الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 620 - عددالزوار : 66411 )           »          رحلات البالون الطائر ومعابد الأقصر.. سحر لا يقاوم يخطف قلوب سياح العالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14372 - عددالزوار : 758364 )           »          ركعتا الفجر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          فوائد قيام الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          شهر الله المحرم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الأب السبب والسند (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          التربية بالموقف نماذج وتعليق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حقوق الوالدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          هل تندلع الحرب الكبرى؟ سقوط إيران يمهد لصدام إسرائيلي-تركي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 25-08-2022, 04:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (161)
صـ261 إلى صـ 270





المسألة الثانية عشرة

ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال ، وعليه أكثر السلف المتقدمين ، بل ذلك شأنهم ، وبه كانوا أفقه الناس فيه ، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه .

وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال : إما على الإفراط ، وإما على التفريط ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء وهو العربية فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا ، كما تقدم عن الباطنية وغيرها ، ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء .

والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى ، وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية ، وأن ما لم يكن معهودا عند العرب فلا يعتبر فيها ، ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها ، ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة ، فما وراء ذلك إن [ ص: 262 ] كان مقصودا لها ; فبالقصد الثاني ، ومن جهة ما هو معين على إدارك المعنى المقصود ، كالمجاز والاستعارة والكناية ، وإذا كان كذلك ; فربما لا يحتاج فيه إلى فكر ، فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر ; خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف ، وذلك ليس من كلام العرب ، فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى .

وأيضا ; فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب ، من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه ، وذلك أنه إعذار وإنذار ، وتبشير وتحذير ، ورد إلى الصراط المستقيم فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد ، باذلا غاية الطاقة في الموافقات ، هاربا بالكلية عن المخالفات ، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها ، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد ، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ ، والمعنى المقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه ؟ .

كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة ، بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به ، هذا لا يرتاب فيه عاقل .

ولا يصح أن يقال : إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء ; فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره ؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون الاشتغال بالمعنى المقصود لا ينكر في الجملة ، وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه [ ص: 263 ] وليس كذلك باتفاق العلماء .

لأنا نقول : ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق ، كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه ؟ وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط ، الذي يشك في كونه مراد المتكلم أو يظن أنه غير مراد ، أو يقطع به فيه ; لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة ; فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة : من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ الكهف : 104 ] أو قولي : قال إني لعملكم من القالين [ الشعراء : 168 ] فإن في دعوى مثل هذا على القرآن ، وأنه مقصود للمتكلم به خطرا ، بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [ النور : 15 ] وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي ، وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى : أو لامستم النساء [ المائدة : 6 ] وقوله : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] [ ص: 264 ] وما أشبه ذلك ; فإنه شائع في كلام العرب ، مفهوم من مساق الكلام ، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة ، والتجنيس ونحوه ليس كذلك وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه ; إذ ليس في التجنيس ذلك ، والشاهد على ذلك ندوره من العرب الأجلاف البوالين على أعقابهم كما قال أبو عبيدة ، ومن كان نحوهم ، وشهرة الكناية وغيرها ، ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به ; فالحاصل أن لكل علم عدلا وطرفا إفراط وتفريط ، والطرفان هما المذمومان ، والوسط هو المحمود .
[ ص: 265 ] المسألة الثالثة عشرة

مبنية على ما قبلها ; فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط ; فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا ، والإحالة على مجهول لا فائدة فيه ; فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم [ ص: 266 ] والقول في ذلك والله المستعان أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ; فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره ، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها ، لا ينظر في أولها دون آخرها ، ولا في آخرها دون أولها ، فإن القضية وإن اشتملت على جمل ; فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد ، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره ، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف ، فإن فرق النظر في أجزائه ; فلا يتوصل به إلى مراده ، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض ، إلا في موطن واحد ، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه ، لا بحسب مقصود المتكلم ، فإذا صح له الظاهر على العربية ; رجع إلى نفس الكلام ، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد ; فعليه بالتعبد به ، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل ; فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر .

غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدا بكل اعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت ، وعليه أكثر سور المفصل ، وتارة يكون متعددا في الاعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة ; كسورة البقرة ، وآل عمران والنساء ، واقرأ باسم ربك ، وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة ، أم نزلت شيئا بعد شيء [ ص: 267 ] ولكن هذا القسم له اعتباران : اعتبار من جهة تعدد القضايا ; فتكون كل قضية مختصة بنظرها ، ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول ; فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه .

واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة ; إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ، ويشترك معه أيضا القسم الأول ; لأنه نظم ألقي بالوحي ، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر ، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز ، وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل ، [ ص: 268 ] وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات ; فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر ; فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود ، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها .

فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم ، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها ، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ، ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك .

ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام ; فبه يبين ما تقدم ، فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله : كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ البقرة : 183 187 ] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى ، وحاصله بيان الصيام وأحكامه ، وكيفية آدائه ، وقضائه ، وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها .

ثم جاء قوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية [ البقرة : 188 ] كلاما آخر بين أحكاما أخر [ ص: 269 ] وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وانتهى الكلام على قول طائفة ، وعند أخرى أن قوله وليس البر بأن تأتوا البيوت الآية [ البقرة : 189 ] من تمام مسألة الأهلة ، وإن انجر معه شيء آخر ، كما انجر على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وقوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] نازلة في قضية واحدة ، وسورة اقرأ نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 5 ] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة .

وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة ، وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات ، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان ، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى : أحدها : تقرير الوحدانية لله الواحد الحق ، غير أنه يأتي على وجوه ; كنفي [ ص: 270 ] الشريك بإطلاق ، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة ، من كونه مقربا إلى الله زلفى ، أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة .

والثاني : تقرير النبوة للنبي محمد ، وأنه رسول الله إليهم جميعا ، صادق فيما جاء به من عند الله ; إلا أنه وارد على وجوه أيضا ; كإثبات كونه رسولا حقا ، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو يعلمه بشر ، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم .

والثالث : إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة ، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به ; فرد بكل وجه يلزم الحجة ، ويبكت الخصم ، ويوضح الأمر .

فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر ، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها ; فراجع إليها في محصول الأمر ، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب ، والأمثال والقصص ، وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #162  
قديم 25-08-2022, 04:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (162)
صـ271 إلى صـ 280





فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه ; إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم ، أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن كانت ; فجاءت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها ، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى ; فافتتحت السورة بثلاث جمل : [ ص: 271 ] إحداها وهي الآكد في المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه ، وذلكقوله قد أفلح المؤمنون إلى قوله هم فيها خالدون [ المؤمنون : 1 11 ] والثانية : بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا .

والثالثة : بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق ، والإعانة على إقامة الحياة ، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما ، وكفى بهذا تشريفا وتكريما .

ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ; ففي قصة نوح مع قومه قولهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم [ المؤمنون : 24 ] ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم ; أي : من البشر لا من الملائكة ; فقالوا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ المؤمنون : 33 ] ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ المؤمنون : 34 ] إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا [ المؤمنون : 38 ] أي : هو من البشر ثم قال تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه [ المؤمنون : 44 ] فقوله : رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها [ ص: 272 ] ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملئه بقولهم أنؤمن لبشرين مثلنا [ المؤمنون : 47 ] إلخ هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية ، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام ، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه ، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر ، يأكلون ويشربون كجميع الناس ، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى ; فقال بعد تقرير رسالة موسى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية [ المؤمنون : 50 ] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان ، ثم قال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات [ المؤمنون : 51 ] أي : هذا من نعم الله عليكم ، والعمل الصالح شكر تلك النعم ، ومشرف للعامل به ; فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة ، وقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة [ المؤمنون : 52 ] إشارة إلى التماثل بينهم ، وأنهم جميعا مصطفون من البشر ، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ ; فقال : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : وهم لها سابقون [ المؤمنون : 57 61 ] وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا ; فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر ، وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية ; استكبارا من أشرافهم ، وعتوا على الله ورسوله ; فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار ، وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة ، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف ; فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف ، وأصله العدم ; فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار ، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة [ ص: 273 ] الجارية ; فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق ، فهذا كله كالتنكيت عليهم ، والله أعلم .

ثم ذكر القصص في قوم نوح : فقال الملأ الذين كفروا من قومه [ المؤمنون : 24 ] والملأ هم الأشراف .

وكذلك فيمن بعدهم : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم الآية [ المؤمنون : 33 ] وفي قصة موسى أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ المؤمنون : 47 ] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام ، ثم قوله : فذرهم في غمرتهم حتى حين إلى قوله : لا يشعرون [ المؤمنون : 54 56 ] رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين ; فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون [ المؤمنون : 57 ] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم ، وذكر النعم عليهم ، والبراهين على صحة النبوة ، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين ، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين ; فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف ، لكن على منهاجه وطريقه ، ومن أراد الاعتبار في [ ص: 274 ] سائر سور القرآن ; فالباب مفتوح ، والتوفيق بيد الله ; فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد .

وبالجملة ; فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ; كنوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ; فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة ، فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله ، وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال ، والجميع حق واقع لا إشكال في صحته ، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن ، والله المستعان .
فصل

وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد ، لا بحسبه في نفسه ؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار ، حسبما تبين في علم الكلام ، وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد تنزلا لما هو من معهودهم فيه ، هذا محل احتمال [ ص: 275 ] وتفصيل فيصح في الاعتبار أن يكون واحدا بالمعنى المتقدم ، أي يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما ، وذلك أنه يبين بعضه بعضا ; حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى ، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات ، فإذا كان كذلك ; فبعضه متوقف على البعض في الفهم ; فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد ; فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار .

ويصح أن لا يكون كلاما واحدا ، وهو المعنى الأظهر فيه ; فإنه أنزل سورا مفصولا بينها معنى وابتداء ; فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكلام ، وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للأفهام ، وذلك لا إشكال فيه .
[ ص: 276 ] المسألة الرابعة عشرة

إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه ، وجاء أيضا ما يقتضي إعماله ، وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق ; فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل في شيء من القرآن : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ وربما روي فيه : إذا قلت في كتاب الله برأيي ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن ; فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا ; فمن الله ، وإن كان خطأ ; فمني ومن الشيطان ، الكلالة كذا وكذا .

فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن ، وهما لا يجتمعان والقول فيه أن الرأي ضربان : [ ص: 277 ] أحدهما : جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ; فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور : [ ص: 278 ] أحدها : إن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى ، واستنباط حكم ، وتفسير لفظ ، وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم ; فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، وذلك غير ممكن ; فلا بد من القول فيه بما يليق .

والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف ; فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول ، والمعلوم أن عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به ، وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم ; فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف .

والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه ، والتوقيف ينافي هذا ; فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح [ ص: 279 ] والرابع : أن هذا الفرض لا يمكن ; لأن النظر في القرآن من جهتين : من جهة الأمور الشرعية ; فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا .

ومن جهة المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف ، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين ، وهو باطل ; فاللازم عنه مثله ، وبالجملة ; فهو أوضح من إطناب فيه .

وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة [ ص: 280 ] الشرعية ; فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال كما كان مذموما في القياس أيضا ، حسبما هو مذكور في كتاب القياس ; لأنه تقول على الله بغير برهان فيرجع إلى الكذب على الله تعالى .

وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء ; كما روي عن ابن مسعود : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله ، وقد نبذوه وراء ظهورهم ; فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع ، وإياكم والتنطع ، وعليكم بالعتيق .

وعن عمر بن الخطاب : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #163  
قديم 25-08-2022, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (163)
صـ281 إلى صـ 310






وعن عمر أيضا : ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من [ ص: 281 ] فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ، ثم تأوله على غير تأويله .

والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فقال : أي سماء تظلني الحديث .

وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ المعارج : 4 ] فقال له ابن عباس : فما يوم كان مقداره ألف سنة [ السجدة : 5 ] ؟ فقال الرجل : إنما سألتك لتحدثني فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه ، الله أعلم بهما ، نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم .

وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن ; قال أنا [ ص: 282 ] لا أقول في القرآن شيئا وسأله رجل عن آية ; فقال : لا تسألني عن القرآن ، وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعني عكرمة وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك .

وقال ابن سيرين : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن ؟ وعن مسروق ; قال : اتقوا التفسير ; فإنما هو الرواية عن الله وعن إبراهيم ; قال : كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه وعن هشام بن عروة ; قال : ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله [ ص: 283 ] وإنما هذا كله توق وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم ، والقول فيه من غير تثبت ، وقد نقل عن الأصمعي وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله ، وإذا سئل عن ذلك لم يجب ، انظر الحكاية عنه في الكامل للمبرد .
فصل

فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء : منها : التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة ; فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات : [ ص: 284 ] إحداها : من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ ، والهيبة والخوف من الهجوم ; فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم ، وهيهات .

والثانية : من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم ; فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه .

والثالثة : من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد ، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض ; فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه ; لأن الأصل عدم العلم ، فعندما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين ; فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال ، وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال ، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره ; فحسن ظنه بنفسه ، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين ، ومن هنا افترقت الفرق ، وتباينت النحل ، وظهر في تفسير القرآن الخلل .

- ومنها : أن من ترك النظر في القرآن ، واعتمد في ذلك على من تقدمه ، ووكل إليه النظر فيه غير ملوم ، وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه ، وعلى حكم الضرورة ; فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه ، وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه ، وكذلك وجدناهم في القول في القرآن ; فإن المحظور فيهما واحد ، وهو خوف التقول على الله ، بل القول في القرآن أشد ; فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر ، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا ، أو عنى كذا بكلامه المنزل ، وهذا عظيم الخطر .

- ومنها : أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم ، والقرآن كلام الله ; فهو يقول بلسان بيانه : هذا مراد الله [ ص: 285 ] من هذا الكلام ; فليتثبت أن يسأله الله تعالى : من أين قلت عني هذا ؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد ، وإلا ; فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا ، بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم ، وإلا ; فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة ; فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله ، وإلا كان باطلا ، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم ، والله أعلم .
[ ص: 286 ] [ ص: 287 ] الدليل الثاني : السنة

ويتعلق بها النظر في مسائل :

[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] المسألة الأولى

يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص ، مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز ، بل إنما نص عليه من جهته عليه الصلاة [ ص: 290 ] والسلام ، كان بيانا لما في الكتاب أو لا .

ويطلق أيضا في مقابلة البدعة ; فيقال : فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا ، ويقال : فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك ، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة ; فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة ، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب .

ويطلق أيضا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة ، وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد ; لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا ، أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم ; فإن إجماعهم إجماع ، وعمل خلفائهم راجع أيضا إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه حسبما [ ص: 291 ] اقتضاه النظر المصلحي عندهم ; فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان ، كما فعلوا في حد الخمر وتضمين الصناع [ ص: 292 ] وجمع المصحف ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ، وتدوين الدواوين ، وما أشبه ذلك .

[ ص: 293 ] ويدل على هذا الإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين .

وإذا جمع ما تقدم ; تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه : قوله عليه الصلاة والسلام ، وفعله ، وإقراره وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالاجتهاد ، بناء على صحة الاجتهاد في حقه ، وهذه ثلاثة ، والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء ، وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار ، ولكن عد وجها واحدا ; إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
[ ص: 294 ] المسألة الثانية

رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور : أحدها : أن الكتاب مقطوع به ، والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب ; فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم على المظنون ; فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .

[ ص: 295 ] [ ص: 296 ] والثاني : أن السنة إما بيان للكتاب ، أو زيادة على ذلك ، فإن كان بيانا ; فهو ثان على المبين في الاعتبار ، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين ، وما شأنه هذا ; فهو أولى في التقدم ، وإن لم يكن بيانا ; فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب .

[ ص: 297 ] [ ص: 298 ] والثالث : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار ; كحديث معاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله قال فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ، الحديث [ ص: 299 ] [ ص: 300 ] [ ص: 301 ] [ ص: 302 ] [ ص: 303 ] [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] [ ص: 306 ] وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح : إذا أتاك أمر ; فاقض بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ; فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ [ ص: 307 ] وفي رواية عنه : إذا وجدت شيئا في كتاب الله ; فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره .

وقد بين معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله ; فلا تسأل عنه أحدا ، وما لم يتبين لك في كتاب الله ; فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومثل هذا عن ابن مسعود : من عرض له منكم قضاء ; فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ; فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 308 ] الحديث وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن شيء ; فإن كان في كتاب الله قال به ، وإن لم يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وهو كثير في كلام السلف والعلماء .

وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب [ ص: 309 ] على اعتبار السنة ، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة ، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة ، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار .

فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون : أما أولا ; فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة ; لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما ; فيرجع إلى السنة ، ويترك مقتضى الكتاب .

وأيضا ; فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره ، وهذا دليل على تقديم السنة ، وحسبك أنها تقيد مطلقه ، وتخص عمومه ، وتحمله على غير ظاهره ، حسبما هو مذكور في الأصول ; فالقرآن آت بقطع كل سارق ; فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز ، وأتى بأخذ الزكاة من [ ص: 310 ] جميع الأموال ظاهرا ; فخصته بأموال مخصوصة ، وقال تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ; فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ; فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه ، ومثل ذلك لا يحصى كثرة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #164  
قديم 25-08-2022, 04:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (164)
صـ311 إلى صـ 330




وأما ثانيا ; فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول : هل يقدم الكتاب على السنة ، أم بالعكس ، أم هما متعارضان ؟ [ ص: 311 ] وقد تكلم الناس في حديث معاذ ، ورأوا أنه على خلاف الدليل ; فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة ، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب ، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ، ولذلك وقع الخلاف ، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب ، فإذا كان الأمر على هذا ; فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب ، بل المتبع الدليل .

فالجواب : إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب ، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب ; فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ، ودل على ذلك قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فإذا حصل بيان قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] بأن القطع من الكوع ، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله ; فذلك هو المعنى المراد من الآية ، لا أن نقول : إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب ، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين [ ص: 312 ] معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه ; فلا يصح لنا أن نقول : إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام .

وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى ، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله واحتماله ، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه .

وأما خلاف الأصوليين في التعارض ; فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول ، وإلا فالتوقف ، وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني [ ص: 313 ] كلي ، وتبين معنى هذا الكلام هنالك ، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية ، والخبر معارضة أصلين قرآنيين ، فيرجع إلى ذلك ، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة ، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين ، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية ; فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق .

وأيضا ; فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة ; فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ، ولا كبير جدوى فيه ، والله أعلم .
[ ص: 314 ] المسألة الثالثة

السنة راجعة في معناها إلى الكتاب ; فهي تفصيل مجمله ، وبيان مشكله ، وبسط مختصره .

وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

[ ص: 315 ] [ ص: 316 ] فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية ، وأيضا ; فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها [ ص: 317 ] فهو دليل على ذلك لأن الله قال : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] [ ص: 318 ] وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن ، واقتصرت في خلقه على ذلك ; فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن ; لأن الخلق محصور في هذه الأشياء ، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء ; فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب ، ومثله قوله : [ ص: 319 ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] وقوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] وهو يريد بإنزال القرآن ; فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه ، وذلك معنى كونها راجعة إليه .

وأيضا ; فالاستقراء التام دل على ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب ، وإلا وجب [ ص: 320 ] التوقف عن قبولها ، وهو أصل كاف في هذا المقام فإن قيل : هذا غير صحيح من أوجه : أحدها : أن الله تعالى قال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية [ النساء : 65 ] والآية نزلت في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة الحديث مذكور في الموطأ وذلك ليس في كتاب الله تعالى [ ص: 321 ] ثم جاء في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء ، وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ النساء : 59 ] والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد موته .

وقال : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا [ المائدة : 92 ] وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله ; فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه ، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن ; إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله [ ص: 322 ] وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة الآية [ النور : 63 ] فقد اختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه ، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن ، وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى ; فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن ; فلا بد أن يكون زائدا عليه .

والثاني : الأحاديث الدالة على ذم ترك السنة واتباع الكتاب ; إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال ، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : يوشك بأحدكم أن يقول : هذا كتاب الله ، ما كان فيه من حلال أحللناه ، وما كان فيه من حرام حرمناه ; ألا من بلغه عني حديث فكذب به ; فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه [ ص: 323 ] وعنه أنه قال : يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ; فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمنا ، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله .

وفي رواية : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري بما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب والثالث : أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة ، لم ينص عليها في القرآن ; كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ، [ ص: 324 ] وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ، والعقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر وهو الذي نبه عليه حديث علي بن أبي طالب ; حيث قال فيه : ما عندنا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم ، وما في هذه الصحيفة .

وفي حديث آخر عن علي أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة ; فقال : والله ; ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة فنشرها ; فإذا أسنان الإبل ، وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا ; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما [ ص: 325 ] فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وإذا فيها : من والى قوما بغير إذن مواليه ; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا .

وجاء في حديث معاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في معناه مما تقدم ذكره ، وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن ، وهو نحو قول من قال من العلماء : ترك الكتاب موضعا للسنة ، وتركت السنة موضعا للقرآن .

والرابع : أن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم ، خارجين عن [ ص: 326 ] السنة ; إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء ، فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله ; فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلمإن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان : القرآن ، واللبن فأما القرآن ; فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين ، وأما اللبن ; فيتبعون الريف ، يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات [ ص: 327 ] وفي بعض الأخبار عن عمر بن الخطاب : سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن ; فخذوهم بالأحاديث ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله .

وقال أبو الدرداء : إن مما أخشى عليكم : زلة العالم ، وجدال المنافق [ ص: 328 ] بالقرآن وعن عمر : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون .

وعن ابن مسعود : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع ، وإياكم والتنطع ، وعليكم بالعتيق .

وعن عمر : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه .

وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح السنن ، وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا ; فسئلوا فأفتوا بغير علم ; فضلوا [ ص: 329 ] وأضلوا ، وما في معناه ; فإن كثيرا من أهل البدع هكذا فعلوا ، اطرحوا الأحاديث ، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله ; فضلوا وأضلوا .

وربما ذكروا حديثا يعطي أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى ، وذلك ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ; فإن وافق كتاب الله فأنا قلته ، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا ، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله ؟ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #165  
قديم 25-08-2022, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (165)
صـ331 إلى صـ 340





قال عبد الرحمن ابن مهدي : الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث قالوا : وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه ، وقد عارض هذا الحديث قوم ; فقالوا : نحن نعرضه على كتاب الله قبل كل شيء ، ونعتمد على ذلك ، قالوا : فلما عرضناه على كتاب الله ; وجدناه مخالفا لكتاب الله ، لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله ، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به ، والأمر بطاعته ، ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال .

هذا مما يلزم القائل : إن السنة راجعة إلى الكتاب ، ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين ، كما كان ذلك فيمن تقدم ; فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم ، أعاذنا الله من ذلك بمنه .

فالجواب : أن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم أما الأوجه الأول ; فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب ; فلا بد أن تكون بيانا لما في الكتاب احتمال له ولغيره ، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر ، فإذا عمل المكلف على وفق البيان ; أطاع الله فيما أراد بكلامه ، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه ، ولو عمل على مخالفة البيان ; عصى الله تعالى في [ ص: 332 ] عمله على مخالفة البيان ; إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه ، وعصى رسوله في مقتضى بيانه ; فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق ، وإذا لم يلزم ذلك ; لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب ، بل قد يجتمعان في المعنى ، ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين ، ولا محال فيه [ ص: 333 ] ويبقى النظر في وجود ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ، يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى ، وقوله في السؤال : " فلا بد أن يكون زائدا عليه " مسلم ، ولكن هذا الزائد ; هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحا ، أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب ؟ هذا محل النزاع وعلى هذا المعنى يتنزل الوجه الثاني .

وأيضا ; فإذا كان الحكم في القرآن إجماليا وهو في السنة تفصيلي ، فكأنه ليس إياه ; فقوله أقيموا الصلاة أجمل فيه معنى الصلاة ، وبينه عليه الصلاة والسلام ; فظهر من البيان ما لم يظهر من المبين ، وإن كان معنى البيان هو معنى المبين ، ولكنهما في الحكم يختلفان ، ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان التوقف ، وفي البيان العمل بمقتضاه ، فلما اختلفا حكما صار كاختلافهما معنى ; فاعتبرت السنة اعتبار المفرد عن الكتاب [ ص: 334 ] وأما الثالث ; فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله وأما الرابع ; فإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي واطراحهم السنن ، لا من جهة أخرى ، وذلك أن السنة كما تبين توضح المجمل ، وتقيد المطلق ، وتخصص العموم ; فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة ، وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ ، فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى ; صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره ، جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها ; إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير ، وهي الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل وأما ما احتجوا به من الحديث ، فإن لم يصح في النقل ; فلا حجة به [ ص: 335 ] لأحد من الفريقين ، وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله ; فلا بد من النظر فيه ; فإن الحديث إما وحي من الله صرف ، وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة ، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله ; لأنه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه ; فلا يقر عليه ألبتة ; فلا بد من الرجوع إلى الصواب ، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه .

نعم ، يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة ، بل بما يكون مسكوتا عنه في القرآن ; إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز ، وهو الذي ترجم له في هذه المسألة ; فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور ; فمعناه صحيح صح سنده أو لا .

وقد خرج في معنى هذا الحديث الطحاوي في كتابه في بيان مشكل الحديث عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري عن أبي حميد وأبي أسيد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ; فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم ، وتند منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكر ; فأنا أبعدكم منه [ ص: 336 ] وروي أيضا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل ; أن أبي بن كعب كان في مجلس ، فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت ، فلما فرغوا ; قال أي هؤلاء ! ما حديث بلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه القلب ، ويلين له الجلد ، وترجون عنده ; فصدقوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله لا يقول إلا الخير .

وبين وجه ذلك الطحاوي أن الله تعالى قال في كتابه : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ الأنفال : 2 ] وقال : مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية [ الزمر : 23 ] [ ص: 337 ] وقال : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع الآية [ المائدة : 83 ] فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه ، وكان ما يحدثون به عن النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك لأنه كله من عند الله ; ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث ، وإن كانوا بخلاف ذلك وجب التوقف لمخالفته ما سواه وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقا لا مخالفا في المعنى ; إذ لو خالف لما اقشعرت الجلود ، ولا لانت القلوب ; لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه .

وخرج الطحاوي أيضا عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله ; فإني أقول [ ص: 338 ] ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به ؛ فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف .

ووجه ذلك أن المروي إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه لوجود معناه في [ ص: 339 ] ذلك ; وجب قبوله لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ ; فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ ، إذ يصح تفسير كلامه عليه الصلاة والسلام للأعجمي بكلامه ، وإذا كان الحديث مخالفا يكذبه القرآن والسنة ; وجب أن يدفع ، ويعلم أنه لم يقله ، وهذا مثل ما تقدم أيضا .

والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته ، وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات ، وأما إن لم تصح فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح ، ويحقق ذلك ما تقدم في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة ; ففي ذلك الموضع من أمثلة هذا الأصل في الموافقة والمخالفة جملة كافية ، وبالله التوفيق ، وإذا ثبت هذا بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة ; حتى صار متضمنا لكليتها في الجملة وإن كانت بيانا له في التفصيل وهي :
[ ص: 340 ] المسألة الرابعة

فنقول وبالله التوفيق : إن للناس في هذا المعنى مآخذ :

منها : ما هو عام جدا ، وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها ، وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية [ النساء : 115 ] وممن أخذ به عبد الله بن مسعود ; فروي أن امرأة من بني أسد أتته ، فقالت له : بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة ، وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول ! فقال لها عبد الله : أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله [ الحشر : 7 ] ؟ قالت : بلى قال : فهو ذاك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #166  
قديم 25-08-2022, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (166)
صـ341 إلى صـ 350



وفي رواية قال عبد الله : لعن الله الواشمات ، والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال : فبلغ ذلك [ ص: 341 ] امرأة من بني أسد ; فقالت : يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت فقال : ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] الحديث .

فظاهر قوله لها : هو في كتاب الله ، ثم فسر ذلك بقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] دون قوله : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [ النساء : 119 ] أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي ، ويشعر بذلك أيضا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه ; فنهاه ، فقال : ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ الحشر : 7 ] وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر ; فقال له ابن عباس : اتركهما فقال : إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس : قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر ; فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله [ ص: 342 ] قال : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب : 36 ] وروي عن الحكم بن أبان ; أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد ; فقال : هن أحرار قلت : بأي شيء ؟ قال : بالقرآن قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن [ النساء : 59 ] وكان عمر من أولي الأمر قال : عتقت ولو بسقط .

وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ، ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة [ ص: 343 ] ومنها : الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام ; إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه ، أو ما أشبه ذلك ; كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى ، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب ، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية ، والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان ، والبيوع وأحكامها ، والجنايات من القصاص وغيره ، كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن ، وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ ص: 344 ] [ النحل : 44 ] وقد روي عن عمران بن حصين ; أنه قال لرجل : إنك امرؤ أحمق ؛ أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله مفسرا ؟ إن كتاب الله أبهم هذا ، وإن السنة تفسر ذلك .

وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير : لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف : والله ما نريد بالقرآن بدلا ، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا .

وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية ; قال : كان الوحي ينزل على رسول [ ص: 345 ] الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر : يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه .

وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب ; فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ، ولكني أقول : إن السنة تفسر الكتاب وتبينه .

فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود ، وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى .

[ ص: 346 ] ومنها : النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة ، وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح ، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها ، والتعريف بمفاسدهما دفعا لها ، وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام ، وهي : الضروريات ، ويلحق بها مكملاتها . والحاجيات ، ويضاف إليها مكملاتها . والتحسينيات ، ويليها مكملاتها . ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد ، وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور ; فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها ، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ; فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام [ ص: 347 ] فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة ; فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان ، وهي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ; فأصلها في الكتاب ، وبيانها في السنة ، ومكمله ثلاثة أشياء ، وهي : الدعاء إليه بالترغيب والترهيب . وجهاد من عانده أو رام إفساده . وتلافي النقصان الطارئ في أصله . وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال . وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان ، وهي : إقامة أصله بشرعية التناسل ، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب ، وذلك ما يحفظه من داخل ، والملبس والمسكن ، وذلك ما يحفظه [ ص: 348 ] من خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ، ومكمله ثلاثة أشياء ، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنا ، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته ; كالطلاق ، والخلع ، واللعان ، وغيرها ، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد ، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد ، وشرعية الحد والقصاص ، ومراعاة العوارض اللاحقة ، وأشباه ذلك .

وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم ، وأصوله في القرآن والسنة بينتها ، وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض ، وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان ، وهو في [ ص: 349 ] القرآن والسنة ، وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده والامتناع مما يفسده ، وهو في القرآن ، ومكمله شرعية الحد أو الزجر ، وليس في القرآن له أصل على الخصوص ; فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا ; فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة ، وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض ; فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف ، هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ، ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد ; فيحصل المراد أيضا وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه ; فإن الحاجيات دائرة على الضروريات وكذلك التحسينيات .

وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة ; فلم يتخلف عنها شيء [ ص: 350 ] والاستقراء يبين ذلك ، ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ، ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه .

ومن تشوف إلى مزيد ; فإن دوران الحاجيات على التوسعة ، والتيسير ، ورفع الحرج والرفق .

فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة ; كالتيمم ، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها ، وفي الصلاة بالقصر ، ورفع القضاء في الإغماء ، والجمع ، والصلاة قاعدا وعلى جنب ، وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض ، وكذلك سائر العبادات ; فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك ، وإلا ; فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها ، والسنة أول قائم بذلك وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص ; كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها ، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية .

وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق ، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع ، وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر ، وإباحة الطلاق من أصله ، والخلع وأشباه ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #167  
قديم 25-08-2022, 04:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (167)
صـ351 إلى صـ 370



وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير ، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب ، ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ، ومنه التوسعة في ادخار الأموال ، وإمساك ما هو فوق الحاجة منها ، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار .

وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره ، وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك ، كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه ; فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب ، وما فسر من ذلك في الكتاب ; فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه . وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات ; فإنها راجعة إلى العمل [ ص: 352 ] بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات ; كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات ، على رأي من رأى أنها من هذا القسم ، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك ، وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات ، وآداب الرفق في الصيام ، وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان ، وآداب الأكل والشرب ، ونحو ذلك ، وبالنسبة إلى النسل ; كالإمساك بالمعروف ، أو التسريح بالإحسان ، من عدم التضييق على الزوجة ، وبسط الرفق في المعاشرة ، وما أشبه ذلك ، وبالنسبة إلى المال ; كأخذه من غير إشراف نفس والتورع في كسبه واستعماله ، والبذل منه على المحتاج ، وبالنسبة إلى العقل ; كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها ، بناء على أن قوله تعالى : فاجتنبوه يراد به المجانبة بإطلاق .

فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا ، وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم ، وأشفى في الشرح ، وإنما المقصود هنا التنبيه ، والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه ، وبالله التوفيق .

ومنها : النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين ، وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع ، ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع ، وهو المبين في دليل القياس ولنبدأ بالأول : [ ص: 353 ] وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني ، وتبقى الواسطة على اجتهاد ، والتباين لمجاذبة الطرفين إياها ; فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ ; فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد ، وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة ; فيأتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه البيان وأنه [ ص: 354 ] لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي أو غيره وهذا هو المقصود هنا ويتضح ذلك بأمثلة أحدها : أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث ، وبقي بين هذين [ ص: 355 ] الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما ; فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر ; فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، وقال : إنها ركس .

وسئل ابن عمر عن القنفذ ; قال " كل " . وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ الأنعام : 145 ] فقال له إنسان : إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : هو خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر : إن قاله النبي صلى الله عليه وسلم فهو كما قال [ ص: 356 ] وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العذرة .

فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث ، كما ألحق عليه [ ص: 357 ] الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات [ ص: 358 ] والثاني : أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر ; كالماء ، واللبن ، والعسل وأشباهها ، وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ; فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ، ولكنه يوشك أن يسكر ، وهو نبيذ الدباء ، والمزفت ، والنقير وغيرها ; فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا ; سدا للذريعة ; ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل ; فقال عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن الانتباذ ; فانتبذوا و " كل [ ص: 359 ] [ ص: 360 ] مسكر حرام " وبقي في قليل المسكر على الأصل من التحريم ; فبين أن [ ص: 361 ] " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما ; فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين فكان البيان من رسول الله يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين .

والثالث : أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك ، وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما فصيده حرام ، إذ لم يمسك إلا على نفسه ; فدار [ ص: 362 ] بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده ; فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك ، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك ، فتعارض الأصلان ; فجاءت السنة ببيان ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه " وفي حديث آخر : " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا ; فإنما أمسكه عليك " وجاء في حديث آخر : إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن [ ص: 363 ] أكل منه الحديث [ ص: 364 ] وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين .

والرابع : أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا ، وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء ، وأبيح للحلال مطلقا ; فمن قتله فلا شيء عليه ، فبقي قتله خطأ في محل النظر ; فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ [ ص: 365 ] قال الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد ، وهو في الخطأ سنة والزهري من أعلم الناس بالسنن [ ص: 366 ] والخامس : أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن ، وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام ; فبين صاحب السنة صلى الله عليه وسلم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل .

فالأول قوله " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات الحديث .

ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة : واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه بعتبة ، الحديث [ ص: 367 ] وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد : فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها ; فلا تأكل ، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها .

وقال في بئر بضاعة ، وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات : خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة .

[ ص: 368 ] [ ص: 369 ] وجاء في الصيد : كل ما أصميت ودع ما أنميت .

وقال في حديث عقبة بن الحرث في الرضاع ; إذ أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته ، والمرأة التي أراد تزوجها ، قال فيه : كيف بها وقد زعمت أنها [ ص: 370 ] قد أرضعتكما ؟ دعها عنك إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #168  
قديم 25-08-2022, 04:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (168)
صـ371 إلى صـ 390



والسادس : أن الله عز وجل حرم الزنى ، وأحل التزويج وملك اليمين ، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع ; فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض ; فجاء في السنة ما بين الحكم في بعض الوجوه ، حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا ، أو في بعض الأحوال ، [ ص: 371 ] وبالأصل الآخر في حال آخر ; فجاء في الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ; فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها ; فلها المهر بما استحل منها ، وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة .

والسابع : أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات ، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث ، فدارت ميتة البحر بين الطرفين ; فأشكل حكمها ; فقال عليه الصلاة والسلام : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ، [ ص: 372 ] وروي في بعض الحديث : أحلت لنا ميتتان : الحيتان ، والجراد [ ص: 373 ] [ ص: 374 ] وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة . والثامن : أن الله تعالى جعل النفس بالنفس ، وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المؤمنون : 50 ] إلى آخر الآية ، هذا في العمد ، وأما الخطأ ; فالدية لقوله : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ النساء : 92 ] [ ص: 375 ] وبين عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله ; فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها ; فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ، ويشبه الإنسان التام لخلقته ; فبينت السنة فيه أن ديته الغرة ، وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له .

والتاسع : أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة ; فدار الجنين الخارج من بطن [ ص: 376 ] المذكاة ميتا بين الطرفين ; فاحتملهما ; فقال في الحديث : ذكاة الجنين ذكاة أمه ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال [ ص: 377 ] والعاشر : أن الله قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف [ النساء : 11 ] ; فبقيت البنتان مسكوتا عنهما ; فنقل [ ص: 378 ] في السنة حكمهما ، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين . ذكره القاضي إسماعيل فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها ; فإنه أمر واضح لمن تأمل ، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما ، أو إليهما معا ; فيأخذ من كل منهما بطرف ; فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما [ ص: 379 ] وأما مجال القياس ; فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها ، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها فيجتزي بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه ، وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصا في حكم العام معنى ، وقد مر في كتاب الأدلة بيان هذا المعنى ، فإذا كان كذلك ، ووجدنا في الكتاب أصلا ، وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه ; فهو المعنى هاهنا ، وسواء علينا أقلنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بالقياس أو بالوحي ; إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس ، والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة وله أمثلة .

أحدها : أن الله عز وجل حرم الربا ، وربا الجاهلية الذي قالوا فيه : [ ص: 380 ] إنما البيع مثل الربا [ البقرة : 275 ] هو فسخ الدين في الدين ، يقول الطالب : إما أن تقتضي وإما أن تربي ، وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [ البقرة : 279 ] ; فقال عليه الصلاة والسلام : وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ; فإنه موضوع كله .

وإذا كان كذلك ، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ; ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فمن زاد أو ازداد ; فقد أربى ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد [ ص: 381 ] ثم زاد على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف ، وعده من الربا لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ، ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا ، وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه ; لتقارب المنافع فيما يراد منها ; فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء ، وهو ممنوع ، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة [ ص: 382 ] إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة ; إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة .

ويبقى النظر : لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما ؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين ، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم ; فلذلك بينتها السنة ; إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين ، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال [ ص: 383 ] الاجتهاد ; فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس ; فتأمله . والثاني : أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح ، وبين الأختين وجاء في القرآن : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا ، وقد يروى في هذا الحديث : فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم والتعليل يشعر بوجه القياس .

والثالث : أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء ، وأنه أسكنه في الأرض ، ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر ; فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه الطهور ماؤه ، الحل ميتته .

والرابع : أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن ، ولم يذكر ديات الأطراف ، وهي مما يشكل قياسها على العقول ; فبين الحديث من دياتها ما [ ص: 384 ] وضح به السبيل ، وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره ; فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه .

والخامس : أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة : من النصف ، والربع ، والثمن ، والثلث ، والسدس ، ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث الآية [ النساء : 11 ] وقوله في الأولاد : للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] وقوله في آية الكلالة : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد [ النساء : 176 ] [ ص: 385 ] وقوله : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 176 ] فاقتضى أن ما بقي بعد الفرائض المذكورة فللعصبة ، وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين ; كالجد ، والعم ، وابن العم ، وأشباههم ; فقال عليه الصلاة والسلام : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ، وفي رواية : فلأولى عصبة ذكر ; فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه ، بعد ما نبه الكتاب على أصله .

والسادس : أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] فألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين سائر القرابات من الرضاعة التي يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ ، وبنت الأخت ، وأشباه ذلك ، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق [ ص: 386 ] بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق ، نصت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد ; فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ، وسائر ما جاء في هذا المعنى ، ثم ألحق بالإناث الذكور ; لأن اللبن للفحل ، ومن جهته در المرأة ، فإذا كانت المرأة بالرضاع أما ; فالذي له اللبن أب بلا إشكال .

والسابع : أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم ; فقال : رب اجعل هذا بلدا آمنا [ البقرة : 126 ] [ ص: 387 ] وقال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا [ العنكبوت : 67 ] وذلك حرم الله مكة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه ; فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها ، فقال : إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها [ ص: 388 ] وفي رواية : ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء .

وفي حديث آخر : فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا ; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ومثله في صحيفة علي المتقدمة ; فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة ، وقد جاء فيها قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام إلى قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم ، وارتكاب المنهيات [ ص: 389 ] على تنوعها ، حسبما فسرته السنة ; فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى . والثامن : أن الله تعالى قال : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ البقرة : 282 ] ; فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل ، وظهر به ضعف شهادتهن ، ونبه على ذلك في قوله : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل .

وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] ; دل على انحطاطهن عن درجة الرجل ، فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد ; فقضى عليه الصلاة والسلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى : [ ص: 390 ] إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس ، إلا أنه يخفى ; فبينته السنة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #169  
قديم 25-08-2022, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (169)
صـ391 إلى صـ 400




والتاسع : أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله ، وذكر الإجارة في بعض الأشياء ; كالجعل المشار إليه في قوله تعالى : ولمن جاء به حمل بعير [ يوسف : 72 ] والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى : والعاملين عليها [ التوبة : 60 ] وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها ; فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كثيرا ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين ، وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع ، ولا علينا أقصد النبي عليه الصلاة والسلام القياس [ ص: 391 ] على الخصوص أم لا ; لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان .

والعاشر : أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين ، وكانت رؤيا صادقة ، ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام ذلك ، وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة ، وأنها من المبشرات ، وأنها على [ ص: 392 ] أقسام إلى غير ذلك من أحكامها ، فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم ، وهو المعنى الذي في القياس ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة .

ومنها : النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان ; فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد ، بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ، ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله عليه الصلاة والسلام : [ ص: 393 ] لا ضرر ولا ضرار من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث ; فلا معنى للإعادة .

ومنها : النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن ، وإن كان في السنة بيان زائد ، ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى أو منصوصا عليه في القرآن ، ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته [ ص: 394 ] [ ص: 395 ] وله أمثلة كثيرة : أحدها : حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض ; فقال عليه الصلاة والسلام لعمر : مره فليراجعها ، ثم ليتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ; فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء يعني : أمره في قوله : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] والثاني : حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها [ ص: 396 ] سكنى ولا نفقة ; إذ طلقها زوجها ألبتة وشأن المبتوتة أن لها السكنى ، وإن لم يكن لها نفقة ; لأنها بذت على أهلها بلسانها ; فكان ذلك تفسيرا لقوله : ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ الطلاق : 1 ] . والثالث : حديث سبيعة الأسلمية ; إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن قد حلت ; فبين الحديث أن قوله [ ص: 397 ] تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] مخصوص في غير الحامل ، وأن قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] عام في المطلقات وغيرهن . والرابع : حديث أبي هريرة في قوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم [ البقرة : 59 ] قال : قالوا حبة في شعرة يعني : عوض قوله : وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] [ ص: 398 ] والخامس : حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا ; فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة : 125 ] ; فصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه ، ثم قال : نبدأ بما بدأ الله به ، وقرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] . والسادس : حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : وقال ربكم ادعونى أستجب لكم [ غافر : 60 ] قال : الدعاء هو العبادة ، وقرأ الآية إلى قوله : داخرين [ غافر : 60 ] . والسابع : حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر [ البقرة : 187 ] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 399 ] إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل . والثامن : حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الوسطى صلاة العصر .

وقال يوم الأحزاب : اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة [ ص: 400 ] الوسطى حتى غابت الشمس . والتاسع : حديث أبي هريرة : قال عليه الصلاة والسلام : إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ آل عمران : 185 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #170  
قديم 25-08-2022, 04:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (170)
صـ401 إلى صـ 410



والعاشر : حديث أنس في الكبائر : قال عليه الصلاة والسلام فيها : [ ص: 401 ] الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، وقول الزور ، وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر ، وجميعها تفسير لقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] وهذا النمط في السنة كثير ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على شرط النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب أو نحوها ، وأول شاهد في هذا الصلاة ، والحج ، والزكاة والحيض ، والنفاس ، واللقطة ، والقراض ، والمساقاة ، والديات ، والقسامات ، وأشباه ذلك من أمور لا تحصى ; فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ، ولا العلماء الراسخون في العلم .

ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه ; فلم يوف به إلا على التكلف المذكور ، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة ; فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد [ ص: 402 ] وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه المسند الصحيح ، دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه ، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث ، وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب ، والله الموفق للصواب .
فصل

وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا إن القرآن لم ينبه عليها ; فقوله عليه الصلاة والسلام : يوشك رجل منكم متكئا على أريكته إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه ; فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه ، بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى ، وقوله : ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله صحيح على الوجه المتقدم ; إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه ، وإما بالطريقة القياسية ، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة .

ومر الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها ، وتحريم كل [ ص: 403 ] ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وعن العقل .

وأما فكاك الأسير ; فمأخوذ من قوله تعالى : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [ الأنفال : 72 ] وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر ، والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر ، فهو مما يرجع إلى النظر القياسي .

وأما أن لا يقتل مسلم بكافر ; فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] وقوله : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة [ الحشر : 20 ] وهذه الآية أبعد ، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها علي خارجة عن القرآن ; حيث قال : ما عندنا إلا كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر ، ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم ; لأن الله تعالى قال : الحر بالحر والعبد بالعبد [ البقرة : 178 ] [ ص: 404 ] فلم يقد من الحر للعبد ، والعبودية من آثار الكفر ; فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر وأما إخفار ذمة المسلم ; فهو من باب نقض العهد ، وهو في القرآن ، وأقرب الآيات إليه قوله تعالى : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار [ الرعد : 25 ] وفي الآية الأخرى : أولئك هم الخاسرون [ البقرة : 27 ] وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن ، وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه ; فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل .

وأيضا ; فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء ، كما هو في الانتساب إلى غير الأب ، وقد قال تعالى فيها : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون [ النحل : 72 ] وصدق هذا المعنى ما في الصحيح من قوله : أيما عبد أبق من مواليه ; [ ص: 405 ] فقد كفر حتى يرجع إليهم .

وفيه : إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ، وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ، ولا حصل بيانه فيه ; فهو مبين في السنة ، وإلا ; فالاجتهاد يقضي عليه ، وليس فيه معارضة لما تقدم .
[ ص: 406 ] المسألة الخامسة

حيث قلنا إن الكتاب دال على السنة ، وإن السنة إنما جاءت مبينة له ; فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك ، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف ، وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين : أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن ; فهذا لا نظر في أنه بيان له ; كما في قوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة [ البقرة : 58 ] قال : دخلوا يزحفون على أوراكهم .

وفي قوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم [ البقرة : 59 ] قال : قالوا : حبة في شعرة .

وفي قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية [ البقرة : 143 ] ; قال : يدعى نوح فيقال : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما أتانا من أحد فيقال من شهودك ؟ فيقول : محمد وأمته قال : فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ ; فذلك قول الله : [ ص: 407 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] وفي قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] قال إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله .

[ ص: 408 ] وفي قوله : بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران : 169 ] إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش إلى آخر الحديث [ ص: 409 ] وقال : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية [ الأنعام : 158 ] : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها وفي قوله : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية [ الأعراف : 172 ] قال : لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ! من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك الحديث [ ص: 410 ] وفي قوله : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ هود : 80 ] قال : يرحم الله لوطا ، كان يأوي إلى ركن شديد ; فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 206.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 200.56 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]