|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 258، 260]. قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. في هذه الآية إثبات ربوبية الله تعالى وألوهيته ووحدانيته وإبطال ألوهية غيره. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الهمزة: للاستفهام، والاستفهام إذا دخل على النفي صار معناه التقرير، أو التقرير والتعجب كما في هذه الآية، والمعنى: ألم تر بقلبك، أي: ألم تعلم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو له ولكل من يصلح له الخطاب. ﴿ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ ضمير الهاء في «ربه» يعود إلى إبراهيم، وقيل: يعود إلى «الذي حاج إبراهيم» قيل: هو ملك بابل النمروذ، وقيل غير ذلك. والمحاجة: المخاصمة والمجادلة بين اثنين أو طائفتين بحيث يورد كل منهما ما لديه من حجج وبراهين وأدلة على ما يقول. أي: ألم تر يا محمد إلى الذي خاصم وجادل إبراهيم، ﴿ في ربه ﴾ أي: في وجود ربه وألوهيته، فإبراهيم عليه السلام يؤمن بالله، أي يؤمن بوجود الله وربوبيته وألوهيته، ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا المحاج لإبراهيم ينكر وجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته. ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ «أن أتاه الله»: مفعول لأجله، أي: لأن آتاه، أي: بسبب أن أعطاه الله الملك التام الذي لا ينازعه فيه أحد. فبدل أن يشكر الله تعالى على ذلك كفر وطغى وتكبر وعلا وتجبر وأنكر وجود الرب المعبود جل وعلا، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]. وقد قيل: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ![]() ويبتلي الله بعض القوم بالنعم[1] ![]() ![]() ![]() ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ هذا وما بعده بيان للمحاجة. ﴿ إذ ﴾: ظرف بمعنى «حين»، أي: حين ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، ويظهر من السياق- والله أعلم- أن هذا المحاج سأل إبراهيم: من ربك الذي تدين له وتدعونا إليه؟ فقال: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾. كما قال فرعون لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، فأجاب موسى بقوله: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24]. ومعنى: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: الذي يحيى من يشاء بعد موته وعدمه، ويميت من يشاء بعد إحيائه، أي: المتفرد بالخلق والتدبير والموت والحياة، الفاعل المختار. قال تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [النجم: 44]، وقال تعالى: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾ [عبس: 19 - 22]. ﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ هذا بيان لقوله: (حاج)؛ أي: قال هذا المعاند: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾؛ أي: إن كان ربك يا إبراهيم يحيى ويميت فأنا أحيي وأميت. فادعى الربوبية والألوهية، كما قال فرعون: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]. قيل: إن هذا المحاج أتى برجلين فقتل أحدهما، وقال: أنا أمَتُّ هذا، وأبقى الآخر، وقال: أنا أحييت هذا تمويهًا منه ومغالطة، والحقيقة أنه ما أحيا ولا أمات، فاستبقاؤه لأحدهما ليس إحياءً له، وقتله للآخر إنما هو فعل ما يكون به الموت. وقيل: إنه قال هذا مكابرة منه، فإنه يعلم أنه لا يحيى ولا يميت ولو اجتمع معه جميع الخلق. كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]. ﴿ قَالَ ﴾؛ أي: قال إبراهيم عليه السلام متحديًا هذا المعاند بما لا يقبل التمويه والتزوير والمغالطة: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾. الفاء في قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ ﴾ جواب شرط مقدر، أي: قال إبراهيم: فإن زعمت أو موهت بأنك تحيي وتميت ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾. قال ابن القيم[2]: «فهو جعل نفسه ندًّا لله يحيى ويميت- بزعمه- كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالًا كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزامًا على طرد الدليل إن كان حقًّا». وقال أيضًا: «فإن إبراهيم لما أجاب المحاج له في الله بأنه الذي يحيى ويميت، أخذ عدو الله معارضته بضرب من المغالطة، وهو أنه يقتل من يريد، ويستبقي من يريد، فقد أحيا هذا وأمات هذا؛ فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها إذا كان بزعمه قد ساوى الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقًا فليتصرف في الشمس تصرفًا تصح به دعواه، وليس هذا انتقالًا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كان صحيحة». ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ أظهر في مقام الإضمار فلم يقل: «فبهت»، أو «فبهت هذا المحاج»، بل قال: ﴿ الَّذِي كَفَرَ ﴾ للدلالة على أن كل من أنكر وجحد وجود الرب فهو كافر، أي: فتحير واندهش الذي كفر، فلم يجد جوابًا، وانقطع وبطلت حجته، فغلبه إبراهيم عليه السلام، وأفحمه وأسكته. ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: والله لا يوفق القوم الظالمين، بسبب ظلمهم وكفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]. قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. قرر عز وجل في الآية السابقة تفرده بالربوبية والألوهية، ثم أتبع ذلك بتقرير إثبات تمام قدرته على البعث في هذه الآية والتي بعدها، والذي لا ينكره إلا مشرك. قوله: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ «أو»: عاطفة تفيد التنويع أو التخيير في التشبيه، والعطف على «الذي» في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ ﴾، و«الكاف» للتشبيه، فهي اسم معنى «مثل»، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر على قرية. ويحتمل كون «الكاف» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة من حيث المعنى، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى الذي مر على قرية. ويجوز أن تكون «الكاف» في محل نصب لفعل محذوف تقديره: أرأيت مثل الذي مر على قرية. والقرية اسم للبلد الذي يجمع أناسًا كثيرين، مأخوذ من «القري» وهو الجمع، ومنه سمي «القرو» مجمع الماء. وقد سمى الله عز وجل بذلك مكة، وهي أم القرى وأكثرها ساكنًا وقت نزول القرآن، فقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13]. وقد اختلف في تعيين هذا المار، فقيل: هو عزير، وقيل غير ذلك، كما اختلف في تعيين القرية، فقيل: هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال ولا فائدة من ذكرها؛ لأن المقصود من القصة وأخذ العبرة منها لا يتوقف على ذلك. ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ الواو: حالية، أي: حال كونها خاوية على عروشها، ومعنى ﴿ خَاوِيَةٌ ﴾ أي: خالية من السكان، ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ العروش: جمع عرش، وهو السقف، أي: ساقطة سقفها وجدرانها على عرصاتها. ﴿ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ «أنى»: في محل نصب على الحال، وهي اسم استفهام للاستبعاد، أي: كيف يحيى الله هذه الأرض بعد موتها؟ فاستبعد حسب تصوره ونظره القاصر أن يحيى الله هذه القرية، وأكّد هذا الاستبعاد بتقديم المفعول «هذه» على الفاعل عز وجل «الله». وقيل: ﴿ أَنَّى﴾: ظرف بمعنى «متى» للاستعجال والتمني، أي: متى يحيى هذه الله بعد موتها؟ أي: متى يعيد الله هذه إلى ما كانت عليه قبل موتها؟ ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي: بعد أن ماتت وخوت وخربت. ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ الفاء: استئنافية، و«أماته» أي: قبض روحه مائة عام، أي: مائة سنة. ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ أي: ثم أحياه، ولم يقل: «ثم أحياه» ليقابل «أماته»، لما في التعبير بقوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ من الدلالة على سرعة واكتمال حياته وانبعاثه، كما ينبعث البعير بفك عقاله. ﴿ قَالَ ﴾ أي: قال الله له بعد أن بعثه: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾، «كم» اسم استفهام، وهذا استفهام يراد به الاختبار، لا الاستعلام؛ لأنه تعالى يعلم كم لبث، ولا يخفى عليه شيء، والمعنى: كم مدة، أو كم وقتًا لبثت؟ ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا ﴾ أي: يومًا واحدًا ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ «أو» بمعنى «بل» للإضراب الإبطالي، أي: بل بعض يوم. وإنما قال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾؛ لأن الله تعالى أماته في أول النهار وأحياه في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾. وقيل: إن «أو» للشك. (قال) الله له: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾: «بل» للإضراب الإبطال، أي: لم تلبث يومًا أو بعض يوم، ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾. ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ قرأ حمزة والكسائي: «يتسنَّ» بحذف الهاء من ﴿ يَتَسَنَّهْ ﴾ في حال الوصل، وقرأ الباقون بإثباتها وصلًا ووقفًا. ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ ﴾ أي: فانظر بعينك وبصرك إلى طعامك الذي تأكل منه، وشرابك الذي تشرب منه. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، والشراب: اسم لكل ما يشرب، ولا دليل على ما قيل في تحديد نوع طعامه وشرابه. ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ أي: لم يتغير بمرور السنين الكثيرة عليه. ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾، أي: وانظر بعينك وبصرك إلى حمارك، فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس عليها لحم ولا عصب ولا جلد. فطعامه وشرابه لم يتغير مع مكثه مائة عام، وهذا أمر خارق للعادة خارج عن السنن الكونية المعتادة، وحماره قد صار عظامًا تلوح لا لحم عليها لمرور مائة عام عليه بعد موته، وفقًا للسنن الكونية، فسبحان من جمع بين الأضداد والمتناقضات! وقد أحسن القائل: من ظاهر النعم الكبرى وباطنها ![]() هذا السحاب به ماء به نار ![]() لا ينكر الله إلا جاهلٌ نزق ![]() غر بليد سفيه الرأي ختار[3] ![]() ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ الواو: عاطفة. والمعطوف عليه محذوف دل عليه السياق، والتقدير: لتعلم قدرة الله ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾، واللام في ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ﴾: للتعليل، أي: ولأجل أن نجعلك ﴿ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾. و«جعل» هنا بمعنى «صير» تنصب مفعولين؛ الأول: «كاف المخاطب»، والثاني قوله: «آية للناس»، والجعل هنا كوني، أي: ولنجعلك علامة كونية للناس على قدرتنا التامة على بعث الموتى. ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بالراء، أي: نحييها بعد ما يبست ونخرت وصارت رميمًا، وقرأ الباقون: ﴿ نُنْشِزُهَا﴾ بالزاي، أي: نركب بعضها على بعض، ونربط بعضها ببعض بالعصب. ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾ أي: ثم نسترها باللحم تقوية ووقاية لها. ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ أي: فلما اتضح وظهر له قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وعلى كل شيء، بعد أن عرَّفَهُ الله بما جرى له، ونظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير مع طول المكث، ونظر إلى حماره وقد صار عظامًا، ثم أحياه الله تعالى، فاجتمع عنده آيتان: إبقاء ما يتغير وهو طعامه وشرابه، وإحياء ما كان ميتًا وهو حماره، ولهذا قال: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قرأ حمزة والكسائي بهمزة الوصل على أنه فعل أمر «اعلمْ» فالجملة إنشائية طلبية، أي: قال الله له: «اعلمْ أن الله على كل شيء قدير»، أي: اعلم أيها المخاطب علمًا جازمًا ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. وقرأ الباقون بفتح الهمزة على أنه فعل مضارع: ﴿ أَعْلَمُ ﴾، فالجملة خبرية، أي: قال هذا الرجل الذي أماته الله مائة عام: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، أي: أعلم علمًا جازمًا ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. ويستفاد من القراءتين أنه أُمر أن يعلم، فَعِلم وأقر بالعلم. ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قدّم المتعلِّق؛ لتأكيد شمول قدرته عز وجل لكل شيء، و﴿ قَدِيرٌ ﴾ على وزن «فعيل» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة يدل على أنه عز وجل ذو القدرة التامة على كل شيء، يفعل ما يريد. كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107]، ولا يعجزه شيء لكمال علمه وقدرته، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]. ولهذا قال تعالى مثنيًا على نفسه: ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 23]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. قرر الله عز وجل في الآية السابقة قدرته تعالى التامة على إحياء الموتى، ثم ذكر في هذه الآية كيفية إحيائه للموتى؛ تأكيدًا لكمال قدرته على ذلك. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ الواو: عاطفة، و«إذا»: ظرف بمعنى «حين» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. ﴿ رَبِّ أَرِنِي ﴾، قرأ ابن كثير ويعقوب بإسكان الراء: «أرْني»، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ أَرِنِي ﴾ أي: يا رب أرني، وحذف حرف النداء؛ لأنه معلوم، وللبداءة باسم «الرب» سبحانه والتبرك والتيمن به. والرؤية هنا بصرية تنصب مفعولًا واحدًا، لكن لما دخلت عليه همزة التعدية نصب مفعولين؛ الأول: «الياء»، والثاني: جملة: ﴿ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾. «كيف»: اسم استفهام، وهذا استفهام من إبراهيم معناه: الاستعلام من ربه عن كيفية إحيائه عز وجل الموتى، أي: اجعلني أنظر وأشاهد بعيني كيف تحيى الموتى، وليس سؤالًا عن إمكانية الإحياء ولا عن معناه؛ لأن إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، كما أن معنى الإحياء معلوم عنده، وإنما أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين؛ لأن الخبر ليس كالعيان، بل العيان أقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة»[4]. ﴿ قال ﴾ أي: قال الله عز وجل لإبراهيم: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾، الهمزة: للاستفهام، والواو: عاطفة، وقدمت الهمزة؛ لأن لها الصدارة، ومحلها في الأصل بعد الواو، والتقدير: «وألم تؤمن»، وقيل: هي داخلة على مقدر عطف عليها قوله: «ولم تؤمن»، والأول أولى وأقرب. والاستفهام إذا دخل على النفي كان معناه التقرير والإثبات، فمعنى ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ أي: ألست قد آمنت، ففي الآية تقرير إيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإزالة الشبهة عنه. ﴿ قَالَ بَلَى ﴾ أي: قال إبراهيم: بلى، أي: قد آمنت، و«بلى»: حرف يجاب بها النفي المقرون بالاستفهام لإثباته، كما يجاب عن الاستفهام المجرد عن النفي بـ«نعم». فمثلًا: قدم عليك ضيف فقيل لك: ألم يقدم الضيف؟ فتجيب بقولك: «بلى»، وإن قيل لك: هل قدم الضيف؟ فتجيب بقولك: «نعم». ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، اللام: للتعليل، أي: ولكن لأجل أن يطمئن قلبي، والطمأنينة هي السكون والاستقرار، وفي الحديث: «.. ثم اركع حتى تطمئن راكعًا.. ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا»[5]. أي: حتى تستقر وتسكن. والمعنى: ولكن لأجل أن يزداد قلبي طمأنينة، فأترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وذلك لأن اليقين ثلاث درجات: الأولى: علم اليقين، وهو العلم اليقيني القطعي المتواتر، وأعلى ذلك ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، قال تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ [التكاثر: 5، 6]. والثانية: عين اليقين، وهو أن الإنسان يرى الشيء بعينه، وهو أقوى من علم اليقين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة»، ومن هذا قول تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 7]، ومن هذا سؤال إبراهيم عليه السلام في قوله: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾. والدرجة الثالثة: حق اليقين؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الواقعة: 95]. ﴿ قَالَ ﴾، أي: قال الله إجابة لدعوة إبراهيم: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة وخلف ورويس عن يعقوب: «فصِرهن» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها: ﴿ فَصُرْهُنَّ ﴾. وقد اختلف في جنس هذه الطيور، فقيل: ديك، وطاووس، وغراب، وحمام، وقيل غير ذلك، ولا دليل عل شيء منها، ولا فائدة تتعلق بمعرفته. وتعدادها أدل على كمال قدرة الله تعالى من لو كانت طيرًا واحدًا، وجعلها أربعة لحكمة يعلمها الله تعالى. ومعنى: ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: أمسكهن واضممهن إليك وأوثقهن واذبحهن وقطِّعهن، ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ﴾؛ أي: ثم صير وألق على كل جبل من الجبال حولك، ولم يذكر عدد هذه الجبال وأسماءها، إذ لا فائدة من ذلك. ﴿ منهنَّ ﴾ أي: من مجموع أجزائهن بعد خلطهن. ﴿ جُزْءًا ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الزاي: «جُزُءًا»، وقرأ الباقون بإسكانها: ﴿ جزءًا ﴾، والجزء: البعض والقطعة من الشيء. وتوزيع أجزائهن على أكثر من جبل يكون أظهر وأدل على كمال قدرة الله تعالى. ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ ﴾، أي: ثم نادهن، ﴿ يَأْتِينَكَ ﴾ جواب الأمر: «ادعهن». «سعيًا»: مصدر في موضع الحال، أي: ساعيات سعيًا، وقيل: مصدر لفعل محذوف، أي: يسعين سعيًا. والمعنى: ﴿ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾، أي: طيرانًا؛ لأن سعي الطيور هو الطيران. وقيل المراد بالسعي المشي بسرعة على الأرجل، والأول أولى؛ لأنه أدل على حياتهن حياة كاملة بجميع جوارحهن، وهذا أدل وأظهر على كمال قدرة الله تعالى. ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ الخطاب لإبراهيم عليه السلام، أي: واعلم أن الله ذو العزة التامة، عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة. ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي: ذو الحكم التام: الكوني والشرعي والجزائي، وذو الحكمة البالغة: الغائية والصورية. [1] البيت لأبي تمام؛ انظر: «ديوانه» (ص577). [2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 415- 416). [3] هذان البيتان للشاعر العراقي وليد الأعظمي في ديوانه: «الزوابع»، انظر: «المجموعة الكاملة» (ص135). [4] أخرجه أحمد (1/ 215)، والحاكم في التفسير (2/ 380)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. [5] أخرجه البخاري في الآذان، وجوب القراءة للإمام والمأموم (757)، ومسلم في الصلاة، وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397)، وأبو داود في الصلاة (856)، والنسائي في الافتتاح (884)، والترمذي في الصلاة (303)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1060)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 264، 266]. قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. هذه الآية أشبه بالتفسير والبيان للمضاعفة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وفيها مع الآيات بعدها عود على الحض على الإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 254]. قوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، «المثل» يطلق على «الشبه» ويطلق على «الصفة»، فإن ذُكر المماثِل فالمراد به الشبه، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِر ﴾ [آل عمران: 117]. وإن لم يذكر المماثِل فالمراد به الصفة، كما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [محمد: 15]. وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الآية، تقدير إما في المبتدأ وهو المشبه، فيكون التقدير: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وإما في الخبر وهو المشبه به، فيكون التقدير: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل باذر حبة؛ ليطابق الممثَّلُ الممثَّل به، وفي هذا الطيِّ دليل على بلاغة القرآن الكريم ليكون المثل صالحًا للتمثيل بالمنفق وبالنفقة. ومعنى ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، أي: يبذلونها ويخرجونها، والأموال جمع مال، وهو كل ما يتمول من النقود والأعيان والمنافع. ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «سبيل الله»: شرعه وصراطه وطريقه المؤدي إليه وإلى مرضاته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41]. والمعنى: مثل الذين ينفقون أموالهم طاعة لله تعالى، خالصة لوجهه، وفقًا لشرعه، بكونها من الطيب الحلال، وفي مواضعها التي شرع الله تعالى الإنفاق فيها كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سبل الخير، من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]. ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الكاف للتشبيه، والمثل: الشبه، أي: كشبه حبة، و«الحبة» واحدة الحَبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات كالبر ونحوه. ﴿ أَنْبَتَتْ ﴾؛ أي: بذرت فأنبتت وأخرجت ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾، أي: تشعب منها سبعة سيقان في كل ساق سنبلة، فصارت سبع سنابل. و«سنابل» جمع «سُنْبلة» وجمعت على «سنابل» جمع كثرة؛ لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، بينما جمعت جمع قلة في قوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْر ﴾ [يوسف: 43]؛ لأن السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير. ﴿ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾؛ أي: في كل سنبلة من هذه السنابل مائة حبة، فيكون مجموع حبوب هذه السنابل السبع سبعمائة حبة، وهكذا ثواب الإنفاق في سبيل الله ينميه اللهُ عز وجل ويضاعفه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به..». وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة»[1]. ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد مع حذف الألف هنا وفي جميع القرآن: «يُضَعِّفُ»، وقرأ الباقون بالإثبات والتخفيف ﴿ يُضَاعِفُ ﴾. والمضاعفة الزيادة، أي: والله يضاعف لمن يشاء هذه المضاعفة إلى سبعمائة، وما هو فوق ذلك، إلى أضعاف كثيرة، حسب حكمته عز وجل، وحسب إخلاص المنفق في عمله وغير ذلك. ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، واسع في جميع صفاته. ﴿ عَلِيمٌ﴾؛ أي: ذو علم واسع محيط بكل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]. ومن سعة علمه أنه يعلم من يستحق هذه المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها. قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. بيَّن عز وجل في الآية السابقة مضاعفة أجر المنفقين في سبيله إلى سبعمائة ضعف، ثم أتبع ذلك بالتعريض بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى مؤكدًا ما للمنفقين من الأجر عند ربهم وانتفاء الخوف والحزن عنهم. قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، كرر هذا تأكيدًا لوجوب الإخلاص في الإنفاق في سبيل الله، وأن تكون النفقة مما شرع الله تعالى، وفيما شرع عز وجل. وأيضًا ليبني عليه ما بعده، وهو قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾. «ثم»: للتراخي تدل على أن «المنّ» والأذى له أثره في إبطال الصدقة حتى ولو تراخى عن الصدقة، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: ثم لا يتبعون الذي أنفقوه، أو ثم لا يتبعون إنفاقهم. ﴿ مَنًّا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم كل مَنٍّ، أي: لا يتبعون ما أنفقوا، أي شيء من المن قل أو كثر على من أنفقوا عليه. و«المن» الاعتداد بالإحسان، وإظهار الترفع على المنفَق عليه، كأن يقول له: أما أعطيتك كذا وكذا، أو يعدد عليه أياديه. وقد يكون المنُّ بالقلب بأن يعتقد المنفِق بأن له فضلًا على المنفَق عليه دون أن يصرح بذلك. فكل هذا لا يجوز والفضل لله عز وجل، وما يخرجه الإنسان من ماله من نفقة واجبة أو مستحبة، فهو من حقوق المنفَق عليه، لا منة فيها للمنفِق ولا فضل، بل الفضل والمنة في ذلك لله وحده. ﴿ وَلَا أَذًى ﴾؛ أي: ولا أذى لمن أنفقوا عليه كأن يذكر المنفِق ذلك عند الناس، فيقول مثلًا: أنفقت على فلان كذا، وأعطيته كذا، أو يريد من المنفَق عليه أن يكافئه كأنه عمل إليه معروفًا، ونحو ذلك، أو يفعل معه مكروهًا يحبط ما سلف منه من إحسان، وقدَّم «المن»؛ لأنه أكثر. ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الأجر: ما يُعطاه العامل مقابل عمله، والمعنى هنا: لهم ثواب إنفاقهم وعملهم. وقدم الخبر «لهم»: وسمى ثوابهم أجرًا؛ لضمانه عز وجل له وتكفله به، وأنه لا يضيع عنده. كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171]. وجرد الخبر «لهم» من الفاء؛ لبيان أنهم المستحقون لهذا الأجر، دون غيرهم ممن ينفقون رياءً أو يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى. ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي: عند ربهم في الجنة، وفي كون هذا الأجر عند ربهم، خالقهم ومالكهم ومدبرهم، دليل على عنايته عز وجل بهم، وأنهم بجواره، ودليل على عظمة هذا الأجر؛ لأنه من ربهم العظيم، والأجر والعطاء على قدر المعطي، وكما قيل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ![]() وتأتي على قدر الكرام المكارم ![]() ![]() ![]() ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ مما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة. ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلفوا ولا على ما مضى وما فاتهم من الدنيا؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك. فاجتمع للمنفقين في سبيل الله تعالى المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، والثواب العظيم عند ربهم، مع انتفاء الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم، نسأل الله تعالى من فضله. قوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾، عرَّض عز وجل في الآية السابقة بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمَن والأذى، ثم أتبع ذلك ببيان أن القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. قوله: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ قول: مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه وصف بقوله: ﴿ مَعْرُوفٌ ﴾ أي: قول طيب، ووعد حسن واعتذار جميل، أو دعاء لمن سأل النفقة بقوله: «الله يرزقك وييسر أمرك»، ونحو ذلك مما يجبر خاطر السائل. ونكر ﴿ قَوْلٌ ﴾ للتقليل، أي: قول معروف وإن قل. ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ لمن أساء بالستر عليه والتجاوز عنه، سواء كان سائلًا أو غيره ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]. و﴿ خَيْرٌ ﴾: خبر المبتدأ ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾، أي: خير مطلقًا للمسؤول وللسائل ﴿ مِنْ صَدَقَةٍ ﴾: الصدقة: ما يبذل تقربًا إلى الله تعالى من مال وغيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»[2]. والمراد بالصدقة في الآية - والله أعلم - الصدقة بإنفاق المال بدلالة السياق. والمعنى أن القول الطيب المعروف شرعًا وعرفًا من الاعتذار للمحتاج وتطييب خاطره ونحو ذلك ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾. وقوله: ﴿ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ في محل جر صفة لـ«صدقة»، أي: يتبعها أذى من المتصدِّق للمتصدق عليه؛ لأن ذلك يحبطها ويبطل أجرها، ويصير الإحسان إساءة. ولم يذكر «المنّ»؛ لأن الأذى يشمله، فإذا لم تحصل الصدقة إلا مع الأذى، فالقول المعروف الطيب الحسن، والمغفرة بالستر لذنب من أساء والتجاوز عنه خير من تلك الصدقة. بل إن القول المعروف يقوم مقام الصدقة عند عدم القدرة عليها، كما قيل: لا خيل عندك تهديها ولا مال ![]() فليسعد النطق إن لم تسعد الحال[3] ![]() ![]() ![]() قال ابن القيم: «فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى، حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة»[4]. ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ أي: والله غني بذاته غنًى مطلقًا، من جميع الوجوه عن جميع خلقه، لا يحتاج إلى أحد منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6]. والصدقة لا تناله ولا تنفعه، وإنما ينتفع بها صاحبها، كما قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37]. يتبع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾. [البقرة: 261 - 266]. 1- ضرب الأمثال في القرآن الكريم بتشبيه المعقول بالمحسوس؛ لتقريب المعاني، وهو وسيلة من وسائل الإيضاح والبيان، ومن دلائل إعجاز القرآن الكريم وبلاغته؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ الآية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وفي هذا دلالة على إثبات القياس. 2- إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾، فالإنفاق إنما يكون مما يملك الإنسان وهو ملك نسبي إضافي؛ لأن الإنسان وما ملك، ملك لله تعالى. 3- أن المعتبر من الإنفاق والأعمال ما كان خالصًا لله تعالى موافقًا لشرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾. 4- وجوب معرفة سبيل الله وشرعه ليكون العمل موافقًا له. 5- سعة فضل الله تعالى وكرمه وجوده حيث يُنمي للمنفق نفقته وثوابها إلى سبعمائة ضعف أو أكثر. 6- قدرة الله تعالى التامة ونعمته العظيمة على العباد بجعل هذه الحبة تنتج سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فتكون سبعمائة حبة أو أكثر. 7- مضاعفة الله عز وجل ثواب الإنفاق بلا حد لمن يشاء من عباده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، وذلك حسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام، وحسب نفقته ونفعها. 8- فضل الإنفاق في سبيل الله والإغراء فيه، والثناء على المنفقين ترغيبًا فيه وحثًّا عليه. 9- إثبات المشيئة وهي الإرادة الكونية لله عز وجل المقترنة بالعلم والحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾[البقرة: 269]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]. 10- سعة الله عز وجل، وسعة صفاته، فهو سبحانه واسع الفضل والجود والعطاء، واسع المغفرة والعفو والرحمة واسع الحلم، واسع الصفات جميعًا؛ لقوله: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. 11- إثبات أن الله عز وجل ذو العلم الواسع لكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]. 12- تأكيد الترغيب في الإنفاق خالصًا لله تعالى ووفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. 13- التعريض بذم إتباع الإنفاق بالمن والأذى؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾. 14- عظم أجر المنفقين في سبيل الله؛ لأنه عند ربهم العظيم ذي الفضل العظيم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾. 15- تكفل الله عز وجل وضمانه لثواب المنفقين، وتأكيد ذلك بتقديم الخبر في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ وتسميته «أجرًا» وكونه عنده. 16- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة للمنفقين أموالهم في سبيله بلا من ولا أذى، وتشريفهم بإضافة اسم «الرب» إلى ضميرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾. 17- سلامة المنفقين من الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. 18- أن من أتبع نفقته بالمن والأذى لا أجر له، وهو عرضة للخوف والحزن؛ لمفهوم قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾. 19- لا بد لقبول الصدقة من توفر الشروط السابقة وهي: الإخلاص والمتابعة، والسلامة من المبطلات اللاحقة، وهي المن والأذى. 20- أن الإحسان بالقول المعروف الطيب، والمغفرة والعفو عمن أساء خير من صدقة يتبعها أذى؛ لقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾. 21- فضل قول المعروف من الاعتذار للسائل بما يطيب خاطره، أو وعده وعدًا حسنًا، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾. 22- فضل المغفرة والعفو عمن أساء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]. 23- إثبات تفاضل الأعمال الصالحة؛ لقوله تعالى: ﴿ خَيْرٌ ﴾، وهذا دليلٌ على زيادة الإيمان ونقصانه. 24- إثبات اتصاف الله تعالى بالغنى بذاته، غنى مطلقًا، من جميع الوجوه، عن جميع خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267]. فهو سبحانه الغني عن خلقه المغني لمن أنفق وتصدق، المخلف عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]. 25- إثبات حلم الله عز وجل الواسع؛ لقوله تعالى: ﴿ حَلِيمٌ ﴾، فهو- سبحانه وتعالى- حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله لعله يتوب. كما أنه تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالحلم والمغفرة والعفو عمن أساء إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾. 26- العناية والاهتمام بخطاب المؤمنين وتشريفهم وتكريمهم بندائهم بوصف الإيمان، والحث على الاتصاف بهذا الوصف وأن عدم المن والأذى بالصدقات من مقتضيات الإيمان، والمن والأذى بها نقص في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾[البقرة: 267]. 27- تحريم اتباع الصدقات بالمن والأذى، وأن ذلك يبطلها ويحبط ثوابها؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»[1]. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر»[2]. وفي هذا دلالة أن الحسنة قد تحبط بالسيئة، كما قال تعالى في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]. 28- بلاغة القرآن الكريم، وبلوغه الغاية في التنفير عما يريد التنفير عنه حيث شبه من يُتبع صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه مطر غزير فصار صلدًا أملس؛ لقوله تعالى: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾. وفي هذا بيان شدة خطر المن والأذى بالصدقة حيث شبه من يفعل ذلك بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر. 29- ذم الرياء وتحريمه وخطره، وأنه مبطل للعمل وينبئ عن النفاق، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ﴾ الآية. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». فسئل عنه فقال: «الرياء»[3]. وقال عز وجل في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»[4]. 30- إثبات اليوم الآخر يوم القيامة، وأن الإيمان به من أعظم أركان الإيمان، ولهذا يقرن كثيرًا في القرآن الكريم بالإيمان بالله تعالى. 31- عدم قدرة من يتبع الصدقة بالمن والأذى، ومن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر على شيء مما كسبوه سوى الخسران والحسرات؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾. 32- حرمان الكافرين بسبب كفرهم من هداية الله تعالى؛ هداية التوفيق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾. 33- هداية الله وتوفيقه للمؤمنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾. 34- تأكيد عظم فضل الإنفاق والإغراء فيه والحث عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ الآية. 35- إثبات صفة الرضا لله عز وجل وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئته عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾. 36- ينبغي أن يكون الإنفاق عن طيب نفس، واطمئنان ورضا وثقة بالخلف من الله وبرهان على قوة الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾. 37-أنه كلما كانت الجنة والبستان في ربوة ومكان مرتفع كان ثمرها أكثر وأجود حيث تأخذ نصيبها من جودة التربة والشمس والهواء؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾؛ كما قال تعالى في سورة النور: ﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾ [النور: 35]. فإن أصابها «وابل» وهو المطر الغزير آتت أكلها ضعفين، وكذا إن أصابها «طل» وهو دون الوابل؛ لأنها بسبب جودة أرضها ومكانها المرتفع تعوض ما نقص من الماء وتأتي ثمرتها كاملة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾. 38- بركة المطر وعظيم نفعه وآثاره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾. كما قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 9 - 11]، وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50]. 39- علم الله عز وجل واطلاعه على جميع ما يعمل الخلق، وعلى كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، وفي هذا وعد لمن أطاع الله، ووعيد لمن خالف أمر الله؛ لأن مقتضى علمه عز وجل أن يحصي على العباد أعمالهم ويحاسبهم ويجازيهم عليها، خيرها وشرها. 40- تأكيد التنفير من المن بالصدقة بتشبيه المان بها بحال من كانت له جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد كبر وذريته ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وهو في حال لا يستطيع القيام عليها؛ لكبره ولا ذريته لضعفهم فخسرها أحوج ما كان إليها، ولم يبق لديه إلا الحسرات عليها، وهذا حال المان بالصدقة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾. فكما أن الإنسان لا يود أن تكون له هذه الجنة والتي تنتهي بهذه النهاية المرة، فكيف يتبع الإنسان صدقته بالمن والأذى فتحبط فتكون نهايته الخسران والحسرة. 41- مدى ضعف الإنسان إذا كبر وله ذرية ضعفاء، فلا هو قادر على القيام بما يصلحهم، ولا هم قادرون على القيام بمصالحه. 42- إقامة الحجة على الخلق ببيان الآيات وتفصيلها وإيضاحها؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾. 43- الحث والترغيب في التفكر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تتفكروا. 44- إثبات التعليل لأحكام الله تعالى وأفعاله، وأن ذلك كله لحكمة. [1] أخرجه مسلم في الإيمان (106)، وأبو داود في اللباس (4087)، والنسائي في الزكاة (2563)، والترمذي في البيوع (1211)، وابن ماجه في التجارات (2208). [2] أخرجه النسائي في الأشربة (5672). [3] أخرجه أحمد (5/ 429) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. [4] سبق تخريجه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 258، 260]. 1- تقرير وإثبات ما جرى من المحاجة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في ربه والتعجيب من ذلك. وفي ذلك تقرير وإثبات ربوبية الله عز وجل، ووحدانيته، وألوهيته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ الآية. 2- التنويه بفضل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- ودعوته. 3- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لإبراهيم وتشريفه بإضافة اسم «الرب» عز وجل إلى ضميره؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي رَبِّهِ ﴾. 4- أن الملك كله لله عز وجل، يؤتيه من ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾، كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]. 5- أن الملك والمال والجاه والمنصب ونحو ذلك قد يكون سببًا للكفر والطغيان؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [التوبة: 75]. 6- جواز المجادلة والمناظرة لإثبات العقائد، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، بل قد يندب ذلك، وقد يجب؛ لأن إبراهيم عليه السلام ناظر هذا المحاج، فهذا من مقامات الرسل عليهم الصلاة والسلام. 7- اعتزاز إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- بأعظم ما يعتز به المخلوق وهو ربوبية الله عز وجل له؛ لقوله تعالى: ﴿ قال إبراهيم ربي ﴾. 8- إثبات صفتي الإحياء والإماتة لله عز وجل، وأن ذلك بيده عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، وقوله: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾، وقوله: ﴿ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾. كما قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران: 156]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 56]. وفي هذا إثبات صفات الأفعال الاختيارية لله عز وجل والرد على منكريها من أهل البدع. 9- أن الإحياء والإماتة من أعظم صفات الربوبية، لهذا خصها إبراهيم عليه السلام بالذكر، وذلك لما في ذلك من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، وما يحمل على قوة التعلق بالله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه وحده عز وجل. 10- شدة مكابرة هذا المحاج لإبراهيم، وجرأته في إنكار الحق، وادعاء الباطل، مما يدل على أن الإنسان قد يرتكس بسبب الكفر والغرور، ويصل إلى غاية لا تتصور من الطغيان، حيث بلغ الحال بهذا المحاج أن يقول: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ وهو يعلم أنه كاذب. 11- قوة إبراهيم عليه السلام في المناظرة وحكمته، حيث فرع على الحجة السابقة ما هو أقطع لحجة هذا المغالط المعاند بعد أن زعم أنه يحيى ويميت، فجعل نفسه ندًا لله تعالى، ولهذا ألزمه إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾. 12- قدرة الله عز وجل التامة على تصريف هذا الكون وتدبير الشمس وغيرها من الأفلاك. 13- إثبات حركة الشمس وجريانها في فلكها، خلافًا لمن زعم أنها ثابتة. 14- حيرة هذا المحاج وانبهاته وانقطاعه أمام حجة إبراهيم الدامغة، لما قال له: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾. 15- أن الباطل لا يثبت أمام الحق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، وقال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]. 16- أن من أنكر وجحد وجود الرب الخالق الملك المدبر، أو ادعى أنه يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الرب تعالى، كالإحياء والإماتة، فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾. 17- حرمان الظالمين من هداية الله تعالى الخاصة، وهي هداية التوفيق بسبب ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. 18- التحذير من الظلم، وأن من أعظم الظلم المحاجة بالباطل، وجحود الرب والكفر به تعالى. 19- إثبات هداية التوفيق لله تعالى وأنه يهدي من أقر بربوبيته وآمن واتبع الحق؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. 20- إثبات قدرة الله عز وجل التامة على إحياء الموتى والبعث والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ الآية. 21- عناية القرآن الكريم في تقرير وبيان وإثبات قدرة الله عز وجل التامة على إحياء الموتى بتعداد وتنويع الأدلة والبراهين عليها، كما في هذه الآية، والتي بعدها. 22- جهل الإنسان، وأنه قد يستبعد بسبب ذلك ما ليس بمستبعد على الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾. 23- حكمة الله تعالى ورحمته في جعله لهذا الرجل دليلًا في نفسه؛ ليتبين له تمام قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، حيث أماته عز وجل مائة عام، ثم بعثه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾. 24- إثبات القول والكلام لله عز وجل بحروف وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾، وقوله تعالى في الآية الأخرى لإبراهيم: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر ﴾ الآية. 25- في سؤال الله عز وجل هذا الرجل بعد بعثه: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ﴾ امتحان له وتقرير وبيان لجهله مدة لبثه. 26- جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئًا؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾. 27- عدم تعنيف الجاهل، وتعليمه برفق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾، ولم يقل له: «أخطأت». 28- التوجيه إلى النظر والتأمل في آيات الله تعالى الكونية، مما يزيد العبد إيمانًا ويقينًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾. 29- إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾، فأضاف إليه هذه الأشياء إضافة تملك. 30- إثبات الكرامات وخوارق العادات، لبيان كمال قدرة الله تعالى، وتكريمه عز وجل لمن وقعت له هذه الكرامة وتأييد الحق. حيث بقي هذا الرجل وشرابه مائة عام لم يتغير، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى على إجراء ما يخالف بعض السنن الكونية المعتادة، لكن هذا لا يبرر الدعاء بما يخالف السنن الكونية؛ كقول بعضهم في الدعاء على الأعداء من الكفار: «اللهم جمِّد الدماء في عروقهم»، ونحو ذلك مما لم تجر به سنن الله الكونية، فهذا من الاعتداء في الدعاء، وإن كان الله عز وجل لا يعجزه شيء. 31- تأكيد قدرة الله تعالى التامة الكاملة لهذا الرجل حيث جمع الله له في هذه الآيات الكونية بين الشيء وضده، فطعامه وشرابه لم يتغير مدة مائة عام، وحماره قد صار رفاتًا وعظامًا. 32- جواز الانتفاع بالحُمُرِ، وامتلاكها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾. 33- جعل الله عز وجل هذا الرجل وما حصل له آية للناس على قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾. كما قال تعالى في مريم وابنها عيسى عليهما السلام: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91]. 34- الحث على التدقيق في النظر والتأمل في آيات الله على وجه التفصيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾. 35- حكمة الله تعالى في كسو العظام باللحم تقوية ووقاية لها؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ [المؤمنون: 14]. 36- فضل التدبر والنظر في آيات الله وعظيم ثمرته، إذ به يتبين الحق، ويحصل العلم واليقين، وتنجلي غشاوة الغفلة والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهذا بعد النظر والتدبر. 37- عموم قدرة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. ولهذا قدم المتعلِّق تأكيدًا لعموم وشمول قدرته عز وجل لكل شيء. وفي هذا رد على المعتزلة القدرية الذين يعتقدون أن الخلق يستقلون بخلق أفعالهم، وأنها خارجة عن قدرة الله تعالى، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. 38- وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، على قراءة من قرأ «اعلم» على أنها فعل أمر. 39- تذكير هذه الأمة بسؤال إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيى الموتى ليطمئن قلبه، وبيان الله عز وجل له ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ الآية. 40- فضل إبراهيم وشرفه وعظم مكانته عند الله تعالى، حيث كلم ربه، ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾، وكلمه ربه بقوله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾. فأجاب إبراهيم بقوله: ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، فأجابه ربه بقوله: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ﴾ الآية. 41- أن من أعظم ما يدعى ويتوسل به إلى الله عز وجل ربوبيته، والتي معناها الخلق والملك والتدبير؛ ولهذا كان أكثر دعاء الأنبياء عليهم السلام باسم «الرب» وصفة «الربوبية»؛ وذلك؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية. 42- رغبة إبراهيم عليه السلام أن يجمع الله له مع «علم اليقين» في إحياء الله عز وجل الموتى «عين اليقين»، فيرى كيفية إحيائه عز وجل للموتى؛ لأن «عين اليقين» أقوى، ولهذا قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾. 43- تقرير وإثبات إيمان إبراهيم عليه السلام بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى﴾. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»[1]. أي: أن إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولو شك لكنا أحق وأولى بالشك منه، مع أننا لم نشك في ذلك، فإذا انتفى الشك في حقنا، فانتفاؤه في حق إبراهيم أحق وأولى. وليس في هذا دلالة على أن إيمان إبراهيم أكمل من إيمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا على سبيل التواضع، وللتأكيد على نفي الشك من إبراهيم- عليه الصلاة والسلام. 44- إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31]، وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [التوبة: 124]. 45- استجابة الله عز وجل لسؤال إبراهيم عليه السلام كرامة له ورحمة بالعباد، حيث أراه كيف يحيى الموتى؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾، وبهذا جمع الله لإبراهيم عليه السلام بين علم اليقين وعين اليقين. 46- تمام قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. 47- عناية القرآن الكريم بذكر مضمون القصص والمقصود منها دون ذكر أصحاب القصة ومكان وقوعها وزمانه وغير ذلك من التفاصيل التي لا فائدة في ذكرها. فلم يذكر في القصة الأولى اسم الذي حاج إبراهيم في ربه، ولم يذكر في القصة الثانية اسم الذي مر على القرية، ولا اسم القرية، ولا نوع طعامه وشرابه، ونحو ذلك. ولم يذكر في القصة الثالثة أسماء الطيور التي أحياها لإبراهيم، ولا أسماء الجبال التي وضع عليها أجزاءهن. وكل هذا يدل على أن المقصود التأمل في القصص وأخذ العظة والعبرة منها، دون الانشغال بما سوى ذلك مما طوي ذكره. 48- وجوب العلم بأن الله عزيز حكيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. 49- إثبات صفة العزة التامة لله تعالى؛ عزة الامتناع، وعزة القوة، وعزة القهر والغلبة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾. 50- إثبات صفة الحكم التام لله تعالى: الحكم الكوني، والشرعي، والجزائي، والحكمة البالغة: الغائية والصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ حَكِيمٌ﴾. [1] أخرجه البخاري في الأنبياء (3372)، ومسلم في الإيمان (151)، وابن ماجه في الفتن (4026) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#5
|
|||
|
|||
![]() بارك الله فيك ونفع بك
|
#6
|
||||
|
||||
![]() وقال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها»[5]. ﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويفسح له لعله يتوب، قال ابن القيم[6]: وهو الحليم فلا يعاجل عبده ![]() بعقوبة ليتوب من عصيان ![]() ![]() ![]() ومن حلمه عز وجل ألا يعاجل من عصاه بإتباع الإنفاق بالمن والأذى ونحو ذلك بالعقوبة، فهو عز وجل غني عن خلقه، ويغني من أنفق وتصدق، وهو سبحانه حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بمنع النفقة أو المن فيها أو الأذى، ويحب الحلم من عباده بالمغفرة والعفو عمن أساء. قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾. عرَّض عز وجل في الآية السابقة بالذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى، ثم أتبع ذلك بالتصريح بنهي المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وتشبيه من يفعل ذلك بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتشبيه هذا بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾. قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾. الإبطال للشيء إزالته وإذهابه بعد وجوده، قال تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118]. قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ![]() وكل نعيم لا محالة زائل ![]() ![]() ![]() و(الصدقات) جمع صدقة، وهي ما يبذله الإنسان من النفقات الواجبة والمستحبة، قيل: سميت صدقات؛ لدلالتها على صدق إيمان باذلها، وفي الحديث: «والصدقة برهان»[7]، أي: برهان على صدق صاحبها وإيمانه. ﴿ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب المن على من تصدقوا عليه بالترفع والتعالي عليه، وإظهار أن لهم المنة والفضل عليه، علمًا أن الفضل لله عز وجل وحده، ولو كان هناك شيء من الفضل لأحدهما لكان للمتصدَّق عليه لقبوله الصدقة. ﴿ وَالْأَذَى ﴾ معطوف على «المن» أي: وبسبب الأذى للمتصدَّق عليه بذكر ذلك للناس، أو إلحاق مكروه به ونحو ذلك، فكل واحد من المنَّ والأذى مبطل للصدقة. ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ الكاف للتشبيه، أي كإبطال الذي ينفقه ماله، فشبه الإبطال بالإبطال، أو لا تكونوا كالذي ينفق له، فشبه المنفق بالمنفق. ﴿ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ «رئاء»: مفعول لأجله، وهو مصدر راءى يرائي مرآءة ورياءً. أي: كالذي ينفق ماله لرئاء الناس، أي: لأجل أن يراه الناس فيمدحوه على ذلك، ويصفوه بالكرم والصلاح، ونحو ذلك، وليس ذلك لوجه الله، ورجاء ثوابه وخوف عقابه. والرياء مبطل للعمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8]. ﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُنْفِقُ ﴾، أي: ولا يؤمن بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه. ﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: ولا يؤمن باليوم الآخر يوم القيامة الذي هو آخر الأيام وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء. وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل ويحفز على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء. فشبه عز وجل المبطل لصدقته بالمن والأذى بالمنافق الذي ينفق ماله ليراه الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو ينفق وهو كاره ولا تنفعه نفقته، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]. ﴿ فَمَثَلُهُ ﴾؛ أي: كمثل هذا المنفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾، أي: كمثل حجر أملس ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ يؤمل أن ينبت ﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾؛ أي: مطر غزير، شديد الوقع، سريع التتابع. ﴿ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾، أي: فترك الوابل هذا الصفوان «صلدًا»، أي: أجرد أملسًا لا شيء عليه من تراب ولا نبات ولا غير ذلك. فشبه عز وجل الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في بطلان عمله وزواله وذهابه بحجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾، فأصابه مطر شديد فأزال هذا التراب، فلم يُنبت شيئًا بل ذهب بذره ضائعًا لعدم إيمانه وإخلاصه. وقد أحسن القائل: ثوب الرياء يشف عما تحته ![]() فإذا اكتسيت به فإنك عاري[9] ![]() ![]() ![]() ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ واو الجماعة في «يقدرون» تعود على «الذي»؛ لأنه اسم موصول يفيد العموم، فلفظه مفرد ومعناه الجمع. و«شيء»: نكرة في سياق النفي، فيعم أيّ شيء، مهما قل أو كثر صغر أو كبر. و«ما» في قوله: ﴿ مما ﴾: موصولة أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه وعملوه، أو من كسبهم وعملهم، أي: من ثوابه لبطلانه وزواله. فشبه الله عز وجل المبطل صدقته بالمن والأذى بالمنافق المنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في عدم انتفاعه بما أنفق، ومثَّله بصفوان عليه تراب فأصابه مطر شديد، فتركه صلدًا أملسَ لا شيء عليه. ووجه الشبه في هذا هو عدم قدرة المُتْبع صدقته بالمن والأذى والمنفق رياء مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر على شيء من ثواب ما عملوه؛ لبطلانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]. وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]. ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، أي: لا يوفق الله تعالى الكافرين بسبب كفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97]. قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. ذكر عز وجل في الآية السابقة مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم أتبعه بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم بالإخلاص والصدق. قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾. قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ «ابتغاء»: مفعول لأجله، أي: طلب مرضاة الله تعالى، وإخلاصًا لله، أو حال، أي: طالبين بذلك مرضاة الله ومخلصين له. ﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ معطوف على «ابتغاء»، أي: تصديقًا وتيقنًا من أنفسهم بأن الله تعالى شرع ذلك ويجازي عليه، ودليلًا على صدق إيمانهم. كما في الحديث: «الصدقة برهان»، أي: برهان على إيمان وصدق مخرجها. وأيضًا: احتسابًا من أنفسهم ذلك عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»[10]. قال ابن القيم[11]: «فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان، إن نجا منهما كان مثله ما ذكر في هذه الآية، أحدهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، الآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله تعالى، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها». ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ﴾، أي: كمثل بستان كثير الأشجار، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾. قرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء: ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾، وقرأ الباقون بضمها: «برُبوة». أي: بمكان مرتفع تأخذ نصيبها من الشمس والهواء الطلق، و«الربوة»: المكان المرتفع، يقال ربا الشيء إذا زاد، كما قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]. ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ أي: أصاب هذه الجنة وابل، و«الوابل»: المطر الغزير الكثير. ﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أُكْلَها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وقرأ الباقون بضمهما معًا: ﴿ أُكُلَهَا ﴾. أي: أعطت وأنتجت ﴿ أُكُلَهَا ﴾: ثمرها، قال تعالى: ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾ [الرعد: 35]؛ أي: ثمرها الذي يؤكل. ﴿ ضِعْفَيْنِ﴾؛ أي: ضعفي ما كان يؤتي غيرها، أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ارتفاعها ونزول الوابل عليها، والمعنى: فآتت أكلها مثلين؛ كما قال تعالى: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ [الأحزاب: 31]. والمعنى: ومثل الذين ينفقون أموالهم طلب مرضاة الله تعالى وتثبيتًا من أنفسهم في مضاعفة ثواب نفقاتهم كمثل جنة بمكان مرتفع من الأرض بارزة للشمس والهواء نزل عليها مطر غزير كثير فجاء أكلها وثمرها ضعفين. قال ابن القيم[12]: «فهذا حال السابقين المقربين»، فعمل هؤلاء المنفقين ضوعف بسبب صدقهم في طلب مرضاة الله تعالى والتثبيت، وأُكُل تلك الجنة وثمرها جاء مضاعفًا؛ لكونها في مكان مرتفع تأخذ كفايتها من الشمس والهواء، مع نزول المطر الغزير عليها». ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي: فإن لم يصب هذه الجنة وينزل عليها ﴿ وَابِلٌ ﴾ أي: مطر كثير غزير ﴿ فَطَلٌّ ﴾: جواب الشرط «إن»، و«الطل»: المطر الخفيف. والمعنى ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾؛ أي: فطل يصيبها أو فيصيبها طل، ويكفيها عن الوابل الكثير في إخراج بركتها. لارتفاع مكانها وكرم منبتها وطيب مغرسها، وهكذا نفقات الذين ينفقون إخلاصًا لله تعالى وصدقًا يضاعفها الله تعالى لهم حتى وإن قلت. قال ابن القيم: «وهذا حال الأبرار والمقتصدين في النفقة». ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم بصير، أي: مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية؛ لأنه عز وجل مطلع على كل شيء لا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]. فهو عز وجل يعلم المنفق المتبع نفقته بالمن والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، وسيحصي ذلك ويحاسبهم ويجازيهم عليه. قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾. شبه عز وجل حال من يبطل صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم شبهه ثانيًا بحال صاحب جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد أدركه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت مع شدة حاجته وذريته إليها، فماذا يكون حاله؟ تكون الدنيا عليه أضيق ما يكون ويتحسر على جنته أشد الحسرة، وفي هذا من التنفير من إتباع الصدقة بالمن والأذى ما لا يخفى. قوله: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الاستفهام للإنكار والنفي، و«يود» يحب، والمعنى: لا يود أحدكم هذا. ﴿ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؛ أي: بستان كثير الأشجار والثمار، وجاء ﴿ أَيَوَدُّ ﴾ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار والنفي العام، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من لو قال: «أتودون». و﴿ أَيَوَدُّ ﴾ أبلغ في الإنكار والنفي من لو قيل: «أيريد»؛ لأن محبة هذه الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها. ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾: النخيل والأعناب من أفضل وأنفع الأشجار، وثمرها من أنفع الثمار، قوتًا وغذاءً، وفاكهةً وحلوى وشرابًا ودواءً، يؤكل رطبًا ويابسًا. قيل: النخيل أنفع وأفضل ولهذا قدَّمه، وقيل: العنب، وقيل: كل منهما في أرضه وموضعه أفضل من الآخر. ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: تجري من تحت أشجارها الأنهار العذبة، وهذا أكمل لها وأعظم في قدرها. ﴿ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي: من جودة هذه الجنة ونخيلها وأعنابها إنتاجها لصاحبها من كل الثمرات المتنوعة الأشكال والألوان والطعوم من النخيل والأعناب وغيرها، كما قال تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33]. قوله تعالى: ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ الواو: حالية، أو عاطفة، أي: وأصاب صاحب هذه الجنة الكبر، فعجز عن القيام عليها مع شدة حاجته إليها وتعلق قلبه بها. ﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ ﴾ لا يستطيعون القيام عليها لصغرهم وعجزهم. والذرية: هم أولاد الرجل وأولاد بنيه وإن نزلوا بمحض الذكور. وإنما جعل الله عز وجل «عيسى ابن مريم» من ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، وهو ابن بنت؛ لأنه لا أب له، وأمه بمنزلة أبيه. قال ابن القيم[13]: «وأصابه الكبر» هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه؛ لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة؛ لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته لها، فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار». قوله: ﴿ فَأَصَابَهَا﴾ أي: فأصاب هذه الجنة ﴿ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ﴾، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار، وقيل: هي الريح الشديدة السموم. ﴿ فاحترقت ﴾؛ أي: فاحترقت هذه الجنة، وتساقطت أوراقها وثمارها وصارت رمادًا، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وقال تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 42، 43]. عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر بنفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»[14]. وعن الحسن قال: «هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا»[15]. ﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ أي: مثل ذلك البيان ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات ﴾؛ أي: يوضح ويفصل لكم الآيات الكونية والشرعية، ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ «لعل»: للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل والنظر في آيات الله الكونية والشرعية، والحذر من مبطلات الأعمال، ومن إبطال الصدقات بالمن والأذى، فيخسرها المنفق أحوج ما يكون إليها كصاحب هذه الجنة. [1] أخرجه مسلم في الإمارة (1892)، والنسائي في الجهاد (3187). [2] أخرجه البخاري في الأذان- من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (660)، ومسلم في الزكاة- فضل إخفاء الصدقة (1031)، وأبو داود في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391). [3] البيت للمتنبي؛ انظر: «ديوانه» بشرح العكبري» (2/ 276). [4] انظر: «بدائع الفوائد» (1/ 420). [5]أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [6]«النونية» (ص148). [7] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. [8] سبق تخريجه. [9] البيت للتهامي؛ انظر «ديوانه» (ص47). [10] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760)، وأبو داود في الصلاة (1372)، والنسائي في الصيام (2203)، والترمذي في الصوم (683) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [11]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 423). [12] انظر: بدائع التفسير (1/ 423- 424). [13] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 427). [14] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ (4538)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 183 – 184)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 522). [15]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 425).
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ... ﴾ قوله الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 267 - 273]. قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾. بيَّن عز وجل في الآيات السابقة فضل الإنفاق في سبيل الله وعظم أجره ومضاعفته، ونهى المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، كحال الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم أمرهم في هذه الآية بالإنفاق من كسبهم، ومما أخرج الله لهم من الأرض، ونهاهم أن يتيمَّموا الخبيث منه ينفقون. ســبب النــزول: عن البراء بن عازب رضي الله عنه: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾، قالوا: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض، أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده»[1]. قوله: ﴿ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ «الطيب» يطلق على الحلال وعلى الجيد وعلى الطاهر ونحو ذلك. و«ما» موصولة أو مصدرية، والمعنى: ابذلوا وتصدقوا من حلال وجيد الذي كسبتموه، أو كسبكم، أي: الذي حصلتم عليه بالمعاملة بالبيع والشراء، والإجارة أو غير ذلك بتيسير الله تعالى لكم ذلك. وقال هنا: ﴿ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ بينما قال بعده: ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾، والكل منه سبحانه؛ لأن الكسب بالتعامل بالبيع والشراء ونحو ذلك فِعْلُ العبد فيه ظاهر، بخلاف الخارج من الأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63، 64]. ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: موصولة، أي: ومن الذي ﴿ أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ من الحبوب والثمار والفواكه والمعادن وغير ذلك. والعطف على «ما» في قوله: ﴿ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض. ويحتمل أن يكون العطف على ﴿ طَيِّبَاتِ ﴾؛ أي: أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض؛ لأن ما أخرج الله تعالى لنا من الأرض كله طيب حلال لنا، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، وهذا أولى. قال ابن القيم[2]: «أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم؛ لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه؛ لأنه ليس فعلًا لهم، ولا هو مقدورًا لهم، فأضاف مقدورهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه، ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره بالكلية». والأمر في الآية يدخل فيه الفرض والنفل، فيشمل زكاة النقدين، وعروض التجارة، وزكاة الخارج من الأرض، والنفقات الواجبة والصدقات. و«من» في قوله: ﴿ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾، وفي قوله: ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ للتبعيض؛ أي: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم، وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض، ويجوز كون «من» لبيان الجنس، فيجوز أن ينفق الإنسان كل ماله. ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ الجملة معطوفة على قوله: ﴿ أَنْفِقُوا ﴾ والتيمم في اللغة القصد، قال تعالى: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]. قال الأعشى[3]: تيمَّمت قيسًا وكم دونه ![]() من الأرض من مهمه ذا شَزَن ![]() ![]() ![]() أي: ولا تقصدوا وتتعمدوا الخبيث. والمراد بـ«الخبيث» هنا: الرديء، ضد الطيب الجيد، أي: ولا تقصدوا الرديء ﴿ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾. وقوله: ﴿ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾: حال من الفاعل في ﴿ تَيَمَّمُوا ﴾؛ أي: منفقين منه، أو حال من المفعول «الخبيث»؛ أي: منفقًا منه، وقدَّم «منه» على متعلقه للحصر. ﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ الضمير يعود إلى ﴿ الخبيث ﴾؛ أي: ولستم بقابلي هذا الرديء لو كان الحق لكم ﴿ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ «إلا»: أداة حصر. ﴿ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ الإغماض: أخذ الشيء على استحياء مع كراهته، كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه فلا يملأ عينه منه، بل يغض من بصره، ويغمض عنه بعض نظره كراهية له؛ أي: لو كنتم أنتم المستحقين له وبُذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه. أي فكيف تبذلون لله ما لا ترضون بذله لكم، ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له؟ والله تعالى أحق من يختار له خيار الأشياء، وكيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا؟ ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾؛ أي: واعلموا أن الله غني عنكم وعن جميع خلقه، فله خزائن السموات والأرض، كما قال عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [المنافقون: 7]، وإنما دعا عز وجل عباده إلى الإنفاق ليجازيهم ويثيبهم أعظم الجزاء. ﴿ حميد ﴾ أي: محمود- سبحانه وتعالى- في غناه يحمده جميع خلقه لعظيم كرمه وواسع جوده وعطائه، كما أنه عز وجل ﴿ حميد ﴾ يحمد ويثني على من يستحق الحمد والثناء، ولهذا أثنى على أنبيائه ورسله والصالحين من عباده. وفي الجمع بين وصفي «الغني» و«الحميد» بيان أنه عز وجل هو المحمود على غناه، بخلاف من أعطاه الله تعالى الغنى من الخلق فبخل به فإنه لا يحمد على غناه بل ويذم. كما أن غناه وحمده يأبيان قبول الرديء، فإن قَابِلَ الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله. قوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. بيَّن عز وجل في الآيات السابقة فضل الإنفاق في سبيله وأمر المؤمنين بالإنفاق من طيب ما كسبوه، ومما أخرج الله لهم من الأرض، ونهاهم عن قصد الخبيث للإنفاق منه، ثم أتبع ذلك ببيان أن الشيطان يعدهم الفقر ويخوِّفهم منه إن أنفقوا، ويأمرهم بالفحشاء من البخل والمن والأذى، وغير ذلك من المعاصي، والله يعدهم مغفرةً وفضلًا، وفي ذلك تحذير من البخل والمن والأذى، وترغيب في الإنفاق بلا منٍّ ولا أذى. قوله: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾: «الشيطان» اسم لكل متمرد عاتٍ خارج عن طاعة الله تعالى من الإنس والجن والحيوان، والمراد به هنا إبليس لعنه الله. ﴿ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ الوعد غالبًا يكون في الخير، وقد يكون في الشر كما في هذه الآية، وكما في قوله: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ [الحج: 47]. ومعنى ﴿ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾، أي: يخوفكم الفقر والحاجة والعيلة بسبب الإنفاق. فيأتي للإنسان ويقول له: لا تنفق، وأمسك عليك مالك، فأنت محتاج إليه، فيحمله بوعده الكاذب وغروره على إساءة الظن بربه، ويحرمه من أجر المنفقين، وقد أحسن القائل: دلاهم بغرور ثم أوردهم ![]() إن الخبيث لمن ولاه غرار[4] ![]() ![]() ![]() ﴿ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾؛ أي: بالبخل، الذي هو من أقبح الفواحش، والفحشاء في الأصل تعم كل ما قبح وفحش في الشرع وعُرْفِ المسلمين. وفي الحديث: «إن للشيطان للمَّة بابن آدم، وللملك لمَّة، فأما لمَّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان، ثم قرأ: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾»[5]. ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ ﴾؛ أي: والله يعدكم بوعده الذي لا يخلف، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ [الحج: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 111]. ﴿ مَغْفِرَةً مِنْهُ ﴾ أي: مغفرة منه واسعة لذنوبكم بالستر لها، والتجاوز عن العقوبة عليها، وهذا في مقابل أمر الشيطان بالفحشاء. وفي قوله: ﴿ منه ﴾ تعظيم لمغفرته عز وجل، أي: مغفرة عظيمة واسعة لجميع الذنوب، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]. بل إنه عز وجل يبدل السيئات حسنات؛ كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]. ﴿ وفضلًا ﴾؛ أي: ويعدكم فضلًا عظيمًا منه، وهذا في مقابل وعد الشيطان لكم بالفقر؛ أي: وزيادة منه بالخلف على المنفق في الدنيا أضعاف ما أنفق، وزيادة منه في الآخرة بمضاعفة الحسنات وثواب الصدقات، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وقال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39]. وفي الحديث: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»[6]. فهذا وعد الله، وذلك وعد الشيطان، فلينظر البخيل والمنفق، أي الوعدين أوثق، وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه، وشتان ما بين الثرى والثريا، كما قال ابن القيم[7]: شتان بين الحالتين فإن ترد ![]() جمعًا فما الضدان يجتمعان ![]() ![]() ![]() قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة فضل الإنفاق في سبيل الله لمن منَّ الله عز وجل عليهم بالأموال، ثم أتبع ذلك بذكر ما هو أفضل من الأموال وهو: الحكمة والعلم والرشد، ممتنًا بذلك على من آتاه الله تعالى ذلك، وقدره قدره وأدى حقه. قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: يعطي الحكمة الذي يشاء من عباده، والحكمة: العلم والرشد والمعرفة بالله تعالى وكتابه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»[8]. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار»[9]. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾ يعني: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله[10]. قال ابن القيم[11]: «الحكمة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي». وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «رأس الحكمة مخافة الله»[12]. ﴿ من يشاء ﴾؛ أي من يشاء ويريد من عباده.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ﴾، قرأ يعقوب بكسر التاء: «يؤتِ»، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ يُؤْتَ ﴾؛ أي: ومن يعط الحكمة، وبني الفعل لما لم يسم فاعله؛ لأن المعطي للحكمة معلوم، وهو الله عز وجل، كما في الجملة السابقة. ﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾؛ أي: فقد أعطي خيرًا كثيرًا، يجب عليه شكره. ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾؛ أي: وما يتعظ ويعتبر بآيات الله وينتفع بها إلا أصحاب العقول السوية السليمة، الذين تهديهم عقولهم إلى الحق. قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾. رَغَّبَ عز وجل في الإنفاق بذكر مضاعفة أجره، وأكد في هذه الآية أنه لن يضيع عنده سبحانه ذلك مهما قل، ويحاسب ويجازي عليه. قوله: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: شرطية، و«أنفقتم»: فعل الشرط. و«من» في قوله: ﴿ مِنْ نَفَقَةٍ ﴾، وفي قوله: ﴿ مِنْ نَذْرٍ ﴾: زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى للتنصيص على العموم. و«نفقة» و«نذر» كل منهما نكرة في سياق الشرط فتعم كل نفقة ونذر؛ أي: أي شيء تنفقونه من قليل أو كثير، ومن أي شيء كان، وأي نذر تنذرونه. والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أتصدق بكذا، أو أن أصوم كذا، وهو جائزٌ مع الكراهة لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بما لم يكن واجبًا عليه، مما قد يعجز عنه ونحو ذلك، والعافية لا يعدلها شيء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»[13]. ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾: جواب الشرط، وربط بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، أي: فإن الله يعلم ذلك، فالضمير في «يعلمه» بمعنى اسم الإشارة؛ لأنه يعود إلى اثنين؛ أي: فإن الله يعلمه ويحاسب ويجازي عليه، ولن يضيع عنده، يعلم من قصد بذلك وجه الله، فيثيبه ويجازيه من واسع فضله، ويعلم من قصد بذلك غيره فيكله إلى من قصد. ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾؛ أي: وما للظالمين المانعين لما يجب إنفاقه، أو المبطلين صدقاتهم بالمن والأذى أو بالرياء وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، أو المتيممين للخبيث ينفقون منه، أو الذين لا يوفون بما نذروا من طاعة، أو ينذرون في معصية وغيرها. ﴿ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ «من»: زائدة إعرابًا مؤكدة من حيث المعنى للعموم، أي: وما لهم أيّ أنصار، والأنصار: جمع ناصر، وهو الذي ينصر ويدفع الضر، أي: وما لهم من أنصار يدفعون عذاب الله ويمنعونه عنهم. ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾. ذكر عز وجل في الآية السابقة علمه سبحانه بالنفقات أيًّا كانت، ومهما كانت، ثم بين في هذه الآية جواز إبداء الصدقات وإخفائها مع أن إخفاءها خير للمتصدق. قوله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ ﴾؛ أي: إن تظهروا الصدقات وتعلنوا بها، ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾، قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون «فنَعما هي» وقرأ أبو جعفر بكسر النون وإسكان العين «فنِعْما هي»، وقرأ الباقون بكسرهما معًا ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾. وهذه جملة إنشائية للمدح، أي: فنعم شيء هي، وهذا مدح لها. ﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا ﴾؛ أي: وإن تُسرِّوها ﴿ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ﴾؛ أي: وتعطوها الفقراء، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾؛ أي: فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء خير لكم خيرية مطلقة من إبدائها وإظهارها. وقيَّد الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: «وإن تخفوها فهو خير لكم»؛ لأن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه؛ كتجهيز الجيوش وبناء المساجد والقناطر، وإجراء الأنهار وحفر الآبار، ونحو ذلك. وإنما كان إخفاؤها وإيتاؤها الفقراء خيرًا؛ لما فيه من الستر على الفقير والإخلاص لله تعالى، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر، وأثنى على صاحبها، فذكر من بين السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله: «رجلًا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»[14]. ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، قرأ ابن عامر وحفص بالياء: ﴿ ويكفِّر ﴾. وقرأ الباقون بالنون: «ونكفر»، وقرأ نافع وأبو جعفر وحمزة والكسائي وخلف بجزم الراء: «ونكفرْ»، وقرأ الباقون برفعها: «ونكفرُ». ﴿ ويكفًّر ﴾؛ أي: ويمحو ويستر. ﴿ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾: جمع سيئة، وهي الذنوب والمعاصي، سميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها في الحال والمآل، وتسوء غيره إما مباشرة إذا كانت متعدية، أو غير مباشرة إذا كانت غير متعدية. قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. و«من» في قوله: ﴿ من سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ تبعيضية؛ لأن الإنفاق لا يكفر جميع السيئات. ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم خبير. و«الخبير»: المطلع على بواطن الأمور ودقائقها وخفياتها؛ فاطلاعه على الظواهر والجلائل والجليات من باب أولى. وفي هذا وعد لمن تصدق وأطاع الله عز وجل، ووعيد لمن بخل وخالف أمر الله؛ لأن مقتضى علمه عز وجل بعملهم محاسبتهم ومجازاتهم على ذلك، خيرًا كان أو شرًّا. قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾. ســبب النــزول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخَّص لهم، فنزلت هذه الآية: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾[15]. قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: ليس عليك يا محمد هدى الناس؛ أي: ليس عليك هداية قلوبهم وتوفيقهم؛ لأن أمر ذلك إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]. أما هدى البيان والإرشاد فهو إليه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]؛ أي: تدل وترشد، وكما قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ 21 لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22]. ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: ولكن الله تعالى يوفق من يريد توفيقه من العباد. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: استئنافية، و«ما» في هذا الموضع والذي بعده: شرطية، و﴿ تُنْفِقُوا ﴾: فعل الشرط. ﴿ من خير ﴾ «من» في هذا الموضع والذي بعده زائدة إعرابًا مؤكدة من حيث المعنى للتنصيص في العموم؛ أي: وما تنفقوا من خير أي خير قل أو كثر، ويجوز كون «من» بيانية، أي: بيان لـ«ما» الشرطية. والخير: المال، وكل ما يبذل في سبيل الله من نقد أو عين أو منفعة. ﴿ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فلأنفسكم نفعه وثوابه، وليس لله تعالى، فهو سبحانه الغني عن خلقه؛ كما قال تعالى في «البُدْن»: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]. وأيضًا: فلأنفسكم وليس لغيرها، فكيف يبخل الإنسان على نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]. ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾؛ أي: وما تنفقون إلا طلب وجه الله تعالى ورضاه، أي: طلب رؤية وجه الله تعالى الكريم ورضاه سبحانه، فالمؤمنون لا ينفقون إلا طلب وجه الله تعالى ورضاه؛ إذ لا ينفع من النفقة إلا ما كان لوجه الله تعالى. ومن أنفق بهذا القصد فما عليه بعد ذلك، فالله يتولى نفقته ويثيبه؛ لقوله بعد ذلك: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾، وكما جاء في حديث الذي تصدق على زانية وعلى غني وعلى سارق، فقال: «اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته»[16]. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الكلام فيه كما سبق. ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾، «يوفَّ»: جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة، أي: وما تنفقوا من أي خير كان نقدًا أو عينًا أو منفعة قليلًا أو كثيرًا ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾. أي: يُرجع إليكم وتعطون ثوابه وافيًا، كما قال تعالى: ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 30]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، بل يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ الجملة حالية، أي: والحال أنكم لا تظلمون، أي: لا تنقصون ولا تبخسون شيئًا منه. قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾. حث عز وجل في الآيات السابقة على الإنفاق وبذل الصدقات والخير، ثم بين في هذه الآية مصرف الإنفاق. قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾. كأن سائلًا سأل، فقال: إلى أين يصرف الإنفاق والخير؟ فقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ الآية، وهو متعلق بقوله: ﴿ تُنفقوا ﴾ في الآية السابقة، أو بمحذوف تقديره: الإنفاق والصدقات للفقراء. و«الفقراء»: جمع «فقير» وهو المعدم الذي لا شيء عنده، أو عنده أقل من نصف الكفاية، مأخوذ من «الفقر» الذي يجتمع في الاشتقاق الأكبر مع «القفر»، وهي: الأرض الخالية التي لا شيء فيها، ومن هنا سمي الفقير؛ لأنه لا شيء عنده، أو مأخوذ من «فقار الظهر»؛ لأن الفقير؛ لشدة حاجته أشبه بمن انفصمت فقار ظهره فلا يستطيع الحراك، والمراد بـ«الفقراء» هنا ما يشمل «المساكين»؛ لأنه إذا أُفرد أحدهما دخل معه الآخر، و«المسكين»: من يجد نصف الكفاية فأكثر ولا يجد تمام الكفاية. ﴿ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: الحصر: المنع، أي: الذي منعوا ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه، وقصروها على بذلها لله، وفي سبيله من المهاجرين وغيرهم. ﴿ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ﴾: الضرب في الأرض: السفر فيها، أي: لا يقدرون على السفر والتنقل في الأرض والبحث عن الرزق فيها والتكسب فيها؛ لمنع العدو لهم، أو لقلة ذات اليد، فلا راحلة ولا زاد، أو بسبب المرض والجراح والكسور ونحو ذلك. ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾: قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين: ﴿ يَحْسَبُهُمُ ﴾، وقرأ الباقون بكسرها «يحسِبهم»؛ أي: يظنهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء. ﴿ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ «من»: سببية، و«التعفف» هنا إظهار الاستغناء. والمعنى: بسبب تعفُّفهم في لباسهم وحالهم عن إظهار المسكنة، وفي مقالهم عن السؤال، فإذا رآهم من لا يعرف حالهم ظنهم أغنياء، مع أنهم في غاية الفقر. عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة والقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس». وفي رواية: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا القمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم يعني قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾»[17]. ﴿ تَعْرِفُهُمْ ﴾ أيها المشاهد العارف المتوسم المتفرس، ﴿ بِسِيمَاهُمْ ﴾؛ أي: بعلاماتهم وصفاتهم الدالة على أنهم فقراء، وإن أظهروا التعفف، كما قال تعالى: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]. وفرق بين المسكنة والتمسكن لمن منحه الله بصيرة وفراسة، وفي الحديث: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75]»[18]. ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ ﴿ إِلْحَافًا ﴾: حال، أي ملحفين، و«الإلحاف»: الإلحاح في المسألة، وسؤال الناس وعنده ما يغنيه عن السؤال. وفي الحديث: «أن من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف»[19]. والنفي هنا للقيد وهو «الإلحاف» وللمقيد وهو «السؤال»، أي: لا يسألون الناس مطلقًا؛ لقوله قبل ذلك: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾، فلو كانوا يسألون ما وُصفوا بالتعفف، ولما حسبهم الجاهل أغنياءَ بسبب ذلك، بل لحسبهم فقراءَ بسبب سؤالهم، فهم لا يسألون الناس بالكلية، وإن سألوا اضطرارًا لم يلحفوا في السؤال. فذكر عز وجل أعلى أنواع السؤال المذموم، وهو السؤال مع الإلحاف الذي يَنِم عن سوء أدب وقلة حياء من السائل، ويؤذي المسؤول ويضايقه. فمن اجتمعت فيهم هذه الصفات الست، فهم أَولى بالإنفاق والصدقات، وهي الفقر، والإحصار في سبيل الله، وعدم استطاعة الضرب في الأرض، والتعفف بدرجة أن من لا يعرفهم يظنهم أغنياءَ بسبب ذلك، ومعرفتهم بسيماهم، أي: معرفة حالهم وحاجتهم، وعدم سؤالهم الناس إلحافًا. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: وما تبذلوا ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ قلَّ أو كثُر، من أي شيء كان ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾: جواب الشرط «ما» أي: فإن الله ذو علم تام به، ولن يضيع عنده، فهو لكم محتسب وثوابه عند الله لكم مدخر، أوفر ما يكون، وأحوج ما تكونون إليه. [1] أخرجه الترمذي في «تفسير سورة البقرة» (2987)، وابن ماجه في الزكاة، النهي أن يخرج في الزكاة شر ماله (1822)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 699)، والحاكم (2/ 285)، وقال الترمذي: «حديث صحيح حسن غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. [2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 428). [3] انظر: «ديوانه» (ص69). [4] انظر: «إغاثة اللهفان» (109). [5] روي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الترمذي في التفسير (2988)، وقال: «حديث حسن غريب»، وأخرجه النسائي في التفسير (2110)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 529)، وأخرجه الطبري مرفوعًا وموقوفًا على ابن مسعود في «جامع البيان» (5/ 6- 8). [6] أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] «النونية» (ص11). [8] أخرجه البخاري في العلم (73)، ومسلم في صلاة المسافرين (816)، وابن ماجه في الزهد (4208) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5025)، ومسلم (815)، والترمذي في البر والصلة (1930)، وابن ماجه في الزهد (4209). [10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 8)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 531). [11] في «مدارج السالكين» (2/ 449). [12] أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 7/ 106 (34553)، وأبو داود في الزهد ص106 (160)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 2/ 201 (728). [13] أخرجه البخاري في القدر (6608)، ومسلم في النذور (1639)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3287)، والنسائي في الأيمان والنذور (3801)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [14] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [15] أخرجه النسائي في «الكبرى» في التفسير، (11052)، والبزار في «مختصر زوائد البزار» (1450), والحاكم (2/ 285) وصححه، كما صححه ابن حجر في تعليقه على مختصر زوائد البزار. [16] أخرجه البخاري في الزكاة (1421)، ومسلم في الزكاة (1022)، والنسائي في الزكاة (2523) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [17] أخرجه البخاري في الزكاة، قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ (1479)، وفي التفسير (4539)، ومسلم في الزكاة المسكين الذي لا يجد غنى (1039)، وأبو داود في الزكاة (1631)، والنسائي في الزكاة (2571)، وأحمد (2/ 316). [18] أخرجه الترمذي في تفسير سورة الحجر (3127)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: «حديث غريب». [19] سيأتي تخريجه.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائـد وأحكـام من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 267 - 273]. 1- وجوب الإنفاق من طيبات الكسب ومما أخرجه الله لنا من الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾، وهذان هما أصول الأموال، والأصل في الأمر الوجوب، كإخراج الزكاة والنفقات الواجبة، ويحمل على الندب فيما هو مندوب؛ وذلك من مقتضيات الإيمان. 2- وجوب إخراج الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾، وهي مما يكتسب في المعاملة والبيع والشراء. 3- يجب أن تكون النفقة من الكسب الطيب، واجبة كانت أو مندوبة؛؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾، ولا تجوز من الكسب الحرام، لمفهوم الآية. 4- وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾. وقد بينت السنة ما تجب فيه الزكاة بخصوصه من الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن، ونحو ذلك، ومقدار النصاب، ومقدار الواجب فيه. وقد قيل بوجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض لعموم الآية، والصحيح الأول بدلالة السنة. 5- تحريم قصد الرديء لإخراج الزكاة منه؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾، ولقوله: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾. فلا يجوز إخراج الرديء في الزكاة، كما لا يلزم إخراج الأجود، بل يخرج الوسط، وإن أخرج الأجود فهو أكمل وأفضل، وإن كان كل ماله رديئًا جاز إخراج الزكاة منه؛ لأنه في هذه الحال لم يتيمم الخبيث، بل أخرج ما عنده. 6- وجوب الإنصاف من النفس وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فلا يقصد الرديء لينفق منه وهو لا يقبل في المعاملة أخذ الرديء إذا كان الحق له إلا مع الكراهية، فكما لا يرضاه لنفسه، ينبغي أن لا يعطيه ويرضاه لغيره؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾. 7- أن من طبيعة الإنسان أن لا يقبل الظلم والغبن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾. 8- وجوب العلم بأن الله غني حميد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾. 9- إثبات أن الله عز وجل حميد محمود في غناه؛ لواسع كرمه وجوده وعطائه، حميد يَحمد ويُثني على من أطاعه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾. وكثير من الخلق يذم على غناه؛ لبخله وشحه. 10- حرص الشيطان على إضلال وإغواء بني آدم، ووجوب الحذر منه؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾. 11- تسلط الشيطان على بني آدم، وبخاصة على من يتولونه ويتبعونه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 100]. 12- دقة مداخل الشيطان على الإنسان، حتى إنه ليبدو أنه الناصح يخوف المنفق من الفقر والمجاهد من القتل، وهكذا؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. 13- عداوة الشيطان لبني آدم، وأنه لا يأمر إلا بالشر؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21]، وهذا عام لجميع الشرور والمعاصي. 14- أن البخل وعدم الإنفاق من الفحشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾. 15- وعد الله عز وجل للمنفقين بمغفرة ذنوبهم وسترها والتجاوز عنها وزيادتهم من فضله بمضاعفة أجورهم في الآخرة، والمباركة لهم في أموالهم في الدنيا، وتأكيد ذلك وتعظيمه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾. 16- إثبات أفعال الله تعالى الاختيارية المتعلقة بمشيئته، وإثبات المشيئة له عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾, وقوله: ﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾. 17- فضل الله عز وجل بإعطائه الحكمة والعلم والرشد من يشاء من عباده؛ لقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾. 18- إثبات كمال حكمة الله عز وجل وعلمه؛ لأن ما يعطيه الله عز وجل لعباده من ذلك هو من حكمته وعلمه، كما قالت الملائكة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]. 19- أن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرًا كثيرًا، يوجب عليه معرفة عظم فضل الله عليه وشكره على ذلك بالقيام بحقه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾. 20- أنه إنما يتذكر ويتعظ أصحاب العقول السليمة الذين تهديهم عقولهم إلى الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. بخلاف من لم يتعظوا بآيات الله تعالى فهم ليسوا من العقلاء حقًا، كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]. 21- فضل العقل من بين أعضاء الجسم؛ لأنه مما ميز الله تعالى به الإنسان وكرمه به، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»[1]. 22- علم الله عز وجل بما ينفق العباد من النفقات وما ينذرونه من النذور، قليلًا كان أو كثيرًا ومحاسبته ومجازاته لهم على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾. 23- ليس في الآية دليل على مشروعية النذر، ولكن فيها دليلٌ على وجوب الوفاء به إذا وقع ولم يكن في معصية الله تعالى كما في الحديث: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»[2]. 24- الرد على القدرية الذين يقولون: إن الخلق يستقلون بخلق أفعالهم وعلمها دون الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾. 25- أن الظالمين لا أنصار لهم يدفعون عنهم عذاب الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾، ومن لم ينصره الله فلا ناصر له. 26- التحذير من الظلم وعواقبه السيئة، وذم أهله. 27- الحث على الصدقات والترغيب فيها، سواء أظهرت أو أُخفيت؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ الآية. 28- أن إبداء الصدقة وإظهارها قد يحسن أحيانًا كأن يريد من يظهر الصدقة أن يكون قدوة لغيره، ونحو ذلك، ولعل هذا هو السبب- والله أعلم- في تقديم قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾. 29- أن إخفاء الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأستر للمُتَصدَّق عليه ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾. 30- أن من أعظم وأهم مصارف الزكاة الفقراء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ﴾. 31- ينبغي أن لا يكلف الفقير البحث عن الزكاة والإتيان لصاحب المال، بل يذهب بها صاحب المال أو من يُنيبه ويعطيها الفقير؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ﴾، ففي هذا مراعاة لشعور الفقير. 32- تفاضل الأعمال وأن بعضها خير من بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾، وهذا يستلزم تفاضل العمال، وزيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل العمال. 33- أن الصدقات من أسباب تكفير السيئات ومحوها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، ففيها الخير والأجر والثواب، وتكفير السيئات. 34- تأكيد إحاطة علم الله تعالى بجميع أعمال العباد ومحاسبتهم ومجازاتهم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾. 35- أن هداية توفيق الخلق ليست إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره من الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾. وإنما عليه صلى الله عليه وسلم البلاغ، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67]، وقال تعالى: ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [المائدة: 99]. وهكذا غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذا الدعاة إلى الله واجبهم البلاغ فقط. 36- اختصاص الله عز وجل بهداية التوفيق لمن شاء من عباده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾. 37- أن ما ينفقه الإنسان من خير فلنفسه لا ينصرف لغيره، والله غني عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾، ولا ينافي هذا أن يتصدق عن الغير كما دلت على ذلك السنة. 38- لا ينبغي أن يُقصد بالإنفاق إلا وجه الله تعالى، فهذا الذي يقبل وينفع صاحبه، دون ما عداه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾. وفي هذا أيضًا تزكية للمؤمنين بأنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله وحث لهم على ذلك. 39- إثبات الوجه لله تعالى، كما يليق بجلاله وعظمته، وإثبات نظر المؤمنين إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]. وقد فسر صلى الله عليه وسلم «الحسنى» بالجنة، و«الزيادة» بالنظر إلى وجه الله الكريم[3]. 40- إعطاء المنفقين جزاء أعمالهم وافيًا من غير ظلم ولا نقصٍ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. بل إنه عز وجل يضاعف للمنفقين عملهم بما لا حد له. 41- كمال عدل الله عز وجل وأنه لا يظلم أحدًا، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 10]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]. 42- تأكيد حق الفقراء في الصدقات؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الآية. 43- أنه إنما يستحق الصدقات من الفقراء الذين لا قدرة لهم على الكسب؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ﴾. وفي الحديث: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي»[4]. وجاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فصعَّد فيهما النظر وصوَّبه، ثم قال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب»[5]. 44- فضل التعفف عما في أيدي الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾. 45- ينبغي أن يكون الإنسان ذا فراسة وفطنة وتبصر وحذق ومعرفة، يعرف المسكين حقًّا من المتمسكن، فلا تنطلي عليه الأمور ولا يجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ﴾. 46- الثناء على الذين لا يسألون الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾، وفي هذا تعريض بذم سؤال الناس، فإن كان عن غير ضرورة فهو محرم. وفي الحديث: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم»[6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر»[7]. وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار، أو من جمر جهنم»، فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: «قدر ما يغديه أو يعشيه»[8]. وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟»، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا- وأسر كلمة خفيَّة- ولا تسألوا الناس شيئًا»، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه[9]. 47- أن من أشد أنواع السؤال ذمًا أن يُلحف الإنسان بالسؤال فيؤذي المسؤول، ويثقل عليه، أو يسأل وعنده ما يغنيه عن السؤال؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾، وفي الحديث: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف»[10]. 48- تأكيد علم الله عز وجل بكل ما ينفقه العباد من خير ومجازاتهم عليه، وأنه لن يضيع عنده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]. [1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وابن ماجه في الفتن (3984)، من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور (6696)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3289)، والنسائي في الأيمان والنذور (3806)، والترمذي في النذور والأيمان (1526)، وابن ماجه في الكفارات (2126)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [3] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187) من حديث صهيب رضي الله عنه، وأخرجه الطبري في «جامع البيان» (11/ 158- 161) من حديث أبي موسى وكعب بن عجرة، وأُبي بن كعب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. [4] أخرجه أبو داود في الزكاة (1634)، والترمذي في الزكاة (652) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقال: «حديث حسن». [5] أخرجه أبو داود في الزكاة (1633)، والنسائي في الزكاة (2598) من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث. [6] أخرجه مسلم في الزكاة (1040)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه. [7] أخرجه مسلم في الزكاة (1041)، وابن ماجه في الزكاة (1838). [8] أخرجه أبو داود في الزكاة (1629). [9] أخرجه مسلم في الزكاة (1043)، وأبو داود في الزكاة (1642)، وابن ماجه في الجهاد (2867). [10] أخرجه أبو داود في الزكاة (1628)، والنسائي في الزكاة (2595)، وأحمد (3/ 9) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ...َ ﴾ قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 274 - 281]. قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. في هذه الآية امتداح من الله- عز وجل- للمنفقين في سبيله في جميع الأوقات والأحوال، ووعد منه لهم- بالأجر عنده- عز وجل- وعدم الخوف والحزن. قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ «الذين» مبتدأ. وخبره جملة ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾، والإنفاق: إخراج المال وبذله. والمراد به هنا: إخراج المال وبذله في وجوهه الشرعية الواجبة كالزكاة، والنفقة على الأهل والأولاد، والكفارات ونحو ذلك، والمستحبة كسائر الصدقات والنفقات والهدايا، ونحو ذلك. ﴿ أَمْوَالَهُمْ ﴾ المال: اسم لكل ما يتمول ويملك من نقد، أو عين؛ من أثاث، أو عقار، أو غير ذلك. ﴿ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ الباء للظرفية، أي: في الليل والنهار، والمراد في جميع الأوقات. ﴿ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾: صفتان لمصدر محذوف وقع مفعولًا مطلقًا، أي: إنفاقًا سرًّا وعلانية، أو مصدران في موضع الحال، أي: مسرين ومعلنين. ومعنى «سرًّا» أي: خفاءً. ﴿ وَعَلَانِيَةً ﴾؛ أي: جهرًا، كما قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 75]. والمراد أنهم ينفقون في جميع الأحوال، وحسب مقتضى الحال، فبعض الأحوال والمواقف يحسن فيها الإسرار؛ لما فيه من الإخلاص لله، والسلامة من الرياء والسمعة؛ ولما فيه من ستر حال المنفَق عليه. ولهذا ذكر صلى الله عليه وسلم ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»[1]. وفي بعض الأحوال قد يحسن الإعلان والإظهار، إذا كان المقصود من ذلك إظهار السنة، وإشهارها بين الناس. ولهذا لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من مضر قد اشتدت بهم الحاجة، تمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، وقام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس، وحثَّ على الصدقة، ورغَّب فيها، فجاءه رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى كان عنده كومان من طعام وثياب، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء»[2]. ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الجملة خبر المبتدأ ﴿ الَّذِينَ ﴾، واقترنت بالفاء لمشابهة الموصول للشرط في العموم، وهذه الجملة مكونة من مبتدأ وخبر، وقدم فيها الخبر، وهو قوله: ﴿ فَلَهُمْ ﴾ على المبتدأ ﴿ أَجْرُهُمْ ﴾ لتأكيد إثابتهم بذلك. والمعنى: فلهم ثوابهم العظيم على إنفاقهم. وسمي ثوابهم أجرًا؛ لأن الله- عز وجل- تكفل به- وأوجبه على نفسه، كما أوجب- عز وجل- على المستأجر دفع أجرة الأجير، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»[3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله- عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره»[4]. ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ في هذه إشارة لعظم ثوابهم، وتأكيد لضمان ذلك لهم؛ لأنه عند ربهم العظيم، خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم، ومربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة. كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277]. وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تضع في فيّ امرأتك»[5]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة»[6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل»[7]. ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الخوف يكون مما يستقبل، من حصول مكروه، أو فوات محبوب، أي: ولا خوف عليهم مما أمامهم، من أهوال القيامة، وغير ذلك، بل هم آمنون مطمئنون. كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]. وهم أيضًا في الدنيا آمنون مطمئنون، لا يخافون مما يخاف منه كثير من الناس، لاعتمادهم على ربهم- عز وجل- وخوفهم منه وحده. كما قال الله- عز وجل: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 173، 175]. فلهم في الدنيا الأمن النفسي، والأسري، والاجتماعي والدولي، حالهم كما قال الشاعر: سأعيش رغم الداء والأعداء ![]() كالنسر فوق القمة الشماء ![]() النور في جنبي وبين جوانحي ![]() فعلام أخشى السير في الظلماء[8] ![]() ولهم الأمن في الآخرة من أهوال يوم القيامة، وعذاب النار. ﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الحزن يكون على ما مضى من فوات محبوب، أي: ولا هم يحزنون على ما أنفقوه لوجه الله تعالى، ولا على ما فاتهم من الدنيا، ولا على ما خلفوه فيها بعد مماتهم؛ لحقارتها في أعينهم، وثقتهم بأن ما عند الله هو خير لهم وأبقى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31]. قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. ذكر الله- عز وجل- في الآية السابقة المنفقين أموالهم في سبيل الله في جميع الأوقات والأحوال ابتغاء مرضاة الله- عز وجل- وما أعد لهم من الأجر العظيم والأمن من الخوف والسلامة من الحزن، ثم أتبع ذلك بذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل، وما أعد لهم من سوء الحال والمآل، والخلود في النار وبئس القرار. قوله: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ الربا في اللغة: الزيادة؛ قال تعالى: ﴿ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ﴾ [الحاقة: 10]؛ أي: زائدة، وقال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]؛ أي: زادت، وعلت. وفي الشرع: زيادة بين شيئين يحرم التفاضل بينهما، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»[9]. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، تبرها وعينها، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر، مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا»[10]. ومعنى ﴿ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾؛ أي: يأخذونه وينتفعون به بأي وجه من أوجه الانتفاع من أكل أو شرب أو لباس أو سكن أو مركب، أو غير ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 16]. وعبر بالأكل مع أن أخذ الربا وصرفه في أي وجه من وجوه الاستعمال كل ذلك سواء؛ لأن الأكل هو المقصود الأهم من جمع المال، وهو- كما يقال: كسوة الباطن. وقد قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]. وهذا أعم من الأكل، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله»[11]. وفي رواية زيادة «وكاتبه وشاهديه»[12]. ﴿ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾؛ أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6]. ﴿ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ﴾ «إلا» أداة حصر، و«الكاف» للتشبيه، و«ما» مصدرية، أي: إلا قيامًا كقيام ﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾، والخبط والتخبط: الضرب الشديد العشوائي، الذي لا يتقي شيئًا، والمعنى: الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون، فهم يقومون ويسقطون، وذلك عقوبة لهم، وخزي وفضيحة وهوان، وهذا خبر عنهم ووعيد لهم. والشيطان: كل متمرد عات خارج عن طاعة الله تعالى سمي بذلك لأنه شطُن وبَعُد عن رحمة الله تعالى وعن كل خير، ورأس الشياطين وأصلهم إبليس. لعنه الله. عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾، قال: «ذلك حين يبعث من قبره»[13]. وقيل: لا يقومون في حياتهم عند التعامل بالربا إلا كقيام الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون، فهم في قيامهم وتصرفاتهم وجشعهم حين تعاملهم بالربا أشبه بالمجانين، قد أذهب عقولهم حب المال، وجمعه بأي وسيلة، ولو كان من طريق الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وفي هذا تشنيع عليهم، وبيان سوء حالهم في الدنيا قبل الآخرة. وهذه حالهم في الدارين. ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾، الإشارة لقيامهم كقيام من يتخبطه الشيطان من المس، والباء للسببية، أي: إنما جُوزوا بما ذكر بسبب أنهم ﴿ قَالُوا ﴾ بلسان المقال والحال: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾؛ أي: إنما البيع شبه الربا ونظيره، فلم حرم الربا، وأبيح البيع، وهما متماثلان وشبيهان. وهذا منهم اعتراض على الله- عز وجل- في أحكامه وشرعه، سواء كان عمي عليهم الفرق بينهما، أو قالوا ذلك على سبيل المكابرة، وهو الأظهر. فجمعوا بين فعل المحرم واستحلاله. قال ابن كثير[14]: «وليس هذا منهم قياسًا للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾؛ أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا». وقال السعدي[15]: «فجمعوا بجراءتهم بين ما أحل الله وبين ما حرَّم الله، واستباحوا بذلك الربا». وليس ببعيد عن هؤلاء ما عليه كثير من الناس اليوم من إقدام كثير منهم على المعاملات الربوية المحرمة، أو التساهل في الدخول في المعاملات والمساهمات المختلطة وغير النقية، مصداق قوله- صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» قيل له: الناس كلهم؟ قال: «من لم يأكله منهم ناله من غباره»[16]. ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾: الواو: استئنافية، وهذا رد عليهم في اعتراضهم وقولهم: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾. فبيَّن الله - عز وجل - أنهما ليسا مثيلين؛ لأن الله - عز وجل - فرق بينهما، فأحل عز وجل البيع وأباحه، وحرم الربا ومنعه، عقدًا وأخذًا. أباح- عز وجل- البيع لحاجة الناس إليه، ومنع الربا لأنه أخذ لمال الغير بلا عوض، وسبب لركود الاقتصاد وتضخم الأموال عند الأغنياء على حساب الفقراء، بلا كد ولا تعب، وانقطاع القرض الحسن الذي ندب الله- عز وجل- إليه، إلى غير ذلك. ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى ﴾ الفاء: استئنافية، و«من» شرطية، «جاءه» فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾. والموعظة: ذكر الحكم مقرونًا بالترغيب بامتثاله أمرًا كان أو نهيًا، والترهيب من مخالفته. والمعنى هنا: فمن أتاه وبلغه ﴿ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ بتحريم الربا، والنهي عنه، والوعيد عليه، كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]. ﴿ فَانْتَهَى ﴾ أي: كف عن الربا، وتركه، وتاب منه. ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾؛ أي: فله ما مضى من المعاملة بالربا، وما تم قبضه منه، قبل التحريم وقبل العلم بالحكم، دون ما لم يقبضه؛ لقوله تعالى في الآيات التالية بعد هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله»[17]. ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: وشأنه إلى ﷲ تعالى في مجازاته على الانتهاء من الربا، وهذا أشبه بالوعد، ويقوي هذا مقابلته بالوعيد في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. أي: ﴿ ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ إلى أخذ الربا وأكله بعد أن بلغه تحريمه والوعيد عليه. ﴿ فَأُولَئِكَ ﴾ الإشارة بالجمع باعتبار معنى «من» أي: فأولئك العائدون إلى أخذ وأكل الربا، وما نهى الله عنه. ﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ أي: أهلها وساكنوها وملازموها، ملازمة الصاحب لصاحبه. ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ أي: هم فيها مقيمون. وقد أشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم، وأكد ملازمتهم النار وخلودهم فيها بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين. والخلود في الآية قد يحمل على الخلود الأبدي إذا كان المراد بالآية العودة إلى فعل ما يكفر من الذنوب، كاستحلال الربا، وغيره من المحرمات والمعاصي، وكالإشراك بالله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]. وقد يحمل الخلود على طول المكث والإقامة في النار، دون الخلود فيها إذا كان المراد العودة إلى فعل ما لا يكفر من الذنوب والمعاصي، كأخذ الربا من غير استحلال له، ونحو ذلك. قوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾. قوله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾؛ أي: يزيله ويذهبه حسيًّا بالآفات والجوائح، ومعنويًّا بنزع بركته فلا ينتفع به صاحبه، معاملة له بنقيض قصده، حيث أراد الزيادة بهذا المسلك فصار أمره إلى قلة. كما قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 101]. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل»[18]. وفي رواية: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة»[19]. فأخذ الربا وأكله محق للكسب والمال، بخلاف ما يعتقده المرابون من أنه يزيد المال، كما أنه محق لبركة الأعمار، وفساد في الأخلاق، في الأنفس والأهل والأولاد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يربو لحم نبت من سحت، إلا كانت النار أولى به»[20]. وذكر صلى الله عليه وسلم: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك»[21]. ولهذا اعتبر الربا محاربة ﷲ ورسوله، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]. و«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه»[22]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه»[23]. وعن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية»[24]. ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ «ويُرْبي» بضم الياء والتخفيف من «ربا الشيء يربو» أي: زاد ونما «وأرباه» أي: زاده ونماه «يُرْبيه» أي: يزيده، وينميه. والمعنى: ويزيد الصدقات وينميها ويضاعفها، بزيادة أجرها، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. ويزيد أموال المتصدقين معنويًا؛ بالبركة فيها، وحسيًّا؛ بتنميتها ومضاعفتها بالخلف العاجل في الدنيا. قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]. وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»[25].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |