سَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي الطَّهَارَةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ هِبَةً، وَيُقَدِّمُ عَلَى ثَمَنِهِ قَضَاءَ دَيْنِهِ، وَنَفَقَةَ طَرِيقِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنْ بُذِلَ لَهُ عَارِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ قَبُولَهُ إِعَارَةَ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ لُبْسَ النَّعْلِ وَالْإِزَارِ مُدَّةَ الْإِحْرَامِ تُؤَثِّرُ فِيهِ وَتُبْلِيهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مِنَّةٍ بِخِلَافِ لُبْسِ الثَّوْبِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَجِدُهُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ: لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا انْتَقَلَ إِلَى الْبَدَلِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُهُ فَهَلْ عَلَيْهِ اشْتِرَاؤُهُ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، وَحَمْلُهُ إِذَا لَمْ يَشُقَّ. . . .
فَإِنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ. . . .
وَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا كَانَ سَيِّدُهُ يَقْدِرُ أَنْ يُلْبِسَهُ إِزَارًا وَنَعْلًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْحُرِّ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، قَالَ: - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَّهَا كَانَتْ تُلْبِسُ مَمَالِيكَهَا التَّبَابِينَ - عَلَّلَهُ بِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ.
وَالثَّانِيَةُ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، قَالَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ.
وَمِثْلُ هَذَا: إِذَا تَمَتَّعَ بِإِذْنِهِ هَلْ يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
فَأَمَّا إِنْ أَحْرَمَ بِدُونِ إِذْنِ السَّيِّدِ وَلَمْ يُحَلِّلْهُ أَوْ لَمْ نُمَكِّنْهُ مِنْ تَحْلِيلِهِ: فَلَا يَلْزَمُهُ لِبَاسُهُ بِلَا تَرَدُّدٍ، كَالدِّمَاءِ الَّتِي تَجِبُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ مِنْهَا شَيْءٌ.
فَإِنْ وَجَدَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ لُبْسَهُ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِيمَنْ لَبِسَ الْخُفَّ وَهُوَ يَجِدُ النَّعْلَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُهُمَا - يَلْبَسُهُ وَيَفْتَدِي.
وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا رَخَّصَ فِي لُبْسِهِمَا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَإِذَا وَجَدَ انْتَفَتْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ، وَبَقِيَتِ الرُّخْصَةُ لِلْعُذْرِ، وَتِلْكَ لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ فِدْيَةٍ.
وَقَالَ:. . . وَهَذَا نَوْعَانِ؛ أَنْ يَضِيقَ عَنْ رِجْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي قَدَمِهِ، أَوْ لِصِغَرِهِ، أَوْ يَكُونُ الْإِزَارُ ضَيِّقًا لَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَنَحْوُ هَذَا، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، أَوْ رَقَبَةً لَا يَصِحُّ عِتْقُهَا هُوَ كَالْعَادِمِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ لَيْسَ هَذَا.
الثَّانِي: أَنْ يَسَعَ قَدَمَهُ لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُهَا لِمَرَضٍ فِي قَدَمِهِ، أَوْ لَمْ يَعْتَدِ الْمَشْيَ فِيهَا، فَإِذَا مَشَى تَعَثَّرَ وَانْقَطَعَتْ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ يُصِيبُ أَصَابِعَهُ شَوْكٌ أَوْ حَصًى، أَوْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْرَعَ فِي السَّيْرِ فَيَخَافُ فَوَاتَ الرُّفْقَةِ، أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ عَمَلٌ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَهُ وَوَجْهُ. . . مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّهَا حَجَّتْ وَمَعَهَا غِلْمَانٌ لَهَا، فَكَانُوا إِذَا شَدُّوا رَحْلَهَا يَبْدُو مِنْهُمُ الشَّيْءُ فَتَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا التَّبَابِينَ فَيَلْبَسُوهَا وَهُمْ مُحْرِمُونَ ".
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: " رَأَيْتُ عَائِشَةَ لَا تَرَى عَلَى الْمُحْرِمِ بَأْسًا أَنْ يَلْبَسَ التُّبَّانَ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ: "أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلْمُحْرِمِ فِي الْخُفِّ فِي الدُّلْجَةِ ": وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى السَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَنَحْوِهِمَا لِلسَّتْرِ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتُرُهُ الْإِزَارُ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى الْخُفِّ وَنَحْوِهِ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ فِي النَّعْلِ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْمَقْطُوعُ دُونَ الْخُفِّ وَالْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُصْنَعُ عَلَى مِقْدَارِ الْقَدَمِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْخُفِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ دُونَ الْكَعْبَيْنِ فَقَالَ: يَلْبَسُهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّعْلَيْنِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِهِمَا.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: لَا يَلْبَسُ نَعْلًا لَهَا قَيْدٌ وَهُوَ السَّيْرُ يُجْعَلُ فِي الزِّمَامِ مُعْتَرِضًا، فَقِيلَ لَهُ: فَالْخُفُّ الْمَقْطُوعُ؟ قَالَ: هَذَا أَشَدُّ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: أَكْرَهَ الْمَحْمِلَ الَّذِي عَلَى النَّعْلِ وَالْعَقِبِ، وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: فِيهِ دَمٌ.
فَإِذَا مُنِعَ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى النَّعْلِ سَيْرًا: فَأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْجُمْجُمِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى.

وَسَوَاءٌ نَصَبَ عَقِبَهُ أَوْ طَوَاهُ، فَإِنَّ عَقِبَهُ. . . فَإِنْ لَبِسَهُ: فَذَكَرَ الْقَاضِي، وَالشَّرِيفُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ يَفْدِي؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ مَنَعَ مِنْهُ، وَمَمْنُوعَاتُ الْإِحْرَامِ فِيهَا الْفِدْيَةُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَ عَنْهُ: أَنَّ فِي النِّعَالِ الْمُكَلَّفَةِ وَالْمُعَقَّبَةِ الْفِدْيَةَ، فَهَذَا أَوْلَى، وَقَدْ حَكَى قَوْلَ عَطَاءٍ كَالْمُفْتِي بِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْفُصُولِ -: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِبَاسُ الْمَقْطُوعَيْنِ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ النِّعَالُ الْمُكَلَّفَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: وَلَا فِدْيَةَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ، وَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْسَهُ وَسَقَطَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ - فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلَافِهِمَا - أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْخُفَّيْنِ جَازَ لُبْسُهُمَا وَإِنْ وَجَدَ النَّعْلَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ لُبْسَهُمَا بَعْدَ الْقَطْعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَوْلَا أَنَّ قَطْعَهُمَا يُخْرِجُهُمَا عَنِ الْمَنْعِ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَطْعِ فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَوَازَ لُبْسِهِمَا مَقْطُوعَيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجْدِ النَّعْلَ، لِأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ النَّعْلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ الْخُفَّ وَيُفْسِدَهُ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ الْمَقْطُوعِ جَائِزًا، فَإِذَا عَدِمَ النَّعْلَ صَارَ مُضْطَرًّا إِلَى قَطْعِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرَخِّصْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ، وَلَا الْخُفِّ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ بَعْدَ عَرَفَاتٍ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: " «فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ» " بَيَانٌ لِمَا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْخُفِّ الْمَمْنُوعِ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلِ الْمُبَاحِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ لُبْسِهِمَا مَقْطُوعَيْنِ وَصَحِيحَيْنِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَ لِمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي لُبْسِ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ لِلْعَادِمِ، فَبَقِيَ الْمَقْطُوعُ كَالسَّرَاوِيلِ الْمَفْتُوقِ يَجُوزُ لُبْسُهُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا نَهَى الْمُحْرِمَ عَنِ الْخُفِّ كَمَا رَخَّصَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ. وَالْمَقْطُوعُ وَمَا أَشْبَهَ مِنَ الْجُمْجُمِ، وَالْحِذَاءِ وَنَحْوُهُمَا: لَيْسَ بِخُفٍّ وَلَا فِي مَعْنَى الْخُفِّ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمَنْعِ كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَسْحِ، لَا سِيَّمَا وَنَهْيُهُ عَنِ الْخُفِّ إِذْنٌ فِيمَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ «سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ، فَقَالَ: "لَا يَلْبَسُ كَذَا» " فَحَصَرَ الْمُحْرِمَ. فَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْخُفِّ، أَوْ بِالنَّعْلِ وَهُوَ بِالنَّعْلِ أَشْبَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَالنَّعْلِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقَدَمَ عُضْوٌ يَحْتَاجُ إِلَى لُبْسٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَاحَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَشْيِ فِي النَّعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُمْ فِيمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْيَدِ، فَإِنَّهَا لَا تُسْتَرُ بِالْقُفَّازِ وَنَحْوِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 04-07-2022, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 47الى صــ 60
(43)



وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - " «وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " وَفِي لَفْظٍ صَحِيحٍ: " «إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ يَقْطَعُهُ مِنْ عِنْدِ الْكَعْبَيْنِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ مُضْطَرٌّ فَيَقْطَعَهَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ". وَفِي رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ: " «وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» " فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي لُبْسِ الْمَقْطُوعِ إِلَّا لِعَادِمِ النَّعْلِ، وَعَلَّقَهُ بِاضْطِرَارِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَهْيِهِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُضْطَرَّ، وَإِذَا كَانَ وَاجِدًا، وَلَيْسَ بِمَفْهُومٍ. قَالُوا: وَإِنَّمَا أُمِرَ أَوَّلًا بِالْقَطْعِ لِيُقَارِبَ النَّعْلَ لَا لِيَصِيرَ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِذْ لَوْ كَانَ مِثْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نُسِخَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " «وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ» " فَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَى سَتْرِهَا ثَلَاثَةً ذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَوْعًا غَيْرَ مَخِيطٍ عَلَى قَدْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ إِلَّا فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَخِيطٌ مَصْنُوعٌ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ فَمُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَالْمَخِيطِ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَالْحَاجَةُ إِنَّمَا تَدْعُو إِلَى شَيْءٍ يَقِيهِ مَسَّ قَدَمِهِ الْأَرْضَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّعْلِ، لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِنَفْسِهِ رُخْصَةٌ لَهُ فِي سُيُورٍ تُمْسِكُهُ، كَمَا يُرَخَّصُ فِي عَقْدِ الْإِزَارِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْعَقْدِ.
فَأَمَّا سَتْرُ جَوَانِبِ قَدَمِهِ وَظَهْرِهَا وَعَقِيبَتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلُبْسُ مَا صُنِعَ لِسَتْرِهِ تَرَفُّهٌ وَدُخُولٌ فِي لِبَاسِ الْعَادَةِ كَلُبْسِ الْقُفَّازِ وَالسَّرَاوِيلِ، وَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْجُمْجُمِ وَنَحْوِهِ إِلَى النَّعْلِ كَنِسْبَةِ السَّرَاوِيلِ إِلَى الْإِزَارِ، فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ. . . .
فَعَلَى هَذَا قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - لَا يَلْبَسُ نَعْلًا لَهَا قَيْدٌ وَهُوَ السَّيْرُ فِي الزِّمَامِ مُعْتَرِضًا، فَقِيلَ لَهُ: فَالْخُفُّ الْمَقْطُوعُ؟ فَقَالَ: هَذَا أَشَدُّ، وَقَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنِ النَّعْلِ يُوضَعُ عَلَيْهَا شِرَاكٌ بِالْعَرْضِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِسُ يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ؟ فَكَرِهَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: أَكْرَهُ الْمَحْمِلَ وَالْعَقِبَ الَّذِي يُجْعَلُ لِلنَّعْلِ، وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: فِيهِ دَمٌ وَالْقَيْدُ وَالْمَحْمِلُ وَاحِدٌ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: هِيَ النِّعَالُ الْمُكَلَّفَاتُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى عُمُومِ كَلَامِهِ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَيُزِيلُ مَا عَلَى نَعْلِهِ مِنْ قَيْدٍ أَوْ عَقِبٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - فِي الْقَيْدِ فِي النَّعْلِ - يَفْتَدِي؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ النِّعَالَ هَكَذَا.
وَمَعْنَى الْقَيْدِ: سَيْرٌ ثَانٍ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ. وَالْعَقِبُ: الَّذِي يَكُونُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَدَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّعْلُ مِنَ السُّيُورِ: الزِّمَامُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّعْلَ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ. وَالشِّرَاكُ فَإِنَّهُ إِذَا عَقَدَهُ امْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَنْتَحِيَ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَأَمَّا سَيْرٌ ثَانٍ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مَعَ الشِّرَاكِ، أَوْ عَقِبٌ بِإِزَاءِ الزِّمَامِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ سَتَرَ ظَهْرَ الْقَدَمِ وَجَانِبَهُ بِمَا صَنَعَ لَهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ سَتَرَهُ بِظَهْرِ قَدَمِ الْجُمْجُمِ وَعَقِبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْعَقِبَ يَصِيرُ بِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَدَاسِ، وَيَصِيرُ الْقَدَمُ فِي مِثْلِ الْخُفِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَنَعَ قَمِيصًا مُشَبَّكًا، أَوْ لَبِسَ خُفًّا مُخَرَّقًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَمِيصِ وَالْخُفِّ السَّلِيمَيْنِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ النِّعَالَ، وَأَذِنَ فِيهَا: فَخَرَجَ كَلَامُهُ عَلَى النِّعَالِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، وَالْقَيْدُ وَالْعَقِبُ مُحْدَثَانِ يَصِيرُ بِهِمَا النَّعْلُ شَبِيهًا بِالْحِذَاءِ؛ كَالرِّدَاءِ إِذَا زَرَّرَهُ أَوْ خَلَّلَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَالْبَقِيرِ مِنَ الْقُمْصَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُقْتَضَى كَلَامِهِ، وَهُوَ أَقْيَسُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ الْمُحْرِمَ مِنَ الْجُمْجُمِ وَهُوَ أَتْبَعُ لِلْأَثَرِ وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَقِبُ وَالْقَيْدُ عَرِيضًا يَسْتُرُ بَعْضَ الرِّجْلِ، قَالُوا: وَلَا فِدْيَةَ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ، وَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْسَهُ وَسَقَطَتِ الْفِدْيَةُ فِيهِ، وَتَخْصِيصُهُمُ الْكَلَامَ بِالْعَرِيضَةِ: لَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ تَعَرُّضٌ لَهُ، فَإِنَّ الرَّقِيقَ أَيْضًا يُسْتَرُ بِحَسَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا إِسْقَاطُ الْفِدْيَةِ: فَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ حَيْثُ نَطَقَ بِالْكَرَاهَةِ، وَحَكَى عَنْ عَطَاءٍ إِنَّ فِيهِ دَمًا، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ.
فَأَمَّا إِذَا طَوَى وَجْهَ الْجُمْجُمِ وَعَقِبَهُ، وَشَدَّ رِجْلَهُ بِخَيْطٍ أَوْ سَيْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ قَيَّدَ النَّعْلَ وَعَقِبَهَا وَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ الْخُفُّ لَهُ سُفْلٌ وَلَا ظَهْرَ لَهُ:. . . فَأَمَّا إِنْ لَحِقَهُ ظَهْرُ قَدَمٍ وَلَا سُفْلَ لَهُ. . . .



(فَصْلٌ)
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ الْمَمْنُوعُ مِنْ قُطْنٍ أَوْ جُلُودٍ أَوْ وَرَقٍ، وَلَا فَرْقَ فِي تَوْصِيلِهِ عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِخُيُوطٍ، أَوْ أَخِلَّةٍ، أَوْ إِبَرٍ، أَوْ لُصُوقٍ، أَوْ عُقَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا عُمِلَ عَلَى هَيْئَةِ الْمَخِيطِ: فَلَهُ حُكْمُهُ، فَلَوْ شَقَّ الْإِزَارَ وَجَعَلَ لَهُ ذَيْلَيْنِ وَشَدَّهُمَا عَلَى سَاقَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّرَاوِيلِ وَمَا عَلَى السَّاقَيْنِ كَالْبَالَكْتِينِ.

(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْقَبَاءُ وَالدُّوَّاجُ وَالْفَرَجِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ مَنْكِبَيْهِ فِيهِ، بَلْ يُنَكِّسُهُ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَرْتَدِي بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: لَا يَلْبَسُ الدُّوَّاجَ، وَلَا شَيْئًا يُدْخِلُ مَنْكِبَيْهِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ: إِذَا لَبِسَ الْقَبَاءَ لَا يُدْخِلُ عَاتِقَهُ فِيهِ.
وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَإِنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفَيْهِ الْقَبَاءَ أَوِ الدُّوَّاجَ، فَلَا يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يُلْبَسُ الْقَبَاءُ وَالدُّوَّاجُ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى طَرْحِ الدُّوَّاجِ عَلَى كَتِفَيْهِ: لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الدُّوَّاجَ وَلَا شَيْئًا يُدْخِلُ مَنْكِبَيْهِ فِيهِ. فَحَكَى فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى لُبْسِهِ رِوَايَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى يَدَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي حِفْظِهِ إِلَى تَكَلُّفٍ فَأَشْبَهَ الِارْتِدَاءَ بِالْقَمِيصِ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ: إِنَّ الْمَنْكِبَيْنِ يُحْتَاجُ إِلَى سَتْرِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى السَّرَاوِيلِ وَالنَّعْلِ. وَالْأَوَّلُ - هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ نَصِّهِ - هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. . . الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ وَجْهَهُ -قَالَ: "مَنِ اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ الْقَبَاءِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ - فَلْيُنَكِّسِ الْقَبَاءَ وَلْيَلْبَسْهُ " رَوَاهُ النَّجَّادُ.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِحَنًا عَلَى وَجْهٍ قَدْ يُلْبَسُ مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ إِذَا أَدْخَلَ كَفَّيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ وَلَمْ يُزِرْهُ.



[مَسْأَلَةٌ تغطية الرأس]
مَسْأَلَةٌ: - (الرَّابِعُ: تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَانِ مِنْهُ):
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ - عَلَى الْمُحْرِمِ - حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «وَلَا يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ» " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ -: " «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنَعَ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ. فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يُخَمِّرَ رَأْسَهُ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَنَاقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: "أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمًا بِعَرَفَةَ عَلَيْهِمُ الْقُمُصُ وَالْعَمَائِمُ، فَأَمَرَ أَنْ تُعَادَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ ".
وَعَنْ عَوْنٍ قَالَ: أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْمًا بِعَرَفَةَ عَلَيْهِمُ الْقُمُصُ وَالْعَمَائِمُ فَقَالَ: "إِنْ عَلِمُوا فَعَاقِبُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَعَلِّمُوهُمْ ".
وَالْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ - لِمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ - وَعَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ مِنْ حُدُودِ الْوَجْهِ وَالسَّالِفَةِ مَا لَا يَنْكَشِفُ الرَّأْسُ إِلَّا بِهِ.
فَأَمَّا الْوَجْهُ: فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ: لَهُ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: يُغَطِّي وَجْهَهُ وَحَاجِبَيْهِ، وَسُئِلَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنِ الْمُحْرِمِ يُغَطِّي وَجْهَهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ - أَيْضًا - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ فِي مُحْرِمٍ مَاتَ يُغَطَّى وَجْهُهُ وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ؛ هَلْ يُغَطَّى وَجْهُهُ؟ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، قُلْتُ: أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ يُغَطَّى وَجْهُ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ أَوْ لَا يُغَطَّى قَالَ: أَمَّا الرَّأْسُ فَلَا أَرَى أَنْ يُغَطُّوهُ وَأَمَّا الْوَجْهُ: فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لَهُ: تَذْهَبُ إِلَى أَنْ يُخَمَّرُ وَجْهُهُ وَيُكْشَفُ رَأْسُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: لَعَلَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ صَوَّبَ الْقَوْلَ قَدِيمًا، فَذَهَبَ إِلَى مَا حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا رَوَى مُهَنَّا وَالْجَمِيعُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ، وَيُخَمَّرُ وَجْهُهُ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يُغَطَّى وَجْهُهُ؛ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ: وَالْمُحْرِمُ يَمُوتُ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيَّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَمْ يُغَطَّ وَجْهُهُ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ مُحْرِمًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَالثَّالِثَةُ: قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: "يُخَمَّرُ أَسْفَلُ مِنَ الْأَنْفِ وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى فَمِهِ دُونَ أَنْفِهِ يُغَطِّيهِ مِنَ الْغُبَارِ " وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَمَنْ نَامَ فَوَجَدَ رَأْسَهُ مُغَطًّى فَلَا بَأْسَ. وَالْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ يُخَمَّرُ أَسْفَلُ مِنَ الْأُذُنَيْنِ، وَأَسْفَلُ الْأَنْفِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» " فَأَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَتَبَرْقَعُ، وَتُسْدِلُ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ فَوْقُ، وَتَلْبَسُ مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَمُعَصْفَرِهَا وَحُلِيِّهَا فِي إِحْرَامِهَا مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدَّ الرَّأْسِ الْأُذُنَانِ وَالسَّالِفَةُ فَيَكْشِفُ مَا يُحَاذِيهِ مِنَ الْأَنْفِ وَمَا عَلَاهُ. وَمَا دُونُ ذَلِكَ فَيُغَطِّيهِ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ.
وَسَوَاءٌ غَطَّى الرَّأْسَ بِمَا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ مِنْ عِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ وَكَلْتَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلُ خِرْقَةٍ، أَوْ عِصَابَةٍ، أَوْ وَرَقَةٍ، أَوْ خِرْقَةٍ فِيهَا دَوَاءٌ، أَوْ لَيْسَ فِيهَا دَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ أَوْ طَيَّنَهُ، إِلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَفْعَلَهُ وَيَفْتَدِيَ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْغِطَاءُ غَلِيظًا أَوْ رَقِيقًا، فَأَمَّا. . . .
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْفُرَافِصَةِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَزَيْدًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ يُغَطُّونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ مُحْرِمُونَ إِلَى قُصَاصِ الشَّعْرِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: كَانَ أَبِي يَأْمُرُ الرِّجَالَ أَنْ يُخَمِّرُوا وُجُوهَهُمْ وَهُمْ حُرُمٌ، وَيَنْهَى النِّسَاءَ.
وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "لِيَغْشَى وَجْهَهُ بِثَوْبِهِ وَأَهْوَى إِلَى شَعْرِ رَأْسِهِ، وَأَشَارَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِثَوْبِهِ إِلَى رَأْسِهِ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْمُحْرِمُ يُغَطِّي وَجْهَهُ مَا دُونَ الْحَاجِبِ ".
فَصْلٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ فَوْقَ رَأْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ الْكَبَكِ وَالطَّبَقِ وَنَحْوِهِ، وَحَرَّرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، فَقَالَ: إِذَا احْتَاجَ لِحَمْلِ مَتَاعٍ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ: فَحَمَلَهُ، فَغَطَّى رَأْسَهُ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ، بَلِ النَّقْلُ.
وَإِنْ تَعَمَّدَ لِحَمْلِ شَيْءٍ عَلَى رَأْسِهِ تَحَيُّلًا لِلتَّغْطِيَةِ لَمْ تَسْقُطِ الْفِدْيَةُ، وَكَانَ مَأْثُومًا. وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ بَقِيَّتِهِمْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْحَمْلَ فَقَطْ، أَوْ يَقْصِدَ مَعَ الْحَمْلِ التَّغْطِيَةَ.
وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي - فِي مَوْضِعٍ - بِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَامُ فِي الْعَادَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ يَدَهُ.
قَالُوا: وَلَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَنْ يَقْلِبَ ذَوَائِبَهُ عَلَى رَأْسِهِ.



(فَصْلٌ)
وَأَمَّا إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ بِشَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَهُوَ أَقْسَامٌ: -أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَظِلَّ بِسَقْفٍ فِي بَيْتٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ يَسْتَظِلَّ بِخَيْمَةٍ أَوْ فُسْطَاطٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ يَسْتَظِلَّ بِشَجَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ، وَيَسْتَظِلُّ بِالْفَازَةِ. وَالْخَيْمَةُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ.
وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ تَحْتَ خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ جَازَ. وَلَيْسَ اجْتِنَابُ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] فَرَوَى أَحْمَدُ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " «كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُهِلًّا بِالْعُمْرَةِ، فَتَبْدُو لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، فَيَرْجِعُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، فَيَقْتَحِمُ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ يَقُومُ فِي حُجْرَتِهِ، فَيَأْمُرُ بِحَاجَتِهِ، فَتُخْرَجُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهَلَّ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ، فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي أَحْمَسُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتِ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا أَحْمَسُ، يَقُولُ: وَأَنَا عَلَى دِينِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]»).
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا؛ كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ الْبُيُوتِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، وَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.


وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ - لِأَحْمَدَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: "كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْرَمُوا: أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وَلَمْ يَأْتُوهَا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ".
وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: " «كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بَابِهِ وَلَكِنْ مِنْ ظَهْرِهِ فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْحَائِطَ مِنْ بَابِهِ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ مُنَافِقٌ حَيْثُ دَخَلَ هَذَا الْحَائِطَ مِنْ بَابِهِ، فَقَالَ: يَا رِفَاعَةُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَدَخَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي أَنَا مِنَ الْحُمْسِ، وَأَنْتَ لَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْحُمْسِ فَإِنَّ دِينَنَا وَاحِدٌ، فَنَزَلَتْ: {بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ».
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «أَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ بِنَمِرَةٍ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِلَتْ لَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. . . .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: " حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمَا رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فُسْطَاطًا حَتَّى رَجَعَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ، قَالَ: كَانَ يَسْتَظِلُّ بِالنِّطَعِ وَالْكِسَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَسَوَاءٌ طَالَ زَمَانُ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ؛ لِأَنَّ هَذَا يُقْصَدُ بِهِ جَمْعُ الرَّحْلِ وَالْمَتَاعِ دُونَ مُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ.
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ هَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ لَا يُسْتَدَامُ فِي حَالِ السَّيْرِ وَالْمُكْثِ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 04-07-2022, 07:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 61الى صــ 74
(44)

الثَّانِي: الْمَحْمِلُ وَالْعَمَّارِيَّةُ وَالْقُبَّةُ وَالْهَوْدَجُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُصْنَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاكِبِ لِأَجْلِ الِاسْتِظْلَالِ شَفْعًا كَانَتْ أَوْ وَتْرًا: فَهَذَا إِذَا كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْ رَأْسِهِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ. وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِظْلَالِ وَالْبُرُوزِ لِلسَّمَاءِ إِنَّمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ بِرًّا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَمَّا رَأَى أَبَا إِسْرَائِيلَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ سَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَيَصُومَ قَالَ: مُرُوهُ فَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الضُّحَى لِلشَّمْسِ مِثْلُ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ لَيْسَ مَشْرُوعًا، وَلَا مَسْنُونًا وَلَا بِرَّ فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِظْلَالُ بِالْخَيْمَةِ وَالسَّقْفِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَقْصُودُ بِهَا جَمْعُ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْبَيْتَ لَقَصَدَ الِاسْتِظْلَالَ، أَوْ نَصَبَ لَهُ خَيْمَةً لِمُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ، جَازَ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَتْ أُمُّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: " «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْآخِذَ بِالْخِطَامِ بِلَالٌ، وَالْمُظَلِّلَ بِالثَّوْبِ أُسَامَةُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا قَالَتْ أَسْوَدُ - يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» ".

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّظْلِيلُ إِنْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِ أَيَّامِ مِنًى: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مِنًى، لِأَنَّ الْجَمْرَةَ تُرْمَى أَيَّامَ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ حِينَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ، فَأَمَّا يَوْمَ النَّحْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَاهَا ضُحًى، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِلشَّمْسِ حَرٌّ يَحْتَاجُ إِلَى تَظْلِيلٍ.
قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَانَ إِذَا رَمَى الْجِمَارَ مَشَى إِلَيْهَا ذَاهِبًا رَاجِعًا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ - بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ - مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: " «كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا وَسَائِرَ ذَلِكَ مَاشِيًا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» ".
فَفِي هَذَا: مَا يَدُلُّ أَنَّ ذَلِكَ الرَّمْيَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُفِضْ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، وَمَا بَيْنَ أَنْ يُفِيضَ إِلَى أَنْ يَجِيءَ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَصِيرُ لِلشَّمْسِ مَسٌّ وَحَرٌّ، فَإِنَّ حَجَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِي. . . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ. . . وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَمُّ حُصَيْنٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَإِنَّمَا خَطَبَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَتَخْصِيصُهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَمَاهَا إِذْ لَوْ كَانَ. . . لَكِنَّ التَّظْلِيلَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّمَا كَانَ حِينَ الِانْصِرَافِ مِنْ رَمْيِهَا وَحِينَئِذٍ فَقَدَ حَلَّ وَجَازَ لَهُ الْحِلَاقُ.
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ مَعَهُ - وَخُلَفَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِنَّمَا حَجُّوا ضَاحِينَ بَارِزِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مَحْمِلًا وَلَا قُبَّةً وَلَا ظُلَّةً - عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ وَقَدْ قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلِهَذَا عَدَّ السَّلَفُ هَذَا بِدْعَةً، وَالضُّحَى لِلْمُحْرِمِ أَمْرٌ مَسْنُونٌ بِلَا. . . .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلَّهِ يَوْمَهُ يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلَّا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُسْرِفُونَ فِي الْبُرُوزِ وَالضُّحَى حَتَّى يَمْتَنِعَ أَحَدُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ مِنَ الْبَابِ مُبَالَغَةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَاهُمْ عَنِ الدُّخُولِ مِنْ ظُهُورِ الْبُيُوتِ، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمْ أَصْلَ الضُّحَى وَالْبُرُوزِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولٍ وَمُكْثٍ لَا يُقْصَدُ الِاسْتِظْلَالُ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الظِّلِّ. وَلَوْ عَابَ عَلَيْهِمْ نَفْسَ التَّحَرُّجِ مِنَ الِاسْتِظْلَالِ لَقَالَ: وَلَيْسَ الْبِرُّ فِي الْبُرُوزِ، أَوْ فِي الضُّحَى وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا وَالضُّحَى لِمُجَرَّدِ الصَّوْمِ لَا يُشْرَعُ وَلِهَذَا نَهَاهُ عَنِ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لِلْمُصَلِّي؛ وَلِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ وَصَارَ دُخُولُهُمُ الْبُيُوتَ مِثْلَ نَزْعِ الْمُحْرِمِ الْقَمِيصَ وَإِنْ خَمَّرَ رَأْسَهُ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّخْمِيرَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ وَقَّتَ فِيهِ الرُّخْصَةَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثَ الْأَغْبَرَ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إِذَا كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بَاهَى اللَّهُ بِالْحَاجِّ؛ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا قَدْ أَتَوْنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَضَمِنْتُ لِأَهْلِهَا النَّوَافِلَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هَارُونَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.
فَقَدْ وَصَفَ كُلَّ حَاجٍّ بِأَنَّهُ أَغْبَرُ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمُحْرِمِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَالِاسْتِظْلَالُ بِالْمَحْمِلِ يَنْفِي الْغُبَارَ وَالشَّعَثَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ السَّلَفَ كَرِهُوا ذَلِكَ؛ فَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِعُودٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا بِعُودٍ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَاضْحَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ ضَحَى بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ يَضْحَى ضَحًا إِذَا بَرَزَ لِلشَّمْسِ كَمَا قَالَ: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوِيهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَضْحَى يُضْحِي - أَيْضًا - وَمَعْنَاهَا هُنَا ضَعِيفٌ.

وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: " مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِ كَهَيْئَةِ التُّرْسِ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: "اتَّقِ اللَّهَ اتَّقِ اللَّهَ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ "اسْتَظَلَّ بِعُودٍ عَلَى رَاحِلَتِهِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَنَهَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَعَنْ نَافِعٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا قَدْ نَصَبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ رَاحِلَتِهِ عُودًا عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ ".
وَعَنْهُ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا قَدْ وَضَعَ عُودَيْنِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَسْتَتِرُ بِهِمَا فَانْتَزَعْتُهُمَا " رَوَاهُمَا النَّجَّادُ.
وَابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعِهِمْ لَهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْفَتَاوَى - فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ - مُنْكِرٌ مَعَ مَنْ يَجْمَعُهُ الْمَوْسِمُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّجَّادُ عَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ عُثْمَانَ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَرَوَى النَّجَّادُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَا بَأْسَ بِالظِّلِّ لِلْمُحْرِمِ " فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى صُوَرٍ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرَّأْسَ يُفَارِقُ غَيْرَهُ مِنَ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ تَخْمِيرُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْخِرْقَةِ وَالْوَرَقَةِ، وَحَتَّى قَدْ كَرِهَ لَهُ الدُّهْنَ، مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِلْبَدَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْجِيلِهِ، وَالْبَدَنُ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُلْبِسَهُ اللِّبَاسَ الْمُعْتَادَ، فَلَوْ خَمَّرَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ: بَقَاءُ الرَّأْسِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَنْعُهُ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْمِلَ يُكِنُّ الرَّأْسَ وَيُوَارِيهِ وَيُرَفِّهُهُ بِنَحْوِ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالْعِمَامَةِ وَنَحْوِهِ. لَكِنَّ التَّرَفُّهَ بِالْعِمَامَةِ أَشَدُّ، فَإِنَّ مَنْ كَشَفَ رَأْسَهُ فِي دَاخِلِ مَحْمِلٍ وَظُلَّةٍ لَمْ يَكْشِفْ رَأْسَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ شَجَّ عَلَى رَأْسِهِ يَكْشِفُهُ لِلَّهِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتَوَاضَعَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ ابْنُ عُمَرَ خُيَلَاءَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ - وَمَا فِي مَعْنَاهُ - فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي الْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَمَوْضِعَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ فِي مَحْمِلٍ عَلَيْهِ كِسَاءٌ أَوْ لِبْدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَشَفَهُ بِحَيْثُ تَنْزِلُ الشَّمْسُ مِنْ عُيُونِهِ. . . .
وَمَا يَنْصِبُهُ عَلَى الْمَحْمِلِ مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ عُودًا وَيَرْفَعَ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَنَحْوُ ذَلِكَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَحْمِلِ مُطْلَقًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ التَّظَلُّلُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ فَهُوَ كَالْمَحْمِلِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ الْحُصَيْنِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ إِذَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ: كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ.

فَأَمَّا إِنْ تَظَلَّلَ زَمَنًا يَسِيرًا مِنْ حَرٍّ، أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصِبَهُ عَلَى الْمَحْمِلِ، بَلْ يَرْفَعُ لَهُ ثَوْبًا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، أَوْ يَرْفَعُ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ أَوْ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِيَدِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ: أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا بِعُودٍ يَسْتُرُهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ ".
وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ جَدَّتِهِ - قَالَتْ: «حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ.
وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَا يَسْتَظِلُّ الْبَتَّةَ وَابْنُ عُمَرَ "اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " وَحَدِيثُ بِلَالٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ جَدَّتِهِ، فَإِذَا كَانَ يَسْتُرُهُ بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ: كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُغْلِظُونَ فِيهِ ".
وَفِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - وَذُكِرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ - فَقَالَ: هَذَا فِي السَّاعَةِ رُفِعَ لَهُ ثَوْبٌ بِالْعُودِ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - "إِذَا كَانَ بِطَرَفِ كِسَائِهِ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ".
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْقُبَّةِ لِلْمُحْرِمِ - فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا بِالْيَدِ أَوْ ثَوْبًا يُلْقِيهِ عَلَى عُودٍ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ يَتَّخِذُ عَلَى رَأْسِهِ الظِّلَّ فَوْقَ الْمَحْمِلِ، فَقَالَ: لَا إِلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ وَكَرِهَهُ جِدًّا.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي التَّظْلِيلِ الْيَسِيرِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَنْعَ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَا يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ، فَإِنِ اسْتَظَلَّ يَفْتَدِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ الْمُحْرِمَ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالتَّغْطِيَةِ وَاللُّبْسِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا حَمَلَ حَدِيثَ أُمِّ الْحُصَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّوْبَ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ جَانِبِهِ، وَفَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ ظِلٍّ يَكُونُ تَابِعًا لِلْمُسْتَظِلِّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ وَيَقِفُ بِوُقُوفِهِ كَالْقُبَّةِ وَالثَّوْبِ الَّذِي بِيَدِهِ، أَوْ عَلَى عُودٍ مَعَهُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ تَابِعًا مِثْلُ ظِلِّ الشَّجَرَةِ وَالثَّوْبِ الْمَنْصُوبِ حِيَالَهُ، وَحَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ كَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.
وَالثَّانِيَةُ: الرُّخْصَةُ فِي الْيَسِيرِ لِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: " «وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُهُ مِنَ الشَّمْسِ» ".
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ: خَلَعَهُ وَلَمْ يَشُقُّهُ مَعَ أَنَّ هَذَا تَظْلِيلٌ لِرَأْسِهِ وَتَخْمِيرٌ لَهُ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ -: إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ يَخْلَعُهُمَا خَلْعًا وَلَا يَشُقُّهُمَا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إِنْ خَلَعَهُمَا فَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَعَجَبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يَنْزِعَ الْجُبَّةَ حَدِيثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِقِّهَا.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَمَضَّخَ بِطِيبٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ الَّذِي سَأَلَنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا، فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: "أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي الْعُمْرَةِ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجُعْرَانَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اخْلَعْ جُبَّتَكَ فَخَلَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ» ". قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا قَبْلَ أَنْ نَسْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلْيَخْرِقْهَا عَنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَنَا هَذَا الْحَدِيثُ: أَخَذْنَا بِهِ، وَتَرَكْنَا مَا كُنَّا نُفْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.

فَقَدَ جَوَّزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ يَخْلَعَهُ مِنْ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَظْلِيلٌ لِرَأْسِهِ لِأَنَّهُ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ يَسِيرَ التَّظْلِيلِ لَا بَأْسَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ قَالُوا:" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا فَشَقَّ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاعَدْتُ هَدْيًا يُشْعَرُ الْيَوْمَ» ".
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ شَقَّ قَمِيصَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: وَاعَدْتُهُمْ هَدْيَ الْيَوْمِ فَنَسِيتُ» " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
قِيلَ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ، كَانُوا يَجْتَنِبُونَ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: تَوَقُّفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِ السَّائِلِ حَتَّى أَتَاهُ الْوَحْيُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ: مَا أَزَالَ الْحُكْمَ الْمَاضِيَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّظْلِيلُ بِالسُّقُوفِ وَالْخِيَامِ وَنَحْوِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ جِنْسُ التَّظْلِيلِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ مِنْهُ مَا يُفْضِي إِلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَدُومُ وَيَتَّصِلُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: " كَانَ الْأَسْوَدُ إِذَا اشْتَدَّ الْمَطَرُ اسْتَظَلَّ بِكِسَاءٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ مِنَ الشَّمْسِ وَيَسْتَكِنُّ مِنَ الرِّيحِ وَمِنَ الْمَطَرِ ".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 04-07-2022, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 75الى صــ 88
(45)

فَعَلَى هَذَا: يُجَوِّزُ السَّاعَةَ وَنَحْوَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي حَالِ مَسِيرِهِ وَرَمْيِهِ وَخُطْبَتِهِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا اسْتَبَاحَ يَسِيرَ التَّظْلِيلِ، أَنَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَانَ يَسِيرُ وَلَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ شَيْئًا يَسْتَظِلُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَفَعَلَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنِ اسْتَظَلَّ بِثَوْبٍ يُمْسِكُهُ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ، أَوْ وَضَعَ الثَّوْبَ عَلَى عُودٍ يُمْسِكُ الْعُودَ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ جَازَ.
وَإِنِ اسْتَظَلَّ يَسِيرًا فِي مَحْمِلٍ، أَوْ بِثَوْبٍ مَوْضُوعٍ عَلَى عَمُودٍ عَلَى الْمَحْمِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا مُؤْنَةَ فِيهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَلَى الرَّحْلِ رَفَاهَةٌ مَحْضَةٌ، وَهُوَ مَظَنَّةُ الطُّولِ، فَلَوْ شُرِعَ ذَلِكَ لَشُرِعَ اتِّخَاذُ الظِّلِّ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا بِالْيَدِ، أَوْ ثَوْبًا يُلْقِيهِ عَلَى عُودٍ. فَأَمَّا أَنْ يُظَلِّلَ بِالْمَحْمِلِ وَنَحْوِهِ حَالَ نُزُولِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّاكِبِ وَالنَّازِلِ، وَإِنَّهُ إِنْ طَالَ ذَلِكَ وَكَثُرَ افْتَدَا رَاكِبًا كَانَ أَوْ نَازِلًا.
وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْثُرْ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَمْ نَازِلًا.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْخَيْمَةِ وَالسَّقْفِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّرَفُّهُ فِي الْبَدَنِ فِي الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ جَمْعُ الرِّحَالِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الظِّلُّ وَغَيْرُهُ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا أَوْ يُخَمِّرُهُ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ، وَيَسْتَظِلُّ بِالْفَازَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَيْمَةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَنْصِبُونَ لَهُ الظِّلَّ الْمَحْضَ فِي حَالِ النُّزُولِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إِلَى بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ لَجَازَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّخَذٍ لِلدَّوَامِ فَلَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الضَّحَا، وَيَسِيرُ الظِّلُّ فِي الْمَكَانِ مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَهُ مَا يَسْتُرُ يَسِيرًا مِنْ رَأْسِهِ مِثْلَ الزَّمَانِ.
فَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ لِلِاسْتِظْلَالِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَحَمَلَا حَدِيثَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: عُذْرٌ يُخَافُ مَعَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّظْلِيلَ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ؛ لِأَنَّ مَا كُرِهَ فِي الْإِحْرَامِ جَازَ مَعَ الْحَاجَةِ، وَمَا أُبِيحَ يَسِيرُهُ جَازَ كَثِيرُهُ مَعَ الْحَاجَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: فَلَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِثَوْبٍ يَنْصِبُهُ حِيَالَهُ يَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُظَلَّلٌ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالْهَوْدَجِ وَالْعَمَّارِيَّةِ وَاللَّبْسَةِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ مَانِعِ وُصُولِ الشَّمْسِ إِلَى رَأْسِهِ فَهُوَ تَظْلِيلٌ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ أَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ جِهَاتِهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَحَيْثُ كُرِهَ لَهُ التَّظْلِيلُ فَهَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ. فَإِنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ كَانَ مُحْرِمًا، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهَا كَانَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَظْلِيلُ الْمَحْمِلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الَّتِي يَسْتَوِي طَرَفَاهَا، بَلْ هُوَ ضِمْنُ الْمَتْبُوعَاتِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فَهَذَا لَا يَكُونُ.
إِحْدَاهُمَا: يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ لَا يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ، فَإِنِ اسْتَظَلَّ يَفْتَدِي بِصِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بِمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ فَعَلَ يُهْرِيقُ دَمًا؟ فَقَالَ: لَا، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُغَلِّظُونَ فِيهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ: الدَّمُ عِنْدِي كَثِيرٌ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْمُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ؟ قَالَ: لَا يَسْتَظِلُّ، فَإِنِ اسْتَظَلَّ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ أَيْضًا: سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يُظَلَّلُ؟ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُظَلَّلَ، قَالَ أَبِي يَسْتُرُ قَدْرَ مَا يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، وَقَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْمُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ تَأْخُذُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ؟ قَالَ: لَا يَسْتَظِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: "اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِظْلَالَ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا إِلَّا الْيَسِيرَ لِحَاجَةٍ، وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ؛ لِأَنَّ رِوَايَاتِ ابْنِ الْحَكَمِ قَدِيمَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ وَهُوَ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرِ الَّذِي فَعَلَهُ بِفِدْيَةٍ، وَقَدْ رَفَعَ الظِّلَّ بِيَدِهِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ نَوْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَجَازَ مَا لَا يَدُومُ، وَجَازَ مِنْهُ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّظَلُّلُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ: يَجِبُ اجْتِنَابُهَا بِكُلِّ حَالٍ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَصَارَ فِي الْوَاجِبَاتِ كَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ - لَمَّا رُخِّصَ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - عُلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ تَرْكُهُ بِخِلَافِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.


[مَسْأَلَةٌ الطيب]
مَسْأَلَةٌ: (الْخَامِسُ الطِّيبُ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ):
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً الطِّيبُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي أَوْقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: " «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «لَا تُحَنِّطُوهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ - فِيمَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ -: " «وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. فَإِذَا نَهَى عَنِ الْمُورَسِ وَالْمُزَعْفَرِ مَعَ أَنَّ رِيحَهُمَا لَيْسَ بِذَاكَ، فَمَا لَهُ رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ أَوْلَى.
فَأَمَّا إِنْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا لَهُ جِرْمٌ يَبْقَى كَالْمِسْكِ وَالذَّرِيرَةِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِمَّا لَا يَبْقَى كَالْوَرْدِ وَالْبَخُورِ، ثُمَّ اسْتَدَامَهُ: لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكْرَهْ لَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَيَّامٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِحْرَامِ.
«وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْهَانَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ.
وَلَفْظٌ عَنْهَا: " «أَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - عَلَيْهِنَّ الضِّمَادُ قَدْ أَضْمَدْنَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمْنَ، ثُمَّ يَغْتَسِلْنَ وَهُوَ عَلَيْهِنَّ يَعْرَقْنَ وَيَغْتَسِلْنَ لَا يَنْهَاهُنَّ عَنْهُ» " وَلِأَنَّ الطِّيبَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ، فَإِذَا كَانَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ فَكَذَلِكَ الطِّيبُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الطِّيبَ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ كَالنِّكَاحِ، فَإِذَا مُنِعَ مِنِ ابْتِدَائِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنِ اسْتِدَامَتِهِ، وَعَكْسُهُ اللِّبَاسُ، فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ جِنْسِ النَّظَافَةِ مِنْ حَيْثُ يُقْصَدُ بِهِ قَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ كَمَا يُقْصَدُ بِالنَّظَافَةِ إِزَالَةُ مَا يَجْمَعُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ مِنَ الْوَسَخِ. ثُمَّ اسْتُحِبَّ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ. فَكَذَلِكَ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّطَيُّبُ قَبْلَهُ، وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ - يَعْنِي عَنْ يَعْلَى - «أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "لَيْتَنِي أَرَى نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ بِهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً، ثُمَّ سَكَتَ فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ بِيَدِهِ إِلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ تَعَالَ فَجَاءَهُ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْجُعْرَانَةِ قَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُعَصْفِرٌ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى، فَقَالَ: "انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ» " رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الطِّيبِ كَاسْتِدَامَةِ اللِّبَاسِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ نَحْوُ ذَلِكَ.
قِيلَ: قَدْ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِغَسْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ زَعْفَرَانًا وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا لِأَنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ بِالْجُعْرَانَةِ - وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ عَقِبَ قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ عَشْرٍ وَاسْتَدَامَ الطِّيبَ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخَرِ فَالْآخَرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ
(فَصْلٌ)

يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ سَوَاءٌ مَسَّ الطِّيبُ بَدَنَهُ، أَوْ لَمْ يَمَسُّهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِي الْمُحْرِمِ الْمُوقَصِ - " «لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا» " وَفِي لَفْظٍ: " «لَا تُحَنِّطُوهُ» " وَجَعْلُهُ فِي ظَاهِرِهِ: تَقْرِيبٌ لَهُ لَا سِيَّمَا وَالْحَنُوطُ هُوَ مَشْرُوعٌ بَيْنَ الْأَكْفَانِ. فَلَمَّا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَحْنِيطِهِ عُلِمَ أَنَّ قَصْدَ تَحْنِيطِ بَدَنِهِ، وَثِيَابِهِ وَلَوْ كَانَ تَحْنِيطُ ظَاهِرِ الثَّوْبِ جَائِزًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَمَرَ بِهِ تَحْصِيلًا لِسُنَّةِ الْحَنُوطِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّ ظَاهِرَهُ أَوْ بَاطِنَهُ. فَعُلِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ وَشُمُولُهُ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطَيِّبَهُمَا بِشَيْءٍ يَعُدُّهُ النَّاسُ طِيبًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ لَوْنٌ أَوْ لَا لَوْنَ لَهُ؛ مِثْلُ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالنَّدِّ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْغَالِيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يَتَبَخَّرُ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَخُورِ الَّذِي لَهُ رَائِحَةٌ كَالْعُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ لَا عَيْنُهُ، فَإِذَا عَبِقَ بِالثَّوْبِ رَائِحَةُ الْبَخُورِ فَهُوَ طِيبُهُ، وَلِأَنَّ الْوَرْدَ وَدُخَانَ الْعُودِ وَنَحْوَهُ أَجْزَاءٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَلِهَذَا يُتَجَنَّبُ. . .، وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ فَوْقَانِيًّا، أَوْ تَحْتَانِيًّا.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ -: لَا يَلْبَسُ شَيْئًا فِيهِ طِيبٌ.
وَكَذَلِكَ - أَيْضًا - لَا يَجُوزُ ثَوْبٌ مُطَيَّبٌ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَفْتَرِشُ الْفِرَاشَ وَالثَّوْبَ الْمُطَيَّبَ - قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَلْبَسُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَالِافْتِرَاشُ: لُبْسٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ أَنَسٍ: "وَعِنْدَنَا حَصِيرٌ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ " لِأَنَّ اللُّبْسَ هُوَ الِاخْتِلَاطُ وَالْمُمَاسَّةُ، فَسَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ فَوْقَهُ، أَوْ كَانَ هُوَ فَوْقَ الثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا» " فِي الْمُحْرِمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَعْلَ الطِّيبِ فِي فِرَاشِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ إِلَيْهِ.
وَكُلُّ مَا حَرُمَ لُبْسُهُ حَرُمَ الْجُلُوسُ مِنَ الْحَرِيرِ وَالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْصَدُ إِهَانَتُهُ. وَلِأَنَّ جَعْلَ الطِّيبِ فِي الْفِرَاشِ أَبْلَغُ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَى الْبَدَنِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الطِّيبُ فِي الْوَجْهِ الْأَعْلَى مِنَ الْفِرَاشِ فَهُوَ طِيبٌ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ بِثِيَابِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ التَّحْتَانِيِّ. . . .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطِّيبِ حَائِلٌ فَقَالَ الْقَاضِي: فِي الْمُجَرَّدِ إِنْ كَانَ صَفِيقًا يَمْنَعُ الْمُبَاشَرَةَ وَالرَّائِحَةَ جَمِيعًا لَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يَمْنَعُ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الرَّائِحَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ. فَأَمَّا الثَّوْبُ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَائِلٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنْ كَانَ الْحَائِلُ يَمْنَعُ وُصُولَ رِيحِ الطِّيبِ إِلَيْهِ زَالَ الْمَنْعُ وَإِيجَابُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي الثَّوْبِ الْفَوْقَانِيِّ كَمَا قُلْنَا فِي النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ اشْتِمَامَ الطِّيبِ عِنْدَنَا كَاسْتِعْمَالِهِ، فَإِذَا كَانَ رَائِحَةُ الطِّيبِ تَصِلُ إِلَيْهِ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ.
وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ فِي حَوَاشِي الْفِرَاشِ وَلَيْسَ تَحْتَهُ فَإِنْ كَانَ يَشُمُّ الرَّائِحَةَ. . . .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِالطِّيبِ وَالْمُضَمَّخِ بِهِ، وَالْمُبَخَّرِ بِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» " وَفِي لَفْظٍ: " «وَلَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ» ".
وَلِأَنَّ الْمَصْبُوغَ وَالْمُبَخَّرَ يَكُونُ لَهُمَا رِيحٌ كَالْمُضَمَّخِ.
فَإِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَةُ الْمَصْبُوغِ بِالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ وَبَقِيَ لَوْنُ الصَّبْغِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا لَوْنُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّائِحَةَ قَدْ ذَهَبَتْ وَلَا بِالتَّمَضُّخِ بِطِيبٍ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ كَمَاءِ الْوَرْدِ الْمُنْقَطِعِ، وَالْمِسْكِ الَّذِي اسْتَحَالَ. وَسَوَاءٌ كَانَ انْقِطَاعُ الرِّيحِ لِتَقَادُمِ عَهْدِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ قَدْ صُبِغَ بِشَرَابٍ أَوْ سِدْرٍ أَوْ إِذْخِرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ، فَأَمَّا إِنِ انْقَطَعَتِ الرَّائِحَةُ لِيُبْسِهِ فَإِذَا رُشَّ بِالْمَاءِ أَوْ تَرَطَّبَ، فَاحَ الطِّيبُ، فَإِنَّهُ طِيبٌ تَلْزَمُ الْفِدْيَةُ بِهِ يَابِسًا كَانَ أَوْ رَطْبًا، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَتْ رَائِحَتُهُ.
فَأَمَّا الْمَصْبُوغُ بِمَاءِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي يُشَمُّ رِيحُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ شَمِّ أَصْلِهِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِمَاءِ الْفَوَاكِهِ وَالرَّيَاحِينِ كَمَاءِ الرَّيْحَانِ وَاللُّفَّاحِ وَالنَّرْجِسِ وَالْبَنَفْسَجِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ وَرْدِهِ وَمَائِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي مَاءِ الْوَرْدِ.
وَلَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ الَّذِي فِيهِ طِيبٌ قَدْ لَبِسَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَعَادَهُ: فَقَدِ ابْتَدَأَ لُبْسَ الْمُطَيَّبِ. فَأَمَّا إِنِ اسْتَصْحَبَ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَنْعُ فَإِنَّ. . .
(فَصْلٌ)

وَإِذَا مَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَعْلُقُ لِرُطُوبَتِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالْمِسْكِ الْمَبْلُولِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، أَوْ لِنُعُومَتِهِ كَسَحِيقِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، أَوْ لِرُطُوبَةِ يَدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَإِنْ أَمْسَكَ مَا لَا يَعْلُقُ بِالْيَدِ كَأَقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ غَيْرِ السَّحِيقِ وَالْوَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشُمَّهُ، وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ يَعْتَقِدُهُ يَابِسًا لَا يَعْلُقُ بِيَدِهِ، فَعَلُقَ بِيَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالُوا: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ هَذَا عَلَى مَا إِذَا تَطَيَّبَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ. . . .
فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مَا فِيهِ طِيبٌ. . . .
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا اشْتِمَامُ الطِّيبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِبَدَنِهِ وَلَا بِثَوْبِهِ؛ إِمَّا بِأَنْ يَقْرُبَ إِلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ رِيحَهُ، أَوْ يَتَقَرَّبَ هُوَ إِلَى مَوْضِعِهِ حَتَّى يَجِدَ رِيحَهُ، فَلَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُضَرَ الْقَاسِمِ - فِي الْمُحْرِمِ يَشُمُّ الطِّيبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الرَّجُلِ يَحْمِلُ مَعَهُ الطِّيبَ وَهُوَ مُحْرِمٌ: كَيْفَ يَجُوزُ هَذَا؟! وَعَطَاءٌ يَقُولُ: إِنْ تَعَمَّدَ شَمَّهُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، قِيلَ لَهُ: يَحْمِلُهُ لِلتِّجَارَةِ؟ فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا رِيحَ لَهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ -: أَمَّا الطِّيبُ فَلَا يَقْرَبُهُ، وَالرَّيْحَانُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الطِّيبِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّطَيُّبِ وُجُودُ رَائِحَةِ الطِّيبِ، فَإِذَا تَعَمَّدَ الشَّمَّ: فَقَدْ أَتَى بِمَقْصُودِ الْمَحْظُورِ، بَلِ اشْتِمَامُهُ لِلطِّيبِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّرَفُّهِ مِنْ حَمْلِ طِيبٍ لَا يَجِدُ رِيحَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ نَائِمًا، أَوْ أَخْشَمَ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 05-07-2022, 06:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 89الى صــ 102
(46)

وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ - اخْتَلَفُوا فِي شَمِّ الْمُحْرِمِ الرَّيْحَانَ فَمَنْ جَعَلَهُ طِيبًا مَنَعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ طِيبًا لَمْ يَمْنَعْهُ. وَلَوْلَا أَنَّ الشَّمَّ الْمُجَرَّدَ يَحْرُمُ امْتَنَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؛ لِأَنَّ الرَّيَاحِينَ لَا يُتَطَيَّبُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَعَمَّدَ شَمَّ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ مَسٍّ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ قَصْدًا لِشَمِّ طِيبِهِمْ، أَوْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَقْتَ تَخْلِيقِهَا لِيَشُمَّ طِيبَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ ذَهَبَ لِغَيْرِ اشْتِمَامٍ فَوَجَدَ الرِّيحَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ سَمِعَ الْبَاطِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ سَمَاعَهُ، أَوْ رَأَى الْمُحَرَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الرُّؤْيَةَ، أَوْ مَسَّ حَكِيمٌ امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ مَسَّهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ إِدْرَاكَاتِ الْحَوَاسِّ بِدُونِ الْعَمْدِ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ.
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ وَلَمْ يَقْصِدِ الشَّمَّ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ أَوْ يَذْهَبَ؟. . . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا فِدْيَةَ فِي الشَّمِّ، وَلَا فِي الْقُعُودِ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ، أَوْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُطَيَّبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مُتَطَيِّبًا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الرَّائِحَةُ. . . .
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَجِدُ رِيحَهُ لِتِجَارَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَمَّهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَعْدَالِهِ، أَوْ مَحْمَلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ إِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ رِيحَهُ، فَإِنِ اسْتَصْحَبَهُ وَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟. . . .
فَأَمَّا مَا لَا يُقْصَدُ شَمُّهُ كَالْعُودِ إِذَا شَمَّهُ أَوْ قَلَّبَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَيَنْبَغِي إِذَا وَجَدَ الرَّائِحَةَ. . . .


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا النَّبَاتَاتُ الَّتِي لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلَا يُتَطَيَّبُ بِهَا فَقَسَمَهَا أَصْحَابُنَا قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا يُقْصَدُ طَعْمُهُ دُونَ رِيحِهِ بِحَيْثُ يَزْرَعُهُ النَّاسُ لِغَيْرِ الرِّيحِ، كَالْفَوَاكِهِ الَّتِي لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مِثْلُ الْأُتْرُجِّ، وَالتُّفَّاحِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْخَوْخِ، وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِشَمِّهِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ: فَإِنَّ كِلَاهُمَا مَقْصُودٌ.
وَكَذَلِكَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَهِيَ أَنِبْتَةُ الْبَرِّيَّةِ مِثْلُ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَالْإِذْخِرِ وَالْعَبَوْثُرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِشَمِّهِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا.
وَالثَّانِي: مَا يُسْتَنْبَتُ لِذَلِكَ وَهُوَ الرَّيْحَانُ: فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: -
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ -: الْمُحْرِمُ يَشُمُّ الرَّيْحَانَ لَيْسَ هُوَ مِنَ الطِّيبِ، وَرَخَّصَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ فِي الْمُحْرِمِ يَشُمُّ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْأُتْرُجَّ وَالتُّفَّاحَ وَالْمَوْزَ وَالْبِطِّيخَ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَمِّهِ، قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُتَّخَذُ طِيبًا.
وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْهُ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَثْرَمِ -: لَا يَشُمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، كَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ حَرَامٌ فِيهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَشُمُّ الرَّيْحَانَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ وَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْهَبُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَاهَةِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَالْمُحْرِمُ يَشُمُّ الرَّيْحَانَ؟ قَالَ: يَتَوَقَّاهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، قُلْتُ: فَالطِّيبُ؟ قَالَ: أَمَّا الطِّيبُ فَلَا يَقْرَبُهُ، وَالرَّيْحَانُ لَيْسَ مِثْلَ الطِّيبِ، قُلْتُ: فَيَشْرَبُ دَوَاءً؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذُو رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ يُتَّخَذُ لَهَا فَحَرُمَ شَمُّهُ كَالْمِسْكِ وَغَيْرِهِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْمِسْكَ وَنَحْوَهُ يُتَطَيَّبُ بِهِ بِجَعْلِهِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَأَمَّا هَذَا: فَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ شَمُّهُ مَعَ انْفِصَالِهِ إِذْ لَا يَعْلُقُ بِالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَفِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّرَفُّهِ مَا قَدْ يَزِيدُ عَلَى شَمِّ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ. وَلِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ جُمْلَةِ النَّبَاتَاتِ وَإِنْ تَطَيَّبَ بِهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طِيبًا، فَأُلْحِقَتْ سَائِرُ النَّبَاتَاتِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّهُ سُئِلَ: أَيَشُمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَالدُّهْنَ وَالطِّيبَ؟ فَقَالَ: لَا " وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يُتَطَيَّبُ بِهِ فِعْلًا، فَلَمْ يُكْرَهْ شَمُّهُ كَالْفَاكِهَةِ وَالنَّبَاتِ الْبَرِّيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْسُ اشْتِمَامِ الرِّيحِ مَكْرُوهًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ، أَوْ يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ، وَلَا بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الرِّيحُ وَالطَّعْمُ، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ الرِّيحُ فَقَطْ. فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالنَّيْلُوفَرِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْخِيرِيِّ وَهُوَ الْمَنْثُورُ، وَمَا لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ الْأَخْضَرُ وَالنَّمَّامُ وَالْبَرَمُ وَالنَّرْجِسُ وَالْمَرْزِنْجُوسُ. هَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَأَصْحَابِهِ مِثْلِ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ؛ لِعُمُومِ كَلَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَغَيْرِهِ: مَا يَتَّخِذُهُ مِنْهُ مِمَّا يُسْتَنْبَتُ لِلطِّيبِ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ - فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهُ الزِّئْبَقُ وَالْخِيرِيُّ وَهُوَ الْمَنْثُورُ وَالنَّيْلُوفَرُ -: فَهُوَ طِيبٌ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ هُوَ ثَمَرٌ شَجَرِيٌّ، فَإِذَا شَمَّ الْوَرْدَ أَوْ دَهَنَهُ أَوْ مَا خَالَطَهُ وَكَانَ ظَاهِرًا فِيهِ: فَفِيهِ الْفِدْيَةُ.
وَأَمَّا مَا يُسْتَنْبَتُ لِلطِّيبِ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ وَالْمَرْزِنْجُوسِ: فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّخَذَ مِنْهُ الطِّيبَ: فَهُوَ ذُو رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ يُتَطَيَّبُ: فَيَكُونُ طِيبًا كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ نَبَاتًا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ طِيبًا بِدَلِيلِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ.
وَمَنْ قَالَ بِالطَّرِيقَةِ الْأُولَى قَالَ: هَذَا لَا يُتَطَيَّبُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُتَطَيَّبُ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ فَرْعِهِ طِيبًا أَنْ يَكُونَ هُوَ طِيبًا.


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الثِّيَابُ الْمَصْبُوغَةُ بِغَيْرِ طِيبٍ؛ فَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا فِي الْإِحْرَامِ إِلَّا مَا يُكْرَهُ فِي الْحِلِّ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْإِحْرَامِ لُبْسُ الْبَيَاضِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ مَا لَمْ يَمَسُّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ وَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ لَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا تَلْبَسَ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ -: وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْمُعَصْفَرَ، وَلَا تَلْبَسُ مَا فِيهِ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ. وَقَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الْمُحْرِمُ يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ شُهْرَةً فَلَا يُعْجِبُنِي.
وَقَدْ أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْمُعَصْفَرَ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَرْأَةَ كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ خَصُّوهُ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ، لِيَبْنُوا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ أَجْوَدُ عِبَارَةً.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ وَالْمَخِيطَ مِنَ الثِّيَابِ وَلَا تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ وَلَا طِيبٌ.
فَأَمَّا الرَّجُلُ: فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الْمُعَصْفَرُ فِي الْإِحْرَامِ وَالْإِحْلَالِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ وَحَمَلَ حَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الْخُصُوصِ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ، وَخِلَافُ مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ، أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ، أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَتَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
فَإِنْ كَانَتْ مَرْفُوعَةً: فَقَدْ ثَبَتَتْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ: فَقَدَ فَهِمَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِبَاحَةَ مَا سِوَى الْمُورَسِ وَالْمُزَعْفَرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ، فَذَكَرَ الْأَصْنَافَ الْخَمْسَةَ، وَذَكَرَ مِنَ الْمَصْبُوغِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ: حَصَرَ الْمُحَرَّمَ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يَنْحَصِرُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ مُبَاحٌ.
وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ جُهْمَانَ قَالَ: "كَانَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ثَوْبَانِ مَصْبُوغَانِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَنْهَى النَّاسَ عَنِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةَ وَتَلْبَسُهَا؟ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّمَا هُوَ بِمَدَرٍ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مَسَائِلِ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: "كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ ".
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: "أَنَّهُ رَأَى عَائِشَةَ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ " رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ " رَأَيْتُ عَلَى عَائِشَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - دِرْعًا مُوَرَّدًا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ ".

وَعَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: " كَانَتْ عَائِشَةُ تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ ".
وَعَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ: " مَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ؟ فَقَالَتْ: مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحَرِيرِهَا وَعُصْفُرِهَا " رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَعَنْ عُرْوَةَ " أَنَّ أَسْمَاءَ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ الْمُشْبَعَاتِ بِالْعُصْفُرِ لَيْسَ فِيهَا زَعْفَرَانٌ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ ".
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: " كُنَّ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَاتِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ " رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ.
وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ لَيْسَ بِطِيبٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ لَوْنُهُ لَا رِيحُهُ ; لِأَنَّ رَائِحَتَهُ غَيْرُ مُسْتَلَذَّةٍ ; وَلِأَنَّهُ لَيْسَ طِيبًا إِذَا انْفَرَدَ، فَلَا يَكُونُ طِيبًا إِذَا صُبِغَ بِهِ، وَعَكْسُهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ.
وَلِأَنَّهُ صَبْغٌ مِنَ الْأَصْبَاغِ لَا يُقْصَدُ رِيحُهُ فَلَمْ يُكْرَهْ كَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْبَاغِ.
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِلرِّجَالِ: مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ قَالَ: " أَحْرَمَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُوَرَّدَيْنِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: خَالَفْتَ النَّاسَ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ: دَعْنَا مِنْكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْلِمَنَا بِالسُّنَّةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: صَدَقْتَ ".
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: " أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ يَعْنِي مُوَرَّدَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَخَالُ أَحَدًا يُعْلِمُنَا بِالسُّنَّةِ ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ حَاجًّا وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِأَهْلِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَلَحِقَهُمْ بِلَيْلٍ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ مُعَصْفَرَةٌ، فَلَمَّا رَآهُ عُثْمَانُ انْتَهَرَهُ وَأَقَّفَ بِهِ، وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمُعَصْفَرِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ وَلَا إِيَّاكَ إِنَّمَا نَهَانِي " .... النَّجَّادُ.
وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ: فِي هَذَيْنِ عَلَيَّ بَأْسٌ؟ قَالَ: فِيهِمَا طِيبٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَا بَأْسَ ".
وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الثَّوْبِ الْمُعَصْفَرِ طِيبٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهُ " رَوَاهُمَا النَّجَّادُ.
وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْبَعِ بِحَيْثُ يَكُونُ رَقِيقَ الْحُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ الْمُشْبَعُ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَهْيِ الرِّجَالِ عَنِ الْمُعَصْفَرِ وَهِيَ تَقْضِي عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَسْلَمُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ قَالَ طَلْحَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصْبَغَةَ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ " رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِسَعِيدٍ: إِنَّهُ أَبْصَرَ عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِمِشْقٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّجَّادِ " إِنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِهَذَا الْبَيَاضِ، وَيَرَاكُمُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ رَأَيْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ " فَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ خَافَ اقْتِدَاءَ الْجَاهِلِ بِهِ فِي لُبْسِ الْمَصْبُوغَاتِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُطَيَّبِ وَغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ.
وَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ لُبْسَ الْمَصْبُوغِ فِي رِوَايَةٍ، وَكَرِهَهُ فِي رِوَايَةٍ إِذَا كَانَ شُهْرَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَهِرَ فَيَقْتَدِيَ بِهِ الْجَاهِلُ أَوْ تَمْتَدَّ إِلَيْهِ الْأَبْصَارُ خُصُوصًا فِي الْإِحْرَامِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ عَلَيْهِمُ الْبَيَاضُ، فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ مَا كَانَ زِينَةً إِذَا ظَهَرَ.
وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا رَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا شَاءَتْ إِلَّا الْبُرْقُعَ وَالْمُتَوَرِّدَ بِالْعُصْفُرِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " يُكْرَهُ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالزَّعْفَرَانِ، وَالْمُشْبَعَةُ بِالْعُصْفُرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا غَسِيلًا " رَوَاهُ النَّجَّادُ.
فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا ظَهَرَتْ ..
فَأَمَّا الْحُلِيُّ وَالْحَرِيرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُحْرِمَةِ نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْجَرْجَرَائِيِّ -وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْخِضَابِ لِلْمُحْرِمِ، قَالَ: لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ طِيبٍ، وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ وَقَدْ كَرِهَ الزِّينَةَ عَطَاءٌ لِلْمُحْرِمِ.
فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ عَطَاءٍ: " أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الزِّينَةَ كُلَّهَا الْحُلِيَّ وَغَيْرَهُ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا -: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْمُعَصْفَرِ، أَوْ بِثَوْبٍ مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ شَيْءٌ مِنَ الطِّيبِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ أَيْضًا.


فَصْلٌ.
وَأَمَّا الزِّينَةُ فِي الْبَدَنِ مِثْلُ الْكُحْلِ وَالْخِضَابِ وَنَحْوِهِمَا، فَقَالَ أَحْمَدُ -فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ -: وَيَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ الْمُحْرِمُ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الزِّينَةَ، قُلْتُ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ -: وَلَا تُكَحِّلُ الْمَرْأَةُ بِالسَّوَادِ إِلَّا بِالذَّرُورِ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْخِضَابِ لِلْمُحْرِمِ فَقَالَ: لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الطِّيبِ، وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ وَقَدْ كَرِهَ الزِّينَةَ عَطَاءٌ لِلْمُحْرِمِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ -: الْحِنَّاءُ مِثْلُ الزِّينَةِ، وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الرَّيْحَانِ يُرَخِّصُ فِيهِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 05-07-2022, 07:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 103الى صــ 116
(47)

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - وَسُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يُخَضِّبُ رِجْلَهُ بِالْحِنَّاءِ إِذَا تَشَقَّقَتْ، فَقَالَ: الْحِنَّاءُ مِنَ الزِّينَةِ، وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الرَّيْحَانِ يُرَخِّصُ فِي الْحِنَّاءِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: تُكْرَهُ الزِّينَةُ لِلْمُحْرِمِ، وَتُمْنَعُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الزِّينَةِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي الزِّينَةِ.
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الزِّينَةَ ; لِأَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْحُلِيِّ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنَّمَا نَقَلَهُ عَنْ عَطَاءٍ ; لِأَنَّ الزِّينَةَ مِنْ دَوَاعِي النِّكَاحِ فَكُرِهَ لِلْمُحْرِمِ كَالطِّيبِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَمَّا مُنِعَتْ مِنَ النِّكَاحِ مُنِعَتْ مِنَ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ، وَالْمُحْرِمَةُ تُشْبِهُهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ فِي تَوَابِعِهِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ.
بِخِلَافِ الصَّائِمَةِ وَالْمُعْتَكِفَةِ، فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا تُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ ; وَلِأَنَّ زَمَانَ الْإِحْرَامِ يَطُولُ كَزَمَانِ الْعِدَّةِ، فَالدَّاعِي إِلَى النِّكَاحِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِخِلَافِ مَا قَصُرَ زَمَانُهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِوَقْتِ الْحِلِّ عَنْ وَقْتِ الْحَظْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالْكُحْلَ الْمُطَيَّبَ، وَالدَّوَاءَ الَّذِي فِيهِ طِيبٌ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، ثُمَّ قَالَ فِيمَا لِلْمَرْأَةِ وَمَا تُمْنَعُ مِنْهُ: وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ، فَفَرَّقَ فِي الْكُحْلِ السَّاذَجِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَدَّةَ أَشَدُّ مِنْ حَيْثُ تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهَا، فَكَانَتْ أَشَدَّ مِنَ الْمُحْرِمَةِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي الزِّينَةِ ; لِأَنَّ الْمُتَزَيِّنَ لَا يَسْتَمْتِعُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ الْمَيِّتَ، فَإِنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
فَأَمَّا الْكُحْلُ إِذَا كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَيَكْتَحِلُ بِهِ وَيَفْتَدِي. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِينَةٌ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِينَةٌ، مِثْلُ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ: كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا قَصَدَ بِهِ الِاكْتِحَالَ لِلزِّينَةِ لَا لِلْمَنْفَعَةِ وَالتَّدَاوِي، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْمَنْفَعَةَ وَكَانَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ، مِثْلُ: أَنْ يَخَافَ الرَّمَدَ أَوْ يَكُونَ أَرْمَدَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ جَازَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: وَيَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ، وَيَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَدَاوَى بِالْأَكْحَالِ كُلِّهَا مَا لَمْ يَكُنْ كُحْلٌ فِيهِ طِيبٌ.
وَأَمَّا إِنْ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ، وَلَكِنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ جَازَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ - فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ - لِأَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِالْإِثْمِدِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الزِّينَةَ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ جَوَّزَ لَهُ التَّدَاوِيَ بِكُلِّ كُحْلٍ لَا طِيبَ فِيهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ أَوْ لَا يَقُومَ.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا تَكْتَحِلُ الْمَرْأَةُ بِالسَّوَادِ إِلَّا بِالذَّرُورِ: فَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ فِيهِ زِينَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الزِّينَةَ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَقَدْ خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى نَبِيهُ بْنُ وَهْبٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ اشْتَكَى عَيْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَحِّلَهَا، فَنَهَاهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُضَمِّدَهَا بِالصَّبِرِ، وَحَدَّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَضْمِدْهُمَا بِالصَّبِرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ حَدَّثَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَقَدْ رَخَّصَ لَهُ بِالتَّضْمِيدِ بِالصَّبِرِ مَعَ الشَّكَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكْتَحِلُ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ أَوْ طِيبٌ إِذَا وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّزَيُّنَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: " تَكْتَحِلُ الْمُحْرِمَةُ بِكُلِّ كُحْلٍ إِلَّا كُحْلًا فِيهِ طِيبٌ أَوْ سَوَادٌ فَإِنَّهُ زِينَةٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " لَا تَكْتَحِلُ الْمُحْرِمَةُ بِالْإِثْمِدِ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. قَالَ: لَا فَإِنَّهُ زِينَةٌ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكْتَحِلَ الْمُحْرِمَةُ بِالْكُحْلِ الْأَحْمَرِ وَالذَّرُورِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِالصَّبِرِ ". رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُ اشْتَكَى فَأَقْطَرَ الصَّبِرَ فِي عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".
وَعَنْهُ قَالَ يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ كُحْلٌ فِيهِ طِيبٌ ". رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَمِدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَقْطَرَ فِي عَيْنَيْهِ الصَّبِرَ إِقْطَارًا، وَأَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ إِذَا رَمِدَ مَا لَمْ يَكْتَحِلْ بِطِيبٍ وَمِنْ غَيْرِ رَمَدٍ ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.
فَأَمَّا الطِّيبُ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ فِيهِ طِيبٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وَأَمَّا الْخِضَابُ بِغَيْرِ الْحِنَّاءِ، مِثْلُ الْوَشْمِ وَالسَّوَادِ وَالنِّيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِطِيبٍ فَهُوَ زِينَةٌ مَحْضَةٌ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الطِّيبِ مِثْلَ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ.
وَأَمَّا بِالْحِنَّاءِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا: " هُوَ مِثْلُ الزِّينَةِ "، وَعَلَى هَذَا أَصْحَابُنَا، قَالُوا: " لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لَوْنُهُ دُونَ رَائِحَتِهِ فَأَشْبَهَ الْوَشْمَةَ وَنَحْوَهَا "، وَشَبَّهُوهُ بِالْعُصْفُرِ وَبِالْفَوَاكِهِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ غَيْرُ الرَّائِحَةِ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ: " مَنْ يُرَخِّصُ فِي الرَّيْحَانِ يُرَخِّصُ فِي الْحِنَّاءِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّيْحَانِ فِي كَوْنِهِ نَبَاتًا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَلَا يُتَّخَذُ لِلتَّطَيُّبِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعْنَا مِنَ الرَّيْحَانِ مَنَعْنَا مِنَ الْحِنَّاءِ.
وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بِحَالٍ ; لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: " مَنْ رَخَّصَ فِي الرَّيْحَانِ رَخَّصَ فِيهِ " وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ مَنَعَ مِنَ الرَّيْحَانِ ; لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ مِنَ الرَّيْحَانِ إِذِ الرَّيْحَانُ يُقْصَدُ شَمُّهُ، وَالْحِنَّاءُ لَا يُقْصَدُ شَمُّهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الرَّيْحَانِ كَرَاهَتُهُ كَمَا لَمْ يُكْرَهِ الْمُعَصْفَرُ، فَإِذَا كَانَ زِينَةً كُرِهَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَرْبٍ وَعَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا.
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ الرُّخْصَةَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الرَّيْحَانِ يُرَخِّصُ فِيهِ "، وَالرَّيْحَانُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ; وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا نَقَلَ الْكَرَاهَةَ عَنْ عَطَاءٍ.
فَأَمَّا لِحَاجَةٍ فَلَا يُكْرَهُ كَمَا قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: " أَنَّ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يَخْتَضِبْنَ وَهُنَّ حُرُمٌ ". رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: " وَإِذَا اخْتَضَبَتْ وَلَفَّتْ عَلَى يَدَيْهَا لَفَائِفَ وَشَدَّتْهَا افْتَدَتْ كَمَا لَوْ لَبِسَتِ الْقُفَّازَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ خِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى يَدَيْهَا وَتَشُدُّهَا ; لِأَنَّ شَدَّهَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْقُفَّازَيْنِ فِي كَوْنِهِ شَيْئًا مَصْنُوعًا لِلْيَدِ وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ. وَإِنْ لَفَّتْهَا مِنْ غَيْرِ شَدٍّ لَمْ تَفْتَدِ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَضَعَتْ يَدَهَا فِي كُمِّهَا، وَكَالْعِمَامَةِ الَّتِي يُلْقِهَا الرَّجُلُ عَلَى بَطْنِهِ، فَإِنْ غَرَزَتْ طَرَفَ اللِّفَافَةِ فِي لَفَّةٍ تَحْتَهَا
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: " يَنْظُرُ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ وَلَا يُصْلِحُ شَيْئًا "، قَالَ أَصْحَابُنَا: " يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَلَا يُصْلِحُ شَعَثًا وَلَا يُزِيلُ غُبَارًا "، وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ: " يَنْظُرُ إِلَّا لِلزِّينَةِ " ; لِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ ".
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".
وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسٍ وَتَمَّامِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ فِي الْمِرْآةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ".
وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ: " أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ "، إِلَّا أَنَّ عَطَاءً قَالَ: " لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ لِيُمِيطَ بِهَا الْأَذَى فَأَمَّا الزِّينَةُ فَلَا ".
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ مِنْ شَكْوَى كَانَ بِعَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".
وَإِنَّمَا قُلْنَا: " لَا يُزِيلُ شَعَثًا وَلَا يَنْفُضُ غُبَارًا ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ ".
فَصْلٌ.

وَأَمَّا النَّظَافَةُ: فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ وَثِيَابَهُ وَأَنْ يُبَدِّلَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ وَيَبِيعَهَا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ وَسَخَةٍ وَإِزَالَةُ الْقَمْلِ الَّذِي كَانَ بِثِيَابِهِ، وَإِنْ أَفْضَى اغْتِسَالُهُ إِلَى قَتْلِ الْقَمْلِ الَّذِي بِرَأْسِهِ، حَتَّى لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ مَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ شَعْرٍ.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: " وَيَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ وَيَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَدَاوَى بِالْأَكْحَالِ كُلِّهَا مَا لَمْ يَكُنْ كُحْلٌ فِيهِ طِيبٌ ".
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: " الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَثَوْبَهُ ".
وَقَالَ حَرْبٌ: " قُلْتُ لِأَحْمَدَ يَبِيعُ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ وَيَشْتَرِي غَيْرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِهِ ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: " سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَا يَمُدُّ بِيَدِهِ الشَّعْرَ مَدًّا شَدِيدًا، قَلِيلٌ قَلِيلٌ ".
وَلَا بَأْسَ بِالْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا، وَلَا بَأْسَ بِالْكِسَاءِ إِذَا أَصَابَهُ الْبَرْدُ، وَلَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَ، وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا وَلَا يَقْتُلْ قَمْلَةً وَلَا يَقْطَعْ شَعْرَةً وَلَا يَدْهُنْهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ -: " وَسُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَغْسِلُ بَدَنَهُ بِالْمَحْلَبِ فَكَرِهَهُ وَكَرِهَ الْأُشْنَانَ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: " أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: " «فَأَمَرَ أَبُو أَيُّوبَ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ جَمِيعًا عَلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ "، فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: " لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا» ".

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا مُحْرِمٌ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: صُبَّ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شَعَثًا، صُبَّ بِسْمِ اللَّهِ ".
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْمُحْرِمِ اغْسِلْ رَأْسَكَ فَهُوَ أَشْعَثُ لَكَ ".
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَغْتَسِلُ؟ فَقَالَ: " لَقَدِ ابْتَرَدْتُ يَعْنِي اغْتَسَلْتُ مُنْذُ أَحْرَمْتُ سَبْعَ مَرَّاتٍ "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " لَقَدِ ابْتَرَدْتُ مُنْذُ أَحْرَمْتُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً ".
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَغْتَسِلَ الْمُحْرِمُ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " رُبَّمَا قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَنَحْنُ بِالْجُحْفَةِ - تَعَالَ أُبَاقِيكَ أَيُّنَا أَطْوَلُ نَفَسًا "، وَفِي رِوَايَةٍ: " رُبَّمَا رَامَسْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ".
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: مَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَشُمَّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ ".
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحْرِمُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَظْفَارِهِمْ وَشَوَارِبِهِمْ وَأَنْ يَسْتَحِدُّوا، ثُمَّ يَلْبَسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ نَهَارًا، وَأَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا لَيْلًا، فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَذَكَرْتُ لَهُ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: " قُلْتُ لَهُ: أَطْرَحُ ثِيَابِي الَّتِي فِيهَا تَفَثِي وَقَمْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ أَبْعَدَ اللَّهُ الْقَمْلَ ". رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِيهِ إِزَالَةُ الْوَسَخِ وَالْغُبَارِ وَقَتْلُ الْقَمْلِ وَقَطْعُ الشَّعْرِ وَتَخْمِيرُ الرَّأْسِ فِي الْمَاءِ.
قِيلَ: أَمَّا تَخْمِيرُ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ التَّغْطِيَةَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الِاغْتِسَالُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا.
وَأَمَّا قَطْعُ الشَّعْرِ: فَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَقْطَعُ شَعْرًا.
وَأَمَّا إِزَالَةُ الْوَسَخِ وَقَتْلُ الْقَمْلِ: فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُكْرَهُ تَعَمُّدُ إِزَالَةِ الْوَسَخِ وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْقَمْلِ، فَعَلَى هَذَا يُحَرِّكُ رَأْسَهُ تَحْرِيكًا رَفِيقًا كَمَا فَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ: " وَلَا يَمُرُّ بِيَدِهِ عَلَى الشَّعْرِ مَرًّا شَدِيدًا " يَعْنِي أَنَّ الْخَفِيفَ، مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ بِبُطُونِ أَصَابِعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ ; وَذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَقْتُلَ قَمْلَهُ، أَوْ يُزِيلَ وَسَخًا، أَوْ يَقْطَعَ شَعْرًا.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةٍ الْمَرُّوذِيِّ -: " لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ وَلَكِنْ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ صَبًّا وَلَا يُدَلِّكُهُ ". فَمَنَعَهُ مِنَ الدَّلْكِ مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ
وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: " إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ صَبًّا وَلَمْ يَحُكَّهُ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ اسْتُحِبَّ أَنْ يَغْسِلَهُ بِبُطُونِ أَنَامِلِهِ وَيَدَيْهِ وَيُزَايِلَ شَعْرَهَ مُزَايَلَةً رَفِيقَةً، وَيُشْرِبَ الْمَاءَ إِلَى أُصُولِ شَعْرِهِ، وَلَا يُحَرِّكَهُ بِأَظَافِيرِهِ وَيَتَوَقَّى أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ حَرَّكَهُ تَحْرِيكًا خَفِيفًا أَوْ شَدِيدًا فَخَرَجَ فِي يَدَيْهِ مِنْهُ شَعْرٌ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ قَطَعَهُ، وَكَذَلِكَ شَعْرُ اللِّحْيَةِ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ قَطَعَهُ.
قَالُوا: فَأَمَّا بَدَنُهُ فَيَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا إِنْ شَاءَ. فَقَدْ جَوَّزُوا لَهُ دَلْكَ الْبَدَنِ شَدِيدًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِزَالَةُ الْوَسَخِ بِخِلَافِ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَقْطَعَ الشَّعْرَ.
وَإِذَا كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوصِلَ الْمَاءَ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى ذَلِكَ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْغُسْلَ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمُحْرِمِ مِثْلُ دُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِيهِ ذَلِكَ. مَا الْمُبَاحُ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَكَلَامُ .... يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، أَوْ أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ. وَالصَّوَابُ: الْمَنْصُوصُ.
وَأَمَّا دَلْكُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ: فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِلْأُشْنَانِ وَالْمَحْلَبِ فِي الْبَدَنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ تَعَمُّدَ إِزَالَةِ الْوَسَخِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: " يَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا ; لِأَنَّ الْحَكَّ الشَّدِيدَ إِنْ صَادَفَ شَعْرًا قَطَعَهُ، وَإِنْ صَادَفَ قَمْلًا قَتَلَهُ، وَإِنْ صَادَفَ بَشَرَةً جَرَحَهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَاءِ أَوِ الْغَرْفِ أَزَالَ الْوَسَخَ.
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ: " يَحُكُّ بَدَنَهُ حَكًّا شَدِيدًا - إِنْ شَاءَ - ; لِأَنَّ الْإِدْمَاءَ وَإِزَالَةَ الْوَسَخِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَهُمْ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي بِأَنَّ مَا يُزِيلُ الْوَسَخَ مِنَ الْمَاءِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِمَسْأَلَةِ السِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ.
وَأَمَّا غَسْلُ الرَّأْسِ بِالْخِطْمِيِّ وَالسِّدْرِ: فَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ - إِذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ افْتَدَى.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: " وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ وَلَكِنْ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ صَبًّا وَلَا يَدْلُكُهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَرْبٍ - وَسُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَغْسِلُ بَدَنَهُ بِالْمَحْلَبِ: فَكَرِهَهُ وَكَرِهَ الْأُشْنَانَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَأَخَذَهَا مِنْ قَوْلِهِ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: " لَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَثَوْبَهُ ".
فَأَطْلَقَ الْغَسْلَ، وَمِنْ كَوْنِهِ قَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَجُلًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فِيهِ خَمْسُ سُنَنٍ، كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تَمَسُّوهُ طِيبًا، وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، أَيْ فِي الْغَسْلَاتِ كُلِّهَا» ".
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ تَغْسِيلَ الْمَيِّتِ الْمُحْرِمِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، مَعَ أَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ بَاقٍ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 05-07-2022, 07:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 117الى صــ 130
(48)

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ: " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» مَعَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» فَعُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطِّيبِ وَالسِّدْرِ.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَاغْتِسَالُهُ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الشَّعْرِ وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ. وَنَصَّ - أَيْضًا - عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ، بَلْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا، فَعُلِمَ أَنَّ الدَّعْكَ وَالْمَعْكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ غَسْلِ الْمُحْرِمِ وَغَسْلِ الْحَلَالِ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصْرَحُ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ هُوَ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ، وَالسِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَالْغُبَارَ ; وَلِأَنَّهُ غَالِبًا يَقْطَعُ الشَّعْرَ، وَيَقْتُلُ الدُّودَ.
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ الْمَيِّتُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ، فَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - وَقِيلَ لَهُ يُغَسَّلُ؟ قَالَ: " يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، قَالَ: لَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ ".
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ: " سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ أَوْ يُغَسَّلُ بِالسِّدْرِ وَالْمَاءِ؟ قَالَ: يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ ". حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا». قُلْتُ: " فَإِذَا غُسِّلَ يُدْلَكُ رَأْسُهُ بِالسِّدْرِ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي كَذَا جَاءَ الْخَبَرُ يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، قِيلَ لَهُ: فَتَذْهَبُ إِلَى أَنْ يُخَمَّرَ وَجْهُهُ وَيُكْشَفَ رَأْسُهُ؟ قَالَ:نَعَمْ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: يُخَمَّرُ رَأْسُهُ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ بِالسِّدْرِ، وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَّهُ يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ". مُرْسَلٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " أَنَا أَقُولُ يُغَسَّلُ بِالسِّدْرِ وَلَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ، قُلْتُ: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَهَابُ أَنْ أَقُولَ يُغَسَّلُ بِالسِّدْرِ وَأُحِبُّ الْعَافِيَةِ مِنْهَا، قُلْتُ: فَيُجْزِئُهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ فَقَطْ؟ قَالَ: يُجْزِئُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " الَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَلَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُمَسُّ طِيبًا» ".
فَقَدْ تَوَقَّفَ فِي دَلْكِ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ رَأْسُهُ بِالسِّدْرِ كَالْحَيِّ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ غَسْلُ بَدَنِهِ بِالسِّدْرِ وَأَنَّ السِّدْرَ يُذَرُّ فِي الْمَاءِ.
وَالصَّوَابُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْخَلَّالُ: " مَا رَوَاهُ أَبُو الْحَارِثِ فِي غَسْلِهِ فِيهِ تَوَقُّفٌ وَجُبْنٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رَوَى مَا رَوَى حَنْبَلٌ: أَنَّهُ لَا يُدَلَّكُ رَأْسُهُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ صَبًّا، وَيَكُونُ فِيهِ السِّدْرُ، وَبَيَّنَ عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ يُصَبُّ الْمَاءُ وَلَا يُغَسَّلُ كَمَا يُغَسَّلُ الْحَلَالُ، وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُهُ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ: أَنَّ الْمَيِّتَ مُحْتَاجٌ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ فَإِنَّ هَذَا آخِرُ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا، وَلَيْسَ حَالٌ يُنْتَظَرُ فِيهَا إِزَالَةُ تَفَثِهِ، فَجَازَ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا رُخِّصَ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ وَالنَّعْلَيْنِ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ ; إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَكَذَلِكَ مَوْتَى الْمُحْرِمِينَ بِهِمْ حَاجَةٌ عَامَّةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالشَّعَثِ، فَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ قُوَّةِ الدَّلْكِ خَشْيَةَ تَقْطِيعِ الشَّعْرِ.
قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: " قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الْمُحْرِمُ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ، قَالَ: نَعَمْ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِهِ طَيَّبَهُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَمَسُّ طِيبًا فَيَجْعَلُهُ رَجُلٌ حَلَالٌ.

فَصْلٌ.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: " وَلَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا، وَلَا يَقْتُلُ قَمْلَهُ وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا، وَيَغْتَسِلُ إِنْ شَاءَ وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ، وَلَا يُرَجِّلُ شَعْرَهُ وَلَا يَدْهُنُهُ، وَلَا يَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: لَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا، وَلَا يَقْتُلُ قَمْلَةً وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا، وَيَغْتَسِلُ إِنْ شَاءَ وَيَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ، وَلَا يُرَجِّلُ شَعْرَهُ وَلَا يَدْهُنُ، وَلَا يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَلَا يُصْلِحُ شَيْئًا.
فَأَمَّا التَّفَلِّي: فَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْقَمْلِ مِنْ بَيْنِ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ ظَاهِرًا عَلَى الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ فَأَلْقَاهُ .... وَيَحُكُّهُ ; لِأَنَّ حَكَّهُ يُذْهِبُ أَذَى الْقَمْلِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ لَهُ.
فَأَمَّا الْإِدِّهَانُ: فَإِنْ كَانَ بِدُهْنٍ فِيهِ طِيبٌ، مِثْلُ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطِّيبِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، مِثْلُ الشَّيْرَجِ، وَالزَّيْتِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَحْمَدُ: إِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ كَرِهْتُهُ وَلَا فِدْيَةَ، فَإِنَّ مَكْرُوهَاتِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَصِيرُ غَيْرَ مَكْرُوهٍ وَلَا فِدْيَةَ فِيهَا بِخِلَافِ مَحْظُورَاتِهِ، فَإِنَّهَا إِذَا أُبِيحَتْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فِدْيَةٍ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ - لَا يُرَجِّلُ شَعْرَهُ وَلَا يَدْهُنُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ - لَا يُرَجِّلُ شَعْرَهُ وَلَا يَدْهُنُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيُّ: لَا يَدْهُنُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ.
وَقَالَ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ وَهُوَ يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالشَّيْرَجَ وَنَحْوَهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَدَاوَىَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَلَا كَرَاهَةٍ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - الزَّيْتُ الَّذِي يُؤْكَلُ لَا يَدْهُنُ بِهِ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، قَالَ: نَعَمْ يَدَّهِنُ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ.
فَرَخَّصَ فِيهِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِدُونِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ إِذْ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا بِدُونِ الْحَاجَةِ لَوَجَبَتْ فِيهِ الْفِدْيَةُ مَعَ الْحَاجَةِ كَالطِّيبِ.
فَعَلَى هَذَا إِنِ احْتَاجَ إِلَى الْأَدْهَانِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِرِجْلِهِ شُقُوقٌ أَوْ بِيَدَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا فِدْيَةٍ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُ.
وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الطِّيبِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ فِي رَأْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَنْشَقَّ رَأْسُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ أَيْضًا عَلَى عُمُومِ كَلَامِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَعُمُومُ كَلَامِهِ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ دَهْنِ رَأْسِهِ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى مَنْعِ دَهْنِ رَأْسِهِ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ - فِي مَعْنَى الرَّأْسِ وَأَمَّا دَهْنُ بَشَرَتِهِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: يُكْرَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ - لَا يَدَّهِنُ وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - يَدَّهِنُ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَهَذَا قَوْلٌ
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَنْعَ مُخْتَصٌّ بِالرَّأْسِ ; لِأَنَّهُ قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ - لَا يُرَجِّلُ شَعْرَهُ وَلَا يَدْهُنُهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - الزَّيْتُ الَّذِي يُؤْكَلُ لَا يَدْهُنُ بِهِ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ إِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ بِغَيْرِ طِيبٍ كَرِهْتُهُ وَلَا فِدْيَةَ وَهَذَا قَوْلٌ .... وَذَلِكَ لِأَنَّ دَهْنَ الشَّعْرِ يُزِيلُ شَعَثَهُ وَيُرَجِّلُهُ وَيُرَفِّهُهُ بِخِلَافِ دَهْنِ الْبَشَرَةِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ لُصُوقَ الْغُبَارِ بِهَا.
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ فَذَكَرُوا فِي الْأَدْهَانِ مُطْلَقًا رِوَايَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّأْسِ أَوْ فِي الْبَدَنِ إِحْدَاهُمَا: الْجَوَازُ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ وَاخْتِيَارُ أَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ قَالُوا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنَعَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَاهَةِ مِنْ غَيْرِ الْفِدْيَةِ.
فَأَمَّا الدُّهْنُ بِالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَزَيْتِ الْبِزْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْهَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَعُمُّهُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ لِأَجْلِ أَنَّهُمَا أَصْلُ الْأَدْهَانِ.
فَأَمَّا دُهْنُ الْبَانِ: فَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْأَدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ دُونَ كَرَاهَةِ الطِّيبِ مَا رَوَى نَافِعٌ قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ قَالَ: كَانَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ ادَّهَنَ بِالزَّيْتِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَدَّهِنُونَ بِالطِّيبِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَجُلًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ - وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ وَلَمْ يُحْرِمْ - مَدْهُونَ الرَّأْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِالطِّينِ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ ادَّهَنَ مِنْ دُبَّةِ زَيْتٍ ".
فَادِّهَانُهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بَعْدَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ ادَّهَنَ كَمَا أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ كَانَ تَطَيَّبَ لِحُرْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ».
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اسْتِبْقَائِهِ فَلَمَّا اسْتَبْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَرَى اسْتِبْقَاءَ الطِّيبِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ.
وَأَمَّا لِلْحَاجَةِ فَرُوِيَ عَنْ مُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: " مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ الرَّبَذَةَ - وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ - فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَقَدْ تَشَقَّقَتْ أَيْدِينَا فَقَالَ: ادْهِنُوا أَيْدِيَكُمْ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " يَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ ".
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " أَصَابَ وَاقِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ فِي الطَّرِيقِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ فَكَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ.
وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ: الرُّخْصَةُ فِي التَّدَاوِي بِالْأَدْهَانِ الَّتِي تُؤْكَلُ فِي الْإِحْرَامِ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ تَشْتَكِي رَأْسَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، فَقَالَ: يُصَبُّ عَلَى رَأْسِهَا زَيْتًا نَيًّا ". رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صُدِعَ بِذَاتِ الْجَيْشِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَقَالُوا -: " أَلَا نَدْهُنُكَ بِالسَّمْنِ "، قَالَ: لَا، قَالُوا: أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ؟ قَالَ: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالدِّهَانِ بِهِ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ.


[مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الصَيْدِ]
مَسْأَلَةٌ: (السَّادِسُ: قَتْلُ صَيْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ مَا كَانَ وَحْشِيًّا مُبَاحًا، فَأَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ وَالْأَهْلِيِّ وَمَا حُرِّمَ أَكْلُهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْرِمِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُبَاحُ لَهُ ذَبْحُ جَمِيعِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا كَرَاهَةٍ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْإِنْسِيُّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ} [المائدة: 96]، وَفِي قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] مُطْلَقًا، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ} [المائدة: 96] بَيَانُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالٌ لَنَا مُحِلِّينَ كُنَّا أَوْ مُحْرِمِينَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] إِلَى قَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] فَكَانَ هَذَا مُبَيِّنًا وَمُفَسِّرًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي قَوْلِهِ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، وَفِي قَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وَقَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وَهَذَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: " وَالدَّجَاجُ الْأَهْلِيُّ لَيْسَ بِصَيْدٍ قَوْلًا وَاحِدًا "، وَفِي الدَّجَاجِ السِّنْدِيِّ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ صَيْدٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: لَيْسَ بِصَيْدٍ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: صَيْدُ الْبَرِّ فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] فَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُسْتَحِلِّي الصَّيْدِ فِي إِحْرَامِهِمْ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 94 - 95] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ - أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 95 - 96].
وَالصَّيْدُ الَّذِي يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مُتَوَحِّشًا سَوَاءٌ اسْتَأْنَسَ أَوْ لَمْ يَسْتَأْنِسْ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَرِّيًّا وَهُوَ مَا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَكْلُهُ، فَإِذَا كَانَ مُبَاحًا فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِغَيْرِ خِلَافٍ كَالظِّبَاءِ وَالْأَوْعَالِ وَالنَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا تُوُلِّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، كِالْعِسْبَارِ: وَهُوَ وَلَدُ الذِّيبَةِ مِنَ الضِّبْعَانِ، وَالسِّمْعُ: وَهُوَ وَلَدُ الضَّبُعِ مِنَ الذِّيبِ، وَمَا تُوُلِّدَ بَيْنَ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ.
فَأَمَّا مَا لَا يُؤْكَلُ: فَقِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يُؤْذِي فَالْمَأْمُورُ بِقَتْلِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ.

وَالثَّانِي غَيْرُ مُؤْذٍ: فَالْمُبَاحُ قَتْلُهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْذِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُلُّ مَا قُتِلَ مِنَ الصَّيْدِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ أَحْمَدَ، وَفِي الْآخَرِ يَفْدِي الثَّعْلَبَ وَالسِّنَّوْرَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ "، وَقَالَ: مَا يَفْدِي الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ ..
قَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ -: وَالْأَمْرُ عَلَى مَا حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُؤْذِي فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - إِنَّمَا جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الصَّيْدِ الْمُحَلَّلِ أَكْلُهُ، فَأَمَّا السَّبُعُ فَلَا أَرَى فِيهِ كَفَّارَةً.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَكْلِ الضَّبُعِ؟ فَقَالَ: يُؤْكَلُ، لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. قَالَ: وَكُلُّ مَا يُؤْدَى إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ، قِيلَ لَهُ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذِهِ خَارِجَةٌ مِنْهُ، وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا وَجَعَلَهَا صَيْدًا وَأَمَرَ فِيهِ بِالْجَزَاءِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ، فَكُلُّ مَا وُدِيَ وَحُكِمَ فِيهِ: أُكِلَ لَحْمُهُ ".
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُحْتَجًّا عَلَى إِبَاحَتِهَا: بِأَنَّهَا صَيْدٌ، يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ مُبَاحٌ.
وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ؟ فَقَالَ: هُوَ صَيْدٌ، وَقَدْ جُعِلَ جَزَاؤُهُ بَدَنَةً، يَعْنِي أَنَّهُ مُبَاحٌ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الضِّفْدَعِ حُكُومَةً.
فَعَلَى طَرِيقَتِهِ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، كَالضِّفْدَعِ وَالنَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ، وَمَا لَمْ يُنْهَ عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِي الثَّعْلَبِ إِذَا قُلْنَا: لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
وَحَمَلَ الْقَاضِي نَصَّ أَحْمَدَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقُولُ: يُؤْكَلُ، لَكِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ نَصُّ أَحْمَدَ وَقَوْلُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ الثَّعْلَبَ يُؤْدَى بِكُلِّ حَالٍ.
وَالثَّانِيَةُ: فِيهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَسِنْدِيٍّ -: " فِي الثَّعْلَبِ الْجَزَاءُ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَكْثَرُ مَذْهَبِهِ - وَإِنْ كَانَ يُؤْدَى - فَإِنَّهُ عِنْدَهُ سَبُعٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ -: الثَّعْلَبُ يُؤْدَى لِتَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ وَلَا يَلْبَسُهُ ; لِأَنَّهُ سَبُعٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ ثَعْلَبًا: " قَالَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ هُوَ صَيْدٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " سَأَلْتُ أَبِي قُلْتُ: مَا تَرَى فِي أَكْلِ الثَّعْلَبِ؟ قَالَ لَا يُعْجِبُنِي ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كُلِّ نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ إِلَّا عَطَاءً، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِجُلُودِهِ يُصَلَّى فِيهَا ; لِأَنَّهَا تُؤْدَى يَعْنِي فِي الْمُحْرِمِ إِذَا أَصَابَهُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 05-07-2022, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 131الى صــ 144
(49)



وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ جَزَاءٌ يُرَخَّصُ فِيهِ فَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْدَى مَعَ أَنَّهُ سَبُعٌ ".
وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ فِي السِّنَّوْرِ - الْأَهْلِيِّ وَغَيْرِ الْأَهْلِيِّ -: " حُكُومَةٌ ".
مَعَ أَنَّ الْأَهْلِيَّ لَا يُؤْكَلُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَالْوَحْشُ: فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ شَاةٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَكَذَلِكَ الْوَبَرُ فِيهَا الْجَزَاءُ مَعَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إِبَاحَةِ الْوَبَرِ وَالْيَرْبُوعِ، وَحُكِيَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِي الْأَرَانِبِ أَيْضًا - وَأُمُّ حُبَيْنٍ فِيهَا الْجَزَاءُ فِي وَجْهٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي بَعْضِ كُتُبِهِ - وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ إِلَّا فِي الْمَأْكُولِ، وَحَمَلَ نُصُوصَهُ فِي الثَّعْلَبِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَكْلِهِ، وَنَصُّهُ فِي السِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ: غَلَطٌ، فَإِنَّهُ قَدْ نُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الثَّعْلَبِ مَعَ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ سَبُعٌ مُحَرَّمٌ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَغَيْرُهُ.
فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: يُضْمَنُ مَا تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلُ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ حَرَامٌ قَوْلًا وَاحِدًا، كَالصُّرَدِ وَالْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ وَالثَّعْلَبِ وَالْيَرْبُوعِ وَالْجَفْرَةِ، كَمَا يُضْمَنُ السِّمْعُ وَالْعِسْبَارُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَجُوسِ - لَمَّا تَعَارَضَ فِيهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسُنَّةُ الْمُشْرِكِينَ -: حَرُمَ طَعَامُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَالْمُشْرِكِينَ، وَحَرُمَتْ دِمَاؤُهُمْ بِالْجِزْيَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ.


فَكَذَلِكَ هَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تُشْبِهُ السِّبَاعَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الْمُبَاحَةَ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلُهَا وَيَدِيهَا كَالْمَأْكُولِ، وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا كَالسِّبَاعِ.
وَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ فَجَمِيعُ الدَّوَابِّ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا لَمْ تُؤْدَ: رِوَايَتَانِ كَالسِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ.
فَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] بَعْدَ قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].
فَلَمَّا أَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ مَا دُمْنَا مُحْرِمِينَ: عُلِمَ أَنَّ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ بِالْإِحْرَامِ هُوَ مَا أُبِيحَ فِي الْإِحْلَالِ ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَحْرِيمَهُ بِالْإِحْرَامِ، وَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُعَلَّقُ تَحْرِيمُهُ بِالْإِحْرَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُبَاحٌ بَعْدَ الْإِحْلَالِ، كَمَا نَصَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إِبَانَةَ إِحْلَالِهِ وَنَحْنُ حَلَالٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: الضَّبُعُ آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتَ ذَاكَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ» ". رَوَاهُ ...
فَلَوْلَا أَنَّ الصَّيْدَ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ لَمْ يَسْأَلْ: أَصَيْدٌ هِيَ أَمْ لَا؟ وَلَوْلَا أَنَّ الصَّيْدَ نَوْعٌ مِنَ الْوَحْشِيِّ لَمْ يُخْبِرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا أَنَّهَا صَيْدٌ، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهَا صَيْدًا بِاللُّغَةِ أَوْ بِالْعُرْفِ لَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِتَعْلِيمِ الشَّرْعِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهَا صَيْدٌ عُلِمَ أَنَّ كَوْنَ الْبَهِيمَةِ صَيْدًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ.
وَوَجْهُ الثَّانِي:
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الضِّفْدَعِ رِوَايَتَانِ:


إِحْدَاهُمَا: لَا شَيْءَ فِيهِ. قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: لَا أَعْرِفُ فِي الضِّفْدَعِ حُكُومَةً، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ فِيهِ حُكُومَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ؟ وَهَذَا قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ.
وَالثَّانِيَةُ: فِيهِ الْجَزَاءُ. قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: هُشَيْمٌ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَأَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ نَحْوُ السُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ وَالضَّفَادِعِ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى.
فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يُضْمَنُ فَإِنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ بِلَا تَرَدُّدٍ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يَفْسُقُ بِفِعْلِهِ عَمْدًا.
وَمَا لَا يُضْمَنُ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالذِّئْبَ وَالسُّبُعَ وَكُلَّ مَا عَدَا مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُ الْقِرْدَ وَالنَّسْرَ وَالْعُقَابَ إِذَا وَثَبَ وَلَا كَفَّارَةَ.
فَإِنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْدُوَ عَلَيْهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ.
وَفِي لَفْظٍ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحِدَأَ وَالْغُرَابَ الْأَبْقَعَ، وَالزُّنْبُورَ وَالْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْفَأْرَةَ، وَالذِّئْبَ وَالسَّبُعَ، وَالْكَلْبَ، وَيَقْتُلُ الْقِرْدَ، وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيَقْتُلُ النَّسْرَ وَالْعُقَابَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ شَبِيهٌ بِالْحِدَأِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِهَا مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ يَخْطِفُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْكَفَّارَةُ وَالْجَزَاءُ فِي الصَّيْدِ الْمُحَلَّلِ أَكْلُهُ، وَهَذَا سَبُعٌ فَلَا كَفَّارَةَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْتُلَ الذَّرَّ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ - يَقْتُلُ السَّبُعَ عَدَا عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَعْدُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا - يَقْتُلُ الْقَمْلَ، وَيَقْتُلُ الْمُحْرِمُ النَّمْلَةَ إِذَا عَضَّتْهُ، وَلَا يَقْتُلُ النَّحْلَةَ فَإِنْ آذَتْهُ قَتَلَهَا، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الذَّرِّ، وَالصُّرَدِ، وَالصُّرَدُ طَيْرٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: يُقَرِّدُ الْمُحْرِمُ بَعِيرَهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرُّوذِيِّ -: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَكُلَّ سَبُعٍ عَدَا عَلَيْكَ، أَوْ عَقَرَكَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْكَ.


وَجُمْلَةُ هَذَا: أَنَّ مَا آذَى النَّاسَ أَوْ آذَى أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْأَذَى كَالسَّبُعِ الَّذِي قَدْ عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ أَوْ لَا يُؤْمَنُ أَذَاهُ، مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَإِنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ وَنَحْوَهَا تَدْخُلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَعُمُّ بَلْوَاهُمْ بِهَا فَأَذَاهُمْ بِهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ، قَالَ أَصْحَابُنَا: قَتْلُهَا مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ:حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحِدَأَةَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالْغُرَابَ» ".
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ "، وَفِي لَفْظٍ: " فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: " «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ؛ الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ، الْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مَا يَقْتُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحَيَّةِ، قَالَ وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا،» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهَا فَوَاسِقُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ وَذَكَرَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ؛ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقَةٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ وَلَا يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ؛ الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ؛ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْفُوَيْسِقَةَ وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْحِدَأَةَ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ.
فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَسَمَّاهُنَّ فَوَاسِقَ لِخُرُوجِهِنَّ عَلَى النَّاسِ.
وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ (خَمْسٌ) عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ ; لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ ذَكَرَ الْحَيَّةَ، وَفِي الْآخَرِ ذَكَرَ الْعَقْرَبَ، وَفِي آخَرَ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ السَّبُعَ الْعَادِيَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَثِيرًا وَهُوَ هَذِهِ الدَّوَابُّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِفُسُوقِهَا ; لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الْمُنَاسِبِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ، فَحَيْثُ مَا وُجِدَتْ دَابَّةٌ فَاسِقَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَضُرُّ النَّاسَ وَتُؤْذِيهِمْ جَازَ قَتْلُهَا.


وَقَوْلُهُ - فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -: «يَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ». إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ ; لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بَعْدَ النَّهْيِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّغْيِيرُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ يَكُونَ رَمْيُهُ هُوَ الْأَوْلَى وَقَتْلُهُ جَائِزًا.
فَأَمَّا مَا هُوَ مُضِرٌّ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْتَدِئَ النَّاسَ بِالْأَذَى فِي مَسَاكِنِهِمْ وَمَوَاضِعِهِمْ، وَإِنَّمَا إِذَا اجْتَمَعَ بِالنَّاسِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَتَاهُ النَّاسُ آذَاهُمْ، مِثْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، مِثْلِ الْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالذِّئْبِ، وَالدُّبِّ، وَالْفَهْدِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْبَاشِقِ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلِ الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ.
وَقَدْ نَصَّ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ - عَلَى أَنَّهُ يَقْتُلُ السَّبُعَ عَدَا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَعْدُ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَالصَّيْدُ اسْمٌ لِلْمُبَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ قَتْلَ السَّبُعِ الْعَادِي، وَالْعَادِي صِفَةٌ لِلسَّبُعِ سَوَاءٌ وُجِدَ مِنْهُ الْعُدْوَانُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ. كَمَا قَالَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَكَمَا يُقَالُ: السَّيْفُ قَاطِعٌ، وَالْخُبْزُ مُشْبِعٌ، وَالْمَاءُ مُرْوٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السَّبُعِ وَبَيْنَ الصَّيْدِ، فَإِنَّ الصَّيْدَ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَدْنَاهُ ضَرَرًا لِيُنَبِّهَ بِإِبَاحَةِ قَتْلِهِ عَلَى إِبَاحَةِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ضَرَرًا، فَنَصَّ عَلَى الْفَأْرَةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ، وَذَكَرَ الْغُرَابَ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَهُوَ أَدْنَى السِّبَاعِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى سَائِرِ السِّبَاعِ.


قَالُوا: وَفَحْوَى الْخِطَابِ تَنْبِيهُهُ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِهِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الْكَلْبُ الْعَقُورُ اسْمٌ لِجَمِيعِ السِّبَاعِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: " اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ، فَأَكَلَهُ السَّبُعُ ".
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْتَلُ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْدُ فَلَا يَنْبَغِي قَتْلُهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: فَإِنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْدُوَ عَلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا -: يَقْتُلُ مَا عَدَا عَلَيْهِ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
فَخَصَّ قَتْلَهُ بِمَا إِذَا عَدَا عَلَيْهِ أَوْ بِمَا إِذَا عَدَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقْتُلُهُ إِذَا لَمْ يَعْدُ. وَلَوْ أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الْعُدْوَانَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلسَّبُعِ لَمْ يَقُلْ: كُلُّ مَا عَدَا مِنَ السِّبَاعِ، فَإِنَّ جَمِيعَ السِّبَاعِ عَادِيَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَفْتَرِسُ وَلِذَلِكَ حَرُمَ أَكْلُهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ عُدْوَانًا تُنْشِئُهُ وَتَفْعَلُهُ، فَلَا تُقْصَدُ فِي مَوَاضِعِهَا وَمَسَاكِنِهَا فَتُقْتَلُ، إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْدُوَ عَلَى بَنِي آدَمَ كَالْأَسَدِ، فَيُقْتَلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْدُوَ دُونَ أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ، وَدُونَ مَا لَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَيُنْظَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ; لِأَنَّهُ قَالَ: يَقْتُلُ السَّبُعَ مُطْلَقًا ول الهم.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: وَيُقْتَلُ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَكُلُّ سَبُعٍ عَدَا عَلَيْكَ أَوْ عَقَرَكَ.
فَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مِنَ السِّبَاعِ هُوَ الَّذِي يَعْدُو عَلَى الْمُحْرِمِ وَيُرِيدُ عَقْرَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهِيَ اخْتِيَارُ .... لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أَرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْإِذْنَ فِي قَتْلِ كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَقَالَ: يَقْتُلُ كُلَّ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَيَقْتُلُ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، أَلَا تَرَاهُ لَمَّا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْهَا قَالَ: " «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ» ". وَلَمْ يُعَدِّدْ أَنْوَاعًا مِنْهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّلَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُنَّ فَوَاسِقُ، وَالْفَاسِقُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَقْصِدَهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَمَّا مَنْ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُقْصَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَصَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَلَوْ قَصَدَ مَا لَا يُؤْكَلُ، أَوْ مَا هُوَ سَبُعٌ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَخُصَّ الْعَقُورَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْكَلْبَ سَبُعٌ مِنَ السِّبَاعِ، وَأَكْلُهُ حَرَامٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ ذَكَرَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مَا يَأْتِي النَّاسَ فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَيَعُمُّ بَلْوَاهُمْ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِقَتْلِهِ، مِثْلُ الْحُدَيَّا، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِلْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ إِهْدَارُهُ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِهِ إِلَّا بِنَصٍّ آخَرَ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ قَالَ: وَالسَّبُعُ الْعَادِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُدْوَانُ صِفَةً لَازِمَةً، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ السَّبُعَ الَّذِي يَعْتَدِي، أَوِ السَّبُعَ إِذَا اعْتَدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوِ السَّبُعَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى النَّاسِ فَيَأْتِيَهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. كَمَا يُقَالُ: الرَّجُلُ الظَّالِمُ، كَمَا قَالَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، فَكَانَ ذَلِكَ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْكِلَابِ ; فَلِذَلِكَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ السِّبَاعِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعُدْوَانَ الَّذِي فِي طِبَاعِ السِّبَاعِ وَهُوَ كَوْنُهُ يَفْتَرِسُ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَكَانَتْ جَمِيعُ السِّبَاعِ عَادِيَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَبْقَى الصِّفَةُ ضَائِعَةً، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَأْتِي لِلتَّوْكِيدِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّقْيِيدُ لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ مَعَ أَنَّ الْعُدْوَانَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ صِفَةً تَخُصُّ بَعْضَ السِّبَاعِ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 05-07-2022, 07:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 145الى صــ 158
(50)

الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصِّفَاتِ أَنْ تَكُونَ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ مِمَّا شَارَكَهُ فِي الِاسْمِ وَتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ تَجِيءُ لِبَيَانِ حَالِ الْمَوْصُوفِ وَإِظْهَارِهِ وَإِيضَاحِهِ، لَكِنَّ هَذَا خِلَافٌ لِلْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ فِي إِظْهَارِ الصِّفَةِ فَائِدَةٌ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ تَنْبِيهٍ عَلَى شَيْءٍ خَفِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُنَا قَالَ: الْعَادِي، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَادِي تَقْيِيدًا لِلسَّبُعِ أَوْ إِخْرَاجًا لِلسَّبُعِ الَّذِي لَيْسَ بِعَادٍ، إِذْ إِرَادَةُ عُدْوَانٍ لَازِمٍ: مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْعُدْوَانُ الطَّبِيعِيُّ مَعْلُومٌ بِنَفْسِ قَوْلِهِ: سَبُعٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُدْوَانَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ السَّبُعِ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَالْعُدْوَانُ الَّذِي هُوَ طَبْعُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادًا فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ.
السَّابِعُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدَّوَابِّ قَدْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا فِي الْإِحْلَالِ، مِثْلُ الضِّفْدَعِ، وَالنَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ؟ وَقَدْ قَالَ فِي الْفَوَاسِقِ: " يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ".
الثَّامِنُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْكِلَابِ: «لَوْلَا أَنَّهَا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كَوْنَهَا أُمَّةً وَصْفٌ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيعَابِهَا بِالْقَتْلِ لِتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ تَعْبُدُ اللَّهَ وَتُسَبِّحُهُ، نَعَمْ خَصَّ مِنْهَا مَا يَضُرُّ بَنِي آدَمَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ;لِأَنَّ رِعَايَةَ جَانِبِهِمْ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ جَانِبِهِ، وَيَبْقَى مَا يُمْكِنُهُمُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الْعُمُومِ.
فَعَلَى هَذَا قَتْلُهُ: حَرَامٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ، وَبِكُلِّ حَالٍ لَا جَزَاءَ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ.
وَإِذَا لَمْ يُقْتَلْ هَذَا، فَغَيْرُهُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا فِي طَبْعِهِ الْأَذَى أَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَالسَّبُعَ، وَالذِّئْبَ، وَالْحِدَأَةَ، وَالْغُرَابَ الْأَبْقَعَ، وَالزُّنْبُورَ، وَالْقِرْدَ، وَالنَّسْرَ، وَالْعُقَابَ إِذَا وَثَبَ عَلَيْهِ، وَالْبَقَّ، وَالْبَعُوضَ، وَالْحَلَمَ، وَالْقِرْدَانَ، وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ وَآذَاهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى: فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبَاحُ قَتْلُ كُلِّ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَسَمَّى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَالَ: وَالْبُرْغُوثُ وَالْبَقُّ وَالْبَعُوضُ وَالْقُرَادُ وَالْوَزَغُ وَسَائِرُ الْحَشَرَاتِ وَالذُّبَابِ، وَيَقْتُلُ النَّمْلَ إِذَا آذَاهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ: كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالْجِرْجِسِ وَالْبَقِّ وَالْبُرْغُوثِ وَالْبَعُوضِ وَالْعَلَقِ وَالْقُرَادِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ.
الثَّانِي: مَا يَضُرُّ وَيَنْفَعُ: كَالْبَازِي وَالْفَهْدِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ مِنَ الطَّيْرِ وَالْمِخْلَبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَقَتْلُهُ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ.
الثَّالِثُ: مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ: كَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ وَبَنَاتِ وَرْدَانَ وَالرَّخَمِ وَالذُّبَابِ وَالنَّحْلِ، وَالنَّمْلِ إِذَا لَمْ يَلْسَعْهُ يُكْرَهُ قَتْلُهُ وَلَا يَحْرُمُ.
وَأَمَّا الذُّبَابُ: فَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْقِسْمِ ... ، وَهُوَ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَكَرْنَا الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ الْمَنْعُ مِنْ قَتْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا لَمْ يَضُرَّ، ثُمَّ قَدْ أَدْخَلُوا فِيهِ الْكَلْبَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ.
وَأَمَّا الذُّبَابُ: فَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: مِنَ الْمُؤْذِي، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي: فِيمَا لَا يُؤْذِي وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا يَجُوزُ أَكْلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضْمَنَ.

وَأَمَّا الذَّرُّ: فَقَدْ رَوَى عَنْهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الذَّرِّ».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: " وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَمْلَةَ، وَلَا يَقْتُلَ النَّمْلَةَ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ وَلَا يَقْتُلُ الضِّفْدَعَ، وَهَذِهِ الْمَنْهِيَّاتُ عَنْ قَتْلِهَا، مِثْلُ الصُّرَدِ وَالنَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ، مَرَدُّ .... هَلْ هُوَ مَنْعُ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلَا يَقْتُلُ النَّمْلَ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ وَلَا الضِّفْدَعَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ التَّحْرِيمُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا - وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ النَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ، فَقَالَ: " إِذَا آذَتْهُ قَتَلَهَا "، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النَّحْلَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّحْلِ وَالصُّرَدِ وَهُوَ طَيْرٌ ".
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْحَارِثِ - فِي الضَّفَادِعِ لَا تُؤْكَلُ وَلَا تُقْتَلُ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ».
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ - وَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الضِّفْدَعُ لَا يُؤْكَلُ؟ فَغَضِبَ وَقَالَ: «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَنْ يُجْعَلَ فِي الدَّوَاءِ مَنْ يَأْكُلُهُ!». فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَتْلَهَا وَأَكْلَهَا سَوَاءٌ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ.
فَأَمَّا إِذَا عَضَّتْهُ النَّحْلَةُ أَوِ النَّمْلَةُ أَوْ تَعَلَّقَ الْقُرَادُ بِبَعِيرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُ أَدْنَاهُ بِدُونِ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ النَّمْلَةَ بَعْدَ أَنْ تَقْرُصَهُ.

فَصْلٌ.
وَمَا حَرُمَ قَتْلُهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَصْدُ قَتْلِهِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَمَلُّكُهُ بِاصْطِيَادٍ أَوِ ابْتِيَاعٍ أَوِ اتِّهَابٍ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّمَلُّكَاتِ مِثْلَ كَوْنِهِ عِوَضًا فِي صَدَاقٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ قِصَاصٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فَإِنْ قَبَضَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ فَتَلَفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ، وَضَمِنَ الْقِيمَةَ لِمَالِكِهِ بِخِلَافِ مَا قَبَضَهُ بِعَقْدِ الْهِبَةِ، وَمَتَى رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ زَالَ الضَّمَانُ.
فَأَمَّا مِلْكُهُ بِالْإِرْثِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَإِذَا اصْطَادَهُ وَلَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى حَلَّ: فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ الِاصْطِيَادِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ ذَبَحَهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَهُوَ مَيْتَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ - وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: يُبَاحُ أَكْلُهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ; لِأَنَّهُ ذَبِيحَةُ حَلَالٍ، أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ كَالْغَاصِبِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَالْأَوَّلُ: أَجْوَدُ ; لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ.
وَإِذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَيْسَتْ يَدُهُ الْحِسِّيَّةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي مُصَرَّةٍ غَائِبًا عَنْهُ: فَمِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِرْسَالُهُ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ الْحِسِّيَّةُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ مَرْبُوطًا مَعَهُ حَالَ الْإِحْرَامِ، أَوْ هُوَ فِي قَفَصِهِ أَوْ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ - فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ يُرْسِلُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ يُحْرِمُ وَفِي بَيْتِهِ النَّعَامُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَأَزَالَ يَدَهُ إِنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَزَالَ يَدَهُ عَنِ الْمُكَاتَبِ.
وَأَمَّا مِلْكُهُ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا.
فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى حَلَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ بِخِلَافِ مَا اصْطَادَهُ فِي الْإِحْرَامِ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا ; لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتَدَامَتُهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَا يَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا اسْتَدَامَهُ فِي الْحَلَالِ كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَوِ اصْطَادَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَأَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ وَاجِبًا، فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ أَوْ ذَبَحَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِ الْمَمْلُوكِ صَيْدُهُ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ.
وَظَاهِرُهُ الْفَرْقُ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الصَّيْدَ أَوْ يَهَبَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ -: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَصَرُّفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ شَرْعًا عَنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهِ.
فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ؟
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ ; لِأَنَّهُ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنْ إِزَالَةِ الْيَدِ، وَلِهَذَا نَقُولُ فِي الْعَبْدِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِقْرَارِ يَدِهِ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِمُسْلِمٍ وَيَهَبَهُ لَهُ، هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الْحَالِ بِرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ -: أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ مِنْ حَلَالٍ ; لِأَنَّهُ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ يَدِهِ، وَهَذَا يُلَائِمُ حَالَهُ فَعَلَى هَذَا.
وَإِذَا بَاعَهُ ثُمَّ أَرَادَ فَسْخَ الْبَيْعِ لِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي أَوْ لِعَيْبٍ فِي الثَّمَنِ أَوْ لِخِيَارِ شَرْطٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا ; لِأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِمِلْكٍ إِلَّا أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ مِثْلَ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ الْمَنْعَ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَالًا وَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْمُحْرِمِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَلَهُ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ..
فَإِذَا صَارَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَزِمَهُ إِطْلَاقُهُ لِأَجْلِ إِحْرَامِهِ، وَيَتَخَرَّجُ إِذَا قُلْنَا: لَا يُورَثُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُحْرِمًا فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى بَائِعٍ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ بِعَيْبٍ، أَوْ خِيَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهُوَ كَابْتِدَاءِ بَيْعِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ عَلَيْهِ: لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَعَلَى قَوْلِ
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَالصَّدَاقُ صَيْدٌ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ طَلَاقِهَا، لَكِنْ هَلْ يَدْخُلُ نِصْفُ الصَّدَاقِ فِي مِلْكِهِ؟ ..

فَصْلٌ.
وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا: فَهُوَ حَرَامٌ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ كَافِرٌ غَيْرُ الْكِتَابِيِّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ، وَتَسْمِيَةُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَيْتَةً: بِمَعْنَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَيْتَةِ، إِذْ حَقِيقَةُ الْمَيْتَةِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: إِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ لَمْ يَأْكُلْهُ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ.
وَفِي لَفْظٍ لِحَنْبَلٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي مُحْرِمٍ ذَبَحَ صَيْدًا: " هُوَ مَيْتَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فَسَمَّاهُ قَتْلًا فَكُلُّ مَا اصْطَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ ذَبَحَهُ فَإِنَّمَا هُوَ قَتْلٌ قَتَلَهُ.
وَفِي لَفْظٍ: لَا إِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ لَمْ يَأْكُلْهُ أَحَدٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ قَتْلًا فَلَا يُعْجِبُنَا لِأَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَهُ.
وَذَلِكَ لِمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَسَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَمْيَ الصَّيْدِ بِالسَّهْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَتْلًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ تَذْكِيَةً.
وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ حَرَامًا مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ، كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ، وَعَنِ الْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ، وَعَنْ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِ يَقْتَضِي شَرَفَهُ وَكَرَامَتَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَتَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّى جُرْحَهُ قَتْلًا، وَالْقَتْلُ إِذَا أُطْلِقَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ الْمُزْهِقَ لِلرُّوحِ الَّذِي لَا يَكُونُ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَنْزِلُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ»، وَقَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ» وَقَالَ «اقْتُلُوا الْأَبْتَرَ وَذُو الطُّفْيَتَيْنِ» وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، وَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَعِجُّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: رَبِّي سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي».
«وَسُئِلَ عَنْ ضِفْدَعٍ تُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: " إِنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ»، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَقَالَ فِي الْفِعْلِ الْمُبِيحِ: «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ»، وَقَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ»، وَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ ".
فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَمْيَ الصَّيْدِ بِالسَّهْمِ وَإِزْهَاقَ رُوحِهِ قَتْلًا، وَلَمْ يُسَمِّهِ ذَكَاةً وَلَا عَقْرًا، عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُذَكًّى تَذْكِيَةً شَرْعِيَّةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا عَقْرٌ قَدْ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، فَلَمْ يُفِدِ الْإِبَاحَةَ وَلَا الطَّهَارَةَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، وَعَكْسُهُ ذَبْحُ الْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ - إِنْ سَلِمَ - فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْمَالِكِ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَطِبْ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ حَالُ الْغَاصِبِ قَبْلَ الْإِذْنِ وَبَعْدَهُ، إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَغْصُوبِ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّ إِحْرَامَهُ صِفَةٌ فِي نَفْسِهِ تَكُونُ مَعَ وُجُودِ الصَّيْدِ وَعَدَمِهِ كَدَيْنِ الْمُشْرِكِ وَالْمُرْتَدِّ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَقْرٌ مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ فَلَمْ يُفِدِ الْإِبَاحَةَ، كَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَبِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ، وَبِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَبِدُونِ قَصْدِ الذَّكَاةِ، وَعَقْرِ الْمُشْرِكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَبْلَ الذَّكَاةِ حَرَامٌ فَلَا يُبَاحُ إِلَّا بِأَنْ يُذَكَّى عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْفَرْجَ قَبْلَ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ، فَلَا يُبَاحُ إِلَّا بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ، فَإِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ عَقْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَقْرُهُ مَشْرُوعًا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، كَمَا لَوْ نَكَحَ الْمَرْأَةَ نِكَاحًا لَمْ يُبِحْهُ الشَّارِعُ ; وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُبِيحُهُ الْمَقْتُولَ لِقَاتِلِهِ بِحَالٍ، فَلَا يُبَاحُ لِغَيْرِهِ كَسَائِرٍ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِنَ الْقَتْلِ ; وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَا يُفِيدُ الْحِلَّ كَذَبْحِ الْإِنْسَانِ وَالضِّفْدَعِ وَالْهُدْهُدِ ; وَلِأَنَّ جُرْحَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَالْإِبَاحَةَ، وَاقْتِضَاؤُهُ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنِ اقْتِضَائِهِ الْإِبَاحَةَ ; لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إِثْبَاتِهِ وَبِدُونِ قَصْدِ الذَّكَاةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْرِكِ، فَإِذَا كَانَ جُرْحُ الصَّيْدِ فِي حَالِ الصَّيْدِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَأَنْ لَا يُفِيدَ الْإِبَاحَةَ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَصَيْدُ الْحَرَمِ - إِذَا ذُبِحَ فِيهِ - بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ: كَالصَّيْدِ الَّذِي يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ،قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ يُؤْكَلُ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ: إِذَا ذُبِحَ فِي الْحِلِّ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا: إِذَا رَمَاهُ فِي الْحِلِّ فَتَحَامَلَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ".
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَلَا يُصْطَادُ، وَلَا أَرَى أَنْ يُذْبَحَ إِلَّا أَنْ يُدْخَلَ مَذْبُوحًا مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا أَرَى أَنْ يَذْبَحَ شَيْئًا مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ وَلَا الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ صَيْدُ الْمَدِينَةِ الَّذِي يُصْطَادُ فِيهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَرَامٌ أَكْلُهُ حَرَامٌ صَيْدُهُ، وَخَرَّجَهَا الْقَاضِي عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: كَذَلِكَ، وَالثَّانِي: الْفَرْقُ ; لِأَنَّ حُرْمَةَ حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الصَّيْدِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهَا مِنْ خَارِجٍ بِخِلَافِ حُرْمَةِ حَرَمِ مَكَّةَ.
وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ ذَبَحَهُ: لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا كَمَا لَوْ أَمْسَكَهُ حَتَّى تَحَلَّلَ ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَإِذَا اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ، فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي الذَّكَاةِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 363.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 357.63 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]