تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 29 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         6 كواكب وسابعهم القمر في خط مستقيم – اصطفاف الكواكب ظاهرة فلكية نادرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          الثبـــات وأسبــابه.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 67 - عددالزوار : 9650 )           »          هذا الدين هو دين أهل العزة والكرامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          فضيلة الشيخ أ. د. ناصر العقل متحدثاً عن التكفير المذموم التكفــير فتنة هذا العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          أخطاء الواقفين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 90 - عددالزوار : 22469 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 236 - عددالزوار : 29080 )           »          ما تحرمش نفسك من التسالي فى العيد.. أنواع مختلفة من السناكس الدايت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          4 نصائح لخسارة الوزن الزائد بخطوات سهلة بعد فتة ولحمة العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #281  
قديم 20-03-2023, 09:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 147 الى صــ 154
الحلقة (281)




الخامسة والعشرون : قال العلماء : الشجاج في الرأس ، والجراح في البدن . وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيما ذكر ابن المنذر ; واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس : الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق ; فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة ، وفي الباضعة حكومة ، وفي المتلاحمة حكومة ، وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل ، وفي السمحاق أربع ، وفي الموضحة خمس ، وفي الهاشمة عشر ، وفي المنقلة خمس عشرة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة ، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة ، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة ، وفي جفن العين ربع الدية ، وفي حلمة الثدي ربع الدية . قال ابن المنذر : وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد ، وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا : فيها نصف الموضحة ، وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة ; وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد ، ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل ; على ما في حديث عمرو بن حزم ، وفيه : وفي الموضحة خمس ، وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه ، واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس ; فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء ، وقال بقولهما جماعة من التابعين ; وبه يقول الشافعي وإسحاق ، وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس ، وقال أحمد : [ ص: 148 ] موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها ، وقال مالك : المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ ، قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس ، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة . قال مالك : والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة ، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة ، وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه ; فقال أشهب وابن القاسم : ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد ، وليس فيها أرش معلوم . قال ابن المنذر : هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وبه نقول . وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا . قال أبو عمر : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة ، وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة . قال ابن المنذر : ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة ، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد ، وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا . وقال أبو ثور : إن اختلفوا فيه ففيها حكومة . قال ابن المنذر : النظر يدل على هذا ; إذ لا سنة فيها ولا إجماع ، وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة ; فإن صارت منقلة فخمسة عشر ، وإن صارت مأمومة فثلث الدية . قال ابن المنذر : ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل ، وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت ; وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي ، وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ، ومرادهم عشر الدية ، وأما المنقلة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المنقلة خمس عشرة من الإبل وأجمع أهل العلم على القول به . قال ابن المنذر : وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم إن المنقلة هي التي تنقل منها العظام ، وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - إن المنقلة لا قود فيها ; وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة . قال ابن المنذر : والأول أولى ; لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المأمومة ثلث الدية ، وأجمع عوام أهل العلم على القول به ، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية ; وهذا قول شاذ ، وبالقول الأول أقول . واختلفوا في القود من المأمومة ; فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها ; وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة ، فأنكر ذلك الناس ، وقال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير ، وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على [ ص: 149 ] حديث عمرو بن حزم ; ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية ، والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة ; فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان ، وفيها من الدية الثلثان . قال أشهب : وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين . وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون : لا قصاص في الجائفة . قال ابن المنذر : وبه نقول .

السادسة والعشرون : واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها ; فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها ، وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك ; وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث ، وقال الليث : إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها ; للخوف على العين ويعاقبه السلطان ، وإن كانت على الخد ففيها القود ، وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة ; روي هذا عن الحسن وقتادة ، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي ; واحتج مالك في ذلك فقال : ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة ; وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .

السابعة والعشرون : واختلفوا في القود من ضرب السوط ; فقال الليث والحسن : يقاد منه ، ويزاد عليه للتعدي . وقال ابن القاسم : يقاد منه . ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح ; قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة ، وقال ابن المنذر : وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد ، وفيه القود ; وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث ، وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة ، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط ، واقتص شريح من سوط وخموش ، وقال ابن بطال : وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح .

الثامنة والعشرون : واختلفوا في عقل جراحات النساء ; ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل ، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه ، وموضحتها كموضحته ، ومنقلتها كمنقلته . قال ابن بكير : [ ص: 150 ] قال مالك : فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل . قال ابن المنذر : روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك بن الماجشون ، وقالت طائفة : دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر ; روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، به قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه ; واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله ، وبه نقول .

التاسعة والعشرون : قال القاضي عبد الوهاب : وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة ; كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته ، وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما ، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم ; قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة ، وقيل : بل يقبل قول عدل واحد ، والله سبحانه أعلم . فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه .

الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فمن تصدق به فهو كفارة له شرط وجوابه ; أي : تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له ، أي : لذلك المتصدق ، وقيل : هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ; لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وأجر المتصدق عليه . وقد ذكر ابن عباس القولين ; وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم ، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد ، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما ; والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور ، وهو " من " ، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة . قال ابن العربي : والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ; فلا معنى له .
قوله : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

[ ص: 151 ] قوله تعالى : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم أي : جعلنا عيسى يقفو آثارهم ، أي : آثار النبيين الذين أسلموا . مصدقا لما بين يديه يعني التوراة ; فإنه رأى التوراة حقا ، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ . ( مصدقا ) نصب على الحال منعيسى . فيه هدى في موضع رفع بالابتداء . ونور عطف عليه . ومصدقا فيه وجهان ; يجوز أن يكون لعيسى وتعطفه على ( مصدقا ) الأول ، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل ، ويكون التقدير : وآتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا . وهدى وموعظة عطف على مصدقا أي : هاديا وواعظا للمتقين وخصهم لأنهم المنتفعون بهما ، ويجوز رفعهما على العطف على قوله : فيه هدى ونور .

قوله تعالى : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي ، والباقون بالجزم على الأمر ; فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه فلا يجوز الوقف ; أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، ومن قرأه على الأمر فهو كقوله : وأن احكم بينهم فهو إلزام مستأنف يبتدأ به ، أي : ليحكم أهل الإنجيل أي : في ذلك الوقت ، فأما الآن فهو منسوخ ، وقيل : هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ; فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به ، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول . قالمكي : والاختيار الجزم ; لأن الجماعة عليه ; ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل . قال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان ; لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه ، وأمر بالعمل بما فيه ; فصحتا جميعا .
قوله : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

[ ص: 152 ] قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . و ( الكتاب ) القرآن ( بالحق ) أي : هو بالأمر الحق ( مصدقا ) حال لما بين يديه من الكتاب أي : من جنس الكتب . و ( مهيمنا عليه ) أي : عاليا عليه ومرتفعا ، وهذا يدل على تأويل من يقول بالتفضيل أي : في كثرة الثواب ، على ما تقدمت إليه الإشارة في " الفاتحة " وهو اختيار ابن الحصار في كتاب شرح السنة له ، وقد ذكرنا ما ذكره في كتابنا في شرح الأسماء الحسنى ، والحمد لله ، وقال قتادة : المهيمن معناه الشاهد ، وقيل : الحافظ ، وقال الحسن : المصدق ; ومنه قول الشاعر :


إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
وقال ابن عباس : ومهيمنا عليه أي : مؤتمنا عليه . قال سعيد بن جبير : القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب ، وعن ابن عباس والحسن أيضا : المهيمن الأمين . قال المبرد : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء ; كما قيل في أرقت الماء هرقت ، وقاله الزجاج أيضا وأبو علي ، وقد صرف فقيل : هيمن يهيمن هيمنة ، وهو مهيمن بمعنى كان أمينا . الجوهري : هو من آمن غيره من الخوف ; وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين ، قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة لاجتماعهما فصار مؤيمن ، ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا : هراق الماء وأراقه ; يقال منه : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا ، فهو مهيمن ; عن أبي عبيد ، وقرأ مجاهد وابن محيصن : " ومهيمنا عليه " بفتح الميم . قال مجاهد : أي : محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن .

قوله تعالى : فاحكم بينهم بما أنزل الله يوجب الحكم ; فقيل : هذا نسخ للتخيير في قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقيل : ليس هذا وجوبا ، والمعنى : فاحكم بينهم إن شئت ; إذ لا يجب علينا الحكم بينهم إذا لم يكونوا من أهل الذمة ، وفي أهل الذمة تردد وقد مضى الكلام فيه ، وقيل : أراد فاحكم بين الخلق ; فهذا كان واجبا عليه .

قوله تعالى : ولا تتبع أهواءهم فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : ولا تتبع أهواءهم يعني لا تعمل بأهوائهم ومرادهم على ما [ ص: 153 ] جاءك من الحق ; يعني لا تترك الحكم بما بين الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام . والأهواء جمع هوى ; ولا يجمع أهوية ; وقد تقدم في " البقرة " . فنهاه عن أن يتبعهم فيما يريدونه ; وهو يدل على بطلان قول من قال : تقوم الخمر على من أتلفها عليهم ; لأنها ليست مالا لهم فتكون مضمونة على متلفها ; لأن إيجاب ضمانها على متلفها حكم بموجب أهواء اليهود ; وقد أمرنا بخلاف ذلك . ومعنى عما جاءك على ما جاءك . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين . والشرعة والشريعة الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة ، والشريعة في اللغة : الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء ، والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين ; وقد شرع لهم يشرع شرعا أي : سن ، والشارع الطريق الأعظم ، والشرعة أيضا الوتر ، والجمع شرع وشراع جمع الجمع ; عن أبي عبيد ; فهو مشترك ، والمنهاج الطريق المستمر ، وهو النهج والمنهج ، أي البين ; قال الراجز :


من يك ذا شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج
وقال أبو العباس محمد بن يزيد : الشريعة ابتداء الطريق ; المنهاج الطريق المستمر ، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا ، ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها ; والإنجيل لأهله ; والقرآن لأهله ; وهذا في الشرائع والعبادات ; والأصل التوحيد لا اختلاف فيه ; روي معنى ذلك عن قتادة ، وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد عليه السلام ; وقد نسخ به كل ما سواه .

قوله تعالى : ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي : لجعل شريعتكم واحدة فكنتم على الحق ; فبين أنه أراد بالاختلاف إيمان قوم وكفر قوم . ولكن ليبلوكم في ما آتاكم في الكلام حذف تتعلق به لام كي ; أي : ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم ; والابتلاء الاختبار .

قوله تعالى : فاستبقوا الخيرات أي : سارعوا إلى الطاعات ; وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها ، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها إلا في الصلاة في أول الوقت ; فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها ، وعموم الآية دليل عليه ; قاله إلكيا ، وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر ، وقد تقدم جميع هذا في " البقرة " . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي : بما اختلفتم فيه ، وتزول الشكوك .
قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون

[ ص: 154 ] قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله تقدم الكلام فيها ، وأنها ناسخة للتخيير . قال ابن العربي : وهذه دعوى عريضة ; فإن شروط النسخ أربعة : منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر ، وهذا مجهول من هاتين الآيتين ; فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى ، وبقي الأمر على حاله .

قلت : قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول ; فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن شئت ; لأنه قد تقدم ذكر التخيير له ، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه ; لأنه معطوف عليه ، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه ، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله ; إذ لا معنى لذلك ولا يصح ، فلا بد من أن يكون قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله معطوفا على ما قبله من قوله : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ومن قوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فمعنى وأن احكم بينهم بما أنزل الله أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم ; فهو كله محكم غير منسوخ ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطا بالمنسوخ معطوفا عليه ، فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ ، قاله مكي رحمه الله . وأن احكم في موضع نصب عطفا على الكتاب ; أي : وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله ، أي : بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه . ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك أن بدل من الهاء والميم في واحذرهم وهو بدل اشتمال . أو مفعول من أجله ; أي : من أجل أن يفتنوك ، وعن ابن إسحاق قال ابن عباس : اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن عدي وقالوا : اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر ; فأتوه فقالوا : قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود ، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود ، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك ; فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم ، ثم يختلف معناها ; فقوله تعالى هنا يفتنوك معناه يصدوك ويردوك ; وتكون الفتنة بمعنى الشرك ; ومنه قوله : والفتنة أكبر من القتل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #282  
قديم 20-03-2023, 09:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 155 الى صــ 162
الحلقة (282)




وقوله : [ ص: 155 ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، وتكون الفتنة بمعنى العبرة ; كقوله : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا . و لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين : ، وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية ، وتكرير وأن احكم بينهم بما أنزل الله للتأكيد ، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله ، وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه قال : أن يفتنوك وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد . وقيل : الخطاب له والمراد غيره ، وسيأتي بيان هذا في " الأنعام " إن شاء الله تعالى . ومعنى عن بعض ما أنزل الله إليك عن كل ما أنزل الله إليك ، والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر :


أو يعتبط بعض النفوس حمامها
ويروى أو يرتبط . أراد كل النفوس ; وعليه حملوا قوله تعالى : ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه . قال ابن العربي : والصحيح أن بعض على حالها في هذه الآية ، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل ، والله أعلم .

قوله تعالى : فإن تولوا أي : فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه . فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أي : يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل ، وكذلك كان ، وإنما قال : ببعض لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون يعني اليهود .
قوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون أفحكم نصب ب يبغون والمعنى : أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع ; كما تقدم في غير موضع ، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء ، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء ; فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل .

الثانية : روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال : كان إذا سألوه عن [ ص: 156 ] الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية أفحكم الجاهلية يبغون فكان طاوس يقول : ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض ، فإن فعل لم ينفذ وفسخ ; وبه قال أهل الظاهر ، وروي عن أحمد بن حنبل مثله ، وكرهه الثوري وابن المبارك وإسحاق ; فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يرد ، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي ; واستدلوا بفعل الصديق في نحله عائشة دون سائر ولده ، وبقوله عليه السلام : فارجعه وقوله : فأشهد على هذا غيري ، واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشير : ألك ولد سوى هذا قال نعم ، فقال : أكلهم وهبت له مثل هذا فقال لا ، قال : فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور في رواية وإني لا أشهد إلا على حق . قالوا : وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز . وقوله : أشهد على هذا غيري ليس إذنا في الشهادة وإنما هو زجر عنها ; لأنه عليه السلام قد سماه جورا وامتنع من الشهادة فيه ; فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه ، وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعله قد كان نحل أولاده نحلا يعادل ذلك .

فإن قيل : الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا ، قيل له : الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص ، وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص ، ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر ، وذلك محرم ، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم . قال النعمان : فرجع أبي فرد تلك الصدقة ، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله : ( فارجعه ) محمول على معنى فاردده ، والرد ظاهر في الفسخ ; كما قال عليه السلام : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أي : مردود مفسوخ . وهذا كله ظاهر قوي ، وترجيح جلي في المنع .

الثالثة : قرأ ابن وثاب والنخعي " أفحكم " بالرفع على معنى يبغونه ; فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله :


قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
فيمن روى " كله " بالرفع . ويجوز أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم يبغونه ؟ [ ص: 157 ] فحذف الموصوف ، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج والأعمش " أفحكم " بنصب الحاء والكاف وفتح الميم ; وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحكم ، وإنما المراد الحكم ; فكأنه قال : أفحكم حكم الجاهلية يبغون ، وقد يكون الحكم والحاكم في اللغة واحدا وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية ; فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس ، إذ لا يراد به حاكم بعينه ; وجاز وقوع المضاف جنسا كما جاز في قولهم : منعت مصر إردبها ، وشبهه ، وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء ، الباقون بالياء .

قوله تعالى : ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى : لا أحد أحسن ; فهذا ابتداء وخبر . وحكما نصب على البيان . لقوله لقوم يوقنون أي : عند قوم يوقنون .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : اليهود والنصارى أولياء مفعولان ل تتخذوا ; وهذا يدل على قطع الموالاة شرعا ، وقد مضى في " آل عمران " بيان ذلك . ثم قيل : المراد به المنافقون ; المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم ، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين ، وقيل : نزلت في أبي لبابة ، عن عكرمة . قال السدي : نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى ، وقيل : نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول ; فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود ، وتمسك بها ابن أبي وقال : إني أخاف أن تدور الدوائر . بعضهم أولياء بعض مبتدأ وخبره ; وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض .

الثانية : قوله تعالى : ومن يتولهم منكم أي : يعضدهم على المسلمين . فإنه منهم [ ص: 158 ] بين تعالى أن حكمه كحكمهم ; وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد ، وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة ; وقد قال تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وقال تعالى في " آل عمران " : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وقال تعالى : لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد مضى القول فيه ، وقيل : إن معنى بعضهم أولياء بعض أي : في النصر ومن يتولهم منكم فإنه منهم شرط وجوابه ; أي : لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ، ووجبت له النار كما وجبت لهم ; فصار منهم أي : من أصحابهم .
قوله تعالى : فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين

قوله تعالى : فترى الذين في قلوبهم مرض شك ونفاق ، وقد تقدم في " البقرة " والمراد ابن أبي وأصحابه يسارعون فيهم أي : في موالاتهم ومعاونتهم . يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة أي : يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميزوننا ولا يفضلوا علينا ، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول أشبه بالمعنى ; كأنه من دارت تدور ، أي : نخشى أن يدور الأمر ; ويدل عليه قوله عز وجل : فعسى الله أن يأتي بالفتح ; وقال الشاعر :


يرد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا
يعني دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم . واختلف في معنى الفتح ، فقيل : الفتح الفصل والحكم ، عن قتادة وغيره . قال ابن عباس : أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير . وقال أبو علي : هو فتح بلاد المشركين على المسلمين . [ ص: 159 ] وقال السدي : يعني بالفتح فتح مكة . أو أمر من عنده قال السدي : هو الجزية . الحسن : إظهار أمر المنافقين والإخبار بأسمائهم والأمر بقتلهم ، وقيل : الخصب والسعة للمسلمين . فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين أي : فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين ، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب .

قوله تعالى : ويقول الذين آمنوا وقرأ أهل المدينة وأهل الشام : " يقول " بغير واو ، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق : " ويقول " بالواو والنصب عطفا على " أن يأتي " عند أكثر النحويين ، التقدير : فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول ، وقيل : هو عطف على المعنى ; لأن معنى عسى الله أن يأتي بالفتح وعسى أن يأتي الله بالفتح ; إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو ; لأنه لا يصح المعنى إذا قلت وعسى زيد أن يقوم عمرو ، ولكن لو قلت : عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا . فإذا قدرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حسن ; لأنه يصير التقدير : عسى أن يأتي وعسى أن يقوم ، ويكون من باب قوله :


ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وفيه قول ثالث : وهو أن تعطفه على الفتح ; كما قال الشاعر :


للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
ويجوز أن يجعل أن يأتي بدلا من اسم الله جل ذكره ; فيصير التقدير : عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا ، وقرأ الكوفيون ويقول الذين آمنوا بالرفع على القطع من الأول . ( أهؤلاء ) إشارة إلى المنافقين . ( أقسموا بالله ) حلفوا واجتهدوا في الأيمان ( إنهم لمعكم ) أي : قالوا إنهم ، ويجوز " أنهم " نصب ب أقسموا أي : قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ : أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد ، ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض ; أي : هؤلاء الذين كانوا يحلفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم . حبطت أعمالهم بطلت بنفاقهم . فأصبحوا خاسرين أي : خاسرين الثواب ، وقيل : خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم .
قوله : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

[ ص: 160 ] فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : من يرتد منكم عن دينه شرط وجوابه فسوف ، وقراءة أهل المدينة والشام " من يرتدد " بدالين . الباقون " من يرتد " . وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم : إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا ، فكان على ما أخبر بعد مدة ، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد جؤاثى ، وكانوا في ردتهم على قسمين : قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها ، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها ; قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي ; فقاتل الصديق جميعهم ; وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم ; على ما هو مشهور من أخبارهم .

الثانية : قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه في موضع النعت . قال الحسن وقتادة وغيرهما : نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه ، وقال السدي : نزلت في الأنصار . وقيل : هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت ، وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية ; وهم أحياء من اليمن من كندة وبجيلة ، ومن أشجع ، وقيل : إنها نزلت في الأشعريين ; ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين ، وقبائل اليمن من طريق البحر ، فكان لهم بلاء في الإسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن ; هذا أصح ما قيل في نزولها ، والله أعلم ، وروى الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " بإسناده : أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال : ( هم قوم هذا ) قال القشيري : فأتباع أبي الحسن من قومه ; لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع .

الثالثة : قوله تعالى : أذلة على المؤمنين ( أذلة ) نعت لقوم ، وكذلك ( أعزة ) أي : يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم ; من قولهم : دابة ذلول أي : تنقاد سهلة ، وليس من الذل في شيء ، ويغلظون على الكافرين ويعادونهم . قال ابن عباس : هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد ، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته ; قال الله تعالى : أشداء على الكفار رحماء بينهم ، ويجوز " أذلة " بالنصب على الحال ; أي : يحبهم ويحبونه في هذا الحال ، وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له .

[ ص: 161 ] الرابعة : يجاهدون في سبيل الله في موضع الصفة أيضا . ولا يخافون لومة لائم بخلاف المنافقين يخافون الدوائر ; فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ; لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاتلوا المرتدين بعده ، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى ، وقيل : الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة ، والله أعلم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ابتداء وخبر ( واسع عليم ) أي : واسع الفضل ، عليم بمصالح خلقه .
قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله قال جابر بن عبد الله قال عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء . و ( الذين ) عام في جميع المؤمنين ، وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا هل هو علي بن أبي طالب ؟ فقال : علي من المؤمنين ; يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين . قال النحاس : وهذا قول بين ; لأن الذين لجماعة ، وقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وقال في رواية أخرى : نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ; وقاله مجاهد والسدي ، وحملهم على ذلك قوله تعالى : الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي :

المسألة الثانية : وذلك أن سائلا سأل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطه أحد شيئا ، وكان علي في الصلاة في الركوع وفي يمينه خاتم ، فأشار إلى السائل بيده حتى أخذه . قال إلكيا الطبري : وهذا يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة ; فإن التصدق بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة ولم تبطل به الصلاة ، وقوله : ويؤتون الزكاة وهم راكعون يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة . ; فإن عليا تصدق بخاتمه في الركوع ، وهو نظير قوله [ ص: 162 ] تعالى : وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وقد انتظم الفرض والنفل ، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل ، كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين .

قلت : فالمراد على هذا بالزكاة التصدق بالخاتم ، وحمل لفظ الزكاة على التصدق بالخاتم فيه بعد ; لأن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة المفروضة على ما تقدم بيانه في أول سورة " البقرة " . وأيضا فإن قبله يقيمون الصلاة ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها ، والمراد صلاة الفرض . ثم قال : وهم راكعون أي النفل ، وقيل : أفرد الركوع بالذكر تشريفا ، وقيل : المؤمنون وقت نزول الآية كانوا بين متمم للصلاة وبين راكع ، وقال ابن خويز منداد قوله تعالى : ويؤتون الزكاة وهم راكعون تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة ; وذلك أن هذا خرج مخرج المدح ، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحا ; وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعطى السائل شيئا وهو في الصلاة ، وقد يجوز أن يكون هذه صلاة تطوع ، وذلك أنه مكروه في الفرض ، ويحتمل أن يكون المدح متوجها على اجتماع حالتين ; كأنه وصف من يعتقد وجوب الصلاة والزكاة ; فعبر عن الصلاة بالركوع ، وعن الاعتقاد للوجوب بالفعل ; كما تقول : المسلمون هم المصلون ، ولا تريد أنهم في تلك الحال مصلون ولا يوجه المدح حال الصلاة ; فإنما يريد من يفعل هذا الفعل ويعتقده .
قوله تعالى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون

قوله تعالى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا أي : من فوض أمره إلى الله ، وامتثل أمر رسوله ، ووالى المسلمين ، فهو من حزب الله ، وقيل : أي : ومن يتول القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين . فإن حزب الله هم الغالبون قال الحسن : حزب الله جند الله ، وقال غيره : أنصار الله قال الشاعر :


وكيف أضوى وبلال حزبي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #283  
قديم 20-03-2023, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 163 الى صــ 170
الحلقة (283)



أي : ناصري ، والمؤمنون حزب الله ; فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية ، والحزب الصنف من الناس ، وأصله من النائبة من قولهم : حزبه كذا أي : نابه ; فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها . وحزب الرجل أصحابه ، والحزب [ ص: 163 ] الورد ; ومنه الحديث فمن فاته حزبه من الليل ، وقد حزبت القرآن ، والحزب الطائفة ، وتحزبوا اجتمعوا ، والأحزاب : الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء ، وحزبه أمر أي : أصابه .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين

فيه مسألتان :

الأولى : روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا إلى آخر الآيات . وتقدم معنى الهزؤ في " البقرة " . من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء قرأه أبو عمرو والكسائي بالخفض بمعنى ومن الكفار . قال الكسائي : وفي حرف أبي رحمه الله " ومن الكفار " ، ومن هاهنا لبيان الجنس ; والنصب أوضح وأبين . قاله النحاس ، وقيل : هو معطوف على أقرب العاملين منه وهو قوله : من الذين أوتوا الكتاب فنهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء ، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزوا ولعبا ، ومن نصب عطف على الذين الأول في قوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء أي : لا تتخذوا هؤلاء وهؤلاء أولياء ; فالموصوف بالهزؤ واللعب في هذه القراءة اليهود لا غير ، والمنهي عن اتخاذهم أولياء اليهود والمشركون ، وكلاهما في القراءة بالخفض موصوف بالهزؤ واللعب . قال مكي : ولولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض ، لقوته في الإعراب وفي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف عليه . وقيل : المعنى لا تتخذوا المشركين والمنافقين أولياء ; بدليل قولهم : إنما نحن مستهزئون والمشركون كلهم كفار ، لكن يطلق في الغالب لفظ الكفار على المشركين ; فلهذا فصل ذكر أهل الكتاب من الكافرين .

الثانية : قال ابن خويز منداد : هذه الآية مثل قوله تعالى : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، و لا تتخذوا بطانة من دونكم تضمنت المنع من التأييد [ ص: 164 ] والانتصار بالمشركين ونحو ذلك ، وروى جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاءه قوم من اليهود فقالوا : نسير معك ; فقال عليه الصلاة والسلام : إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وأبو حنيفة جوز الانتصار بهم على المشركين للمسلمين ; وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوه مع ما جاء من السنة في ذلك ، والله أعلم .
قوله تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون

فيه اثنتا عشرة مسألة :

الأولى : قال الكلبي : كان إذا أذن المؤذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا ; وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا وقالوا في حق الأذان : لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم ، فمن أين لك صياح مثل صياح العير ؟ فما أقبحه من صوت ، وما أسمجه من أمر . وقيل : إنهم كانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون ; تجهيلا لأهلها ، وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها . وقيل : إنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها ، جهلا منهم بمنزلتها ; فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله سبحانه : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا والنداء الدعاء برفع الصوت ، وقد يضم مثل الدعاء والرغاء ، وناداه مناداة ونداء أي : صاح به . وتنادوا أي : نادى بعضهم بعضا ، وتنادوا أي : جلسوا في النادي ، وناداه جالسه في النادي ، وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية ، أما إنه ذكر في الجمعة على الاختصاص .

الثانية : قال العلماء : ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة ، وإنما كانوا ينادون " الصلاة جامعة " فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان ، وبقي " الصلاة جامعة " للأمر يعرض ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد ، وعمر بن [ ص: 165 ] الخطاب ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء ، وأما رؤيا عبد الله بن زيد الخزرجي الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فمشهورة ; وأن عبد الله بن زيد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليلا طرقه به ، وأن عمر رضي الله عنه قال : إذا أصبحت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ; فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة أذان الناس اليوم ، وزاد بلال في الصبح " الصلاة خير من النوم " فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أري الأنصاري ; ذكره ابن سعد عن ابن عمر ، وذكر الدارقطني رحمه الله أن الصديق رضي الله عنه أري الأذان ، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا قبل أن يخبره الأنصاري ; ذكره في كتاب " المديح " له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق وحديث أبي بكر عنه .

الثالثة : واختلف العلماء في وجوب الأذان والإقامة ; فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس ، وقد نص على ذلك مالك في موطئه ، واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين : أحدهما : سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى . وقال بعضهم : هو فرض على الكفاية . وكذلك اختلف أصحاب الشافعي ، وحكى الطبري عن مالك قال : إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة ; قال أبو عمر : ولا أعلم اختلافا في وجوب الأذان جملة على أهل المصر ; لأن الأذان هو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر ; وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال لهم : إذ سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا - أو قال - فشنوا الغارة ، وفي صحيح مسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر ، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار الحديث وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود : الأذان فرض ، ولم يقولوا على الكفاية ، وقال الطبري : الأذان سنة وليس بواجب ، وذكر عن أشهب عن مالك : إن ترك الأذان مسافر عمدا فعليه إعادة الصلاة ، وكره الكوفيون أن يصلي المسافر بغير أذان ولا إقامة ; قالوا : وأما ساكن المصر فيستحب له أن يؤذن ويقيم ; فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه ، وقال الثوري : تجزئه الإقامة عن الأذان في السفر ، وإن شئت أذنت وأقمت ، وقال أحمد بن حنبل : يؤذن المسافر على حديث مالك بن الحويرث . وقال داود : الأذان واجب على كل مسافر في خاصته والإقامة ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولصاحبه : إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما خرجه البخاري وهو قول أهل الظاهر . قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولابن عم له : إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما . قال ابن المنذر : فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر [ ص: 166 ] والسفر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان وأمره على الوجوب . قال أبو عمر : واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته ; وكذلك لو ترك الإقامة عندهم ، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة ، واحتج الشافعي في أن الأذان غير واجب وليس فرضا من فروض الصلاة بسقوط الأذان للواحد عند الجمع بعرفة والمزدلفة ، وتحصيل مذهب مالك في الأذان في السفر كالشافعي سواء .

الرابعة : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى والإقامة مرة مرة ، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول ; وذلك محفوظ من روايات الثقات في حديث أبي محذورة ، وفي حديث عبد الله بن زيد ; قال : وهي زيادة يجب قبولها ، وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره . قال أصحابه : وكذلك هو الآن عندهم ; وما ذهب إليه مالك موجود أيضا في أحاديث صحاح في أذان أبي محذورة ، وفي أذان عبد الله بن زيد ، والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظي إلى زمانهم ، واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان ; وذلك رجوع المؤذن إذا قال : " أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين " رجع فمد من صوته جهده . ولا خلاف بين مالك والشافعي في الإقامة إلا قوله : " قد قامت الصلاة " فإن مالكا يقولها مرة ، والشافعي مرتين ; وأكثر العلماء على ما قال الشافعي ، وبه جاءت الآثار ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي : الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى ، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة " الله أكبر " أربع مرات ، ولا ترجيع عندهم في الأذان ; وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، رأيت في المنام كان رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد بينهما قعدة ، فسمع بلال بذلك فقام وأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى ; رواه الأعمش وغيره عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى ، وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق . قال أبو إسحاق السبيعي : كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة ; فهذا أذان الكوفيين ، متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا ، كما يتوارث الحجازيون ; فأذانهم تربيع التكبير مثل المكيين . ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة ، وأشهد أن محمدا رسول الله مرة واحدة ، ثم حي على الصلاة مرة ، ثم حي على الفلاح مرة ، ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله - الأذان كله - مرتين مرتين إلى آخره . قال أبو عمر : ذهب [ ص: 167 ] أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملوه على الإباحة والتخيير ، قالوا : كل ذلك جائز ; لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك ، وعمل به أصحابه ، فمن شاء قال : الله أكبر مرتين في أول الأذان ، ومن شاء قال ذلك أربعا ، ومن شاء رجع في أذانه ، ومن شاء لم يرجع ، ومن شاء ثنى الإقامة ، ومن شاء أفردها ، إلا قوله : " قد قامت الصلاة " فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال ! ! .

الخامسة : واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح - وهو قول المؤذن : الصلاة خير من النوم - فقال مالك والثوري والليث : يقول المؤذن في صلاة الصبح - بعد قوله : حي على الفلاح مرتين - الصلاة خير من النوم مرتين ; وهو قول الشافعي بالعراق ، وقال بمصر : لا يقول ذلك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يقوله بعد الفراغ من الأذان إن شاء ، وقد روي عنهم أن ذلك في نفس الأذان ; وعليه الناس في صلاة الفجر . قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي محذورة أنه أمره أن يقول في أذان الصبح : ( الصلاة خير من النوم ) . وروي عنه أيضا ذلك من حديث عبد الله بن زيد ، وروي عن أنس أنه قال : من السنة أن يقال في الفجر " الصلاة خير من النوم " ، وروي عن ابن عمر أنه كان يقوله ; وأما قول مالك في " الموطأ " أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فقال : الصلاة خير من النوم ; فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أن هذا روي عن عمر من جهة يحتج بها وتعلم صحتها ; وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له " إسماعيل " فاعرفه ; ذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن رجل يقال له " إسماعيل " قال : جاء المؤذن يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال : الصلاة خير من النوم " فأعجب به عمر وقال للمؤذن : " أقرها في أذانك " . قال أبو عمر : والمعنى فيه عندي أنه قال له : نداء الصبح موضع القول بها لا هاهنا ، كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعد . قال أبو عمر : وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه ; لأن التثويب في صلاة الصبح أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه جهل شيئا سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه ، بالمدينة بلالا ، وبمكة أبا محذورة ; فهو محفوظ معروف في تأذين بلال ، وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم ; مشهور عند العلماء . روى وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت " حي على الفلاح " فقل : الصلاة خير من النوم ; فإنه أذان بلال ; ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر ، ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها .

[ ص: 168 ] السادسة : وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر ، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ; وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم . وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن : لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما وقياسا على سائر الصلوات ، وقالت طائفة من أهل الحديث : إذا كان للمسجد مؤذنان أذن أحدهما قبل طلوع الفجر ، والآخر بعد طلوع الفجر .

السابعة : واختلفوا في المؤذن يؤذن ويقيم غيره ; فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أنه لا بأس بذلك ; لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إذ رأى النداء في النوم أن يلقيه على بلال ; ثم أمر عبد الله بن زيد فأقام . وقال الثوري والليث والشافعي : من أذن فهو يقيم ; لحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول الصبح أمرني فأذنت ، ثم قام إلى الصلاة فجاء بلال ليقيم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم . قال أبو عمر : عبد الرحمن بن زياد هو الإفريقي ، وأكثرهم يضعفونه ، وليس يروي هذا الحديث غيره ; والأول أحسن إسنادا إن شاء الله تعالى . وإن صح حديث الإفريقي فإن من أهل العلم من يوثقه ويثني عليه ; فالقول به أولى لأنه نص في موضع الخلاف ، وهو متأخر عن قصة عبد الله بن زيد مع بلال ، والآخر ; فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع ، ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة ; فإن أقامها غيره فالصلاة ماضية بإجماع ، والحمد لله .

الثامنة : وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه ، ولا يطرب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال ، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب ; فيرجعون فيه الترجيعات ، ويكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول ، ولا بما به يصول . روى الدارقطني من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 169 ] إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن ، ويستقبل في أذانه القبلة عند جماعة العلماء ، ويلوي رأسه يمينا وشمالا في " حي على الصلاة حي على الفلاح " عند كثير من أهل العلم . قال أحمد : لا يدور إلا أن يكون في منارة يريد أن يسمع الناس ; وبه قال إسحاق ، والأفضل أن يكون متطهرا .

التاسعة : ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين وإن أتمه جاز ; لحديث أبي سعيد ; وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : حي على الفلاح قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر الله أكبر قال : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله قال : لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة ، وفيه عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قال حين يسمع المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ما تقدم من ذنبه .

العاشرة : وأما فضل الأذان والمؤذن فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح ; منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين الحديث . وحسبك أنه شعار الإسلام ، وعلم على الإيمان كما تقدم ، وأما المؤذن فروى مسلم عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، وهذه إشارة إلى الأمن من هول ذلك اليوم . والله أعلم ، والعرب تكني بطول العنق عن أشراف القوم وساداتهم ; كما قال قائلهم :


يشبهون ملوكا في تجلتهم طوال أنضية الأعناق واللمم
وفي الموطأ عن أبي سعيد الخدري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار وفيه عن ابن عمر أن [ ص: 170 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة ولكل إقامة ثلاثون حسنة . قال أبو حاتم : هذا الإسناد منكر والحديث صحيح . وعن عثمان بن أبي العاص قال : كان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا ) حديث ثابت .

الحادية عشرة : واختلفوا في أخذ الأجرة على الأذان ; فكره ذلك القاسم بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي ، ورخص فيه مالك ، وقال : لا بأس به ، وقال الأوزاعي : ذلك مكروه ، ولا بأس بأخذ الرزق على ذلك من بيت المال ، وقال الشافعي : لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن المنذر : لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان . وقد استدل علماؤنا بأخذ الأجرة بحديث أبي محذورة ، وفيه نظر ; أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما قال : خرجت في نفر فكنا ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون فصرخنا نحكيه نهزأ به ; فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال : أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع فأشار إلي القوم كلهم وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني وقال لي : قم فأذن فقمت ولا شيء أكره إلي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به ، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال : قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال لي : ارفع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ، قد وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه ، ثم على ثدييه ، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة ; ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك وبارك عليك ، فقلت : يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة ، قال : قد أمرتك . فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لفظ ابن ماجه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #284  
قديم 20-03-2023, 09:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 171 الى صــ 178
الحلقة (284)




[ ص: 171 ] الثانية عشرة : ذلك بأنهم قوم لا يعقلون أي : أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح . روي أن رجلا من النصارى وكان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : " أشهد أن محمدا رسول الله " قال : حرق الكاذب ; فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم فتعلقت بالبيت فأحرقته وأحرقت ذلك الكافر معه ; فكانت عبرة للخلق " والبلاء موكل بالمنطق " وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا ، فلا يؤخروا بعد ذلك ; ذكره ابن العربي .
قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل

قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا قال ابن عباس رضي الله عنه : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام ; فقال : نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم ; فنزلت هذه الآية وما بعدها ، وهي متصلة بما سبقها من إنكارهم الأذان ; فهو جامع للشهادة لله بالتوحيد ، ولمحمد بالنبوة ، والمتناقض دين من فرق بين أنبياء الله لا دين من يؤمن بالكل ، ويجوز إدغام اللام في التاء لقربها منها . وتنقمون معناه تسخطون ، وقيل : تكرهون وقيل : تنكرون ، والمعنى متقارب ; يقال : نقم من كذا ينقم ونقم ينقم ، والأول أكثر قال عبد الله بن قيس الرقيات :


ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وفي التنزيل وما نقموا منهم ويقال : نقمت على الرجل بالكسر فأنا ناقم إذا عتبت عليه ; يقال : ما نقمت عليه الإحسان . قال الكسائي : نقمت بالكسر لغة ، ونقمت الأمر أيضا ونقمته إذا كرهته ، وانتقم الله منه أي : عاقبه ، والاسم منه النقمة ، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة [ ص: 172 ] وكلمات وكلم ، وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت : نقمة والجمع نقم ; مثل نعمة ونعم ، إلا أن آمنا بالله في موضع نصب ب تنقمون و تنقمون بمعنى تعيبون ، أي : هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وقد علمتم أنا على الحق . وأن أكثركم فاسقون أي : في ترككم الإيمان ، وخروجكم عن امتثال أمر الله فقيل هو مثل قول القائل : هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر ، وقيل : أي : لأن أكثركم فاسقون تنقمون منا ذلك .

قوله تعالى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك أي : بشر من نقمكم علينا ، وقيل : بشر ما تريدون لنا من المكروه ; وهذا جواب قولهم : ما نعرف دينا شرا من دينكم . مثوبة نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك ; ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر ; كما قال الشاعر :


وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري
وقيل : مفعلة كقولك مكرمة ومعقلة . من لعنه الله من في موضع رفع ; كما قال : بشر من ذلكم النار والتقدير هو لعن من لعنه الله ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله ، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من ( شر ) والتقدير : هل أنبئكم بمن لعنه الله ; والمراد اليهود ، وقد تقدم القول في الطاغوت ، أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت ، والموصول محذوف عند الفراء ، وقال البصريون : لا يجوز حذف الموصول ; والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت .

وقرأ ابن وثاب النخعي " وأنبئكم " بالتخفيف ، وقرأ حمزة : " عبد الطاغوت " بضم الباء وكسر التاء ; جعله اسما على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر ، وأصله الصفة ; ومنه قول النابغة :


من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
بضم الراء ونصبه ب جعل ; أي : جعل منهم عبدا للطاغوت ، وأضاف عبد إلى الطاغوت فخفضه ، وجعل بمعنى خلق ، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت . وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء ; وجعلوه فعلا ماضيا ، وعطفوه على فعل ماض وهو غضب ولعن ; والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت ، أو منصوبا ب جعل ; أي : جعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ، ووحد الضمير في عبد حملا على لفظ من دون معناها . وقرأ أبي وابن مسعود " وعبدوا الطاغوت " على المعنى . ابن عباس : " وعبد الطاغوت " ، [ ص: 173 ] فيجوز أن يكون جمع عبد كما يقال : رهن ورهن ، وسقف وسقف ، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال : مثال ومثل ، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف ، ويجوز أن يكون جمع عادل كبازل وبزل ; والمعنى : وخدم الطاغوت ، وعن ابن عباس أيضا " وعبد الطاغوت " جعله جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغايب وغيب ، وعن أبي واقد : وعباد الطاغوت للمبالغة ، جمع عابد أيضا ; كعامل وعمال ، وضارب وضراب ، وذكر محبوب أن البصريين قرءوا : ( وعباد الطاغوت ) جمع عابد أيضا ، كقائم وقيام ، ويجوز أن يكون جمع عبد . وقرأ أبو جعفر الرؤاسي ( وعبد الطاغوت ) على المفعول ، والتقدير : وعبد الطاغوت فيهم ، وقرأ عون العقيلي وابن بريدة : ( وعابد الطاغوت ) على التوحيد ، وهو يؤدي عن جماعة ، وقرأ ابن مسعود أيضا ( وعبد الطاغوت ) وعنه أيضا وأبي ( وعبدت الطاغوت ) على تأنيث الجماعة ; كما قال تعالى : قالت الأعراب وقرأ عبيد بن عمير : ( وأعبد الطاغوت ) مثل كلب وأكلب . فهذه اثنا عشر وجها .

قوله تعالى : أولئك شر مكانا لأن مكانهم النار ; وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم ، وقال الزجاج : أولئك شر مكانا على قولكم . النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه : أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر ، وقيل : أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا من الذين نقموا عليكم ، وقيل : أولئك الذين نقموا عليكم شر مكانا من الذين لعنهم الله ، ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم : يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رءوسهم افتضاحا ، وفيهم يقول الشاعر :


فلعنة الله على اليهود إن اليهود إخوة القرود
قوله تعالى : وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون

قوله تعالى : وإذا جاءوكم قالوا آمنا هذه صفة المنافقين ، والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه ، بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . والله أعلم بما كانوا يكتمون [ ص: 174 ] أي : من نفاقهم ، وقيل : المراد اليهود الذين قالوا : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة ، واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم ، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي . قوله تعالى : وترى كثيرا منهم يعني من اليهود . يسارعون في الإثم والعدوان أي : يسابقون في المعاصي والظلم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون

قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار لولا بمعنى فلا . ينهاهم يزجرهم . الربانيون علماء النصارى . والأحبار ) علماء اليهود قاله الحسن ، وقيل الكل في اليهود ; لأن هذه الآيات فيهم . ثم وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال : لبئس ما كانوا يصنعون كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله : لبئس ما كانوا يعملون ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر ; فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد مضى القول في هذا المعنى في ( البقرة ) و ( آل عمران ) ، وروى سفيان بن عيينة قال : حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر قال : بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال : يا رب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه : ( أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط ) ، وفي صحيح الترمذي : ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) ، وسيأتي . والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة ; يقال : سيف صنيع إذا جود عمله .
قوله : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين

قوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء ، لعنه الله ، وأصحابه ، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل مالهم ; فقالوا : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء ; فالآية خاصة في بعضهم ، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا ، وقال الحسن : المعنى يد الله مقبوضة عن [ ص: 175 ] عذابنا ، وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير ، وربما قالوا : بخيل ; وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة فهذا على التمثيل كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، ومقبوض الكف ، وكز الأصابع ، ومغلول اليد ; قال الشاعر :


كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعدا أنامله
كأنما وجهه بالخل منضوح
واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا وهذا محال على الله تعالى ، وتكون للنعمة ; تقول العرب : كم يد لي عند فلان ، أي : كم من نعمة لي قد أسديتها له ، وتكون للقوة ; قال الله عز وجل : واذكر عبدنا داود ذا الأيد ، أي : ذا القوة وتكون للملك والقدرة ; قال الله تعالى : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . وتكون بمعنى الصلة ، قال الله تعالى : مما عملت أيدينا أنعاما أي : مما عملنا نحن ، وقال : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح البقرة : 2 أي الذي له عقدة النكاح ، وتكون بمعنى التأييد والنصرة ، ومن قوله عليه السلام : يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم ، وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفا له وتكريما ; قال الله تعالى : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فلا يجوز أن يحمل على الجارحة ; لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة ، لأن الاشتراك يقع حينئذ . بين وليه آدم وعدوه إبليس ، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه ; لبطلان معنى التخصيص ، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور ، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة ; ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كتب التوراة بيده ، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة ، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها .

[ ص: 176 ] قوله تعالى : غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا حذفت الضمة من الياء لثقلها ; أي : غلت في الآخرة ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم ، وكذا ولعنوا بما قالوا والمقصود تعليمنا كما قال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ; علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله : تبت يدا أبي لهب وقيل : المراد أنهم أبخل الخلق ; فلا ترى يهوديا غير لئيم ، وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو ; أي : قالوا : يد الله مغلولة وغلت أيديهم . واللعن الإبعاد ، وقد تقدم .

قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان ابتداء وخبر ; أي : بل نعمته مبسوطة ; فاليد بمعنى النعمة . قال بعضهم : هذا غلط ; لقوله : بل يداه مبسوطتان فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان ؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد ; فيكون مثل قوله عليه السلام : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين . فأحد الجنسين نعمة الدنيا ، والثاني نعمة الآخرة . وقيل : نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ; كما قال : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال فيه : النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ، وقيل : نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما . وقيل : إن النعمة للمبالغة ; كقول العرب : ( لبيك وسعديك ) وليس يريد الاقتصار على مرتين ; وقد يقول القائل : ما لي بهذا الأمر يد أي : قوة . قال السدي ; معنى قوله يداه قوتاه بالثواب والعقاب ، بخلاف ما قالت اليهود : إن يده مقبوضة عن عذابهم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض . السح الصب الكثير ، ويغيض ينقص ; ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره : والله يقبض ويبسط . وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود [ ص: 177 ] " بل يداه بسطان " حكاه الأخفش ، وقال يقال : يد بسطة ، أي : منطلقة منبسطة . ينفق كيف يشاء أي : يرزق كما يريد ، ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة ; أي : قدرته شاملة ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر . وليزيدن كثيرا منهم لام قسم . ما أنزل إليك من ربك أي : بالذي أنزل إليك . طغيانا وكفرا أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم . وألقينا بينهم قال مجاهد : أي : بين اليهود والنصارى ; لأنه قال قبل هذا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وقيل : أي : ألقينا بين طوائف اليهود ، كما قال : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فهم متباغضون غير متفقين ; فهم أبغض خلق الله إلى الناس . كلما أوقدوا نارا للحرب يريد اليهود . وكلما ظرف أي : كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم ، وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين ; فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار . قال قتادة : أذلهم الله عز وجل ; فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس ، ثم قال جل وعز : ويسعون في الأرض فسادا أي : يسعون في إبطال الإسلام ، وذلك من أعظم الفساد ، والله أعلم وقيل : المراد بالنار هنا نار الغضب ، أي : كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا ; وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم .
قوله : ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون

قوله تعالى : ولو أن أهل الكتاب أن في موضع رفع ، وكذا ولو أنهم أقاموا التوراة . آمنوا صدقوا . واتقوا أي الشرك والمعاصي . لكفرنا عنهم ، اللام جواب [ ص: 178 ] لو . ( كفرنا ) غطينا ، وقد تقدم ، وإقامة التوراة والإنجيل العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما ; وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) مستوفى . وما أنزل إليهم من ربهم أي القرآن ، وقيل : كتب أنبيائهم . لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال ابن عباس وغيره : يعني المطر والنبات ; وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب . وقيل : المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلا ; وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا ; ونظير هذه الآية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات ، ووعد بالمزيد لمن شكر فقال : لئن شكرتم لأزيدنكم ، ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا . المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان وعبد الله بن سلام اقتصدوا فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما ، وقيل : أراد بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا ، ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين ، والله أعلم ، والاقتصاد الاعتدال في العمل ; وهو من القصد ، والقصد إتيان الشيء ; تقول : قصدته وقصدت له وقصدت إليه بمعنى . ساء ما يعملون أي : بئس شيء عملوه ; كذبوا الرسل ، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #285  
قديم 20-03-2023, 09:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 179 الى صــ 186
الحلقة (285)



قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل : معناه أظهر التبليغ ; لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين ، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية ، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس ، وكان عمر رضي الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال : لا نعبد الله سرا ; وفي ذلك نزلت : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين فدلت الآية على [ ص: 179 ] رد قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية ، وعلى بطلانه ، وهم الرافضة ، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين ; لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا ، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فائدة ، وقيل : بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها ، وقيل غير هذا ، والصحيح القول بالعموم ; قال ابن عباس : المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته ; وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته ، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه ; وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب ; والله تعالى يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وقبح الله الروافض حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى الله إليه كان بالناس حاجة إليه .

الثانية : قوله تعالى : والله يعصمك من الناس فيه دليل على نبوته ; لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم ، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به ، وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : من يمنعك مني ؟ فقال : الله ; فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده ; وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ; ذكره المهدوي ، وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال : وقد رويت هذه القصة في الصحيح ، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه ; فرجع إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله : إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم مستوفى ، وفي " النساء " أيضا في ذكر صلاة الخوف ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها ، قال : وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر ، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده فقال لي : من يمنعك مني - قال - قلت : الله ثم قال في [ ص: 180 ] الثانية من يمنعك مني - قال - قلت : الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل : والله يعصمك من الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا أحتاج إلى من يحرسني .

قلت : وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة ، وأن الآية مكية وليس كذلك ، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع ; ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قالت : فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح ; فقال : من هذا ؟ قال : سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك ؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه ; فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام ، وفي غير الصحيح قالت : فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح ; فقال : من هذا ؟ فقالوا : سعد وحذيفة جئنا نحرسك ; فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية ; فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله .

وقرأ أهل المدينة : " رسالاته " على الجمع ، وأبو عمرو وأهل الكوفة : " رسالته " على التوحيد ; قال النحاس : والقراءتان حسنتان والجمع أبين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه ، والإفراد يدل على الكثرة ; فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الله لا يهدي القوم الكافرين أي : لا يرشدهم وقد تقدم ، وقيل : أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا . نظيره ما على الرسول إلا البلاغ والله أعلم .
قوله تعالى : قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين

[ ص: 181 ] فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قال ابن عباس : جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ألست تقر أن التوراة حق من عند الله ؟ قال : بلى . فقالوا : فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها ; فنزلت الآية ; أي : لستم على شيء من الدين حتى تعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام ، والعمل بما يوجبه ذلك منهما ; وقال أبو علي : ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما .

الثانية : قوله تعالى : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا أي : يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم ، والطغيان تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه ، وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة ، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى ، ومنه قوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أي : يتجاوز الحد في الخروج عن الحق .

الثالثة : قوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين أي : لا تحزن عليهم . أسى يأسى أسى إذا حزن . قال :


وانحلبت عيناه من فرط الأسى
وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بنهي عن الحزن ; لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن . وقد مضى هذا المعنى في آخر ( آل عمران ) مستوفى .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته . والذين هادوا معطوف ، وكذا والصابئون معطوف على المضمر في هادوا في قول الكسائي والأخفش . قال النحاس : سمعت الزجاج يقول : وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي : هذا خطأ من جهتين ; إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد . والجهة الأخرى أن المعطوف [ ص: 182 ] شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال ، وقال الفراء : إنما جاز الرفع في والصابئون لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر ; والذين هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران ، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام . قال الزجاج : وسبيل ما يتبين فيه الإعراب وما لا يتبين فيه الإعراب واحد ، وقال الخليل وسيبويه : الرفع محمول على التقديم والتأخير ; والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك ، وأنشد سيبويه وهو نظيره :


وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقال ضابئ البرجمي :


فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقيل : إن بمعنى " نعم " فالصابئون مرتفع بالابتداء ، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه ، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر ، وقال قيس الرقيات :


بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
قال الأخفش : ( إنه ) بمعنى ( نعم ) ، وهذه ( الهاء ) أدخلت للسكت .
قوله تعالى : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون .

قوله تعالى : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا قد تقدم في ( البقرة ) معنى الميثاق وهو ألا يعبدوا إلا الله ، وما يتصل به ، والمعنى في هذه الآية لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم ، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود ، وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله : أوفوا بالعقود . كلما جاءهم أي : اليهود . رسول بما لا تهوى أنفسهم [ ص: 183 ] لا يوافق هواهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون أي : كذبوا فريقا وقتلوا فريقا ; فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء ، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء ، وإنما قال : يقتلون لمراعاة رأس الآية ، وقيل : أراد فريقا كذبوا ، وفريقا قتلوا ، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون ، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر ، وقيل : فريقا كذبوا لم يقتلوهم ، وفريقا قتلوهم فكذبوا . ويقتلون نعت لفريق ، والله أعلم .
قوله تعالى وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

قوله تعالى : وحسبوا ألا تكون فتنة المعنى ; ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد ، اغترارا بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإنما اغتروا بطول الإمهال ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " تكون " بالرفع ; ونصب الباقون ; فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن . و " أن " مخففة من الثقيلة ودخول " لا " عوض من التخفيف ، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه ; ففصلوا بينهما ( بلا ) ، ومن نصب جعل " أن " ناصبة للفعل ، وبقي حسب على بابه من الشك وغيره . قال سيبويه : حسبت ألا يقول ذلك ; أي : حسبت أنه قال ذلك ، وإن شئت نصبت ; قال النحاس : والرفع عند النحويين في حسب وأخواتها أجود كما قال امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي


وإنما صار الرفع أجود ; لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت .

قوله تعالى : فعموا أي : عن الهدى . وصموا أي : عن سماع الحق ; لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه . ( ثم تاب الله عليهم ) في الكلام إضمار ، أي : أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط ، أو بإرسالمحمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا ، فهذا بيان تاب الله عليهم أي : يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة . ثم عموا وصموا كثير منهم أي : عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام ; فارتفع كثير على البدل من الواو ، وقال الأخفش سعيد : كما تقول رأيت قومك ثلثيهم ، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ أي العمي والصم كثير منهم . وإن شئت [ ص: 184 ] كان التقدير : العمي والصم منهم كثير ، وجواب رابع أن يكون على لغة من قال : ( أكلوني البراغيث ) وعليه قول الشاعر ( هو الفرزدق ) :
ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه
ومن هذا المعنى قوله : وأسروا النجوى الذين ظلموا ، ويجوز في غير القرآن ( كثيرا ) بالنصب يكون نعتا لمصدر محذوف .
قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار

قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم هذا قول اليعقوبية فرد الله ذلك بحجة قاطعة مما يقرون به ; فقال وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي أي : إذا كان المسيح يقول : يا رب ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها ؟ هذا محال . إنه من يشرك بالله قيل : هو من قول عيسى ، وقيل : ابتداء كلام من الله تعالى ، والإشراك أن يعتقد معه موجدا ، وقد مضى في ( آل عمران ) القول في اشتقاق المسيح فلا معنى لإعادته . وما للظالمين من أنصار .
قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم

قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة أي : أحد ثلاثة ، ولا يجوز فيه [ ص: 185 ] التنوين ; عن الزجاج وغيره ، وفيه للعرب مذهب آخر ; يقولون : رابع ثلاثة ; فعلى هذا يجوز الجر والنصب ; لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه منهم . وكذلك إذا قلت : ثالث اثنين ; جاز التنوين ، وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية ; لأنهم يقولون : أب وابن وروح القدس إله واحد ; ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى مذهبهم ، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمة لهم ، وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة ; وذلك أنهم يقولون : إن الابن إله والأب إله وروح القدس إله ، وقد تقدم القول في هذا في ( النساء ) فأكفرهم الله بقولهم هذا ، وقال : وما من إله إلا إله واحد أي : أن الإله لا يتعدد وهم يلزمهم القول بثلاثة آلهة كما تقدم ، وإن لم يصرحوا بذلك لفظا ; وقد مضى في " البقرة " معنى الواحد . ومن زائدة . ويجوز في غير القرآن ( إلها واحدا ) على الاستثناء ، وأجاز الكسائي الخفض على البدل .

قوله تعالى : وإن لم ينتهوا أي : يكفوا عن القول بالتثليث ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة . أفلا يتوبون تقرير وتوبيخ . أي : فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم ; والمراد الكفرة منهم ، وإنما خص الكفرة بالذكر لأنهم القائلون بذلك دون المؤمنين .
قوله تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

قوله تعالى : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ابتداء وخبر ; أي : ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل ; فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها ; فهذا رد لقولهم واحتجاج عليهم ، ثم بالغ في الحجة فقال : وأمه صديقة ابتداء وخبر كانا يأكلان الطعام أي : أنه مولود مربوب ، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين ; ولم يدفع هذا أحد منهم ، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربا ؟ ! وقولهم : كان يأكل بناسوته لا بلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط ، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله ، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثا ، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يقال : اللاهوت مخالط لكل محدث ، وقال بعض المفسرين في قوله : كانا يأكلان الطعام إنه كناية عن الغائط والبول ، وفي هذا [ ص: 186 ] دلالة على أنهما بشران ، وقد استدل من قال : إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى : وأمه صديقة .

قلت : وفيه نظر ، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام ; وقد مضى في " آل عمران " ما يدل على هذا . والله أعلم . وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به . عن الحسن وغيره . والله أعلم .

قوله تعالى : انظر كيف نبين لهم الآيات أي الدلالات . ثم انظر أنى يؤفكون أي : كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان ; يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه ، وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة .
قوله تعالى : قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

قوله تعالى : قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم ; أي : أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه ، لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا ، وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر ، فكيف اتخذتموه إلها ؟ . والله هو السميع العليم أي : لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع ، ومن كانت هذه صفته فهو الإله على الحقيقة ، والله أعلم .
قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق أي : لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى ; غلو اليهود قولهم في عيسى ، ليس ولد رشدة ، وغلو النصارى قولهم : إنه إله ، والغلو مجاوزة الحد ; وقد تقدم في ( النساء ) بيانه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #286  
قديم 20-03-2023, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 187 الى صــ 194
الحلقة (286)




قوله تعالى : ولا تتبعوا أهواء قوم الأهواء جمع هوى وقد تقدم في " البقرة " ، وسمي [ ص: 187 ] الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . قد ضلوا من قبل قال مجاهد والحسن : يعني اليهود . وأضلوا كثيرا أي : أضلوا كثيرا من الناس . وضلوا عن سواء السبيل أي : عن قصد طريق محمد صلى الله عليه وسلم ، وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد ; والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى .

قوله تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم فيه مسألة واحدة : وهي جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء ، وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم ، ومعنى على لسان داود وعيسى ابن مريم أي : لعنوا في الزبور والإنجيل ; فإن الزبور لسان داود ، والإنجيل لسان عيسى أي : لعنهم الله في الكتابين ، وقد تقدم اشتقاقهما . قال مجاهد وقتادة وغيرهما : لعنهم مسخهم قردة وخنازير . قال أبو مالك : الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة . والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير ، وقال ابن عباس : الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت ، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة بعد نزولها ، وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى ; لأنهما أعلما أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به .

قوله تعالى : ذلك بما عصوا ذلك في موضع رفع بالابتداء أي : ذلك اللعن بما عصوا ; أي : بعصيانهم . ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ ; أي الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي : فعلنا ذلك بهم لعصيانهم واعتدائهم .
قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : كانوا لا يتناهون أي : لا ينهى بعضهم بعضا : لبئس ما كانوا يفعلون ذم لتركهم النهي ، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم . خرج أبو داود عن [ ص: 188 ] عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون إلى قوله : فاسقون ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم وخرجه الترمذي أيضا ، ومعنى لتأطرنه لتردنه .

الثانية : قال ابن عطية : والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين ; فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه . وقال حذاق أهل العلم : وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا ، وقال بعض الأصوليين : فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا .

واستدلوا بهذه الآية ; قالوا : لأن قوله : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي ، وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم ، وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا و ما من قوله : ما كانوا يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها ; التقدير لبئس شيئا كانوا يفعلونه . أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي .
قوله تعالى : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون

قوله تعالى : ترى كثيرا منهم أي : من اليهود ; قيل : كعب بن الأشرف وأصحابه ، وقال مجاهد : يعني المنافقين يتولون الذين كفروا أي المشركين ; وليسوا على دينهم . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي : سولت وزينت ، وقيل : المعنى لبئس ما قدموا لأنفسهم ومعادهم . أن سخط الله عليهم أن في موضع رفع على إضمار مبتدأ كقوله : بئس رجل زيد ، وقيل : بدل من ما في قوله لبئس على أن تكون ما نكرة فتكون رفعا [ ص: 189 ] أيضا ، ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله عليه : وفي العذاب هم خالدون ابتداء وخبر .

قوله تعالى : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
قوله تعالى : ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله . ولكن كثيرا منهم فاسقون أي : خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم ، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم .
قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون

قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود اللام لام القسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل . عداوة نصب على البيان وكذا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره - خوفا من المشركين وفتنتهم ; وكانوا ذوي عدد . ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب . فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر ، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، [ ص: 190 ] وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم . ثم أمر جعفرا أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة ( مريم ) فقاموا تفيض أعينهم من الدمع ، فهم الذين أنزل الله فيهم ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى وقرأ إلى الشاهدين رواه أبو داود . قال : حدثنا محمد بن سلمة المرادي قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير ، أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ، وساق الحديث بطوله ، وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك ، من النصارى حين ظهر خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل ، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألوا أنفسنا خيرا . فيقال : إن النفرالنصارى من أهل نجران ، ويقال : إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله : لا نبتغي الجاهلين وقيل : إن جعفرا وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف ، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " يس " إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى يعني وفد النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع ، وقال سعيد بن جبير : وأنزل الله فيهم أيضا الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله : أولئك يؤتون أجرهم مرتين إلى آخر الآية ، وقال مقاتل والكلبي : كانوا أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية وستون من [ ص: 191 ] أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم .

قوله تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا واحد القسيسين قس وقسيس ; قاله قطرب . والقسيس العالم ; وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه ; قال الراجز :


يصبحن عن قس الأذى غوافلا وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها
، والقس النميمة ، والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس ، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد ، ويقال في جمع قسيس مكسرا : قساوسة أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا ك مهالبة ، والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها . ولفظ القسيس إما أن يكون عربيا ، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب كما تقدم . وقال أبو بكر الأنباري : حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثت عن معاوية بن هشام عن نصير الطائي عن الصلت عن حامية بن رباب قال : قلت لسلمان بأن منهم قسيسين ورهبانا فقال : دع القسيسين في الصوامع والمحراب أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " بأن منهم صديقين ورهبانا " ، وقال عروة بن الزبير : ضيعت النصارى الإنجيل ، وأدخلوا فيه ما ليس منه ; وكانوا أربعة نفر الذين غيروه ; لوقاس ومرقوس ويحنس ومقبوس وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة ، فمن كان على دينه وهديه فهو قسيس .

قوله تعالى : ورهبانا الرهبان جمع راهب كركبان وراكب . قال النابغة :


لو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد
والفعل منه رهب الله يرهبه أي : خافه رهبا ورهبا ورهبة ، والرهبانية والترهب التعبد في صومعة . قال أبو عبيد : وقد يكون ( رهبان ) للواحد والجمع ; قال الفراء : ويجمع ( رهبان ) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين كقربان وقرابين ; قال جرير في الجمع :


رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر
[ ص: 192 ] الفادر المسن من الوعول ، ويقال : العظيم ، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة ; قاله الجوهري ، وقال آخر في التوحيد :
لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل
من الصلاة . والرهابة على وزن السحابة عظم في الصدر مشرف على البطن مثل اللسان ، وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال : وأنهم لا يستكبرون يستكبرون أي : عن الانقياد إلى الحق .
قوله تعالى : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .

قوله تعالى : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع أي : بالدمع وهو في موضع الحال ; وكذا يقولون ، وقال امرؤ القيس :


ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي
وخبر مستفيض إذا كثر وانتشر كفيض الماء عن الكثرة ، وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون ، ويسألون ولا يصيحون ، ويتحازنون ولا يتموتون ; كما قال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم . وفي الأنفال يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى ، وبين الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود ، ويضاهيهم المشركون ، وبين أن أقربهم مودة النصارى ، والله أعلم .

قوله تعالى : فاكتبنا مع الشاهدين أي : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق من قوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس عن ابن عباس [ ص: 193 ] وابن جريج . وقال الحسن : الذين يشهدون بالإيمان ، وقال أبو علي : الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك . ومعنى فاكتبنا اجعلنا ، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون .
قوله تعالى : وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين

قوله تعالى : وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق بين استبصارهم في الدين ; أي : يقولون وما لنا لا نؤمن ; أي : وما لنا تاركين الإيمان . ف نؤمن في موضع نصب على الحال . ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين أي : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الكلام إضمار أي : نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة ، وقيل : مع بمعنى ( في ) كما تذكر ( في ) بمعنى ( مع ) تقول : كنت فيمن لقي الأمير ; أي : مع من لقي الأمير ، والطمع يكون مخففا وغير مخفف ; يقال : طمع فيه طمعا وطماعة وطماعية مخفف فهو طمع .
قوله تعالى : فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .

قوله تعالى : فأثابهم الله بما قالوا جنات دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم ; فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم - وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة . ثم قال والذين كفروا من اليهود والنصارى ومن المشركين وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم والجحيم النار الشديدة الاتقاد . يقال : جحم فلان النار إذا شدد إيقادها ، ويقال أيضا لعين الأسد : جحمة ; لشدة اتقادها ، ويقال ذلك للحرب قال الشاعر :


والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في
النجدات والفرس الوقاح

[ ص: 194 ] قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا فيه خمس مسائل :

الأولى : أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم ; فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم ، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ، ويترهبوا ويجبوا المذاكير ; فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي :

الثانية : خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ; فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ; وقال بعضهم : لا آكل اللحم ; وقال بعضهم : لا أنام على الفراش ; فحمد الله وأثنى عليه فقال : وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ; فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر . فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #287  
قديم 20-03-2023, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 195 الى صــ 202
الحلقة (287)


وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا ، وخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه [ ص: 195 ] في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة ، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه ; قال : فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ، ويصيب ما حوله من البقل ، ويتخلى عن الدنيا ; قال : لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ; فأتاه فقال : يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا ; قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة .

الثالثة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ; إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه ; قال الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة ; ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء . قال الطبري : فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ; وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته ، وقد جاء رجل إلى الحسن البصري ; فقال : إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال : ولم ؟ قال : يقول لا يؤدي شكره ; فقال الحسن : أفيشرب الماء البارد ؟ فقال : نعم . فقال : إن جارك جاهل ، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج . قال ابن العربي قال علماؤنا : هذا إذا كان الدين قواما ، ولم يكن المال حراما ; فأما إذا فسد [ ص: 196 ] الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل ، وترك اللذات أولى ، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى . قال المهلب : إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة ، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار ، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال ; فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل .

الرابعة : قوله تعالى : ولا تعتدوا قيل : المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين ; أي : لا تشددوا فتحرموا حلالا ، ولا تترخصوا فتحلوا حراما ; قاله الحسن البصري ، وقيل : معناه التأكيد لقوله : تحرموا ; قاله السدي وعكرمة وغيرهما ; أي : لا تحرموا ما أحل الله وشرع ، والأول أولى ، والله أعلم .

الخامسة : من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له ، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه ، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك ; إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها ، وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنها تطلق عليه ثلاثا ; وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية ، و ( حرام ) من كنايات الطلاق . وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة ( التحريم ) إن شاء الله تعالى ، وقال أبو حنيفة : إن من حرم شيئا صار محرما عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة ; وهذا بعيد والآية ترد عليه ، وقال سعيد بن جبير : لغو اليمين تحريم الحلال ، وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي .
قوله تعالى : وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون

قوله تعالى : وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا فيه مسألة واحدة : الأكل في هذه الآية عبارة عن التمتع بالأكل والشرب واللباس والركوب ونحو ذلك ، وخص الأكل بالذكر ; لأنه أعظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان ، وسيأتي بيان حكم الأكل والشرب واللباس في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، وأما شهوة الأشياء الملذة ، ومنازعة النفس إلى طلب الأنواع الشهية ، فمذاهب الناس في تمكين النفس منها مختلفة ; فمنهم من يرى صرف النفس عنها وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ليذل له قيادها ، ويهون عليه عنادها ; فإنه إذا أعطاها المراد يصير أسير شهواتها ، ومنقادا بانقيادها . حكي أن أبا حازم كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول : موعدك الجنة ، وقال آخرون : تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها [ ص: 197 ] ونشاطها بإدراك إرادتها ، وقال آخرون : بل التوسط في ذلك أولى ; لأن في إعطائها ذلك مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين ; وذلك النصف من غير شين . وتقدم معنى الاعتداء والرزق في " البقرة " والحمد لله .
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

فيه سبع وأربعون مسألة :

الأولى : قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم تقدم معنى اللغو في " البقرة " ومعنى في أيمانكم أي : من أيمانكم ، والأيمان جمع يمين ، وقيل : ويمين فعيل من اليمن وهو البركة ; سماها الله تعالى بذلك ; لأنها تحفظ الحقوق ، ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن . قال زهير :

فتجمع أيمن منا ومنكم

الثانية : واختلف في سبب نزول هذه الآية ; فقال ابن عباس : سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم ، حلفوا على ذلك فلما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قالوا : كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية . والمعنى على هذا القول ; إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها - أي : أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك ; وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه ; أي : فلم تكفروا ; فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا . وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال ، وأن تحريم الحلال لغو ، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل : استحللت شرب الخمر ، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم ; فقال : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم أي : بتحريم الحلال ، وروي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف ، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل . فقال : أعشيتم ضيفي ؟ فقالوا : انتظرناك ; فقال : لا والله لا آكله الليلة ; فقال ضيفه : وما أنا بالذي يأكل ; وقال أيتامه : ونحن لا نأكل ; فلما رأى ذلك [ ص: 198 ] أكل وأكلوا . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له : أطعت الرحمن وعصيت الشيطان فنزلت الآية .

الثالثة : الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام : قسمان فيهما الكفارة ، وقسمان لا كفارة فيهما . خرج الدارقطني في سننه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ، قال : الأيمان أربعة ، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران ; فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل ، والرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل ، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل ، والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله . قال ابن عبد البر : وذكر سفيان الثوري في ( جامعه ) وذكره المروزي عنه أيضا ، قال سفيان : الأيمان أربعة ; يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل ، أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ; ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل ، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل ; قال المروزي : أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان ; وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما ; فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا ، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد ; وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة . قال المروزي : وليس قول الشافعي في هذا بالقوي . قال : وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء : مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد ، وكان الشافعي يقول يكفر ; قال : وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي . قال المروزي : أميل إلى قول مالك وأحمد . قال : فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله في حديثه ، وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها . قال الشافعي : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة .

الرابعة : قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان مخفف القاف من العقد ، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل ، وحكمي كعقد البيع ; قال الشاعر ( هو الحطيئة ) :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد ، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل ; أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم . فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي ، وقرئ [ ص: 199 ] " عاقدتم " بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر ، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه ، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان ; لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر ، لما كان في معنى عاهد ، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ; قال الله تعالى : ومن أوفى بما عاهد عليه الله وهذا كما عديت ناديتم إلى الصلاة بإلى ، وبابها أن تقول ناديت زيدا وناديناه من جانب الطور الأيمن لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى ; قال الله تعالى : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ثم اتسع في قوله تعالى : " عاقدتم عليه الأيمان " . فحذف حرف الجر ; فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه ، ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر . أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى : قاتلهم الله أي : قتلهم ، وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى ( فاعلت ) كقولهم : سافرت وظاهرت ، وقرئ " عقدتم " بتشديد القاف . قال مجاهد : معناه تعمدتم أي : قصدتم ، وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر ، وهذا يرده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني . فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر . قال أبو عبيد : التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة ، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا . وهذا قول خلاف الإجماع . وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين ، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة . قيل لنافع ما معنى وكد اليمين ؟ قال : أن يحلف على الشيء مرارا .

الخامسة : اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها ، وقال الشافعي : هي يمين منعقدة ; لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله تعالى ، وفيها الكفارة ، والصحيح الأول . قال ابن المنذر : وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام ، وهو قول الثوري وأهل العراق ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة ; قال أبو بكر : وقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 200 ] من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقوله : فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله ، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله . وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا ; هذا قول الشافعي . قال أبو بكر : ولا نعلم خبرا يدل على هذا القول ، والكتاب والسنة دالان على القول الأول ; قال الله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس قال ابن عباس : هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير ، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه ، والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين . قال ابن العربي : الآية وردت بقسمين : لغو ومنعقدة ، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفارة .

قلت : خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : الإشراك بالله قال : ثم ماذا ؟ قال : عقوق الوالدين قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ، وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك ، ومن حديث عبد الله بن مسعود ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان . فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة ، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه ، ولقي الله وهو عنه راض ، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه ; وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب ، واستحلال مال الغير ، [ ص: 201 ] والاستخفاف باليمين بالله تعالى ، والتهاون بها وتعظيم الدنيا ؟ فأهان ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله وحسبك ، ولهذا قيل : إنما سميت اليمين الغموس غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار .

السادسة : الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل ، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه ; وكذلك إذا قال إن فعلت ، وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة ، فإن فعل بر ، وكذلك إن قال إن لم أفعل .

السابعة : قول الحالف : لأفعلن ; وإن لم أفعل ، بمنزلة الأمر وقوله : لا أفعل ، وإن فعلت ، بمنزلة النهي . ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه : مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه : لأن كل جزء منه محلوف عليه . فإن قال : والله لآكلن - مطلقا - فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم ; لإدخال ماهية الأكل في الوجود . وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم ; لأن مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهي عنه في الوجود ; فإن حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه حنث ; والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ; فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه ، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال : ( لا حتى تذوقي عسيلته ) .

الثامنة : المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى ، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم ، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا ، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته ; لأنها يمين بقديم غير مخلوق ، فكان الحالف بها كالحالف بالذات . روى الترمذي والنسائي وغيرهما أن جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، وكذلك قال في النار : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، وخرجا أيضا وغيرهما عن ابن عمر قال : كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب وفى رواية لا ومصرف القلوب وأجمع أهل العلم على أن من حلف فقال : والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة . قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأبو [ ص: 202 ] عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون : من حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة ، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا .

قلت : قد نقل ( في باب ذكر الحلف بالقرآن ) ; وقال يعقوب : من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه .

قلت : والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه .

التاسعة : واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله ; فقال مالك : كلها أيمان تجب فيها الكفارة ، وقال الشافعي : في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله ، يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ; لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية ، وقال في أمانة الله : ليست بيمين ، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين ، وقال أصحاب الرأي إذا قال : وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة ، وقال الحسن في وحق الله : ليست بيمين ولا كفارة فيها ; وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي ، وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين ، وقال بعض أصحابه هي يمين ، وقال الطحاوي : ليست بيمين ، وكذا إذا قال : وعلم الله لم يكن يمينا في قول أبي حنيفة ، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال : يكون يمينا . قال ابن العربي : والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث فلا يكون يمينا ، وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور ، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم . قال ابن المنذر : وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وايم الله إن كان لخليقا للإمارة في قصة زيد وابنه أسامة ، وكان ابن عباس يقول : وايم الله ; وكذلك قال ابن عمر ، وقال إسحاق : إذا أراد بايم الله يمينا كانت يمينا بالإرادة وعقد القلب .

العاشرة : واختلفوا في الحلف بالقرآن ; فقال ابن مسعود : عليه بكل آية يمين ; وبه قال الحسن البصري وابن المبارك ، وقال أحمد : ما أعلم شيئا يدفعه ، وقال أبو عبيد : يكون يمينا واحدة ، وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، وكان قتادة يحلف بالمصحف ، وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #288  
قديم 20-03-2023, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 203 الى صــ 210
الحلقة (288)



الحادية عشرة لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته ، وقال أحمد بن حنبل : إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه ; لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله ، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه ، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا [ ص: 203 ] بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا ، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ثم ينتقض عليه بمن قال : وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه ، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به .

الثانية عشرة : روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق . وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى ، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت : وفي رواية قلت هجرا ; فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد . قال العلماء : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة ، وتذكيرا من الغفلة ، وإتماما للنعمة ، وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم ، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها ، وكذا من قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات ; لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل .

الثالثة عشرة : قال أبو حنيفة في الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة ، ولا تلزم فيما إذا قال : واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان ، ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ; وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها : أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما ، وخرج [ ص: 204 ] أيضا عنه قال : قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك ، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك ; قال : فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت : إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي ; فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها : إن هذا لا يحل لك ; قال : فرجعت إليها ; قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال : هاهنا هاروت وماروت ; فقالت : إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة . قال : فمم تأكلين ؟ قالت : وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية ; فقال : إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت ; قالت : فما تأمرني ؟ قال : تكفرين عن يمينك ، وتجمعين بين فتاك وفتاتك ، وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال : أقسم بالله أنها يمين ، واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكونن كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي : هي أيمان في الموضعين ، وقال الشافعي : لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى ; هذه رواية المزني عنه ، وروى عنه الربيع مثل قول مالك .

الرابعة عشرة : إذا قال : أقسمت عليك لتفعلن ; فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين ; وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا .

الخامسة عشرة : من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله : وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه ; لأنها أيمان غير جائزة ، وحلف بغير الله تعالى .

السادسة عشرة : إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء ، وقال ابن الماجشون : الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين . قال ابن القاسم : هي حل لليمين ; وقال ابن العربي : وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح ; وشرطه أن يكون متصلا منطوقا به لفظا ; لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه ، وقال محمد بن المواز : يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف ; قال : فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك ; لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء ، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي ; وهذا يرده الحديث من حلف فاستثنى ، والفاء للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم ، وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل ، وقال ابن خويز منداد : واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه ، فقال بعض أصحابنا : [ ص: 205 ] يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له . وقال بعضهم : لا يصح حتى يسمع المحلوف له ، وقال بعضهم : يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له . قال ابن خويز منداد : وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه ، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات ، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه ، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما ، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره ; وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له ، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم ، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه ، وجب ألا يكون له فيها حكم ، وقال ابن عباس : يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة ; وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية ; فلما كان بعد عام نزل إلا من تاب ، وقال مجاهد : من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه ، وقال سعيد بن جبير : إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه ، وقال طاوس : له أن يستثني ما دام في مجلسه ، وقال قتادة : إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : يستثني ما دام في ذلك الأمر ، وقال عطاء : له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة .

السابعة عشرة : قال ابن العربي : أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها ; لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله وفي لوحه ، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها ، أما إنه يتركب عليها فرع حسن ; وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار ، وأنت طالق إن دخلت الدار ، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه ، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد ، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له ، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه ; وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة ; فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء ، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا .

قلت : وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية ، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء ، والله أعلم . قال ابن العربي : وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام ، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده ، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه ; فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل ، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل ، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم ، فحمد الله ورحل [ ص: 206 ] على دابة قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان ، وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته ، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر : أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة ، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا ، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وما الذي يمنعه من أن يقول : قل إن شاء الله ! فلما سمعه يقول ذلك قال : بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبدا ; واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات .

الثامنة عشرة : الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى ، ولا خلاف في هذا ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله ; فقال الشافعي وأبو حنيفة : الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى : قال أبو عمر : ما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك .

التاسعة عشرة : قوله تعالى : فكفارته اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا ؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال :

أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجزئ بوجه ، وهي رواية أشهب عن مالك ; وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خيرخرجه أبو داود ; ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ; لقوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها ; وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث . ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير زاد النسائي وليكفر عن يمينه ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها ; وكان معنى قوله تعالى : إذا حلفتم أي : إذا حلفتم وحنثتم ، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات ، وقال الشافعي : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ، ولا تجزئ بالصوم ; لأن عمل البدن لا يقوم قبل وقته ، ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة ; وهو القول الثالث .

[ ص: 207 ] الموفية عشرين : ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها ، وعقب عند عدمها بالصيام ، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم ، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير ; قال ابن العربي : والذي عندي أنها تكون بحسب الحال ; فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل ; لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم .

الحادية والعشرون : قوله تعالى : إطعام عشرة مساكين لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم ، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه ; لقوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم وفي الحديث أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس ; ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك ; أصله الكسوة ، وقال أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز ; وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا ; قال ابن الماجشون : إن التمكين من الطعام إطعام ، قال الله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فبأي وجه أطعمه دخل في الآية .

الثانية والعشرون : قوله تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم قد تقدم في " البقرة " أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار ، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصف بين طرفين ، ومنه الحديث خير الأمور أوسطها ، وخرج ابن ماجه ; حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة ; فنزلت : من أوسط ما تطعمون أهليكم ، وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين .

الثالثة والعشرون : الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة ، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ; وبه قال الشافعي وأهل المدينة . قال سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ، ورأوا ذلك مجزئا عنهم ; وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح ، واختلف إذا كان بغيرها ; فقال ابن القاسم : يجزئه المد بكل مكان ، وقال ابن المواز : أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف ، وأشهب بمد وثلث ; قال : وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء ، [ ص: 208 ] وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا ; على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر ، أو صاع من شعير عن كل رأس ، أو صاع بر بين اثنين ، وبه أخذ سفيان وابن المبارك ، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة ، رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب ، وهو قول عامة فقهاء العراق ; لما رواه ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك ، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم ; خرجه ابن ماجه في سننه .

الرابعة والعشرون : لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته ، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك : لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه ، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي " المدونة " وغير كتاب لا يجزئ ، وفي " الأسدية " أنه يجزئ .

الخامسة والعشرون : ويخرج الرجل مما يأكل ; قال ابن العربي : وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا : إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس ; وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه ; وقد قال صلى الله عليه وسلم : صاعا من طعام صاعا من شعير ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل ; وهذا مما لا خفاء فيه .

السادسة والعشرون : قال مالك : إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه ، وقال الشافعي : لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة ; لأنهم يختلفون في الأكل ، ولكن يعطي كل مسكين مدا ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة ; يعني غداء دون عشاء ، أو عشاء دون غداء ، حتى يغديهم ويعشيهم ; قال أبو عمر : وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار .

السابعة والعشرون : قال ابن حبيب : ولا يجزئ الخبز قفارا بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر ; قال ابن العربي : هذه زيادة ما أراها واجبة أما إنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم ، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه ; لأن اللفظ لا يتضمنه .

قلت : نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل ، وما كان في معناه من [ ص: 209 ] الجبن والكشك كما قال ابن حبيب ، والله أعلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الإدام الخل وقال الحسن البصري : إن أطعمهم خبزا ولحما ، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه ، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول ، وروي ذلك عن أنس بن مالك .

الثامنة والعشرون : لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد ، وبه قال الشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة ; فمنهم من أجاز ذلك ، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا ; فإن اسم المسكين يتناوله ، وقال آخرون : يجوز دفع ذلك إليه في أيام ، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين ، وقال أبو حنيفة : يجزئه ذلك ; لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه ، ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه ، فيغفر للمكفر بسبب ذلك ، والله أعلم .

التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فكفارته الضمير على الصناعة النحوية عائدا على ( ما ) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية . أو يعود على إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه .

الموفية ثلاثين : قوله تعالى : أهليكم هو جمع أهل على السلامة ، وقرأ جعفر بن محمد الصادق : ( أهاليكم ) وهذا جمع مكسر ; قال أبو الفتح : أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات ; والعرب تقول : أهل وأهلة . قال الشاعر ( هو أبو الطمحان القيني ) :
وأهلة ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي
يقول : تعرضت لودهم ; قاله ابن السكيت .

الحادية والثلاثون : قوله تعالى : أو كسوتهم قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة . وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني : ( أو كإسوتهم ) يعني كإسوة أهلك ، والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد ; فأما في حق النساء فأقل [ ص: 210 ] ما يجزئهن فيه الصلاة ، وهو الدرع والخمار ، وهكذا حكم الصغار . قال ابن القاسم في ( العتبية ) : تكسى الصغيرة كسوة كبيرة ، والصغير كسوة كبير ، قياسا على الطعام ، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي : أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد ; وفي رواية أبي الفرج عن مالك ، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة : ما يستر جميع البدن ; بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك . وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان ; أسنده الطبري . وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه ، وهو قول الثوري . قال ابن العربي : وما كان أحرصني على أن يقال : إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الرجوع فأقول به ، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه ; والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه .

قلت : قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ; فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا به كالكساء والملحفة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار ، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء ، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه أمر أن يكسي عنه ثوبين ثوبين ; وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم .

الثانية والثلاثون : لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة ; وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : تجزئ ; وهو يقول : تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة ! قال ابن العربي : وعمدته أن الغرض سد الخلة ، ورفع الحاجة ; فالقيمة تجزئ فيه . قلنا : إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة ؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة ، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟ !

الثالثة والثلاثون : إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه ، وقال أبو حنيفة : يجزئه ; لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية . قلنا : هذا يخصه بأن يقول : جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر ; أصله الزكاة ; وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد ; فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي ، والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #289  
قديم 20-03-2023, 09:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 211 الى صــ 218
الحلقة (289)



الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : أو تحرير رقبة التحرير الإخراج من الرق ; [ ص: 211 ] ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، ومنه قول أم مريم : إني نذرت لك ما في بطني محررا أي : من شغوب الدنيا ونحوها ، ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب :


أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
أي : حررتكم من الهجاء ، وخص الرقبة من الإنسان ، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان ، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها .

الخامسة والثلاثون : لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره ، ولا عتاقة بعضها ، ولا عتق إلى أجل ، ولا كتابة ولا تدبير ، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه ، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب ، سليمة غير معيبة ; خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة . وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافرة ; لأن مطلق اللفظ يقتضيها . ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة ; وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ . وإنما قلنا : لا يكون فيها شرك ، لقوله تعالى : فتحرير رقبة وبعض الرقبة ليس برقبة . وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق ; لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم . وإنما قلنا : سليمة ; لقوله تعالى : فتحرير رقبة والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج وهذا نص ، وقد روي في الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم والخصي .

السادسة والثلاثون : من أخرجه مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه ، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء ، أو ليشتري به رقبة فتلف ، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر .

السابعة والثلاثون : اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف ; فقال الشافعي وأبو ثور : كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت ، وقال أبو حنيفة : تكون في الثلث ; وكذلك قال مالك إن أوصى بها .

الثامنة والثلاثون : من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر ، أو حنث وهو معسر فلم [ ص: 212 ] يكفر حتى أيسر ، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق ، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث .

التاسعة والثلاثون : روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه ، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة ، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة ; فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة ، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وقال عليه السلام : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير أي الذي هو أكثر خيرا .

الموفية أربعين : روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليمين على نية المستحلف قال العلماء : معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته ، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين ، وهو معنى قوله في الحديث الآخر : يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ، وروي يصدقك به صاحبك خرجه مسلم أيضا . قال مالك : من حلف لطالبه في حق له عليه ، واستثنى في يمينه ، أو حرك لسانه أو شفتيه ، أو تكلم به ، لم ينفعه استثناؤه ذلك ; لأن النية نية المحلوف له ; لأن اليمين حق له ، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف ; لأنها مستوفاة منه . هذا تحصيل مذهبه وقوله .

الحادية والأربعون : قوله تعالى : فمن لم يجد معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ; من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع ; فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام ، والعدم يكون بوجهين إما بمغيب المال عنه أو عدمه ; فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم ، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه ; فقيل : ينتظر إلى بلده ; قال ابن العربي : وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام ; لأن الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر ; فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة ; لقوله تعالى : فمن لم يجد ، وقيل : من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد ، وقيل : هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته ، وليس عنده فضل يطعمه ; [ ص: 213 ] وبه قال الشافعي واختاره الطبري ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم ; قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع ، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه . وقال أبو حنيفة : إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال أحمد وإسحاق : إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه ، وقال أبو عبيد : إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله ، وكسوة تكون لكفايتهم ، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد . قال ابن المنذر : قول أبي عبيد حسن .

الثانية والأربعون : قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام قرأها ابن مسعود ( متتابعات ) فيقيد بها المطلق ; وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار ، واعتبارا بقراءة عبد الله ، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريق ; لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما .

الثالثة والأربعون : من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك : عليه القضاء ، وقال الشافعي : لا قضاء عليه ; على ما تقدم بيانه في الصيام في " البقرة " .

الرابعة والأربعون : هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق . واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث ; فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون : ليس عليه إلا الصوم ، لا يجزئه غير ذلك ; واختلف فيه قول مالك ، فحكى عنه ابن نافع أنه قال : لا يكفر العبد بالعتق ; لأنه لا يكون له الولاء ، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ; وأصوب ذلك أن يصوم .

وحكى ابن القاسم عنه أنه قال : إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين ، وفي قلبي منه شيء .

الخامسة والأربعون : قوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم أي : تغطية أيمانكم ; وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم ، ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى ، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه ، وترجم ابن ماجه في سننه ( من قال كفارتها تركها ) حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصح فبره ألا يتم على ذلك وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها .

[ ص: 214 ] قلت : ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام ، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه ، وحلف الضيف - أو الأضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه ، فقال أبو بكر : كان هذا من الشيطان ; فدعا بالطعام فأكل وأكلوا . خرجه البخاري ، وزاد مسلم قال : فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، بروا وحنثت ; قال : فأخبره ; قال : بل أنت أبرهم وأخيرهم قال : ولم تبلغني كفارة .

السادسة والأربعون : واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل ; فقال مالك : من حلف بصدقة ماله أخرج ثلثه ، وقال الشافعي : عليه كفارة يمين ; وبه قال إسحاق وأبو ثور ، وروي عن عمر وعائشة رضي الله عنهما ، وقال الشعبي وعطاء وطاوس : لا شيء عليه ، وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة ، وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور ، وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد : لا شيء عليه ; قال ابن عبد البر : أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل ; وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين ، وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد ، وذكر له أنه قول الليث بن سعد ، والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه ; وهو قول مالك . وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال عطاء : يتصدق بشيء . قال المهدوي : وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث .

السابعة والأربعون : قوله تعالى : واحفظوا أيمانكم أي : بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم ، وقيل : أي : بترك الحلف ; فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات . لعلكم تشكرون تقدم معنى الشكر و ( لعل ) في البقرة ، والحمد لله .
قوله : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين

[ ص: 215 ] فيه سبع عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء ; إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس ، فكان نفي منها في نفوس كثير من المؤمنين . قال ابن عطية : ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير ، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد ، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وتقدم اشتقاقها . وأما الميسر فقد مضى في " البقرة " القول فيه ، وأما الأنصاب فقيل : هي الأصنام . وقيل : هي النرد والشطرنج ; ويأتي بيانهما في سورة " يونس " عند قوله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وأما الأزلام فهي القداح ، وقد مضى في أول السورة القول فيها . ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام ; يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا ; فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره .

الثانية : تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة ; فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأنها يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس أي : في تجارتهم ; فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر ، وقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب ; فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر ، وما ينزل بالناس من أجلها ، ودعا الله في تحريمها وقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر : انتهينا انتهينا ، وقد مضى في " البقرة " و " النساء " ، وروى أبو داود عن ابن عباس قال : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، [ ص: 216 ] و يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس نسختها التي في المائدة . إنما الخمر والميسر والأنصاب ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ; وفيه قال : وأتيت على نفر من الأنصار ; فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ; قال : فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر ; قال : فأكلت وشربت معهم ; قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار ; قال : فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ; فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه .

الثالثة : هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه ، وهذا ما لا خلاف فيه ; يدل عليه آية النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى على ما تقدم ، وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر ؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما ، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره ، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر ; ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل ; ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه ، لا في حال سكره ولا بعد ذلك ، بل رجع لما قال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقرى وخرج عنه ، وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا : إن السكر حرام في كل شريعة ; لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم ، وأصل المصالح العقل ، كما أن أصل المفاسد ذهابه ، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه ، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه ، والله أعلم .

الرابعة : قوله تعالى : رجس قال ابن عباس في هذه الآية : رجس سخط ، وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس ، والرجز بالزاي العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير . والرجس يقال للأمرين ، ومعنى من عمل الشيطان أي : بحمله عليه وتزيينه . وقيل : هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدي به فيها .

الخامسة : قوله تعالى : فاجتنبوه يريد أبعدوه واجعلوه ناحية ; فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور ، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل [ ص: 217 ] الاجتناب في جهة التحريم ; فبهذا حرمت الخمر ، ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة " المائدة " نزلت بتحريم الخمر ، وهي مدنية من آخر ما نزل ، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى : ( قل لا أجد ) وغيرها من الآي خبرا ، وفي الخمر نهيا وزجرا ، وهو أقوى التحريم وأوكده . روى ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر ، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ، وقالوا حرمت الخمر ، وجعلت عدلا للشرك ; يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك . ثم علق لعلكم تفلحون فعلق الفلاح بالأمر ، وذلك يدل على تأكيد الوجوب . والله أعلم .

السادسة : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها ، وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها . وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ; قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق ، والجواب ; أن الصحابة فعلت ذلك ; لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت ، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور ، وأيضا فإنه يمكن التحرز منها ; فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها ، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك ، والله أعلم . فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا ; فكم من محرم في الشرع ليس بنجس ; قلنا : قوله تعالى : رجس يدل على نجاستها ; فإن الرجس في اللسان النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة ; فإن النصوص فيها قليلة ; فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة ، وسيأتي في سورة " الحج " ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى .

السابعة : قوله : فاجتنبوه يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه [ ص: 218 ] من الوجوه ; لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك ، وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب ، وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله حرمها قال : لا ، قال : فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ; فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها ; فهذا حديث يدل على ما ذكرناه ; إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال في الشاة الميتة . هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به الحديث .

الثامنة : أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم ، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله ; ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب ، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة ; والقياس ما قاله مالك ، وهو مذهب الشافعي ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك .

التاسعة : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد ، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها ; لأن الخل مال وقد نهي عن إضاعة المال ، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا ، وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم ، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال : لا ونهى عن ذلك . ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي ، وإليه مال سحنون بن سعيد ، وقال آخرون : لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها ; وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن سعد والكوفيين ، وقال أبو حنيفة : إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز ، وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال : لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #290  
قديم 20-03-2023, 09:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 219 الى صــ 226
الحلقة (290)



قال أبو عمر : احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء ; وهو يروي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه كان يأكل المربى منه ، ويقول : دبغته الشمس والملح ، وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر ; وليس في رأي أحد حجة مع السنة ، وبالله التوفيق ، وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام [ ص: 219 ] عند نزول تحريمها ; لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها ، إرادة لقطع العادة في ذلك ، وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خللت . وروى أشهب عن مالك قال : إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله ، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله ; وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في كتابه . والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها ، ولكن ليهريقها .

العاشرة : لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال ، وهو قول عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب ، وربيعة وأحد قولي الشافعي ، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه .

الحادية عشرة : ذكر ابن خويز منداد أنها تملك ، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغصص ، ويطفأ بها حريق ; وهذا نقل لا يعرف لمالك ، بل يخرج هذا على قول من يرى أنها طاهرة ، ولو جاز ملكها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها ، وأيضا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها . والحمد لله .

الثانية عشرة : هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قمارا أو غير قمار ; لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية . ثم قال : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء الآية . فكل لهو دعا قليله إلى كثير ، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه ، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر ، وأوجب أن يكون حراما مثله . فإن قيل : إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى ; قيل له : قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم ، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس ، ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ; ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر ، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني ، وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر ، ثم كان حراما مثل الكثير ، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر . وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة ، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر ; فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد [ ص: 220 ] بالإسكار عن الصلاة ، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة ، والله أعلم .

الثالثة عشرة : مهدي الراوية يدل على أنه كان لم يبلغه الناسخ ، وكان متمسكا بالإباحة المتقدمة ، فكان ذلك دليلا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ - كما يقول بعض الأصوليين - بل ببلوغه كما دل عليه هذا الحديث ، وهو الصحيح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه ، بل بين له الحكم ; ولأنه مخاطب بالعمل بالأول بحيث لو تركه عصى بلا خلاف ، وإن كان الناسخ قد حصل في الوجود ، وذلك كما وقع لأهل قباء ; إذ كانوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ ، فمالوا نحو الكعبة ، وقد تقدم في سورة " البقرة " والحمد لله ; وتقدم فيها ذكر الخمر واشتقاقها والميسر ، وقد مضى في صدر هذه السورة القول في الأنصاب والأزلام . والحمد لله .

الرابعة عشرة : قوله تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية . أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره ، فحذرنا منها ، ونهانا عنها . روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا رأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فجعل بعضهم يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا ، فحدثت بينهم الضغائن ; فأنزل الله : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء الآية .

الخامسة عشرة : قوله تعالى : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة يقول : إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا ، وإن صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي ، وروي : بعبد الرحمن كما تقدم في " النساء " ، وقال عبيد الله بن عمر : سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر ؟ وعن النرد أهو ميسر ؟ فقال : كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر . قال أبو عبيد : تأول قوله تعالى : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة .

السادسة عشرة : قوله تعالى : فهل أنتم منتهون لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال : انتهينا ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة ، ألا إن الخمر قد حرمت ; فكسرت الدنان ، وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة .

[ ص: 221 ] السابعة عشرة : قوله تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا تأكيد للتحريم ، وتشديد في الوعيد ، وامتثال للأمر ، وكف عن المنهي عنه ، وحسن عطف وأطيعوا الله لما كان في الكلام المتقدم معنى انتهوا ، وكرر وأطيعوا في ذكر الرسول تأكيدا . فإن توليتم أي : خالفتم . ثم حذر في مخالفة الأمر ، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة ; فقال : فإن توليتم أي : خالفتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمه وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع .
قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين

فيه تسع مسائل :

الأولى : قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ؟ - ونحو هذا - فنزلت الآية . روى البخاري عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر ، فأمر مناديا ينادي ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت ! قال : فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت ; فقال : اذهب فأهرقها - وكان الخمر من الفضيخ - قال : فجرت في سكك المدينة ; فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية .

الثانية : هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت وما كان الله ليضيع إيمانكم ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء ; لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح ; لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع ; وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها ، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة فلم يخطر له ، أو يكون لغلبة [ ص: 222 ] خوفه من الله تعالى ، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم ; فرفع الله ذلك التوهم بقوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية .

الثالثة : هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر ; وهو نص ولا يجوز الاعتراض عليه ; لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان ، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره ; وقد قال الحكمي :


لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا
وفات ثمارها أيدي الجناة


ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي : أخبرنا القاسم بن زكريا ، أخبرنا عبيد الله عن شيبان عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزبيب والتمر هو الخمر ، وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس ; ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل ، وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ; والخمر ما خامر العقل ، وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر ; يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة ، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه . وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب ، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر ، وإنما يسمى نبيذا ; وقال الشاعر :
تركت النبيذ لأهل النبيذ وصرت حليفا لمن عابه
شراب يدنس عرض الفتى ويفتح للشر أبوابه


الرابعة : قال الإمام أبو عبد الله المازري : ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه ، قليلا كان أو كثيرا ، نيئا كان أو مطبوخا ، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره ، وأن من شرب شيئا من ذلك حد ; فأما المستخرج من العنب المسكر النيء فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه ، وأما ما عدا [ ص: 223 ] ذلك فالجمهور على تحريمه ، وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر ، وهو الذي لا يبلغ الإسكار ; وفي المطبوخ المستخرج من العنب ; فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب ، ونقيع الزبيب النيء ; فأما المطبوخ منهما ، والنيء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار ، وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل ; فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها ، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد ; وأما النيء منه فحرام ، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه ; وهذا كله ما لم يقع الإسكار ، فإن وقع الإسكار استوى الجميع . قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه : العجب من المخالفين في هذه المسألة ; فإنهم قالوا : إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره ، وهو مجمع عليه ; فإذا قيل لهم : فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل ؟ فلا بد أن يقال : لأنه داعية إلى الكثير ، أو للتعبد ; فحينئذ يقال لهم : كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا ، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك . وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس ; لأن الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه ; وهذا كما يقول في قياس الأمة على العبد في سراية العتق . ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد ، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأمة ، لأحاديث لا يصح شيء منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم ، وليس في الصحاح شيء منها . وسيأتي في سورة " النحل " تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى .

الخامسة : قوله تعالى : طعموا أصل هذه اللفظة في الأكل ; يقال : طعم الطعام وشرب الشراب ، لكن قد تجوز في ذلك فيقال : لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما ; قال الشاعر :


نعاما بوجرة صعر الخدو د لا تطعم النوم إلا صياما
وقد تقدم القول في " البقرة " في قوله تعالى : ومن لم يطعمه بما فيه الكفاية . السادسة : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات ، والانتفاع بكل لذيذ من مطعم ومشرب ومنكح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه . وهذه الآية نظير قوله [ ص: 224 ] تعالى : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ونظير قوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق

السابعة : قوله تعالى : إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين فيه أربعة أقوال : الأول : أنه ليس في ذكر التقوى تكرار ; والمعنى اتقوا شربها ، وآمنوا بتحريمها ; والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم ; والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء ، والثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم ، وأحسنوا العمل . الثالث : اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر ، وازدادوا إيمانا ، والمعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي : تنفلوا ، وقال محمد بن جرير : الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول ، والتصديق والدينونة به والعمل ، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق ، والثالث الاتقاء بالإحسان ، والتقرب بالنوافل .

الثامنة : قوله تعالى : ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات ; فضله بأجر الإحسان .

التاسعة : قد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنهم ، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر ، وكان ختن عمر بن الخطاب ، خال عبد الله وحفصة ، وولاه عمر بن الخطاب على البحرين ، ثم عزله بشهادة الجارود - سيد عبد القيس - عليه بشرب الخمر . روى الدارقطني قال : حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف ، حدثني سعيد بن عفير ، حدثني يحيى بن فليح بن سليمان ، قال : حدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس : أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد ; قال : لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله ! فقال عمر : وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ فقال له : إن الله تعالى يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية . فأنا من الذين آمنوا وعملوا [ ص: 225 ] الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها ; فقال عمر : ألا تردون عليه ما يقول ; فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا لمن غبر ، وحجة على الناس ; لأن الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية ; ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى ; فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، الآية ; فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر ; فقال عمر : صدقت ماذا ترون ؟ فقال علي رضي الله عنه : إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة ; فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة ، وذكر الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس قال : لما قدم الجارود من البحرين قال : يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا ، وإني إذا رأيت حقا من حقوق الله حق علي أن أرفعه إليك ; فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ فقال : أبو هريرة ; فدعا عمر أبا هريرة فقال : علام تشهد يا أبا هريرة ؟ فقال : لم أره حين شرب ، ورأيته سكران يقيء ، فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ; ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه ، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر ; فقال : أقم على هذا كتاب الله ; فقال عمر للجارود : أشهيد أنت أم خصم ؟ فقال الجارود : أنا شهيد ; قال : قد كنت أديت الشهادة ; ثم قال لعمر : إني أنشدك الله ! فقال عمر : أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك ; فقال الجارود : أما والله ما ذلك بالحق ، أن يشرب ابن عمك وتسوءني ! فأوعده عمر ; فقال أبو هريرة وهو جالس : يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون ، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله ، فأقامت هند على زوجها الشهادة ; فقال عمر : يا قدامة إني جالدك ; فقال قدامة : والله لو شربت - كما يقولون - ما كان لك أن تجلدني يا عمر . قال : ولم يا قدامة ؟ قال : لأن الله سبحانه يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا . الآية ، إلى المحسنين . فقال عمر : أخطأت التأويل يا قدامة ; إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله ، ثم أقبل عمر على القوم فقال : ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا ; فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يوما فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة ؟ فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا ، فقال عمر : إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط ، أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي ! والله لأجلدنه ; ائتوني بسوط ، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير ، فأخذه عمر فمسحه [ ص: 226 ] بيده ثم قال لأسلم : أخذتك دقرارة أهلك ; ائتوني بسوط غير هذا . قال : فجاءه أسلم بسوط تام ; فأمر عمر بقدامة فجلد ; فغاضب قدامة عمر وهجره ; فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا عن حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها فلما استيقظ عمر قال : عجلوا علي بقدامة ، انطلقوا فأتوني به ، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال : سالم قدامة فإنه أخوك ، فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه ، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له ، فكان أول صلحهما . قال أيوب بن أبي تميمة : لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره . قال ابن العربي : فهذا يدلك على تأويل الآية ، وما ذكر فيه عن ابن عباس من حديث الدارقطني ، وعمر في حديث البرقاني وهو صحيح ; وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حد على الخمر أحد ، فكان هذا من أفسد تأويل ; وقد خفي على قدامة ; وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما ; قال الشاعر :


وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمر
وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا : هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية ، فأجمع علي وعمر على أن يستتابوا ، فإن تابوا وإلا قتلوا ; ذكره إلكيا الطبري .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .

فيه ثمان مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ليبلونكم الله أي : ليختبرنكم ، والابتلاء الاختبار ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعا عند الجميع منهم ، مستعملا جدا ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم ، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت ، وقيل : إنها نزلت عام الحديبية ; أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم ، فكان إذا عرض صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم ، واشتبهت أحكامه عليهم ، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم ، ومحظورات حجهم وعمرتهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 400.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 394.48 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]