|
|||||||
| ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (11) الصديق في ميادين الجهاد علي بن محمد الصلابي تمهيد: ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبا بكر شهد مع النبي بدرًا والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهدًا، وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء. وقال ابن كثير: ولم يختلف أهل السير في أن أبا بكر الصديق لم يتخلف عن رسول الله في مشهد من المشاهد كلها. وقال الزمخشري: إنه (يعني أبا بكر ) كان مضافاً لرسول الله إلى الأبد، فإنه صحبه صغيرًا وأنفق ماله كبيرًا، وحمله إلى المدينة براحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوَّجه ابنته، ولم يزل ملازماً له سفرًا وحضرًا، فلما توفي دفنه في حجرة عائشة أحب النساء إليه. وعن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبو بكر ومرة علينا أسامة. ومن خلال هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق الجهادية مع النبي ، لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه في نصرة دين الله تعالى. أولاً: أبو بكر في بدر الكبرى: شارك الصديق في غزوة بدر، وكانت في العام الثاني من الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة، من أهمها: 1- مشورة الحرب: لما بلغ النبي من نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي استشار رسول الله أصحابه في الأمر، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن. 2- دوره في الاستطلاع مع النبي : قام النبي ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين، وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخًا من العرب، فسأله رسول الله عن جيش قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه من أخبارهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله : «إذا أخبرتنا أخبرناك» فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم»، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المسلمين- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلا- ثم قال الشيخ: لقد أخبرتكما عما أردتما، فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله : «نحن من ماء»، ثم انصرف النبي وأبو بكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي ، وقد تعلم أبو بكر من رسول الله دروسًا كثيرة. 3- في حراسة النبي في عريشه: عندما رتب الصفوف للقتال، رجع إلى مقر القيادة وكان عبارة عن عريش على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر ، وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله , وقد تحدث علي بن أبي طالب عن هذا الموقف فقال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر؛ إنا جعلنا لرسول الله عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس. 4- الصديق يتلقى البشارة بالنصر، ويقاتل بجانب رسول الله: بعد الشروع في الأخذ بالأسباب اتجه رسول الله إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدًا». وما زال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورَدَّه على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله، كفاك مناشدتكم ربك فإنه منجز لك ما وعدك وأنزل الله -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك الله، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وقد خفق النبي خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: أ «بشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع (يعني الغبار)، قال: ثم خرج رسول الله إلى الناس فحرَّضهم». وقد تعلم الصديق من هذا الموقف درسًا ربانيًا مهمًا في التجرد النفسي وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده، والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره، وبقي هذا المشهد راسخًا في ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله في تنفيذه في مثل هذه الساعات وفي مثل هذه المواطن، ويبقى هذا المشهد درسًا لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي وصحابته الكرام. ولما اشتد أوار المعركة وحمي وطيسها نزل رسول الله وحرض على القتال والناس على مصافهم يذكرون الله تعالى، وقد قاتل بنفسه قتالاً شديدًا وكان بجانبه الصديق، وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير، وكان على استعداد لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان ابنه، وقد شارك ابنه عبد الرحمن في هذه المعركة مع المشركين، وكان من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهمًا في قريش، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي «أي ظهرت أمامي كهدف واضح» يوم بدر، فملت عنك ولم أقتلك، فقال له أبو بكر: لو أهدفت لي لم أَمِلْ عنك. 5- الصديق والأسرى: قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى» فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله : « «ما ترى يا ابن الخطاب» قال: لا والله، يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم، فتمكِّنَ عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان «نسيبًا لعمر» فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله إلى ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت، فلما كان الغد جئت فإذا برسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (شجرة قريبة من النبي )، وأنزل الله -عز وجل-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]، إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، فأحل الله لهم الغنيمة. وفي رواية عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى» فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك استَبْقِهم واستأن بهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرب عليهم نارًا، فقال العباس: قطعت رحمك. فدخل رسول الله ولم يرد عليهم شيئا، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله فقال: «إ «ن الله ليليِّن قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى إذ قال: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، «وإن مثلك يا عمر كمثل نوح؛ إذ قال {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وإن مثلك كمثل موسى إذ قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88]. كان النبي إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه. ـــــــــــــــــــــــ
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (13) في غزوة بين النضير وبني المصطلق وفي الخندق وبني قريظة علي بن محمد الصلابي أ- خرج النبي إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين الذين قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ؛ لأن عمرًا لم يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي ، وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فلما آتاهم النبي قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، قالوا: فمن يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسول الله الخبر من السماء مما أراد القوم، فقام وخرج إلى المدينة، فلما استلبث النبي أصحابه قاموا في طلبه، فرأوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقالوا: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب النبي حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به. فبعث النبي محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم بالنصر، فقويت نفوسهم، وحمى حيي بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله أنهم لا يخرجون، ونابذوه ينقض العهد، فعند ذلك أمر رسول الله الناس بالخروج إليهم، فحاصروهم خمس عشرة ليلة فتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله بقطع النخيل والتحريق، ثم أجلاهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، فنزلت سورة الحشر . ب- بنو المصطلق: أراد بنو المصطلق أن يغزوا المدينة، فخرج لهم رسول الله في أصحابه، فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق (ويقال: إلى عمار بن ياسر)، وراية الأنصار إلى سعد ابن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا: لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا، فتراموا بالنبل، ثم أمر رسول الله المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد. ج- في الخندق وبني قريظة: كان الصديق في الغزوتين مرافقا للنبي ، وكان يوم الخندق يحمل التراب في ثيابه، وساهم مع الصحابة للإسراع في إنجاز حفر الخندق في زمن قياسي، مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في مواجهة المشركين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (17) في غزوة تبوك، وإمارة الحج، وفي حجة الوداع علي بن محمد الصلابي أ- في تبوك: خرج رسول الله بجيش عظيم في غزوة تبوك بلغ عدده ثلاثين ألفاً، وكان يريد قتال الروم بالشام، وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله، اختار الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق. وفي هذه الغزوات ظهرت بعض المواقف للصديق منها: 1- موقفه من وفاة الصحابي عبد الله ذي البجادين: قال عبد الله بن مسعود : قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر، قال فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حضرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدليا إليَّ أخاكما»، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: «اللهم إني أمسيت راضيًا عنه فارض عنه». قال الراوي (عبد الله بن مسعود): يا ليتني كنت صاحب الحفرة. وكان الصديق إذا دخل الميت اللحد قال: بسم الله، وعلى ملة رسول الله ، وباليقين وبالبعث بعد الموت. 2- طلب الصديق من رسول الله الدعاء للمسلمين: قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله، قال: «أتحب ذلك»، قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت السماء أي: تهيأت لإنزال مائها -فأطلت- أي: أنزلت مطرًا خفيفاً- ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. 3- نفقة الصديق في تبوك: حث رسول الله الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بُعدها وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كلٌّ حسب مقدرته، وكان عثمان صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة. وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك، ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله: «ما أبقيت لأهلك»؟» قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله: «ما أبقيت لأهلك» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا. كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً، ولكن حال الصديق أفضل منه؛ لأنه خالٍ من المنافسة مطلقا ولا ينظر إلى غيره. ب- الصديق أمير الحج 9 هـ: كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي مستمرة على جميع الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية والتعبدية، وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، وحجة عام 8هـ بعد الفتح كلف بها عتاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين، فلما حل موسم الحج أراد الحجَ ولكنه قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك»، فأرسل النبي الصديق أميرًا على الحج سنة تسع من الهجرة، فخرج أبو بكر الصديق بركب الحجيج، ونزلت سورة براءة فدعا النبي علياً ، وأمره أن يلحق بأبي بكر، فخرج على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك الصديق أبا بكر بذي حليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سار، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة، لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول فكان يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات... إلخ. وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: «لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك». وقد أمر الصديق أبا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته. وقد كلف النبي علياً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج، مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها أن لا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام، فلذلك تدارك النبي الأمر وأرسل علياً بذلك، فهذا هو السبب في تكليف علي بتبليغ صدر سورة براءة، لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًّا أحق بالخلافة من أبي بكر، وقد علق على ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير. وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع. لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخلوها في التوحيد . ج- في حجة الوداع: روى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله حجاجاً، حتى إذا أدركنا (العرج) نزل رسول الله ، فجلست عائشة جنب النبي ، وزمالة أبي بكر مع غلام لأبي بكر فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره!! فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة! فقال أبو بكر: بعير واحد تضله! فطفق يضربه ورسول الله يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع» ».
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (42) إنا معشر الأنبياء لا نُورث، ما تركنا صدقة علي بن محمد الصلابي قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن فاطمة والعباس -رضي الله عنهما-: أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وفي رواية: قال أبو بكر رضي الله عنه:«لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر يسأله ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة». وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: لذلك قال الصديق: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، وقال: والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته. وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها- منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنهما- في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمنكر؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلما أخبرها بقوله كفت. وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي عليٌّ الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم. وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر -رضي الله عنهم جميعًا- إنما هو الميراث، حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة». فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق، ولو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد صلى الله عليه وسلم. وأما ما ذكره عدد من الرواة في كون فاطمة -رضي الله عنها- غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت، فبعيد جدًا لعدة أدلة، منها: ما رواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبي بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة -رضي الله عنها- لهجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وما فعل إلا امتثالاً واتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد انشغلت عن كل شيء يحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشئون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته- بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها؛ فقد أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أول من يلحق به من أهله، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يروِ أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران. هذا ومن الثابت تاريخيًا أن أبا بكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر فيما يختص بآبائهم شيء من الجور أو الشطط، أو ما يشكونه من الحيف أو الظلم. ولما توفيت فاطمة -رضي الله عنها- بعد رسول الله بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقًا به، وقال لها مع ذلك: {أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة}، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة. عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وُضعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فو الله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر، ودفنت ليلاً. وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليها أربعًا، وفي رواية مسلم، صلى عليها علي بن أبي طالب. هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعضاء أهل البيت صلة ودية تقديريه تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمى علي أحد أولاده بأبي بكر، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمدًا بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله. هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق رضي الله عنه، والتزم فيها بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة وحرص، فرضي الله عنه وعن جميع الصحابة الكرام الطيبين الأبرار.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (48) جعل الدعوة مقرونة بالعمل علي بن محمد الصلابي لما أصر أبو بكر رضي الله عنه على إبقاء أسامة بن زيد رضي الله عنه أميرا للجيش حرصا على التمسك بما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر على الإصرار على إمارته فحسب، بل قدم اعترافا عمليا بإمارته وقد تجلى ذلك في أمرين: مشى أبو بكر رضي الله عنه مع أسامة رضي الله عنه وهو راكب، وقد كان ابن عشرين سنة أو ثماني عشرة سنة، وكان الصديق رضي الله عنه قد تجاوز ستين سنة من عمره، وأصر على المشي مع أسامة رضي الله عنه ، كما أصر على بقاء أسامة رضي الله عنه راكبا لما طلب منه أسامة رضي الله عنه إما أن يركب هو أو يأذن له بالنزول، فلم يوافق رضي الله عنه لا على هذا ولا على ذاك، وبهذا قدم رضي الله عنه باستمراره في مشيه ذلك دعوة لجيش أسامة رضي الله عنه إلى الاعتراف بإمرة أسامة رضي الله عنه ورفع الحرج عنها من صدورهم، وكأن الصديق رضي الله عنه بمشيه ذلك يخاطب الجيش فيقول: انظروا أيها المسلمون أنا أبو بكر رغم كوني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي مع أسامة وهو راكب، إقرارًا وتقديرًا لإمارته؛ حيث أمره رسولنا الكريم -إمامنا الأعظم وقائدنا الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه- فكيف تجرأتم أنتم على الانتقاد على إمارته. كان أبو بكر الصديق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- بالمدينة نظرا لحاجته إليه، لكنه لم يأمر بذلك بل استأذن من أسامه رضي الله عنه في تركه إياه بالمدينة إن رأى هو ذلك مناسبا، وبهذا قدم الصديق رضي الله عنه صورة تطبيقية أخرى لاعترافه واحترامه لإمارة أسامة رضي الله عنه ، وفيها بلا شك دعوة قوية للجيش إلى الإقرار والانقياد لإمارته. وهذا الذي اهتم به الصديق رضي الله عنه من جعل دعوته مقرونة بالعمل هو الذي أمر به الإسلام، ووبخ الرب -عز وجل- أولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. ومما يتجلى في هذه القصة كذلك منزلة الشباب العظيمة في خدمة الإسلام؛ فقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاب أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أميرا على الجيش المعد لقتال الروم -القوة العظيمة في زعم الناس في ذلك الوقت- وكان عمره آنذاك عشرين سنة أو ثماني عشرة سنة، وأقره أبو بكر الصديق رضي الله عنه على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشاب بفضل الله تعالى من مهمته التي أسندت إليه غانما ظافرًا، وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في خدمة الإسلام. ولو نعيد النظر في تاريخ الدعوة الإسلامية في المرحلتين المكية والمدنية لوجدنا شواهد كثيرة تدل على ما قام به شباب الإسلام في خدمة القرآن والسنة، وإدارة أمور الدولة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (53) المواجهة الرسمية على المرتدين علي بن محمد الصلابي أولاً: المواجهة الرسمية من الدولة: 1- وسيلة الإحباط من الداخل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذه الوسيلة، فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة، وسار الصديق رضي الله عنه على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدين، وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها، واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيدًا للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باليمن وغيرها؛ ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره، وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية القادمة، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي. وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلاد السراة ونجران، وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها: أ- نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهيدًا لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإمكانات، وهي أداة الجيوش المنظمة. ب- أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قوادًا في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد؛ كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق. ج- تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة. د- القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربية.
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (12) في أحد وحمراء الأسد علي بن محمد الصلابي في يوم أحد تلقى المسلمون درسًا صعبًا؛ فقد تفرقوا من حول النبي، وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان، وشاع أن الرسول قتل، وكان رد الفعل على الصحابة متباينًا، وكان الميدان فسيحاً، وكل مشغول بنفسه، شق الصديق الصفوف، وكان أول من وصل إلى رسول الله، واجتمع إلى رسول الله أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح، وعلي، وطلحة، والزبير، وعمر بن الخطاب، والحارث بن الصمة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم... رضي الله عنهم، وقصدوا مع رسول الله الشعب من جبل أحد في محاولة لاسترداد قوتهم المادية والمعنوية. وكان الصديق إذا ذكر أحدًا قال: ذلك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه، قلت: كن طلحة، حيث فاتني ما فاتني، وكان بيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله منه، وهو يختطف المشي خطفاً لا أخطفه فإذا هو أبو عبيدة، فانتهينا إلى رسول الله وقد كسرت رباعيته وشج وجهه، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله: «عليكما صاحبكما-يريد طلحة- فقد نزف»، فلم نلتفت إلى قوله، قال: ذهبت لأنزع من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسم عليك بحقي لما تركتني، فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله، فأرزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتمًا. فأصلحنا من شأن رسول الله، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه. وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان عندما سأل وقال: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فهذا يدل على ظن أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة الإسلام وأساسه؛ رسول الله وأبو بكر وعمر. وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين ويستأصلوا شأفتهم، كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم وأبطل كيدهم، وأمر رسول الله المسلمين مع ما بهم من جراحات وقرح شديد للخروج من إثر المشركين، فاستجابوا لله ولرسوله مع ما بهم من البلاء وانطلقوا، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: «من يذهب في إثرهم» فانتدب منهم سبعين رجلا: كان فيهم أبو بكر والزبير.
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (14) في الحديبية علي بن محمد الصلابي خرج رسول الله في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا لتعظيم بيت الله الحرام، فبعث النبي عيناً له من خزاعة، فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده عن الكعبة، فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، فقال أبو بكر يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد حربه أو قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله»، وقد ثارت قريش وحلفوا أن لا يدخل الرسول مكة عنوة، ثم قامت المفاوضات بين أهل مكة ورسول الله، وقد عزم النبي على إجابة أهل مكة على طلبهم إن أرادوا شيئاً فيه صلة رحم. أ- في المفاوضات: جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي، وكان أول من أتى بديل بن ورقاء من خزاعة، فلما علم بمقصد النبي والمسلمين رجع إلى أهل مكة، ثم جاء مكرز بن حفص ثم الحليس ابن علقمة ثم عروة بن مسعود الثقفي، فدار هذا الحوار بين النبي وعروة بن مسعود الثقفي، واشترك في هذا الحوار أبو بكر وبعض أصحابه. قال عروة: يا محمد، أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل (أي: خرجت رجالا ونساء، صغارا وكبارا) قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة، وايم الله لكأني بهؤلاء (يقصد أصحاب النبي) قد انكشفوا عنك!!. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات -وهي صنم ثقيف- أنحن نَفِرُّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك، فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة، وليس من الفحش المنهي عنه. لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حربًا نفسية على المسلمين حتى يهزمهم معنوياً، ولذلك لوح بقوة المشركين العسكرية، معتمدا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وحاول أن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين؛ وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده، عندما قال للنبي أجمعت أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، وكان رد الصديق صارمًا ومؤثرا في معنويات عروة ونفسيته، فقد كان موقف الصديق في غاية العزة الإيمانية التي قال الله فيها: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. ب- موقفه من الصلح: ولما توصل المشركون مع رسول الله إلى الصلح بقيادة سهل بن عمرو، أصغى الصديق إلى ما وافق عليه رسول الله من طلب المشركين، رغم ما قد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز أو الإجحاف بالمسلمين، وسار على هدي النبي ليقينه أن النبي لا ينطق عن الهوى، وأنه فعل لشيء أطلعه الله عليه. وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله: ألست برسول الله؟ قال: «بلى» قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال :«إني رسول الله ولست أعصيه»، وفي رواية: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام». قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به» قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر -ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة-: الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله. وكان جواب الصديق مثل جواب رسول الله، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي، فكان أبو بكر أكمل موافقة لله وللنبي من عمر، مع أن عمرمحدث، ولكن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله. وقد تحدث الصديق فيما بعد عن هذا الفتح العظيم الذي تم في الحديبية، فقال: ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتى يبلغ الأمور ما أراد. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله بَدَنَة، ورسول الله ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» ويأبى أن يكتب محمد رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام. لقد كان الصديق أسَدَّ الصحابة رأياً وأكملهم عقلاً.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (15) في غزوة خيبر، وسرية نجد وبني فزارة علي بن محمد الصلابي أ- في خيبر: ضرب رسول الله حصارًا على خيبر واستعد لقتالهم، فكان أول قائد يرسله أبا بكر إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع، ولم يكن فتح، وقد جهد، ثم بعث عمر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح، ثم قال: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله»، فكان علي بن أبي طالب، وأشار بعض أصحاب النبي بقطع النخيل حتى يثخن في اليهود ورضي النبي بذلك، فأسرع المسلمون في قطعه، فذهب الصديق إلى النبي وأشار عليه بعدم قطع النخيل لما في ذلك من الخسارة للمسلمين سواء، فتحت خيبر عنوة أو صلحاً، فقبل النبي مشورة الصديق، ونادى بالمسلمين بالكف عن قطع النخيل فرفعوا أيديهم. ب- في نجد: أخرج ابن سعد عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بعث رسول الله أبا بكر إلى نجد وأمَّره علينا، فبيتنا ناسًا من هوازن فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات، وكان شعارنا: أمت.. أمت . ج- في بني فزارة: روى الإمام أحمد من طريق إياس بن سلمة عن أبيه، حدثني أبي، قال: خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمره النبي علينا، فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء مَنْ مر قبلنا، قال سلمة: ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء، وفيهم امرأة عليها قشع من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر، فما كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني رسول الله في السوق فقال لي: «يا سلمة هب لي المرأة» قال: فقلت والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، قال: فسكت رسول الله، وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله في السوق فقال لي: «يا سلمة هب لي المرأة» قال: فقلت: والله يا رسول الله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله، قال: فبعث بها رسول الله إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم رسول الله بتلك المرأة. سادسًا: في عمرة القضاء وفي ذات السلاسل: أ- في عمرة القضاء: كان الصديق ضمن المسلمين الذين ذهبوا مع رسول الله ليعتمروا عمرة القضاء مكان عمرتهم التي صدهم المشركون عنها. ب- في سرية ذات السلاسل: قال رافع بن عمرو الطائي: بعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، وبعث معه في ذلك الجيش أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- وسَرَاة أصحابه، فانطلقوا حتى نزلوا جبل طَيّ، فقال عمرو: انظروا إلى رجل دليل بالطريق، فقالوا: ما نعلمه إلا رافع بن عمرو، فإنه كان ربيلا في الجاهلية، قال رافع: فلما قضينا غزاتنا وانتهيت إلى المكان الذي كنا خرجنا منه، توسمت أبا بكر، وكانت له عباءة فدكية، فإذا ركب خَلَّها عليه بخلال، وإذا نزل بسطها، فأتيته فقلت: يا صاحب الخلال، إني توسمتك من بين أصحابك، فائتني بشيء إذا حفظته كنت مثلكم ولا تطول عليَّ فأنسى، فقال: تحفظ أصابعك الخمس؟ قلت: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وتقيم الصلوات الخمس، وتؤتي زكاة مالك إن كان لك مال، وتحج البيت، وتصوم رمضان: هل حفظت؟ قلت: نعم، قال: وأخرى، لا يؤمَّرنَّ على اثنين، قلت: وهل تكون الإمرة إلا فيكم أهل المدر؟ فقال: يوشك أن تفشو حتى تبلغك ومن هو دونك، إن الله -عز وجل- لما بعث نبيه دخل الناس في الإسلام، فمنهم من دخل لله فهداه الله، ومنهم من أكرهه السيف، فكلهم عُوَّاذ الله وجيران الله وخَفَارةُ الله، إن الرجل إذا كان أميرًا فتظالم الناس بينهم فلم يأخذ لبعضهم من بعض انتقم الله منه، إن الرجل منكم لتؤخذ شاة جاره فيظل ناتئ عضلته غضباً لجاره، والله من وراء جاره. ففي هذه النصيحة دروس وعبر لأبناء المسلمين يقدمها الصحابي الجليل أبو بكر الصديق الذي تربى على الإسلام وعلى يد رسول الله ، من أهمها: 1- أهمية العبادات: الصلاة لأنها عماد الدين، والزكاة والصوم والحج. 2- عدم طلب الإمارة «ولا تكونن أميرًا» تماماً كما أوصى رسول الله أبا ذر الغفاري: «وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها». ولذلك فإن أبا بكر الفاهم الواعي لكلام حبيبه محمد جاء في رواية: وأنه من يك أميرًا فإنه أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لا يكن أميرًا فإنه من أيسر الناس حسابًا، وأهونهم عذاباً، فهذا فهم الصديق لمقام الإمارة. 3-إن الله حرم الظلم على نفسه، ونهى عباده أن يتظالموا -أن يظلم بعضهم بعضاً- لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، كما نهى عن ظلم المؤمنين: «من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب». وهم جيران الله، وهم عواذ الله، والله أحق أن يغضب لجيرانه. 4- على عهد الصدر الأول كان أمراء الأمة خيارها، وجاء وقت فُشُوّ أمرها «الإمارة» وكثرت حتى نالها من ليس لها بأهل. إن هذه الإمارة ليسيرة، وقد أوشكت أن تفشو حتى ينالها من ليس لها بأهل. 5-وفي غزوة ذات السلاسل ظهر موقف متميز للصديق في احترام الأمراء، مما يثبت أن أبا بكر كان صاحب نفس تنطوي على قوة هائلة، وقدرة متميزة في بناء الرجال، وتقديرهم واحترامهم، فعن عبد الله بن بريدة قال: بعث رسول الله عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا نارا، فغضب عمر وهمَّ أن يأتيه، فنهاه أبو بكر، وأخبره أن الرسول لم يستعمله عليك إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه عمر .
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
|
أبو بكر الصديق (16) في فتح مكة وحنين والطائف علي بن محمد الصلابي أ- في فتح مكة 8 هـ: وسبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكر ابن إسحاق قال: حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعًا قالا: في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرًا، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير –وهو قريب من مكة- وقالت قريش ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله، فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله قائلاً: اللهــــم إنـي نـاشـد مـحـمـدا **** حلف أبينــا وأبيـك الأتلدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا **** وادع عباد الله يأتوا مددا فقال النبي: «نصرت يا عمرو بن سالم» . وتجهز النبي مع صحابته للخروج إلى مكة، وكتم الخبر، ودعا الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة، وخافت قريش أن يعلم النبي بما حدث، فخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله فقال: يا محمد، أشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال النبي: «ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم»؟» فقال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا يوم الدية لا نغير ولا نبدل، فخرج من عند النبي يقصد مقابلة الصحابة عليهم الرضوان. 1- أبو بكر وأبو سفيان: طلب أبو سفيان من أبي بكر أن يجدد العقد ويزيدهم في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته السياسية ثم يظهر الإيمان القوي بالحق الذي هو عليه، ويعلن أمام أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل ما يمكن، ولو وجد الذر تقاتل قريشًا لأعانها عليها. 2- بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: دخل الصديق على عائشة وهي تغربل حنطة، وقد أمرها النبي بأن تخفي ذلك.. فقال لها أبو بكر: يا بنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال: لعله يريد بني الأصفر (أي الروم) فصمتت، فقال: لعله يريد قريشا، فصمتت، فدخل رسول الله فقال الصديق له: يا رسول الله، أتريد أن تخرج مخرجاً؟ قال: «نعم» قال: لعلك تريد بني الأصفر؟ قال: «لا» قال: أتريد أهل نجد؟ قال: «لا»، قال: فلعلك تريد قريشاً؟ قال: «نعم»، قال أبو بكر: يا رسول الله، أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: «ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟». وهنا سلم أبو بكر للنبي وجهز نفسه ليكون مع القائد في هذه المهمة الكبرى، وذهب مع رسول الله المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد. 3- الصديق في دخول مكة: لما دخل النبي مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى النساء يلطمن وجوه الخيل، فابتسم إلى أبي بكر وقال: «يا أبا بكر كيف قال حسان» فأنشد أبو بكر: عَدِمْنَا خيلنا إن لم تروهـا **** تثير النقع موعـدها كَدَاءُ يـبارينَ الأسنـة مصغيات **** عن أكتافها الأسلُ الظماء تظلُّ جيادنا متــمـطِّـراتٍ **** تـلطمهُنَّ بالْـخُـمــرِ النساءُ فقال النبي : «ادخلوها من حيث قال حسان»، وقد تمت النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلام أبيه أبي قحافة. ب- في حنين: أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً؛ إذ لحقتهم هزيمة في أول المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة، وكانوا كما قال الإمام الطبري: فانشمروا لا يلوي أحد على أحد. وجعل رسول الله يقول: «أين أيها الناس؟ هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله» ثم نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت، فقال له: «ياعباس ناد: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» ». كان هذا هو حال المسلمين في أول المعركة، النبي وحده لم يثبت معه أحد إلا قلة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إلا فئة من الصحابة يتقدمهم الصديق، ثم نصرهم الله بعد ذلك نصرًا عزيزًا مؤزرًا. وكانت هناك بعض المواقف للصديق منها: 1- فتوى الصديق بين رسول الله : قال أبو قتادة: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني وأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضمًّا شديدًا حتى تخوفت، ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: «من أقام بيِّنة على قتيل قتله فله سلبه» فقمت لألتمس بينة على قتيلي فلم أرَ أحدًا يشهد لي، فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله، فقال رسول الله رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلا، لا يعطهأصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله ، قال: فقام رسول الله فأداه إليَّ، فاشتريت منه خرفا فكان أول مال تأثَّلتهفي الإسلام. إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضور رسول الله، ثم يصدقه الرسول فيما قال، ويحكم بقوله خصوصية شرف، لم تكن لأحد غيره. ونلحظ في الخبر السابق أن أبا قتادة الأنصاري حرص على سلامة أخيه المسلم وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه، ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه، وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية، وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له. ج- في الطائف: في حصار الطائف وقعت جراحات في أصحاب النبي وشهادة، ورفع رسول الله عن أهل الطائف الحصار ورجع إلى المدينة، وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، رمي بسهم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبي. وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم، فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول ، وفاز الصديق بتلك البشارة، وبعد أن أعلنوا إسلامهم وكتب لهم رسول الله كتابهم وأراد أن يؤمر عليهم أشار أبو بكر بعثمان بن أبي العاص وكان أحدثهم سناً، فقال الصديق: يا رسول الله، إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. فقد كان عثمان بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة، عمد إلى رسول الله فسأله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله نائماً عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله وعجب منه وأحبه. وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب ابنه كانت له مقولة تدل على عظمة إيمانه، فعن القاسم بن محمد قال: رمي عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- بسهم يوم الطائف، فانتفضت به بعد وفاة رسول الله بأربعين ليلة، فمات، فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرجه إليهم فقال: هل يعرف هذا السهم منكم أحد؟ فقال سعيد ابن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهم أنا بَرَيتُه ورشته وعقبته، وأنا رميت به، فقال أبو بكر فإن هذا السهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكر، فالحمد لله الذي أكرمه بيدك، ولم يهنك بيده فإنه أوسع لكما .
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |