صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4588 - عددالزوار : 1296194 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4134 - عددالزوار : 824754 )           »          هل نفقة الأبناء تصبح دينًا على الأب تؤخذ من تركته؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 82 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 253 - عددالزوار : 42742 )           »          انفعالات المراهق- عندما ننظر للمراهق على أنه إنسان.. عندها فقط نعرف ما يريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 1037 )           »          الرجولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 704 )           »          السبيل إلى معرفة التوحيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 118 )           »          حكم حجز الأماكن في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 111 )           »          التأخر في أداء واجب العزاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 103 )           »          النبي القدوة معلما ومربيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 144 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 02-08-2022, 12:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (31)

موقف يزيد بن معاوية مِن قتل الحسين -رضي الله عنه- ومِن أهل الحسين وذريته










كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تٌمثل نقطة تحول في التاريخ، فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفةٍ عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا!

وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين.

وقد ألقينا الضوء على تفاصيل خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن المدينة وحتى مقتله في كربلاء، وموقف يزيد مِن أحداث الكوفة، وموقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه-، وبعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث، ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى، وقال: "كنتُ أرضى مِن طاعتكم -أي أهل العراق- بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوتُ عنه، فرحم الله الحسين" (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وفي رواية أنه قال: "أما والله، لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببتُ أن أدفعه عنه!" (الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجورقاني، بسندٍ كل رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بيْن الشعبي والمدائني)، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها (الطبقات لابن سعد).

ومِن هنا يُعلم: أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكلٍ مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات، وقد مرَّ معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزلٍ منعزل، وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين: "يا يزيد: أبنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا؟! قال: بل حرائر كرام" اٌدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: "يا حبيب، إن أباك قطع رحمي وظلمني، فصنع الله به ما رأيت".

وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحُمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء، فرد علي بن الحسين على يزيد: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، ثم طلب يزيد مِن ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدرِ خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهناك بعض الروايات تفيد بأن أبناء الحسين -رضي الله عنه- وبناته تعرضن للمهانة، وكأنهن في مزادٍ علني! فهذا مِن الكذب البيِّن الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت مِن إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور ليختر ما يشاء (الشيباني، مواقف المعارضة في خلافة يزيد).

وأرسل يزيد إلى كل امرأة مِن الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين (الطبقات لابن سعد).

وبعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السنِّ مِن موالي بني هاشم ومِن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين -رضي الله عنه- وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها (الطبقات لابن سعد).

ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم (سير أعلام النبلاء للذهبي).

وقبْل أن يغادروا، قال يزيد لعلي بن الحسين: "إن أحببتَ أن تقيم عندنا، فنصل رحمك، ونعرف لك حقك فعلت"، ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم يزيد أبناء الحسين وخيّرهم بيْن المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة (تاريخ الرسل والملوك للطبري، ومنهاج السُّنة النبوية لابن تيمية).

وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار مِن علي بن الحسين، وقال: "لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفدٌ مِن موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارسًا، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا، وخرج آل الحسين مِن دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

قال ابن كثير -رحمه الله- في يزيد: "وأكرم آل بيت الحسين، وردَّ عليهم جميع ما فُقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين" (البداية والنهاية).

وهكذا قُتل الحسين -رضي الله عنه-، وقد حَمَّل العلماء مسئولية قتل الحسين لعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وشمر بن ذي الجوشن، وحمَّلوا كذلك أهل الكوفة مسئولية مقتله؛ فهم الذين كاتبوا الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ثم خذلوه!

واختلف العلماء في أمر يزيد: هل يتحمل دم الحسين أم لا؟ فلقد قٌتل الحسين في خلافته، وعلى أرضٍ تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يٌحمّل نفسه مسئولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام(1)، علمًا بأنه لم يأمر بقتله، بل ولم يشر إلى ذلك، ولكن يؤخذ على يزيد أنه ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، بل ولم يعزله أو يعاقبه على قتله للحسين -رضي الله عنه-! (البداية والنهاية لابن كثير، ومنهاج السُّنة لابن تيمية).

وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارِض منذ البداية، والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، فالحسين اعترض على فكرة التوريث دفاعًا عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار مَن تريد، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه -رضي الله عنه- لم يفارِق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك؛ فكيف لا تجب إجابة الحسين -رضي الله عنه-؟!(2).

وأما عن مكان رأس الحسين -رضي الله عنه-: فإن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين -رضي الله عنه- عند عامة الناس، إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين، والتي أقيمتْ في عصور التخلف الفكري والعقدي، وكلها تدعي وجود رأس الحسين -رضي الله عنه-، ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين -رضي الله عنه- جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في ادعاء وجود الرأس عندها!

وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس، فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة "كربلاء"، فلقد ثبت أن رأس الحسين -رضي الله عنه- حُمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: "كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه البخاري).

ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافًا بينًا بشأن رأس الحسين -رضي الله عنه-، فهناك بعض الروايات التي ذكرتْ أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية، وهي روايات ضعيفة، ولم تثبت(3).

ثم كان مما ترتب على مقتل الحسين -رضي الله عنه- التفاف الناس حول ابن الزبير حتى قاد حركة المعارضة في الحجاز، وقيام حركات ثورية في الكوفة وغيرها، مثل حركة التوابين، وحركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلها نادت بالثأر للحسين -رضي الله عنه-؛ فضلًا عن بعض الانحرافات الفكرية التي تولدت عند البعض.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ

(1) وقد سئل ابن الصلاح -رحمه الله- عن يزيد، فقال: "لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين -رضي الله عنه-، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك مِن شأن المؤمنين، وقد ورد في الحديث المحفوظ: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه)" (البخاري مع الفتح 10/ 479).

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "افْتَرَقَ النَّاسُ فِي "يَزِيدَ" بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرفان ووَسٌط، أَحدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا، وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْتِقَامًا مِنْهُ، وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة، وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ، وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَالُوا: تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ.

وَالطَّرَفُ الثَّانِي: يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَإِمَامٌ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ "الصَّحَابَةِ" الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ "الْحُسَيْنِ"، وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا، وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ... وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ" (مجموع الفتاوى بتصرف).

وقال أيضًا في الوصية الكبرى: "وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَقْتَلُ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الحسين، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ، فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ، وحض الشمر بن ذي الجوشن الجيوش عَلَى قَتْلِهِ لعبيد الله بن زياد؛ فَاعْتَدَى عليه عبيد الله بن زياد، وأمر عمر بن سعد بقتاله، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَجِيءَ إلَى يزيد، أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا، أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَمَنَعُوهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عمر بن سعد بِقِتَالِهِ فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ قَتْلُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ قَتْلَ الحسين، وَقَتْلَ عثمان قَبْلَهُ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ" (انتهى).

وقال في منهاج السُّنة: "إِنَّ يَزِيدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَنْصُرُونَهُ وَيَفُونَ لَهُ بِمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا قَتَلُوا مُسْلِمًا وَغَدَرُوا بِهِ وَبَايَعُوا ابْنَ زِيَادٍ، أَرَادَ الرُّجُوعَ فَأَدْرَكَتْهُ السَّرِيَّةُ الظَّالِمَةُ، فَطَلَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَظَهَرَ الْبُكَاءَ فِي دَارِهِ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُ حَرِيمًا أَصْلًا، بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ، ويزيد هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية، وقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) (انتهى بتصرف)"، وبهذا قال جمع مِن أهل العلم، كابن طولون في كتاب "قيد الشريد"، وكذا قال الطيب النجار، ويوسف العش وغيرهما.

(2) قال شيخ الإسلام: "ولهذا لما أراد الحسين -رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين: كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يُقتل حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله مِن قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة وتخطيء أخرى، فتبيَّن أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة مِن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله مِن الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده مِن تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشرٍ عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الصبر على جَوْر الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن مَن خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصِّل بفعله صلاحٌ، بل فسادٌ.

ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، ولم يثنِ على أحدٍ لا بقتالٍ في فتنة، ولا بخروجٍ على الأئمة، ولا نزع يدٍ مِن طاعة، ولا مفارقةٍ للجماعة" إلى أن قال: "وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على أبيه وأخيه بترك القتال، ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بيْن الطائفتين المقتتلتين، وعلي -رضي الله عنه- في آخر الأمر تبيَّن له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.

وكذلك الحسين -رضي الله عنه- لم يُقتل إلا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع؛ إما إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولي على الناس يزيد، وإذا قال القائل: إن عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.

قيل له: وهذا بعينه هو الحِكْمَة التي راعاها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة، وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم مِن مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا" (منهاج السُّنة 4/ 527).

(3) وقد ذهب ابن كثير -رحمه الله- إلى ذهاب الرأس إلى يزيد، فقد قال: "وقد اختلف العلماء في رأس الحسين: هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين، الأظهر منهما أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة، والله أعلم".

وقال ابن كثير في موضع آخر: "والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام" (انظر البداية والنهاية 11/ 580)، والقول بإرسالها إلى الشام هو ما ذهب إليه الذهبي (تاريخ الإسلام).


وقال قال ابن تيمية -رحمه الله- بضعف الراويات التي تقول بإرسال الرأس إلى الشام، وقد اُختلف في المكان المقبور به رأس الحسين -رضي الله عنه-، وهي ما بيْن دمشق والرقة وعسقلان والقاهرة وكربلاء والمدينة، وأقرب الأقوال: أن الرأس بالمدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسنادٍ جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن إذا قتل الرجل منهم -لم يكن منهم- سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما مِن الحروب أعظم بكثير مما كان بيْن الحسين وبين خصومه" (انتهى). وبهذا قال الزبير بن بكار، ومحمد بن سعد وهما مِن المؤرخين، وانظر أيضًا: (أنساب الأشراف للبلاذري، ومواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 29-08-2022, 02:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات من ذاكرة التاريخ (32)

معارضة أهل المدينة في عهد يزيد وموقعة الحرَّة (عام 63 هـ -683م)










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكما هو معلوم فإن المدينة هي عاصمة الإسلام الأولى، ومدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وموطن المهاجرين والأنصار، ولها أهمية كبرى، وفيها تكونت الدولة المسلمة، ومهما تعددت العواصم في العالم الإسلامي تبقى المدينة هي العاصمة الروحية للمسلمين؛ ففيها وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المأوى والأمن، والتأييد والنصرة مِن الأنصار -رضي الله عنهم-.

وبعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، استمرتْ هي العاصمة للخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، وفي المدينة يوجد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما آلت الخلافة إلى معاوية -رضي الله عنه- واتخذ دمشق عاصمة للدولة، ظلت المدينة تحتفظ بقيمتها ومكانتها في قلوب المسلمين، وكان معاوية -رضي الله عنه- يعلم ذلك جيدًا، وكان يوقـِّر ويحترم ويكرم أهل المدينة، وأوصى بذلك ولده يزيد.

إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير -رضي الله عنهما- التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60 هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقًا لإعادة الشورى وتمكينها بيْن الناس، وعندما قتل الحسين -رضي الله عنه- بتلك الصورة الشنيعة ومعه إخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير مِن أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأتْ تمارسه الدولة؛ الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفعه شعار الشورى، ورفضه مبدأ التوريث، في الوقت الذي لم يحاكم يزيدٌ عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشِرين عن الجريمة النكراء التي لحقتْ بالحسين -رضي الله عنه- وأهله في كربلاء، واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد مِن قِبَل ابن عمه يزيد بن معاوية.

ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه بتلك الصورة قد أغضب الناس جميعًا، وولد لديهم شعورًا بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني ص 452).

وعند دراسة معارضة أهل المدينة يلاحظ أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، وقد ظهر في هذه الحادثة الفارق الكبير ما بيْن جيش منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وبيْن أناس تجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها!

ومِن الأسباب التي أدت إلى معارضة أهل المدينة إضافة لمقتل الحسين: أن بعض أبناء الصحابة يرون أنهم أحق مِن يزيد بأمر الخلافة، ثم إن البعض له بعض المآخذ على شخصية يزيد بن معاوية، فهناك مَن اتهمه بشرب الخمر وترك الصلاة وغير ذلك، مع أن هذا لم يثبت على يزيد، ولكنه كلام يتردد بيْن الناس.

معارضة أهل المدينة وخلع يزيد بن معاوية:

أخرج أهل المدينة عامل يزيد، عثمان بن محمد مِن المدينة كما أخرجوا مروان بن الحكم وسائر بني أمية، وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان مِن أهل المدينة مِن خلعه والميل إلى ابن الزبير؛ فأعد جيشًا لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري (تاريخ خليفة بن خياط، ص 237).

وقد اعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا مَن قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي مِن أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل: عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده، وقال: إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ)، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. (رواه البخاري).

فقد عارض ابن عمر -رضي الله عنهما- مَن خرج مِن أهل المدينة لسببين:

الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين -رضي الله عنه-، حيث كان موقفه واضحًا منذ البداية، ولم يعطِ البيعة، وذلك عند ابن عمر -رضي الله عنهما- خيانة وغدر!

ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (رواه مسلم).

الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة: كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر -رحمه الله- بموقف ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق والأحاديث التي استشهد بها، على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع مِن الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق، وتبع ابن عمر في موقفه أيضًا: محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية)؛ فإنه لم يرَ خروج أهل المدينة على يزيد، ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم، بل كان يجادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد.

فقال له ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.

فقال لهم: ما رأيتُ منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسُّنة.

قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك.

فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع، فأطلعكم على ما تذكرون مِن شرب الخمر؟! فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.

قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف:86)، ولستُ مِن أمركم في شيء!" (البداية والنهاية لابن كثير).

قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلتَ مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له مِن أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة؛ لذلك قرر ترك المدينة وتوجَّه إلى مكة (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد سار أهل بيت النبوة على هذا الطريق، ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد، وهو الذي قال فيه الزهري: "كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة"، وقال عنه: "لم أدرك مِن آل البيت أفضل مِن علي بن الحسين" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة، كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم، ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة، ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر مِن غيرهم.

وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه: الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري -رضي الله عنه-، وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام؛ فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج، ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان -رضي الله عنه- لذلك، وقدِم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوَّفهم الفتنة، وقال لهم: "إنه لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله مِن أمرنا؟! فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بيْن الفريقين، قد هربتَ على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلَّفت هؤلاء المساكين يٌقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم؛ فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهذا موقف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: فقد كان بالشام عندما عزم يزيدٌ أن يبعث جيشًا إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن يتدخل في الأمر ليجنِّب أهل المدينة شرَّ القتال، فكلَّم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتل بهم نفسك، وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فإني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقًا ولا يقاتلهم، فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلًا لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك، ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم (الطبقات لابن سعد).

وكان ردهم عليه: "لا يدخلها علينا عنوةً"، وكذلك سعيد بن المسيب -رحمه الله-، فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمرًا مِن أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل، والناس في قتالهم أيام الحرة (الطبقات لابن سعد، وسير أعلام النبلاء)، وهكذا لم يقبل أهل المدينة مِن المعارضين جميع النصائح مِن أهل العلم والفضل، وعقدوا النية على القتال.

معركة الحرَّة:

تولى القيادة على قريش وقبائل المهاجرين في المدينة،عبد الله بن مطيع، وتولى القيادة على الأنصار عبد الله بن حنظلة، واتفق المعارضون على أن يكون القتال داخل المدينة وألا يخرجوا منها، وبدأوا في حفر بعض الخنادق داخل المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 521).

واشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصَرون في دار مروان بن الحكم، فأراد أن يخلصهم مِن هذا الحصار قبْل أن يُقتلوا أو يحل بهم مكروه، وكانوا ألف رجل؛ فعزَّ عليه أن يٌقتل هؤلاء دون أن يقدِّم لهم عونًا، فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة، وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأغزو البيت، ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

واجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة، فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثًا، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرتَ عليهم فأبح المدينة ثلاثًا، ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيرًا، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيءٍ مما دخلوا فيه، وأمر مسلمًا إذا فرغ مِن المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني (البداية والنهاية لابن كثير).

واستعرض مسلم بن عقبة جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، وسار مسلم إلى المدينة، فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، ومِن الواضح جدًّا عدم التكافؤ بيْن الجيشين، فعدد الجيش الشامي اثنا عشر ألفًا، بينما عدد أهل المدينة ألفا رجل (الطبقات لابن سعد).

وارتحل الناس مع مسلم حتى نزل المنزل الذي أمره به عبد الملك، فصنع فيه ما أمره به، ثم مضى في الحرة حتى نزلها، فأتاهم مِن قِبَل المشرق، ثم دعاهم مسلم بن عقبة، فقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثًا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه، وانصرفتُ عنكم وسرتُ إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليك، ولما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: لا تفعلوا، بل ادخلوا في الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق مِن كل أوب، فقالوا لهم: يا أعداء الله، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فيه، وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل (المحاسن والمساوئ للبيهقي).

وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِن شهر ذي الحجة 63 هـ - 683م وقعت المعركة: فوجَّه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، واختل نظام الدفاع لأهل المدينة وتراجعوا وتفرقوا، وانتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير مِن القادة ووجوه الناس، وكان القتل ذريعًا في المدنيين، وقد شبهتهم الرواية بنعام الشُّرَّد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه (الطبقات لابن سعد).

وقد قتل في هذه المعركة عددٌ مِن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: "وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم تبقِ مِن أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم تبقِ مِن أصحاب الحديبية أحدًا" (تاريخ خليفة بن خياط).


ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: "فجميع مَن أصيب مِن قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال"، وقد تابعه على ذلك أبو العرب (المحن لأبي العرب)، والأتابكي (النجوم الزاهرة)، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك -رحمه الله- قال فيها: "إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل مِن حملة القرآن"، وقال الراوي: "وحسبتُ أنه قال: "وكان معهم ثلاثة أو أربعة مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (المحن لأبي العرب).

وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 22-10-2022, 11:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (33)

وماذا بعد موقعة الحرَّة؟!










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق تفاصيل معركة الحرَّة بعد خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ونقضهم البيعة وما آلت إليه الأمور في جيش أهل المدينة بعد هزيمتهم.

أعمال مسلم بن عقبة بعد معركة الحرَّة:

- نهب المدينة:

لقد اشتٌهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام مِن شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا؛ وذلك لأن معركة كانت لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة، وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الانتهاب، فقد قال: "وظفر مسلم بن عقبة بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثًا" (الطبقات الكبرى لابن سعد).

وقد وردتْ لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسئولية انتهاب المدينة، فعندما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد، قال: "هو الذي فعل بالمدينة ما فعل!"، قلتُ: "وما فعل؟"، قال نهبها" (السُّنة للخلال).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فبعث إليهم -أي أهل المدينة- جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا" (الوصية الكبرى لابن تيمية)، وذهب إلى ذلك ابن حجر (تهذيب التهذيب)، وبهذا قال ابن كثير (البداية والنهاية)، وأبو الفدا(1)، وغيرهم.

ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب مِن المدينة، والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقد هرب مِن المدينة ودخل غارًا والسيف في عنقه، ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: "لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه، فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟! قال: نعم. قال: فاستغفر لي، فخرج" (تاريخ خليفة لابن خياط).

ونود أن نشير إلى أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيرهما مِن الذين لم يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال، وتعرف فيه معارضة للحكم الأموي (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، ثم إن الذين قاموا بالنهب فئة مِن الجيش وليس الجيش كله؛ لأن الجيش يضم أخلاطـًا مِن الناس، فالجيش الشامي تعداده حوالي اثني عشر ألف مقاتل (المرجع السابق).

ما قيل حول انتهاك الأعراض:

بعد التتبع لكتب التاريخ التي تُعد بمثابة العٌمدة حول أحداث موقعة الحرة، مثل: (تاريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري، وتاريخ خليفة بن خياط، وطبقات ابن سعد)، لم نجد ما يشير إلى وقوع انتهاك أعراض النساء مِن قِبَل جيش يزيد، وأول مَن أشار إلى انتهاك الأعراض: المدائني -المتوفى سنة 225هـ- حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان، قال: "وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة مِن غير زوج!"، ويعتبر ابن الجوزي هو أول مَن أورد هذا الخبر في تاريخه مِن طريق هشام بن حسان، قال: "ولدت ألف امرأة بعد الحرة مِن غير زوج" (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي).

وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة، المتوفى في القرن العاشر الهجري، وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي مِن طريق يعقوب بن سفيان، قال: "حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء! ومِن الجدير بالذكر أن كل مَن أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط، وكلاهما لا تصح ولا تثبت(2).

ويبدو أن الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط، وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة، وقد أورد هذا الخبر أيضًا ابن كثير (البداية والنهاية)، وقد أقر بوقوع انتهاك الأعراض أيضًا ابن تيمية(3)، وابن حجر (الإصابة)، ومع ذلك لم يوردا مصادرهما التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة لا تثبت أي نوع مِن الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت انتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض، ومِن المعلوم أن وقوع حالات الاغتصاب هي أعظم وأشد مِن النهب، فلو كانت واقعة مع حالات النهب لذكرها الرواة الذين ذكروا وقوع النهب.

ثم إن المدينة في هذا التوقيت كانت تضم بيْن جنباتها كثيرًا مِن الصحابة وأهل التقوى والصلاح، فكيف يسكت هؤلاء على وقوع هذا الجٌرم دون إنكار؟! ولم يرد ذكر انتهاك الأعراض على لسان كبار الصحابة الذين شهدوا الواقعة، ولم يٌعرف عن أحدٍ مِن المسلمين الوقوع في هذا الفعل حتى مع الكافرات، منذ عصر الرسالة وحتى عصر الفتوحات، وذلك مع كثرة الفتوحات؛ فكيف يكون هذا مع المسلمات العفيفات؟! فلا بد مِن وجود أدلة صريحة وصحيحة، واعتراف مِن أهل الزمان والمكان للاعتراف بوقوع هذا الجرم العظيم (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

أخذ البيعة مِن أهل المدينة ليزيد بن معاوية ووفاة مسلم بن عقبة:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة مِن المدنيين مِن أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبيِّن أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة مِن أهل المدينة على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، وتضيف إحدى الروايات: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم (أنساب الأشراف للبلاذري).

وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة مِن أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيدٍ ليزيد في طاعة الله ومعصيته! وهذه الرواية سندها ضعيف (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمَن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم مِن الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟! والذي يبدو مِن خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت مِن جميع الناس (تاريخ دمشق لابن عساكر).

فعن جابر بن عبد اللَّه قال: لما قدم مسلم بن عقبة المدينة بايع الناس -يعني بعد وقعة الحرّة- قال: "وجاءه بنو سلمة فقال: لا أبايعكم حتى يأتي جابر، قال: فدخلت على أم سلمة أستشيرها، فقالت: إني لأراها بيعة ضلالة، وقد أمرت أخي عبد اللَّه بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه. قال: فأتيته فبايعته"(4)، ولعل بني أمية بايعوا ليزيد ليكونوا قدوة للناس وتأكيدًا على طاعتهم له، حتى إن علي بن الحسين قد أٌتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل على أن أهل المدينة جميعًا، الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة (البداية والنهاية لابن كثير).

ولقد وردت روايات أخرى تبيِّن أن هذه البيعة كانت لفئةٍ معينة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة (المحاسن والمساوئ للبيهقي)، فالله أعلى وأعلم بالصواب، وقد قام مسلم بقتل ثلاثة مِن قادة حركة المعارضة، وهم: يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، ومعقل بن سنان الأشجعي.

وفي النهاية بايع الجميع ولو مكرهًا أو خوفًا مِن القتل؛ لا سيما مع القسوة والشدة مِن قِبَل مسلم بن عقبة، وبهذا تم القضاء على حركة المعارضة، ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته (البداية والنهاية لابن كثير)، علمًا بأن مسلمًا لم يفاجئ أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، وحاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلمًا امتنع مِن حصار المدينة المحرمة وقتال أهلها، ولكنه دخل معهم في معركة طاحنة، وأنزل بأهل المدينة روعًا عظيمًا، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وانتهت المعركة واستسلمت المدينة.

وفي أوّل المحرم مِن عام 64 هـ - 683م بعد فراغ مسلم مِن حرب المدينة، سار إلى مكة قاصدًا قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش -مكان مرتفع مِن طريق مكة، قريبة مِن الجحفة يرى منها البحر- بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني. ثم دعا به فقال: احفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبْل ثلاث، ثم مات ودفن بالمُشلل -بيْن مكة والمدينة-.

قراءة وتحليل حول موقعة الحرَّة:

لا شك أن القتال الذي حدث بيْن المسلمين في القرن الأول الهجري هو مِن الفتن والمصائب التي حلَّت بالمسلمين؛ لأنه اشتبه على كثيرٍ مِن الناس الحق والباطل؛ لذا قد اعتزل كثيرٌ مِن الصحابة أحداث موقعتي الجمل وصفين، وذلك نظرًا لالتباس الأمور عليهم وعدم وضوح الحق، أو حقنًا لدماء المسلمين؛ لأن المنازع هو مِن المسلمين وقد حٌرم دمه وماله وعرضه، وقد اعتمد هؤلاء على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟! قَالَ: (كُنْ كَابْنِ آدَمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ولا شك أن معركة الحرَّة كانت مؤسفة للغاية، وهو خطأ بلا شك قد وقع فيه كثيرون مِن أهل المدينة، وجٌرم ارتكبه بعض أهل الشام، وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، وكذلك أهل المدينة يتحملون مسئولية كبيرة؛ لأنهم أصروا على موقفهم، ولم يسمعوا نصيحة أكابر الصحابة حول نقضهم البيعة، لكن ما حدث لا يدعونا إلى الإنكار لهذه الأحداث بالكلية.

وكذلك لا نقبل التضخيم والتهويل، ولا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظنَّ أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدادت المفسدة، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

وهناك أسباب كثيرة أدتْ إلى هزيمة أهل المدينة، منها:

عدم وجود القائد الحكيم الذي يستطيع أن يزن الأمور بميزانها الصحيح المعتبر، فلا بد للقائد أن يجيد فهم الواقع، وأن يجيد الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وأن يجيد فقه الحركة، بمعنى: متى يتقدم؟ ومتى يتأخر؟ ومتى يثبت مكانه؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ: كَيَزِيدَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمَنْصُورِ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى غَيْرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ؛ فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْقِتَالِ(5)، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ".

وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ".

ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بآخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفىة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكلية فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء؛ لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد.

ومِن أهم أسباب الفشل أيضًا: تعدد القادة؛ لأن تعدد القوّاد في المعركة مِن دواعي الهزيمة، وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سئل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أميران؟ هلك القوم!" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

ثم تأمل البون الشاسع بيْن الجيشين، جيش كبير منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وجيش آخر يرفع جنوده بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها.

ولا بد للقائد أن يكون ملمًا بكل شيء يحدث مِن حوله، ويجيد السياسة والحنكة أثناء المفاوضات إن وجدت، وأثناء التعامل مع الخصم، ولا بد أن يكون شجاعًا مضحيًّا في سبيل ما يؤمن به، ولكننا إذا تأملنا -على سبيل المثال- حال عبد الله بن مطيع نراه على العكس مِن ذلك تمامًا، فلقد فرَّ هاربًا إلى مكة بعد ما أيقن وقوع الهزيمة في أهل المدينة، وترك أتباعه يقتلون على أبواب الدور والمساجد، وهكذا عبْر الأزمنة تجد مَن يحرِّض الناس ويحثهم ويشجعهم على القتال والثبات حتى الموت، ثم تراه يفر هاربًا مِن ساحة القتال، فسبحان الله! فالتاريخ يتكرر كما هو في كثيرٍ مِن الأحداث.

ومِن دواعي الفشل: قلة ما تحت أيديهم مِن الأرزاق، ولو استمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس مِن الجوع؛ لأن ما بها مِن الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أيامًا، وجٌل طعامها يأتيها مِن التجارة، أو مِن بساتين خارج حدود المدينة، ثم إن زعامة المدينة المنورة لم تكن راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان مِن المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم، وعلى رأس آل الخطاب شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم: عبد الله بن عمر، ومِن آل هاشم: عبد الله بن العباس، وعلى بن الحسين، ومحمد بن الحنيفة.

وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث -كما ذكرنا-، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

(1) أبو الفدا: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى 732هـ) المختصر في أخبار البشر، الناشر: المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، عدد الأجزاء: 4 (1/192).

(2) قد قام الشيباني بدراسة عميقة حول هذا الموضوع، وأثبت ضعف هذه الروايات، انظر أسباب رد الخبرين مِن جهة السند (الشيباني، المرجع نفسه، ص 549).

(3) قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشًا لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد، هذا معنى الإباحة، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون مَن شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشًا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة" (انظر الوصية الكبرى، ص 45).


(4) الإصابة لابن حجر (4/ 12) بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: "ويحتمل في هذا أن يكون الصواب: فأمرتُ ابن أخي... ".

(5) يرى شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للقتال كان هو الأولى، وجمهور العلماء يقولون إن عليًّا -رضي الله عنه- كان على الحق، والنصوص تثبت ذلك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 25-12-2022, 11:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34)

الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان








كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير:

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة، ومكة هي المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليستْ مناسبة، فالعراق بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين -رضي الله عنه- خير دليل على ذلك.

وكان ابن الزبير يعي ذلك تمامًا حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق (نسب قريش للزبيري، ص239)، فقال له: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!"، أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

ثم إن مكة بلد حرام، لا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمَن يعتصم بها حماية مِن القتل؛ إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب ذلك، ثم إن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، ثم إنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف مِن المسلمين مِن مختلف الأقاليم، ويمكن مِن خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم آخر.

وأخيرًا، فإن معارضة ابن الزبير يقويها ويعضدها معارضة أهل المدينة لبني أمية، وبالتالي كان مِن المناسِب أن يكون ابن الزبير قريبًا مِن المدينة؛ ليضمن استمرار تأييد أهلها له، ولكي يتمكن مِن الاتصال المستمر بهم.

وكان معاوية -رضي الله عنه- على معرفة بطبيعة ابن الزبير، وأنه لن يبايع ليزيد، وقد طلب ابن الزبير مِن معاوية -رضي الله عنه- أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب مِن معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلًا منه فيبايعه، ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه مِن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آنٍ واحد(1)، ثم قال: "وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان في الأرض خليفتان؛ فاقتلوا أحدهما".

وقد قال معاوية -رضي الله عنه- في وصيته ليزيد: "وأما ابن الزبير فإنه خب ضب -الخب: الخداع-، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزمٍ وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان مقصد ابن الزبير -رضي الله عنهما- ومَن معه، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين: كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم مِن فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، وكان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يرى أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله، ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة؛ ولهذا لم يدعُ لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).

وكان ابن الزبير يخطب ويقول: "والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جمع مال ولا ادخاره"، ثم إن ابن الزبير يرى في نفسه أنه أهل لمنصب الخلافة بعد وفاة معاوية؛ لما يتمتع به مِن بعض الخصائص والصفات، إضافة لِنَسَبه الكريم، حيث أبوه الزبير ابن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين -رضي الله عنها-، وجده مِن جهة أمه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وهو أول مولود يُولد للمسلمين بعد الهجرة، وارتجت المدينة بالتكبير عند مولده.

وكان معاوية -رضي الله عنه- يعرف قدر ابن الزبير ومكانته، وكان يحترمه ويقدره، وقد أدرك ابن الزبير مكانة معاوية وحلمه ولينه، وكيف كان معاوية يقابل شدتهم باللين، وقسوتهم بالرفق، وكان ابْنُ الزُّبَيْرِ يقول بعد وفاة معاوية: "للَّهِ دَرُّ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَتَخَادَعُ لَنَا وَإِنَّهُ لأَدْهَى الْعَرَبِ، مَعَ حِلْمٍ لا يُنَادَى وَلِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَتَضَاعَفُ لَنَا وَهُوَ أَنْجَدُ الْعَرَبِ!" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وعندما سمع ابن الزبير بمقتل الحسين -رضي الله عنه- قام خطيبًا في مكة، وترحَّم على الحسين وذم قاتليه، وقال: "أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيرًا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد -يعرّض بيزيد-، فسوف يلقون غيًّا".

ونظرًا للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عمومًا بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-؛ فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير، ولاحَظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة للأرزقي).

ولم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملًا مِن شأنه أن يُعقّد النزاع مع ابن الزبير؛ ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: "أذكرك الله في نفسك، فإنك ذو سن مِن قريش، وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق مِن اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى، ولا تبطل ما قدَّمتَ مِن حسن، وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرَّم الله، فأبى أن يبايع" (أنساب الأشراف للبلاذري).

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولًا (أنساب الأشراف للبلاذري)، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحًا تقيًّا ورعًا، يجنح للسلم ويخشى مِن سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر على رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة مِن أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة مِن فضة، وبرنس خز (تاريخ خليفة ابن خياط، وتاريخ دمشق لابن عساكر). وفي رواية أخرى: "أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلةٍ مِن فضة وقيد مِن ذهب" (الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم).

وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: "يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم -يعني عثمان بن عفان- ونصرتك إياه يوم الدار ما لا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان مِن إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنسًا فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يُخالف في ولاية ولا مال" (أنساب الأشراف للبلاذري).

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- فقالت: "يا بني عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكِّن بني أمية مِن نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن مِن هذا" (أخبار مكة للأزرقي).

ثم جاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع، وبعد ما أجاب ابن الزبير على الوفد بالمنع، قال لابن عضاة: "إنما أنا بمنزلة حمام مِن حمام مكة أفكنت قاتلًا حمامًا مِن حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهمًا فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد، وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟! والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعًا أو مكرهًا أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء(2)، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم و البيت؟! قال: إنما يحله مَن ألحد فيه" (الأغاني للأصفهاني، وأنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد، وقال: "لقد بلغني أنه يصبح سكرانًا ويمسي كذلك"، ثم قال: "يا ابن عضاة: والله ما أصبحتُ أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينةٍ مِن ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فالله يعلم إرادتي وكراهيتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي"، وأجاب الباقين بنحو جوابه. (أنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "اللهم إني عائذ ببيتك" (الطبقات لابن سعد)، ولقَّب نفسه عائذ الله (الإصابة لابن حجر)، وكان يسمَّى العائذ (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ

(1) (تاريخ خليفة لابن خياط، ص214)، و(حلية الأولياء) بإسنادٍ حسن (1/ 330-331)، وقد علَّق محب الدين الخطيب على هذا فقال: "ابن الزبير أذكى مِن أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معًا في حياة معاوية".

(2) حديث: "نِعْمَ الْحَيُّ الْأُسْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ" (الحديث ضعفه الألباني وشعيب الأرنؤوط).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 16-02-2023, 10:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ
(35) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حملة عمرو بن الزبير:

فقد ذكرنا في المقال السابق محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وقد أصر ابن الزبير على موقفه؛ فلقد علم أن رفضه لمطالب يزيد وبسط لسانه وتنقصه والنيل منه، سيعقبه شدة وقسوة مِن يزيد؛ لا سيما بعد ما تفوه به على رؤوس أشراف أهل الشام، فقام ابن الزبير بجمع مواليه ومَن تألف معه مِن أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم الزبيرية (أخبار مكة للأزرقي، بسندٍ كل رجاله ثقات).

وهنا رأى يزيد أنه لابد مِن القيام بعملٍ عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقَسَم يزيد، ووضع الأغلال في عنقه، ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنة -والمرجح سنة إحدى وستين- حج ابن الزبير معه، فلم يصلِّ بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته (أنساب الأشراف للبلاذري).

وهذا العمل مِن ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة دولة يزيد وعدم الاعتراف بها، وخصوصًا أن إقامة الحج تمثـِّل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي مِن أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائبًا لعمرو بن سعيد على أهل مكة (البداية والنهاية لابن كثير)، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمرًا دون المسور بن مخرمة -المسور بن مخرمة بن نوفل له ولأبيه صحبة-، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات والجمع، ويحج بهم (تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة ابن الزبير).

فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجِّه له جُندًا؛ فعيَّن عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله، وقام بضرب كل مَن كان يتعاطف مع ابن الزبير، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته: أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، فسار أنيس بن عمرو الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره مِن القتال في البلد الحرام (تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام للذهبي).

وكان عمرو بن الزبير يخرج مِن معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله، وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف؛ فأما أن تجعل في عنقي جامعة -الجَامِعَةُ: الغُلُّ يجمع اليدين إِلى العُنُق-، ثم أٌقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيتُ أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه، ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها.

وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكرًا في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله: أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن آذاه في المدينة (الطبقات لابن سعد، وأنساب الأشراف للبلاذري)، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل مَن ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك. وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيبٍ شديدٍ مِن جراء ذلك، ومات تحت الضرب (تاريخ الإسلام للذهبي).

لقد أثبت ابن الزبير -رضي الله عنه- أنه يملك ذكاءً ودهاءً بارزين، الأمر الذي مكّنه مِن تحويل القضية لصالحه، بعد ما كانت في يد يزيد بن معاوية (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمتْ ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولابد مِن مشاركة الناس، وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يُذكر؛ فخلال سنتين أو أكثر مِن معارضته ليزيد لم يحدث أي تغيير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز؛ فضلاً عن غيره مِن الأقطار.

ولقد ارتكب يزيد خطأً فادحًا عندما أقسم أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل مِن صحابي جليل تجاوز الستين مِن عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية؟!

ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط، ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلتْ هذه الحادثة من ابن الزبير في نظر الكثير مِن المترددين في موقفهم مِن ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته، والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير مِن التعاطف هو موقف أمير المدينة -عمرو بن سعيد- فكان هذا الأمير -كما تذكر الروايات- شديدًا على أهل المدينة معرضًا عن نصحهم، متكبرًا عليهم، ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير الذي تذكره الروايات أيضًا بأنه عظيم الكبر، شديد العجب، ظلومًا قد أساء السيرة، وكان يضرب بالسياط، فكان ممن ضرب: المنذر بْن الزبير، ومحمد بْن المنذر، وعثمان بْن عبد اللَّه بْن حكيم بْن حزام، وخبيب بْن عبد اللَّه بْن الزبير، ومحمد بْن عمار بْن ياسر، وغيرهم، وكان يُقال: عمرو لا يُكلم، مَن يكلمه يندم! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ومِن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه: "غزو مكة بجيش"؛ فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقي المنبر في أول يوم مِن ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف مَن رغم (تاريخ خليفة لابن خياط).

ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه، وذكّروه بحرمة الكعبة، وبحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان حرمتها، ولكنه رفض السماع لنصحهم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد مِن غزو البيت، وقال له: لا تغزو مكة، واتقِ الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر؛ هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج -كثير الإلحاح-، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف مَن رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني (البداية والنهاية).

وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقبًا مؤثرًا حين أطلق على نفسه: "العائذ بالله"، فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون، وكان لا بد مِن الدفاع عن مكة، في وجه جيشٍ يريد استحلال حرمتها!

وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفًا مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله، وتدافع الناس نحو ابن الزبير مِن نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم (أنساب الأشراف للبلاذري).


وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز؛ الأمر الذي جعله يحقق نصرًا ساحقًا وسهلًا على جيش عمرو بن الزبير، ومِن الأمور التي انتقدها يزيد على عمرو بن سعيد، كيف أنه لم يبادر بطلب جندٍ مِن أهل الشام حين جهز حملة عمرو بن الزبير؟! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 15-07-2024, 04:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ
(36) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير


كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
"حملة الحصين بن نمير - وحصار ابن الزبير - وحريق الكعبة":
ذكرنا في المقال السابق تفاصيل حملة عمرو بن الزبير، ونستكمل في هذا المقال محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.
لم يقم مسلم بن عقبة في المدينة أكثر مِن ثلاثة أيام بعد موقعة الحرة، ومات في السابع مِن شهر المحرم وهو في طريقه لابن الزبير، وتولى القيادة مِن بعده الحصين بن نمير السكوني، ووصل إلى مكة قبْل انقضاء شهر المحرم بأربع ليالي تقريبًا، وعسكر الحصين بن نمير بالحجون -الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة بينه وبيْن الحرم ميل ونصف- إلى بئر ميمون -حفرها ميمون بن الحضرمي، وهي في طريق منى-، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة، والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة.
وقام ابن الزبير -رضي الله عنهما- يحثُّ الناس على قتال جيش أهل الشام، وانضم المنهزمون مِن معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدِم على ابن الزبير أيضًا نجدة بن عامر الحنفي في ناسٍ مِن الخوارج، وذلك لمنع البيت مِن أهل الشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وقيل: إن النجاشي -لقب لكل مَن حكم الحبشة- أرسل جماعة مِن جيشه للدفاع عن الكعبة (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثيرٍ مِن المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة، وعرض الحصين بن نمير الصلح والتسليم على عبد الله بن صفوان أحد أمراء عبد الله بن الزبير، فرفض ابن صفوان وأصر على الحرب والقتال ووافقه مَن معه (المحن لأبي العرب ص 203).
وكان مسلم بن عقبة عند موته قد أوصى الحصين، فقال: "فاحفظ عني ما أقول لك: لا تطيلنّ المقام بمكة، فإنها أرضٍ جردية لا تحتمل الدواب، ولا تمنع أهل الشام مِن الحملة، ولا تمكن قريشًا مِن أذنك فإنهم قوم خدع، وليكن أمرك الْوِقَافُ، ثُمَّ الثِّقَافُ -أي الخصام والجلاد، يريد المناجزة بالسيف- ثم الانصراف، أفهمت يا حصين؟ قَال: نعم. قَال: واعلم أنك تقدم على قوم لا منعة لهم ولا عدة ولا سلاح، ولهم جبال مشرفة عليهم، فانصب عليهم المجانيق فإن عاذوا بالبيت فارمه فما أقدرك على بنائه" (الطبقات لابن سعد).
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت مِن صفر، نشب القتال شديدًا بيْن الطرفين، ويبدو أن ابن الزبير قد حقق في البداية شيئًا مِن التكافؤ مع جيش الحصين (الطبقات لابن سعد)، لكن سرعان ما تحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن ابتلي ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخويه: المنذر وأبي بكر ابني الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير (جمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار).
وبعد ثلاثة أيام مِن ربيع الأول سنة 64 هـ - 683م: قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس -هو أحد أخشبي مكة، وهو جبل مطل على الصفا- وجبل قعيقعان -جبل بمكة مقابل لأبي قبيس-، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبقَ مأمن لابن الزبير مِن أحجار المنجنيق سوى الحِجر (المحن لأبي العرب)، وحوصر ابن الزبير حصارًا شديدًا، ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح (تاريخ خليفة لابن خياط).
وقد عمد ابن الزبير إلى وضع ألواحٍ حول البيت وعلى المسجد، وألقى عليها الفرش؛ حتى توفر لهم غطاءً مِن كثرة الحجارة المنهمرة عليهم مِن أعالي الجبال، وحتى يتمكنوا مِن أداء الصلاة والطواف حول الكعبة، وقد جعل ابن الزبير فسطاطًا في المسجد فيه نساء يسقين الجرحى ويطعمن الجائع (تاريخ دمشق لابن عساكر).
وفي أثناء احتدام االمعارك بيْن ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة، وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرَّم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- القتال فيه، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة للحافظ ابن حجر)، ولم يعلم أحدٌ بموته؛ نظرًا لبعد المسافة بيْن مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.
ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، بل كان نتيجة حريق في الخيام المحيطة بها، والدليل على ذلك: ما أحدثه حريق الكعبة مِن ذهولٍ وخوفٍ مِن الله في كلا الطائفتين: جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير؛ فقد نادى رجل مِن أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة، وقال: "هلك الفريقان! والذي نفس محمد بيده" (تاريخ خليفة لابن خياط).
وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفًا مِن أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجدًا، ويقول: "اللهم إني لم أتعمد ما جرى؛ فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بيْن يديك" (مواقف المعارضة للشيباني).
ولا شك أن أحدًا مِن أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين (منهاج السنة لابن تيمية)، ولكن يُؤخذ على أهل الشام أنهم يعلمون جيدًا أن إحتمالية وقوع الضرر بالكعبة قائمة، ومع ذلك لم يراعوا هذا الأمر.
وهناك بعض الروايات التى تشير إلى أن الحصين بن نمير قد عرض على ابن الزبير بعد موت يزيد أن يتولى الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، ولكن بشرط أن يتوجه معه إلى بلاد الشام؛ فرفض ابن الزبير هذا العرض وطلب المقام في مكة(تاريخ الرسل والملوك للطبري).
ثم انسحب جيش الشام بعد ذلك، وحينما نحاول أن نقوِّم حركة ابن الزبير، ومدى تأثيرها على المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، فإننا نجد أن نتيجة الحرب التي دارت بيْن الحصين وابن الزبير، لم تصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بسبب وفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الشام، ولكننا نشير إلى عدم رضا كثيرٍ مِن الصحابة عن معارضة ابن الزبير وموقفه، وهذا يظهر جليًّا في موقف ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو أفضل وأفقه أهل زمانه حيث إن يزيد بن معاوية -في نظره- يمثِّل الخليفة الشرعي للمسلمين، وأنه قد أعطي البيعة؛ ولذا لا يجوّز الخروج عليه.
وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعلم نتائج معارضة ابن الزبير، حيث سيكون هناك حربٌ و قتالٌ بيْن المسلمين، ويُقتل الناس تبتلى الأمة، وتُعَطّل الثغور ويتوقف الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مِن المفاسد التي يعتقد ابن عمر أنها ستحدث لا محالة إذا استمر ابن الزبير في معارضته.
ولكي يصرف ابن عمر الناس عن مناصرة ابن الزبير فقد قال بأن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الدنيا (المصنف لابن أبي شيبة بسندٍ صحيح)، وأخذ يخبر الناس ويحذرهم أن قتالهم ومناصرتهم لابن الزبير إنما هو قتال على الملك فقط (البخاري مع الفتح (4513) كتاب التفسير، وأحمد المسند (5690) وصحح إسناده أحمد شاكر)، ولم يكتفِ ابن عمر بذلك، بل كان دائم المناصحة لابن الزبير و يحذِّره مِن عواقب الفتن، وكان يعرّفه بأن نهاية هذه المعارضة ستكون بائسة له (شرح النووي على مسلم).
ولا شك أن كلام ابن عمر وموقفه في الفتن يستحق التوقف والتدبر للخروج بحصيلةٍ علميةٍ راسخةٍ نستفيد منها في واقعنا المعاصر.
وهكذا كان موقف ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو فقيه عالمٌ مفسّرٌ للقرآن، مِن أشد المعارضين لموقف ابن الزبير، فلم يُنقل عنه أنه كان راضيًا عن ابن الزبير أو أنه تعاطف مع معارضته، بل إنه لم يبايعه بعد وفاة يزيد بن معاوية، وكان يصرِّح بأنه إذا كان تحت حكم بني أمية خيرٌ له مِن حكم ابن الزبير (البخاري مع الفتح 8/ 177)، ولم يكن راضيًا عن شخص ابن الزبير، ويفضِّل عليه معاوية بن أبي سفيان (المعجم الكبير للطبراني، والمصنف لعبد الرزاق)، بل وكان يحمِّله جزءًا مِن المسؤولية عن إحلال القتال ببيت الله (البخاري مع الفتح 8/ 177).
وهكذا كان موقف أبي برزة الأسلمي وجندب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنهما-، و قولهم جميعًا بأن قتاله مِن أجل الدنيا إنما كان بسبب النظرة إلى الفتن التي تجري بيْن المسلمين في ذلك الحين، ويهدفون إلى تحذير كل مَن يلتحق، أو ينوي لانضمام لأيٍ مِن الطائفتين.
ومراد هؤلاء الصحابة الذين نقلنا عنهم رأيهم في قتال ابن الزبير وأنه كان مِن أجل الدنيا، هو تثبيط الناس عن الاشتراك معه، ومعرفتهم بأن النتائج التي ستترتب على أي قتالٍ يحدث هي أعظم مِن المنفعة المرجوة بعده؛ فهذا ابن عمر يترحم على ابن الزبير بعد أن قتله الحَجّاج، ويقول: "لقد كنتَ صوّامًا قوّامًا تصِل الرّحم". و يقول أيضًا: "رحمك الله، لقد سَعِدَتْ أمة أنت شرُّها!" (مسلم بشرح النووي 16/ 99).
ولا شك أن هؤلاء الصحابة قد آلمهم تعريض ابن الزبير الحرم للقتال والحرب؛ لما له مِن مكانةٍ وحرمةٍ، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول عن الحرم: "لو وجدتُ فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه!" (المصنف لابن أبي شيبة).
وبالرغم مِن القتال الذي دار بسببه؛ إلا أن القتل الذي أصاب إخوته وأصحابه وأصابه هو نفسه، فإنه مكفِّرٌ -بإذن الله- عما اقترف مِن الذنوب، ولذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- مخاطبًا ابن الزبير وهو مصلوب: "أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت مِن الذنوب ألا يعذبك الله" (أخرجه الحاكم في المستدرك).
ثم إن بعض الذين قاموا مع ابن الزبير -رضي الله عنهما- همْ مِن الصحابة الأجلاء، فمعاذ الله أنهم قاموا وقاتلوا وقٌتِلوا مِن أجل الدنيا، بل لقد كان مقصدهم -رضي الله عنهم- هو تغيير الواقع بالسيف، لمّا رأوا تحول الخلافة إلى وراثة وملك، ولقد كان ابن الزبير -رضي الله عنهما-يهدف مِن وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة أفضلها، وكان يخشى مِن تحول الخلافة إلى مُلك.
وكان يرى -رضي الله عنه- أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدعو لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).
فهو وإن أخطأ؛ فإنه مجتهد مأجور بلا أدنى شك.
ومع ذلك فإن التمسك بنصوص الكتاب والسُّنة بلزوم الجماعة، والتي تحذر مِن شق عصا الطاعة، هو أولى مِن الذي أقدم عليه ابن الزبير وأهل المدينة؛ فكم مِن دمٍ أريق وامرأة ترمَّلت وطفلٍ تيتَّم، ومالٍ نُهِب وأضيع، وغير ذلك مِن المفاسد، وبما أن كل طرفٍ يقاتل ويرى أنه على حق؛ فلهذا سمَّى السلف معارضة ابن الزبير فتنة (التاريخ الكبير للبخاري، وتاريخ دمشق لابن عساكر).
وذلك لأنه قتال بيْن المسلمين لا نفع مِن وراءه ولا خير، فالكل يقاتل عن تأويل، ومع ذلك نقول كما قال الذهبي: "فليته -أي ابن الزبير- كفَّ عن القتال لمّا رأى الغلبة، بل ليته ما التجأ إلى البيت. نعوذ بالله مِن الفتنة الصَّـمَّـاء" (سير أعلام النبلاء للذهبي).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم 28-07-2024, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (37)

قراءة حول الملك والخلافة










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذه نبذة مختصرة نريد أن نلقي الضوء مِن خلالها على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لا سيما فتنة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفضه بيعة يزيد، ومِن ثَمَّ رفضه لخلافته.

فهناك عدة مسائل نلخصها في عدة نقاط لتخرج القراءة بصورةٍ بنائية متكاملة.

أولًا: شروط يجب توافرها في الإمام أو الخليفة:

ذكر أهل العلم شروطًا معينة يجب توافرها في الخليفة ليصلح لتولي أمر الأمة، ومنها: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والعلم، والعدالة، والقرشية، وغير ذلك مِن الشروط، لكننا نريد أن نسلِّط الضوء على شرطي العلم والعدالة؛ فلابد أن يكون الخليفة عدلًا أمينًا، والعدالة هي عبارة عن الالتزام بالفرائض والفضائل، وتجنب الفواحش والرذائل.

وقد ذكر أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن أن في قوله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، إجابة لسؤاله أن يجعل مِن ذريته أئمة، وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة.

ثم قال: "فلا يجوز أن يكون الظالم نبيٍّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا، ولا مَن يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين مِن مفتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا، فقد أفادت الآية أن شرط جميع مَن كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح" (انتهى).

وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى ملتمسه، وأن الظالمين مِن ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة مِن الله وعهد، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة.

والمراد: أن إمامة غير العدل لا تصح؛ فلا يكون إمامًا شرعيٍّا، لا أنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس -رضي لله عنهما- أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم، فإن عقد عليك في ظلم فانقضه، هذا بالنسبة لشرط العدالة، علمًا بأن يزيد كانت تلاحقه الإشاعات التي تقدح في عدالته.

وقد كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه-: "أما والله، ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر -الركض في طلب الصيد- يعرّض بيزيد -فسوف يلقون غيًّا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر، ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة وما جاء فيها مِن الآثار للأرزقي).

وقد كان بعض الناس في المدينة أيضًا يذكرون هذا الكلام، ولعل هذه الاتهامات التي تقدح في العدالة كانت مِن الأسباب التي جعلت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يرفض بيعة يزيد بالإضافة إلى السبب الرئيسي، وهو طريقة ترشيح يزيد وتوليه الخلافة.

وأما بالنسبة لشرط العلم، فيعنون به العلم بأمور الدين ومصالح الأمة وسياستها.

ومِن الآثار في ذلك: سيرة عمر -رضي الله عنه- في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع فيها؛ فلأجل ذلك أَمَّرَ معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاصم مع وجود مَن هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.

جاء في الموسوعة الفقهية في بيان المقصد الأساس للدولة: "هُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: الإْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَالإْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ. وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَيَقُول ابْنُ الأْزْرَقِ: إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإْمَامِ رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً وَذَلِكَ لأِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ" (انتهى).

إذن فلا بد مِن وجود العلم للحفاظ على أمري الدين والدنيا؛ لأن جهل الخليفة أو الإمام سيعود بلا شك بالضرر البالغ على العباد والبلاد، وأما مَن كان مستجمعًا لأكثر الشروط ولم يجمعها كلها؛ فيجوز مبايعته، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها.

ومثال ذلك: مَن تغلب وهو جاهل، يفقد شرط العلم مثلًا، وكان صرفه ومنابذته فتنة وفساد؛ حكمنا بانعقاد إمامته حفاظًا على وحدة الكلمة، وكيان الأمة؛ فلقد قُتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وقد كان أميرًا للمؤمنين، ودخلت في طاعته ومبايعته: "الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام -معقل الأمويين-"، ولم يبقَ سوى الأردن في عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج؛ فماذا كان موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؟!

عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: "يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي"، فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال:39)، فَقَالَ: "قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ" (رواه البخاري).

وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَصَلَبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ يُغَايِظُ بِهِ قُرَيْشَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، ثَلاثًا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ" (رواه مسلم).

بل كان -رضي الله عنه- يصلي خلف الحجاج، بل وحج معه، وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج على الحاكم أو يأمر بالخروج عليه؛ لأنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك مِن سفك الدماء، وإضعاف لوحدة الجماعة المسلمة، فلما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد, فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بنيّ قد أقروا بذلك" (الطبقات لابن سعد).

فالعلة ليست في ثبوت الولاية الشرعية مِن عدمها، ولكن العلة هي سفك الدماء، علمًا بأننا لا نثبت الولاية الشرعية في النظام الجمهوري الحديث؛ فانتبه، ولقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية على يد أبي العباس السفاح الذي قضى على الدولة الأموية، وقتل عشرات الآلاف مِن المسلمين.

وهنا سؤال: ماذا فعل العلماء في عصره؟!

لقد بايعوه ولم يأمروا بقتاله؛ نظرًا لعدم القدرة على ذلك، وللمفاسد المحتملة، بل وربما المفاسد المحققة.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح العقيدة السفارينية: "(وشرطه): أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين -وعدد شروطًا-... ومنها: (الإسلام): وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبدًا، بل لابد أن يكون مسلمًا؛ فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه مِن الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد مِن شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى؛ فليصبروا حتى يفتح الله لهم بابًا؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها... ثم قال: ولابد أن يكون على دراية ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح".

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #38  
قديم 04-08-2024, 11:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (38)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-.

ثانيًا: مَن يرشح الخليفة ويوليه وينصبه؟

يرشح الخليفة "أهل الحل والعقد" عن طريق الشورى، وأهل الحل والعقد هم أهل العلم وأولو المكانة، ووجوه الناس وزعماؤهم، وموضع الثقة بالنسبة للناس؛ فالأمة تتبعهم في طاعة مَن يولونه، ولا يلزم اجتماعهم جميعًا، بل ما يتيسر اجتماعهم منهم، وهذا هو المأخوذ مِن عمل الصحابة -رضي لله عنهم- في تولية الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر -رضي الله عنه- عدَّ البدء في بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- فلتة؛ لأنه وقع قبْل أن يتم التشاور بيْن جميع أهل الحل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد مِن بني هاشم.

وتضافرت الروايات بأن أبا بكر -رضي لله عنه- أطال التشاور مع كبراء الصحابة في ترشيح عمر -رضي الله عنه-، ولما طُعن عمر -رضي الله عنه- رأى حصر الشورى الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ؛ لعلمه بأنه لا يتقدم عليهم أحدٌ، ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد.

وإذا تأملنا حال أولئك الستة نرى أنه لم يكن في أهل الإسلام أحد له مِن المنزلة في الدين، والهجرة والسابقة، والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة، ما للستة الذين جعل عمر -رضي الله عنه- الأمر شورى بينهم.

وقد صح أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على مَن زعم أن البيعة تنعقد بواحدٍ مِن غير مشاورة الجماعة؛ فلقد قال على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بلغني أن قائلًا منكم يقول: ولله لو مات عمر لبايعت فلانًا، فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم مَن تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر".

وقد أقرت جماعة الصحابة عمر -رضي الله عنه- على ذلك، فكان إجماعًا؛ فتحرر بهذا: أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين، واختيار أهل الحل والعقد، ولا نعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وإمامة عثمان -رضي الله عنه- لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة لا خاصة به، وكان يملك تفويضًا بذلك، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-.

ثالثًا: الأمة تابعة لأولي الأمر:

وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59).

عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ): "يعني أهل الفقه والدين". وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني: العلماء. وقال ابن كيسان: "هُمْ أُولُو الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ النَّاسِ". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "هم الأمراء".

وقال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ساق أقوال مِن قال هم العلماء، وأقوال مَن قال هم الأمراء: "والظاهر -والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء".

وإذا تأملنا نجد أن ولي الأمر واحد منهم، وإنما يطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه وجعلوا ثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد مِن الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة، وقد جاء في الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (متفق عليه)، فقد أجمع أهل العلم على وجوب طاعة خليفة المسلمين إذا كان عادلًا، وحرمة خلعه والخروج عليه؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وفي الصحيحين -وغيرهما- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ". والكفر البواح هو الظاهر الذي لا يحتمل تأويلًا.

وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) (رواه مسلم).

وللأمة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، فإذا ثبت كفر الخليفة فقد سقطت بيعته شرعًا، وفى حال بغيه وجوره فإن حكم الخروج عليه وخلعه يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع".

وقال الدسوقي المالكي: "يحرم الخروج على الإمام الجائر؛ لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق، وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، وعدم الخروج عليه، إنما هو تقديم أخف المفسدتين؛ إلا أن يقوم إمام عادل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم".

والخلع يعني تنحية الإمام عن الحكم فتسقط طاعته وتنحل بيعته، ولا تكون له حقوق عند الرعية زائدة عن حقوق المسلم على المسلم.

وأضرب مثالين في هذة المسألة:

أولهما: موقعة "الحرة"؛ فلا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظن أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدات المفسدة؛ فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

والمثال الثاني: هو مقتل الملك المعز "عز الدين أيبك"، ثم قُتلت بعده زوجته "شجرة الدر"، ثم تولى الحكم السلطان الطفل "المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك"، ثم تولى "سيف الدين قطز" الوصاية على السلطان الصغير، وإن كان "قطز" يدير الأمور فعليًّا في مصر؛ إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا يضعف مِن هيبة الحكم في مصر، ويزعزع مِن ثقة الناس بملكهم، ويقوي مِن عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا!

وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشكلات الداخلية الطاحنة، وثورات بعض المماليك، وأطماع بعض الأمراء لم يجد "قطز" أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل "نور الدين علي" على كرسي أهم دولة في المنطقة "وهي مصر"، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها؛ فتم مبايعة "قطز" ليتولى الأمر في مصر، وتم عزل السلطان الطفل، وقد تم ذلك في اجتماع حضره كبار أهل الرأي مِن العلماء والقضاة.

وقد أجرى "قطز" بعض التعديلات في المناصب القيادية، وولَّى أصحاب الخبرة والكفاءة والأمانة، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية لتستقر الأمور في مصر، ثم كانت الوحدة بيْن مصر والشام.


قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام". يعني اجتمعت الكلمة لقواد وأمراء المسلمين.

وتحرك قطز بجيوش المسلمين وانتصر على التتار، وانتهت أسطورة الجيش الذي أرهب العالم، وسيطر على نصف الكرة الأرضية تقريبًا؛ لذا نقول: إن الأمة تابعة لأهل الحل والعقد، وعدم الطاعة يترتب عليها مفاسد كبرى، وقد ظهر ذلك جليًّا في عدم مبايعة معاوية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وما ترتب على ذلك مِن قتالٍ وفسادٍ وشرٍّ.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #39  
قديم 25-08-2024, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد


صفحات مِن ذاكرة التاريخ (39)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالمُلك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد تحدثنا سابقًا عن بعض الشروط التي يجب توافرها في الخليفة، ثم تحدثنا عن أهل الحل والعقد، وأن الأمة تابعة لأولي الأمر، ونطوف الآن حول قضية مِن أهم القضايا في مسألة الملك؛ ألا وهي مسألة توريث الحكم.

رابعًا: مسألة توريث الحكم:

إن مسألة توريث الحكم مِن الأمور التي انتشرت واستمرت في العصور المختلفة، فقد بدأت في عصر معاوية -رضي الله عنه- وترشيحه لابنه يزيد، ثم استمرت في عصر الدولة الأموية، وكذلك في عصر الدولة العباسية، ثم في عصر الدولة العثمانية.

ولا شك أن مسألة التوريث كان لها أثر سلبي على الأمة في كثيرٍ مِن المواطن والأزمنة.

قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه: "الإسلام والمناهج الاشتراكية": "إن الإسلام الذي أقر مبدأ التوارث المالي رفض بشدة مبدأ توارث الزعامات الروحية أو المدنية أو غيرها، فعندما اختار الله إبراهيم -عليه السلام- نبيًّا، طلب منه هذا النبي الكريم أن تنتقل نعمة الاختيار في بنيه فأبى الله عليه ذلك (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124). فتعاليم الإسلام تقطع دابر هذا التوريث ولا ترشح للزعامة إلا الذين يدركونها عن جدارة وكفاية" (انتهى).

لذا امتنع بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عن مبايعة يزيد في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير، والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، كما عبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن اعتراضه بقوله: "يا معشر بني أمية اختاروا منها بيْن ثلاثة: بيْن سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر؛ ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر!".

وكم عانى المسلمون مِن أمر التوريث في الحكم خلال العصر العباسي، وقد بدأت الفتن بما حدث بيْن الأمين وأخيه المأمون بسبب ولاية العهد، فولاية العهد كانت مِن الكوارث التي حلت بنظام الحكم، وكانت تؤدي في كثيرٍ مِن الأحيان إلى فساد العلاقات ووقوع القتال بيْن أفراد الأسرة الواحدة، وكم قامتْ ثورات مسلحة بيْن أبناء البيت الواحد بسبب ولاية العهد وتوريث الحكم؛ فضلًا عن توريث الحكم أحيانًا لبعض الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد!

ويكفي أن نعلم أن الخليفة العباسي المقتدر بالله بويع له بالخلافة عند موت أخيه المكتفي وعمره ثلاث عشرة سنة! وكان عصره مِن أشد العصور وبالًا على المسلمين؛ نظرًا للصراعات العنيفة التي وقعت بيْن النظام الحاكم المتمثل في الخليفة الضعيف والتيارات السياسية المختلفة التي تمثلت في القصر ونسائه، والخدم والحاشية، وبيْن القيادات العسكرية مِن جهة أخرى.

وقد اشتهر عصر المقتدر بالله، بعصر نفوذ النساء، ولكَ أن تتخيل أن فترة حكمه استمرت ربع قرن مِن الزمان، مِن عام 295هـ، وحتى 320هـ، وحدث في عهده للمرة الأولى في التاريخ أن تولت امرأة منصب القضاء، وهي ثمل القهرمانة إحدى نساء القصر، فكانت تقضي في الخصومات والنزاعات ويحضر مجلسها الوزراء والقضاة وكبار رجال الدولة! فكانت تشبه الآن مجلس الدولة والمحاكم الإدارية العليا، وكانت شٌغب أم الخليفة هي المسيطرة على المسرح السياسي في الدولة، إلى غير ذلك مِن التدهور الذي حدث في عصر المقتدر بالله في النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك.

وحدث مثل هذا في عصر الدولة العثمانية؛ فقد تولى السلطان "محمد الرابع" المسؤولية وهو ابن سبع سنين، وهنا رأت أوروبا أن الوقت قد حان للنيل مِن الدولة العثمانية؛ فبعد عصر الفتوحات والانتصارات التي تمثلت في فتح القسطنطينية وبلجراد، والبلقان وبلغاريا، وغاليبول بإيطاليا، والمجر، وفتح جزيرتي قبرص ورودس باليونان، وغير ذلك مِن الفتوحات التي سطرتها صفحات التاريخ المشرقة للدولة العثمانية؛ لك أن تتخيل أن يتولى صبي مقاليد الحكم وهو في السابعة مِن عمره!

وكذا تولى "عثمان الثاني" وهو في الثالثة عشرة مِن عمره، وتولى السلطان أحمد الأول وهو في الرابعة عشرة من عمره، و هذا يعد من أسباب ضعف الدولة وتدهور أحوالها على كافة المستويات والنواحي والمختلفة؛ لذا نقول كان عبد الله بن الزبير وغيره مِن الصحابة -رضي الله عنهم- على حق عندما رفضوا مبدأ التوريث في الحكم، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- "يتعوذ مِن إمارة الصبيان والسفهاء" (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

وعلى الشق الآخر: لقد عاشتْ الأمة أزهى عصورها يوم تخلت عن توريث الحكم للأبناء؛ فإذا تأملنا حال سليمان بن عبد الملك -رحمه الله-، نرى أنه مِن أفضل خلفاء بني أمية؛ فلقد حرص والده على تربيته تربية عالية، وتعليمه أصول الحكم، كما كانت أخلاقه مضربًا للأمثال؛ ولذلك كانت بطانته مِن العلماء والحكماء والصالحين، أمثال رجاء بن حيوة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما.

توفي سليمان بن عبد الملك في مرج دابق مرابطًا في سبيل الله في شهر صَفَر سنة 99هـ، وبُويِعَ في اليوم نفسه لابن عمه عمر بن عبد العزيز الذي عهد له مِن بعده.

وكان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: "افتتح خلافته بخير وختمها بخير؛ افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز".


فلقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله بما يدل على حرصه على مصلحة المسلمين؛ فاختار عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قبْل موته ليكون وليًّا للعهد ويخلفه مِن بعده، ولم يعهد لأحد ممَن هم أقرب إليه مِن عمر بن عبد العزيز.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #40  
قديم 16-09-2024, 04:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (40)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولقد تحدثنا في المقال السابق عن مسألة توريث الحكم، ونريد أن نلقي الضوء على مسألة ترشيح معاوية -رضي الله عنه- لابنه يزيد، وأخذ البيعة له في حياته.

الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-:

الحكم على الشيء فرع عن تصوره: ذهب كثيرٌ مِن المؤرخين إلى أن معاوية -رضي الله عنه- قد أخطأ يوم أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته، ولكننا نريد أن نلقي الضوء على الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وذلك مِن باب الإنصاف حتى نستطيع أن نحسن الحكم على مسألة التوريث ليزيد بن معاوية، وأريد أن أشير إلى شيءٍ يسيرٍ مِن فضائله -رضي الله عنه-؛ لأنه مِن الشخصيات التي نالها الكثير مِن التشويه، فمِن فضائل معاوية -رضي الله عنه- دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له بالهداية وبالوقاية مِن العذاب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: (اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (هَادِيًا): أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَي: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ.

وثَبَتَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا لمعاوية فقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ) (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره)؛ فضلًا عن أنه كان مِن كتبة الوحي لرسول اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية"، ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية! قال: قلتُ: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه". وفي رواية: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم -أحكم منهم وأكثرهم سيادة-". ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلًا كان أخلق بالملك مِن معاوية" (البداية والنهاية).

وقال ابن أبي العز الحنفي: "وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين".

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).

وقال: "فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نسبتْ أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل", وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز، فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا، والله في عدله" (منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية).

ثم نعود إلى استقراء الواقع وذكر الملامح العامة للواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، فبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة كانت بنو أمية قادرة فعلًا على الحكم، واستطاع معاوية أن يحكم الدولة بحكمته وأن يحافظ على وحدتها، بعد سنواتٍ مِن الفرقة والقتال الذي وقع بيْن أبناء الأمة، وكان معاوية يرى -والله أعلم- أن الأمة يصعب أن تجتمع على شخصٍ واحدٍ بعد موته عن طريق الشورى، وكان يعلم أيضًا أن بني أمية لن ترضى بأحدٍ مِن غيرها.

وفي هذا الصدد يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هي فترة استثنائية، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي (القبلي - العشائري)، الذي تقوم عليه الملك، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لا بد مِن عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ" (انتهى).

فالذي دعا معاوية -رضي الله عنه- لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون مَن سواه: إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاقهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ مِن بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وأما مَن بعدهم مِن لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفتْ على غايتها مِن المُلك، والوازع الديني قد ضعف، فلو عهد إلى غير مَن ترتضيه العصبية لردتْ ذلك العهد وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفُرقة والاختلاف، والقتال الذي توقف بيْن المسلمين يسهل أن يعود مرة أخرى، فمعاوية -رضي الله عنه- قد عدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع.

قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- في تعليقه على "العواصم من القواصم": "عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس مِن الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه" (انتهى).

يروي الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: "خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنتُ إنما عهدتُ ليزيد لما رأيتُ مِن فضله فبلغه ما أمَّلت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبْل أن يبلغ ذلك".

ها هو معاوية -رضي الله عنه- يدعو في خُطبه بمثل هذا الدعاء، ويستمع إلى قول السامعين: آمين، بل لما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت الخلافات بالفعل، ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحٌكم مروان بن الحكم، ولقد واجهت الدولة الأموية كثيرًا مِن الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها، وكانت كثير مِن هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم في وجدان كل المسلمين، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا، ومِن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، ودارت معارك طاحنة مثل معركة: "دير الجماجم"، حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إنْ كان هذا يرضيهم، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا، واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضًا في خراسان وما بعدها، واستقرت أمور الدولة وبدأت الفتوحات مِن جديدٍ في عهد عبد الملك بن مروان.

إذن، خلال عشرين سنة تقريبًا ظل البيت الأموي يواجِه ثوراتٍ متعددةٍ وقويةٍ، وقياداتها مِن كبار الزعماء، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ثم تستقر، ثم تبدأ في حركة الفتوحات... فأيُّ البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت؟!

ومِن شهادة التاريخ أيضًا: أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، مع كل تقواه وورعه وزهده، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة؛ إلا أننا لا نجد في أي مرجعٍ تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى، بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة، فقد قال عند الموت: "لو كان لي مِن الأمر شيء ما عدوتُ بها القاسم بن محمد"، فبلغت هذه المقولة القاسم بن محمد، فترحم عليه، وقال: "إن القاسم ليضعف عن أهليه؛ فكيف يقوم بأمر أمة محمد؟!" (الطبقات الكبرى لابن سعد)، لكن الذي تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك؛ بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهدٍ مِن أخيه سُليمان بن عبد الملك على أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز.

إذن لابد أن نعلم أن الواقع يفرض نفسه أحيانًا؛ فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يرى أن القاسم هو الأفضل، ولكن المصلحة كانت تقتضي خلاف ذلك؛ لذا نقول: لعل معاوية -رضي الله عنه- كان معذورًا فيما فعل، أو أنه اجتهد حسب معطيات الواقع آنذاك.

وقد فعل معاوية -رضي الله عنه- ذلك وهو يرى أن هذا هو الأصلح للأمة، وأن مقام اجتماع الأمة وعدم تفرقها أولى مِن أي اعتباراتٍ أخرى؛ فلقد اجتهد -رضي الله عنه- فلعله أصاب، ولعله أخطأ، وفي الحالتين هو مأجور -بإذن الله تعالى-، ولا يصح بأي حال مِن الأحوال إهدار فضل معاوية -رضي الله عنه-؛ فله في الإسلام سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار حسنة، وإن كان الأصل -كما ذكرنا- أن يكون الأمر شورى في المسلمين.


وختامًا، كانت هذه قراءة مختصرة حول بعض مسائل الملك والخلافة لعلها تساعدنا في إبراز بعض حقائق التاريخ.
والله المستعان.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 216.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 211.11 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]