الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 20 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كيف تشحن أيفون 16 بسرعة؟.. خطوات بسيطة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          واتساب يتيح تغيير لون ونمط سمة الدردشة.. إليك الطريقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          مزايا "زر الكاميرا" الجديد بهاتف iPhone 16 .. كل ما تحتاج معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          كيفية فتح ملفات jpg في نظام تشغيل ويندوز.. اعرف الخطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          كيفية حذف محادثات Microsoft Teams على آيفون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          4 طرق لبث ألعاب الفيديو من الكمبيوتر إلى التليفزيون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          لو موبايلك اتسرق.. خطوة بخطوة إزاى ترجعه من تانى لهواتف الأيفون والأندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          خطوة بخطوة.. إزاى تبدل الأيفون القديم بـ iPhone 16 بدون تسريب بياناتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          كيف تصلي صلاة الكسوف والخسوف ؟ || فضيلة الشيخ د. محمد حسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          ماذا تعرف عن صلاة الكسوف و صلاة الخسوف ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-11-2022, 05:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (194)
صـ201 إلى صـ 215




[ ص: 201 ] المسألة الحادية عشرة

تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة ، ولم يقع هنالك تفصيل ، وقد ألف ابن السيد كتابا في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة ، وحصرها في ثمانية أسباب :

أحدها : الاشتراك الواقع في الألفاظ ، واحتمالها للتأويلات ، وجعله ثلاثة أقسام :

اشتراك في موضوع اللفظ المفرد; كالقرء ، وأو في آية الحرابة .

واشتراك في أحواله العارضة في التصرف نحو : ولا يضار كاتب ولا شهيد [ البقرة : 282 ] .

[ ص: 202 ] واشتراك من قبل التركيب ، نحو : والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] ، وما قتلوه يقينا [ النساء : 157 ] .

والثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، وجعله ثلاثة أقسام :

ما يرجع إلى اللفظ المفرد ، نحو حديث النزول ، [ ص: 203 ] و الله نور السماوات والأرض [ النور : 35 ] .

[ ص: 204 ] وما يرجع إلى أحواله نحو : بل مكر الليل والنهار [ سبأ : 33 ] ولم يبين وجه ‌‌الخلاف .

[ ص: 205 ] وما يرجع إلى جهة التركيب; كإيراد الممتنع بصورة الممكن ، ومنه [ ص: 206 ] " لئن قدر الله علي " الحديث ، وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره; كالأمر بصورة الخبر ، والمدح بصورة الذم ، والتكثير بصورة التقليل ، وعكسها .

والثالث : دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط ، [ ص: 207 ] وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب .

والرابع : دورانه بين العموم والخصوص ، نحو : لا إكراه في الدين [ البقرة : 256 ] [ ص: 208 ] وعلم آدم الأسماء كلها [ البقرة : 31 ] .

والخامس : اختلاف الرواية ، وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها .

والسادس : جهات الاجتهاد والقياس .

والسابع : دعوى النسخ وعدمه .

[ ص: 209 ] والثامن : ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها ، كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات .

هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه ، ومن أراد التفصيل فعليه به ، ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها ، وبالله التوفيق .
[ ص: 210 ] المسألة الثانية عشرة

من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف ، وهو ضربان :

أحدهما : ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة ، وقد تقدم التنبيه عليه .

والثاني : ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك ، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة; فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر ، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد ، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل; فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ، وهكذا يتفق في شرح السنة ، وكذلك في فتاوى الأئمة ، وكلامهم في مسائل العلم ، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه; فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح .

فإذا ثبت هذا; فلنقل الخلاف هنا أسباب :

[ ص: 211 ] أحدها : أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا; فينصهما المفسرون على نصهما ، فيظن أنه خلاف ، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق ، وقيل : زنجبيل ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : شراب مزجوه بالماء; فهذا كله يشمله اللفظ; لأن الله من به عليهم ، ولذلك جاء في الحديث : الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ، ذكر الناس منها آحادا .

والثاني : أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد; فيكون التفسير فيها على قول واحد ، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق ، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني ، وقيل : طير أحمر صفته كذا ، وقيل : طير بالهند أكبر من العصفور ، وكذلك قالوا في المن : شيء يسقط على الشجر فيؤكل ، وقيل : صمغة حلوة ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : مثل رب غليظ ، وقيل : عسل جامد; فمثل هذا يصح حمله على الموافقة ، وهو الظاهر فيها .

[ ص: 212 ] والثالث : أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي ، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى ، وهما معا يرجعان إلى حكم واحد ; لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع ، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال ، كما قالوا في قوله تعالى : ومتاعا للمقوين [ الواقعة : 73 ] أي : المسافرين ، وقيل : النازلين بالأرض القواء وهي القفر ، وكذلك قوله : تصيبهم بما صنعوا قارعة [ الرعد : 31 ] أي : داهية تفجؤهم ، وقيل : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشباه ذلك .

[ ص: 213 ] والرابع : ألا يتوارد الخلاف على محل واحد ; كاختلافهم في أن المفهوم له عموم أو لا ، وذلك أنهم قالوا : لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به ، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به ، وهو مما لا يختلفون فيه أيضا ، وكثير من المسائل على هذا السبيل ، فلا يكون في المسألة خلاف ، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف .

والخامس : يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم; كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد ، بناء على تغير الاجتهاد ، والرجوع عما أفتى به إلى خلافه; [ ص: 214 ] فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة; لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ، ونسخ له بالثاني ، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع ، والحق فيه ما ذكر أولا ، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ، ولا يصح فيها غير ذلك ، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر ، كما ذكر عن ابن عباس في المتعة ، وربا الفضل ، وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين ، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف .

والسادس : أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ; كاختلاف القراء في وجوه القراءات ، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على [ ص: 215 ] إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات ، وليس في الحقيقة باختلاف; فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها .

والسابع : أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح ، بل على توسيع المعاني خاصة; فهذا ليس بمستقر خلافا; إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه دون غيره ، وليس الكلام في مثل هذا .

والثامن : أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد; فيحمله قوم على المجاز مثلا ، وقوم على الحقيقة ، والمطلوب أمر واحد ; كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما ، ومنهم من يحملهما على المجاز ، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ، ونظير هذا قول ذي الرمة :


وظاهر لها من يابس الشخت



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17-11-2022, 05:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (195)
صـ216 إلى صـ 230




وبائس الشخث وقد مر بيانه ، وقول ذي الرمة فيه : إن " بائس " و " يابس " واحد ، ومثل ذلك قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 20 ] 4 [ ص: 216 ] فقيل : كالنهار بيضاء لا شيء فيها ، وقيل : كالليل سوداء لا شيء فيها ، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان .

والتاسع : أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه ، وتقع في غيرها كثيرا أيضا ، كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه ، وأشباه ذلك .

[ ص: 217 ] والعاشر : الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد ، كما اختلفوا في الخبر ، هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة ، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب ؟ فهذا خلاف في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما .

قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر ، أواجب هو ؟ إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به ، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة ، وإن لم يريدوا ذلك وقالوا : لا يحرم تركه ، ولا يجرح فاعله ، فوصفه [ ص: 218 ] بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه ، وما قاله حق ، فإن العبارات لا مشاحة فيها ، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم ، فلا اعتبار بالخلاف فيها .

هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف ، يجب أن تكون على بال من المجتهد ، ليقيس عليها ما سواها ، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع .
فصل

وقد يقال : إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضا .

وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا ، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين ، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه .

[ ص: 219 ] أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا ؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله ، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي .

أما الأول : فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين ، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده ، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ، ولوافق صاحبه فيه ، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني ، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد ، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا ، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أو قلنا بالتصويب ، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على [ ص: 220 ] قول غيره وإن كان مصيبا أيضا ، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا ، فالإصابة على قول المصوبة إضافية ، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار ، فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون .

ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ، حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا ؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع ، فاختلاف الطرق غير مؤثر ، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة ، كرجل تقربه الصلاة ، وآخر تقربه الصيام ، وآخر تقربه الصدقة ، إلى غير ذلك من العبادات ، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود ، وإن اختلفوا في أصناف التوجه ، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ؛ ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم ؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى ، لا إلى تحري مقصد الشارع ، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها ، بل ليتعرف منها المقصد المتحد ، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح ، والله أعلم .
[ ص: 221 ] فصل

وبهذا يظهر أن الخلاف - الذي هو في الحقيقة خلاف - ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل ، وهو الصادر عن أهل الأهواء ، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها ، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق ، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى ، وذلك مخالفة الشرع ، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء ، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ، ولذلك سميت البدع ضلالات ، وجاء " إن كل بدعة ضلالة " ؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ، ودخول الأهواء في الأعمال خفي ، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع ، فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة .

فإن قيل : هذا مشكل ، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول ، وفرعوا عليها الفروع ، واعتبروهم في [ ص: 222 ] الإجماع والاختلاف ، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم .

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها ، بل إنما أتوا بها ليردوها ، ويبينوا فسادها ، كما أتوا بأقوالاليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها ، وذلك في علمي الأصول معا بين ، وما يتفرع عنها مبني عليها .

والثاني : إذا سلم اعتدادهم بها ، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق ، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا ، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره ، فمثله لا يقال فيه : إنه متبع للهوى مطلقا ، بل هو متبع للشرع ، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة .

وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد ، وهو اتباع الشريعة ، وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات ، حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية .

وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ؛ ولهذا [ ص: 223 ] لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم .

وأيضا ، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين ، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال ، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ، ومدارك الاجتهاد تختلف - لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم ، والاعتداد بتسطيرها ، والنظر فيها ، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه ، وإلا أدى إلى عدم الضبط ، ولهذا تقرير في كتاب الإجماع ، فلما اجتمعت هذه الأمور ، نقل خلافهم .

وفي الحقيقة ، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة ، وإذا كان كذلك ، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة ، لصحتها واتحاد حكمها ، وجهة الاختلاف هم مخطئون فيها قطعا ، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف ، فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير .

فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ، ولكن ما ذكر فيها كاف ، والله الموفق للصواب .
[ ص: 224 ] المسألة الثالثة عشرة

مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم ، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق .

وبقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله ، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة :

أحدها : أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ، والبحث عن أسبابه ، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل ، لكنه مجمل بعد ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا ، وربما لم يظهر بعد ، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة ، ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه ، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه ، مثبتا قدمه ، ورافعا وحشته ، ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم .

فهذا الطالب حين بقائه هنا ، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ، ويعارضها وتعارضه ، طمعا في إدراك أصولها ، والاتصال بحكمها ومقاصدها ، ولم تتلخص له بعد - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه ؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه ، فاللازم له الكف والتقليد .

[ ص: 225 ] والثاني : أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي ، بحيث يحصل له اليقين ، ولا يعارضه شك ، بل تصير الشكوك - إذا أوردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه ، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار ، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما ، وإن كان موجودا عنده ، فلا يبالي في القطع على المسائل ، أنص عليها أو على خلافها أم لا .

فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة ، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا ؟ هذا محل نظر والتباس ، ومما يقع فيه الخلاف .

[ ص: 226 ] وللمحتج للجواز أن يقول : إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس ، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت ، وصار بعضها عاضدا للبعض ، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب ، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة ، وعمدة النحلة ، ومنبع التكليف ، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا ، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة ، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة ، وقد فرضناه واصلا ، هذا خلف .

ووجه ثان ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي ، حتى يبني عليه فتياه ، ويرد إليه حكم اجتهاده ، فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل ، وهو محال .

ووجه ثالث ، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه ، فإن تكن في الحال [ ص: 227 ] غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي ، فهي حاكمة في الحقيقة ؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم ، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته ، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ، وهو المطلوب .

وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه :

- منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها ، وتعاضدت مراميها ، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ، ومسلكا منتظما ، لا يزل عنه من مواردها فرد ، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره ؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ، وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله .

ومنها : أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل [ ص: 228 ] آخر كما في النكاح مثلا ، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه ، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه ، وكما في مال العبد ، وثمرة الشجرة ، والقرض ، والعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ، والمساقاة ، بل لكل باب ما يليق به ، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره ، وكما في الترخصات في العبادات ، والعادات ، وسائر الأحكام .

وإذا كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات ، والحاجيات ، والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن ، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب ، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي ، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة ، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي ، وأنه هو مقصود الشارع ؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع .

- ومنها : أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها ، وهي أفعال المكلفين ، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على [ ص: 229 ] الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم ، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع ، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة ، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد ، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد .

وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال .

ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة ، وأخذ بالنصوص على الإطلاق ، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة ، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير ، بل على مقتضى قوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] .

[ ص: 230 ] فصاحب الرأي يقول : الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم ، وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا ، دل على ذلك الاستقراء ، فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا ؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر ، لكن على وجه كلي عام ، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام ؛ لأن دليله قطعي ، ودليل الخاص ظني ، فلا يتعارضان .

والظاهري يقول : الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع ، لا على حسب أنظارهم ، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة ، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك ، واتباع المعاني رأي ، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر ؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة ، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي .

فأصحاب الرأي جردوا المعاني ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات الألفاظ ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-11-2022, 05:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (196)
صـ231 إلى صـ 240





[ ص: 231 ] ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : وجدت في كتاب جدي : أتيت مكة ، فأصبت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فأتيت أبا حنيفة فقلت له : ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا ؟ قال : البيع باطل ، والشرط باطل ، وأتيت ابن أبي ليلى ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، وأتيت ابن شبرمة ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشتري بريرة ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما ، فقال : ما أدري ما قالاه ، حدثني مسعود بن حكيم ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : " اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فشرطت حملاني " فأجاز البيع والشرط . اهـ .

[ ص: 232 ] فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ، ولم ير غيره من الجزئيات معارضا ، فاطرح الاعتماد عليه ، والله أعلم .

والحال الثالث : أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية ، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر ، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين ، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها ، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا .

وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها ، وحاصله أنه متمكن فيها ، حاكم لها ، غير مقهور فيها ، بخلاف ما قبلها ، فإن صاحبها محكوم عليه فيها ، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات ، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها ، وإن كانت محكوما [ ص: 233 ] عليها تحت نظره وقهره ، فهو صاحب التمكين والرسوخ ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد ، والتعرض للاستنباط ، وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة ، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه ، والله أعلم .

ويسمى صاحب هذه المرتبة : الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ، والعالم ، والفقيه ، والعاقل ؛ لأنه يربى بصغار العلم قبل كباره ، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به ، وقد تحقق بالعلم ، وصار له كالوصف المجبول عليه ، وفهم عن الله مراده من شريعته .

ومن خاصيته أمران :

أحدهما : أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص ، بخلاف صاحب الرتبة الثانية ، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص .

والثاني : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما ، وكان في مساقه كليا ، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل ، وفي مذهب مالك من ذلك كثير .
[ ص: 234 ] المسألة الرابعة عشرة

تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء ، والعام لجميع المكلفين ، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين ، ويبين جهة المأخذ في الطريقين .

وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة ، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول ، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس بكل ما هو معروف في محاسن العادات ، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات ، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها ، فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ، ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به ، وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات ، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود ، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة ، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ، ومواساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة ، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ، ومراعاة حقوق الجوار ، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب ، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق ، والدفع بالتي هي أحسن ، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد .

[ ص: 235 ] وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح ، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن .

فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم ، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم ، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وبعد وفاته ، وفي زمان التابعين ، إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق ، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات تقتضي أحكاما خاصة ، أو بدرت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات ، وارتكاب الممنوعات ، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات ، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ؛ إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة ، فضلا عن غيرها ، كما لم تستقل بأصول العبادات ، وتفاصيل التقربات ، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره ، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ، ومال إليها طبعه ، وهي في نفسها على غير ذلك ، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها ، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر ، هذا إلى ما أمر الله به [ ص: 236 ] [ ص: 237 ] من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم ، وطولبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان : تارة بالقرآن ، وتارة بالسنة ، فتفصلت تلك المجملات المكية ، وتبينت تلك المحتملات ، وقيدت تلك المطلقات ، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا ، وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وليكون ذلك تماما [ ص: 238 ] لتلك الكليات المقدمة ، وبناء على تلك الأصول المحكمة ، فضلا من الله ونعمة .

فالأصول الأول باقية ، لم تتبدل ولم تنسخ ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات ، وما لحق بها ، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات .

وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية ، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس ، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين .

وأما الأحكام المدنية ، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ، والرخص ، والتخفيفات ، وتقرير العقوبات - في الجزئيات لا الكليات ، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة - وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها ، ولذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا ، وتأكيدا فكملت جملة الشريعة - والحمد لله - بالأمرين ، وتمت واسطتها بالطرفين ، فقال الله تعالى عند ذلك : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .

وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان [ ص: 239 ] التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة ، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم ، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم ، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة ، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل ، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى ، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة ، وتارة باللين ، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء ، وإياه تحروا .

وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا ، فلم يفصلوا القول فيه ؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل ، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه ، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده ؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه ، وقد تشتبه فيه أمور ، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل ، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول ، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر .

وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين ، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم [ ص: 240 ] بمقتضى تلك الأصول ، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف ، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات ، فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا ، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك ، فعاملوا ربهم في الجميع ، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير .

ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها ، حتى صارت كالنسي المنسي ، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله ، وهو داخل تحت معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : بدأ هذا الدين غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-11-2022, 05:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (197)
صـ241 إلى صـ 255




[ ص: 241 ] فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة ، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء ، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه .
فصل

كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم ، فسبقوا غاية السبق حتى سموا " السابقين " بإطلاق ، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار ، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق ، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم ، فكانت المتممات أسهل عليهم ، فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقدارهم ، وجعلهم في الدين أئمة ، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه ، بل زادوا في الاجتهاد ، وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا .

لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم ، وهم منها في سعة : والله يختص برحمته من يشاء [ البقرة : 105 ] .

فعلى تقرير هذا الأصل ، من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت ، وعلى الأول جرى [ ص: 242 ] الصوفية الأول ، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ، ومن هاهنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة ، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ، ولا هي مما يلزمهم شرعا ، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم ، وتكلفوا ما لم يكلفوا ، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة .

وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك ، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة ، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة ، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ، ونصوص التنزيل المكي المحكم الذي لم ينسخ ، وتنزيل أعمالهم عليه - تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء ، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر .

فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم ، فقال : أما على مذهبنا فالكل لله ، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم ، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم ، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ، ولم يبين فيه الواجب من غيره ، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ، ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب ، والاحتياط في مثل هذا المبالغة في الإنفاق في سد الخلات ، وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق ، فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه [ ص: 243 ] مذهبا في تعبده ، وفاء بحق الخدمة ، وشكر النعمة ، وإسقاطا لحظوظ نفسه ، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض ، وأنه قال : لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] وقال : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 57 ] وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ونحو ذلك ، فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ، ومثله لا يقال في ملتزمه : إنه خارج عن الطريقة ، ولا متكلف في التعبد ، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات ، فصارت هي الواجبة انحتاما ، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها ، وبقي ما سواها على حكم الخيرة ، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا ، والإنفاق ندبا ، فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر ، والجميع محمودون ؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله ، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله .

ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع ، بل يبقي بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه ، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا ، علما بـ " أن في المال حقا سوى الزكاة " وهو لا يتعين تحقيقا ، وإنما فيه الاجتهاد ، فلا يزال ناظرا في ذلك ، مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء ، [ ص: 244 ] متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه ، أو كالوكيل فيه لخلق الله ، سواء عليه أعد نفسه منهم أم لا .

وهذا كان غالب أحوال الصحابة ، ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا الرأي أجري على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات ، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد .

وأما من أبقى لنفسه حظا ، فلا حرج عليه ، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات ، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر ، فالصواب - والله أعلم - أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ، فيجوز لهم ذلك ، بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ، ولكن على نسبة القسمة ونحوها .

فإن قيل : فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء ؟

فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام ، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها ، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه ، فسقط له طلب الحظ لنفسه ، فساغ أن يفتي على حسب حاله ؛ لأنه يقول : هذه حالتي فاحملني على مقتضاها ، فلا بد أن يحمله على ما تقتضيه ، كما لو قال أحد للمفتي : إني عاهدت الله على ألا أمس فرجي بيميني ، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا ، وألا تمس يدي يد مشرك ، وما أشبه هذا ، فإنه عقد عقدا [ ص: 245 ] لله على فعل فضل ، وقد قال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .

ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله ، فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع .

وفي الحديث : " إن خيرا لأحدكم ألا يسأل من أحد شيئا " فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه .

وقال عثمان : ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى ؛ إذ عاهد الله ألا يمس مشركا ، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك ، الحديث كما وقع .

[ ص: 246 ] غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية ، لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال ، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع ، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه ، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه ، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم ، لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ، ولا يقال : إن هذا خلاف ما صرح به الشارع ؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع ، لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ولم يلزمها أحدا ؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة ، فإنها لازمة ، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه .

فإن قيل : فإذا كانت غير لازمة ، فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم ؟

قيل : لم يفت بها على مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك ، وإنما يفتي بها ، وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله ، وأصل الإلزام معمول به شرعا ، وأصله النذر والوفاء بالوعد في [ ص: 247 ] التبرعات ، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم ، كالمتعة في الطلاق ، وحديث : لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره .

وكان - عليه الصلاة والسلام - يعامل أصحابه بتلك الطريقة ، ويميل بهم إليها ، كحديث الأشعريين إذا أرملوا .

وقوله : من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله .

وقوله : من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير .

[ ص: 248 ] وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه .

وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى ألا ينفق على مسطح : ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية [ النور : 22 ] ، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه ، وقال : والله ليمرن به ولو على بطنك .

[ ص: 249 ] إلى كثير من هذا الباب .

وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه ، فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : أخت بشر الحافي ، فأجابها بترك الغزل بضوئها ، هذا معنى الحكاية دون لفظها .

وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال : كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس - يعني العوام - ويقول : لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك ، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم ، هذا كلامه .

وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير ، والله أعلم .
[ ص: 250 ] [ ص: 251 ] الطرف الثاني

فيما يتعلق بالمجتهد من الأحكام من جهة فتواه .

والنظر فيه في مسائل :

[ ص: 252 ] [ ص: 253 ] المسألة الأولى

المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم .

والدليل على ذلك أمور :

أحدها : النقل الشرعي في الحديث : إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم .

وفي الصحيح : بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ، وهو في معنى الميراث .

[ ص: 254 ] وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نذيرا لقوله : إنما أنت نذير [ هود : 12 ] وقال في العلماء : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية [ التوبة : 122 ] ، وأشباه ذلك .

والثاني : أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام ، لقوله : ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب .

وقال : بلغوا عني ولو آية .

وقال : " تسمعون ويسمع منكم ، ويسمع ممن يسمع منكم " .

[ ص: 255 ] وإذا كان كذلك ، فهو معنى كونه قائما مقام النبي .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17-11-2022, 05:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (198)
صـ256 إلى صـ 270


والثالث : أن المفتي شارع من وجه ؛ لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها ، وإما مستنبط من المنقول ، فالأول يكون فيه مبلغا ، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام ، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع ، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع ، واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله ، وهذه هي الخلافة على [ ص: 256 ] التحقيق ، بل القسم الذي هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام ، وكلا الأمرين راجع إليه فيها ، فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : " أن من قرأ القرآن ، فقد أدرجت النبوة بين جنبيه " .

[ ص: 257 ] وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر ، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] والأدلة على هذا المعنى كثيرة .

فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر ، وهي :
[ ص: 258 ] المسألة الثانية

وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول ، والفعل والإقرار .

فأما الفتوى بالقول فهو الأمر المشهور ، ولا كلام فيه .

وأما بالفعل فمن وجهين :

أحدهما : ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال ، فهو قائم مقام القول المصرح به ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا " وأشار بيديه .

وسئل - عليه الصلاة والسلام - في حجته ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، فأومأ بيده ، قال : ولا حرج .

[ ص: 259 ] وقال : يقبض العلم ، ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج . قيل : يا رسول الله : وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل .

وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء ، قلت : آية ؟ فأشارت برأسها ، أي نعم .

وحين سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أوقات الصلوات ، قال للسائل : صل معنا هذين اليومين . ثم صلى ، ثم قال له : الوقت ما بين هذين . [ ص: 260 ] أو كما قال ، وهو كثير جدا .

والثاني : ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به ، ومبعوثا لذلك قصدا ، وأصله قول الله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] .

وقال قبل ذلك : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ الأحزاب : 21 ] .

وقال في إبراهيم : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم [ الممتحنة : 4 ] إلى آخر القصة .

[ ص: 261 ] والتأسي : إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وشرع من قبلنا شرع لنا .

وقال - عليه الصلاة والسلام - لأم سلمة : ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم .

وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي و : خذوا عني مناسككم .

وحديث ابن عمر وغيره في الاقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ، ولذلك [ ص: 262 ] جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله .

وإذا كان كذلك ، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه ، لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا ، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر ، وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين :

أحدهما : أنه وارث ، وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا ، فكذلك الوارث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله .

والثاني : أن التأسي بالأفعال - بالنسبة إلى من يعظم في الناس - سر مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ، لا سيما عند الاعتياد والتكرار ، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به ، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس ، فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر ، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محلين :

أحدهما : حين دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الخروج من الكفر إلى الإيمان ، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله ، فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء ، كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا [ لقمان : 21 ] [ ص: 263 ] وما أشبهه من الآيات .

وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] .

ثم كرر عليهم التحذير من ذلك ، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب ، وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم ، وأضيفت الملة المحمدية إليه ، فقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم ، وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها ، وتعمل بكثير منها ، فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي ، وهو من أبلغ ما دعوا به من جهة التلطف بالرفق ، ومقتضى الحكمة ، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] .

وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] .

فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان - عليه الصلاة والسلام - يدعو بها .

وأيضا ، فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم ، فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي [ ص: 264 ] به ، فانقادوا ورجعوا إلى الحق .

والمحل الثاني : حين دخلوا في الإسلام ، وعرفوا الحق ، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي - عليه الصلاة والسلام - ونواهيه ، فربما أمرهم بالأمر ، وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول ، وقضيته - عليه الصلاة والسلام - معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال لأم سلمة : أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون ؟ فقالت : اذبح واحلق ، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه .

ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا ، واحتجوا بأنه يواصل ، فقال : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا ، وقال : لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم .

وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما ، فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا .

[ ص: 265 ] وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله ، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب ، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر ، والمعنى في الموضعين واحد .

ولعل قائلا يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما ، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره ، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان ، فأفعاله لا يوثق بها ، فلا تكون مقتدى بها .

فالجواب : أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي ، فليعتبر مثله في نصب أقواله ، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا ؛ لأنه ليس بمعصوم ، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال ، لم يكن معتبرا في الأفعال ، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان ، فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله ، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة .

وأما الإقرار فراجع في المعنى إلى الفعل ؛ لأن الكف فعل ، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه ، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 266 ] المنتصب بالفتوى ، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ، ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه ، واستخفى بنفسه ، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار ، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما ، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه .
[ ص: 267 ] المسألة الثالثة

تنبني على ما قبلها ، وهي أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم ، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه ، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا .

فأما فتياه بالقول ، فإذا جرت أقواله على غير المشروع فلا يوثق بما يفتي به ، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع ، وهذا من جملة أقواله ، فيمكن جريانها على غير المشروع ، فلا يوثق بها .

وأما أفعاله ، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم ، لم يصح الاقتداء بها ، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح .

وكذلك إقراره ؛ لأنه من جملة أفعاله .

وأيضا ، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير ، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله ، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه ؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي .

هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة .

[ ص: 268 ] وأما على التفصيل ، فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني ، فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة ، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة ، وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه ، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة ، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه ، وإلا فلا .

وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ، ومثلها النواهي ، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء ، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه ، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان ، أو عن الزنى وهو لا يزني ، أو عن التفحش وهو لا يتفحش ، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم ، وما أشبه ذلك ، فهو الصادق الفتيا ، والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله ، وإلا فلا ؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل ، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ، ولذلك قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

وقال في ضده : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ، إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 - 77 ] .

فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل ، وفي الكذب مخالفته .

وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] .

[ ص: 269 ] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة ، فإن وافق صدق ، وإن خالف كذب ، فالفتيا لا تصح مع المخالفة ، وإنما تصح مع الموافقة .

وحسب الناظر من ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام ، حتى أنكر على من قال : يحل الله لرسوله ما شاء .

وحين سأله الرجل عن أمر ، فقال : إني أفعله ، فقال له : إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، غضب - صلى الله عليه وسلم - وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

وفي القرآن عن شعيب عليه السلام : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] .

وقوله : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] .

[ ص: 270 ] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول ، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا ، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله ، وعبادة غير الله : إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها ، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه ، وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر ، وأقرب صاد عن الاتباع ، فمن كان في رتبة الوراثة لهم ، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول .

ولما نهى عن الربا قال : وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب .

وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال : وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-11-2022, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (199)
صـ271 إلى صـ 285


[ ص: 271 ] وقال حين شفع له في حد السرقة : والذي نفسي بيده ، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها .

وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته ، وأن الناس في أحكام الله سواء .

والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .

وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول ، فقال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] .

وقال : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف : 2 - 3 ] .

[ ص: 272 ] عن جعفر بن برقان قال : سمعت ميمون بن مهران يقول : إن القاص المتكلم ينتظر المقت ، والمستمع ينتظر الرحمة ، قلت : أرأيت قول الله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] هو الرجل يقرظ نفسه ، فيقول : فعلت كذا وكذا من الخير ؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وإن كان فيه تقصير ؟ فقال : كلاهما .

فإن قيل : إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقد قال العلماء : إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا ، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل ، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة ، فكذلك هنا ، ومثله الانتصاب للفتوى ، ومن الذي يوجد لا يزل ، ولا يضل ، ولا يخالف قوله فعله ، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة ؟

نعم ، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب ، وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا .

[ ص: 273 ] فالجواب : أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر ؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي ، فنحن نقول : واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق ، طابق قوله فعله أم لا ، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل ، وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا ، أو كان مظنة للحصول ؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ، وإن خالف فعله قوله ، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء ، وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله ، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم ، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف ، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات ، وهو في فعله على حسب فتواه لك - حصل تصديق قوله بفعله ، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ، ويخالط من نهاك عن مخالطتهم - فلم يصدق القول الفعل .

هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله ، فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله ؛ لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة ، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال .

[ ص: 274 ] فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ، ولا الفتوى على كمالها في الصحة ، إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق ، وقد قال أبو الأسود الدؤلي :


ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وهو معنى موافق للنقل والعقل ، لا خلاف فيه بين العقلاء .
فصل

فإن قيل : فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله ، هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا ؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ، ويعمل عليه أو لا .

فالجواب : أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم ، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح ؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي ، هذا هو المطرد والغالب ، وما سواه كالمحفوظ النادر الذي لا يقوم منه أصل كلي بحال ، وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي ، فالفقه فيها ظاهر ، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته ، فلا يصح إلزامه ، [ ص: 275 ] إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه ، وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر ، إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته ، وجهته غير موثوق بها ، فيسقط الإلزام عن المستفتي ، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا ؟ يجري ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي : هل هو شرط في التكليف أم لا ؟ وذلك مقرر في كتب الأصول ، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح ، والعمل عليه مبرئ للذمة ، والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا .
[ ص: 276 ] المسألة الرابعة

المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .

والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين .

وأيضا ، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين ، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل .

وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة : أفتان أنت يا معاذ ؟ .

[ ص: 277 ] وقال : إن منكم منفرين .

وقال : سددوا ، وقاربوا ، واغدوا ، وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا .

وقال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه ، وإن قل .

ورد عليهم الوصال ، وكثير من هذا .

وأيضا ، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة ، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا ؛ لأن المستفتي إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذهب به مذهب [ ص: 278 ] الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى ، واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة .

فصل

فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط ، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا .

وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد ، فلا يجعل بينهما وسطا ، وهذا غلط ، والوسط هو معظم الشريعة ، وأم الكتاب ، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك ، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي ، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه ، وحرج في حقه ، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى ، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة ، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة ، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها ، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى ، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف ، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ، ومخالف للهوى ، ولا على مطلق التشديد ، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره ، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه .
[ ص: 279 ] فصل

قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه ، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع ، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا ، وكان - عليه الصلاة والسلام - قدوة ، فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع ، كنهيه عن الوصال ، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم .

وقد قال تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .

وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين .

[ ص: 280 ] وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل .

وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

ولهذا - والله أعلم - أخفى السلف الصالح أعمالهم ؛ لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره ، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه .
فصل

إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع ، وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع ، وأولى بالاعتبار ، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ، ولكن الترجيح فيها لا بد منه ؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم ، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد ، فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا : إنه بدعة حدثت بعد المائتين ، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي : لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة ، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع ، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله ، والله أعلم .
[ ص: 281 ] الطرف الثالث

فيما يتعلق بإعمال قول المجتهد المقتدى به ، وحكم الاقتداء به .

ويحتوي على مسائل .

[ ص: 282 ] [ ص: 283 ] المسألة الأولى

إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة ، لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل ، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه : واتقوا الله ويعلمكم الله [ البقرة : 282 ] لا على ما يفهمه كثير من الناس ، بل على ما قرره الأئمة في صناعة النحو أي : إن الله يعلمكم [ ص: 284 ] على كل حال فاتقوه ، فكأن الثاني سبب في الأول ، فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا ، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، وهي قضية لا نزاع فيها ، فلا فائدة في التطويل فيها ، لكنها كالمقدمة لمعنى آخر ، وهي :
[ ص: 285 ] المسألة الثانية

وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه ، لأنه إسناد أمر إلى غير أهله ، والإجماع على عدم صحة مثل هذا ، بل لا يمكن في الواقع ؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه : أخبرني عما لا تدري ، وأنا أسند أمري لك فيما نحن في الجهل به على سواء ، مثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء ؛ إذ لو قال له : دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني ، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء - لعد من زمرة المجانين ، فالطريق الشرعي أولى ؛ لأنه هلاك أخروي ، وذلك هلاك دنيوي خاصة ، والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه ، غير أنا نقول بعده :

إذا تعين عليه السؤال فحق عليه ألا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه ، فلا يخلو أن يتحد في ذلك النظر أو يتعدد ، فإن اتحد فلا إشكال ، وإن تعدد فالنظر في التخيير وفي الترجيح قد تكفل به أهل الأصول ، وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال ، أما إذا كان قد اطلع على فتاويهم قبل ذلك ، وأراد أن يأخذ بأحدها ، فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح ؛ لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى ، فلا سبيل إليه البتة ، وقد مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب ، فلا نعيده .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17-11-2022, 05:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (200)
صـ286 إلى صـ 300



[ ص: 286 ] المسألة الثالثة

حيث يتعين الترجيح ، فله طريقان : أحدهما عام ، والآخر خاص .

فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول ، إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ، ويحترز منه ، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم ، أو على أهلها القائلين بها ، مع أنهم يثبتون مذاهبهم ، ويعتدون بها ، ويراعونها ، ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى ، وهو غير لائق بمناصب المرجحين ، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة ، وما يليها من مذهب داود ونحوه ، فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها :

أحدها : أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذي تفاوتا فيه ، وإلا فهو إبطال لأحدهما ، وإهمال لجانبه رأسا ، ومثل هذا لا يسمى ترجيحا ، وإذا كان كذلك ، فالخروج في ترجيح بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين - خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له ، وهذا ليس من شأن العلماء ، وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله ، والأئمة المذكورون برآء من ذلك فهذا النمط لا يليق بهم .

[ ص: 287 ] والثاني : أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه ؛ لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ، ويظهر محاسنه ، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام المذهب ، وإن كان مرجوحا ، فكأن الترجيح لم يحصل .

والثالث : أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا ، فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح من الجانبين ، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ، ومذاهبها ، وسائر ما يتعلق بها ، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه ، فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه ، فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث : إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فهذا من ذلك .

وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع ، كقوله : لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .

وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] ، وأشباه ذلك .

[ ص: 288 ] والرابع : أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب ، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية [ آل عمران : 105 ] .

وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقد مر تقرير هذا المعنى قبل ، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع ، فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع .

ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب - وإن لم يصحح سنده - أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال له : إياك والشعر ، قال : لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه ، مأكلة عيالي ، ونملة على لساني ، قال : فشبب بأهلك ، وإياك وكل مدحة مجحفة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان ، امدح ولا تفضل ، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني .

فإن صح هذا الخبر ، وإلا فمعناه صحيح ، فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا ، والعوائد شاهدة بذلك .

والخامس : أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى [ ص: 289 ] التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم ، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة .

قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل ، هذا ما قال ، وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية .

[ ص: 290 ] وقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل : والذي اصطفى موسى على البشر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وقال : لا تفضلوا بين الأنبياء أو : " لا تفضلوني على موسى " مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالتفضيل أيضا ، فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد : لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم ، قال : وقد خرج الحديث على سبب ، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي ، فقد يكون - عليه الصلاة والسلام - خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حق موسى عليه السلام ، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق ، قال عياض : وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته ، لكن نهاه عن الخوض فيه ، والمجادلة به ؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى [ ص: 291 ] ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال ، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء ، فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك . هذا ما قال ، وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء ، فإنهم ورثة الأنبياء .
فصل

وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة ، فلا حرج فيه ، بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن ، أعني : عند الحاجة إليه ، وأصله من الكتاب قول الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية [ البقرة : 253 ] ، فبين أصل التفضيل ، ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل .

وقال تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ الإسراء : 55 ] وفي الحديث من هذا كثير ، كقوله لما سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : أتقاهم ، فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فيوسف نبي الله ابن نبي الله [ ص: 292 ] ابن نبي الله ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل ، فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه : بلى ، عبدنا خضر .

وفي رواية : أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، قال له : بلى ، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث .

[ ص: 293 ] واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين ، في قسم يقسم به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين . . إلى أن قال - عليه الصلاة والسلام - : لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق ، أو كان ممن استثنى الله وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء ، فإنه ينفخ في الصور " الحديث .

فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل ، وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح ، وقال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [ ص: 294 ] وقال للذي قال له : يا خير البرية : " ذاك إبراهيم " .

وقال في الحديث الآخر : " أنا سيد ولد آدم " .

وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق ، وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين ، وإنما النظر في صحة التفضيل ، ومساغ الترجيح على الجملة ، وهو ثابت من الحديثين ، وقال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .

وقال ابن عمر : " كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان " .

[ ص: 295 ] وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة ، وهم عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، وفي كل دور الأنصار خير .

وقال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح .

[ ص: 296 ] وقال عبد الرحمن بن يزيد : سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأخذ عنه ، فقال : ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد .

[ ص: 297 ] ولما حضر معاذا الوفاة ، قيل له : يا أبا عبد الرحمن أوصنا ، قال : أجلسوني ، قال : إن العلم والإيمان مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما - يقول ذلك ثلاث مرات - والتمسوا العلم عند أربعة رهط ، عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام . . الحديث .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر .

[ ص: 298 ] وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير ؛ لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين ، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح ، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم ، والحكم المنبرم الذي لا يتعدى إلى سواه ، وكذلك فعل السلف الصالح .
فصل

وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم ، وعمروا بذلك دواوينهم ، وسودوا به قراطيسهم ، حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة ، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه ، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم ، فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا ، وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده ، بل أتى الوادي فطم على القرى ، فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء ، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال ، فنظموا فيه ونثروا ، وأخذوا في ترفيع محمد - عليه الصلاة والسلام - وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء ، ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها ، وهو خروج عن الحق ، وقد علمت السبب في قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تفضلوا بين الأنبياء وما قال الناس فيه ، فإياك والدخول في هذه المضايق ، ففيها الخروج عن الصراط المستقيم .

وأما الترجيح الخاص ، فلنفرد له مسألة على حدة ، وهي :
[ ص: 299 ] المسألة الرابعة

وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين :

أحدهما : من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند مقتضى فتواه ، فهو متصف بأوصاف العلم ، قائم معه مقام الامتثال التام ، حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال ، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ العلم من قوله ، وفعله ، وإقراره .

فهذا القسم إذا وجد ، فهو أولى ممن ليس كذلك ، وهو القسم الثاني ، وإن كان في أهل العدالة مبرزا ، لوجهين :

أحدهما : ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله ، فوعظه أبلغ ، وقوله أنفع ، وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ؛ لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه ، واستنارت كليته به ، وصار كلامه خارجا من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ، ومن كان بهذه الصفة ، فهو من الذين قال الله فيهم : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28 ] بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ ، حسبما حققته التجربة العادية .

والثاني : أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول ، كما تقدم بيانه أيضا ، فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب ، وانقادت له بالطواعية النفوس ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام ، وإن كان فضله ودينه معلوما ، ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها ، فمن زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة ، وهو زاهد فيها ، وتارك لطلبها - فتزهيده أنفع [ ص: 300 ] من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها ، فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة ، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله .

فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة ، فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله .

والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي ، فإذا طابق فيهما فهو الكمال ، فإن تفاوت الأمر فيهما - أعني فيما عدا شروط العدالة - فالأرجح المطابقة في النواهي ، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على ألا يرتكب منهيا عنه ، لكنه في الأوامر ليس كذلك ، والآخر مثابر على ألا يخالف مأمورا به ، لكنه في النواهي على غير ذلك - فالأول أرجح في الاتباع من الثاني ؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات ، واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه :

أحدها : أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17-11-2022, 05:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (201)
صـ301 إلى صـ 315



والثاني : أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف ، فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة ، وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها ، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح ، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف فعل بعض النواهي ، فإنه مخالفة [ ص: 301 ] في الجملة ، فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة .

الثالث : النقل ، فقد جاء في الحديث : فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر ، حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة ، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر .
[ ص: 302 ] المسألة الخامسة

الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين :

أحدهما : أن يكون المقتدى به في الأفعال ممن دل الدليل على عصمته ، كالاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعل أهل الإجماع ، أو ما يعلم بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ ، كعمل أهل المدينة على رأي مالك .

والثاني : ما كان بخلاف ذلك .

فأما الثاني فعلى ضربين :

أحدهما : أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدى به قصدا ، كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم ، من أخذ وإعطاء ، ورد وإمضاء ، ونحو ذلك ، أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به ، واهتماما بشأنه دينا وأمانة .

والآخر : ألا يتعين فيه شيء من ذلك .

فهذه أقسام ثلاثة ، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الاقتداء .

فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه المقتدى به ، لا يقصد به إلا ذلك ، سواء عليه أفهم مغزاه أم لا [ ص: 303 ] من غير زيادة ، أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه ، فيبني في اقتدائه على المحمل الأحسن ، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ، ويفرع عليه المسائل .

فأما الأول ، فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون ، كما اقتدى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياء كثيرة ، كنزع الخاتم الذهبي ، وخلع النعلين في الصلاة ، والإفطار في السفر ، والإحلال من [ ص: 304 ] العمرة عام الحديبية ، وكذلك أفعال الصحابة التي أجمعوا عليها ، وما أشبه ذلك .

وأما الثاني ، فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ، ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الاقتداء ، لأمور :

أحدها : أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل .

فالاحتمال الذي عينه المقتدي لا يتعين ، وإذا لم يتعين لم يكن ترجيحه إلا بالتشهي ، وذلك مهمل في الأمور الشرعية ؛ إذ لا ترجيح إلا بمرجح .

[ ص: 305 ] ولا يقال : إن تحسين الظن مطلوب على العموم ، فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته ؛ لأنا نقول : تحسين الظن بالمسلم - وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه - مطلوب بلا شك ، كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية [ الحجرات : 12 ] .

وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية [ النور : 12 ] .

بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم - كما أمر باعتقاد [ ص: 306 ] ما لا يعلم - في قوله : وقالوا هذا إفك مبين [ النور : 12 ] .

وقوله : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور : 16 ] .

إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .

ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك بمجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب .

فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ، ولم يكن كل مسلم عدلا عند المحسن بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية ، دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر ، وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم ، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك ، فلا ينبني عليها حكم .

ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ، ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ، ولا قرينة تدل على تعيين أحد الاحتمالين ، فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني لا الدنيوي بناء على تحسينه الظن به .

والثاني : أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا ، وهو مأمور به مطلقا ، وافق ما في نفس الأمر أو خالف ؛ إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا ، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر ، وليس كذلك باتفاق ، فلا يستلزم المطابقة ، وإذا ثبت هذا فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه ، لا على أمر حصل لذلك المقتدى به ، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما [ ص: 307 ] عند المقتدى به ، فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء ، وذلك باطل ، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته ، فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا ، وإياه قصد المقتدي باقتدائه ، فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة .

والثالث : أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض ؛ لأنه إنما يقتدى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ، ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا ، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ، وقد فرضنا أنه كذلك ، هذا خلف متناقض .

وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن ، والفرق بينهما ظاهر ، لأمرين :

أحدهما : أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك ، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية ، بخلاف تحسين الظن ، فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أو لا .

والثاني : أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه ، وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه ، وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به ، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن [ ص: 308 ] قواه وثبته بتكراره على فكره ، ووعظ النفس في اعتقاده ، وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ، ونفاه ، وكرر نفيه على فكره ، ومحاه عن ذكره .

فإن قيل : إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد ، والانقطاع إلى الله ، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله ، فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب ، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزن .

فالجواب : أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي ، فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ، ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن ، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره ، والظن الذي يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه ، وفرض مسألتنا ليس هكذا ، بل على جهة ألا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ، ويضعف الاحتمال الآخر ، كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته ، فمثل هذا له في هذه الدار حالان :

[ ص: 309 ] حال دنيوي ، به يقيم معاشه ، ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه .

وحال أخروي ، به يقيم أمر آخرته .

فأما هذا الثاني فلا كلام فيه ، وهو متعين في نفسه ، وغير محتمل إلا في القليل ، ولا اعتبار بالنوادر .

وأما الأول : فهو مثار الاحتمال ، فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه ، فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به ، وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ، ومتعبدا له به ، فيعمل به على قصد التقرب ، ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ، ليس له أصل ينبني عليه ؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه ، فلا يصادف قصد المقتدي محلا ، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا به ، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام .

بل نقول : إذا وقف المقتدى به وقفة ، أو تناول ثوبه على وجه ، أو قبض على لحيته في وقت ما ، أو ما أشبه ذلك ، فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي ، أو غافلا ، كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين ، فمثل هذا هو المراد بالمسألة .

وكذلك إذا كان له درهم مثلا ، فأعطاه صديقا له لصداقته ، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به ، فيقول المقتدي : حسن الظن به يقتضي أنه كان يتصدق به ، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر [ ص: 310 ] الأخروي ، فيجيء منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية .

وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث : واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة ؛ إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا .

فإذا بنينا على ما تقدم ، فلقائل أن يقول : إن ما قاله غير متعين ؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه ؛ لأنه لا حجر عليه ، ولا قدح فيه ينسب إليه ، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يحب من الدنيا أشياء ، وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ، ويتعين ذلك في أمور ، كحبه للنساء ، والطيب ، [ ص: 311 ] والحلواء ، والعسل ، والدباء ، وكراهيته للضب ، وأشباه ذلك ، وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له ، وهو منقول كثيرا .

ووجه ثان ، وهو أنه قد دعا - عليه الصلاة والسلام - بأمور كثيرة دنيوية ، كاستعاذته من الفقر ، والدين ، وغلبة الرجال ، وشماتة الأعداء ، والهم ، وأن يرد إلى أرذل العمر ، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ، ويدل [ ص: 312 ] عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله : لكل نبي دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم ، وهو الدعاء عليهم ، كقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] حسبما نقله المفسرون ، وكان من [ ص: 313 ] الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة ، فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط ، فكذلك دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة ، فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم .

وأمر ثالث : وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل ، لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - كان من أفعال الجبلة الآدمية أو لا ؛ إذ يمكن أن يقال : إنه قصد بها أمورا أخروية ، وتعبدا مخصوصا ، وليس كذلك عند العلماء ، بل كان يلزم منه ألا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا ؛ لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به ، وكذلك إذا لم يبين جهته ؛ لأنه محتمل أيضا ، فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل ، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة ، فإذا ثبت هذا صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت ، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه .

مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة ، لقوله فيه : [ ص: 314 ] لكل نبي دعوة مستجابة في أمته فليست مخصوصة به ، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذي ذكره ؛ لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر ، وهنا ليس كذلك .

والقسم الثاني : إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه ، فلا شك في صحة الاقتداء ؛ إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس ، وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك ، وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك ، بالقرائن الدالة على ذلك ، فهو موضع احتمال .

فللمانع أن يقول : إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ ، والنسيان ، والمعصية قصدا ، وإذا لم يتعين وجه فعله ، فكيف يصح الاقتداء [ ص: 315 ] به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ؟ ولذلك حكي عن بعض السلف أنه قال : أضعف العلم الرؤية ، يعني : أن يقول : رأيت فلانا يعمل كذا ، ولعله فعله ساهيا .

وعن إياس بن معاوية : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك .

وقد ذم الله تعالى الذين قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ الزخرف : 22 ] .

وفي الحديث من قول المرتاب : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .

فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس ، أو هو قريب منه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17-12-2022, 01:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (206)
صـ376 إلى صـ 385



وقال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلهن في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] [ ص: 376 ] ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .

يعني أن هذا كان الغالب عليهم .

وفي الحديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه ، فحرم عليهم من أجل مسألته .

وقال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم [ ص: 377 ] على أنبيائهم .

وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي ، فقال : من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول : سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط ، وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر .

وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال : سلوني في معرض الغضب ، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ، ولأجل ذلك ورد في الآية قوله : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] .

ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون " .

وقال الربيع بن خثيم : يا عبد الله ، ما علمك الله في كتابه من علم [ ص: 378 ] فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم ، فكله إلى عالمه ، ولا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] إلخ .

وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن .

[ ص: 379 ] وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الأغلوطات .

[ ص: 380 ] فسره الأوزاعي ، فقال : يعني صعاب المسائل .

وذكرت المسائل عند معاوية ، فقال : أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى [ ص: 381 ] عن عضل المسائل .

وعن عبدة بن أبي لبابة قال : وددت أن حظي من أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ، ولا يسألوني عن شيء ، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم .

وورد في الحديث : " إياكم وكثرة السؤال " .

وسئل مالك عن حديث : " نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال " قال : أما كثرة السؤال ، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها ، وقال الله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، فلا أدري أهو هذا ، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء .

[ ص: 382 ] وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال على المنبر : أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن .

وقال ابن وهب : قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل : يا عبد الله ، ما علمته فقل به ، ودل عليه ، وما لم تعلم فاسكت عنه ، وإياك أن تتقلد [ ص: 383 ] للناس قلادة سوء .

وقال الأوزاعي : إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط .

وعن الحسن قال : إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل ، يعنتون بها عباد الله .

وقال الشعبي : والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري ، قلت : من هم يا أبا عمرو ؟ قال : الأرأيتيون .

وقال : ما كلمة أبغض إلي من " أرأيت " .

[ ص: 384 ] وقال أيضا لداود الأودي : احفظ عني ثلاثا لها شأن : إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك " أرأيت " ، فإن الله قال في كتابه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الفرقان : 43 ] حتى فرغ من الآية ، والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حرمت حلالا ، أو حللت حراما ، والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم ، فقل لا أعلم ، وأنا شريكك .

وقال يحيى بن أيوب : بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون : إذا أراد الله ألا يعلم عبده خيرا أشغله بالأغاليط .

[ ص: 385 ] والآثار كثيرة .

والحاصل منها أن كثرة السؤال ، ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية ، والاحتمالات النظرية - مذموم ، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه ، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألوه حتى يسمعوا كلامه ، ويحفظوا منه العلم ، ألا ترى ما في الصحيح عن أنس ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع .

ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ، ثم أخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أنه جبريل ، وقال : أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا .

وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا ، وكان أصحابه يهابون ذلك ، قال أسد بن الفرات - وقد قدم على مالك - : وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة ، فإذا أجاب يقولون : قل له فإن كان كذا ، فأقول له : فضاق علي يوما ، فقال لي : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا ، فعليك بالعراق ، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17-11-2022, 05:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (202)
صـ316 إلى صـ 330



وللمجيز أن يقول : إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام ، وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك - ولا سيما في العبادات ، ومع التكرار أيضا ، [ ص: 316 ] وهو من أهل الاقتداء بقوله - فالاقتداء بفعله كذلك .

وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم : إنه جائز ، واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه ، قال : وأراه كان يتحراه ، فقد استند [ ص: 317 ] إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه ، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه ، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن إفراد يوم الجمعة بالصوم .

فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذي يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين ، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة ، فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به ، وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة ، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف ، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به ، وجهة فعله ، فصح الاقتداء .

والقسم الثالث : هو ألا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل ، فإن قلنا في القسم الثاني بعدم [ ص: 318 ] صحة الاقتداء ، فها هنا أولى ، وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال ، فإن قرائن التحري للفعل هنالك موجودة ، فهي دليل يتمسك به في الصحة .

وأما هاهنا ، فلما فقدت قوي احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما ، هذا مع اقتران الاحتياط على الدين ، فالصواب والحالة هذه منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ، ويتمكن قول من قال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك ، ونحوه .
[ ص: 319 ] المسألة السادسة

قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة :

أما الحال الأول ، فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله ؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد ، فإذا كان اجتهاده غير معتبر ، فالاقتداء به كذلك ؛ لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة ، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ، ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها ، فيصير عمله مخالفا ، فلا يوثق بأن عمله صحيح ، فلا يمكن الاعتماد عليه .

وأما الحال الثالث ، فلا إشكال في صحة استفتائه ، ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها .

وأما الحال الثاني ، فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه ، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله ، فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته .

وأما الاقتداء بأفعاله ، فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده ، فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول ، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر .

هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال ، فإن كان صاحب حال وهو [ ص: 320 ] ممن يستفتى ، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا ؟ وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا ؟

كل هذا مما ينظر فيه ، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال ، فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله ، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق ، إما لسائق الخوف ، أو لحادي الرجاء ، أو لحامل المحبة ، فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه ، فليس لهم عن الأعمال فترة ، ولا عن جد السير راحة ، فمن كان بهذا الوصف ، فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته ؟

وأيضا ، فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم ، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته ، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم ، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم ، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء ، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس ، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية ، أو راض بالأوائل عن الغايات .

فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال ، وإن تطوقوا ذلك زمانا ، فعما قريب ينقطعون ، والمطلوب الدوام ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

[ ص: 321 ] وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ ، وقال : إن الله يحب الرفق في الأمر كله .

وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد ، خوفا من الانقطاع ، وقال : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .

ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا ، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال ، لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء ، وهم كذلك ، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه ، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم ، وغير مخوف عليه الانقطاع ، فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل ، وهذا المقام قد عرفه أهله ، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه .

وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل ، فيحتمل تفصيلا ، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال أو لا ، فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله ، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة [ ص: 322 ] أعماله ، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله ، لا بما يقتضيه حال السائل ، وإن كان الثاني ساغ ذلك ؛ لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال ؛ إذ ليس مأخوذا فيه .
[ ص: 323 ] المسألة السابعة

يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه .

قال مالك بن أنس : ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك ، قال : فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا ؟ قال الراوي : فرأيت في النوم قائلا يقول : مالك معصوم .

وقال : إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن .

وقال : ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي .

وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل : انصرف حتى أنظر فيها ، فينصرف ويردد فيها ، فقيل له في ذلك ، فبكى وقال : إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم .

وكان إذا جلس نكس رأسه ، وحرك شفتيه يذكر الله ، ولم يلتفت يمينا [ ص: 324 ] ولا شمالا ، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه - وكان أحمر - فيصفر ، وينكس رأسه ، ويحرك شفتيه ثم يقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، فربما سئل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب منها في واحدة ، وكان يقول : من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب .

وقال بعضهم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار .

وقال : ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يجمعون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم .

قال : ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم [ ص: 325 ] ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا : هذا حلال ، وهذا حرام ، ولكن يقول : أنا أكره كذا ، وأرى كذا ، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله ، أما سمعت قول الله تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية [ يونس : 59 ] ؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله ، والحرام ما حرماه .

قال موسى بن داود : ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول : " لا أحسن " من مالك ، وربما سمعته يقول : ليس نبتلى بهذا الأمر ، ليس هذا ببلدنا ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ، قال الراوي : فقلت : إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى .

وسأل رجل مالكا عن مسألة ، وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب ، فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها ، قال : ومن يعلمها ؟ قال : من علمه الله ، وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب ، فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سمعنا أحدا من [ ص: 326 ] أشياخنا تكلم فيها ، ولكن تعود ، فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده ، فقال : مسألتي ، فقال : ما أدري ما هي ، فقال الرجل : يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول : ليس على وجه الأرض أعلم منك ، فقال مالك غير مستوحش : إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن .

وسأله آخر فلم يجبه ، فقال له : يا أبا عبد الله أجبني ، فقال ويحك ، تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله ؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك .

وسئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري .

وسئل من العراق عن أربعين مسألة ، فما أجاب منها إلا في خمس .

وقد قال ابن عجلان : إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله .

[ ص: 327 ] ويروى هذا الكلام عن ابن عباس ، وقال : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري ، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه : لا أدري ، قال عمر بن يزيد : فقلت لمالك في ذلك ، فقال : يرجع أهل الشام إلى شامهم ، وأهل العراق إلى عراقهم ، وأهل مصر إلى مصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به ، قال : فأخبرت الليث بذلك ، فبكى وقال : مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا .

وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة ، فما أجاب منها إلا في واحدة .

[ ص: 328 ] وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ، ويقول في الباقي : لا أدري .

قال أبو مصعب : قال لنا المغيرة : تعالوا نجمع [ ونستذكر ] كل ما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه مالكا ، فمكثنا نجمع ذلك ، وكتبناه في قنداق ، ووجه به المغيرة إليه ، وسأله الجواب ، فأجابه في بعضه ، وكتب في الكثير منه : لا أدري ، فقال المغيرة : يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى ، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول : لا أدري ؟ .

والروايات عنه في " لا أدري " و " لا أحسن " كثيرة حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك " لا أدري " لفعل قبل أن يجيب في مسألة .

وقيل : إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري ، فمن يدري ؟ قال : ويحك أعرفتني ، ومن أنا ، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر ، وقال : هذا ابن عمر يقول : لا أدري ، فمن أنا ؟ وإنما [ ص: 329 ] أهلك الناس العجب ، وطلب الرياسة ، وهذا يضمحل عن قليل .

وقال مرة أخرى : قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء ، فلم يجب فيها ، وقال ابن الزبير : لا أدري ، وابن عمر : لا أدري .

وسئل مالك عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سهلة ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير ، وكان السائل ذا قدر ، فغضب مالك وقال : مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] فالعلم كله ثقيل ، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة .

قال بعضهم : ما سمعت قط أكثر قولا من مالك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله : لا أدري : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ الجاثية : 32 ] لفعلنا .

[ ص: 330 ] وقال له ابن القاسم : ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر ، فقال مالك : ومن أين علموها ؟ قال : منك ، فقال مالك : ما أعلمها أنا ، فكيف يعلمونها .

وقال ابن وهب : قال مالك : سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ، ولا أحدث بها ، قال الفروي : فقلت له : لم ؟ قال : ليس عليها العمل .

وقال رجل لمالك : إن الثوري حدثنا عنك في كذا ، فقال : إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة .

وقيل له : عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك ، فقال : أنا أحدث الناس بكل ما سمعت ؟ إني إذا أحمق ، وفي رواية : إني أريد أن أضلهم إذا ، ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها ، وإن كنت أجزع الناس من السياط .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 262.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 256.19 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]