|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 236، 237]. قوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾. قوله: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: لا حرج عليكم ولا إثم أيها الأزواج. ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وألف بعد الميم في الموضعين «تُـماسوهن» مفاعلة من المماسة. وقرأ الباقون بفتح التاء من غير ألف ﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾، وهما بمعنى واحد. والمراد «بالمس»: الجماع و«ما» في قوله تعالى: ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾: مصدرية ظرفية، أي: مدة عدم مسكم لهن، ويحتمل كونها شرطية، أي: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إن لم تمسوهن، فدخل الشرط الثاني على الشرط الأول، فكان شرطًا فيه، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 86، 87]. ومنه قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن تُذعروا تجدوا ![]() منا معاقلَ عزٍّ زانها كرمُ[1] ![]() والمعنى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء بعد العقد عليهن، وقبل أن تمسوهن، أي: قبل الدخول بهن وجماعهن. وقد أُطلق المس والملامسة والمباشرة في القرآن الكريم على الجماع، كما في هاتين الآيتين، وكما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28]. وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]. وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة: 187]. وقال تعالى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾ [المجادلة: 3]. وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «المس: النكاح»[2]. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «المس: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء»، وفي رواية عنه: «إن المس واللمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء»[3]. وقد حكم الصحابة رضي الله عنهم بأن للخلوة حكمَ المسيس والدخول، فإذا خلا بها فهو بحكم من دخل بها وجامَعها، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وبهذا يجب لها مهر المثل حيث لم يفرض لها مهرٌ. ﴿ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ «أو»: حرف عطف بمعنى الواو، والجملة معطوفة على قوله: ﴿ تَمَسُّوهُنَّ﴾؛ أي: ما لم تمسوهنَّ وتفرضوا لهن فريضة. ومعنى ﴿ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ أو توجبوا وتقدروا لهن مهرًا. ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ الواو: عاطفة، والضمير يعود إلى النساء المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر، والأمر للوجوب، أي: أعطوهن ما يتمتعن به من مال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، جبرًا لخواطرهن، وتعويضًا لهن عما فاتهن، من الزواج والمهر. ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ﴾ الجملة في محل نصب على الحال، أو استئنافية لا محل لها من الإعراب. قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم ﴿ قَدَرُهُ ﴾ بفتح الدال في الموضعين، وقرأ الباقون بإسكانها: «قَدْره». والمعنى: «على الموسع» أي: الغني الموسر في ماله قدر سعته وغناه ويسره، بحيث يزيد في المتعة، كما قال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [الطلاق: 7]. ﴿ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وعلى المقتر الفقير المضيق عليه في ماله قدر استطاعته، فلا يكلف نفسه ما يضره أو ما لا يطيق، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]. عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «متعة الطلاق: أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة»[4]. وليس في المتعة قدر محدد، لكن يستحسن أن تكون مما يجبر خاطر المرأة ويعوِّضها عما فاتها من الزواج والمهر؛ لأن هذا هو المقصود من إيجاب المتعة، وكما يختلف ذلك باختلاف حال الزوج غنىً وفقرًا، فقد يختلف ذلك باختلاف الأوقات، فيرى في وقت أن القليل كاف في المتعة، ويرى في وقت أنه غير كافٍ فيها. وقد روي أن الحسن بن علي متع بعشرة آلاف، فقالت المرأة: «متاع قليل من حبيب مفارق»[5]. ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾ «متاعًا» اسم مصدر، مفعول مطلق، أي: متعوهن تمتيعًا بالمعروف، أو حال: أي: حال كون هذا القدر متاعًا بالمعروف. والمتاع والمتعة: ما يُتمتع ويُتبلغ به من مال وغيره. ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ الباء للمصاحبة، أي: بما هو معروف في الشرع وعرف المسلمين، مما يُمتَّع به أمثالهن من المطلقات، وأن يعطى لهن من غير مماطلة أو أذى. ويُلحظ في هذا أمران: الأول: حرص التشريع الإسلامي على إزالة وتخفيف ما يؤثر على النفوس ويكسر القلوب، فإن في إيجاب المتعة للمطلقات قبل المسيس، وقبل فرض المهر جبرًا لقلوبهن وتعويضًا لهن عما فاتهن من الزواج والمهر. الثاني: مراعاة التشريع أحوال المكلفين؛ حيث جعل المتعة للمطلقات حسب حال الزوج يسرًا وعسرًا. ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ «حقًا» منصوب على المصدرية، أي: حق ذلك حقًا، والحق: الشيء الثابت اللازم؛ أي: حقًّا لازمًا ثابتًا واجبًا على المحسنين الذين يحسنون في عبادة الله بالإخلاص له عز وجل واتباع شرعه، ويحسنون إلى عباده، بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، أي: حقًّا عليهم أن يمتعوا نساءهم بالمعروف. قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. قوله: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾؛ أي: وإن طلقتم النساء من قبل الدخول بهن وجماعهن. ﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ الواو: للحال، أي: والحال أنكم قد فرضتم لهن فريضة، أي: قدرتم وحددتم لهن مهرًا. ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ «ما»: موصولة، أي: فنصف الذي فرضتم، أي: فلهن عليكم، أو فالواجب لهن نصف المهر الذي قدرتموه. فمن طلقت قبل المسيس وقبل فرض المهر، فلها المتعة، ومن طلقت قبل المسيس وبعد فرض المهر، فلها نصف المفروض من المهر، فإن خلا بها وجب لها في الحال الأولى مهر المثل، ووجب لها في الحال الثانية المهر كاملًا؛ لأن الصحابة أعطوا الخلوة حكم الدخول والجماع. ﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾ استثناء من أعم الأحوال، أي: فلهن نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن. والنون في «يعفون» ضمير النسوة في محل رفع فاعل، وتعود إلى المطلقات، أي: إلا أن تعفو المطلقات قبل المسيس عما وجب لهن على أزواجهن من نصف المهر المفروض. ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ وهو الزوج، فهو الذي بيده عقدة النكاح، إذا شاء أبقاها، وإذا شاء حلها بالطلاق، ويبعد أن يحمل على الولي؛ لأن الولي لا يصح أن يعفو عمَّا وجب للمرأة. والمعنى: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج، فيترك للزوجة المهر كاملًا، ولا يطالبها برد نصف المهر. ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا ﴾؛ أي: أيها الأزواج، أو أيها الأزواج والزوجات، وقد يحمل الخطاب على ما هو أعم من ذلك، وهو جميع الأمة. و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والتقدير: وعفوكم أقرب للتقوى، أي: أقرب لتقوى الله عز وجل. وفي هذا ترغيب بالعفو والتسامح، وبخاصة بين الزوجين، فمن عفا عن صاحبه فهو أقرب لتقوى الله عز وجل. ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾؛ أي: ولا تتركوا الفضل والإحسان والتسامح بينكم وتهملوه وتغفلوا عنه. ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: إن الله بالذي تعملونه، أو بعملكم ﴿ بَصِيرٌ ﴾ أي: مطلع عليه كله، وعالم به، لا يخفى عليه شيء منه وسيحاسبكم ويجازيكم عليه. [1] البيت مجهول القائل. انظر: «الأشباه والنظائر» (7/ 112). [2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 286، 287)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 442). [3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 286، 287، 7/ 63- 65)، والبيهقي في سننه (1/ 125)، وأخرجه ابن أبي حاتم مختصرًا في «تفسيره» (3/ 908). [4] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 423). [5] أخرجه عبدالرزاق فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 424).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 236، 237]. 1- إباحة طلاق النساء بعد العقد عليهن، وقبل الدخول، وفرض المهر؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. 2- تكنية القرآن الكريم عن الجماع بالمس؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: ما لم تجامعوهن، وقد أجرى الصحابة رضي الله عنهم الخلوة مجرى المسيس. 3- جواز عقد النكاح بدون تسمية المهر وتقديره؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾؛ أي: وما لم تفرضوا لهن فريضة. لكن إن اشترط عدم المهر فالنكاح باطل[1]؛ لأن المهر شرط لصحة النكاح. قال تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ [النساء: 24]، فجعل عز وجل من شرط الحل المال. وقال تعالى: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]، والأمر للوجوب. وقال صلى الله عليه وسلم: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»[2]. أما في حال عدم تسمية المهر فلها بعد الدخول مهر المثل. 4- وجوب المتعة للمطلقات قبل المسيس، وقبل فرض المهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ وذلك جبرًا لخواطرهن، وتعويضًا لهن عما فاتهن من الزواج والمهر- لكن إن كان الطلاق بعد الخلوة، وقبل فرض المهر، فلها مهر المثل، لأن الصحابة رضي الله عنهم أعطوا الخلوة حكم المسيس، فأوجبوا العدة بمجرد الخلوة، فهكذا يجب بها مهر المثل إذا لم يسم المهر. 5- أن المتعة مطلقة في كل ما يُتمتع ويُتبلغ به، من مال، أو أثاث، أو عقار، أو كسوة، أو خادم، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾. 6- أن المتعة تكون بقدر حال الزوج يسرًا وعسرًا، فإن كان ممن وسع الله عليه في الرزق فعليه أن يُمتِّع بقدر سعته، وإن كان ممن قُدِرَ عليه رزقه فليُمَتِّع بقدر استطاعته؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾. 7- حرص الشرع المطهر على إزالة وتخفيف ما يؤثر على النفوس ويكسر القلوب فقد أوجب المتعة للمطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر تخفيفًا عليهن، وجبرًا لخواطرهن، وتعويضًا لهن عما فاتهن من الزواج والمهر. 8- مراعاة الشرع لأحوال المكلفين وطاقتهم، فلا يكلف الفقير من المتعة مثل ما يكلف الغني، ولا يُكلف أحد فوق طاقته، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]. 9- اعتبار العرف في الشرع؛ لهذا أوجب أن تكون المتعة للمطلقات بالمعروف؛ لقوله تعالى: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾. 10- تأكيد وجوب المتعة للمطلقات قبل المسيس، وقبل فرض المهر؛ لقوله تعالى: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾. 11- التنويه بشأن المحسنين بقوله تعالى: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ لأنهم هم الذين يمتثلون أمر الله عز وجل لإحسانهم في عبادة ﷲ تعالى، وإحسانهم إلى عباده. 12- إباحة الطلاق قبل المسيس، وبعد فرض المهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. 13- الإشارة إلى وجوب المهر، وأن تقديره إلى الأزواج، مع رضاهن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. 14- أن للمطلقات قبل المسيس، وبعد فرض المهر نصف المفروض، ما لم تعف النساء عنه، أو يعفو الأزواج عن حقهم، فيتركوا لهن المهر كاملًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾. لكن إن حصلت الخلوة وجب المهر كاملًا لأن الصحابة رضي الله عنهم أعطوا الخلوة حكم المسيس، فأوجبوا بها العدة، فكذلك يجب بها المهر. وهل تجب المتعة لمن طُلِّقنَ قبل المسيس، مع نصف المهر المفروض، كما قال بعض أهل العلم احتجاجًا بقوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28]. قالوا: فأمر بالمتعة لمن طلقن قبل المسيس مطلقًا، سواء من فرض لهن مهر ومن لم يفرض لهن. لكن ظاهر قوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾. ظاهر هاتين الآيتين أن المتعة لا تجب إلا لمن طلقن قبل المسيس وقبل فرض المهر؛ لأن الله أمر بها لهن، بينما أمر للمطلقات قبل المسيس وبعد فرض المهر بنصف المفروض، وقد عطف هذه الآية على الآية الأولى وقرنها بها فلو كان للمطلقة قبل المسيس المفروض لها المهر متعة واجبة لذكرها، وهذا هو الراجح. والله أعلم. 15- جواز عفو المرأة عما وجب لها من المهر أو بعضه، وجواز تصرفها في مالها، إذا كانت حرة عاقلة رشيدة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ﴾. وجواز عفو الرجل وعدم مطالبته بنصف المهر الذي دفعه، إذا طلق قبل المسيس وبعد فرض المهر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾. 16- ترغيب كل من الزوجين بالعفو عما له من حق على الآخر، وأن ذلك من تقوى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ بل وترغيب الأمة جميعًا بالعفو. 17- فضل تقوى الله- عز وجل- وأنها مطلب عظيم ينبغي أن يُنافس عليه بصالح الأعمال؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾. 18- في قوله تعالى: ﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ إشارة إلى أن الإنسان قد يصل إلى مطلق التقوى، ولا يصل إلى التقوى المطلقة. 19- أن عقدة النكاح بيد الأزواج؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ وهو الزوج، فإذا شاء أبقاها، وإذا شاء حلها بالطلاق. 20- عظم أمر النكاح، وأنه عقد أشبه بالعقدة بين طرفي الحبل؛ لقوله تعالى: ﴿ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾. 21- ينبغي للأزواج وغيرهم عدم ترك الفضل بينهم والإحسان والعفو والتسامح قولًا وفعلًا وخلقًا وبذلًا، وأن لا ينسوا ويتجاهلوا ما سبق بينهم من ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾. 22- إحاطة علم الله- عز وجل- وشهادته واطلاعه على جميع أعمال العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، ومقتضى هذا أن يحصي أعمالهم، ويجازيهم عليها، وفي هذا ترغيبٌ في العمل الصالح، ووعد بالمثوبة عليه، وترهيب من العمل السيئ وتحذير من عقوبته. [1] انظر: «الإنصاف» (8/ 163)، «مجموع الفتاوى» (32/ 132). [2] أخرجه البخاري في الشروط (2721)، ومسلم في النكاح (1418)، وأبو داود في النكاح (2139)، والنسائي في النكاح (3281)، والترمذي في النكاح (1127)، وابن ماجه في النكاح (1954)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ... ﴾ قال الله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 238، 239]. ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة أحكام النكاح والطلاق والرجعة والخلع والرضاع، ونحو ذلك مما يتعلق بحقوق الخلق التي يجب مراعاتها فيما بينهم، ثم أتبع ذلك بالأمر بالمحافظة على الصلاة، وهي من حقوقه عز وجل التي بينه وبين العبد. قوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾. سـبب النـزول: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام»[1]. وفي رواية: «إن كنا نتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾، فأمرنا بالسكوت»[2]. لكن يشكل على هذا أن سورة البقرة كلها نزلت في المدينة، وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا؟ قال: إن في الصلاة شغلًا»[3]. وفي رواية قال عبدالله بن مسعود: «فلما قدمنا - يعني من الحبشة - سلمت عليه فلم يرد عليَّ، فأخذني ما قرب وما بعد، فلما سلم قال: «إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث، ألا تكلموا في الصلاة»[4]. وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أحدث في الصلاة ألا تكلموا إلا بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين»[5]. وعلى هذا فيحتمل أن زيد بن أرقم أراد بقوله: «يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة» الإخبار عن جنس الكلام، واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها[6]. ويحتمل أن المراد بقول ابن مسعود رضي الله عنه «فلما رجعنا من عند النجاشي» رجوعه من الهجرة الثانية إلى الحبشة أي: رجوعه الثاني الذي قدم بعده على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهو يتجهز لغزوة بدر[7]. وقد يكون تحريم الكلام في الصلاة جاء في السنة- كما في حديث ابن مسعود، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة كان بعضهم لم يبلغه التحريم[8]، فنزلت الآية[9]. قوله: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾ الأمر للوجوب، والمحافظة على الصلاة: المواظبة والمداومة عليها، كما قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المعارج: 34]. والصلاة في اللغة: الدعاء، قال تعالى: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. والصلاة في الشرع: التعبد لله عز وجل بأقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم؛ أي: حافظوا على الصلوات الخمس: صلاة الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، بأدائها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها في أوقاتها المحددة لها، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. وقال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]؛ أي: أدُّوها كاملة الشروط والأركان والواجبات والسنن. وقال تعالى في مدح المؤمنين ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92]. وقال تعالى في الوعيد للساهين عنها الذين يؤخرونها عن وقتها: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4، 5]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»[10]. ﴿ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ من عطف الخاص على العام؛ أي: وحافظوا على الصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا»[11]. وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الوسطى صلاة العصر»[12]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا»، أو قال: «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارًا»[13]. فهي الوسطى بين الصلوات وقتًا وفضلًا، فهي من حيث الوقت وسط بين صلاة النهار وصلاة الليل، وهي من حيث الفضل الفضلى بين الصلوات، أي: أفضل الصلوات، ولهذا خصها الله عز وجل بتأكيد المحافظة عليها - بعد الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات؛ لعظم مكانتها فهي أفضل من صلاة الفجر، وهما أفضل الصلوات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة»[14]؛ يعني الفجر والعصر. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»[15]. وقال صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»[16]. وعن بريدة رضي الله عنه قال: بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله»[17]. وعن أبي بَصْرَة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمُخَمَّصِ، فقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم»[18]. وقد روى أبو يونس مولى عائشة رضي الله عنها قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذِنِّي: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليّ: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾، وصلاة العصر ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[19]. وهذا وما روي في معناه محمول على التفسير. ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ القيام هنا يشمل القيام على القدمين في الصلاة وغيرها. والقيام بمعنى الدوام والاستمرار على الشيء. ﴿ لله ﴾؛ أي مخلصين لله ذليلين له. ﴿ قَانِتِينَ ﴾: القنوت يطلق على دوام الطاعة؛ كما في قوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]. أي: وكانت من المطيعين لله عز وجل المستمرين على ذلك، وقال تعالى مخاطبًا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 31]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]. ويطلق القنوت على السكوت والخشوع، أي: وقوموا لله مخلصين في صلاتكم في قيامها وجميع أحوالها، خاشعين له بقلوبكم وجوارحكم، غير متكلمين بما ليس منها، كما قال زيد- رضي الله عنه: «كان أحدنا يكلم صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام». وكما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ أي: خاشع ذليل بين يدي ربه، وقال تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43]. والقنوت والخشوع لب الصلاة، ولهذا جاء في الحديث: «أن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها»[20]. قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾. لما أمر عز وجل بالمحافظة على الصلوات بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها وأكد ذلك - أتبع ذلك ببيان كيفية أدائها حال الخوف والقتال، وأنها تصلَّى كيفما أمكن، وفي ذلك تخفيف على الأمة، وتأكيد لأمر الصلاة أيضًا، حيث لم يعذَر في تركها ولا في تأخيرها عن وقتها في أشد الأحوال حال الخوف والقتال والتحام الصفوف. قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، ﴿ خِفْتُمْ ﴾: فعل الشرط. والخوف: توقُّع حصول مكروه بأمارة معلومة أو مظنونة، كما في حال القتال والمسايفة والتحام الصفوف. وحذف المتعلق في قوله: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ﴾؛ ليعم كل خوف، من عدو، أو سبع، أو فوات ما يتضرر الإنسان بفواته، وغير ذلك. ﴿ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ الفاء: واقعة في جواب الشرط «إن»، أي: فصلوا حال كونكم رجالًا أو ركبانًا، و«رجالًا» جمع: «راجل»، وهو: من يمشي على رجليه، أي: حال كونكم ماشين على أرجلكم. «وركبانًا» جمع: راكب أي: حال كونكم راكبين على الخيل والإبل، أو البغال والحمير، أو السيارات أو الطائرات، أو السفن أو غير ذلك من المراكب. أي: فصلوا على أي حال كنتم رجالًا أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها؛ لأن في إباحة الصلاة ماشيًا أو راكبًا إيذانًا بالصلاة حيث توجه الماشي أو الراكب، ولو كان ذلك إلى غير جهة القبلة. عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها». قال نافع: «لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[21]. وفي رواية عن ابن عمر قال: «فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبًا، أو قائمًا، تومئ إيماءً»[22]. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله: ﴿ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾»[23]. وبنحو من هذا فسر الآية جمع من السلف من الصحابة والتابعين[24]. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة الخوف عند التحام القتال والمسايفة تكون ركعة واحدة؛ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة»[25]. قوله: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾؛ أي: فإذا زال الخوف عنكم واطمأننتم. ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فاذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، بأنواع الذكر كلها، ومن ذلك الصلاة التي هي من أعظم الذكر، وفيها أعظم الذكر، القرآن، والتكبير والتسبيح والتحميد، وغير ذلك، وذلك بإقامتها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. وقال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]. ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ الكاف للتشبيه، وهي في محل نصب صفة لمصدر محذوف، و«ما» مصدرية، أي: كتعليمه إياكم. ويجوز كونها موصولة، أي: كالذي علمكم إياه. والمعنى: فإذا أمنتم فاذكروا الله على الصفة التي علمكم أن تؤدوا الصلاة عليها حال الأمن، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. ويجوز كون «الكاف» للتعليل، أي: اذكروا الله لتعليمه إياكم. ﴿ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: الذي لم تكونوا تعلمونه. [1] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة- تحريم الكلام في الصلاة (539)، وأبو داود في الصلاة- النهي عن الكلام في الصلاة (949)، والترمذي في الصلاة- نسخ الكلام في الصلاة (405)، وأحمد (4/ 368). [2] أخرجها البخاري في الجمعة (1200)، وفي التفسير (4534). [3] أخرجه البخاري في الجمعة (1199)، وفي فضائل الصحابة- هجرة الحبشة (3662)، ومسلم في المساجد – تحريم الكلام في الصلاة (538)، وأبو داود في الصلاة (923)، وأحمد (3/ 409). [4] أخرجه أبو داود في الصلاة (924)، والنسائي في السهو (1221)، وأحمد (3/ 377، 415، 435). [5] أخرجها النسائي في السهو (1220)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 381). [6] انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 435). [7] انظر: «فتح الباري» (3/ 89). [8] كما جاء في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال له حين تكلم في الصلاة: «إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله» أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (537)، وأبو داود في الصلاة (930)، والنسائي في السهو (1218). [9] انظر: «المسند المتصل من أسباب النزول» ص (39). [10] أخرجه البخاري في التوحيد (7534)، ومسلم في الإيمان (85)، والنسائي في المواقيت (610)، والترمذي في الصلاة (173). [11] أخرجه البخاري في الدعوات (6396)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (627)، وأبو داود في الصلاة (409)، والترمذي في التفسير (2984)، وابن ماجه في الصلاة (684). [12] أخرجه الترمذي في الصلاة (182)، (5/ 12، 13) - وقال الترمذي: «حديث حسن». [13] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (628)، والترمذي في الصلاة (181)، وابن ماجه في الصلاة (686). [14] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (574)، ومسلم في الموضع السابق (635)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [15] أخرجه البخاري في الموضع السابق (554)، ومسلم في الموضع السابق (633)، وأبو داود في السنة (4729)، والترمذي في صفة الجنة (2551)، وابن ماجه في المقدمة (177)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [16] أخرجه البخاري في الموضع السابق (552)، ومسلم في الموضع السابق (626)، وأبو داود في الصلاة (414)، والنسائي في الصلاة ((478)، والترمذي في الصلاة (175)، وابن ماجه في الصلاة (685)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. [17] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (553)، والنسائي في الصلاة (474)، وابن ماجه في الصلاة (694). [18] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (830)، والنسائي في المواقيت (521)، وأحمد (6/ 73). [19] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (629)، وأبو داود في الصلاة (410)، والنسائي في الصلاة (472)، والترمذي في التفسير (2982). [20] أخرجه أبو داود في الصلاة (796)، وأحمد (4/ 319)، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. [21] أخرجه البخاري في التفسير (4535)، ومالك في النداء للصلاة (442). [22] أخرجها مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (839). [23] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 450). [24] انظر: «جامع البيان» (4/ 386 – 392)، «تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 450)، «تفسير ابن كثير» (1/ 436). [25] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (687)، وأبو داود في الصلاة (1247)، والنسائي في الصلاة (456)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1068)، وأحمد (1/ 237). وانظر: تفصيل القول في صفة صلاة الخوف الكلام على قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ﴾ [النساء: 101، 102].
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ قوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 238، 239]. 1- وجوب المحافظة على الصلوات الخمس؛ بشروطها وأركانها وواجباتها وسائر أعمالها، فهي ثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين وعمود الإسلام، وأعظم وأهم العبادات البدنية؛ لقوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾. ومن أعظم واجبات الصلاة إقامتها في المساجد مع جماعة المسلمين بالنسبة للرجال لتوافر النصوص من الكتاب والسُّنَّة على وجوب صلاة الجماعة، وخطر تركها وما فيه من الوعيد؛ ولهذا قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «من ترك صلاة الجماعة عليه خطر أن يتمادى به الأمر إلى تركها بالكلية». 2- عظم مكانة الصلاة الوسطى «صلاة العصر»، وفضلها من بين الصلوات الخمس؛ لأن الله خصها بالذكر بعد التعميم، فقال تعالى: ﴿ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾. 3- وجوب القيام لله- عز وجل- والإخلاص له، والمداومة على طاعته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾. 4- وجوب القيام في الصلاة - مع القدرة - وأنه من أعظم أركانها، ووجوب الخشوع فيها لله، وحضور القلب، واستشعار عظمة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾. 5- وجوب السكوت في الصلاة، وتحريم الكلام فيها، إلا بذكر الله تعالى من قراءة القرآن والتكبير والتسبيح والتحميد ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾. 6- جواز الصلاة رجالًا وركبانًا، كيفما أمكن، عند الخوف والقتال والتحام الصفوف والمسايفة، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، فلا يشترط فيها من الخشوع والطمأنينة ما يشترط في حال الأمن. 7- جواز الحركة الكثيرة في الصلاة عند العذر للضرورة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾؛ لأن الراجل: وهو من يمشي على رجليه حركته كثيرة، ومثله الراكب في بعض الحالات. 8- رفع الحرج والمشقة عن الأمة - رحمة بها - حيث أباح عز وجل الصلاة حال الخوف رجالًا وركبانًا، وكيفما أمكن، ومن قواعد الشريعة: أن المشقة تجلب التيسير. 9- وجوب ذكر الله عز وجل وإقامة الصلاة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها حال الأمن كما شرعها الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾. 10- أن الصلاة من ذكر الله؛ لقوله تعالى بعد أن أمر بالمحافظة على الصلوات، وأباح فعلها حال الخوف رجالًا وركبانًا: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾. وهذا يدل على أنها من ذكر الله، بل هي من أعظم ذكر الله- عز وجل- فيها قراءة القرآن والتكبير والتسبيح والتحميد وغير ذلك. 11- امتنان الله عز وجل على العباد بتعليمهم أمور دينهم ودنياهم؛ ليذكروه ويشكروه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾. 12- أن الأصل في الإنسان الجهل حتى يعلمه الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113]، وقال: ﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى: 52]. 13- فضل العلم وأهله، وأن عليهم الإكثار من ذكر الله، مما ليس على غيرهم؛ شكرًا لله تعالى على نعمة العلم، التي فيها سعادة العبد، وطلبًا للمزيد من الهداية والعلم والأجر. فائدتان: الفائدة الأولى: في ذكر أهم الأسباب المعينة على حفظ الصلاة، والخشوع فيها. أولًا:استحضار العبد لعظمة الله- عز وجل- كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]، وقال تعالى: ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. ثانيًا: تذكُّر نعم الله- عز وجل- العظيمة وآلائه الجسيمة، التي لا تعد ولا تحصى؛ خلق ورزق وأنعم علينا بسائر النعم، التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان، كما قال عز وجل: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: مخاطبًا الإنس والجن في واحد وثلاثين آية في سورة الرحمن: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13]. ففي تعظيم الرب عز وجل، وتذكر نعمه أعظم معين على حفظ الصلاة، والعناية بها، والخشوع فيها؛ لأن بها كمال العبودية لله عز وجل العظيم المنعم. والعبودية أشرف حال يوصف بها البشر، ولهذا لما نزل قوله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]، قال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزل قوله تعالى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، قال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم»[1]، وذلك تعظيمًا لله عز وجل في أشرف حال، وأعظم عبادة. ثالثًا: تذكر عظمة الصلاة ومكانتها من الدين، فهي عمود الإسلام وأعظم أركانه بعد الشهادتين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه- عز وجل- فإذا كبّر للإحرام فيها فتح الحجاب بينه وبين ربه، وصار يناجي ربه علانية؛ ولهذا أمر عز وجل بإقامتها في آيات كثيرة من كتابه العزيز، كما قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]. وجعلها الله عز وجل على المؤمنين كتابًا موقوتًا، فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]. وأكد عز وجل وجوبها جماعة، حتى في حال القتال، فقال تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 102، 103]. وبين عدم سقوطها في أي حال حتى في حال الخوف الشديد والمسايفة، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ [البقرة: 239]. وعظَّم الله عز وجل شأنها بإيجاب التطهر لها من الحدث الأصغر والأكبر، فقال تعالى في سورة المائدة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 6]. وجعلها الله من أخص أوصاف المؤمنين، وامتدحهم بالمحافظة عليها في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92]. وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المعارج: 34]. ولهذا دعاء إبراهيم عليه السلام ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه مخاطبًا أُمَّته: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم»[2]. وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»[3]. رابعًا: معرفة الآثار العظيمة، والفوائد الكبيرة والكثيرة المترتبة على حفظ الصلاة، وإقامتها كما شرعها الله عز وجل. فإن الفلاح والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة كل ذلك مرتب على حفظها وإقامتها، فهي عمود الإسلام وأساس النجاحات وقاعدتها؛ لصلاح أمور الدين والدنيا والآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»[4]. فحفظها وإقامتها من أعظم الأسباب للتوفيق لحفظ ما سواها من أمور الدين، وتقوى الله، والهداية لكل خير، كما قال تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 1 - 3]. وقال تعالى: ﴿ الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [لقمان: 1 - 5]. وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 72]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 73]. وحفظها وإقامتها سبب للحفظ من جميع المعاصي والشرور، فهي مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، كما قال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]. وفي حفظها وإقامتها كما شرع الله عز وجل الراحة والطمأنينة والسعادة، وانشراح الصدر؛ ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: «أرحنا يا بلال بالصلاة»[5]؛ وذلك؛ لأنها من أعظم ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، وتنشرح الصدور، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]. وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]. وفي حفظها العون على القيام بما عداها من أمور الدين والدنيا، كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]. وفي حفظها حصول الرزق، كما قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]. وفي المداومة عليها أعظم سياج معنوي وروحي أمام تقلبات الحياة ونوازع النفس، تعطي الإنسان بإذن الله- عز وجل- وتوفيقه التوازن في السرَّاء والضراء، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 19 - 23]. وفي الخشوع فيها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]. وإقامتها من أسباب الأخوة في الدين، وعصمة الأنفس والأموال، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 11]، وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5]. ومن أسباب النصر والتمكين، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]. وفي حفظها وإقامتها التجارة الرابحة مع ﷲ عز وجل والثواب العظيم والزيادة من فضله عز وجل في الآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30]، وقال تعالى: ﴿ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 36 - 38]. وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر[6]. وفي حفظها وإقامتها تكفير السيئات ودخول الجنات، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12]. وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»[7]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كنهر جار غَمْرٍ عند باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا. قال: كذلك الصلوات الخمس يكفِّر الله بهن الخطايا»[8]. توعد الله عز وجل المفرطين فيها، وبين أن عاقبة التاركين لها النار، فقال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4، 5]. وذكر المجرمون فيما حكى الله عنهم أن أول سبب لدخولهم النار ترك الصلاة، قال تعالى: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾ [المدثر: 42، 43]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [القيامة: 31، 32]. الفائدة الثانية: في ذكر أهم الوسائل وأنجحها لحفظ الصلوات: اعلم أخي الكريم أن من أنفع الوسائل وأنجحها لحفظ الصلوات ما يلي: أولًا: التهيؤ للصلاة من أول وقتها، بدءًا من متابعة المؤذن، ثم الوضوء والتشهد، والذكر بعده والتزين للصلاة باللباس والطيب، والسعي إليها بسكينة ووقار، وتقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد والذكر عنده. ثانيًا: التفرغ التام لها من مشاغل الحياة كلها، فهي الزاد الحقيقي المعنوي والروحي للإنسان، قال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]. ثالثًا: المبادرة إليها بعد سماع النداء، والمسارعة والمسابقة إلى ذلك والمنافسة على الصف الأول وميامن الصفوف، والحذر من التأخر، ومزاحمة الناس وتخطي رقابهم. فإن ضعفت عن المبادرة والمنافسة في ذلك، فلا تقام الصلاة إلا وأنت في المسجد. وأخيرًا أخي الحبيب: تذكر الفرق الشاسع، والبون الواسع بين صلاة حفظها صاحبها، وتهيأ، وتفرغ لها، وبادر إليها، واستحضر عظمة الله عز وجل فيها، وعظمة الصلاة وأهميتها، وبين صلاة يؤديها كثير من الناس مجرد عادة من غير تهيؤ، ولا تفرغ لها مع انشغال البال، وتشوش الفكر، بلا هدوء ولا طمأنينة، مع التأخر، وعدم الحضور إليها إلا بعد فوات تكبيرة الإحرام، أو فوات بعض الصلاة أو أكثرها- وكيف يحفظ الصلاة من أقيمت الصلاة وهو خارج المسجد، وأنى له الخشوع فيها، وقد أضاع أسبابه. وتذكر أخي الكريم أن ما يصيب الكثير من الناس من الاضطراب وفقدان التوازن في حياتهم سببه الأعظم عدم حفظ الصلاة، وأن ما أصاب الأمة من الضعف والهوان وتسلط الأعداء وتفرق الكلمة من أعظم أسبابه وأهمها ضعف أمر الصلاة عند كثير من المسلمين. فالصلاة هي القاعدة والأساس لسعادة الفرد، والمجتمع والأمة، ومفتاح التيسير والتوفيق والنجاح والوصول إلى معالي الأمور في الدين والدنيا والآخرة. وأسباب النجاح كلها في الجمع بين العبادة والسعي والعمل وبين التوكل، كما قال عز وجل: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]، وقال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم»[9]. [1] أخرجه أبو داود في الصلاة (869)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (887)، وأحمد (4/ 155)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. [2] أخرجه أبو داود في الأدب (5156)، وابن ماجه في الوصايا (698)، من حديث علي رضي الله عنه. [3] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56)، والنسائي في البيعة (4189)، والترمذي في البر و الصلة (1925). [4] أخرجه الترمذي في الإيمان (2616)، وابن ماجه في الفتن (3973)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [5] أخرجه أبو داود في الأدب (4986)، وأحمد (4/ 371)، (5/ 364)، من حديث محمد بن الحنفية عن صهر لهم من الأنصار . [6] أخرجه النسائي في الصلاة (465)، والترمذي في الصلاة (413)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1425)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] أخرجه مسلم في الطهارة (233)، والترمذي في الصلاة (214)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1086)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه مسلم في المساجد (667، 668)، من حديث أبي هريرة وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما. [9] أخرجه مسلم في الإيمان (38)، والترمذي في الزهد (2410)، وابن ماجه في الفتن (3972)، وأحمد (3/ 413، 4/ 385)، من حديث سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 243 - 245]. قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الهمزة: للاستفهام، و«لم»: حرف نفي وجزم وقلب، والاستفهام إذا دخل على النفي فمعناه التقرير، أي: قد رأيت، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]؛ أي: قد شرحنا لك صدرك. وقال صاحب الدر[1]: «فيمكن أن يكون المخاطب عَلِمَ بهذه القصة قبل نزول هذه الآية، فيكون التقرير ظاهرًا، أي: رأيت حال هؤلاء، ويمكن أنه لم يعلم بها إلا من هذه الآية، فيكون معنى هذا الكلام التنبيه والتعجب من حال هؤلاء. ويجوز أن يكون المراد بالاستفهام التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا ﴾ [المجادلة: 14]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل ﴾ [الفرقان: 45]. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يصلح له، والرؤية هنا علمية، وهي في الأصل تتعدى إلى مفعولين، لكنها هنا ضمنت معنى ما يتعدى بإلى، أي: ألم ينتهي علمك، أو: ألم تنظر إلى الذين خرجوا من ديارهم. ﴿ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ قيل: إنهم من بني إسرائيل، وقيل من غيرهم. ﴿ مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ أي: من بيوتهم وأحيائهم وبلدانهم. ﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾ الجملة حالية، أي: والحال أنهم ألوف، و«ألوف»: جمع ألف، والمعنى: وهم ألوف كثيرة جدًا. ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ ﴿ حَذَرَ﴾ مفعول لأجله، أي: خوفًا وفرارًا من الموت، وذلك أنه نزل وباء في ديارهم فخرجوا منها خوفًا وفرارًا من الموت بهذا الوباء. وقيل: إنه أغار عليهم عدو في ديارهم فخرجوا منها جبنًا وخوفًا من لقائه وفرارًا من القتل. ويقوي هذا القول قوله: ﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾، فهذا يشير إلى أن الأولى أن يقاتلوا ولا يجبنوا وهم بهذه الكثرة الكاثرة، فالكثرة سبب للعزة والمنعة، يقول العرب في الجيش إذا بلغ الألوف «لا يغلب من قلة»[2]، ويقولون: «الكثرة تغلب الشجاعة». قال الشاعر: ولست بالأكثر منهم حصى ![]() وإنما العزة للكاثر[3] ![]() ![]() ![]() ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام مذكرًا لقومه بنعمة الله عليهم بتكثيرهم بعد القلة: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ [الأعراف: 86]. كما يقوي هذا القول قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 244]. وكذا ما بعده مما أخبر الله به عن بني إسرائيل من طلبهم ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله، وأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم. وعلى الاحتمالين فإن فيها ترغيبًا في الجهاد، ولهذا أمر بعد هذه الآية بالقتال في سبيل الله. ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾ الفاء: عاطفة، أي: فقال الله لهم قولًا كونيًا: ﴿ مُوتُوا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]. أي: فأماتهم جميعًا؛ ليريهم أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفر من قدره، كما قال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]. عن أبي الزناد، عن أبيه: أن خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة بكى، وقال: «لقد لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح؛ فها أنا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء»[4]. ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾، أي: فماتوا ثم أحياهم، وهذا من إيجاز الحذف، و«ثم»: عاطفة تقتضي التراخي. أي: ثم أحياهم بفضله بعد مدة؛ ليريهم وجميع الخلق قدرته عز وجل التامة على إحياء الموتى، قيل: كان إحياؤهم بسبب دعوة نبي من الأنبياء. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ «إنَّ»، واللام: للتوكيد، و«ذو» بمعنى صاحب. ﴿ فَضْلٍ ﴾ الفضل: التفضل والزيادة ﴿ عَلَى النَّاسِ ﴾ جميعهم، مؤمنهم وكافرهم، خلقهم سبحانه، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وبيَّن لهم الآيات، وأعدهم وأمدهم من فضله، كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. ومن فضله عز وجل على هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بأن أماتهم ثم أحياهم؛ ليعتبروا، كما أن في ذلك فضلًا على غيرهم من الناس؛ لأن في ذلك عبرة لهم. ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ أظهر في مقام الإضمار فلم يقل: «ولكن أكثرهم لا يشكرون» زيادةً في التشنيع عليهم؛ أي: لا يشكرون الله تعالى على ما تفضل به عليهم من النعم، والتي من أعظمها نعمة الخلق من العدم والإحياء بعد الموت، وبعث الرسل وإنزال الكتب، والرزق وغير ذلك. قال ابن كثير[5]: «﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾، أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم». وشكر الله عز وجل يكون باستعمال نعمه في طاعته والبعد عن معصيته. وإذا كان أكثر الناس لا يشكرون، كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، فلا ينبغي الاغترار بما عليه الأكثرون، بل يجب الحذر منهم ومجانبة طريقهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]. وفي الحديث: أن الله عز وجل يقول لآدم: «أخرج بعث النار من ذريتك من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين»[6]. ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله[7]: «لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين». فالعبرة بالكيف لا بالكم، وكما قيل: والناس ألف منهم كواحد ![]() وواحد كالألف إن أمر عنى[8] ![]() ![]() ![]() قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. ذكر الله عز وجل في الآية السابقة حال الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، إما بسبب وباء حل بأرضهم أو عدو أغار عليهم، فأماتهم الله ثم أحياهم، ثم أتبع ذلك بالأمر بالقتال في سبيل الله في إشارة واضحة إلى أنه كما أن الحذر لا ينجي من الموت، فكذلك القتال في سبيل الله لا يقرب من الموت. قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله ﴾ الواو: عاطفة، والمقاتلة: المفاعلة من جانبين، أي: وقاتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]. ﴿ فِي سَبِيلِ الله ﴾؛ أي: في طريق إعلاء كلمة الله ودينه، بأن يكون القتال خالصًا لوجه الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[9]. وأن يكون القتال وفق شرع الله تعالى بأن يقوم به المسلمون بإذن من ولي الأمر؛ عندما توجد أسبابه الشرعية، وتتوفر وسائله وأدواته من إعداد العدة والقوة ونحو ذلك. وأن يكون القتال لمن يقاتل المسلمين، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]. ومن غير غلول ولا غدر، ولا قتل لمن لم يقاتل من النساء والصبيان والرهبان، ونحو ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر الله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا» الحديث[10]. ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، أي: واعلموا أن الله ذو سمع واسع يسمع جميع الأقوال والأصوات، وذو علم واسع يسع كل شيء، فهو عز وجل سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم وما تنطوي عليه قلوبكم من الإخلاص وضده. وفي هذا ترغيب بامتثال أمر الله تعالى ووعد لمن قاتل في سبيل الله، بعون الله تعالى له، وإثابته، وتحذير ووعيد لمن خالف أمر الله عز وجل. قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. أمر الله عز وجل في الآية السابقة بالقتال في سبيله، ثم رغب عز وجل في هذه الآية بالإقراض له، بالإنفاق في سبيله مما يشمل القتال في سبيل الله تعالى وغير ذلك؛ لأن القتال في سبيل الله لا يقوم إلا على المال. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لما نزلت: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم، يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي حائطي، حائطًا فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل»[11]. قوله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ﴾ «من»: اسم استفهام مبني في محل رفع مبتدأ، و«ذا»: اسم إشارة مبني في محل رفع خبر، و«الذي»: اسم موصول مبني في محل رفع بدل من «ذا» أو عطف بيان. ويجوز أن يكون «من ذا» كله اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وخبره الاسم الموصول. والاستفهام للتحضيض والطلب بألطف أنواع الطلب، وهو أبلغ من الطلب بصيغة الأمر. «يقرض» بمعنى: يسلف، والقرض لغة: القطع، وشرعًا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. والمراد به هنا: ما يعطيه الإنسان وينفقه في سبيل الله تعالى ليجازيه الله عز وجل عليه، أي: من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا في الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته. كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18]. ﴿ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ «قرضًا»: على المصدرية، و«حسنًا»: صفة له، أي: جميلًا طيبًا، وهو ما وافق الشرع، وذلك بأن يكون خالصًا لله تعالى، لا رياء فيه ولا سمعة، ونحو ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 8، 9]. وقال عز وجل في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[12]. وأن يكون من مال حلال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا»(1). وأن يكون بنفس طيبة، وبلا مَنٍّ ولا أذى، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 262، 263]. وأن يكون القرض والإنفاق في محله في مساعدة المحتاجين، وفي مصالح المسلمين، لا في محرم كالفجور وشرب الخمور ونحو ذلك. وسمى الله عز وجل الصدقة والإنفاق في سبيله قرضًا- مع أن المال ماله تعالى، والملك ملكه، والخلق عبيده- حثًّا عليه وترغيبًا فيه. ولأنه عز وجل تكفل بوفائه بالإثابة عليه ومضاعفة أجره، تفضلًا منه وكرمًا، وفي الحديث: «من يقرض غير عديم ولا ظلوم»[13]. وقد حمل بعض المفسرين القرض في الآية على ما يشمل الإنفاق وجميع الأعمال الصالحة. ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ قرأ عاصم ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ بإثبات الألف مع نصب الفعل بأن مضمرة بعد فاء السببية، أو على أنه جواب الاستفهام. وكذا قرأ ابن عامر ويعقوب بالنصب، لكن مع حذف الألف والتشديد: (فيُضعِّفَه). وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بإثبات الألف مع رفع الفعل: «فيُضاعفُهُ» عطفًا على «يقرض»، وكذا قرأ ابن كثير بالرفع لكن مع حذف الألف وتشديد العين: «فيُضَعِّفُهُ». والمضاعفة: جعل الشيء ضعفين أو أكثر. ﴿ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ «أضعافًا»: حال، أو مصدر، و«كثيرة»: صفة له، أي: أضعافًا كثيرة لا حد لها، من الخُلْف في الدنيا والثواب في الآخرة. كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]. وفي الحديث: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»[14]. ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ حضّ عز وجل ورغب في الإنفاق، ثم أخبر أن بيده القبض والبسط لئلا يُزهد في الإنفاق مخافة الفقر. قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص «ويبسط»، وقرأ الباقون بالصاد ﴿ وَيَبْسُطُ ﴾. وبين «يقبض» و«يبسط» طباق إيجاب، فهما ضدان. و«القبض»: التضييق والإمساك في الرزق وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾ [الطلاق: 7]؛ أي: ومن ضيق عليه رزقه، وقال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]. و«البسط»: التوسيع، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ [الرعد: 26]؛ أي: يوسع الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاء؛ لحكم يعلمها، وقال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [الطلاق: 7]. فبيده عز وجل القبض والتضييق، والبسط والتوسيع في الرزق والعلم والعمر والملك والأهل والولد، وفي الأجر والثواب وغير ذلك من أمور الدنيا والآخرة. فلا ينبغي أن يحول دون الإنفاق الخوف من الفقر؛ لأن القبض والبسط بيد الله تعالى. ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي: وإليه وحده تردون فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم. كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26]. وقدم المتعلق ﴿ وَإِلَيْهِ ﴾ لإفادة الحصر، مع مراعاة فواصل الآيات. [1] «الدر المصون» (1/ 592). [2] انظر: «التحرير والتنوير» (2/ 478). [3] البيت للأعشى. انظر: «ديوانه» (ص193). [4] أخرجه في تاريخ دمشق» (16/ 272)، وفي« المجالسة وجواهر العلم» (3/ 194). وانظر: «الاستيعاب» (2/ 430)، «أسد لغابة» (2/ 140). [5] في تفسيره (1/ 440). [6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3348)، ومسلم في الإيمان (222)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [7] ذكره صاحب كتاب «الشيخ محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه» (ص237)، وانظر: «مدارج السالكين» (1/ 46). [8] البيت لابن دريد. انظر: «شرح مقصورة ابن دريد» للتبريزي (ص74)، «جواهر الأدب» (2/ 401). [9] أخرجه البخاري في العلم (123)، ومسلم في الإمارة (1904)، وأبو داود في الجهاد (2517)، والنسائي في الجهاد (3136)، والترمذي في فضائل الجهاد (1646)، وابن ماجه في الجهاد (2783)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه. [10] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2613)، والترمذي في الديات (1408)، وابن ماجه في الجهاد (2858) من حديث بريدة رضي الله عنه. [11] أخرجه الطبري في جامع البيان (4/ 430)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 460)، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 441 – 442) وقال: «وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه». [12] سبق تخريجه. [13] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. [14] سبق تخريجه.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾. 1- أن الحذر لا ينجي من القدر ولا يؤخر الأجل، ولا مفر من قدر الله؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾. وكما قال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 16]. 2- قد يؤتى الحذر من مأمنه، ويلقى الجبان حتفه في مظنة نجاته. 3- لا يجوز الخروج من الديار حذرًا من الموت بسبب وباء وقع فيها أو نحو ذلك؛ لأن الله ذكر هؤلاء على وجه الذم لفعلهم، وقدر الله واقع لا محالة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الطاعون: «إن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه»[1]. 4- أن من طبيعة البشر كراهية الموت والفرار منه، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ [الجمعة: 8]. وكما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقائه»، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله كلنا يكره الموت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس ذاك يا عائشة»[2]، ولم ينكر عليها. لكن كلما كان الإنسان أكثر للموت استعدادًا بالعمل الصالح كلما كان الموت عليه أهون. 5- قدرة الله عز وجل التامة على الإماتة والإحياء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾؛ أي: فماتوا ثم أحياهم، وكما قال تعالى: ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 56]. 6- إثبات القول والكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾. 7- إثبات المعاد والبعث يوم القيامة؛ لأن الذي أمات هؤلاء ثم أحياهم في الدنيا قادر على بعثهم وإحيائهم يوم القيامة. 8- فضل الله عز وجل على الناس جميعًا المؤمن منهم والكافر، خلقهم ورزقهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وبيَّن لهم الآيات؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾. 9- ثناء الله عز وجل وامتداحه لنفسه بأنه ذو فضل على الناس؛ لأنه أهل الثناء والحمد والمدح حقًا، كما في الحديث: «أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد»[3]. ولهذا في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك مدح نفسه»[4]. 10- قلة الشاكر من الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾. 11- وجوب شكر الله تعالى على فضله ونعمه، باستعمال نعمه في طاعته والحذر من معصيته؛ لأن الله ذكر فضله على الناس، وذم الذين لا يشكرون، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾. 12- في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ دلالة على أنهم لا يشكرون مطلقًا، فلا هم يشكرون الله المتفضل الأول والمنعم الحقيقي عليهم، ولا هم يشكرون من أحسن إليهم من بني جنسهم، وفي الحديث: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»[5]. 13- وجوب القتال في سبيل الله، وهو في الأصل فرض كفاية، ويتعين في بعض الأحوال، كما إذا حضر صف القتال، أو استنفر الإمام المسلمين، أو إذا حاصر العدو البلد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾. 14- يجب أن يكون القتال في الإسلام خالصًا لوجه الله وابتغاء مرضاته وإقامة دينه؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: لتكون كلمة الله هي العليا، ومن ذلك حرية الدعوة إلى الله تعالى والدفاع عن حرمات المسلمين ومقدساتهم وبلدانهم ومصالحهم ونحو ذلك. 15- يجب أن يكون القتال في الإسلام وفق شرع الله تعالى بأن يكون بإذن ولي أمر المسلمين وللذين يقاتلون المسلمين، مع الحذر من الغدر والغلول والقتل لمن لم يقاتل من الرهبان والنساء والصبيان وغيرهم، ومعاملة الأسرى كما أمر الله تعالى وغير ذلك. 16- أن ما كان من القتال لغير الله تعالى كالقتال لحمية وعصبية ورياء، وكذا ما كان مخالفًا للشرع مما فيه اعتداء وغلول وغدر وقتل لمن لم يقاتل ونحو ذلك فليس في سبيل الله. 17- التحذير من مخالفة أمر الله، وترك القتال في سبيله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. 18- إثبات صفة السمع الواسع لله عز وجل، والعلم الواسع له سبحانه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. 19- الوعد لمن أطاع الله تعالى والوعيد لمن خالف أمره؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، فمقتضى سمعه وعلمه الواسعين أن يحصي على العباد أقوالهم وأعمالهم ويحاسبهم ويجازيهم عليها خيرها وشرها. 20- الحث والترغيب بالإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾، وذلك من وجوه عدة؛ منها أن «من ذا» اسم استفهام يفيد الحث والإغراء بالإنفاق، ومنها أن الله عز وجل جعله قرضًا له سبحانه، ومنها أنه سبحانه وعد بمضاعفته له أضعافًا كثيرة. 21- تكفل الله عز وجل وضمانه أجر المنفق في سبيل الله، ولهذا سماه قرضًا، وهذا من عنايته عز وجل بالمنفق والمنفق عليه والمنفق فيه. 22- بلاغة القرآن الكريم فيما يدعو إليه من الخصال والأعمال، فإن في توجيه الخطاب بهذا الأسلوب الاستفهامي «من ذا» مع تسمية ذلك قرضًا مع ما رتب عليه من المضاعفة الكثيرة ما يجعل المؤمن القادر الموفق لا يتردد في الإنفاق في سبيل الله تعالى رجاء ما عند الله. 23- أن من شرط قبول القرض والإنفاق في سبيل الله أن يكون حسنًا، أي: خالصًا لوجه الله تعالى ومن مال حلال، وبطيب نفس من المنفق بلا مَنٍّ ولا أذى، وأن يكون في محله، في ذوي الحاجة ومصالح المسلمين؛ لقوله تعالى: ﴿ قَرْضًا حَسَنًا ﴾. 24- فضل الله العظيم وجوده الواسع ومضاعفته للمنفق في سبيله الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة أضعافًا كثيرة لا حد لها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾. 25- أن لله عز وجل كمال الأمر والتدبير في هذا الكون والقبض والبسط في الرزق وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾. 26- في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ بعد الحض على الإنفاق إشارة واضحة إلى أنه لا ينبغي ترك الإنفاق مخافة الفقر، وأن الإنفاق ليس سببًا للفقر، كما أن التقتير ليس سببًا للغنى، بل الإنفاق سبب للزيادة والبركة، والتقتير سبب للتلف ومحق البركة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»[7]. 27- إثبات البعث، وأن مرد الخلائق كلهم إلى الله تعالى، إليه إيابهم وعليه حسابهم وجزاؤهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وفي هذا وعد لمن أطاع الله، ووعيد لمن خالف أمرَ الله تعالى وعصاه. [1] أخرجه أحمد (3/ 193، 194)، من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وأخرجه بنحوه البخاري في كتاب الأنبياء (3473)، ومسلم في السلام والطاعون والطيرة والكهانة (2218)، والترمذي في الجنائز (1065) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. [2] أخرجه مسلم في الذكر (2685)، ومالك في الجنائز (569)، وأحمد (2/346، 418)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] أخرجه مسلم في الصلاة (477)، وأبو داود في الصلاة (847)، والنسائي في التطبيق (1068)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (877) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [4] أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة الأعراف، قوله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾ [الأعراف: 33] (4634)، ومسلم في التوبة، غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760)، والترمذي في الدعوات (3530). [5] أخرجه أبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في «البر والصلة» (1954)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن صحيح». [6] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2588)، والترمذي في البر والصلة (2029)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... ﴾ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252]. قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: الاستفهام للتقرير والتعجيب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 243]، والكلام فيه كما سبق. ﴿ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «الملأ»: الأشراف والوجهاء والرؤساء. ﴿ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ أي: من بعد وفاة نبي الله موسى- عليه الصلاة والسلام- كليم الرحمن، وأفضل أنبياء بني إسرائيل. ﴿ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ﴾ «إذ»: ظرف بمعنى «حين» أي: حين قالوا، وتنكير «نبي» للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي، وإنما المقصود هو حال القوم، وهذا النبي قيل: إنه «صمويل» وهو بالعربية «شمويل»، وقيل: هو«شمعون»، وقيل غير ذلك. ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ أي: أقم لنا واجعل لنا ملكًا، و«الملك»: من يقوم بتدبير وتصريف أمور المملكة. وإقامة الملك أو الأمير الذي يدبر شؤون الناس أمر ضروري. كما قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم= ولا سراة إذا جهالهم سادوا[1] وقد قيل: «ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام»[2]. ﴿ نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «نقاتل»: جواب الأمر «ابعث»، أي: نقاتل معه، وتحت إمرته في سبيل الله. قيل: وذلك حين ظهرت العمالقة من قوم جالوت على كثير من أرضهم. ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ الاستفهام للتقرير والتحذير. قرأ نافع: «عسِيتم» بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَسَيْتُمْ ﴾، أي: قال لهم نبيهم: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾. و«عسى» هنا للتوقع، أي: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال، أي: إن فرض عليكم القتال أن لا تقاتلوا. أي: أن هذا هو المتوقع منكم، وهذا تحريض لهم على القتال وتحذير لهم من الجبن. وجملة ﴿ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ معترضة بين اسم «عسى» وهو ضمير التاء، وخبرها وهو قوله: ﴿ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾. وبُني الفعل «كتب» في الموضوعين لما لم يسم فاعله؛ لأن الذي كتب ذلك وفرضه معلوم وهو الله سبحانه وتعالى. ﴿ قَالُوا ﴾ أي: قالوا إجابة على الاستفهام السابق: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، الواو: رابطة لهذا الكلام بما قبله لتأكيد رغبتهم في القتال في سبيل الله. معناه هنا: الإنكار والتعجب، والمصدر المؤوّل ﴿ أَلَّا نُقَاتِلَ ﴾ في محل جر بحرف جرف محذوف تقديره «في»، أي: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟! أي: أيّ شيء لنا يمنعنا من القتال؟! ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾ الجملة حالية فيها تعليل لوجه الإنكار، أي: والحال أننا قد أخرجنا من ديارنا. ﴿ وَأَبْنَائِنَا ﴾ أي: وأخرجنا من بين أبنائنا. والمعنى: وأي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله، وقد وُجِدَ ما يقتضي ذلك، وهو إخراجنا من ديارنا وأبنائنا. ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾ أيّ: فلما فرض وأوجب عليهم القتال ﴿ تَوَلَّوْا ﴾ أي: تولوا بأبدانهم وأدبروا عن القتال، وأعرضوا بقلوبهم عما أمرهم الله به، فصدق فيهم ما توقعه نبيهم أنهم لن يقاتلوا. ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، والتقدير: تولوا إلا عددًا قليلًا منهم، و«القليل» يطلق على الثلث وَمَا دونه، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «الثلث والثلث كثير»[3]. ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي: والله ذو علم واسع بالظالمين المعرضين عما أمر الله به والمرتكبين لما نهى الله عنه، وهو سبحانه عليم بالظالمين وغيرهم وبكل شيء، وإنما خص علمه هنا بالظالمين وعيدًا للظالمين وتحذيرًا من الظلم. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان، وهو النقص، قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33]. واعتبر التولي عن القتال في سبيل الله ظلمًا؛ لأنه ترك لما أمر الله به ومعصية له بدل الامتثال لأمره وطاعته. والظلم ينقسم إلى قسمين: الأول: ظلم النفس بترك ما أمر الله تعالى به وارتكاب ما نهى الله عنه، وأظلم الظلم الشرك، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. والقسم الثاني: ظلم الغير، بالتعدي على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحو ذلك، وهو داخل في ظلم النفس؛ لأن ضرره يعود عليها. قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. قوله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ أي: وقال لهؤلاء الملأ من بني إسرائيل نبيهم إجابة على طلبهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾، أي: جعل لكم طالوت ملكًا. و«طالوت»: اسم للملك الذي بعثه الله تعالى عليهم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. و﴿ مَلِكًا ﴾: حال من «طالوت»؛ أي: حال كونه ملكًا لكم، والملك من له التصرف والتدبير في مملكته، حسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية. قيل: ولم يكن طالوت من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط «يهوذا»، و«طالوت» من سبط «بنيامين» وهم لا ملك فيهم ولا نبوة. ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ «أنى» بمعنى كيف، وهو استفهام فيه معنى التعجب، أي: كيف يكون له الملك علينا؟! وفي قولهم: ﴿ عَلَيْنَا ﴾ إيماء منهم إلى أنه بعث للسيطرة عليهم، بينما قال في أول الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ باللام الدالة على أنه بعث لمصلحتهم. ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ هذا تعزيز وتعليل لاستفهامهم السابق وتعجبهم، أي: والحال أننا أحق بالملك منه؛ لأن الملك كان في آبائنا فنحن أولى بالملك منه وراثة وحسبًا ونسبًا ومكانة في المجتمع، وهذا كما قال إبليس: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76]. ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾: حال معطوفة على الحال السابقة، أي: والحال أنه لم يعط سعة من المال، أي: أنه فقير، لا مال له يقوم بالملك. فمع أنهم يرون أنهم أحق بالملك منه، لكن لو أعطي سعة من المال لهان الأمر عليهم في كونه ملكًا عليهم تنازلًا منهم عن أحقيتهم بالملك لأجل المال. لأن المال عصب الحياة، وبه يستطيع تدبير وتصريف شؤون الملك وإعداد الجيوش للقتال وغير ذلك، إضافة إلى أنه يغطي العيوب، كما قيل: يغطى بالسماحة كل عيب ![]() وكم عيب يغطيه السخاء[4] ![]() والفقر ليس بعيب، فقد تولي الخلافة على المسلمين أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، وكانوا من أفقر الناس، وأقلهم مالًا، وما ضرهم ذلك، وماذا عساه أن يفي مال «طالوت» لو كان غنيًا بحاجيات المملكة. ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: قال لهم نبيهم ردًا على قولهم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أي: اختاره من بينكم، واختيار الله تعالى خير لكم من اختياركم لأنفسكم. ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً ﴾ هذا رد على قولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، أي: وزاده سعة ووفرة ﴿ فِي الْعِلْمِ ﴾ أي: علم سياسة الأمة، وحسن الرأي والتدبير الذي به يستطيع إدارة الملك والحرب وغير ذلك. ﴿ وَالْجِسْمِ ﴾ أي: وزاده سعة في الجسم، في الضخامة والقوة والشجاعة، والطول. قيل: ولهذا سمي بـ«طالوت» على وزن اسم المصدر، مشتق من الطول، فمنعه من الصرف للعملية وشبه العجمة، فاجتمع فيه القوة المعنوية بسعة العلم بالسياسة وحسن التدبير، مع القوة الحسية بسعة الجسم والقوة والشجاعة التي يستطيع بها مكافحة الأعداء ومكابدة الحروب؛ لأن سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن. وقدم زيادة البسطة في العلم من العلم بالسياسة والرأي؛ لأن الرأي أهم وأعظم وهو أول، كما قال أبو الطيب[5]: الرأي قبل شجاعة الشجعان ![]() هو أول وهي المحل الثاني ![]() ![]() ![]() ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: والله يعطي الملك من يريد من العباد حسب ما تقتضيه حكمته، ولو من غير إرث ولا مال، وأضاف عز وجل الملك إليه؛ لأن ملك الكون كله له سبحانه. كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]. ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي: ذو سعة في جميع صفاته، و«الواسع» من أسماء الله عز وجل. ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي: ذو علم واسع بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الأنعام: 80]. فهو عليم بمن يستحق الملك من ذوي النسب والغنى وغيرهما ممن لا يستحقه، وغير ذلك، ومن سعة علمه وفضله عز وجل أن يعطي الملك من يشاء حسب ما تقتضيه حكمته. قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. كأنهم لما قال لهم نبيهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ الآية، قالوا له: ائت بآية، فقال لهم: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ الآية. والآية: العلامة، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197]، والضمير في قوله: ﴿ مُلْكِهِ ﴾ يعود إلى طالوت، الذي بعثه الله تعالى ملكًا عليهم. أي: إن علامة أنه ملك من الله تعالى لكم ﴿ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الآية. ﴿ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ «أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع خبر «إنَّ»، والتقدير: إن آية ملكه إتيان التابوت إليكم. و«التابوت» في الأصل الصندوق من خشب أو غيره ويحفظ فيه المتاع. والتابوت المذكور في الآية قيل: هو شيء على هيئة الصندوق مصنوع من الخشب أو غيره، وفي تعريفه إشارة إلى أنه كان معهودًا عندهم لكنه سلب منهم. ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونه فيه سكينة من ربكم، أي: فيه، وفي مجيئه إليكم ﴿ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يُسَكِّن- سبحانه- به نفوسكم، ويُطمئن به قلوبكم، وآية من آيات الله تعالى ورحمة لكم. ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ من العلم والحكمة والتوراة. يتبع
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كون هذا التابوت تحمله الملائكة، وفي هذا إشارة إلى أن هذا التابوت كبير. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ﴾ «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ فِي ذَلِكَ ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف في محل رفع خبر «إنَّ» مقدم، و«آية» اسمها منصوب مؤخر، واللام في قوله: ﴿ لَآيَةً ﴾ للتوكيد. والإشارة في «ذلك» لإتيان التابوت إليهم فيه سكينة من ربهم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة. أي: إن في ذلك لعلامة لكم على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أخبرتكم به من بعث الله عز وجل «طالوت» ملكًا لكم، وعلى قدرة الله تعالى وعظمته. ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي: كنتم من ذوي الإيمان الذين يصدقون بالآيات وينتفعون بها، كما قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وحينئذٍ سلَّموا وانقادوا له. قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. قوله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾ أي: خرج بهم وانفصل عن البلد، قيل: عن بيت المقدس. و«الجنود» جمع جندي، وهم الرجال المقاتلون، قيل: كانوا ثمانين ألفًا، وقيل غير ذلك. ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾؛ أي: ممتحنكم ومختبركم ﴿ بِنَهَرٍ ﴾ وهو الماء الجاري الكثير؛ ليعلم من يصبر ومن لا يصبر؛ لأن القتال يحتاج إلى صبر وتحمل، وليعلم من يطيع ويمتثل الأمر، ممن لا يطيع، وكانوا أشد ما يكونون من العطش، قيل هذا النهر نهر الأردن، وقيل: نهر بين فلسطين والأردن. ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ﴾ أي: فمن شرب من هذا النهر شربًا كثيرًا. ﴿ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾: جواب الشرط، أي: ليس مني لا قربًا ولا ولاءً ولا طاعة؛ لمخالفته وقلة صبره، أو ليس من جندي. ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ أي: لم يذقه ولم يشرب منه شيئًا. ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾: قربًا وولاءً، لصدقه وصبره وطاعته. ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بفتح الغين «غَرفةً»، وقرأ الباقون بضمها ﴿ غُرْفَةً ﴾. والغَرفة بالفتح: المرة الواحدة من الغرف، وهو أخذ الماء باليد، والغُرفة بالضم: المقدار المعروف. والاستثناء في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ استثناء متصل من قوله: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُفَلَيْسَ مِنِّي ﴾، و«من» في قوله: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ ﴾ موصولة. والمعنى: إلا الذي اغترف غرفة واحدة بيده لا بيديه معًا فشربها يبل بها ريقه، فلا بأس عليه. والجملة الثانية: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، وأصلها التأخير إلا أنها قدمت للعناية؛ لأنها تدل عليها الأولى بطريق المفهوم، فإنه لما قال: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، فُهم منه أن من لم يشرب فإنه منه، فلما كانت مدلولًا عليها بالمفهوم صار الفصل بها كلا فصل. ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ ﴾ أي: أكثرهم، مما يدل على عدم صبرهم، وأنهم ليسوا أهلًا للحرب. ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الاستثناء متصل، أي: إلا عددًا قليلًا منهم لم يشرب. قال بعض المفسرين: من اغترف منه بيده رَويَ، ومن شرب منه لم يرو. ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾؛ أي: لما جاوز طالوت النهر هو والذين آمنوا معه من بني إسرائيل. روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن، بضعة عشر وثلاثمائة»[6]، وقيل: أربعة آلاف. ﴿ قَالُوا ﴾ أي: الذين جاوزوا النهر، أي: قال بعضهم بدليل قوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾. ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ ﴾ أي: لا قدرة لنا ﴿ الْيَوْمَ ﴾ «ال» للعهد الحضوري، أي: اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم. قال ابن كثير[7]: «أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم؛ لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر عند الله تعالى ليس عن كثرة عدد ولا عدة». ﴿ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ أي: بقتال وحرب جالوت وجنوده، وذلك لما رأوا كثرتهم. ويحتمل أن الذين قالوا هذه المقالة الذين نكلوا يبررون به نكولهم، ويحتمل أنهم الذين جاوزوا مع طالوت استقلوا أنفسهم، فشجعهم أصحابهم؛ لقوله: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ تثبيتًا لأنفسهم ولأصحابهم وتقوية لقلوبهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾. ومعنى ﴿ يَظُنُّونَ ﴾ أي: يتيقنون. والظن يطلق كثيرًا في القرآن الكريم على اليقين، كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 46] [8]. ﴿ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾، أنهم سيلقون الله ويقابلونه ويحشرون إليه ويعرضون عليه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]. ﴿ ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ «كم»: خبرية، معناها التكثير، و«فئة» أي: جماعة، والمعنى: كثير من فئات قليلة غلبت فئات كثيرة؛ لأن العبرة بالكيف لا بالكم. ومعنى ﴿ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾؛ أي: تفوقت عليها وانتصرت عليها، كما قال تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]. ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي: بإذن الله وأمره الكوني، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]. ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ معهم معية خاصة بنصره وتأييده وتوفيقه لهم، كما أنه معهم ومع جميع الخلق معية عامة بعلمه وإحاطته، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]. أي ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله تعالى وعن معصيته وعن التسخط والجزع على أقداره المؤلمة. قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. قوله: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا ﴾ أي: ولما ظهر طالوت والذين آمنوا معه. ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ وواجهوهم، و«برزوا» مأخوذ من «البَرَاز» وهي الأرض البارزة المنكشفة المستوية الظاهرة، ومنه سُميت المبارزة. ﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قال طالوت والذين آمنوا معه داعين الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. ﴿ رَبَّنَا ﴾ أي: يا ربنا، ودعوه عز وجل وتوسلوا إليه بوصف الربوبية؛ لأن الرب من له الخلق والملك والتدبير وبيده الأمر كله. ﴿ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾؛ أي: أَفِضْ علينا واملأ قلوبنا صبرًا، ونكر «صبرًا» للتفخيم، أي: صبرًا عظيمًا. وفي التعبير بقولهم: «وأفرغ» إيذان بالكثرة. ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾؛ أي: اجعل أقدامنا ثابتة راسخة بحيث لا تزول فلا نفر ولا نهرب، ولا نتزلزل عند اللقاء بتثبيت قلوبنا. ﴿ وَانْصُرْنَا ﴾ أي: وقونا وأظهرنا ﴿ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ وهم جالوت وجنوده وغيرهم، وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقولوا: وانصرنا عليهم، أو وانصرنا على أعدائنا، بل قالوا: ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ لما فيه من بيان وتعليل سبب دعائهم بالنصر عليهم، وهو كفرهم، لا لحمية أو عصبية ونحو ذلك، أي: وانصرنا عليهم لأجل كفرهم، وعلى هذا فيعم هذا الدعاء طلب النصر على جميع الكافرين. قوله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾. قوله: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ ﴾ أي: فهزم طالوت والمؤمنون معه من بني إسرائيل، وغيرهم، جالوت وجنوده؛ أي: غلبوهم وقهروهم وانتصروا عليهم. ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ الباء للاستعانة، أي: بإذن الله وعونه وتقديره وأمره الكوني. ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ داود عليه الصلاة والسلام كان من جنود طالوت، وكان قويًا شجاعًا، وكان جالوت جبارًا قويًا عنيدًا، فطلب- فيما ذكر- من داود المبارزة، فتبارزا، فقتل داود جالوت فانهزم جنوده. ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ الضمير يعود إلى داود، أي: فأعطى الله داود الملك والسلطان، وآتاه الحكمة، وهي النبوة، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله. وذكر الحكمة بعد الملك؛ لأنها كانت بعده وقوعًا، أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى، فاجتمع له القوة الدينية الشرعية بالنبوة والرسالة، والقوة الدنيوية والتنفيذية بالملك والإمارة، كما قال تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20]. وباجتماع الدين والملك صلاح البلاد والعباد؛ لأن الدين والملك كالتوءمان، وبارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع. ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ أي: وعلم عز وجل داود من الذي يريده سبحانه من العلم الديني والدنيوي الذي اختصه به، ومن ذلك صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]. ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها: «دفاع»، وقرأ الباقون بفتح الدال وإسكان الفاء من غير ألف ﴿ دَفْعُ ﴾. و«لولا»: حرف امتناع لوجود، و«دفع» مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى فاعله لفظ الجلالة (الله)، و«الناس»: مفعول به، و«بعضهم»: بدل منه، «ببعض» متعلق بـ«دفع»، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود. أي: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد لفسدت الأرض، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود وبالمؤمنين. ﴿ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ جواب «لولا»، واللام: واقعة في جواب «لولا»، أي: لفسدت الأرض، و«الفساد»: ضد الصلاح، والمعنى: لفسدت الأرض باستيلاء الكفرة والفجار وظهور الشرك وانتشار المعاصي والشرور، وحصول الجدب والقحط ومحق البركات وقلة الخيرات، وكثرة الآفات وهلاك الحرث والنسل وخراب البلاد، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]. ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ذو» بمعنى صاحب، «الفضل»: الزيادة والعطاء الواسع الكثير. ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ «العالمين» جمع عالم، وهم جميع الخلق، كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. ففضله واسع وجوده عميم، على جميع العالمين، الناطق والبهيم، ومن فضله عز وجل على العالمين دفع الناس بعضهم ببعض بالجهاد ونحو ذلك، فإن في تحكيم الإسلام، وإقامة شرع الله نعمة من الله وفضلًا على الخلق كلهم من المسلمين وغيرهم. قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 108]. قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ (تلك): إشارة إلى ما سبق من الآيات، ويجوز كون الإشارة للقرآن كله. ويقوي هذا كونها بصيغة البعد- مع ما في ذلك من تعظيم الآيات وتنزيلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها. و﴿ آيَاتُ ﴾: جمع آية، والمراد بها الآيات الشرعية وما تضمنته من الأخبار والأحكام والعبر. ﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ أي: نقرؤها عليك بتلاوة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 - 19] وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]. ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48] والباء للملابسة، أي: نتلوها عليك حال كونها متلبسة بالحق فهذه الآيات حق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وطريق وصولها حق، فسندها أصح الأسانيد وأعلاها، نزلت من عند الله بواسطة جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]. وهي مشتملة على الحق فيما جاءت به، أخبارها صدق، وأحكامها عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام. ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«إنَّ» واللام للتوكيد، فالجملة فيها توكيد لرسالته صلى الله عليه وسلم، وتنويه بشأنه، وتثبيت لقلبه، ورد على المنكرين لرسالته وبيان أنه ليس بدعًا من الرسل؛ ولهذا قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ولم يقل: «إنك رسول الله». [1] البيت للأفوه الأودي. انظر: «ديوانه» (ص10). [2] انظر: «السياسة الشرعية» ص *. [3] أخرجه البخاري في الوصايا (2742)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي في الوصايا (3626)، والترمذي في الوصايا (2166)، من حديث سعد رضي الله تعالى عنه. [4] البيت للشافعي. انظر: «ديوانه» (ص 10). [5] انظر: «ديوانه» (4/ 174)، وانظر: «شرح ديوان المتنبي» للواحدي (ص296). [6] أخرجه البخاري في المغازي (3957)، والترمذي في السير (1598)، وابن ماجه في الجهاد (2828). [7] في تفسيره (1/ 447). [8] انظر ما سبق في الكلام على هذه الآية.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى... ﴾ فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252]. 1- الحث على التأمل في أحوال السابقين وقَصصهم وما حصل منهم، وما جرى لهم، وأخذ العظة والعبرة من ذلك، والسعيد من وعظ بغيره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآيات. 2- حاجة المقاتلين في سبيل الله تعالى إلى ملك وأمير وقائد يقودهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله ﴾. 3- أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك لقولهم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ يخاطبون نبيهم، فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكًا يتولى أمورهم ويدبرهم، وهذا يدل على مكانة أهل العلم بالله عز وجل وبشرعه وأهمية الرجوع إليهم في اختيار من يتولى أمور المسلمين من الحكام والأمراء لكي تصلح أحوال الأمة. 4- أن مما يشجِّع الناس على القتال في سبيل الله ما وقع أو يقع عليهم من الظلم والإخراج من ديارهم وأبنائهم، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ﴾. 5- أن مما يشرع له القتال في سبيل الله الدفاع عن الأنفس والديار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، بل إن ذلك واجب؛ لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾، أي: فرض وأوجب عليهم القتال للدفاع عن الدماء والأنفس، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ [النساء: 75]. 6- نكوص كثير من بني إسرائيل وتوليهم عن القتال في سبيل الله، لما فرض القتال عليهم وظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، وفي الإخبار بهذا تعريض ببني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يعدوا أن يكونوا مثل أسلافهم. 7- الحذر من الغرور والاعتداد بالنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، وبالتالي تولوا ولم يقاتلوا كما توقع نبيهم. 8- أن الأولى عدم سؤال الأنبياء عما سكت عنه الشرع؛ لأن ذلك قد يكون سببًا للتكليف به، بإيجاب أو تحريم مما قد يشق التكليف به- والعافية لا يعدلها شيء، وقد سأل الحواريون عيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- المائدة فلما أنزلها الله كفروا بها. ولهذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا رجل سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته»[2]. ولما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» قام الأقرع بن حابس، فقال: أفي كل سنة مرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، الحج مرة فما زاد تطوع»[3]. وفي حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها»[4]. 9- أن البلاء موكل بالمنطق، فهؤلاء قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، فابتلوا ببعث طالوت ملكًا لهم وفرْض القتال عليهم، فتولوا- كما توقع ذلك نبيهم، وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته من هذا المسلك: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»[5]. وقد أحسن القائل: احذر لسانك أن تقول فتبتلى ![]() إن البلاء موكل بالمنطق[6] ![]() ![]() ![]() 10- أن قليلًا من بني إسرائيل قاتلوا ولم يتولوا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾. 11- علم الله عز وجل بالظالمين، وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]. وهو عز وجل عليم بالظالمين وغيرهم، وإنما خصوا بذلك للتحذير من الظلم والوعيد للظالمين؛ لأن مقتضى علمه بهم أن يحصي عليهم أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم بها. 12- تحذير المسلمين من حال هؤلاء الذين تولوا عن القتال بعد أن طلبوه وفرض عليهم، وأن ذلك من الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾. 13- بعث الله لهؤلاء الملأ ملكًا استجابة لطلبهم ذلك من نبيهم وامتحانًا لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾. 14- كمال أدب الأنبياء مع الله عز وجل وتعظيمهم له ولأمره؛ لإسنادهم الفضل والأمر له؛ لقول نبي هؤلاء الملأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ولم يقل: «إني قد بعثت لكم» كما قالوا هم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا ﴾. 15- ظهور العناد والاستكبار في كلام هؤلاء الملأ من بني إسرائيل، فأولًا طلبوا بعث ملك لهم، ثم لما بعثه الله لهم قالوا: ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ تعجبًا منهم واستكبارًا. 16- أن في نظر هؤلاء الملأ أنه إنما يستحق الملك من كان ذا منزلة في حسبه ونسبه؛ كأن يكون ممن كان الملك فيهم ونحو ذلك؛ لقوله: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾. أو كان ذا سعة من المال؛ لقولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، وذلك أن المال به يكثر الأعوان على تدبير شؤون الملك، بل إنه يغطي كثيرًا من النقص والعيوب. 17- أن طالوت جمع من الصفات ما يستحق به أن يكون ملكًا على هؤلاء الملأ؛ أهمها وأعظمها أن الله عز وجل اختاره بعلمه وحكمته وفضَّله عليهم، كما زاده بسطة في العلم والجسم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾. 18- أن الكفاءة في تولي الملك لمن جمع علم السياسة وحسن التدبير، وبين القوة التي ينفذ بها الحق، فمن اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. 19- أن الله عز وجل يعطي الملك من يشاء بحكمته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾. 20- أن ملوك الدنيا وما ملكوا ملك لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرف الملوك والملَّاك بما يملكون إلا وفق ما شرعه الله تعالى؛ لأن كل ما يملكونه هو ملك لله تعالى. 21-إثبات المشيئة لله تعالى وهي تابعة لحكمته، وهي بمعنى الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [البقرة: 253]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. 22- أن الله عز وجل واسع في جميع صفاته وأفعاله، واسع الفضل والرحمة والمغفرة والجود والمن والعطاء والإحاطة وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. 23- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي يسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ علِيمٌ ﴾. 24- تحقيق بعث طالوت ملكًا على هؤلاء الملأ بجعل علامة على ملكه، وهي إتيان التابوت وتأكيد أن في ذلك آية لهم على ذلك، وعلى قدرة الله التامة وحكمته وعظمته؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. 25- حكمة الله عز وجل البالغة وقدرته العظيمة الباهرة فيما جعل في هذا التابوت من سكينة منه سبحانه، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون من العلم والحكمة تحمله الملائكة، تسكن إليه نفوسهم وتطمئن إليه قلوبهم في حربهم وسلمهم، وذلك من آيات الله عز وجل. 26- إثبات وجود الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾، وفي هذا إشارة إلى عظم هذا التابوت. 27- أن الآيات لا ينتفع بها إلا المؤمنون؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، فالإيمان شرط للانتفاع بالآيات، وكلما قوي الإيمان قوي الانتفاع بالآيات. 28- اختبار الجنود قبل القتال لمعرفة مدى صبرهم وتحملهم وطاعتهم لقائدهم، ومعرفة من هو أهل للقتال من غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ الآية، وفي هذا أعظم الابتلاء لهم؛ لأنهم كانوا عطاشًا. 29- أن اختبار القائد لجنوده يكون بعد الانفصال بهم عن البلد وعن مكان الإقامة ليكونوا قد تهيَّئوا واستعدوا وأجمعوا أمرهم وابتعدوا عن مظاهر الحياة والتعلق بها. 30- ينبغي لقائد الجيش أن يختار من الجنود من هم أهل للقتال دون غيرهم، ممن قد يفت في عضد الجيش؛ لقوله: ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾. 31- قلة المطيع من الناس الممتثل لأمر الله عز وجل الصابر عند الابتلاء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]. 32- أن ضعف اليقين سبب للخوف والجبن، والإرجاف؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. أي: قال بعضهم وهم ضعاف الإيمان واليقين، بدليل قوله تعالى بعده: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ الآية. 33- كثرة جيش الكفار وجنود جالوت؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾؛ لأنهم قالوا هذا بعد أن رأوا كثرة جنوده. 34- إثبات المعاد وملاقاة الله ورؤية المؤمنين لربهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله ﴾. 35- أن قوة الإيمان واليقين سبب للشجاعة والثقة بنصر الله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. 36- أن الكثرة قد يكون لها أثرها في العزة والغلبة أحيانًا، كما قال الشاعر: ولست بالأكثر منهم حصى ![]() وإنما العزة للكاثر[7] ![]() ![]() ![]() وكما قيل: «الكثرة تغلب الشجاعة». ولهذا قال هؤلاء لما رأوا كثرة جيش جالوت: ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. لكن العبرة غالبًا بالكيف لا بالكم، ولهذا قال أهل اليقين: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾. ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]. وكذا ما حصل في بدر وغيرها من الغزوات في الإسلام. 37- أن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته، فهؤلاء أظهروا عزمهم على القتال، كما في قولهم لنبيهم: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وقولهم: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، ولكن عند اللقاء تولوا وقالوا: ﴿ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾. لهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد»[8]، ويقول: «وأسألك الرضا بعد القضاء»[9]؛ لأن الرضا بعد وقوع المكروه هو الرضا الحقيقي. 38- إثبات إذن الله عز وجل الكوني؛ لقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ في الموضعين، أي: بإذنه الكوني القدري، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 145]. 39- إثبات معية الله عز وجل الخاصة وأنه عز وجل مع الصابرين معية خاصة بنصره وتوفيقه وتأييده لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. 40- فضل الصبر والترغيب فيه، وعظيم أثره، وعلو مكانة الصابرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، ومشروعية دعاء الله عز وجل عند لقاء العدو وسؤاله التوفيق للصبر وتثبيت الأقدام والنصر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. 41- أن من أفضل دعاء الله عز وجل دعاءه باسم ووصف الربوبية الذي معناه الخلق والملك والتدبير؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا ﴾، وبه كان جل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 42- إثبات خلق الله تعالى الأعمال ومشيئته لها؛ لقول المؤمنين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. لأن بيده عز وجل الخلق والأمر، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال بعد ذلك: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾، أي: بإذنه الكوني الذي لا يتخلف. 43- أن في الجمع بين الاستعداد للقتال بالصبر والتحمل وغير ذلك، مع الثقة بوعد الله والالتجاء إليه، حصول النصر وهزيمة العدو بإذن الله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾. 44- شجاعة داود- عليه الصلاة والسلام، وأنه من جنود طالوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾. 45- فضل الله عز وجل العظيم على داود عليه الصلاة والسلام، حيث جمع الله له بين الملك والنبوة وعلمه مما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. 46- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لديهم من العلم إلا ما علمهم الله تعالى؛ لا من علم الشرع ولا من علم الغيب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. كما قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال عز وجل له: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188]. 47- منة الله تعالى وحكمته بدفع الناس بعضهم ببعض بالجهاد؛ لتصلح الأرض ومن عليها وتسلم من الفساد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾. 48- عظيم فضل الجهاد في سبيل الله؛ لأن به صلاح البلاد والعباد وحفظ الأديان والأبدان والأوطان والأموال. 49- محبة الله عز وجل لصلاح الأرض ومن عليها وكراهته للفساد. 50- من دفع الله عز وجل الناس بعضهم ببعض تظهر حكمة الابتلاء ليتميز الحق من الباطل وأهل الحق من غيرهم، وليعبد الله عز وجل على حق وعلم وبصيرة. 51- فضل الله عز وجل العظيم على جميع الخلق حتى الكفار بتهيئة أسباب صلاح الأرض لهم بدفع بعضهم ببعض، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20]. 52- الإشادة والتنويه بما أنزل عز وجل على رسوله من الآيات الشرعية وما فيها من الحق، وإثبات وتأكيد رسالته؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾. [1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة (1، 2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الاعتصام (7289)، ومسلم في الفضائل (2358)، وأبو داود في السنة (4610)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [3] أخرجه أبو داود في المناسك (1721)، والنسائي في مناسك الحج (2620)، وابن ماجه في المناسك (2886) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [4] أخرجه مرفوعًا ابن المنذر والحاكم – فيما ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 332)، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 297- 298)، وصححه ابن كثير في «تفسيره» (3/ 252)، وقد أخرجه الطبري عند تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، موقوفًا على أبي ثعلبة رضي الله عنه، وقال شاكر في «تخريج الطبري»: «ولم أستطع أن أجده في المستدرك، ولا غيره من كتب الصحاح»، وانظر: «مشكاة المصابيح» (1/ 69) حديث (196). [5] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. [6] البيت ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ انظر: «العقد الفريد» (3/ 16). [7] البيت للأعشى؛ انظر: «ديوانه» (ص193). [8] أخرجه النسائي في السهو (1304)، والترمذي في الدعوات (3407)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. [9] أخرجه النسائي في السهو (1305)، من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. قوله: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾ أشار إلى الرسل بإشارة البعيد «ذلك» تنويهًا بشأنهم وعلو مراتبهم، وأشار إليهم بإشارة المؤنث؛ لأن الرسل جمع تكسير، وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في الإشارة إليه، وفي تأنيث فعله، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ [الحجرات: 14]. ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾؛ أي: جعلنا بعضهم أفضل من بعض؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [الإسراء: 55]. والمعنى: جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي، وفي الأتباع، وفي الدرجات والمراتب عند الله عز وجل، وفي اكتمال الصفات من الحزم والعزم وغير ذلك. فأفضلهم أولو العزم من الرسل، وهم المذكورين في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7]. وأفضل أولو العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»[1]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع»[2]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»، وفي لفظ: «فعنده طهوره ومسجده»، «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»[4]. إلى غير ذلك من الفضائل التي خصه الله تعالى بها. وأفضل أولو العزم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، أبو الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، اتخذه الله عز وجل خليلًا كما قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وأفضلهم بعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - موسى بن عمران كليم الرحمن - عليه الصلاة والسلام - ثم بقية أولو العزم وهما: نوح وعيسى عليهما الصلاة والسلام. ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ الجملة مستأنفة؛ لبيان بعض أوجه التفضيل بينهم، وهي تكليم الله لبعضهم، أي: من الرسل من كلمه الله عز وجل فالعائد محذوف. وممن كلم الله عز وجل من الرسل موسى- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]، وقال تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ﴾ [مريم: 52]. كما كلم الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وفرض عليه الصلوات الخمس؛ ولهذا يقال له صلى الله عليه وسلم: كليم الله. كما كلم عز وجل آدم عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 33]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [الأعراف: 19]. قال ابن كثير[5]: «منهم من كلم الله، يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وكذا آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه». كما كلم عز وجل وخاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. كما كلم عز وجل زكريا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]. كما كلم عز وجل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]. وكلم عز وجل داود عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]. وكلم عز وجل نوحًا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 45، 46]. كما كلم عز وجل الملائكة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]. كما رُويَ أنه عز وجل كلَّم عبدالله الأنصاري والد جابر بن عبد الله كفاحًا، قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه: «ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا» الحديث[6]. كما كلم عز وجل صاحب القرية، قال تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]. وإنما خص موسى عليه السلام باسم «الكليم»؛ لأن الله كلمه بالوحي إليه وإرساله، وقال له: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]. ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾. لكن فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، أي: ورفع بعض الرسل على بعض مراتب ومنازل، ومقامات، فأعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، وهو الشفاعة بين يدي الرب عز وجل لمحاسبة الخلائق بعدما يلجمهم العرق، ويشتد بهم الكرب، وبعدما يعتذر عن الشفاعة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهو مقام الشفاعة، وعسى من الله تعالى واجبة. وفي حديث الشفاعة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أنا لها، فيسجد تحت العرش ويفتح عليه من المحامد، فيقال له: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع»[7]. كما يرجو صلى الله عليه وسلم أن تكون له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلَّوا عليَّ، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل اللهَ لي الوسيلة حلت له الشفاعة»[8]. وفي حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السماء بحسب منازلهم عند الله عز وجل، فإبراهيم في السماء السابعة، وموسى في السماء السادسة، وهارون في الخامسة، وإدريس في الرابعة، ويوسف في السماء الثالثة، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، وآدم في السماء الدنيا»[9]. ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]. وقوله: ﴿ ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ معطوف على ما قبله، أي: وأعطينا عيسى ابن مريم الآيات الظاهرات والحجج الواضحات، والدلائل القاطعات على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام، وعلى أنهن حق من عند الله عز وجل، والمبينات للحق من الباطل والحلال من الحرام. وهي قسمان: آيات بينات شرعية من تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وآيات كونية جعلها الله عز وجل على يديه من تكليمه الناس في المهد، وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى. كما قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]. وقال الله تعالى في سورة المائدة: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 110]. ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾ أي: قويناه، ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ «لو»: شرطية؛ وهي حرف امتناع لامتناع، و«شاء»: فعل الشرط، و«ما»: نافية، وجواب الشرط جملة: ﴿ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، أي: من بعد الرسل. ومفعول «شاء» محذوف دل عليه جواب الشرط، والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اختلفوا؛ أي: ولوا أراد الله ما وقع الاقتتال بين الذين من بعدهم، أي: من بعد الرسل جملة، أو من بعد كل رسول حيث يحصل الاقتتال والاختلاف في كل أمة بعد رسولها. كما حصل في هذه الأمة - وهي أفضل الأمم - الخلاف والاقتتال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما أحدثه أهل البدع من الخوارج والرافضة والقرامطة والباطنية وغيرهم من أهل البدع من شرخ شق صف الأمة الإسلامية بعد وحدتها، وأضعفها أمام أعدائها منذ عهد الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا، فما زالت الأمة تكتوي بناره. حيث كان أهل البدع في جميع الأعصار والأمصار- بما هم عليه من خيانة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين - غصة في حلوق أهل الإسلام، ومركبًا لأعداء الإسلام تمكنوا من خلالهم من محاربة الإسلام؛ والاستيلاء على كثير من بلاد المسلمين وخيراتهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[10]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[11]. ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ أي: من بعد ما جاءتهم على ألسنة الرسل وعلى أيديهم الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والدلائل الواضحات الشرعية والكونية على صدق الرسل وما جاؤوا به من الرسالات، أي: بعد إيضاح الحق لهم. ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، و«لكن» للاستدراك، أي: ولكن اختلفوا فكان هذا الاختلاف سببًا لاقتتالهم. ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾: بيان لكيفية اختلافهم، وأنه اختلاف في الدين، و«من»: في قوله: ﴿ فَمِنْهُمْ﴾ في الموضعين تبعيضية، و«من» في قوله: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾، وقوله: ﴿ مَنْ كَفَرَ ﴾: موصولة، أي: فبعضهم الذي آمن بالله وصدق رسله ورسالاته، وبعضهم الذي كفر وكذب الرسل وجحد الرسالات. أي: فمنهم من آمن برسوله، ومنهم من كفر به، ومنهم من آمن برسالات جميع الأنبياء، ومنهم من كفر به كلها، أو ببعضها، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون ﴾ [البقرة: 113]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ توكيد لقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، أي: ولو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ما»: موصولة، وهذا استدراك على قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾؛ ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته عز وجل الكونية، والتي هي بمعنى المشيئة، كما قال تعالى: ﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]. والمعنى: ولكن الله يفعل الذي يريد، أي: الذي يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]. ومما شاءه عز وجل وأراده كونًا الاقتتال والاختلاف بين الأمم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119]. [1] أخرجه الترمذي في التفسير (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». [2] أخرجه مسلم في الفضائل – فضل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278). [3] أخرجه البخاري في التيمم (335)، وفي الصلاة (438)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521)، والنسائي في الغسل والتيمم (432). [4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5] في «تفسيره» (1/ 448). [6] أخرجه الترمذي في التفسير (3010)، وابن ماجه في المقدمة (190)، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب». [7] أخرجه البخاري في الأنبياء (3340)، ومسلم في الإيمان (194)، والترمذي في صفة القيامة ()2434)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، وأبو داود في الصلاة (523)، والنسائي في الأذان (678)، والترمذي في المناقب (3614). [9] أخرجه البخاري في المناقب (3884)، ومسلم في الإيمان (164) من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما. [10] أخرجه البخاري في العلم (12)، ومسلم في الإيمان (65)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942) من حديث جرير رضي الله عنه. [11] أخرجه البخاري في الإيمان (31)، ومسلم في الفتن (2888)، وأبو داود في الفتن (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4121) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |