شرح كتاب الحج من صحيح مسلم - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13219 - عددالزوار : 350724 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 257 - عددالزوار : 47586 )           »          قيمة إسلامية حثَّ عليها القرآن الكريم والسُنَّة النبوية – الجودة الشاملة في مؤسساتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 150 )           »          التداوي من السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 169 )           »          حكم المرابحة للآمر بالشراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 156 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 398 )           »          حكم الغرر في عقود التبرعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 164 )           »          الفرق بين الرجل والمرأة في التلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 121 )           »          أخطاء في التحليل والتحريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 185 )           »          حكم الصلح على الدين ببعضه حالا (ضع وتعجل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 203 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 13-06-2024, 02:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطِّيبُ للمُحْرم قبلَ أنْ يُحْرِم




  • كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا
  • الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ المِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ. في هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُطيِّبُ بيَدَيْها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِإحْرامِه قبْلَ أنْ يُحرِمَ للحجِّ أو العُمرةِ، ولحِلِّه بعْدَ أنْ يَتحلَّلَ التَّحلُّلَ الأوَّلَ في الحجِّ، وهو بَعدَ رَميِ جَمرةِ العَقَبةِ والحَلْقِ، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، والتَّحلُّلُ الأولُ يَحِلُّ بَعده كُلُّ شَيءٍ إلَّا الاستِمتاعَ بالنِّساءِ، وذلك كما في رِوايةٍ لِلنَّسائيِّ: «ولِحِلِّه بَعدَما رَمى جَمرةَ العَقَبةِ، قَبلَ أنْ يَطوفَ بالبَيتِ».
وقال رَاوي الحديثِ- واصفًا فِعْلَ عائِشةَ -رضي الله عنها-: «وبَسَطَتْ يَدَيْها» كأنَّها تُحاكي ما فَعَلَتْ مِن قبْلُ بالفِعلِ معَ القولِ، وقيل: فعلَتْ ذلِك مُبالَغةً في الوُقوعِ، ردًّا على مَن أنْكَرَ ذلك، فإنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُنكِرُ التَّطيُّبَ قبْلَ الإحرامِ، والصحيح: أنّ هذا لا إشْكالَ فيه، أنْ يتطيب في رأسه وبدنه، لا في ثوبه الذي يُحْرم فيه، والممنوع هو: أنْ يَمَسَّ الطِّيبَ حالَ الإحْرامِ.
حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ
وللحافظ أبي عُمر بن عبدالبر في (التمهيد) بحثٌ مطوّل في هذا، فقال: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، لا يختلف أهلُ العلم بالحديثِ في صِحّته وثُبوته، ولكن الفُقهاء اخْتلفوا في القَولِ به على حسَب ما ذكرناه في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا، وذكرنا اعتلال كل طائفةٍ لمذهبها في ذلك، مِنْ جِهة الأثر والنظر هناك، وسنذكر هاهنا فيه منْ جهة الأثر، ما لمْ يقع هناك إنْ شاء الله. وهذا الحديث رُوي عن عائشة من وجوه، فممن رواه عنها: القاسم، وسالم، وعروة، والأسود، ومسروق، وعمرة، وممن رواه عن القاسم ابنه عبدالرحمن، وأفلح بن حميد، ورواه عن عروة ابن شهاب وعثمان بن عروة وهشام بن عروة، ولم يسمعه هشام من أبيه، إنّما سمعه من أخْيه عثمان، عن أبيه، ثم روى بإسناده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: كنتُ أطيّبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما أجِدُ لحَرمه ولحِلّه، وحين يُريدُ أنْ يَزُورَ البيتَ. وعنه أيضاً: قالت عائشة: طيّبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ يُحْرِم، ويوم النّحر قبل أنْ يَطُوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْك. وروى: عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يَتطَيّب قبلَ أنْ يُحْرم، فتَرَى أثرَ الطّيب في مفْرقه بعد ثلاث.
المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام
قال أبو عمر: فذهبَ قومٌ إلى القول بهذه الآثار، وقالوا: لا بأسَ أنْ يَتطيّب المُحْرِم قبل إحْرامه بما شاءَ من الطيب ومِسْكا كان أو غيره ممّا يبقى عليه بعد إحْرامه، ولا يضرّه بقاؤه عليه بعد إحْرامه، إذا تطيّب قبل إحْرامه؛ لأنّ بقاءَ الطّيب عليه، ليسَ بابتداءٍ منه، وليسَ بمتطيّبٍ بعد الإحْرام، وإنّما المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام. قالوا: ولا بأس أنْ يَتطيّبَ أيضاً إذا رَمَى جَمرة العَقَبة، قبلَ أنْ يَطُوفَ بالبيت، وحُجّتهم فيما ذهبوا إليه من ذلك كله، حديث عائشة هذا، وهو حديثٌ ثابت، وقد عَمِلت به عائشة -رضي الله عنها-، وجماعة منَ الصحابة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن جعفر، وأبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وزُفَر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وكل هؤلاء يقول: لا بأسَ أنْ يَتطيّبَ قبلَ أنْ يُحْرم، وبعد رمي جمرة العقبة. ثمّ روى بسنده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: رأيتُ عائشةَ تَنْكتُ في مفارقها الطِّيبَ قبلَ أنْ تُحْرم، ثم تُحْرم. وعن الشعبي قال: كان سعد يتطيّب عند الإحْرام بالذّريرة، وعن ابن عباس، وابن الزبير: أنّهما كانا لا يَريان بالطِّيب عند الإحْرام بأسَا، وعن ابن الحنفية: أنّه كان يُغلّف رأسه بالغالية الجيّدة، إذا أراد أنْ يُحرم. ثمّ قال ابنُ عبدالبر: وقال آخرون، منهم مالك وأصحابه: لا يجوز أنْ يَتطيّب المُحْرم قبل إحْرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحْرم حَرُم عليه الطيب حتّى يطوف بالبيت، وهذا مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وبه قال عطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وهو اختيار الطحاوي.
حُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب
قال: وحُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب من جهة الأثر: حديث يعلى بن أمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه أمَرَ الرجل الذي أحْرَم بعُمْرةٍ وعليه طِيب خَلُوق أو غيره، وعليه جُبّة، أنْ يَنْزعَ عنه الجُبّة، ويغسلَ الطّيب، وادّعوا الخُصُوص في حديث عائشة؛ لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان أمْلَك الناس لأربه، ولأنّ ما يُخاف على غيره مِنْ تَذكّر الجِمَاع المَمنوع منه في الإحرام، مأمونٌ منه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان على عُمومه للناس عامة، ما خَفِي على عمر، وعثمان، وابن عمر، مع علمهم بالمَناسك وغيرها، وجلالتهم في الصّحابة، وموضع عطاء من عِلْم المناسك موضعه، وموضع الزهري من علم الأثر موضعه. قال ابن جريج: كان عطاء يَأخذ في الطّيب للمُحرم بهذا الحديث، قال ابن جريج: وكان عطاء يكره الطيب عند الإحْرام، ويقول: إنْ كان به شيءٌ منه فليغسله ولينقه، وكان يأخذ بشأن صاحب الجبة، قال ابن جريج: وكان شأن صاحبِ الجُبّة قبلَ حَجّة الوداع، والآخرُ فالآخر مِنْ أمْرِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أنْ يُتّبع.
مذهب ابن جريج
قال أبو عمر: مذهب ابن جريج في هذا الباب خلاف مذهب عطاء، وحُجّته أنّ الآخر ينسخ الأول، حُجةٌ صحيحة، ولا خلافَ بين جماعة أهلِ العلمِ بالسّير والأثر، أنّ قصة صاحب الجُبّة كانت عام حُنين بالجِعْرانة سنة ثمان، وحديث عائشة عام حَجّة الوداع، وذلك سنة عشر، فإذا لمْ يَصح الخُصُوص في حديث عائشة، فالأمر فيه واضح جدا. وروى بسنده: عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابن عمر عن الطّيب عند الإحْرام؟ فقال: لأنْ أطّلى بالقَطِران أحبّ إليّ مِن ذلك، فذكرت ذلك لعائشة فقالت: يَرْحمُ الله أبا عبدالرحمن، قد كنتُ أطيّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيَطُوف على نسائه، ثمّ يُصْبح يَنْضخ طِيبًا. قال أبو عمر: قد أجْمعوا على أنّه لا يجوزُ للمُحرم بعد أنْ يُحْرم، أنْ يَمسّ شيئاً مِنَ الطّيب، حتّى يَرْمي جمرة العَقَبة، واختلفوا في ذلك إذا رمى الجمرة قبل أنْ يطوف بالبيت على ما ذكرنا، وأجْمعوا أنه إذا طافَ بالبيت طواف الإفاضة يوم النّحر، بعد رمي جَمرة العقبة، أنه قد حَلّ له الطّيبُ، والنّساء، والصّيد، وكل شيء، وتمَّ حِلّه، وقضى حجه.
إذا طافَ طوافَ الإفاضة فقد تمّ حَجّه
قال أبو عمر: فإذا طافَ طوافَ الإفاضة، فقد تمّ حَجّه، وحلّ له كلَّ شيء بإجْماع، وإنّما رخّص الشافعي، ومن تابعه في الطّيب، لمَن رَمَى جَمْرة العقبة، لحديث عائشة: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أنْ يُحرم، ولحِلّه قبل أنْ يطوفَ بالبيت. تُريد بعد رَمْي جمرة العقبة، ورخص في الصيد منْ أجل قول عمر: إلا النّساء، والطّيب، ولم يقل: «والصيد». وقد قال الله -عز وجل-: {وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}. ومَنْ رَمَى جَمْرة العقبة فقد حلّ له الحلاق والتفث كلُّه بإجماع، فقد دخل تحت اسم الإحْلال، وفي هذه المسألة ضروب من الاعتلال تركتها، والله المستعان. (التمهيد).
فوائد الحديث
  • أنَّ الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ، حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ.
  • وقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الطِّيبَ، ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ، وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا.
  • بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- لأمته أحكامَ الحَجِّ والعُمرةِ، وسُننَهما، وآدابَهما بالقَولِ والفِعلِ، ونقَلَ الصَّحابةُ ما سَمِعوه وما رَأوْه مِنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
  • وفيه: خِدمةُ المرأةِ لزَوْجِها وتَطييبُها له.
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 22-06-2024, 11:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: المِسْكُ أطْيبُ الطِّيب



  • فِتنةُ النِّساءُ أعظَمُ الفِتنِ وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ
  • بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَشَتْ خَاتَمَهَا مِسْكًا، وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ. الحديث رواه مسلم (4/1765-1766) في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها. باب: استعمال المسك وأنّه أطيب الطيب، وكراهة ردّ الريحان والطيب، الحديث ذكره المنذري هنا مختصرًا، ونصه في مسلم: «كانَتِ امْرَأَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مع امْرَأَتَينِ طَوِيلَتَيْنِ، فاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِن خَشَبٍ، وخاتَمًا مِن ذَهَبٍ مُغْلَقٌ مُطْبَقٌ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا، وهو أطْيَبُ الطِّيبِ، فَمَرَّتْ بيْنَ المَرْأَتَيْنِ، فَلَمْ يَعْرِفُوها، فقالَتْ بيَدِها هَكَذا. ونَفَضَ شُعْبَةُ يَدَهُ.
يَحكي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: أنَّ امْرأةً قَصيرةً مِن بني إسرائيلَ كانت تَمشي معَ امرأتَينِ طوِيلتَينِ، والمرادُ: أنَّها إذا مَشتْ معَ صاحبِتَيْها الطَّويلتينِ بانَ قِصرُها، فلَبِستْ في قدَمَيها رِجلَينِ مُزوَّرتينِ من خَشبٍ، أو اتَّخذتْ كعبَينِ طَويلينِ عاليَينِ لنَعلَيْها، فكأنَّهما لطُولِهما رِجْلانِ، وذلِك حتَّى تكونَ طويلةً مِثلَهما، فلا يَتفاضلانِ ولا يَتميَّزانِ ولا يَتباهيانِ عَلَيها. واتَّخَذت خاتمًا مِن ذَهبٍ، وجَعَلَت هذا الخاتمَ مُغلَقًا مُطْبَقًا، أي: جعَلَتْ له غَلَقًا، والمُطْبَقُ هو الَّذي دَاخلُه فارغٌ، ثمَّ وَضَعَتْ داخلَ الخاتمِ مِسْكًا وأحكَمتْهُ وأغلَقتْ عليهِ، والمسكُ أفضلُ الطِّيبِ وأطيبُه وأحسَنُه، وأصْل المِسكِ دمٌ يَجتمِعُ في سُرَّةِ الغَزالِ إلى وَقتٍ مَعلومٍ مِن السَّنةِ، وعندَ حُصولِه تَمرَض الظِّباءُ، فيَتساقطُ منها فيُؤخَذ ويُصنع من الطِيب. فمَرَّت تلكَ المرأةُ بيْن المرأتينِ الطَّويلتينِ وهي لابسةٌ للرِّجْلِ الخشبِ والخاتمِ، فلم يَعرِفاها، لأنَّها غيَّرتْ هيئتَها وطال جِسمُها بالرِّجلَينِ المزوَّرتَينِ، «فقالتْ بِيدِها هَكذا» أي: وعندَ مُرورِها عليهنَّ أشارتْ بيَدِها الَّتي فيها الخاتمُ المحشُوُّ مِسكًا وحرَّكتْها بعْدَ أنْ فَتَحَتْه، ففاحَ ريحُ المسكِ، وكأنَّها تَتفاضَلُ عليهِما. قال الرَّاوي -وهو أبو أُسامةَ حمَّادُ بنُ أُسامةَ-: «ونَفَضَ شُعبةُ يدَه»، أي: حَاكى شُعبةُ حرَكةَ اليدِ كما فعَلَت المرأةُ، وفي روايةٍ لأحمدَ: «فكانتْ إذا مرَّتْ بالمجلسِ حَرَّكتْه، فنَفَخَ رِيحُه»، أي: إذا مرّت بمجالِسِ النَّاسِ والرِّجالِ، تَعمَّدتْ تَحريكَ الخاتمِ ليَفوحَ رِيحُه، فيَشَمَّه الناسُ، فتَنجذِبَ الأنظارُ إليها، كأنَّها تَتفاخَرُ على قَرِينتَيها اللَّتين معها.
التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ
ورواه أحمدُ في مُسنَدِه، وفي أوَّلِه التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ خاصَّةً، قال النَّبيُّ -[-: «إنَّ الدُّنيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فاتَّقوها واتَّقوا النِّساءَ» أي: فاحْذُروا الدُّنيا وخافوا الوقوعَ في فِتنتِها، ومِن أشدِّ فِتنِها النِّساءُ، ثمَّ ذَكَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قِصَّةَ النِّسوةِ الثَّلاثِ، وكيف تَفنَّنتْ إحداهنَّ في إظهارِ مَفاتنِها وإغواءِ النَّاسِ.
من فوائد الحديث
  • فيه: بَيانُ فَضلِ المِسكِ على سائرِ الطِّيبِ.
  • وأنّ فِتنة النِّساء أعظَمُ الفِتنِ، وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ، وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ، لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ.
  • الحَثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بظَواهرِ الدُّنيا وزِينَتِها.
باب: الْأَلُوَّة والكَافُور
عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ، اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطَرَّاةٍ، وبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ -[-. الحديث رواه مسلم في الباب السابق. يَرْوي التَّابعيُّ نافعٌ مَولى ابنِ عُمرَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كان إذا اسْتَجْمَرَ، أي: إذا أرادَ أنْ يُطيِّبَ المكانَ، أو نفْسَه، أو الضِّيفانَ، استَعْمَل المِجمَرَ، وهو أنْ يُوضَعَ شَيءٌ مِن الطِّيبِ والبخور على تلكَ الأحْجارِ المُجمرة المُشْتعلة، فإذا احتَرَق نَفَذَ مع دُخَانِه رَوائحُ طَيِّبةٌ، فالاسْتِجمار هنا: استعمالُ الطّيب والتبخّر به، مأخوذٌ من المجمر، وهو البُخور، وأمّا «الألُوّة» فقال الأصمعي وأبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب: هي العود يتبخّر به. قال الأصمعي: أراها فارسية معربة، وهي بضم اللام وفتح الهمزة وضمها، لغتان مشهورتان. وقوله: «غيرَ مُطرّاة» أي غير مخلوطة بغيرها من الطّيب. لكنَّه كان في بعضِ الأوقاتِ يَستخدِمُ مع بَخورِ العُودِ كافُوراً، فإنَّه يَزِيدُه طِيبًا، والكافورُ نَبتٌ وشَجرٌ مَعروفٌ. وكان ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- يُخبِرُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَستجمِرُ ويَتبخَّرُ بمِثلِ فِعلِه هذا.
فوائد الحديث
  • أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ الرَّوائحَ الطَّيِّبةَ والعِطور والبُخُور، ويُقرِّبُها إليه، ويَحرِصُ على الأخذِ منها.
  • اسْتحبابُ الطّيب للرجال كما هو مُستحب للنساء، لكنْ يستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأمّا المرأة فيستحبّ لها ما ظهر لونه، وخَفي ريحه، لا سيما إذا أرادت الخروج إلى المَسجد أو غيره، كُرِه لها كلّ طيبٍ له ريحٌ يظهر.
  • ويتأكد اسْتحباب الطّيب للرّجال يوم الجُمعة، والعيد ونحوها، عند حُضور مجامع المسلمين، ومجالس الذّكر والعلم، وكذا عند إرادته معاشرة زوجته ونحو ذلك.
  • وفيه: فَضلُ الصحابي عبدِ الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -، واعتِنائِه بالسُّنَّةِ، ومُلازمتُه لاتِّباعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به.
باب: في الرّيْحان
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ، طَيِّبُ الرِّيحِ». الحديث رواه مسلم في الباب السابق. في هذا الحديثِ يُرشِدُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ «مَنْ عُرِض عليه» يعني مَنْ أُعْطِيَ رَيْحَانًا هَديَّةً، وهو كلُّ نَبْتٍ مَشمُومٍ طيِّبِ الرِّيحِ، فلا يَرُدَّ المُعْطيَ ولْيَأْخُذْه منه، والمرادُ به في هذا الحديثِ الطِّيبَ كلَّه، فعندَ أبي داودَ: «مَن عُرِض عليه طِيبٌ». وفي صَحيحِ البُخاريِّ: «كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيبَ». ويُعلِّلُ - صلى الله عليه وسلم - سَببَ النَّهيِ عن ردِّ الرَّيحانِ: بكَونِه «خَفِيفُ المَحْمِلِ» أي: خَفِيفَ الحَمْلِ، ورائحتُه جَميلة، فهو هَديَّةٌ نافعةٌ جميلة، ولا مُؤْنةَ فيها ولا مِنَّةَ، لِجرَيانِ عادةِ النَّاسِ بذلكَ، ولِسُهولتِه عليهم، ولقِلَّةِ ما يَتناوَلُ منه عندَ العَرْضِ، ولأنَّه ممَّا يَسْتطيبُه الإنسانُ مِن نَفسِه ويَسْتطيبُه مِن غَيرِه، فلا تُرَدُّ مِثلُ هذه الهديَّةُ، كيْ لا يَتأذَّى المُعطي بِرَدِّه، فرَدُّها لا وَجْهَ له إلَّا مِن عُذرٍ، والحديثُ فيه إشارةٌ إلى حِفظِ قُلوبِ النَّاسِ بقَبولِ هَداياهُم.
من فوائد الحديث
  • في الحديثِ: بَيانُ فضْلِ الرَّيْحانِ، والتَّرغيبُ للمسلم في اسْتعمالِ الطِّيبِ.
  • استحباب قبول هدية الرّيحان، فإنّه لا منّةَ بأَخْذِه، وقد جرت العادة بالتسامح في بذله.
  • بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ، وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ، وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها، ولا سيَّما إنْ كانتِ الهديَّةُ خَفيفةً سَهلةً لا تُكلِّفُ المانحَ ولا الآخِذَ كَثيرَ جَهدٍ وعَناءٍ، وهذا ما يَنطبِقُ على الطِّيبِ عمومًا.
  • استحباب عرض المسلم الطيب على إخوانه، ولا سيما عند حضور الجُمع والجماعات.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 02-07-2024, 10:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الإحْرام مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ ذي الْحُلَيْفَةِ



  • أخَذَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ كما أمَرَهم بذلك وبَلَّغوا مَن بَعدَهم فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً
عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه - يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِيها، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/843) باب: أمْرُ أهلِ المَدينة بالإحْرام منْ عند مسجد ذي الحُلَيفة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ وهو الإمام الزاهد، الحافظ، مُفْتي المدينة، أبو عمر وأبو عبدالله، القرشي العَدَوي، المَدني، وأمّه أم ولد. مولده في خلافة عثمان. حدث عن أبيه فجوّد وأكثر، وعن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة وغيرهم.
قال ابن عيينة: دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال: سَلْني حاجة. قال: إنّي أسْتحيي مِنَ الله أنْ أسأل في بيتِه غيره؟ فلما خَرجَا قال: الآن فَسْلنِي حاجة، فقال له سالم: منْ حَوائج الدنيا، أمْ مِنْ حَوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها، فكيفَ أسألها من لا يملكها. (السير) (4/458). توفي سنة ست ومائة.
قوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه»
قوله: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه -، وهو الصحابي عبدالله بن عُمر بن الخطاب، وقوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه» البيداء القَفْر الخَالي عن العِمْران والأثر، ويقال لها: مَفازة من باب التّفاؤل، وإلَّا فهي في الأصْل مَهْلكة، وكلّ مفازةٍ بيداء، وهي في الحديث: مفازة أمام ذي الحليفة بين مكة والمدينة، أولها شَرَف مرتفع قريب منْ مسجد ذي الحليفة، فيُخبِرُ سالمُ بنُ عبداللهِ بنِ عمرَ أنَّ أباه عبداللهِ - رضي الله عنه - كان إذا قِيلَ له: إنَّ رفعَ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ في الحَجِّ أو العُمرةِ يَبدأُ منَ البَيداءِ، يُنكِرُ ذلك.
قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ»
قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ» المَقصود هنا تُخْطئُون، والكذب: الإخْبار عن الشّيء على خلافِ ما هو عليه، فإنْ كان مع العَمْد فهو الكذبُ المَذموم، وإنْ كان منْ غير قصدٍ مع سَهْو وغلط، فهو الخطأ، وهو المَقصُود في حديث الباب، وهذا يُؤخَذ منه أنّ الإخْبار بخلافِ الواقع، يُسمَّى كذباً على كلّ حال، لكنه إذا وقع خَطأً مِنْ غير عَمْد، فلا يأثم، وإن كان من عمد، فهو الكذبُ الذي يأثمُ به صاحبه وهو المشهور اليوم». انظر: (المفهم) الحج، باب: بيان المَحلّ الذي أهلَّ منه رسُول الله». حديث (1056). قوله: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» يعني: مسجد ذي الحُليفة، لأنّ «ألْ» في قوله: «المسجد» ألْ العَهْدية، والمَعهُود هو مسجد ذي الحليفة، ومَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبْعةٌ (10 كم تقريبًا)، وهي مِيقاتُ أهْلِ المدينةِ، وكذا مَنْ مَرَّ بها مِنْ غيرِ أهْلِها، وفي الرواية الأخرى: «إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ»، والمراد: الشّجرة التي كانت عند المسجد، وقوله: «أَهَلَّ» منَ الإهْلال، وتقدَّم أنّ معناه رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية.
سَببُ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ
ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منْهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجّاً، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّتْ به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهمْ كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ اسْتَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مَضَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخِلافَ وقَعَ في ابتدَاءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ. ويُؤيد هذا: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قال: «وأيمُ اللهِ، لقدْ أوجَبَ في مُصلَّاه، وأهَلَّ حينَ اسْتقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيداءِ». وهذا واضح والحمدلله.
فوائد الحديث
1- بيان مَوضع إهْلال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه أهلَّ من المَسْجد. 2- ميقات ذي الحُليفة، إنّما هو مِنَ المَسْجد، لا مِنَ البَيداء التي بعده، قال النووي -رحمه الله-: «وفيه دلالةٌ على أنّ ميقاتَ أهلِ المدينة منْ عند مسجدِ ذي الحليفة، ولا يَجوزُ لهم تأخيرُ الإحْرام إلى البَيداء، وبهذا قال جميع العلماء». (شرح النووي). 3- فيه دلالة على أنّ الإخْبار بخِلافِ الواقع، يُسمَّى كذِباً وإنْ كان وَقَع سَهْواً، وهذا منْ حيثُ العُموم، وإلَّا فالكذبُ المَذموم في النُّصُوص هو الذي يقع عن عَمْد، فهو الذي يَحْرُم، ويأثم به صاحبُه. 4- أخَذَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، كما أمَرَهم بذلك، وبَلَّغوا مَن بَعدَهم، فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً.
الإسلا م هو الدِّينُ الحق
قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام} (آل عمران:19). وقال -تعالى-: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:84-85). وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102). وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64). وقال -تعالى-: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 125-126). وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78). وقال -تعالى-: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الزمر:22). وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33).
  • والإسلام ناسخٌ لجميع الشرائع من قبل، وهو محفوظ من التبديل والتغيير أو النقص؛ وذلك لكونه الخاتم، فتكفَّل الله بحفظه.
قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (المائدة:3). وقال -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85).
  • وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ -عز وجل- إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ».
  • وفي رواية: « يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، (رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه ).
  • وفي رواية: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يَهُوديٌّ ولا نصرانِيٌّ ثم يموت ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار».



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 21-07-2024, 03:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الْإِهْلَالُ حين تَنْبَعِث الرَاحِلَة



  • يوم التّروية: هو الثامن من ذي الحجة وسُمّي بذلك لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات ليَستعملوه في الشرب وغيره
  • كان عبداللهِ بنُ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه
عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، ورَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، ورَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؟ فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، ويَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وأَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ، حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/844) باب: الإهلال من حيثُ تنبعث الراحلة، ورواه البخاري.
وعُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ هو التّيمي مولاهم، المَدَني، مكيٌّ، منْ ثِقات التابعين، وسألَ هذا التابعيُّ: عبداللهِ بنَ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- عَن أربعةٍ أُمورٍ، يقول: لم يَرَ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلونَها، فقال لابن عمر: رأيتُك تصنع أرْبعاً، لمْ أرَ أحداً منْ أصحابك يصنعها، إلى آخره. قال المازري: يحتمل أنّ مُراده لا يَصْنعُها غيرُك مُجْتمعة، وإنْ كان يصنع بعضها. قوله: «رأيتُك لا تمسّ مِنَ الأركان إلا اليَمانيين» قال له ابن عمر -في جوابه-: إنّه لمْ «يرَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إلا اليمانيين» وهما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفَصيحة المشهورة، قالوا: لأنّ نِسْبتها إلى اليَمن، فحقّه أنْ يقال: اليَمني، وهو جائز، فلما قالوا «اليماني» أبْدلوا من إحدى ياءي النّسب ألفاً، فلو قالوا: اليماني بالتّشديد، لزم منه الجَمع بين البدل والمُبدل. والمُراد بالرُّكنين اليَمانيين: الرُّكن اليماني، والرُّكن الذي فيه الحَجَر الأسْود، ويقال له: العراقي، لكونه إلى جِهة العراق، وقيل للذي قبله: اليماني، لأنّه إلى جِهة اليمن، ويُقال لهما: اليَمانيان تغليباً لأحَد الاسْمين، كما قالوا: الأبَوَان للأبِ والأم، والقَمَران للشّمس والقمر، والعُمَران لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونظائره مَشْهورة، فتارةً يُغلّبون بالفضيلة كالأبوين، وتارة بالخفّة كالعُمَرين، وتارةً بغير ذلك، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات. (النووي بتصرف).
الركنان الشاميان لا يُسْتلمان
قال العلماء: ويقال للرُّكنين الآخرين اللذين يليان الحِجر: الشّاميان، لكونهما بجِهة الشّام، قالوا: فاليمانيان باقيان على قواعد إبْراهيم - عليه السلام -، بخِلاف الشّاميين، فلهذا لمْ يُسْتلما، واسْتلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم - عليه السلام -، ثمّ إنّ العراقي مِنَ اليمانيين اختصّ بفضيلة أخرى، وهي الحَجَر الأسْود، فاختصّ لذلك مع الاسْتلام بتقبيله، ووضع الجبهة عليه، بخلاف اليماني. والله أعلم. (النووي). قال القاضي: وقد اتفق أئمّة الأمْصَار والفقهاء اليوم: على أن الركنين الشاميين لا يُسْتلمان، وإنّما كان الخِلافُ في ذلك العصر الأول من بعضِ الصحابة، وبعض التابعين، ثمّ ذهب.
قوله: «ورأيتُك تلبسُ النِّعال السّبتية»
قال ابنُ عمر في جوابه: «وأمّا النّعال السّبتية، فإنّي رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبس النّعال التي ليس فيها شَعر، ويتوضّأ فيها، وأنا أحبّ أنْ ألبسها»، و»السبتية» بكسر السين وإسكان الباء الموحدة، وقد فسّرها ابن عمر بقوله: «التي ليس فيها شعر»، وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب وأهل الحديث: إنّها التي لا شَعر فيها، قالوا: وهي مشتقة من «السَّبت» بفتح السين وهو الحَلْق والإزالة، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسه، أي: حَلَقه، قال الهروي: وقيل: سُمّيت بذلك، لأنّها انْسَبَتت بالدّباغ، أي: لانت، يقال: رطبةٌ مُنْسَبتة، أي: لينة. وقال أبو عمرو الشيباني: السّبت: كلُّ جِلْدٍ مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت: جلود البقر مدبوغة كانت، أو غير مدبوغة، وقيل: هو نوعٌ من الدباغ يقلع الشّعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سوداً لا شَعْر فيها، قال القاضي: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهلُ الرفاهية. وقوله: «ويتوضّأ فيها» معناه: يتوضّأ ويَلْبسها ورجلاه رَطْبتان.
قوله: «ورأيتُك تَصبغ بالصُّفرة»
وقال ابن عمر في جوابه: «وأمّا الصُّفرة، فإنّي رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ بها، فأنا أحبُّ أنْ أصبُغ بها» فقوله: «يصبغ وأصبغ» بضم الباء وفتحها، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهري وغيره. قال المازري: قيل: المراد في هذا الحديث: صبغ الشّعر، وقيل: صبغ الثوب، قال: والأشْبه أنْ يكونَ صَبغ الثياب، لأنّه أخْبر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم - صَبغ، ولمْ يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صبغ شعره. وقال القاضي عياض: هذا أظْهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر، بيّن فيها تَصْفير ابن عُمر لِحْيته، واحتجّ بأنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم - كان يصفّر لحيته بالوَرْس والزعفران. رواه أبو داود، وذكر أيضا في حديث آخر: احْتجاجه بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم لا- كان يصبغ بها ثيابه، حتى عمامته. فعن زيد بن أسلم عنِ ابنِ عمرَ: أنّه كان يصفِّرُ لحيتَه بالصُّفرةِ، حتى تمتلئَ ثيابُه من الصُّفرةِ، فقيل لهُ: لمَ تصبغْ بالصُّفرةِ؟ قال: إنّي رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ولمْ يكنْ شَيءٌ أحبَّ إليهِ منْها، وقد كان يصبغ بها ثيابَه كلَّها، حتى عمامَتَهُ. أخرجه أبو داود (4064)، والنسائي (5085) باختلافٍ يسير، وأحمد (5717) بنحوه فيُخبِرُ زيدُ بنُ أسلَمَ: أنَّ ابنَ عُمرَ كان يَصبُغُ لِحْيتَه» أي: يُغيِّرُ مِن لَونِها بالصُّفْرَةِ، أي: يَجعَلُ لونَ شَعرِ لِحيَتِه أصفَرَ، وذلك بنَباتِ الوَرْسِ. والوَرْسُ: نَباتٌ كالسِّمْسِمِ أصفَرُ، «حتَّى تَمتلِئَ ثِيابُه مِن الصُّفرةِ»، أي: مِن كَثرَةِ صَبغِه لِلحيَتِه، «فقيلَ لابنِ عُمرَ: لِم تَصبُغُ بالصُّفرَةِ؟ فقال» ابنُ عُمرَ: «إنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - يَصبُغُ بها»، أي: امتِثالًا مِنه لفِعْلٍ قد رآه مِن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فهو يَتَّبِعُه فيه، «ولم يَكُنْ شيءٌ أحَبَّ إليه»، أي: إلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - «مِنْها»، أي: مِن الصَّبْغِ بالصُّفْرَةِ، «وقد كان يَصبُغُ بها ثِيابَه كلَّها حتَّى عِمامَتَه»، أي: حتَّى إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِحُبِّه للصُّفرَةِ وإعجابِه بها كان يَستَعمِلُها لِجَميعِ ثيابِه بما في ذلك عِمامَتُه -صلى الله عليه وسلم . قوله: «ورأيتك إذا كنتَ بمكّة، أهلّ الناسُ إذا رَأوا الهِلال، ولمْ تُهل أنتَ، حتّى يكون يوم التروية». قال ابن عُمر في جوابه: «وأما الإهْلال، فإنّي لمْ أرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تَنْبعث به راحلته».
يوم التروية
ويوم التّروية: فبالتاء المثناة فوق، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمّي بذلك؛ لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات، ليَستعملوه في الشرب وغيره، فالحاج يُحْرِمَ يومَ التَّرويةِ ويُهِلَّ بالحَجِّ، ويفعَلَ كما فعل عند الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، مِنَ الاغتسالِ والتَّطَيُّب، ولُبْسِ الإزار وغير ذلك، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة، وابنِ حَزْمٍ مِنَ الظاهريَّة، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ.
الأدِلَّة على ذلك مِنَ السُّنَّةِ
  • عن جابِرِ بنِ عبداللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، قال: «فلمَّا كان يومُ التَّرويةِ، تَوَجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ». رواه مسل(1218)، وعنه -رضي الله عنه - قال: «أهلَلْنا مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فلمَّا قَدِمْنا مكَّةَ أَمَرَنا أن نَحِلَّ ونَجْعَلَها عُمْرةً، فكَبُرَ ذلك علينا وضاقَتْ به صُدُورُنا، فبَلَغَ ذلك النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فما ندْري أشيءٌ بلَغَه مِنَ السَّماءِ، أمْ شيءٌ مِن قِبَلِ النَّاس؟ فقال: أيُّها النَّاس أحِلُّوا، فلَولا الهَدْيُ الذي معي فعَلْتُ كما فعَلْتُم، قال: فأحْلَلْنا حتى وَطِئْنا النِّساءَ، وفَعَلْنَا ما يفعَلُ الحَلالُ، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ، وجَعَلْنا مكَّةَ بظَهْرٍ، أهْلَلْنا بالحَجِّ». رواه مسلم (1216).
  • وقال المازري: أجابه ابنُ عُمر بضربٍ مِنَ القياس، حيثُ لمْ يتمكّن مِنَ الاستدلال بنفسِ فعل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على المَسألة بعينها، فاستدلّ بما في معناه، ووجه قياسه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما أحْرَم عند الشُّروع في أفْعال الحَج، والذهاب إليه، فأخّرَ ابنُ عمر الإحْرَام إلى حال شُروعه في الحَج، وتوجّهه إليه، وهو يومُ التّروية، فإنّهم حينئذ يَخرجون مِنْ مكة إلى مِنى، ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب مالك وغيرهم، فكان ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- متَّبِعًا لا مُبتدِعاً، -رضِي اللهُ عَن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - أجمعينَ.
  • وقوله في هذا الباب: «فإنّي لمْ أرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته»، وقال في الحديث السابق: «ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي الحديث الذي قبله «كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي رواية: «حين قام به بعيره»، وفي رواية: «يُهلّ حتى تستوي به راحلته قائمة».
الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته
هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور: أنّ الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته، وقال أبو حنيفة: يُحرم عقبَ الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قولٌ ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.
وفيه: أن التلبية لا تقدم على الإحرام.
فأجابَه ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- هنا بِضرْبٍ مِنَ القِياسِ، حيثُ لم يَتمكَّنْ مِنَ الاستِدلالِ بِنفْسِ فِعلِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المسألةِ بعَينِها، فاستدلَّ بما في معناهُ، ووجْهُ قِياسِه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أحرَمَ عندَ الشُّروعِ في أفعالِ الحجِّ والذَّهابِ.
فوائد الحديث
  • فيه أنّ عبداللهِ بن عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ، في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه، ورُبَّما صنَعَ أموراً لم يَصْنَعْها غَيرُه، لشِدَّةِ تَحرِّيه لاتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
  • بَيانُ مَشروعيَّةِ الوُضوءِ في النَّعلينِ.
  • وفيه: بَيانُ أنَّ الخيرَ في اتِّباعِ السُّنةِ مع الاجْتهادِ والقياسِ عليها لِمَن كان أهْلاً لذلك.
  • وفيه: سُؤالُ المُتعلِّمِ للعالمِ عمَّا رآهُ منه ولم يَعرِفْ أصْلَه أو لم يَفهَمْه، وتوضيحُ العالِم ذلِك للسائِلِ.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 21-07-2024, 03:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الإهْلال بالحَجّ مِنْ مَكّة



  • الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ عزّوجلَّ بها عبادَهُ يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا بحسب استطاعته
  • المُعتمِر إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها- بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالكَعْبَةِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ. قَال فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَال: «مَا شَأْنُكِ؟» قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، والنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الْآنَ. فَقَال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ»، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ والصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَال: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ. قَال: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عبدالرَّحْمَنِ، فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ». وذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/881) باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحلّ القارن من نُسكه.
في هذا الحَديثِ يَقول جَابِرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ»، قوله: «أقبلنا» أي: أغلبنا أقْبَلوا مُهِلِّينَ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، والإهْلالُ: هو رَفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، والمرادُ به هنا: عَقدُ نيَّةِ الإحْرامِ، والإفْرادُ: هو أنْ يُحرِمَ الحاجُّ بالحَجِّ فقطْ، وكانتْ أمُّ المؤمِنينَ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ممَّن أحرَمَ بِعُمْرةٍ.
«حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ»
أي: حتَّى إذا كانوا بِسَرِفَ، وهو اسمُ مكانٍ على بُعد عَشَرةِ أمْيَالٍ (16 كم تقريبًا) من مَكَّةَ، «عَرَكَتْ» أي: حاضَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها-، ثمّ إنهم لمَّا قَدِموا إلى مكَّةَ؛ طافوا بالكَعْبةِ، وسَعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ، وتلك أعْمالُ العُمرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه -رَضيَ اللهُ عنهمُ- الَّذين لمْ يَسوقوا الهَديَ أنْ يَحِلَّوا من إحْرامِهم، والهدي: اسمٌ لكلِّ ما يُهْدَى إلى الكَعبةِ، منَ الأنْعامِ: من الإبِلِ والبَقرِ والغَنمِ، قُربةً إلى اللهِ -تعالى-.
فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟
قَال: «فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟» أي: فسأَلوا: أيُّ نَوْعٍ منَ الحِلِّ الَّذي نَتحلَّلُ به؟ كأنَّهم كانوا مُتردِّدينَ في هذا الحِلِّ؛ لأنَّهم جاؤوا للحجِّ، والحاجُّ من شأنِه لا يحِلُّ حتَّى يَقضيَ جميعَ مَناسِكِه، فأجابَهُم - صلى الله عليه وسلم - فقال: «الحِلُّ كُلُّهُ» أي: إنَّ كُلَّ الأشياءِ الَّتي مُنِعَتْ بِسببِ الإحْرامِ؛ تَحِلُّ لكم، حتّى النساء. ويُسمَّى هذا النّسك: التَّمتُّعَ في الحجِّ، وهو مَن اعْتمرَ ثمّ حلّ، وانتظر الإحْرام مرةً أخرى يوم التّروية.
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
وأمّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وبعضُ أصْحابِه ممَّن ساقوا الهَديَ، فلم يَحِلُّوا من إحْرامِهم، لقوله -تعالى-: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) البقرة: 196. والمعنى: وأدُّوا الحج والعمرة تامَّيْنِ، خالصين لوجه الله -تعالى-، فإنْ مَنَعكم عن الذهاب لإتمامهما بعد الإحْرام بهما مانع، كالعدو والمرض، فالواجب عليكم ذَبْحُ ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم، تقرباً إلى الله -تعالى-؛ لكي تَخْرُجوا منْ إحْرامكم بحلق شَعر الرّأس أو تقصيره، ولا تحلقوا رؤوسكم إذا كنتُم مُحصرين؛ حتى تَنْحرُوا هديكم في المَوضع الذي أُحْصرتم فيه، ثمّ تحلّوا مِنْ إحْرامكم، كما نَحَرَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في «الحديبية» ثمّ حَلَق رأسه. وغير المُحْصر: لا يَنحر الهدي إلا في الحَرَم، الذي هو مَحلّه في يوم العيد، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة وما بعده من أيام التشريق.
قوله: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟
ويدلّ عليه أيضًا: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في حجة الوداع: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟ قال: «إني قد سَقْتُ الهَدي؛ فلا أُحلّ حتّى أنحر». قوله: «فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ» أي: فأطاعَ الَّذين لم يَسوقوا الهَديَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أمَرَهم به، فخَلَعوا ثيابَ إحْرامِهم، ثُمَّ قَصَّروا شَعرَهم ولمْ يَحلِقوه، حتَّى يَتسَنَّى لهمُ الحَلقُ بعدَ الحجِّ، ومن ثَمَّ وَاقَعوا النِّساءَ، أي: جامَعوهُنَّ، وتَطَيَّبوا بالطِّيبِ، ولَبِسُوا الثِّيابَ المَمْنُوعَ لُبْسُها في الإحْرامِ، ولَيسَ بينَهم وبينَ الوُقوفِ بِعَرَفةَ -في اليومِ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ- إلَّا أربعُ ليالٍ.
قوله: «ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ»
أي: ثُمَّ أحرَمَ الَّذين كانوا مُتمتِّعينَ بالعُمرةِ بنُسكِ الحَجِّ يومَ التَّرْوِيةِ، وهو اليومُ الثَّامِنُ من ذِي الحِجَّةِ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الماءَ كان قَليلًا بِمِنًى، فكانوا يَرْتَوونَ منَ الماءِ ويَحْمِلونَه لِمَا بعدَ ذلك. وفيه دليل: على أنّ وقتَ الإحْرام بالحجّ يكونُ يوم التّروية، وهو اليومُ الثامن من ذي الحجّة.
أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ
ثُمَّ دخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عَائِشةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فوجَدَها تَبْكي، فسأَلَها عن سببِ بُكائِها، فأخبَرَتْه بحَيْضِها، وأنَّه منَعَها العُمرةَ؛ لأنَّها لم تطُفْ بالكَعبةِ، وهي ما زالَتْ في حَيضَتِها، والنَّاسُ يَتأهَّبونَ لأداءِ مَناسِكِ الحجِّ، فهي تَبْكي لفَواتِ كلِّ ذلك عليها، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مواسيًا لها: «إنَّ هذا» أي: إنّ الحَيْضَ أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ، ,وفي رواية: «أمْرٌ كتَبَه اللهُ -تعالى-» أي: قدَّره، «على بناتِ آدَمَ»، أي: إنَّك لستِ مُختصَّةً بذلك، بل كلُّ بناتِ آدَمَ يكونُ مِنهنَّ هذا، وهذا تَطْييبِ منه - صلى الله عليه وسلم - لخاطرِها، وتسلية وتأنيساً لها، وتخفيفاً لهمها، ومعناه: إنك لستِ مُختصّة به. وهذا دال على أنّ الحائض ومثلها النفساء، والجُنب، والمُحْدث؛ يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته؛ إلا الطواف، فإنه يُشْترط فيه الطهارة، وهذا مذهبُ الجمهور، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بالبيت صلاة». رواه الترمذي. والصلاة الطهارة شَرط فيها؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور». متفق عليه. قوله: «فاغْتَسِلي» أي: للنَّظافةِ، وإلا فغسلها هذا لا يرفع الحَدَث، «ثُمَّ أهِلِّي بالحَجِّ» أي: أحْرمي بإحْرامِكِ الَّذي أنتِ فيه، وَالحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنهما الإحْرام، وجَميعُ أَفعالِ الحجِّ إلَّا الطَّوافَ؛ لقَولِه - صلى الله عليه وسلم -: «اقْضي ما يَقْضي الحاجُّ؛ غيرَ أنْ لا تَطوفي». متَّفقٌ عليه.
فعل عائشة -رضي الله عنها
ففعَلَتْ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ما أمَرَها به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ووقَفتِ المَواقِفَ كلّها، وأتَتِ بالمناسكَ، فوقَفتْ بعَرَفةَ، وذهَبَتْ إلى مُزْدَلِفةَ ومِنًى، ورمت الجمرة، حتَّى إذا طَهُرَتْ من حَيْضِها، طافَتْ بالكَعْبةِ، وسَعَتْ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوةِ، وأخْبَرَها - صلى الله عليه وسلم - أنَّها قدْ حَلَّتْ من حَجَّتِها وعُمْرَتِها جمِيعًا، وذلك أنَّ أعْمالَ العُمرةِ دخلَتْ في الحجِّ؛ لأنَّها صارَتْ قارنةً، فحلَّتْ منهما جميعاً. فقالتْ عَائِشةُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أجِدُ في نَفْسي أنِّي لَمْ أطُفْ بالبَيْتِ حتَّى حَجَجْتُ» أي: حينَ أحرَمْتُ بالعُمرةِ في أوَّلِ أمرِها، لم أطفْ بالبيت، ومُرادُها أنَّها لم تَتمتَّعْ بالعُمرةِ مثلَ غيرِها، فأمرَ - صلى الله عليه وسلم - أخَاها عبدالرَّحمنِ بنَ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهم- أنْ يَذهَبَ بها لِتُحرِمَ بِعُمْرةٍ منَ التَّنْعيمِ، تَطْييباً لقَلبِها، و»التَّنعيمُ» مَوضِعٌ على ما يُقارِبُ مِن 5 إلى 6 كيلومتراتٍ مِن مَكَّةَ، أقْرَبُ أطرافِ الحِلِّ إلى البَيْتِ، وسُمِّيَ به لأنَّ على يَمِينِه جبَلَ نُعَيْمٍ، وعلى يَسارِهِ جبَلَ نَاعِمٍ، والواديَ اسمُه: نَعْمَانُ.
قوله: «وكان ذلك ليلةَ الحَصْبةِ»
أي: لَيلةَ المَبيتِ بِالمُحَصَّبِ بعدَ النَّفْرِ من مِنًى، والمُحصَّبُ مَوضِعٌ خارجَ مكَّةَ، وهو مَسيلٌ واسعٌ فيه دِقاقُ الحَصَى يقَعُ بينَ مِنًى ومَكَّةَ، وهو إلى مِنًى أقرَبُ، وقيلَ: هو موضِعُ رَمْيِ الجِمار بِمِنًى، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ نزَلَ به بعدَ انْتهاءِ أيَّامِ رَمْيِ الجَمَراتِ، وكان مَوْلاه أبو رافِعٍ قد نصَبَ له الخَيْمةَ، وَهذا النُّزولُ والمَبيتُ في هذا المكانِ كان قَبلَ طَوافِ الوَداعِ؛ فقدْ جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ والعَصرَ، والمغرِبَ والعِشاءَ، ثُمَّ رقَدَ رَقْدةً بالمُحصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيتِ فَطافَ بِه».
فوائد الحديث
  • متابعة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأقواله بالحج والعمرة وغيرهما، وحرصهم على ذلك، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حجَّ مرَّةً واحدةً، وكان ذلك في العامِ العاشِرِ منَ الهِجرةِ، وسُمِّيَت بحَجَّةِ الوَداعِ، فنقَلَ عنهُ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- تَفاصيلَ تلكَ الحَجَّةِ؛ كي نتعلَّمَ الأمّة كيفيَّةَ الحجِّ الَّذي أمَرَ بهِ اللهُ -عزَّ وجلَّ.
  • فيه بيانُ تَيسيرِ الشَّرعِ على الحائضِ في أُمُورِ الحجِّ والعُمرةِ.
  • مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
  • المُعتمِرَ إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ، وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ، وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ.
  • فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرةِ، لمَنْ لم يَسق الهدي.
  • الطَّواف الواحِد والسَّعْي الواحِد يُجْزِئانِ القارِنَ عن حَجِّهِ وعُمرَتِه.
  • الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بها عبادَهُ، يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا، بحسب استطاعته.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 26-07-2024, 10:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّلبية



  • كان رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ ويقول في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ»
  • الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
  • التلبية إجابةٌ للعبادة وإشْعار للإقامة عليها وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها وهو التّحللُ منْها والتّحلل يحصل بالطواف والسعي
عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». قَالُوا: وَكَانَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والْعَمَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/842) باب: التلبية وصِفتها ووقتها.
في هذا الحَديثِ بَيانٌ لِصفةِ تَلبِيةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ الإهْلالِ بالحَجِّ؛ حيثُ يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ» لبيك أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ، في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمْرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
قوله: «لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ»
أي: أنتَ وحدَكَ مالِكٌ في مُلكِكَ بلا مُنازِعٍ أو شَريكٍ، «إنَّ الحَمدَ والنِّعْمةَ لكَ» أي: فلكَ وحْدَكَ الحَمدُ والشُّكرُ والثَّناءُ، وكلُّ نِعمةٍ فهيَ مِنكَ وأنتَ مُعْطيها، «والمُلْكَ لا شَريكَ لكَ» ذكَرَ المُلْكَ بعدَ الحَمدِ والنِّعمةِ، لتَعميمِ أَسْبابِ الطَّاعةِ وإيضاحِ وجوهِ الانْقيادِ والعِبادةِ، ثُمَّ أتْبَعَه بقولِه: «لا شَريكَ لكَ» ليَزولَ الشَّبهُ عنه ويَستقِلَّ بالمُلكِ والحمدِ والنِّعمةِ مُنفرِدًا. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَزيدُ على قولِ تلك الكلِماتِ في تَلبيتِه وإهْلالِه. وقيلَ: الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ -تعالى- لعِبادِه، بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه، إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب.
متى يُلبّي الحاجُّ أو المعتمر؟
في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أهَلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اسْتَوتْ به راحلته قائمة، وفي رواية: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا صلّى بالغداة بذي الحليفة أمَرَ براحلته فَرُحِّلَتْ، ثم ركب فإذا اسْتَوتْ به استقبل القبلة قائمًا، ثم يُلَبِّي حتى يبلغ الحَرَم ثمّ يُمْسك.
إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم
وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنّ إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذِي الحُليفة حين اسْتوت به راحلته. رواه البخاري، وقوله: «أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،...». فيه: أنّ السُّـنَّة رفعُ الصّوت بالتلبية بالنّسبة للرِّجال. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظّهر أربعًا، والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتُهم يصْرُخُون بهما جميعًا. رواه البخاري، قال ابن حجر: قوله: «وسمعتهم يَصرخون بهما جميعاً» أي: بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك: من نَوى منهم القِران، ويحتمل أنْ يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج، وبعضهم بالعمرة، قاله الكرماني. ويُشْكِل عليه قوله في الطريق الأخرى، يقول: لبيك بحجة وعمرة معاً. اهـ. وفي رواية للبخاري: قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ معه بالمدينة الظهر أرْبعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثمّ بات بها حتى أصبح، ثمّ ركبَ حتى اسْتَوتْ به على البيداء، حَمِد الله وسَبّح وكَبّر، ثم أهَلّ بِحَج وعمرة، وأهلّ الناسُ بهما. وروى ابن أبي شيبة: عن بكر بن عبدالله المزني قال: كنتُ مع ابن عمر فَلَبّى حتى أسْمَعَ ما بينَ الجبلين، قال ابن حجر: إسناده صحيح.
رفع الصحابة أصواتهم بالتلبية
وأخرج أيضًا: من طريق المطلب بن عبدالله قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى تُبَحّ أصواتهم. قال ابن حجر: إسناده صحيح. وروى أيضًا: عن زيد بن خالد الجُهني قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: جاءني جبريل فقال: « يا محمَّدُ، مُرْ أصحابَكَ فليَرفَعوا أصواتَهُم بالتَّلبيةِ، فإنَّها مِن شعارِ الحجِّ». رواه ابن ماجة. وروى أيضا من طريق المسيب بن رافع قال: كان ابن الزبير يقول: التلبيةُ زينة الحج وقال ابن عباس: هي زينةُ الحاجّ. وروى عبدالرزاق: عن معمر عن الزهري عن سالم قال: كان ابنُ عُمر يَرْفعُ صَوته بالتلبية، فلا يأتِ الرَّوحاء حتى يَصْحَل صوته قال الخليل: صَحل صوتُه يصحل صَحْلاً، فهو أصْحل، إذا كانت فيه بُحّة. قال الخرقي: ويُستحب اسْتدامة التلبية، والإكثار منها على كل حالٍ، لا سيما إذا علا نشْزا، أو هبط وادياً، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه، وفي دُبر الصلوات المكتوبة. «المغني» (5/105). وبهذا قال الشافعي. قال ابنُ عبدالبر: أجْمعُ العُلماء على أنّ السُّنّة في المَرأة، ألا تَرفعَ صَوتَها، وإنّما عليها أنْ تُسْمِع نفسَها. «المغني (5/160).. فَخَرَجَتْ منْ جملة ظاهر الحديث، وخُصَّتْ بذلك، وبَقِي الحديث في الرّجال، قال ابنُ قدامة: وإنّما كُره لها رفعُ الصّوت، مُخافةَ الفِتْنة بها، ولهذا لا يُسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة، والمَسْنُون لها في التّنْبيه في الصلاة: التّصفيق دُون التّسبيح.
متى يَقطع المُعتمِر التّلبية؟
قال الإمامُ أحمد: يقطع المُعتَمِر التلبية إذا اسْتلم الرُّكن، قال ابن قُدامة في المغني (5/256): وبهذا قال ابنُ عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاووس والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر وعروة والحسن: يقطعها إذا دَخل الحَرَم. وحُكِي عن مالك: أنه إنْ أحْرمَ مِن المِيقات، قطع التلبية إذا وَصَلَ إلى الحَرم، وإنْ أحْرمَ بها مِنْ أدْنى الحِلّ، قطع التلبية حين يَرَى البيت. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن ابن عباس- يرفعُ الحديث- كان يُمْسِك عن التّلْبية في العمرة إذا اسْتلمَ الحَجَر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اعْتمرَ ثلاث عُمَر، ولمْ يزلْ يُلَبّي حتّى اسْتلمَ الحَجَر.
التلبية إجابةٌ على العبادة
ولأنّ التلبيةَ إجابةٌ للعبادة، وإشْعار للإقامة عليها، وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها، وهو التّحللُ منْها، والتّحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخَذ في التّحلّل، فينبغي أنْ يقطع التلبية، كالحجّ إذا شَرَع في رمي جَمرة العقبة لحصول التحلل بها، أمّا قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها، والله أعلم. اهـ. وقال ابن عبدالبر: اخْتَلَف العُلماء في قطع التلبية في العُمرة. وقال مالك في موطئه- على ما ذكره ابن قدامة- وأضافَ ذلك إلى ابن عمر وعروة بن الزبير. وقال الشافعي: يقطع المُعْتمر التلبية في العُمرة، إذا افتتح الطّواف. وقال مرة: يُلَبِّي المعتمر حتى يستلم الرُّكن، وهو شيءٌ واحد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف. قال أبو عمر: لأنّ التلبية استجابةٌ لمَا ذكر إليه فرضَاً أو نَدْبا، فإذا وصَلَ إلى البيت قَطَع الاسْتجابة، والله أعلم، وهؤلاء كلُّهم لا يُفَرِّقُون بين المُهِلّ بالعمرة، بعيد أو قريب. اهـ. قالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والعَمَلُ. وهذهِ الزِّيادةُ مِن قَولِ ابن عُمرَ - رضي الله عنه -، وقدْ ورَدَ عن بَعضِ الصَّحابةِ زِياداتٌ أُخْرى في التَّلبيةِ، وهيَ مِن بابِ الزِّيادةِ في الخيرِ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يُنكِرُ على أحدٍ من أصْحابِه شيئاً منْ إهْلالِه. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لبيكَ حقاً، تعبداً ورِقًّا، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المُسْتحبُ الاقْتصارُ على تلبية رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبه قال مالك والشافعي. نقله النووي. قوله: «وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ» أي: بِيَدِك الخيرُ كلّه، كما في قوله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26).
صِفة «اليَد» لله -عَزّوجَلّ
وكما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّه كان إذا قامَ إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ،... وفيه: لبيكَ وسَعديك، والخَيرُ كلُّه في يَديك، والشَّرُّ ليسَ إليك، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ...». رواه مسلم وأهل السُّنّة: يُثبِتون بمثل هذه النُّصُوص صِفة «اليَد» لله -عَزّ وجَلّ. ومعنى «والرغباء إليك»: قال المازري: يُرْوى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر، ونظيره: العُلا والعلياء، والنّعمى والنَّعْماء. قال القاضي: وحَكَى أبو علي فيه أيضًا الفتح مع القصر: الرَّغْبَى مثل سَكْرَى، ومعناه هنا: الطّلب والمسألة إلى مَنْ بيده الخير، وهو المقصود بالعمل، الْمُسْتَحِقّ للعبادة. اهـ (النووي).


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 09-08-2024, 11:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في التّلبية بالعمرة والحج



  • في الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة مِنْ عُمْرةٍ أو إفْراد بالحجّ أو قِران بين الحجّ والعُمرة إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع
  • أُمَّةُ الإسْلامِ آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ
  • صفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ
عن أَنَسٍ -رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا»، وفي الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/905) باب: في الإفْراد والقِران بالحجّ والعُمرة.
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: «أنَّه سمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا» يعني: الحجّ والعمرة، أي: رَفَعَ صوْتَهُ بالتَّلبيةِ بهما فقال: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»، وفي لفظ: «يُلبِّي بالحَجِّ والعُمرَةِ جميعًا» وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ، وهذا دليلٌ واضح على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ قارِنًا في حجّته، وجاء في رواية مسلم: فأخبَرَ بكرُ بنُ عبداللهِ - وهو راوي الحَديثِ عن أنسٍ - رضي الله عنه - عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما- بما قالَه أنسٌ - رضي الله عنه -، فقالَ عبداللهِ - رضي الله عنه - مُعقِّبًا على أنسٍ - رضي الله عنه -: «لبَّى بالحَجِّ وحْدَهُ» أي: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُفرِداً، ولم يجعَلْ معَه عُمرةً.
ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا!
فرجع بَكرٌ بقَولِ ابنِ عُمرَ هذا إلى أنَسٍ - رضي الله عنه -، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا!» أي: ما تَحسَبونَنا إلَّا صِغاراً، لا نَعلَمُ شيئًا مِن أَحْوالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسُننِه، يقصِدُ - صلى الله عليه وسلم - بذلك: صِغَرَ سِنِّه، وقصر مدَّةَ صُحبتِه وخِدمتِه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينَما حضَرَ إلى المَدينةِ مُهاجراً، كان عُمرُ أنَسٍ - رضي الله عنه - حينَئذٍ عَشْرَ سِنينَ، وعليه فإنَّ أنَسًا - رضي الله عنه - كان بعُمرِ العِشرينَ يومَ حجَّةِ الوَداعِ، فمِثلُه ممّا يُقبَلُ حَديثُه بلا شَكّ، لبُلوغِه ورُشدِه. فأنَسٌ - رضي الله عنه - بذلك؛ يُنكِرُ بمَقولتِه تلك على مَن يظُنُّ به شيئاً مِنْ ذلك، ولذلك قالَ: «سَمعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: لبَّيكَ عُمرةً وحَجًّا» ويؤكِّدُ - رضي الله عنه - ذلك بما رَواه عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه رَآه وسَمِعَه يفعَلُ ذلك.
الرَّاجِحُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا
والرَّاجِحُ والأصَحُّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا، كما قال أنَسٌ، ومَنْ قال بغيرِ ذلك؛ فإنَّه بَنى على ما شاهَدَه منَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسَمِعَه في إهْلالِه، فمَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ، ظنَّه أنَّه أفرَدَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالعُمرةِ ظنَّ أنَّه تمتَّعَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ والعُمرةِ معاً، علِمَ أنَّه قارِنٌ بينَهما بإحْرامٍ واحدٍ، ودخَلَتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ
فوائد الحديث
  • حجُّ بيت الله وهو الرُّكنُ الخامسُ مِن أَركانِ الإِسْلامِ، هوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وتُؤخَذُ جميعُ أَعْمالِه مِن سُنَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصْحابه فقال لهم: «خُذُوا عنّي مَنَاسِككم».
  • وكان التَّابِعونَ يَذهَبونَ إلى أصْحابِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليَسأَلوهم، ويَتعلَّموا منهم حَديثَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأفْعالَه وأقْوالَه في الحج، وغيره من العِباداتِ.
  • وفيه: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَنا أحْكامَ الحجِّ والعُمْرَةِ، وبيَّنَها قَوْلًا وفِعْلًا، وكان الصَّحابةُ الكِرامُ يتَّبِعونَهُ، ويَنْقُلونَ إلينا كُلَّ سُنَّتِهِ القَوْليَّةِ والعَمَليَّةِ والتَّقْريريَّةِ.
  • وفيه: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حَجَّةِ الوَداعِ قارِنًا بين الحَجِّ والعُمْرةِ في نُسُكٍ واحِدٍ، وكان معه هدْيُهُ، وكان إهْلالُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهما جميعاً كما في هذا الحديث، وقيل: كان قرانه في نِهايَةِ الأمْرِ، وإلَّا فإنَّه بَدَأَ بالحَجِّ، ثمَّ أدْخَلَ عليه العُمْرةَ، فصار قارِنًا.
وصفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ، فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ، ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ، فيذهب إلى عرفة، ويُتم حجّه، فَيَجْمَعُ بين عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ في عَمَلٍ واحِدٍ، حَتَّى يَطوفَ طَوافَ الإفَاضَةِ، ثُمَّ يَجِبُ عليه ما يَجِبُ على المُتَمَتِّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ مِنَ الهَدْيِ إنْ تَيَسَّرَ ذلك عليه، أو الصِّيَامُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً.
الحديث الثاني في الباب
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًاً أَوْ مُعْتَمِراً، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» أخرجه مسلم في الحج (2/915) باب: إهلال النّبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه. في هذا الحَديثِ يُقسِمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باللهِ تعالى، الَّذي يملِكُ رُوحَ ونفس عَبدِه ونبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويملِكُ أنْ يَقبِضَها، وكثيراً ما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقسِمُ بهذا القسَمِ، فيُقسمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عيسَى ابنَ مَريمَ -عليهما السَّلامُ- سينزلُّ مِنَ السّماء إلى الأرْض، وذلك في آخِرِ الزَّمانِ، وهو مِنْ عَلاماتِ يومِ القِيامةِ الكُبْرى، ويهلّ والإهْلالُ: هو رفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، وهذا كنايةٌ عن خُروجِه للحجِّ إلى بَيتِ اللهِ عزَّ وجلَّ. ويقَعُ ذلك بفَجِّ الرَّوْحاءِ، والرَّوْحَاءِ: بفَتْح الفاء وتشديد الجِيم، بين مكّة والمَدينة، وكان طريق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وإلى مكة عام الفتح، وعام حَجّة الوَدَاع، ويكونُ إهْلالُه عليه السَّلامُ مُفرِدًا بالحجِّ، أو مُفرِدًا بالعُمرةِ، أو يَجمعُ بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ. ونَبيُّ اللهِ عيسَى ابنُ مَريمَ -عليه السَّلامُ- حيٌّ في السَّماءِ، وثبَتَ في الصَّحيحَينِ: «أنَّه -عليه السَّلامُ- سينزِلُ قبلَ يومِ القِيامةِ إلى الأرْضِ، حكَماً عَدلًا، فيَكسِرُ الصَّليبَ، ويقتُلُ الخِنزيرَ، ويضَعُ الجِزيةَ»، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم .
فوائد الحديث
  • بيانُ أنَّ الأنْبياءَ يحُجُّونَ بيتَ الله الحَرَام ويَعتمِرونَ.
  • أنّ أُمَّةُ الإسْلامِ شأنُها عَظيمٌ؛ فإنَّها آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا، ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ، وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا، ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ.
  • وفي الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة، مِنْ عُمْرةٍ، أو إفْراد بالحجّ فقط، أو قِران بين الحجّ والعُمرة، إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع.
  • وفيه إخبارٌ بما يكون في آخِر الزّمان، قبيل قيام السّاعة، وهو بعد نُزُول عيسى عليه السّلام؛ حيث سيهلّ عليه السلام ويلبّي إلى مكة حاجّاً أو مُعتمراً، أو آتياً بالحجّ والعُمرة جميعاً.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 09-08-2024, 11:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في إفْرَادِ الحَجّ



  • المُعتمر والمُفرد لا هَدْي عليهما لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً
  • يستحب سوق الهدي للمُفْرد والمُعتمر فالنّبيُّ صلى الله عليه وسلم ساق الهَدْي اسْتحبابًا
  • في الحديث وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ مُفْرَداً، وفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/904- 905) باب: في الإفْرَاد بالحَجِّ والعُمرة.
يقول الصحابي الجليل ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أهْلَلْنا مع رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحَجّ مُفرداً» أي: أنّه بدأ أولَ الحَجّ مُفْرداً، فلمّا أتى إلى الجِعْرانة، أدْخلَ عليها العمرة، فاعتمرَ أولاً، وبَقِي على إحْرامه، ولمْ يتحلّل إلا في يوم النّحر، وهذا يَردُّ على منْ يقول: إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان مُفْرداً فقط.
أيِّ الحجّ أفضل؟
وقد اختلفَ العلماء في أيِّ الحجّ أفضل: الإفْراد، أو التّمتع، أو القِرَان؟ وكلّ مَنْ قال بقولٍ منها، قال: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك، وظَهَر له هذا في بعض الأدلة فاعتمد عليه، أمّا الذي قال: إنّ التّمتع أفضل، فاعتمد على ظاهر بعض الروايات التي تقول: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرة إلى الحج.
والرد على هذا القول:
  • الأمر الأول: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تمنّى لو أنّه تمتّع، فقال: «لو اسْتقبلتُ مِنْ أمْري ما اسْتَدْبرتُ، ما سقتُ الهَدي مِنَ المِيقات» فالذي يَسوق الهَدي مِنَ الميقات، هو القارنُ لا المُتمتّع.
  • الأمر الثاني: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما اعْتمر، لمْ يَتَحلّل إلا في يومِ النّحر، بعد أداء المناسك، فهذا يدلُّ على أنّه كان قارناً.
الذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل
والذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل، اعتمد على أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُفرداً في حَجّه، وأنّ منْشأ الحج، أي: أصْل الحجّ في ذي الحليفة، كان إفراداً، وقد أهلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ فقط منْ ذي الحليفة، كما هي أحاديث الباب. والصّوابُ والصّحيح: أنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ الحج مُفرداً، ثمّ أدخلَ عليه مِنَ الجِعْرانه العُمْرة، فكان أولاً مُفرداً، وقبل أداء الحجّ، أدْخلَ عليه العُمرة، فاعتمرَ أولاً ثمّ حَجّ. ومعلوم أنّ سوق الهدي على سبيل الاسْتحباب للمُفْرد والمُعتمر، فالنّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساق الهَدْي اسْتحباباً؛ لأنّه نَوى الإفراد، ولكن سوق الهدي حَمَله على إدخال العمرة على الحجّ، فصَار قارنًا، وهناك اتفاقٌ بين أهلِ العلم: أنّ المُعتمر لا هَدْي عليه، وأنّ المُفردَ لا هَدْي عليه، لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً، وقد قال أنس: «سَمعتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلبّي بالحجّ والعُمْرة جَميعاً»، وعبدالله بن عمر يقول: أنا كنتُ معه، وما كان يُلبّي إلا بالحج فقط.
تفسير هذا الخلاف
وتفسير هذا الخلاف: أنّ عبدالله بن عمر حَكى ما قد سَمعه أولَ الأمْر، منْ ميقات ذي الحليفة، وأنس بن مالك كان يَأخذ بخِطَام ناقته في مناسك الحَجّ، ابتداءً مِن الجعرانة حتى قَضَى حَجّه، فسَمِعه يقول: «لبيك اللهُمّ عُمرةً وحجّة». فلمّا أدخلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العُمرة على الحَجّ، سَمِعه أنسٌ فحَكى ما سمعه، وعبدالله بن عمر حكى ما سمعه أولاً، فكلّ واحدٍ مِنَ الصّحابة يحكي ما قد سمعه، وسيأتي الحديث. الرأيَ الصّحيح
في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -
قال النووي: «قدَّمْنا أنّ الرأيَ المُخْتار- بل الصّحيح- في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان في أوّلِ إحْرامه مُفْرداً، ويحمل عليه حديث عبدالله بن عمر، ثمَّ أدخلَ العُمْرة على الحَجّ فصَارَ قَارناً، وهذا حديثُ أنس، وبهذا اتّفقت الرّوايات، وجمعنا بين الأحاديث أحْسَن جمع، فحديثُ ابن عمر مَحْمولٌ على أوّل إحْرامه، وحديث أنس مَحمولٌ على أواخره وأثنائه، وكأنّه لمْ يسمعه أولاً، ولا بُدّ مِنْ هذا التأويل أو نحوه، لتكونَ روايةُ أنسٍ مُوافقة لرواية الأكثرين، كما سبق بيان ذلك».
باب: القِرَان بينَ الحَجّ والعُمْرة
عَنْ بَكْرٍ بن عبدالله: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا».
باب: في مُتْعُةِ الحجِّ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً.الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/900) باب: جواز التمتع. في هذا الحَديثِ يَرْوي عِمْرانُ بنُ حُصينٍ - رضي الله عنه - أنَّهم تَمتَّعوا على عَهدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمَقصودُ بِالمُتعَةِ هنا: التَّمتُّعُ في الحَجِّ، بالعمرةِ مع الحجِّ، وفَعَلوه في حياتِه وَهوَ مَوجودٌ حاضِرٌ بيْنَهُم، ونَزَلَ القرآنُ بمَشروعيَّتِه، قالَ -تعالَى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (البقرة: 196)، ولم يَنزِلْ قُرآنٌ يُحرِّمْه، فاستقَرَّ هذا الحُكمُ، وهو مستمِرٌّ، ولم يَنْهَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى مات.
قوله: «قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
أي: فلا نَسخَ لهذا الحُكْمِ بعْدَ ذلك، مهْما قال رجُلٌ بِرَأيِه ما شاء، يعني: مِن تَرْكِه، أو ترك الأخذِ به، وأنَّ الرَّأيَ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - باختيارِ الإفرادِ بحَجٍّ فقطْ، لا يَنسَخُ ما سَنَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن التَّمتُّعِ والقِرانِ. والرَّجلُ المَقصودُ هُنا هوَ: عُمرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَقدْ نَهَى عَنِ التَّمتُّعِ في الحَجِّ، وكان نهيُه عن ذلك على جِهةِ التَّرغيبِ للنَّاسِ، فيما يَراهُ الأفضلَ لَهُم بأنْ يُفرِدوا العُمرَةَ بِسَفرٍ، والحَجَّ بِسَفرٍ. قال ابن عبدالبر: لا خلافَ بين العلماء أنّ التمتع المراد بقول الله -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} (البقرة: 196). هو الاعتمار في أشهر الحج. قال: ومِنَ التّمتع أيضاً: القِرَان؛ لأنّه تمتعٌ بسُقوط سَفَره للنُّسُك الآخر من بلده. قال: ومِنَ التمتع أيضاً: فَسْخُ الحج إلى العُمرة. انتهى
أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ
وكان أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، في أيَّامِ خِلافتِه - رضي الله عنه -، وتابَعَه عُثمانُ - رضي الله عنه - في ذلك، وغَرَضُهم منه: الحثُّ على تَحصيلِ فَضيلةِ الإفْرادِ، وليَكثُرَ قصْدُ الناسِ بيتَ الله الحرام طوال العام، حاجِّينَ ومُعتمِرينَ، وليس إبطالًا للتَّمتُّعِ، وفي مسلمٍ: أنَّ ابنَ الزُّبَيرِ أيضًا كان يَنْهى عنها، وابنُ عَبَّاسٍ كان يأمُرُ بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أنَّ أوَّلَ مَنْ نَهَى عنها كان عُمَرَ - رضي الله عنه .
فوائد الحديث
  • وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ، وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ.
  • وفيه: إقرارٌ للقاعدةِ الفِقهيَّةِ: «لا اجتِهادَ مع ثُبوتِ النَّصِّ».
  • وفيه: جوازُ نَسخِ القُرآنِ بالقُرآنِ، ولا خِلافَ فيه، وجوازُ نَسخِه بالسُّنَّةِ، ووجهُ الدَّلالةِ منه قولُه: «ولم يَنْهَ عنْها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -»، فإنَّ مفهومَه: أنَّه لو نَهَى عنها، لامتنَعْتُ، ويستلزِمُ ذلك رَفْعَ الحُكمِ، ومقتضاه جوازُ النَّسخِ بالسُّنّة.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 22-08-2024, 11:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ومَعَه الهَدْي



  • التَّمتُّعُ في الحَجِّ هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ ثمَّ يَحِلَّ منها ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه
  • أبطَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ
عن مُوسَى بْنِ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعاً بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الْآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عبداللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ سَاقَ الهَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وقَصِّرُوا وأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، واجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً». قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ قَالَ: «افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»، فَفَعَلُوا.الحديث رواه مسلم في الحج (2/884-885) باب: بيان وُجُوه الإحرام، وأنّه يجوز إفرادُ الحَج والتّمتع والقران، وجواز إدْخال الحجّ على العمرة، ومتّى يحلّ القارن من نُسكه.
مُوسى بنُ نافع هو التّابعي أبو شهاب الحنّاط الأسَدي، الهُذَلى الكوفى الأكبر، وليسَ بأبي شهاب الأصْغر عبدربه بن نافع، روى عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد، روى عنه يحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس ومحمد بن عبيد وأبو نُعيم، صدوق، أخرجَ له البخاري ومسلم. في هذا الحديثِ يَرْوي التابعيُّ موسى بْنُ نافعٍ أنَّه قَدِمَ إلى مكَّةَ مُتَمَتِّعًا بعُمْرةٍ، وأهَلَّ بذلك، فوَصَل مكَّةَ ودَخَلها قَبْلَ يومِ التَّرْوِيَةِ -وهو اليومُ الثَّامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ- بثَلَاثةِ أيَّامٍ، وسُمِّيَ يومُ التَّرويةِ بذلك، لأنَّ الحُجَّاجَ كانوا يَرْتَوُونَ فيه مِن الماءِ لِما بعْدَه، أي: يَستَقُون ويَسْقُون إبِلَهم فيه، استِعدادًا للوُقوفِ يومَ عرَفةَ، فَقالَ له بعضُ الناسِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، حيثُ تَفوتُك فَضيلةُ الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، فتُشْبِهُ في ذلك حَجَّةَ أهلِ مكَّةَ، اللذين لا يُحْرِمون مِنْ مِيقاتٍ مُعيَّنٍ، بلْ يُحرِمون للحجِّ مِن مَكانِهم، فذَهَبَ أبو شِهابٍ إلى التابعيِّ الجليل الفقيه عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ لِيَسأَلَه في ذلك ويَسْتفتيهِ، فحَدَّثَه أنَّ جَابِرَ بنَ عبدالله -رَضيَ اللهُ عنهما- أخْبَرَهُ: أنَّه حجَّ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ ساقَ البُدْنَ معَه، مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، والبُدْنُ يُقصَدُ بها الهَدْيُ، والهدْيُ: اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.
قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ
قال: وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفرَدًا، أي: أَحْرَموا مُفْرِدينَ بالحَجِّ، والمُرادُ بالإهْلالِ هنا: قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأمَرَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ قُدومِهم إلى مَكَّةَ، أنْ يَحِلُّوا مِنْ إحرامِهِم، فيَفسَخوا الحَجَّ إلى العُمرةِ، ويَتحلَّلوا مِن عُمرَتِهم بالطَّوافِ والسَّعيِ والتَّقصيرِ، ثمَّ يُقيموا بها حَلالًا، يَحِلُّ لهُم كُلُّ شَيءٍ، حتَّى مُعاشَرةُ النِّساءِ، حتَّى إذا كانَ يومُ التَّرويةِ، وهو اليومُ الثامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ، فعلَيهم أنْ يُهِلُّوا، أي: يُحْرِموا بالحَجِّ، ويَتَوجَّهوا إلى عَرَفَةَ، ويَجعَلوا الأفعال الَّتي قَدِموا بها تَمتُّعًا بالعُمرةِ.
التَّمتُّعُ في الحَجِّ
والتَّمتُّعُ في الحَجِّ: هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثمَّ يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه، فإذا قدِمَ مكَّةَ في أشْهُرِ الحجِّ واعتَمَر وانْتَهى مِن عُمرتِه، فله أنْ يَتحلَّلَ مِن إحْرامِه، ويَتمتَّعَ بكلِّ ما هو حَلالٌ حتَّى تبدَأَ مَناسِكُ الحجِّ.
سؤال الصَّحابةُ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم
فسَأَل الصَّحابةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ يَجعَلون نُسكَهم الأوَّلَ عُمرةً ومُتْعَةً بها وهم قدْ أحْرَموا بنِيةِ الحَجَّ؟ فأمَرَهم أنْ يَفعَلوا ما أمَرَهم به، وأخْبَرَهم أنَّه لَولا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ساقَ الهَديَ، لفَعَلَ مِثلَ الَّذي أمَرَهُم به، وفَسَخَ الحَجَّ إلى عُمرةِ، ولكِن ذلك لا يَحِلُّ له، ولا يَحِلُّ له فِعلُ شَيءٍ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، حتَّى يَصِلَ الهدْيُ إلى المَكانِ الَّذي يُنحَرُ فيه بِمِنًى يومَ النَّحرِ، في العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فاستجابَ الصحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- لأمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الفورِ، وفعَلوا ما أمَرَهم به، وبذلك أبطَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ، التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ، وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ.
اخْتَلَاف العُلَمَاء فِي هَذَا الفَسْخِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي هَذَا الفَسْخِ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً؟ أَمْ هو بَاقٍ لَهُمْ ولِغَيْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا، بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَومِ القِيَامةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، ولَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، ويَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِها. وقَالَ مالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَها؟ وإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ، لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ.
  • والراجح هو الأوّل: فقد ثبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: لَمَّا أمَر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالمُتْعةِ -أي التَّمتُّع-، قال جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: وأنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ لقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالعَقَبةِ، وهو يَرميها، فقال: ألَكُم هذه خاصَّةً يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لا، بلْ للأبدِ».
  • وفِي رواية قال: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: «لِأَبَدِ أَبَدٍ».
  • فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكَذَلِكَ القِرَانُ، وأَنَّ فَسْخَ الحَجِّ إِلَى العُمْرَةِ غير مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ السَّنَةِ، بل للأبد، واللَّهُ أَعْلَم.
فوائد الحديث
  • مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشْهُرِ الحجِّ.
  • وفيه: طاعةُ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ ما يأمرهم به.
من أصول منهج السلف ومعالمه
من معالِمِ منهج السلف وأصوله لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور! فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة». لُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه -عزَّ شأنُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59). لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه -عز وجل-، ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم». أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه - نصيحةٌ في حفظ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء. مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به».


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 22-08-2024, 11:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الحج من صحيح مسلم

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: نَسخُ التّحلّل مِنَ الإحْرام والأمْر بالتَّمَام



  • في الحديث مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبْلَ شُروعِه في العبادة
عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، وغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا، فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196). وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الْحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، في الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/895) باب: في نَسخ التّحلّل من الإحرام والأمر بالتمام.
في هذا الحَديثِ يَحكي أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَه إلى قَومٍ باليَمَنِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدْ أرْسَلَه ليَكونَ مُعلِّمًا وقاضيًا لأهْلِها، فرَجَع أبو مُوسى - رضي الله عنه - والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، وهو مُحرِمٌ بحَجَّةِ الوَداعِ، والبَطحاءُ: مكانٌ ذو حَصًى صَغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّةَ، وهو يَقُعُ جَنوبَ الحرمِ الشَّريفِ أمامَ جَبلِ ثَورٍ، ويُقالُ له: الأَبْطَحُ أيضاً، فسَأَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا مُوسى - رضي الله عنه -: بِمَ أهلَلْتَ؟ والمرادُ بالإهلالِ هنا: قصْدُ النِّيةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصْلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأجابَه أبو مُوسَى - رضي الله عنه - أنَّه أهَلَّ كإهلالِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - -وكان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ممَّن ساقَ الهَدْيَ، فقَرَنَ في إحْرامِه بيْن العُمرةِ والحجِّ- فسَأَله: هلْ مَعَكَ مِن هَديٍ؟ فأجابَ: لا، فأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَطوفَ بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فيكونُ بذلك قدْ أتَّم عُمرةً، ثمَّ أمَرَه أنْ يَحِلَّ مِن إحرامِه، فيُباح له كلُّ شَيءٍ. فأَتَى أبو مُوسى - رضي الله عنه - امرأةً من قَومِه، وهذا مَحمولٌ على أنَّها كانتْ مَحْرَمًا له، فسَرَّحَتْ له شَعرَه بالمُشطِ، وغَسَلتْ رَأْسَه، ولم يَذكُرِ الحَلْقَ أو التَّقصيرَ، إمَّا لكونِه مَعلومًا عندَهُم، أو لدُخولِه في أمْرِه بالإحلالِ.
زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه
فلمّا جاء زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - وخِلافتُه، فذُكِرَ له ذلك فقالَ: إنْ نَأخُذْ بكِتابِ الله، فإنَّه يَأمُرُنا بالتَّمامِ، أي: بإتمامِ أفعالِهما بعْدَ الشُّروعِ فيهما، قال اللهُ -تعالَى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وتَأويلُه للآيةِ: هو إفرادُ كلِّ نُسكٍ على حِدَةٍ، واستَشهَدَ - رضي الله عنه - بقِرانِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يَحِلَّ مِن إحْرامِه حتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بمِنًى. وظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ - رضي الله عنه - هذا، إنكارُ فسْخِ الحجِّ إلى العُمرةِ، وليس مُرادُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بذلكَ مُخالَفةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وقد رَوَى النَّسائيُّ: أنَّ أبا مُوسى سَأَلَ عُمرَ عن ذلِك، فقال عُمرُ: قد عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد فَعَلَه، ولكنْ كَرِهْتُ أنْ يَظلُّوا مُعرِّسينَ بهنَّ في الأرَاكِ، ثمَّ يَروحوا في الحجِّ تَقطُر رُؤوسُهم؟ ومعْناه: أنّه كَرِه التَّمتُّعَ، لأنَّه يَقتضي التَّحلُّلَ ووَطْءَ النِّساءِ، إلى حِينِ الخُروجِ إلى الحجِّ. فكان مِنْ رأي عُمر: عَدمُ التّرفّه للحَجّ، فكرِه لهُم قُربَ عَهدهم بالنساء، وقد أخرج مسلم: من حديث جابر أنّ عُمر قال: «افْصلُوا حَجّكم مِنْ عُمْرتكم، فإنّه أتمّ لحَجّكم، وأتَمّ لعُمْرتكم».
قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله»
قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله... إلخ» هذا مُحصّل جواب عمر - رضي الله عنه - في مَنَعه الناس مِنَ التّحلل بالعُمرة: أنّ كتابَ الله دالٌ على منع التّحلّل لأمْره بالإتْمام، فيقتضي اسْتمرار الإحْرام إلى الفراغ من الحج، وأنّ سُنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً دالة على ذلك، لأنّه لمْ يحلّ حتّى بلغَ الهَدي محلّه، لكنْ الجواب عن ذلك، ما أجاب به هو - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: «ولولا أنّ مَعي الهَدي، لأحْللت». فدلّ على جواز الإحْلال لمَنْ لمْ يكنْ معه هَدْي، وتبيّن منْ مُجْموع ما جاء عن عمر في ذلك أنّه مَنَعَ منْه، سَدّاً للذّريعة. (انظر الفتح). وقال النووي: والمُختار أنّه نَهى عن المُتعة المَعْروفة، التي هي الاعْتمار في أشْهر الحَج، ثمّ الحَجّ مِنْ عامه، وهو على التّنْزيه، للتّرغيب في الإفْراد، كما يظهر من كلامه، ثمّ انْعقدَ الإجْماع على جواز التّمتّع مِنْ غير كراهة، ونفي الاخْتلاف في الأفضل. ويُمكن أنْ يتمسّك مَنْ يقول: بأنّه إنّما نَهَى عن الفسخ، بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا مِنْ مسلم: «إنّ الله يُحلُّ لرسُوله ما شاء». والله أعلم.
فوائد الحديث
  • اتِّباعُ سُنَّةِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واقتِفاءُ أثَرِه في أفعالِه.
  • وفيه: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
  • وفيه: مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ، قبْلَ شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ.
  • وفيه: دلالة على جواز تعليق الإحْرام، بإحْرام الآخر.
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، هذا الأثر رواه مسلم في الحج (2/897) باب: جواز التمتع، وفيه يُخبِرُ أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ المُتعةُ في الحجِّ كانتْ لأصْحابِ محمَّدٍ خاصَّةً، يَعني: فسْخَ الحجِّ إلى العُمرةِ كان خاصًّا للصَّحابةِ فقط، وذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَ بها بعضَ أصْحابِه في حَجَّةِ الوَداعِ لمَن لمْ يسُقْ معَه الهَديَ، وكان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - من هؤلاء الَّذين فَسَخوا حَجَّهم إلى عُمرةٍ، أمَّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والبعضُ الآخَرونَ منَ الصَّحابةِ ممَّن معَهمُ الهَديُ كانوا قارِنينَ، أي: جَمَعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ.
وقولُه هذا مخالِفٌ لما ورَدَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ والثَّابِتةِ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ التَّمتُّعَ جائزٌ في أشهُرِ الحجِّ، وأنّه باقٍ إلى يوم القيامة كما سبق. وقيلَ: إنَّ قولَ أبي ذَرٍّ هذا يُحمَلُ على أنَّ الفَسخَ الواجبَ الَّذي يَتعيَّنُ، هو الَّذي كان لأصْحابِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا غَيرُهم فإنَّه يَبْقى على الاسْتِحْبابِ.
انكسار القلب وخضوعه لله -تعالى
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله وهو يتحدث عن انكسار القلب وخضوعه لله تعالى-: «ليس شيء أحب إلى الله -تعالى- من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه -سبحانه-، والاستسلام له، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر، والرحمة والرزق منه! وأحبُّ القلوب إلى الله -سبحانه- قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، وهذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله -تعالى- وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها «أي بالنسبة لحق الله» بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم نوع آخر، وفتح آخر، والسالك بهذه الطريق غريب عن الناس، وهم في واد وهو في واد، فالله المستعان وهو خير الغافرين».


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 195.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 189.57 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (3.00%)]