|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (399) سُورَةُ النُّورِ صـ 451 إلى صـ 458 [ ص: 451 ] الثانية : أن يقول له : يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه ، فعليه الحد ; كما لا يخفى . الثالثة : أن يقول له : يا زاني ، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه أو بعده ، فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه ، فعليه الحد ، وإن قال : أردت بذلك زناه في زمن شركه ، فهل يقبل منه هذا التفسير ، ويسقط عنه الحد ، أو لا يقبل ذلك منه ، ويقام عليه الحد ، اهـ ، اختلف العلماء في ذلك ، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك : مالك وأصحابه ، وصرح به الخرقي من الحنابلة ، وقال ابن قدامة في " المغني " : لا حد عليه ، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي : ومن قذف من كان مشركا ، وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله ، وحد القاذف إذا طالب المقذوف ، وكذلك من كان عبدا ، انتهى . المسألة العشرون : اعلم أن من قذف بنتا غير بالغة بالزنى ، أو قذف به ذكرا غير بالغ ، فقد اختلف أهل العلم : هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه ؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ; لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر ، قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة لكن مالكا غلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف ، وحماية عرض المقذوف أولى ; لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد ، قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع ، يحد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه ، قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك ، قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ; لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى ، اهـ محل الغرض منه بلفظه . وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة ، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر : إنه لا يحد ولكن يعزر ، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم ، ولا معرة تلحقه بذنب ; لأنه غير مؤاخذ ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة يشهدون على الصبي بالزنى فلا حد عليه إجماعا ، ولو كان قذفه قذفا على الحقيقة للزمه الحد بإقامة القاذف البينة على زناه ، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء ، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له ، ولغيره عن قذف من لم يبلغ ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 452 ] المسألة الحادية والعشرون : اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة ، أن القاذف إن كان عاميا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى ، وإن كان عالما بالعربية ، وقال : إنما أردت بقولي : زنأت بالهمزة معناه اللغوي ، ومعنى زنأت بالهمزة : لجأت إلى شيء ، أو صعدت في جبل ، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيما وهو صغير : أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل ومحل الشاهد منه قوله : زنأ في الجبل أي صعودا فيه ، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية ، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره ، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس ، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري ، ورواه هو وغيره على ما ذكرنا ، قال : وقالت أمه ترد على أبيه : أشبه أخي أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا تقصر أن تناله يداكا قاله في اللسان . المسألة الثانية والعشرون : فمن نفى رجلا عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه ، أو قبيلة غير قبيلته ، فذهب مالك : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه ; لأنه لم يدع عليها الزنا ، ولم ينف نسبه عن أبيه ، وإن نفاه عن جده لزمه الحد ، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره ، ولو أبيض لأسود ، قال في " المدونة " : إن قال لفارسي : يا رومي أو يا حبشي ، أو نحو هذا لم يحد ، وقال ابن القاسم : اختلف عن مالك في هذا ، وإني أرى ألا حد عليه ، إلا أن يقول : يا ابن الأسود ، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد ، وأما إن نسبه إلى حبشي ; كأن قال : يا ابن الحبشي وهو بربري ، فالحبشي والرومي في هذا سواء ، إذا كان بربريا . وقال ابن يونس : وسواء قال : يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي ، أو يا ابن الرومي ، فإنه لا يحد ، وكذلك عنه في كتاب محمد ، قال الشيخ المواق : هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس ، فانظره أنت ، اهـ . وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك ، وقد [ ص: 453 ] نص عليه في المدونة ، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب . قال مالك في " المدونة " : من قال لعربي : يا حبشي ، أو يا فارسي ، أو يا رومي ، فعليه الحد ; لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه ، ووجه كون من قال لرومي : يا حبشي مثلا لا يحد ، أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله ، وهو استعمال معروف في العربية ، اهـ ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه ، بأن قال له : لست ابن جدك أنه لا حد عليه ; لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده ، وكذلك لو نسب جنسا إلى غيره ; كقوله لعربي : يا نبطي ، فلا حد عليه عنده على المشهور ، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته ; لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال ، أو عدم الفصاحة ، ونحو ذلك ، فلا يتعين قصد القذف . وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش : يا نبطي ، فقال : لا حد عليه ، اهـ ، وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل : يا ابن ماء السماء ، أو نسبه إلى عمه أو خاله خلافا للمالكية ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ونحوه ، أو زوج أمه الذي هو ربيبه ; لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة ، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة ، وقوله : ابن ماء السماء ، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء ، قالوا : وكان عامر بن حارثة : يلقب بماء السماء لكرمه ، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر ، قالوا : وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء ، لحسنها وجمالها ، وقيل لأولادها بني ماء السماء وهم ملوك العراق ، اهـ ، وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده ; كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير ، اهـ ، ومذهب الإمام أحمد : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه . واختلف عنه فيمن نفى رجلا عن قبيلته أو نسب جنسا لغيره ، قال ابن قدامة في " المغني " : وإذا نفى رجلا عن أبيه ، فعليه الحد ، نص عليه أحمد ، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته ، وبهذا قال إبراهيم النخعي ، وإسحاق ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وحماد ، اهـ . وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه بما ذكرناه قريبا ، ثم قال ابن قدامة [ ص: 454 ] في " المغني " : والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ; ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا ، فأشبه ما لو قال لأعجمي : إنك عربي ، ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه ، وعليه التعزير ، نص عليه أحمد ; لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه ، والأول أصح ، وبه قال مالك ، والشافعي ; لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه ، ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف ، اهـ من " المغني " . وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا ، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي ، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية . وقد ذكر ابن قدامة في " المغني " : أن الأشعث بن قيس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول " : لا أوتى برجل يقول : إن قريشا ليست من كنانة إلا جلدته " ، اهـ ، وانظر إسناده . المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل : يا قرنان ، أو يا ديوث ، أو يا كشخان ، أو يا قرطبان ، أو يا معفوج ، أو يا قواد ، أو يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، أو يا مخنث ، أو قال لامرأة : يا قحبة . اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة ، فمذهب مالك : هو أن من قال لرجل : يا قرنان ، لزمه حد القذف لزوجته إن طلبته ; لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة ، وكذلك من قال لامرأة : يا قحبة ، لزمه الحد عند المالكية ، وكذلك من قال : يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية ، كما تقدمت الإشارة إليه ، قالوا : لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان ، وتجعل على بابها راية ، وكذلك لو قال له : يا مخنث ، لزمه الحد إن لم يحلف أنه لم يرد قذفا ، فإن حلف أنه لم يرده أدب ، ولم يحد . قاله في " المدونة " ، وإن قال له : يا ابن الفاسقة ، أو يا ابن الفاجرة ، أو يا فاسق ، أو يا فاجر أو يا حمار ابن الحمار ، أو يا كلب ، أو يا ثور ، أو يا خنزير ، ونحو ذلك فلا حد عليه ، ولكنه يعزر تعزيرا رادعا حسبما يراه الإمام ، ومذهب أبي حنيفة : أنه لو قال له : يا فاسق ، يا كافر ، يا خبيث ، يا لص ، يا فاجر ، يا منافق ، يا لوطي ، يا من يلعب بالصبيان ، يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا ديوث ، يا مخنث ، يا خائن ، يا ابن القحبة ، يا زنديق ، يا قرطبان ، يا مأوى الزواني أو اللصوص ، يا حرام ، [ ص: 455 ] أنه لا حد عليه في شيء من هذه الألفاظ ، وعليه التعزير ، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطا ، وأما لو قال له : يا كلب ، يا تيس ، يا حمار ، يا خنزير ، يا بقر ، يا حية ، يا حجام ، يا ببغاء ، يا مؤاجر ، يا ولد الحرام ، يا عيار ، يا ناكس ، يا منكوس ، يا سخرة ، يا ضحكة ، يا كشخان ، يا أبله ، يا مسوس ; فلا شيء عليه في شيء من هذه الألفاظ عند الحنفية ، ولا يعزر بها ، قال صاحب " تبيين الحقائق " : لا يعزر بهذه الألفاظ كلها ; لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك ، ولا يريدون به الشتيمة ، ألا ترى أنهم يسمون به ويقولون : عياض بن حمار ، وسفيان الثوري ، وأبو ثور وجمل ; ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام ، وإنما يلحق بالقاذف ، وكل أحد يعلم أنه آدمي ، وليس بكلب ولا حمار وأن القاذف كاذب في ذلك ، وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله : يا كلب ، يا خنزير ; لأنه يراد به الشتم في عرفنا . وقال شمس الأئمة السرخسي : الأصح عندي أنه لا يعزر ، وقيل : إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر ; لأنه يعد شينا في حقه ، وتلحقه الوحشة بذلك ، وإن كان من العامة لا يعزر ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير قوله : يا رستاقي ، ويا ابن الأسود ، ويا ابن الحجام ، وهو ليس كذلك ، اهـ من " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه ، وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها ، فالأظهر عندنا أنها يجب فيها التعزير ; لأنها كلها شتم وعيب ، ولا يخفى أن من قال لإنسان : يا كلب ، يا خنزير ، يا حمار ، يا تيس ، يا بقر ، إلى آخره ، أن هذا شتم واضح لا خفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير ، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى ، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيها بليغا ولا شك أن عاقلا قيل له : يا كلب ، أو يا خنزير مثلا أن ذلك يؤذيه ، ولا يشك أنه شتم ، فهو أذى ظاهر ، وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة ، وكونهم يسمون الرجل حمارا أو كلبا لا ينافي ذلك ; لأن من الناس من يسمي ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به ، والظاهر أنه إن قال لرجل : يا ابن الأسود ، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود ، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه ، وكذلك قوله : يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجاما فهو قذف ; لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس [ ص: 456 ] بينه وبينه نسب ; كما هو قول المالكية ومن وافقهم . وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلا ، فيدعه خاليا بها ، وقيل : هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح ، وقيل : هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة ، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته ، اهـ منه . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قال لرجل : يا ديوث ، أو يا كشخان ، فقال أحمد : يعزر ، وقال إبراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته ، وقال ثعلب : القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته ، وقال : القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب ، ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث ، أو قريب منه ، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث ; لأنه قذفه بما لا حد فيه ، وقال خالد بن يزيد ، عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات ، أو بنات في الإسلام ضرب الحد ، يعني أنه قاذف لهن ، وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات ، والكشخان : من له أخوات ، يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن ، والقواد عند العامة : السمسار في الزنى ، والقذف بذلك كله يوجب التعزير ; لأنه قذف بما لا يوجب الحد ، اهـ من " المغني " ، وقال في " المغني " أيضا المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد ، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره ، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول : أردت يا مفلوج ، أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا ، فلا حد عليه ; لأنه فسره بما لا حد فيه ، وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد ; كما لو صرح به . وقال صاحب " القاموس " : القرنان : الديوث المشارك في قرينته لزوجته ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " أيضا : القرطبان بالفتح الديوث ، والذي لا غيرة له أو القواد ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " : والتديث القيادة ، وفي " القاموس " تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر : الديوث ، وكشخه تكشيخا ، وكشخنه ، قال له : يا كشخان ، اهـ منه ، وهو بالخاء المعجمة ، وقال الجوهري في " صحاحه " : والديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له ، اهـ منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه ، [ ص: 457 ] فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير ; لأجل الأذى ولا حد ، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى ، أو نفي النسب ، وكان ذلك معروفا أنه هو المقصود عرفا ، وجب الحد ; لأن العرف متبع في نحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة والعشرون : في حكم من قذف محصنا بعد موته ، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في " المدونة " : من قذف ميتا فلولده وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك ، ومن قام منهم أخذه بحده ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ; لأنه عيب ، وليس للإخوة ، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام ، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام ، اهـ بواسطة نقل المواق . وحاصله : أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه ، وإن سفلوا أو واحد من أصوله ، وإن علوا ، ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة ، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد ، فللإخوة والعصبة القيام ، ويحد للمقذوف بطلبهم ، هذا حاصل مذهب مالك في المسألة ، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبا أو أما ، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم ; لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها ; لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرا مسلما ، أما إذا قذفت وهي في الحياة ، فليس لولدها المطالبة ; لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها ، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص ، وتعتبر حصانتها ; لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد ، وأما إن قذفت وهي ميتة ، فإن لولدها المطالبة ; لأنه قدح في نسبه ، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى ، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ، ولذلك تعتبر الحصانة فيه ، ولا تعتبر الحصانة في أمه ; لأن القذف له ، وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال ، وهو قول أصحاب الرأي ; لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة ، فأشبه قذف المجنون ، وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة ، وينقسم بانقسام الميراث ، وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه ; لأنه ليس بمحصن ، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا ، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنا حيا ولا ميتا ; لأنه إذا لم [ ص: 458 ] يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه ميتا أولى ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الملاعنة " : ومن رمى ولدها فعليه الحد " ، يعني : من رماه بأنه ولد زنى ، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك ، فبقذف غيره أولى ; ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين ، ولو كانا ميتين ، والحد إنما وجب للولد ; لأن الحد لا يورث عندهم ، فأما إن قذفت أمه بعد موتها ، وهو مشرك أو عبد ، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي ، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن ، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك ، وأبواه حران مسلمان فعليه الحد ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد : لست لأبيك فعليه الحد ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده ، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه ; لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ، ولأن معنى هذا : أن أمك زنت فأتت بك من الزنى ، فإذا كان من الزنى منسوبا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها ، ولنا ما ذكرناه ; ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد ، لأن الكافر لا يرث المسلم ، والعبد لا يرث الحر ؛ ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميتة بحال ، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها ، والله أعلم ، اهـ بطوله من " المغني " . وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة ، إن كان لها أولاد ، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد ، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية ، إلا أنه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول ، ويحد بطلب كل منهم ، وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الإخوة والعصبة ، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت ، وأن الشافعية يقولون : إنه ينقسم بانقسام الميراث ، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور ، وأن الحنفية يقولون : إن الحد لا يورث ، وهو ظاهر المذهب الحنبلي ، وأن بعض أهل العلم قال : لا يحد من قذف ميتة بحال . ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (400) سُورَةُ النُّورِ صـ 459 إلى صـ 466 قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي ; لأنه مقذوف بقذفها ، خلافا لما في كلام صاحب " المغني " ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف ، وقول صاحب " المغني " : تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى; لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، [ ص: 459 ] لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا ، كما ترى . والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ; لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها ، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتا أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ; لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ; ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذبا بل يفرح به ; لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقا ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه ، اهـ . وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد . واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه . والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ; لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال ، والعلم عند الله تعالى . وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذفه هو - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال . وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم أنواع الكفر ، والله تعالى أعلم . المسألة الخامسة والعشرون : في حكم من قذف ولده . وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال في " المغني " : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه ، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والشافعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وقال مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ; ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى . [ ص: 460 ] وأظهر القولين دليلا : أنه لا يحد الوالد لولده ; لعموم قوله : وبالوالدين إحسانا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : فلا تقل لهما أف [ 7 \ 23 ] ، فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه ، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال ، لأنهم يقولون : إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسقا بالعقوق ; كما قال خليل في " مختصره " : وله حد أبيه وفسق ، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة ، والشرع لا يمكن أحدا من ارتكاب كبيرة ; كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه . المسألة السادسة والعشرون : في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في الحرم ، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم ؟ اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب : الأول : أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره . الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم ، سواء كان قتلا أو غيره . الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص ، والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم . قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، وإسحاق ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبي حنيفة وأصحابه . وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه . والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام " : فلا يسفك فيها دم " ، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في [ ص: 461 ] الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، اهـ محل الغرض منه . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل ، وفعله ابن الزبير . وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك ، والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ; لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، اهـ محل الغرض منه . وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان ، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه ، اهـ محل الغرض منه . وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم ومناقشتها ، أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، والشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة : منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ، ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره ، قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت . ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة [ ص: 462 ] الحرم ; لأن أحق البلاد بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه ، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له كما ترى . أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ " إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية ، فهو استدلال في غاية السقوط; لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط غلط غلطا فاحشا ; لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " : إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح - رضي الله عنه - وفي صحيح مسلم - رحمه الله - مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادا ومتنا . وإذا تقرر أن القائل : إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ; لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله - صلى الله عليه وسلم - في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة ، كما ترى . وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص [ ص: 463 ] في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " : فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " الحديث ، قالوا : تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ; لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس ، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله " : دما " نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد ، أو غير ذلك . واستدلوا أيضا بقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم . وأما الذين قالوا بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، قالوا : وجملة ومن دخله كان آمنا خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم . واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ابن عباس ، أنه قال في الذي يصيب حدا ، ثم يلجأ إلى الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في " المنتقى " : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا ، قتلا كان أو غيره ; لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق على الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشترى منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ; لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف ، [ ص: 464 ] والعلم عند الله تعالى ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية . قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، معنى : ويدرأ : يدفع ، والمراد بالعذاب هنا : الحد ، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : العذاب أن تشهد فاعل يدرأ ، أي : يدفع عنها الحد شهادتها أربع شهادات . والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله : ويدرأ عنها العذاب الحد من أوجه : الأول : منها سياق الآية ، فهو يدل على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحد . والثاني : أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر ، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] ، فقوله : وليشهد عذابهما أي : حدهما بلا نزاع ، وذلك قوله تعالى في الإماء : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، أي : نصف ما على الحرائر من الجلد . وهذه الآية تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته ، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية . ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها ، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج ، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف ، وتوجه إليها هي حد الزنى ، وتدفعه عنها شهاداتها . وظاهر القرآن أيضا أنه لو قذف زوجته ، وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف ، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد ، وهذا هو الظاهر من الآيات [ ص: 465 ] القرآنية; لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته ، حيث قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين [ 24 \ 6 - 7 ] ، فلم يجعل له مخرجا من جلد ثمانين ، وعدم قبول الشهادة ، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد ، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه ; لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه ، ولا شهادات تنوب عن الشهود ، فتعين أنه يحد لأنه قاذف ، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف ، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحد ; لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب الآية ، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة ، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن ، أو يكذب نفسه ، فيقام عليه حد القذف ، ومن قال بأنها إن شهد هو ، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها : مالك ، والشافعي ، والشعبي ، ومكحول ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ; كما نقله عنهم صاحب " المغني " . وهذا القول أصوب عندنا ; لأنه ظاهر قوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد : لا حد عليها بنكولها عن الشهادات ، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد . قال في " المغني " : وبهذا قال الحسن ، والأوزاعي ، وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن الحارث العكلي ، وعطاء الخراساني ، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته ; لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها . وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا ; لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره ، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة أخرى ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 466 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين ، إلا بقذف الرجل زوجته قذفا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى ، ونفي ولدها عنه ، وقول الجمهور هنا : إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول : رأيت بعيني ، أظهر عندي مما روي عن مالك من أنه لا يلزم اللعان ، حتى يصرح برؤية العين ; لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين . وقول الملاعن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - : رأت عيني وسمعت أذني ، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت أن ذلك لا يكفي ، دون اشتراط رؤية العين ، وسماع الأذن كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (401) سُورَةُ النُّورِ صـ 467 إلى صـ 474 المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ 24 \ 6 ] إلى آخر الآيات ، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال : الأول : أنها شهادات ; لأن الله سماها في الآية شهادات . والثاني : أنها أيمان . والثالث : أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة . والرابع : عكسه ، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللعان ، إلا ممن تجوز شهادته ، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة ، ومن قال : إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين ، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة ، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول ، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود ، فيجب عليها حد الزنى ، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج ، وقيل : لا يحدون ، وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته ، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة - رحمه الله - ومن تبعه ، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة ، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن ، مرادا بها اليمين ، مع دلالة القرائن على ذلك ، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور : الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ ص: 467 ] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله : بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين ، فقوله : أشهد بالله في معنى : أقسم بالله . الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله : فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ 5 \ 107 ] ، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ 5 \ 108 ] ، فقوله : أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين ، وهو واضح كما ترى . وقال القرطبي : ومنه قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ 63 \ 1 ] ; لأن قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة [ 63 \ 2 ] ، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان ، هكذا قال ، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية ، والعلم عند الله تعالى . الثالث : ما قاله ابن العربي ، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر ، اهـ منه بواسطة نقل القرطبي . وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تاما يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، وهو استدلال قوي ; لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة ; كما أوضحناه مرارا ، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه ; لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا . الرابع : ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به " : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، عند أحمد وأبي داود ، وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا ، وفي إسناد الرواية المذكورة عباد بن منصور ، تكلم فيه غير واحد ، ويقال : إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم . وأما الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان ، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله : [ ص: 468 ] ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وفي قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات الآية ، وقوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الآية ، واستدلوا أيضا بحديث " : أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، اهـ ، قالوا : إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة ؛ لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم ، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم ; لأنهم ممن تقبل يمينه ، وقال الزيلعي في " نصب الراية " ، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء ، عن أبيه عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن : النصرانية تحت المسلم ، واليهودية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، انتهى . وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وقال : عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا " : أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين العبد والحرة لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان " ، انتهى ، وقال الدارقطني : والوقاصي متروك الحديث ، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب به ، قال : وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا ، وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا ، وروي عن الأوزاعي ، وابن جريج وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قوله ، ولم يرفعاه ، ثم أخرجه كذلك موقوفا ، ثم أخرجه عن عمار بن مطر ، ثنا حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد " : ألا لعان بين أربع " فذكر نحوه ، قال : وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء ، انتهى ، وقال البيهقي في " المعرفة " : هذا حديث رواه عثمان بن عطاء ، ويزيد بن زريع الرملي ، عن عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : أربعة لا ملاعنة بينهم : النصرانية تحت المسلم " إلى آخره ، قال : وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط ، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان ، ورواه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين وغيره من الأئمة ، ورواه عمار بن مطر ، عن حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء . [ ص: 469 ] وروي عن ابن جريج والأوزاعي ، وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده موقوفا ، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر ، فإن راويه عن ابن جريج والأوزاعي عمرو بن هارون ، وليس بالقوي ، ورواه يحيى بن أبي أنيسة أيضا ، عن عمرو بن شعيب به موقوفا ، وهو متروك ، ونحن إنما نحتج بروايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده ، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى عمرو ، والله أعلم ، انتهى كلامه ، انتهى كلام صاحب " نصب الراية " . وقال صاحب " الجوهر النقي " : إن الحديث المذكور جيد الإسناد ، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان ; لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة . والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة ، للأدلة التي ذكرنا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة : اعلم أنه لا يجوز في اللعان ، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود ، وإن كانت بيضاء وزوجها أبيض ; لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هل لك من إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : ما ألوانها " ؟ قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءتها الورقة " ؟ قال : لعل عرقا نزعها ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين ، وقد قدمناها مرارا ، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندا للرجل في اللعان ، كما ترى . المسألة الرابعة : اعلم أن التحقيق أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه إن لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف ، ولا يقبل منه اللعان ; لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية [ 24 \ 4 ] ، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله ، فما يروى عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - من أنه إن قذفها قبل الزواج ، ثم تزوجها بعد القذف أنهما يلتعنان ، خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة : اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا ، ولم يأت [ ص: 470 ] بالبينة أنه يحد للأم حد القذف ; لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة ، فهي داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، وأما البنت فإنه يلاعنها ; لأنه قذفها ، وهي زوجة له ، فتدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين إلى آخر آيات اللعان . وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة : إنه إن حد للأم سقط حد البنت ، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم ، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرآن ، وقد قال ابن العربي في القول المذكور : وهذا باطل جدا ، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه ، اهـ ، وهو ظاهر . المسألة السادسة : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب : أن من قذف زوجته بالزنى ، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان ; لأنه تبين بزناها قبل اللعان أنها غير محصنة ، ولا لعان في قذف غير المحصنة ، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى ، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد ; لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد ، فلا يحد بقذف من ظهر أنها غير محصنة ، وذكرنا الخلاف في ذلك . وحجة من قال : يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارئ ، وبينا أن الأظهر سقوط الحد واللعان ، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة : اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد ، وهي لدرء العذاب ، وأما إن رمى زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها ، فقد قدمنا خلاف العلماء : هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء ، ولم تبلغ ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد ، وأما على القول : بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقا فلا لعان عليه في قذفها ، وقد قدمنا الأظهر عندنا في ذلك ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم ، هل له أن يلاعنها ، وهي حامل لنفي ما في بطنها ، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد ؟ فذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان ، وقال ابن حجر [ ص: 471 ] في " الفتح " ، بعد أن ساق أحاديث اللعان ، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع ; لقوله في الحديث " : انظروا فإن جاءت " إلخ ، كما تقدم في حديث سهل ، وفي حديث ابن عباس ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود ، فجاء ، يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " : لعلها أن تجيء به أسود جعدا " ، فجاءت به أسود جعدا ، وبه قال الجمهور ، خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم ; لأنه قد يكون نفخة . وحجة الجمهور : أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ، ودفع حد الرجم عن المرأة ، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا ، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة . وقد اختلف في الصغيرة ، والجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . وقد قدمنا أن التعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء ، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك . وأما الذين قالوا : لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها ، فقد استدلوا بأمرين : الأول : أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع ; لأنه قد يكون انتفاخا وقد يكون ريحا . والثاني : هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان ، مما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر لعان الحامل حتى وضعت . ففي البخاري من حديث ابن عباس ، ما نصه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اللهم بين " ، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، الحديث . قالوا : فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله : فوضعت شبيها بالرجل ، إلخ . دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء ، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في " فتح الباري " ، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة : ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد ، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع ، فعلى هذا تكون الفاء في قوله : فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة " فلاعن " معطوفة عليها مذكورة [ ص: 472 ] في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه . والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك ، ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق ، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا بعد الطلاق ، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه ، وإن كانت بائنا ، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد ، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف ، والأظهر ولو كان الطلاق رجعيا ، ولم تنقض العدة ، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة ; لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة ، لأنها في حكم الزوجة ، وهو مذهب أحمد المشهور ، ورواية أبي طالب عنه ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، وزيد ، والنخعي ، والزهري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر ، والله أعلم . وقال القرطبي : لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه ، وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه ، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة ، وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ويرثها ; لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما ، اهـ منه ، ولا نص فيه ، وله وجه من النظر . وقال القرطبي أيضا : إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن ، وإلا لم يلاعن ، وقال عثمان البتي : لا يلاعن بحال ، وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في الوجهين ; لأنها ليست بزوجة ، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا بل هذا أولى ; لأن النكاح قد تقدم ، وهو يريد الانتفاء من النسب ، وتبرئته من ولد يلحق به ، فلا بد من اللعان ، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به ، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، فوجب عليه الحد ، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده ، انتهى كلام القرطبي . وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر; لأنها في حكم [ ص: 473 ] الزوجة ، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك ، وأقوال العلماء ، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف ، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان ، ولا يجوز له تزوج أختها ، قبل انقضاء العدة ، ولا تزويج رابعة غيرها ; لأنها تكون كالخامسة نظرا إلى أن الرجعية كالزوجة ، يقتضي أن يقول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر ، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم ، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالما بزناها في زعمه ، دل ذلك على أنه تارك للعان ، وينبني على الخلاف المذكور ، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي ، وقبل انقضاء العدة ، هل يحكم عليه بأنه قاذف ; لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له أن يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة . أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف ، فالأظهر أن له لعانها مطلقا ، ولو كان الطلاق بائنا ; لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والقاسم بن محمد ، ومكحول ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال الحارث العكلي ، وجابر بن زيد ، وقتادة والحكم : يجلد ، وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي : لا حد ولا لعان ; لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ، ولا يحد ; لأنه لم يقذف أجنبية . المسألة العاشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل ، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ، ثم قال : إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحا أو انتفاخا فينفش أو يسقط ميتا ، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع ; لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول ، فإن بادر بنفيه فورا عند وضعه ، فلا ينبغي أن يختلف في أن له أن ينفيه بلعان ، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع ، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت ، فهل له ذلك أو ليس له ؟ لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد ، فلا يمكن من اللعان بعده . لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب ، ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، قال القرطبي : قد اختلف في ذلك ونحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام ، فهو راض به وليس له نفيه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم ، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك ، وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس ، قال [ ص: 474 ] ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا ؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة ; لأنه أول حد الكثرة ، وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة ، وكذلك ينبغي أن يكون هنا . وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ، إذ لا شاهد لهما في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة ، انتهى كلام القرطبي ، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية ، وهي : هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا ؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله : وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نمى تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري مع مضي مهلة للنظر فمن قال : إن السكوت لا يعد رضى ، قال : لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راض ، ومن قال : إنه يعد رضى ، قال : لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البكر " : إذنها صماتها " ، وبعضهم يقول : تخصيص البكر بذلك ، يدل على أن غيرها ليس كذلك ، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم ، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى ، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه ، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك ، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى . ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك : وحاضر لواهب من ماله ولم يغير ما رأى من حاله الحكم منعه القيام بانقضا مجلسه إذ صمته عين الرضى ولكل واحد من القولين وجه من النظر . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (402) سُورَةُ النُّورِ صـ 475 إلى صـ 482 والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه [ ص: 475 ] عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى ، وإلا فلا ; لأن العرف محكم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الحادية عشرة : اعلم أنه إن كان النكاح فاسدا ، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه ، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى ، وأراد اللعان لنفي الحد عنه ، فالأظهر أن له ذلك ; لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش ، قاله مالك في " المدونة " . وقال القرطبي : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته ، لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه ، اهـ منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعا على فساده ولا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان ، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء ، وهذا ظاهر لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى ، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها أن له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود ; لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه ، أما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان . وقال القرطبي - رحمه الله - : اختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ؟ قال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ; لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه ; لقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم اهـ منه . المسألة الثالثة عشرة : قال القرطبي أيضا في تفسيره : يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء : عدد الألفاظ ، وهو أربع شهادات على ما تقدم ، والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كانت ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي [ ص: 476 ] بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين ، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه ، والوقت : وذلك بعد صلاة العصر ، وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان ، اهـ منه ، مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف . المسألة الرابعة عشرة : اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان ، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت ، قبل أن يمسها الزوج أصلا ، أو زنت بعد أن وضعت ، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت ، أو زنت في طهر لم يمسها فيه ; لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض ، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد ; كما قدمنا ، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه ، ولا بوطء في فخذين ; لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه ، كما قدمنا . المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان ، فلا يجوز نفي أحدهما ، دون الآخر ، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر ، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه ; كما قاله مالك وأصحابه ، ومن وافقهم . وقد أوضحنا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر ، فهما توأمان . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر ، فاستحلق أحدهما ، ونفى الآخر لحقا به ; لأن الحمل الواحد ، لا يجوز أن يكون بعضه منه ، وبعضه من غيره ، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة ، فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه ; لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه ، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه ، إلى أن قال : وإن استلحق أحد التوأمين ، وسكت عن الآخر لحقه ; لأنه لو نفاه للحقه ، فإذا سكت عنه كان أولى ، ولأن امرأته متى [ ص: 477 ] أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه بلعان ، وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر ، لحقاه جميعا . فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه ; لأنه قد نفى أخاه ، وهما حمل واحد . قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب ، وهو يثبت لمجرد الإمكان ، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا ، فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ، ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول ; لأن اللعان تناول الأول وحده ، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان ; لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة ، فلا يحتاج إلى لعان ثان ، ذكره القاضي ، اهـ . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الأخير هو الأظهر ; لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين ، ثم قال في " المغني " متصلا بكلامه الأول : فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه ، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا ، فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر ، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل ، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ، ولا ينتفي بغير اللعان ; لأنه حمل منفرد ، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه ، وإن كانت قد بانت باللعان ; لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول ، وإن لاعنها قبل وضع الأول ، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني ; لأنها بانت باللعان ، وانقضت عدتها بوضع الأول ، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه ، ثم قال في " المغني " أيضا : وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ، ولا يلاعن إلا لنفي الحد ; لأن الميت لا يصح نفيه باللعان ، فإن نسبه قد انقطع بموته ، فلا حاجة إلى نفيه باللعان ، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع ، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي ; لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه ، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه ، فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي ، وكما لو كان للميت ولد ، اهـ كلام صاحب " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي ; لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه ، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده ، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه [ ص: 478 ] المدة الطويلة ; لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرا يولد له فيه ، وقد يكون معذورا بالغيبة زمنا طويلا ، وكذلك عند من يقول : إن السكوت لا يسقط اللعان مطلقا كما تقدم ، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه ، فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه ، والظاهر أنه إن نفى ولدا بعد موته ، فإن كانت أمه حية فلا بد من اللعان ; لأنه قاذف أمه ، وإن كانت الأم ميتة جرى على الخلاف في حد من قذف ميتة ، فعلى القول بالحد فله اللعان ، وعلى القول بعدمه فلا لعان ، وقد قدمنا الخلاف في ذلك ، ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبا من أن له اللعان لنفي الولد ; لأنه يجتمع به موجبان للعان ، وهما إسقاط الحد ونفي الولد ، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالا أو لا ؟ والعلم عند الله تعالى . تنبيه . اعلم أن أهل العلم اختلفوا في توأمي الملاعنة المنفيين باللعان ، هل يتوارثان توارث الشقيقين أو الأخوين لأم ؟ وقال ابن الحاجب من المالكية : هما شقيقان ، وقال خليل في " التوضيح " ، وهو شرحه لمختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي : إن كونهما شقيقين هو مشهور مذهب مالك ، وقال المغيرة من المالكية : يتوارثان توارث الأخوين لأم ، كالمشهور عند المالكية في توأمي الزانية والمغتصبة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أن توأمي الملاعنة يتوارثان توارث الأخوين لأم ، وأنهما لا يحكم لهما بحكم الشقيقين ; لأنهما لا يلحقان بأب معروف ، وإذا لم يكن لهما أب معروف فلا وجه لكونهما شقيقين ، ويوضح ذلك أنهما إنما ينسبان لأمهما ، وبه تعلم أن مشهور مذهب مالك في هذه المسألة خلاف الأظهر . وأما قول ابن نافع من المالكية : إن توأمي الزانية شقيقان ، فهو خلاف التحقيق ; لأن الزاني لا يلحق به نسب حتى يكون أبا لابنه من الزنى ، والرواية عن ابن القاسم بنحو قول ابن نافع ظاهرها السقوط ، كما ترى . وأما ما قاله ابن رشد في " البيان " من أن توأمي المسبية ، والمستأمنة شقيقان ، فوجهه ظاهر ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة عشرة : اعلم أنه إن تزوجها ثم قذفها بعد النكاح قائلا : إنها زنت قبل أن يتزوجها . فإن أهل العلم اختلفوا هل له لعانها نظرا إلى أن القذف وقع وهي زوجته أو [ ص: 479 ] يحد لقذفها ولا يمكن من اللعان نظرا إلى أنها وقت الزنى الذي قذفها به أجنبية منه ، وليست بزوجة . قال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذفها بعد تزوجها بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن ، سواء كان ثم ولد أو لم يكن ، وهو قول مالك وأبي ثور ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي ، وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن ; لأنه قذف امرأته ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية ، ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح ، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك ، وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن ، وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان ، ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة فأشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق قذف الزوجة ; لأنه محتاج إليه ، لأنها غاظته وخانته ، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه ، وهاهنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنى ، فلا يشرع له طريق إلى نفيه ، اهـ من " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة أنه إن لم يكن ولد ، فلا يمكن الزوج من اللعان ، ويحد لقذفها إن لم يأت بأربعة شهداء ; لأنه قذفها وهي أجنبية ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية ، لأنه قاذف محصنة ليست بزوجة ، والنكاح الطارئ لا يغير الحكم الذي تقرر قبله كما ترى ، وإن كان هناك ولد يلحق به لو سكت ، وهو يعلم أنه ليس منه استنادا إلى بعض الأمور المسوغة لنفي الولد التي قدمناها أن له أن يلاعن لنفي الولد . والحاصل : أنه له اللعان لنفي الولد لا لدفع الحد فيما يظهر لنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة عشرة : فيما لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية ، فقيل : يلاعن ، وقيل : لا يلاعن ; لأن القذف إنما وقع بعد البينونة بالثلاث على القول بالبينونة بها ، وهو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم . قال ابن قدامة في " المغني " : نقل مهنأ قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته : أنت طالق يا زانية ثلاثا ، فقال : يلاعن ، قلت : إنهم يقولون يحد ، ولا يلزمها إلا واحدة ، قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن ; لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها ، فأشبه قذف الرجعية ، اهـ منه [ ص: 480 ] وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة عشرة : فيما لو جاءت زوجته بولد فنفاه فصدقته الزوجة في أن الولد من غيره ، فعلى الزوجة حد الزنى . واختلف أهل العلم هل ينتفي نسب الولد بتصادقهما بدون لعان ، أو لا ينتفي إلا بلعان ، وكلا القولين مروي عن مالك ، وأكثر الرواة عنه أنه لا ينتفي إلا بلعان . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه لا ينتفي عن الزوج إلا بلعانه ، ولا يسقط حقه من لحوق نسبه بتصديق أمه للزوج ; لأن للولد حقا في لحوق نسبه فلا يسقط إلا بلعان الزوج ، وأما الزوجة فلا يصح منها اللعان في هذه الصورة ; لأنها مقرة بصدق الزوج في دعواه . المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن الأظهر عندنا فيمن قذف امرأته فطالبت بحده لقذفها فأقام شاهدين على إقرارها بالزنى الذي قذفها به أن حكم هذه المسألة مبني على الاختلاف في الإقرار بالزنى ، هل يثبت بشاهدين كغيره من سائر الأقارير أو لا يثبت إلا بأربعة شهود ، فمن قال : يثبت بشاهدين يلزم قوله : أن الرجل لا يحد لقذفها ; لأن إقرارها بالزنى ثبت بالشاهدين ، وعلى القول الآخر يحد ; لأن إقرارها لم يثبت ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الأظهر أنهما إن شهدا عليه بأنه قذف امرأته وقذفهما أعني الشاهدين لم تقبل شهادتهما بقذف المرأة ; لأنهما لما ادعيا عليه أنه قذفهما صارا له عدوين ; لأن القذف يستوجب العداوة . قال ابن قدامة في " المغني " : فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة ، وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما ، وشهادة العدو لا تقبل على عدوه ، فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة ، فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ، ثم تاب وأعادها ، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ، ثم أبرآه وزالت العداوة ، ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما ; لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ، ولو شهدا أنه قذف امرأته ، ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما ، بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه ، وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت ، وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها ; لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين ، وإن كانت بعد الحكم لم يبطل ; لأن الحكم تم قبل [ ص: 481 ] وجود المانع كظهور الفسق ، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما ، لأنها ردت في البعض للتهمة ، فوجب أن ترد للكل ، وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد ، وقال في القديم : لا تقبل ; لأنهما يجران إلى أمهما نفعا ، وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء ; لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به ، وإن شهدا بطلاق الضرة ، ففيه وجهان : أحدهما : لا تقبل ؛ لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما . والثاني : تقبل ؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ، اهـ من " المغني " ، وكله لا نص فيه ولا يخلو بعضه من خلاف ، والأظهر عدم قبول شهادتهما بطلاق ضرة أمهما ; لأنهما متهمان بجر النفع لأمهما ، لأن طلاق الضرة فيه نفع لضرتها كما لا يخفى وشهادة الإنسان بما ينفع أمه لا تخلو من تهمة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . المسألة العشرون : في اختلاف اللغات أو الأزمنة في القذف أو الإقرار به . قال ابن قدامة في " المغني " : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية ، تمت الشهادة; لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ، ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها ، وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه ، وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه أقر بأنه قذفها بالعربية ، أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ، ففيه وجهان : أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة ; لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة ، وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف ; كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية ، والآخر : لا تكمل الشهادة ، وهو مذهب الشافعي ; لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت ، كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة [ ص: 482 ] وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين ، انتهى من " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بالشهادة هل تلفق في الأفعال والأقوال ، أو لا تلفق ؟ وبعضهم يقول تلفق في الأقوال دون الأفعال ، وبعضهم يقول : تلفق فيهما ، والفرق بينهما ليس بظاهر ، وقولهم : هما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما قد يقال فيه ، وكذلك الإقرار المختلف وقته أو لسانه هما إقراران لم تتم الشهادة على واحد منهما ، وهذه المسألة لا نص فيها وكل من الأقوال فيها له وجه من النظر ، والخلاف المذكور وعدم النص لا يبعد أن يكون شبهة تدرأ الحد ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الواحدة والعشرون : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من نفى حمل امرأته بلعان أنه ينتفي عنه ، ولا يلزمه لعان آخر بعد وضعه ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه تعلم أن قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومن وافقه من أهل الكوفة ، وقول الخرقي ومن وافقه من الحنابلة أن الحمل لا يصح نفيه باللعان ، فلا بد من اللعان بعد الوضع ; لأن الحمل قبل الوضع غير محقق ; لاحتمال أن يكون ريحا خلاف التحقيق فيما يظهر لنا من انتفاء الحمل باللعان ، كما هو قول مالك والشافعي ومن وافقهم من أهل الحجاز ، كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وقصة هلال بن أمية - رضي الله عنه - صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه حمل امرأته باللعان ، ولم يلزمه بإعادة اللعان بعد الوضع ، والرواية التي توهم أن لعانه كان بعد الوضع أوضحنا الجواب عنها فيما تقدم بما أجاب به عنها ابن حجر في " الفتح " ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية والعشرون : في حكم من قذف امرأته باللواط ، وقد أوضحنا في سورة " هود " ، في الكلام على قصة قوم لوط أقوال أهل العلم في عقوبة اللائط وبينا أن أقواها دليلا قتل الفاعل والمفعول به ، وعليه فلا حد بالقذف باللواط وإنما فيه التعزير ، وذكرنا قول من قال من أهل العلم : إن اللواط حكمه حكم الزنى وعلى هذا القول يلاعن القاذف باللواط ، وإن امتنع من اللعان حد ، والعلم عند الله تعالى . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (403) سُورَةُ النُّورِ صـ 483 إلى صـ 490 المسألة الثالثة والعشرون : في حكم من ولدت امرأته ولدا لا يمكن أن يكون منه ، فإن الولد لا يلحقه ولا يحتاج إلى نفيه بلعان ; لأنه معلوم أنه ليس منه كما لو تزوج امرأة [ ص: 483 ] فجاءت بولد كامل لأقل من ستة أشهر ; لأن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، كما أوضحناه في سورة " الرعد " ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وككون الزوج صبيا لا يولد لمثله عادة لصغره ونحو ذلك . واعلم أن الذي يظهر لنا أنه هو الصواب أن كل ولد جاءت به امرأة الصغير قبل بلوغه أنه لا يلحق به ، ولا يحتاج إلى لعان ، وبه تعل م أن قول من قال من الحنابلة ، ومن وافقهم : إن الزوج إن كان ابن عشر سنين لحقه الولد وكذلك تسع سنين ونصف ، كما قاله القاضي من الحنابلة أنه خلاف التحقيق ، واستدلالهم على لحوق الولد بالزوج الذي هو ابن عشر سنين بحديث " : واضربوهم على الصلاة لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " ظاهر السقوط ، وإن اعتمده ابن قدامة مع علمه ، وغيره من الحنابلة . فالتحقيق إن شاء الله تعالى هو ما قاله أبو بكر من الحنابلة من أنه لا يلحق به الولد حتى يبلغ وهو ظاهر لا يخفى ، وكما لو تزوج امرأة في مجلس ، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي مغربية ، أو عكسه ، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه ، قال ابن قدامة في " المغني " : وبذلك قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلحقه نسبه ; لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء ، انتهى منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله عدم لحوق الولد فيما ذكر للعلم بأنه ليس منه ولا حاجة لنفيه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة والعشرون : اعلم أن أظهر الأقوال وأقواها دليلا ، أن المتلاعنين يتأبد التحريم بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، وقد جاءت بذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد ، وفيه : فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا ، انتهى . وقال في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح ، ومنها ما رواه الدارقطني عن سهل أيضا ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال " : لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ، وقال فيه [ ص: 484 ] صاحب " نيل الأوطار " : وفي إسناده عياض بن عبد الله ، قال في " التقريب " : فيه لين ، ولكنه قد أخرج له مسلم ، اهـ . ومنها ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد أيضا . ومنها ما رواه الدراقطني أيضا ، عن علي - رضي الله عنه - قال : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ، وما رواه الدارقطني أيضا ، عن علي ، وابن مسعود ، قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان ، وقال صاحب " نيل الأوطار " في حديث ابن عباس : أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة ، وفي إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال ، وقال في حديث علي وابن مسعود : أخرجهما أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، انتهى منه . وبه تعلم أن تأبيد التحريم أصوب من قول من قال من العلماء إن أكذب نفسه حد ، ولا يتأبد تحريمها عليه ، ويكون خاطبا من الخطاب وهو مروي عن أبي حنيفة ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والأظهر أنه إن أكذب نفسه لحق به الولد وحد خلافا لعطاء القائل : إنه لا يحد . تنبيه . اعلم أن أقوال أهل العلم في فرقة اللعان قدمناها مستوفاة في سورة " البقرة " . في كلامنا الطويل على آية : الطلاق مرتان الآية [ 2 \ 229 ] ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في لعان الأخرس في سورة " مريم " ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية ، ومن أراد استقصاء مسائل اللعان فلينظر كتب فروع المذاهب الأربعة ،قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم بين - جل وعلا - في هذه الآية ، أنه لولا فضله ورحمته ، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه . ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : [ ص: 485 ] ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية [ 4 \ 49 ] ، وقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] . والزكاة في هذه الآية : هي الطهارة من أنجاس الشرك ، والمعاصي . وقوله : ولكن الله يزكي من يشاء [ 4 \ 21 ] أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة . وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ولا قوله : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر ، ووجه ذلك في قوله : من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح ، وقبوله منه . وكذلك الأمر في قوله : قد أفلح من تزكى كما لا يخفى . والأظهر أن قوله : ما زكا منكم من أحد الآية [ 24 \ 21 ] : جواب لولا التي تليه خلافا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم الآية [ 24 \ 20 ] وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا ، لدلالة القرائن عليه ، قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر - رضي الله عنه - ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير ، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر - رضي الله عنه - وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته ، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالإفك المذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآية [ 24 \ 11 ] ، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي - رضي الله عنه - . [ ص: 486 ] وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة ، وفي الأحاديث الصحاح ، فلما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - في الآيات المذكورة ، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح ، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء ، فأنزل الله في ذلك : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله الآية ، وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي : لا يحلف ، فقوله : " يأتل " وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى يأتلي إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 \ 226 ] ، أي : يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف ، ومنه قول امرئ القيس : ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل أي حلفت حلفة ، وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهم - : فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز : قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت أي : لا يحلف أصحاب الفضل والسعة ، أي : الغنى كأبي بكر - رضي الله عنه - أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة ، وقوله : أن يؤتوا ، أي : لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه ، ومفعول يؤتوا الثاني محذوف ، أي : أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - . وقال بعض أهل العلم : قوله : ولا يأتل ، أي : لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألو في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ . ومنه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ ص: 487 ] [ 3 \ 118 ] ، أي لا : يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي : وأشمط عريانا يشد كتافه يلام على جهد القتال وما ائتلا وقول الآخر : وإن كنائني لنساء صدق فما آلى بني ولا أساءوا فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطئوا والأول هو الأصح ، لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين ، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [ 2 \ 224 ] ، أي : لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية . وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ 6 \ 89 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وليعفوا وليصفحوا فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته . والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم ، والصفح : قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق ، أي : أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 133 - 134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثا على ذلك ، ودلت أيضا : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ، وكقوله تعالى [ ص: 488 ] إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثا عليه ، وكقوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] وكقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق في مسطح ، ومفعول " أن يغفر الله " محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أولي القربى أي : أصحاب القرابة ، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم . فائدة في هذه الآية الكريمة دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح ; لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح ، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته ; لأن الله قال فيه بعد قذفه لها والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله ، لم يحبطها قذفه لعائشة - رضي الله عنها - . قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ; لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ، وكذلك سائر الكبائر ، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] اهـ . وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية ، وإن كان معلوما . وقال القرطبي أيضا : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله ، ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء ، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] وقد قال تعالى في آية أخرى والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ ص: 489 ] [ 42 \ 22 ] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك . ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ 39 \ 53 ] ، وقوله تعالى : الله لطيف بعباده [ 42 \ 19 ] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار ، انتهى كلام القرطبي . وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيم ، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع ، ولو كان الدين حقيرا كما يدل عليه قوله تعالى فيها : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله الآية [ 2 \ 282 ] ، قالوا : هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم ، وعدم ضياعه ، ولو قليلا يدل على العناية التامة بمصالح المسلم ، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول ، وشدة حاجته إلى ربه . قال مقيده عفا الله وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 32 - 35 ] . فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاها في قوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وبين أنهم ثلاثة أقسام : الأول : الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله ، ولكنه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم [ 9 \ 102 ] . [ ص: 490 ] والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله ، ولا يعصيه ، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات . والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة ، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه ، والمقتصد والسابق ، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم ، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله : جنات عدن يدخلونها إلى قوله : ولا يمسنا فيها لغوب والواو في يدخلونها شاملة للظالم ، والمقتصد والسابق على التحقيق ، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين ، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة ، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ؛ ولذا قال بعدها متصلا بها والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور إلى قوله : فما للظالمين من نصير [ 35 \ 36 - 37 ] . واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق ، فقال بعضهم : قدم الظالم لئلا يقنط ، وأخر السابق بالخير لئلا يعجب بعمله فيحبط ، وقال بعضهم : قدم الظالم لنفسه ; لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم ، لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم ; كما قال تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم [ 38 \ 24 ] . ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (404) سُورَةُ النُّورِ صـ 491 إلى صـ 498 قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ ص: 491 ] إلى قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 20 - 23 ] . قوله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق المراد بالدين هنا الجزاء ، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم ; لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى : ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 41 ] ، وقوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] وقوله ، توفى كل نفس ما كسبت [ 3 \ 161 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : " دينهم " ، أي : جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف ، وقال الزمخشري : دينهم الحق ، أي : جزاءهم الواجب الذي هم أهله ، والأول أصح ; لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام ، وعدل كامل ، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم ، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس ، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى . وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة اليمن : الاستئذان . وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان ، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى . الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش ; لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له [ ص: 492 ] استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم ، وأريد ملزومه الذي هو الإذن ، وإطلاق اللازم ، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف ، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل ، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم [ 33 \ 53 ] ، وقوله تعالى بعده : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم [ 24 \ 28 ] ، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية ، والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن . الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام ، والاستكشاف ، فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه . والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال ، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أي : تعرفت واستعلمت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] ، أي : علمتم رشدهم وظهر لكم ، وقوله تعالى عن موسى : إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس [ 20 \ 10 ] وقوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا الآية [ 28 \ 29 ] فمعنى آنس نارا : رآها مكشوفة ، ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان : كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد فقوله على مستأنس ، يعني : حمار وحش شبه به ناقته ، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف ، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم ، ومنه أيضا قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته : آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء فقوله : آنست نبأة ، أي : أحست بصوت خفي ، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا ، هل يؤذن لكم ، وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون [ ص: 493 ] بالاستئذان أظهر عندي ، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول ، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا . وبما ذكرنا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم ، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه ، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس ، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم ، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت ، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك ; لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا ، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير ، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقال فيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] وقال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآية [ 75 \ 16 - 17 ] . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة . المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز ; لأن قوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية [ 24 \ 27 ] ، نهي صريح ، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح ، كما تقرر في الأصول . المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات ، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة ، فليرجع ، ولا يزد على الثلاث ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت ، قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال [ ص: 494 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك . وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر ، سمعت أبا سعيد بهذا ، اهـ بلفظه من صحيح البخاري . وهو نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا والله يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول : كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه ، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك ، فسلمت على بابك ثلاثا ، فلم يردوا علي فرجعت ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : أقم عليها البينة ، وإلا أوجعتك ، فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب به . حدثنا قتيبة بن سعيد ، وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد ، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت ، اهـ بلفظه من صحيح مسلم . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ، فقال أبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها ، وإلا فلأجعلنك عظة ، قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الاستئذان ثلاث ، قال فجعلوا يضحكون ، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع ، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه ، فقال هذا أبو سعيد . وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة ، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، [ ص: 495 ] فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ، فقال : كنا نؤمر بهذا ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : لتأتيني على هذا وإلا فعلت وفعلت ، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية ، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه ، فلما أن جاء العشي وجدوه ، قال يا أبا موسى : ما تقول أقد وجدت ؟ قال : نعم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال عدل ، يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم ، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الرواية قول عمر : سبحان الله ، وما بعده . فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى ، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث ، وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا ، وصغارنا ، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ منه ، والظاهر منه كما قال ، وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس ، والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، وأن الاستئناس المذكور في الآية ، هو الاستئذان المكرر ثلاثا ; لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه ، وبذلك تعلم أن ما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا " : الاستئذان بتنحنح ، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق ، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه ، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت . وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة قال : الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره ، والرواية الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل . قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين ، التي أشرت إليها في الأدب المفرد ، زيادة مفيدة ، وهي أن أبا سعيد ، أو أبا [ ص: 496 ] مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سعد بن عبادة ، حتى أتاه فسلم ، فلم يؤذن له ، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ، ثم سلم الثالثة ، فلم يؤذن له ، فقال : " قضينا ما علينا " ، ثم رجع فأذن له سعد ، الحديث ، فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه ، وأحمد من طريق ثابت ، عن أنس أو غيره كذا فيه ، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد ، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد ، اهـ محل الغرض منه ، وقوله : فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله : يدل على أن قصة استئذانه - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت ، عن أنس أو غيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن على سعد بن عبادة ، فقال : " السلام عليك ورحمة الله " ، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسيلمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال " : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال " : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " السلام عليكم ورحمة الله " ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " السلام عليكم ورحمة الله " ، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر ابن كثير القصة إلى آخرها ، ثم قال : وقد روى هذا من وجوه أخرى ، فهو حديث جيد قوي والله أعلم . وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا ، وليس المراد به التنحنح ونحوه ، كما عزاه في فتح الباري للجمهور ، واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان ؟ وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع ، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة : أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام [ ص: 497 ] والاستئذان ، كما صرح به في القرآن ، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة ، وقاله المحققون : أنه يقدم السلام ، فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ والثاني يقدم الاستئذان ، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان في تقديم السلام ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على غيره ، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان ، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله : حتى تستأنسوا وتسلموا [ 24 \ 27 ] لا يدل على تقديم الاستئذان ; لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، وإنما يقتضي مطلق التشريك ، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [ 3 \ 43 ] والركوع قبل السجود ، وقوله تعالى : ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] ونوح قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب; كقوله تعالى : إن الصفا والمروة الآية [ 2 \ 158 ] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " : أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، وكقول حسان - رضي الله عنه - : هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء على رواية الواو في هذا البيت . وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف ، كالحديث المذكور في البدء بالصفا ، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور ; لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده ، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك ، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو ، اهـ . وذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فانظره ، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمختار أن [ ص: 498 ] صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف ، كما دلت عليه الأدلة . واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير ; لأن في بعضها : أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه ، فرده من حينه ، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني ، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال : وظاهر هذين السياقين التغاير ، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني ، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما : بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه ، فأرسل إليه ، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت ، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني ، اهـ . منه ، والعلم عند الله تعالى . تنبيهات تتعلق بهذه المسألة . الأول : اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة ; لأنهم لما سمعوه ، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن ، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة ، خلافا لمن قال من أهل العلم : إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا ، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا ، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة ، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه . التنبيه الثاني : اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة ، أنه إن علم أن أهل البيت ، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة ، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة ، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة ، ومن فصل في ذلك ، وقال النووي في شرح مسلم : أما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، وظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ، ولا يعيد الاستئذان . والثاني : يزيد فيه . والثالث : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده ، فمن قال بالأظهر فحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فلم يؤذن له فليرجع " ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم ، أو ظن أنه سمعه ، فلم يأذن والله أعلم . والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث ; لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو مقرر في الأصول . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (405) سُورَةُ النُّورِ صـ 499 إلى صـ 506 [ ص: 499 ] التنبيه الثالث : قال بعض أهل العلم : إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلا الباب عن يمينه أو يساره ، ويستأذن وهو كذلك ، قال ابن كثير : ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه ، أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين ، قالوا : حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال " : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول " السلام عليكم : السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ، انفرد به أبو داود . وقال أبو داود أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير ، ح ، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا حفص عن الأعمش ، عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد [ بن أبي وقاص ] ، فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام على الباب ، قال عثمان : مستقبل الباب ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر " ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود ، من حديثه انتهى من ابن كثير ، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما . وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفا أن يفتح له الباب ، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه ، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة : اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل : من أنت ، فلا يجوز له أن يقول له : أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورا به ; لأن لفظة أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن ، وقد ثبت معنى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابرا - رضي الله عنه - يقول " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال من ذا ؟ فقلت : أنا ، فقال : " أنا أنا " ، كأنه كرهها " انتهى منه ، وتكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر ; لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له - صلى الله عليه وسلم - بما لا يطابق سؤاله ، وظاهر الحديث أن جواب [ ص: 500 ] المستأذن بأنا ، لا يجوز لكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك وعدم رضاه به خلافا لمن قال : إنه مكروه كراهة تنزيه ، وهو قول الجمهور . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شعبة عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذا ؟ قلت أنا فخرج وهو يقول : أنا أنا " . حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لأبي بكر قال : قال يحيى : أخبرنا ، وقال أبو بكر : حدثنا وكيع عن شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال " : استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أنا " . وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا النضر بن شميل ، وأبو عامر العقدي " ح " وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثني وهب بن جرير " ح " وحدثني عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد ، وفي حديثهم كأنه كره ذلك انتهى منه . وقول جابر ، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه ، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة . المسألة الرابعة : اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته ، وبنيه وبناته البالغين ; لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل له . وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ما نصه : ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم ; لئلا تكون منكشفة العورة . وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن ، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال ما على كل أحيانها تريد أن تراها . ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرا : سأل رجل حذيفة : أستأذن على أمي ؟ فقال : إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره ، ومن طريق موسى بن طلحة ، دخلت مع أبي على أمي فدخل ، واتبعته فدفع في صدري ، وقال : تدخل بغير إذن ؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس استأذن على أختي ؟ [ ص: 501 ] قال نعم ، قلت إنها في حجري ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة ، انتهى من فتح الباري . وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، ويفهم من الحديث الصحيح " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل ، كما ترى ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية التي نحن بصددها : وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم . وقال أشعث ، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهل بيتي ، وأنا على تلك الحال ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا الآية ، وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ثلاث آيات جحدهن الناس ، قال الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، قال ويقولون : إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتا ، إلى أن قال : والأدب كله قد جحده الناس ، قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، قال : فراجعته ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم ، قال : وكان يشدد في ذلك ، وقال ابن جريج عن الزهري : سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم ، اهـ محل الغرض منه ، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة : اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها ، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته ، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما ، ولو كان أبا أو أما أو ابنا ، كما لا يخفى ، ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفا عن موسى بن طلحة : أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن ، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن . [ ص: 502 ] وقال ابن كثير في " تفسيره " : وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا ، ثم قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ; لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها ، ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قال : وإسناده صحيح ، اهـ محل الغرض منه . والأول أظهر ولا سيما عند من يرى إباحة نظر الزوج إلى فرج امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة : إذا قال أهل المنزل للمستأذن : ارجع ، وجب عليه الرجوع ; لقوله تعالى : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ 24 \ 28 ] ، وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له : ارجع ، ليرجع ، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله : هو أزكى لكم ; لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرا وأجرا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة : اعلم أن أقوى الأقوال دليلا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص ، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا ، لمعارضتها النص الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في " صحيحه " : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له ، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - " : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح " ، اهـ منه ، والجناح الحرج ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : لم يكن عليك جناح " ، لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي فهي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص ، كما ترى . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " ، اهـ منه . [ ص: 503 ] وهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحل لهم أن يفقئوا عينه ، وكون ذلك حلالا لهم مستلزم أنهم ليس عليهم فيه شيء من إثم ، ولا دية ، ولا قصاص ; لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة ، كما لا يخفى . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - تعالى في " صحيحه " متصلا بكلامه هذا الذي نقلنا عنه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " ، اهـ منه . وقد بينا وجه دلالته على أنه لا شيء في عين المذكور ، وثبوت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت يدل على أنه لما تعدى وانتهك الحرمة ، ونظر إلى بيت غيره دون استئذان ، أن الله أذن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ عينه الخائنة ، وأنها هدر لا عقل فيها ، ولا قود ، ولا إثم ، ويزيد ما ذكرنا توكيدا وإيضاحا ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - منه أنه هم أن يفعل ذلك . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه تحت الترجمة المذكورة آنفا ، وهي قوله : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع في بعض جحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، وجعل يختله ليطعنه . حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن ابن شهاب ، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك " ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الإذن من قبل البصر " ، اهـ منه ، وقد ذكر البخاري هذه الأحاديث التي ذكرناها عنه هنا في كتاب الديات . وقد قال في كتاب الاستئذان : باب الاستئذان من أجل البصر : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال الزهري : حفظته كما أنك هاهنا عن سهل بن سعد ، قال : اطلع رجل من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فقال " : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " . [ ص: 504 ] حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص ، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه ، وهذه النصوص الصحيحة تؤيد ما ذكرنا ، فلا التفات لمن خالفها من أهل العلم ، ومن أولها ; لأن النص لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه . واعلم أن المشقص بكسر أوله وسكون ثانيه ، وفتح ثالثه هو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض ، وقوله في الحديث المذكور : من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجحر الأول : بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط ، والثاني : بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة : وهي ناحية البيت . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو كامل فضيل بن الحسين وقتيبة بن سعيد ، واللفظ ليحيى ، وأبي كامل ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختله ليطعنه ، وفي لفظ عند مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك " ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وفي مسلم روايات أخر بهذا المعنى قد اكتفينا منها بما ذكرنا . وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها ، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة ، ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها ، وتكون هدرا ، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك ، ولا لتأويلهم للنصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولا إلى شخص ليحضر عنده ، فإن أهل العلم قد اختلفوا : هل يكون الإرسال إليه إذنا ; لأنه طلب حضوره بإرساله إليه ، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد اكتفاء بالإرسال إليه ، أو لا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذانا جديدا ، ولا يكتفي بالإرسال ؟ وكل من [ ص: 505 ] القولين قال به بعض أهل العلم ، واحتج من قال : إن الإرسال إليه إذن يكفي عن الاستئذان عند إتيان المنزل بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن حبيب ، وهشام عن محمد عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، حدثنا حسين بن معاذ ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " ، قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول : قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئا ، اهـ من أبي داود . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي ، عن قتادة : أن أبا رافع حدثه ، اهـ . ويدل لصحة ما رواه أبو داود ، ورواه البخاري تعليقا : باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن ؟ وقال سعيد عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : هو إذنه " اهـ ، ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم ، إلا ما هو صحيح عنده ، كما قدمناه مرارا . وقال ابن حجر في " الفتح " : في حديث كون " رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وله متابع أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، بلفظ " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود ، قال " : إذا دعي الرجل فهو إذنه " ، وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا ، انتهى محل الغرض منه . فهذه جملة أدلة من قالوا : بأن من دعي لا يستأذن إذا قدم . وأما الذين قالوا : يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسل ، ولا يكتفي بإرسال الرسول ، فقد احتجوا بما رواه البخاري في " صحيحه " : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر ، وحدثني محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن ذر ، أخبرنا مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد لبنا في قدح ، فقال " : أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي " ، قال : فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا ، اهـ منه ، قال : هذا الحديث الصحيح صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا هر لأهل الصفة ، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان ولو كان يكفي عنه لبينه صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة . ومن أدلة أهل هذا القول ظاهر عموم قوله تعالى : [ ص: 506 ] لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ; لأن ظاهرها يشمل من أرسل إليه وغيره ، وقد جمع بعض أهل العلم بين أدلة القولين . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان ، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة ، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن ، وقال ابن التين : لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله ، والثاني بخلافه . قال : والاستئذان على كل حال أحوط . وقال غيره : إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول ، ويكفيه سلام الملاقاة ، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان ، وبهذا جمع الطحاوي ، واحتج بقوله في الحديث " : فأقبلوا فاستأذنوا " فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم ، وإلا لقال : فأقبلنا ، كذا قال ، اهـ كلام ابن حجر . وأقربها عندي الجمع الأخير ، ويدل له الحديث المذكور فيه ، وقوله في حديث أبي داود المتقدم : فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أمر الله - جل وعلا - المؤمنين والمؤمنات بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى ، واللواط ، والمساحقة ، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم ، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية ، وذلك في قوله تعالى في سورة " المؤمنون " و " سأل سائل " ، والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] و [ 70 \ 29 - 30 ] . فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى ، واللواط لازم ، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (406) سُورَةُ النُّورِ صـ 507 إلى صـ 514 وقد بينا في سورة " البقرة " أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر ، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة ، وقد أوضحنا الكلام على آية : والذين هم لفروجهم [ 23 \ 5 ] ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم ، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة " الأحزاب " ، وذلك في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلى [ ص: 507 ] قوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] ، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط ، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط ; كقوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ، وقوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة " هود " ، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة . واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ; كما قال تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون الآية [ 23 \ 5 ] ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن " : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " ، اهـ منه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه ، فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ، وصدورهن ، وثديهن ، وأعضادهن ، وأسوقهن ، وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء . [ ص: 508 ] وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار ، اهـ كلام الزمخشري . وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر ، بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط ، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنى ، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى ، وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة " الأحزاب " ، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " . وقول الزمخشري : إن من في قوله : يغضوا من أبصارهم للتبعيض ، قاله غيره ، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها ، وعليه أن يغض بصره بعدها ، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش ، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة ، لا يعول عليه . وقال القرطبي : وقيل الغض : النقصان ، يقال : غض فلان من فلان ، أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو موضوع منه ومنقوص ، فـ من صلة للغض ، وليست للتبعيض ، ولا للزيادة ، اهـ منه . والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير : فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا وقول عنترة : وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وقول الآخر : وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان لأن قوله : غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف . [ ص: 509 ] ومن أمثلة تعدي الغض بـ من قوله تعالى : يغضوا من أبصارهم و يغضضن من أبصارهن وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله ، ولم يغض بصره عن الحرام ، وهي قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين [ 40 \ 19 ] . وقد قال البخاري - رحمه الله - : وقال سعيد بن أبي الحسن ، للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن ، قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله - عز وجل - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال قتادة : عما لا يحل لهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه ، اهـ محل الغرض منه بلفظه . وبه تعلم أن قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له ، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة . منها : ما ثبت في الصحيح ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إياكم والجلوس بالطرقات " ، قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال " : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال " : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " ، انتهى ، هذا لفظ البخاري في " صحيحه " . ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، الحديث . ومحل الشاهد منه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل عن النظر إليها ، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز ، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث ، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في [ ص: 510 ] الكلام على مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " . ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، اهـ ، هذا لفظ البخاري ، والحديث متفق عليه ، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا . ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فزنى العين النظر " ، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة . ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه ، والعياذ بالله ، فالنظر بريد الزنى ، وقال مسلم بن الوليد الأنصاري : كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى وقال آخر : ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف وقال آخر : وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال أبو الطيب المتنبي : وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه " ذم الهوى " فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه ، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء ، والحكم النثرية [ ص: 511 ] في ذلك وكله معلوم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها اعلم أولا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال : الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ; كوجهها وكفيها . الثاني : أن الزينة هي ما يتزين به خارجا عن بدنها . وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان : أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن ; كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار . والثاني : أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالكحل في العين . فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه ، وكالخضاب والخاتم ، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد ، وكالقرط والقلادة والسوار ، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن ; كما لا يخفى . وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك ، ثم نبين ما يفهم من آيات القرآن رجحانه . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، وقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه ، وقال بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : وجهها وكفيها والخاتم ، وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك . وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ; كما قال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال في قوله : ولا يبدين زينتهن الزينة : القرط ، والدملوج ، والخلخال ، والقلادة ، وفي رواية عنه بهذا الإسناد ، قال : الزينة زينتان ، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار ، وزينة يراها [ ص: 512 ] الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب ، وقال الزهري : لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس ، فلا يبدو منها إلا الخواتم . وقال مالك ، عن الزهري إلا ما ظهر منها : الخاتم والخلخال ، ويحتمل أن ابن عباس ، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها : بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في " سننه " : حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ، ومؤمل بن الفضل الحراني ، قالا : حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن خالد بن دريك ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال " : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، لكن قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة - رضي الله عنها - والله أعلم ، اهـ كلام ابن كثير . وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : إلا ما ظهر منها : واختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب ، وزاد ابن جبير : الوجه ، وقال سعيد بن جبير أيضا ، وعطاء ، والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا ، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس . وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آخر عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا " ، وقبض على نصف الذراع . قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء ، فهو المعفو عنه . قلت : وهذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة ، وعبادة وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي [ ص: 513 ] قدمناه قريبا ، ثم قال : وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة ، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة ، فعليها ستر ذلك ، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي . وقال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس به ، وما خفي منها كالسوار ، والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين ، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر ; لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الذراع ، والساق ، والعضد ، والعنق ، والرأس ، والصدر ، والأذن ، فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله ، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها ، إلى آخر كلامه . وقال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج عبد الرزاق والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن قال : الزينة السوار والدملج والخلخال ، والقرط ، والقلادة إلا ما ظهر منها قال : الثياب والجلباب . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : الزينة زينتان ، ، زينة ظاهرة ، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج . فأما الزينة الظاهرة : فالثياب ، وأما الزينة الباطنة : فالكحل ، والسوار والخاتم ، ولفظ ابن جرير : فالظاهرة منها الثياب ، وما يخفى : فالخلخالان والقرطان والسواران . وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة . [ ص: 514 ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : هو خضاب الكف ، والخاتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : وجهها ، وكفاها والخاتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : رقعة الوجه ، وباطن الكف . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها سئلت عن الزينة الظاهرة ؟ فقالت : القلب والفتخ ، وضمت طرف كمها . وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه وثغرة النحر . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه والكف . وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الكفان والوجه . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن قتادة ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : المسكتان والخاتم والكحل . قال قتادة : وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى هاهنا " ويقبض نصف الذراع . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن المسور بن مخرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : القلبين ، يعني السوار والخاتم والكحل . ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (407) سُورَةُ النُّورِ صـ 515 إلى صـ 522 وأخرج سعيد ، وابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الخاتم والمسكة . قال ابن جريج : وقالت عائشة - رضي الله عنها - : القلب والفتخة ، قالت عائشة : دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة ، فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرض ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنها ابنة أخي وجارية ، فقال " : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون [ ص: 515 ] هذا " ، وقبض على ذراعه نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ، اهـ محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " . وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة ، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال ; كما ذكرنا : الأول : أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها ; كقول ابن مسعود ، ومن وافقه : إنها ظاهر الثياب ; لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار ، كما ترى . وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها ، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة . القول الثاني : أن المراد بالزينة : ما تتزين به ، وليس من أصل خلقتها أيضا ، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة ، وذلك كالخضاب والكحل ، ونحو ذلك ; لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن ، كما لا يخفى . القول الثالث : أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها ; كقول من قال : إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان ، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم . وإذا عرفت هذا ، فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن ، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب ، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع ; لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة . وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية ، التي نحن بصددها . أما الأول منهما ، فبيانه أن قول من قال في معنى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أن المراد بالزينة : الوجه والكفان مثلا ، توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة [ ص: 516 ] هذا القول ، وهي أن الزينة في لغة العرب ، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها : كالحلي ، والحلل . فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ، ولا يجوز الحمل عليه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وبه تعلم أن قول من قال : الزينة الظاهرة : الوجه ، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية ، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول ، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه . وأما نوع البيان الثاني المذكور ، فإيضاحه : أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها ; كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] ، وقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ 7 \ 32 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها [ 28 \ 60 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فخرج على قومه في زينته الآية [ 28 \ 79 ] ، وقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ 57 \ 20 ] ، وقوله تعالى : قال موعدكم يوم الزينة [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى عن قوم موسى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم [ 20 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ 24 \ 31 ] ، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته ، كما ترى ، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن ، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى ، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم ، وهو المعروف في كلام العرب ; كقول الشاعر : يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين ، فيه نظر . وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة ، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين ، فقال بعضهم : هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب . وقال بعضهم : هي زينة يستلزم النظر [ ص: 517 ] إليها رؤية موضعها من بدن المرأة ; كالكحل والخضاب ، ونحو ذلك . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية ، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر ; لأنه هو أحوط الأقوال ، وأبعدها عن أسباب الفتنة ، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها ; كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم ، هو تمام المحافظة ، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي . واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شيء من بدن الأجنبية ، سواء كان الوجه والكفين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع ، بأننا سنوضح ذلك في سورة " الأحزاب " ، في الكلام على آية الحجاب ، وسنفي إن شاء الله تعالى بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا . واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود ، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق ، وأنه قال لها " : إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث ; كما قدمنا عن ابن كثير أنه قال فيه : قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة . والأمر كما قال ، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانا شافيا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة " الأحزاب " ، ولذلك لم نطل الكلام فيها هاهنا . تنبيه . قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع الزينة ، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب ، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة ، فأردنا أن نبينها هاهنا تكميلا للفائدة . أما الكحل والخضاب فمعروفان ، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء ، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن ، ويجمع على قرطة كقردة ، وقراط ، وقروط ، وأقراط ، ومنه قول الشاعر : [ ص: 518 ] أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر والخاتم معروف ، وهو حلية الأصابع ، والفتخ : جمع فتخة بفتخات وهي حلقة من فضة لا فص فيها ، فإذا كان فيها فص ، فهو الخاتم ، وقيل : قد يكون للفتخة فص ، وعليه فهي نوع من الخواتم ، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها ، ومن ذلك قول الراجزة ، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج : والله لا تخدعني بضم ولا بتقبيل ولا بشم إلا بزعزاع يسلي همي تسقط منه فتخي في كمي والخلخال ، ويقال له : الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم ، والمخلخل : موضع الخلخال من الساق ، ومنه قول امرئ القيس : إذا قلت هاتي نوليني تمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل والدملج : ويقال له الدملوج : هو المعضد ، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره ، والعضد من المرفق إلى المنكب ، ومنه قول الشاعر : ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال والسوار : حلية من الذهب ، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها ، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق ، وهو القلب بضم القاف . وقال بعض أهل اللغة : إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد لا من طاقين أو أكثر ، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام - رضي الله عنه - : تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبا أحب بني العوام من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا . والمسكة بفتحات : السوار من عاج أو ذبل ، والعاج سن الفيل ، والذبل بالفتح شيء كالعاج ، وهو ظهر السلحفاة البحرية ، يتخذ منه السوار ، ومنه قول جرير يصف امرأة : ترى العبس الحولي جونا بكوعها لها مسكا في غير عاج ولا ذبل [ ص: 519 ] قاله الجوهري في " صحاحه " ، والمسك بفتحتين : جمع مسكة . وقال بعض أهل اللغة : المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل ، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب ، ولا الفضة ، وقد قدمنا في سورة " التوبة " ، في الكلام على قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية [ 9 \ 34 ] ، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عند أبي داود والنسائي : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، الحديث . وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب ، كما تكون من العاج ، والقرون ، والذبل ، وهذا هو الأظهر خلافا لكلام كثير من اللغويين في قولهم : إن المسك لا يكون من الذهب ، والفضة ، والقلادة معروفة ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة ، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به ، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة ، وهي الرجوع عن الذنب ، والإنابة إلى الله بالاستغفار منه ، وهي ثلاثة أركان : الأول : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به . والثاني : الندم على ما وقع منه من المعصية . والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا ، والأمر في قوله في هذه الآية : وتوبوا إلى الله جميعا الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك ، فالتوبة واجبة على كل مكلف ، من كل ذنب اقترفه ، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا . وقوله : لعلكم تفلحون قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان : الأول : أنها على بابها من الترجي ، أي : توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا ، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد ، أما الله - جل وعلا - فهو عالم بكل شيء ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء ، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] [ ص: 520 ] وهو - جل وعلا - عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى . معناه : فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى . والثاني : هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " ، وهي في قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] ، قالوا : فهي بمعنى كأنكم ، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية ، ومنه قول الشاعر : فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق أي : كفوا الحروب ، لأجل أن نكف ; كما تقدم . وعلى هذا القول ، فالمعنى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ، لأجل أن تفلحوا ، أي : تنالوا الفلاح ، والفلاح في اللغة العربية : يطلق على معنيين : الأول : الفوز بالمطلوب الأعظم ، ومن هذا المعنى قول لبيد : فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل أي : فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل . المعنى الثاني : هو البقاء الدائم في النعيم والسرور ، ومنه قول الأضبط بن قريع ، وقيل : كعب بن زهير : لكل هم من الهموم سعه والمسا والصبح لا فلاح معه يعني : أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه . وقول لبيد بن ربيعة أيضا : لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح يعني : لو كان أحد يدرك البقاء ، ولا يموت لناله ملاعب الرماح ، وهو عمه عامر بن [ ص: 521 ] مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة ، وقد قال فيه الشاعر يمدحه ، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور : فررت وأسلمت ابن أمك عامرا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة : حي على الفلاح ; كما هو معروف . ومن تاب إلى الله - كما أمره الله - نال الفلاح بمعنييه ، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة ، ورضا الله تعالى ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره - جل وعلا - لجميع المسلمين بالتوبة ، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله : لعلكم تفلحون أوضحه في غير هذا الموضع ، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب ، ويكفر بها السيئات ، أنها التوبة النصوح ، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات ، ودخول الجنة ، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم : إن عسى من الله واجبة ، وله وجه من النظر ; لأنه عز وجل جواد كريم ، رحيم غفور ، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله ، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلا ليتفضل به عليه . ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا ، قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 66 \ 8 ] ، فقوله في آية " التحريم " هذه : ذلك بأن الذين كفروا ; كقوله في آية " النور " : أيها المؤمنون لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة ، فقد نال الفلاح بمعنييه ، وقوله في آية " التحريم " : توبوا إلى الله توبة نصوحا موضح لقوله في " النور " : وتوبوا إلى الله جميعا ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم ، وحث على امتثال الأمر ; لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح ، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية " التحريم " ، هو المفهوم من لفظة لعل في آية " النور " ، كما لا يخفى . تنبيهات . الأول : التوبة النصوح : هي التوبة الصادقة . وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح ، بأن يقلع عن الذنب إن كان [ ص: 522 ] ملتبسا به ، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه - جل وعلا - وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدا . وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح ، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب لا يبطلها الرجوع إلى الذنب ، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد خلافا لمن قال : إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى . الثاني : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب ، والإقلاع عنه ، إن كان ملتبسا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة ، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف ، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم أن الندم ليس فعلا ، وإنما هو انفعال ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدا إلا بفعل يقع باختيار المكلف ، ولا يكلف أحدا بشيء إلا شيئا هو في طاقته ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد ، فليس بفعل أصلا ، وليس في وسع المكلف فعله ، والتكليف لا يقع بغير الفعل ، ولا بما لا يطاق ، كما بينا ، قال في " مراقي السعود " : ولا يكلف بغير الفعل باعث الأنبيا ورب الفضل وقال أيضا : والعلم والوسع على المعروف شرط يعم كل ذي تكليف واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق ، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي ، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه ؟ . ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (408) سُورَةُ النُّورِ صـ 523 إلى صـ 530 أما وقوعه بالفعل فهم مجمعون على منعه ; كما دلت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية ، وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلا ، أو لا ؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلا ، أو عادة ، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا ، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد ، أو النقيضين كالعدم والوجود ، والمستحيل عادة كتكليف المقعد [ ص: 523 ] بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ، ونحو ذلك ، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا . وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع ، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع ; كما قال الله تعالى عنه : سيصلى نارا ذات لهب [ 11 \ 3 ] ، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل ، بأنه لا يوجد ; لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا ، وذلك مستحيل في حقه تعالى ، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا ، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب ، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان ، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فالإمكان عام ، والدعوة عامة ، والتوفيق خاص . وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام : الأول : الواجب عقلا . الثاني : المستحيل عقلا . الثالث : الجائز عقلا ، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة ، أن الشيء من حيث هو شيء ، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات : إما أن يكون العقل يقبل وجوده ، ولا يقبل عدمه بحال . وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال . وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معا ، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه ، فهو الواجب عقلا ، وذلك كوجود الله تعالى متصفا بصفات الكمال والجلال ، فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله ، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق ، لم يقبله ، فهو واجب عقلا ، وأما إن كان يقبل عدمه ، دون وجوده ، فهو المستحيل عقلا ; كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه ، وعبادته لقبله ، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال ; كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقال : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] ، فهو مستحيل عقلا . وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معا ، فهو الجائز العقلي ، ويقال له الجائز الذاتي ، وذلك كإيمان أبي لهب ، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله ، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضا ، كما لا يخفى ، فهو جائز عقلا جوازا ذاتيا ، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي . [ ص: 524 ] وقالت جماعات من أهل الأهواء : إن الحكم العقلي قسمان فقط ، وهما : الواجب عقلا ، والمستحيل عقلا ، قالوا : والجائز عقلا لا وجود له أصلا ، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده ، كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلا لعلم الله بأنه سيقع ، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وذلك محال . وإما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب ، فهو مستحيل عقلا ، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا القول لا يخفى بطلانه ، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب ، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه ، فكلاهما جائز إلا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين فأوجده ، وشاء عدم الآخر ، فلم يوجده . والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده ; لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا ، وكذلك المستحيل عادة ، كما لا يخفى . أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز ، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا ، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه ، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلا عرضيا ، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي ، كإيمان أبي لهب ، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع . أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين ، والمستحيل عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان بغير آلة ، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 282 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " . وأما المستحيل العقلي : فقالت جماعة من أهل الأصول : يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلا ، وبالمستحيل عادة ، وقال بعضهم : لا يجوز عقلا مع إجماعهم على أنه [ ص: 525 ] لا يصح وقوعه بالفعل ، وحجة من يمنعه عقلا أنه عبث لا فائدة فيه ; لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال ، فتكليفه بما هو عاجز عنه محققا عبث لا فائدة فيه ، قالوا فهو مستحيل ; لأن الله حكيم خبير . وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف ، هل يتأسف على عدم القدرة ، ويظهر أنه لو كان قادرا لامتثل ، والامتحان سبب من أسباب التكليف ، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده ، وهو عالم أنه لا يذبحه ، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم ، أي : اختباره ، هل يمتثل ؟ فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم ; كما قال تعالى عنه : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 103 - 107 ] . وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى مسألة التكليف بالمحال ، وأقوال الأصوليين فيها ، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا ، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله ، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية ، بقوله : وجوز التكليف بالمحال في الكل من ثلاثة الأحوال وقيل بالمنع لما قد امتنع لغير علم الله أن ليس يقع وليس واقعا إذا استحالا لغير علم ربنا تعالى وقوله : وجوز التكليف ، يعني : الجواز العقلي . وقوله : وقيل بالمنع ، أي : عقلا ، ومراده بالثلاثة الأحوال ما استحال عقلا وعادة ، كالجمع بين النقيضين ، وما استحال عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان ، وإبصار الأعمى ، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه . وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة ، فاعلم أن التوبة تجب كتابا وسنة وإجماعا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورا ، وأن الندم ركن من أركانها ، وركن الواجب واجب ، والندم ليس بفعل ، وليس باستطاعة المكلف ; لأنه انفعال لا فعل ، والانفعالات ليست بالاختيار ، فما وجه التكليف بالندم ، وهو غير فعل للمكلف ، ولا مقدور عليه . والجواب عن هذا الإشكال : هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها ، وهي في طوق المكلف ، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة ، [ ص: 526 ] ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل ، والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر ، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل ، وهو ما تستلزمه معصية الله - جل وعلا - من سخطه على العاصي ، وتعذيبه له أشد العذاب ، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه ، وينغص عليه لذة الحياة ، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم ، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية ، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها . فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم ، وأنه إن استعملها حصل له الندم ، وبهذا الاعتبار كان مكلفا بالندم ، مع أنه انفعال لا فعل . ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية قول الشاعر وهو الحسين بن مطير : فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها ونقل عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر : تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب ، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به ، مع بقاء فساد ذلك الذنب ، أي : أثره السيئ هل تكون توبته صحيحة ، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه ، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت ، أو لا تكون توبته صحيحة ; لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق . ومن أمثلة هذا من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بث بدعته ، وانتشرت في أقطار الدنيا ، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة ، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا ، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه ، لانتشارها في أقطار الدنيا ; ولأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ففساد بدعته باق . [ ص: 527 ] ومن أمثلته : من غصب أرضا ، ثم سكن في وسطها ، ثم تاب من ذلك الغصب نادما عليه ، ناويا ألا يعود إليه ، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة ، وسلك أقرب طريق للخروج منها ، فهل تكون توبته صحيحة ، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها ; لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الغصب ، لم يتم ما دام موجودا في الأرض المغصوبة ، ولو كان يسير فيها ، ليخرج منها . ومن أمثلته : من رمى مسلما بسهم ، ثم تاب فندم على ذلك ، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمي ، هل تكون توبته صحيحة ; لأنه فعل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة ، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم ، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة ; لأن التوبة واجبة عليه ، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه ، وما لا قدرة له عليه معذور فيه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا . وقال أبو هاشم ، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي : إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام ; لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن ، كالمكث ، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ ، والإقلاع ترك المنهي عنه ، فالخروج عنده قبيح ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو مناف للإقلاع ، فهو منهي عنه ، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضا ، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة ، وهذا بناه على أصله الفاسد ، وهو القبح العقلي ، لكنه أخل بأصل له آخر ، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال : إن خرج عصى ، وإن مكث عصى ، فقد حرم عليه الضدين كليهما ، اهـ ، قاله في " نشر البنود " . وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " مقتصرا على مذهب الجمهور ، بقوله : من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا وإن بقي فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع أو تاب خارجا مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب يقر بعيني أن أنبأ أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج فقوله : " لم تزوج " تفسير لقوله : أنها أيم ، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي : لله در بني علي أيم منهم وناكح ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر : أحب الأيامى إذ بثينة أيم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا والعرب تقول : آم الرجل يئيم ، وآمت المرأة تئيم ، إذا صار الواحد منهما أيما ، وكذلك تقول : تأيم إذا كان أيما . ومثاله في الأول قول الشاعر : لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت ومن الثاني قوله : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم ومن الأول أيضا ، قول يزيد بن الحكم الثقفي : كل امرئ ستئيم منه العرس أو منها يئيم وقول الآخر : [ ص: 529 ] نجوت بقوف نفسك غير أني إخال بأن سييتم أو تئيم يعني : ييتم ابنك وتئيم امرأتك . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية : وأنكحوا الأيامى شامل للذكور والإناث ، وقوله في هذه الآية : منكم أي : من المسلمين ، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله : منكم أن الأيامى من غيركم ، أي : من غير المسلمين ، وهم الكفار ليسوا كذلك . وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرحا به في آيات أخر ; كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، وقوله في أياماهم الإناث : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] ، وقوله فيهما جميعا : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] . وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية ، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلا أن عموم هذه الآيات خصصته آية " المائدة " ، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة ; وذلك في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ 5 \ 5 ] ، فقوله تعالى عاطفا على ما يحل للمسلمين : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية ، والظاهر أنها الحرة العفيفة . فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور ، إلا صورة واحدة ، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية ، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية ، كما رأيت . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين ، والإماء المملوكات ، وظاهر هذا الأمر الوجوب ; لما تقرر في الأصول . [ ص: 530 ] وقد بينا مرارا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته ، وجب على وليها تزويجها إياه ، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم ، من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقا غير صواب لمخالفته لنص القرآن في هذه الآية الكريمة . واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : وإمائكم بينت آية " النساء " أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية ، فآية " النساء " المذكورة مخصصة بعموم آية " النور " هذه بالنسبة إلى الإماء ، وآية " النساء " المذكورة هي قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم [ 4 \ 25 ] ، فدلت آية " النساء " هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة ، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده ، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوج الأمة بإذن أهلها المالكين لها ، ويلزمه دفع مهرها ، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخدان ، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له ، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرا له فمع عدمه أولى بالمنع ، وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة ، إلا بالشروط المذكورة في القرآن ; كقوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا [ 4 \ 25 ] ، وقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم [ 4 \ 25 ] ، أي : الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقا ، إلا إذا تزوجها على حرة . والحاصل أن قوله تعالى في آية " النور " هذه : وإمائكم خصصت عمومه آية " النساء " كما أوضحناه آنفا ، والعلماء يقولون : إن علة منع تزويج الحر الأمة ، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكا ; لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، فيلزمه ألا يتسبب في رق أولاده ما استطاع ، ووجهه ظاهر كما ترى . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |