الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 11 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4593 - عددالزوار : 1301450 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4138 - عددالزوار : 828228 )           »          جرائم الرافضة.. في الحرمين على مر العصور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 116 )           »          المستشارة فاطمة عبد الرؤوف: العلاقات الأسرية خير معين للأبناء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 114 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13156 - عددالزوار : 348686 )           »          الحياة الإيمانية والحياة المادية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 176 )           »          وَتِلْكَ عَادٌ... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 305 )           »          معركة شذونة.. وادي لكة.. وادي برباط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 311 )           »          أخــــــــــلاق إسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 842 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 2929 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #101  
قديم 15-09-2024, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (101) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
فيه فوائد:
الأولى: اهتمام الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم- بدعوة أسرهم وأقاربهم؛ فإبراهيم بدأ بدعوة أبيه، وهكذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما وَقَف على الصفا، ونادى قريش فعم وخص، وقال: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، ‌يَا ‌صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ ‌لَا ‌أُغْنِي ‌عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (رواه مسلم).
فعلى الداعي إلى الله أن يهتم بدعوة أهله وأسرته، وألا ينشغل عنهم بدعوة الآخرين قبل دعوتهم، قال الله -تعالى-: (‌يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، قال علي بن أبي طالب: "علِّموهم وأدبوهم".
فإهمال البيت حتى يحصل فيه مِن ترك الالتزام بالدِّين مِن بعض أفراده، خطر عظيم على مستقبل الدعوة وقبولها بين الناس، وإن كنا بلا شك نوقن بأن الهداية من الله، وإن وجود أبناء الأبناء وآباء الأنبياء على غير التوحيد والإيمان أمرًا قد ذكره الله لنا في القرآن مواساة وتصبيرًا لمَن كان بعض أهله على غير الحق، لكن هذا بعد بَذْل الوسع واستفراغ الجهد في دعوة الأسرة، والحرص على طاعتهم لله -عز وجل-، لكن مع التقصير يكون الداعي مسئولًا عن ذلك، وتكون دعوته مطعونًا فيها عند الناس؛ فلا بد من الاهتمام بذلك.
الفائدة الثانية: إنكار إبراهيم صلى الله عليه وسلم على قومه عبادة الأصنام قبل أن ينظر في النجم والقمر والشمس، يدل دلالة واضحة على أنه كان يناظرهم، وليس ناظرًا باحثًا عن ربِّه سبحانه وصحة ربوبيته؛ لأنه كيف يستنكر عبادة الأصنام التي ترمز عندهم إلى النجوم التي اتخذوها آلهة، ويرى ذلك ضلالًا مبينًا، ثم يذهب يبعد النجم والقمر والشمس؛ فهذا ضلال مبين مماثل لعبادة الأصنام الرمزية، ولقد دَلَّ الكتاب والسنة على أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، كان مناظرًا لقومة وليس ناظرًا؛ فأما الكتاب: قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء:51)، فآتاه الله عز وجل رشده: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ‌مَا ‌هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء: 52)، فقد كان على رشده، وليس لا يزال باحثًا.
وأما السنة فهي أصرح؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل الذي رواه مسلم وغيره في مجيء الناس لإبراهيم، قال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: "لستُ لها، لستُ لها، إني كذبتُ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله"، وذكر منها قوله عن الكوكب: "هذا ربي"، وهذا صريح في أنه كذبها في ذات الله؛ لإقامة الحجة على قومه في بطلان عبادة آلهتهم، وليس أنه كان يقولها معتقدًا لذلك؛ وإلا لما كانت في ذات الله -سبحانه وتعالى-، فكونها في ذات الله، أي: لأجله -سبحانه وتعالى-، وكان ذلك تعريضًا في حقيقة الأمر -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.
فالصواب الذي لا شك فيه: أن إبراهيم كان مناظرًا لقومه ولا يعتد بقول مَن قال: إنه كان ناظرًا باحثًا عن الله.
الفائدة الثالثة: بيان القرآن أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد دعا أباه في هذا الموضع، وفي غيره من مواضع القرآن، كقوله -تعالى-: (‌وَاذْكُرْ ‌فِي ‌الْكِتَابِ ‌إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) (مريم: 41-42).
فمحال أن يكون الله قد أخبرنا في جميع المواضع التي ذُكِرت في القرآن، وكذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السنة، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَلْقَى ‌إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ ‌إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ ‌لَا ‌أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ ‌إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا ‌إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ) (رواه البخاري).
وكلها صريحة في أنه يخاطب أباه، وليس أنه يخاطب عمه تأدبًا، فالخبر ليس فيه تأدب، وإنما فيه الخبر عن الحقيقة؛ فلا يصح أن يكون بعد ذلك رجلًا آخر غير أبيه؛ أنه عمه كما زعم مَن ينقل عن أهل الكتاب، بل نقول: صدق الله، وكذب النسابون وأهل الكتاب، وهذه المسألة يجادل فيها كثيرٌ مِن الناس لا لمجردها، بل لاستبعادهم كفر آباء الأنبياء أو أولادهم، وكذلك فعلوا في قصة نوح مع ابنه، فزعموا أنه ليس ابنًا له؛ ولذا قال ابن عباس ردًّا على ذلك: "ما بغت أو ما زنت امرأة نبي قط".
وفي حقيقة الأمر: لو تأملوا هذه المسألة؛ لعلموا أن البشرية جميعًا هي من ذرية آدم ونوح، وهما من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهما-، وبالقطع فيهم مشركون وكفار لا يحصيهم إلا الله، وهذه المسألة عند الصوفية إنما يمهِّدون بها لنفي أحاديث كفر والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي في الصحيح ولا وجه لردها، مثل الحديث الذي في صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ ‌أَبِي ‌وَأَبَاكَ ‌فِي ‌النَّار).
ومثل حديث زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقبر أمه، وإذن الله -عز وجل- له في الزيارة، ثم استئذانه أن يستغفر لها، فلم يأذن الله له، وهي في صحيح مسلم.
وكل هذه المحاولات لمخالفة ظاهر الكتاب والسنة هي تمهيد للغلو في آل البيت، وفي ذريتهم كذلك؛ لكي لا ينسب إلى مَن ادَّعى أنه مِن أهل البيت منكرٌ ولا باطل، ولا شرك؛ فكل ما يفعله مَن كانوا مِن أهل البيت -وجميع مَن نسبوهم إلى الولاية يدعون أنهم مِن أهل البيت-، يقولون بأنواع الشرك، والقول بوحدة الوجود، وغير ذلك مِن الضلالات، مِن: ترك الصلاة، وترك الجمع والجماعات، والاطلاع على ما في قلوب الخلق، والقدرات الهائلة، مع كونهم إنما استنكروا عليهم ترك الصلاة، وغير ذلك؛ فإذا قيل: هؤلاء من أهل البيت، وهؤلاء من ذرية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويستحيل أن يقعوا في شرك أو ضلال؛ فلا بد إذًا أن تقبلوا ما يقولون!
وكل هذا من مظاهر الغلو في آل البيت، بل وصل الأمر ببعضهم أن دافع عن أبي لهب -لعنه الله-، وجوَّز أن يكون مصيره إلى الجنة، وهذا تكذيب للقرآن!
واحتجوا بأنه يجوز عند الأشاعرة أن يعذِّب اللهُ الأنبياءَ، وأن ينعِّمَ الكفار والمشركين، بل وإبليس، وفرعون، وأن يجعلهم في أعلى الدرجات، وأن العقل لا يحيل ذلك، لكن الخبر وَرَد بغير ذلك؛ فأهملوا الجزء الأخير، وقالوا بالأُولى، وقالوا: يفعل الله ما يشاء! وكأن الله عز وجل لم يخبرنا بما شاءه لإبليس، وفرعون، وأبي لهب، وغيرهم ممَّن نص الكتاب والسنة على مصيرهم في الآخرة؛ فلا يجوز ان يخلف الله عز وجل وعده ولا وعيده، كما يزعمون بأنهم يقولون: إن إخلاف الوعيد ليس مذمومًا، وغفلوا عن أن هذا فيه كذب في الخبر، ولا يمكن أن يُحمَل عليه كلام الله، بل مَن يقول ذلك يكون كافرًا.
وبعضهم كره قراءة "سورة المسد" في الصلاة! وهذا من الضلال المبين، وبعضهم يجادل بالباطل في إيمان أبي طالب، ويزعم أنه مؤمن في الباطن، وناجٍ يوم القيامة استنادًا منهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، مع صحة الحديث المتفق عليه في موت أبي طالب على الشرك، كما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن المسيب عن أبيه قال: ‌لَمَّا ‌حَضَرَتْ ‌أَبَا ‌طَالِبٍ ‌الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُمْ ‌أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) (القصص: 56) (متفق عليه).
وذلك كله للمجادلة في أن ملة عبد المطلب التي مات عليها أبو طالب هي الشرك، وكل هذا من مظاهر تقديم آراء الشيوخ والعاطفة الجاهلة على نصوص الكتاب والسنة!
والمسألتان اللتان ضلَّ فيهما مَن انتسب إلى مذهب الأشعري في مسألة أن الإيمان هو المعرفة، والمبالغة في نفي التحسين والتقبيح العقليين حتى جوَّزوا أن يعذِّب الله الأنبياء والملائكة، وينعِّم الكفارَ، وأن ذلك جائز عقلًا، لولا الخبر؛ كلا المسألتين مِن أبطل ما نُقِل عن الأشعري -غفر الله له ورحمه-، وقد نُقِل عنه خاصة في مسألة الإيمان غيرُ ذلك؛ لأنه قال في "الإبانة" بأن الإيمان قول وعمل، وليس هو المعرفة فقط؛ فإنهم زَعَموا أن أبا طالب عَالِم بقلبه، ولكنه لم ينطق الشهادتين فهو عندنا ليس بمسلم، ولكنه عند الله مؤمن، والنجاة للمؤمنين، وهذا كله من الضلال البيِّن الذي لا بد مِن ردِّه، والله أعلى وأعلم.
وللحديث بقية إن شاء الله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #102  
قديم 15-09-2024, 02:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (102) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (6)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
الفائدة الرابعة:
الوضوح في الدعوة إلى الله وبيان ضلال الباطل، ضرورة من ضرورات الدعوة الربانية، وقد صَرَّح إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه بأنه يراه وقومه في ضلال مبين؛ لأنه يتخذ الأصنام التي نحتوها آلهة، وهذه أول مراتب البراءة من الشرك، وهذا فيه أوضح الردِّ على زنادقة زماننا ممَّن يأبون وصف الملل المخالفة للدين الإسلامي بالضلال والكفر، بل يعتبرون مَن يفعل ذلك تكفيريًّا ومتطرفًا، وشاذًّا، إلى غير ذلك من الأقوال المنفِّرة للناس عن الحق بتسميته بغير اسمه، وتسمية الباطل بأنه مِن: الحرية، والمساواة، وغير ذلك!
وشر من ذلك: التصريح بإيمان الكفار من اليهود والنصارى، وغيرهم، والمناداة بمساواة الأديان، وأن حقيقتها واحدة وإن عَبَدوا البقر وعبدوا الأشخاص: كبوذا، وعبدوا الصليب والمسيح، والأحبار والرهبان، وعزير؛ فكل ذلك حقيقته واحدة عندهم -نعوذ بالله من هذا الضلال-.
بل بعضهم يتبرك بأصنامهم، ويهمس في أذن بقرتهم المقدسة! يطلب منها حاجته كما يطلبون، وبعضهم يصرح بجواز تسمية قتلاهم بالشهداء، وبعضهم يصلي عليهم صلاة الجنازة التي يصليها المسلمون، ويقرا فيها الفاتحة على أرواحهم، وهي التي تنص على ضلالهم!
ولا شك أن القول بوحدة الأديان كفر صريح؛ لأنه يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم" مِن أصلها؛ إذ تصحيح ملة مَن يعبد غير الله يهدم شهادة: "أن لا إله إلا الله"، وتصحيح ملة مَن يكذِّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهدم شهادة: "أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، عند القائل بذلك؛ فلا بد لأهل العلم والدعوة أن يبينوا بكلِّ جلاء ووضوح: أن كلَّ ما يخالف دين الإسلام، هو ضلال مبين.
الفائدة الخامسة:
هذا الوضوح في بيان ضلال ملل الكفر لا ينافي حسنَ الأسلوب في الدعوة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ‌عَنْ ‌سَبِيلِهِ ‌وَهُوَ ‌أَعْلَمُ ‌بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)؛ لأن مطالبةَ الكفار بترك دينهم الباطل لا يعني أن نسبَّهم ونسبَّ آلهتهم إذا كان يترتَّب على ذلك المفسدة الراجحة، كما قال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَسُبُّوا ‌الَّذِينَ ‌يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (الأنعام: 108).
ولكن ليس معنى ذلك أن نوهمَ الناس باعترافنا بآلهتهم، أو صحة عبادتها، بل نتكلَّم بالكلام الحَسَن، نحو: "يا أبتِ، يا قومي، يا عمي"، كما قال إبراهيم -عليه السلام- لأبيه، وقالها كل الأنبياء -عليهم السلام- لأقوامهم: "يا قوم"، وقالها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "يا عم"؛ تذكيرًا برابطة النَّسَب أو القومية، التي تقتضي مزيدَ النصح ورعاية الحق بالدعوة إلى الحق -سبحانه-، وكما قال نوح -عليه السلام- لابنه: (يَا بُنَيَّ ‌ارْكَبْ ‌مَعَنَا) (هود: 42).
وما أروعَ الأسلوب الذي استعمله مؤمن آل ياسين في التَّلَطُّف لبيان الحق في نسبة الكلام إلى نفسه في قوله -رضي الله عنه-: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ ‌الَّذِي ‌فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يس: 22-25).
فبيَّن الضلالَ الذي هم عليه منسوبًا إلى نفسه لو فعل فعلهم، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان أوضح في التصريح بالضلال؛ لحاجتهم إلى ذلك التصريح في إقامة الحجة، كما كانوا يحتاجون حتى تتضحَ لهم الحجة في عجز الأصنام وعدم قدرتها في الدفاع عن نفسها إلى كسر الأصنام التي كسرها إبراهيم إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون.
وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد:
الأولى: أن الله خالق أفعال العباد، وخالق نَظَرِهم، وخالق قدرتهم، وخالق مشيئتهم؛ يري مَن شاء هدايته ملكَه -سبحانه- الظاهرَ تمام الظهور في السماوات والأرض، والله -سبحانه- كما أرى إبراهيم ضلالَ أبيه وقومه في عبادة الأصنام، فكذلك هو الذي أراه مُلْكَ الله في السماوات والأرض، ولتكون هذه الرؤيا من إبراهيم سببًا لحصول اليقين في قلبه بالوحدانية، فالله الذي أرى إبراهيم الذي رأى، وإبراهيم هو الذي أيقن، والله هو الذي جعله بهذه الأسباب التي هداه لها مِن الموقنين؛ فالعبد هو الفاعل لأفعاله، والله هو الذي جعله فاعلًا، فالعبد هو المهتدي والله هداه، والعبد هو الذي ضلَّ والله أضله، والله -عز وجل- خَلَقَ هذه النتائج بأسباب قدَّرها، وهو أيضًا الذي خلقها -سبحانه وتعالى-.
فطريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبةٌ مِن الله ومِنَّة؛ إذا أراه أدلة ملكة في خلقها، ثم في تدبيرها.
والخذلان -وهو خلق الضلال في قلب العبد- مِن خلقه أيضًا -سبحانه وتعالى-؛ فهو الذي خَذَل مَن خذل، وأضل مَن أضل؛ بحكمته، وعدله، وعلمه -سبحانه وتعالى- بالمهتدين، وعلمه بالظالمين، وعلمه بالشاكرين، وعلمه بما يناسب كل عبد؛ فهو يوفِّقه لما شاء كيف شاء، وهو -سبحانه- الذي يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، وهو الذي جَعَل الخبيث في الأرض النكدة؛ فلا يخرجُ إلا نكدًا، وهو سبحانه وتعالى الحكيم العليم، الحَكَم العَدْل، ومَن تأمل مظاهر أسمائه وصفاته في الكون أيقن بوحدانيته، وربوبيته، وإلهيته.
والله المستعان.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #103  
قديم 15-09-2024, 02:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (103) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (7)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد:
الثانية: إن طريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبة من الله -عز وجل- ومِنَّة وتوفيق؛ إذ أراه أدلة ملكه في السماوات والأرض، في خلقها ثم في تدبيرها لحظة بلحظة، بما يظهر للقلب معاينة آثار الملك، فهذه الكائنات تعجز عن خلق نفسها؛ إذ هي مدبَّرة في حركاتها وسكناتها، فالشمس التي نراها تشرق وتغرب هي كائن جماد لا يملك لنفسه شيئًا، وكذلك القمر، وهذه الأرض بما فيها من جبال منصوبة، وأرض مبسوطة، وأنهار جارية، وأمطار نازلة؛ كل قطرة منها بقدر نزلت في وقت محدد هي لم تحدده، واستقرت في باطن الأرض في مكان لم تحدده الأرض، ولا القطرة، ولا السحابة، أو جرت في مجرى النهر؛ هي لم تصنع أخدوده، ولا حددت قوانين قوى سير الماء واندفاعه!
بل هذه الأجرام السماوية في دقتها وإتقانها مع كبر حجمها الهائل بالنسبة لنا، (‌لَخَلْقُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌أَكْبَرُ ‌مِنْ ‌خَلْقِ ‌النَّاسِ) (غافر: 57)؛ لها قوانينها في حركتها، وقَدْر يومها وليلها ونهارها وسنتها، وتكوين أجزائها وتربتها وغلافها الجوي، والتفاعلات الهائلة التي تفوق إدراكنا في باطنها؛ كتلك الانفجارات داخل الشمس، ففي كل ثانية يتولد منها طاقة هائلة تصل إلى جميع أجزاء المجموعة الشمسية بنسب متفاوتة، ولكنها مقدَّرة من حرارة وإشعاع، ونور، ومغناطيسية، وطاقات نووية، وغيرها، مما لا نحيط به علمًا؛ مما يجزم معه كلُّ عاقل بأن خالقها ومدبرها له كمال العلم، وكمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الخبرة، وكمال العدل.
وكذلك فيما يجري على الأرض من موت وحياة لا يملكها أعلى المخلوقات شأنًا، في العقل والقدرة، والعلم والإدراك، وهو: الإنسان؛ إذ هو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وقطعًا هو لا يملك كذلك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لما حوله مِن الكائنات الحية، وهي الموت والحياة يحدث فيها في كلِّ لحظة وفي كل دقيقة، وإن كان البعضُ قد يتصوَّر أنه يحيي ويميت، ولكنه مجرد سبب محدود للغاية، وأما مليارات عمليات الإحياء والإماتة فيستحيل أن ينسبها إنسان إلى نفسه، أو إلى غيره مِن الخلق، وهي موجودة أمامه يشهدها بكلِّ وضوح تقع في كلِّ أجزاء الأرض.
وكذلك لوازم الحياة مِن: الهواء، والغذاء، والماء، واستعمال كل هذه الطاقات المبذولة بكلِّ إتقان في الانتفاع بها داخل أجساد هذه الكائنات من خلال ملايين المواد، وملايين التفاعلات في كلِّ لحظة وثانية في كل خلية من الخلايا، ثم كل في عضو من الأعضاء، ثم كل في كل جهاز من الأجهزة، ثم في انتظام الجسم كله بما لا يحيط به مخلوق ساعة حصوله في داخله؛ فضلًا عن غيره، وهو لا يملك من ذلك ذرة واحدة، ولا خلية واحدة، ولا يملك موتها ولا حياتها، ولا يملك حركة واحدة لا يطرف إلا بأمر خالقه ومدبره، ولا يمسك بيده، ولا يتحرك برجله، ولا يفكر بعقله إلا بإذن الغني الحميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ‌أَنْتُمُ ‌الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر: 15-17).
وكذلك الانتفاع بالغذاء والمواد الغذائية داخل الخلايا لتحترق؛ لتخرج الطاقة التي تحرِّك هذا المخلوق وتجعله يفكِّر ويتذكَّر، ويحفظ ويتعلم، ويحلل ويستنتج؛ بأدوات لم يصنعها هو، ولا يملك منها شيئًا، مثل: عقله، وقلبه، ويده ورجله، ومخه وعظمه، وشرايينه وأوردته، وأعصابه وعضلاته، وهو يرى ذلك أمامه كما يراه كل الناس؛ لكن مَن الذي انتفع بالنظرة؟!
ومَن الذي نظر كالأبله أو الأعمى؛ لا يرى؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ‌خَلَقُوا ‌كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16)، فالله الذي أرى مَن شاء ملكه في السماوات والأرض، وطَبَع على قلب مَن شاء فأضله بعدله وعلمه وحكمته؛ بإعراضه عن التفكير السديد، بعد أن أعطاه الله أدواته، فسبحانه وبحمده -ونسأل الله أن يهدينا فيمَن هدى مِن عباده الصالحين-.
وقد ذكر الله -عز وجل- امتنانه على إبراهيم بأنه أراه ملكوت السماوات والأرض، وأنه بهذه الرؤيا صار مِن الموقنين: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، وهذا اليقين إنما هو نابع مِن شهودٍ تامٍّ لربوبية الله -سبحانه وتعالى-، وأفعاله في الكون؛ التي يستحيل أن ينكرها أحدٌ، ويستحيل أن يدعيها أحدٌ، ويستحيل أن ينسبها أحدٌ إلى مجرد الصُّدَف العمياء، نعوذ بالله من الضلال!
وهذا الأمر الذي لا يقبله عاقلٌ إذا وَجَد مجرد حفرية يسيرة في أدوات حَجَريَّة منذ ملايين السنين، بل يجعلها دليلًا قطعيًّا على وجود صانعٍ لها، هو الإنسان العاقل، وأن ذلك دليل على وجود الإنسان في ذلك العمر؛ لأن القرود -فضلًا عن الطيور، فضلًا عن الضفادع والأسماك- يستحيل بكلِّ حال من الأحوال أن تصنع هذه الأدوات الحجرية، وإذا وَجَد التماثيل عَلِم أنها من صنع اليونان أو الرومان أو الفراعنة، أو غيرهم؛ فدلَّ ذلك يقينًا عنده لا يحتمل التردد على وجود صانع لها؛ فكيف بهذا الكون العظيم الذي فيه هذه المعجزات الباهرة والأحداث التي تقع في كلِّ ثانية بكمال الإتقان والإحسان؟! فلا بد لها مِن صانع -سبحانه وتعالى-.
ولذلك كانت هذه الطريقة هي التي يستعملها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لأنها أقصر طريقة إلى اليقين، بعيدًا عن الجدل الكلامي، والمناقشات الفلسفية التي لا تُثمِن ولا تغني من جوع؛ قال الله -عز وجل- عن فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28).
وقال -سبحانه وتعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53)، وقال -سبحانه-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (إبراهيم: 10)، وقال -سبحانه وتعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3).
هذه هي طريقة الكتاب والسنة، وطريقة عقلاء هذه الأمة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنها الطريقة الحقيقية التي يوصل بها إلى اليقين.
نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بكمال اليقين، وأن يزيدنا علمًا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #104  
قديم 15-09-2024, 02:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (104) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (8)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الكريمة:
دَلَّ قوله -تعالى-: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على عظم منزلة اليقين؛ إذ هو مِن منازل الأنبياء الذين يرقيهم الله -عز وجل- في رؤية ملكوته ليصلوا إليه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: (ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: "منزلة اليقين"، وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون. وعَمَلُ القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا تزوج الصبر باليقين: وُلِد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال الله -تعالى-، وبقوله يهتدي المهتدون: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
وخَصَّ -سبحانه- أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال -وهو أصدق القائلين-: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 20)، (قلتُ: وقد دَلَّتِ الآيةُ على أنه لا يَرَى الآيات إلا الموقنون؛ لأن كلَّ الناس يرون ما يرون في الأرض من إحيائها بعد موتها، ونمو النبات فيها، ووجود الموت والحياة فيها وهم لا يعون أنها آيات، وإنما ينتفع بذلك مَن أيقن وحدانية الله).
قال: وخَصَّ أهلَ اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: 4 - 5).
(قلت: وهذه الآية دليل على وجوب اليقين بالآخرة، كما يجب اليقين بالله -عز وجل- ووحدانيته، ولا هدى إلا بذلك، وذلك يحصل في قلب العبد إذا صدَّق تصديقًا جازمًا لا شك فيه؛ فأول درجات اليقين: زوال الشك، ثم قد ينتقل إلى منزلة أعلى من مجرد زوال الشك التي يكون معه فيها احتمال الفتنة إذا فُتِن؛ فالذين في درجة زوال الشك كمُسْلِمَة الأعراب الذين قال الله -عز وجل- عنهم: (‌قَالَتِ ‌الْأَعْرَابُ ‌آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 14-15).
وكذلك هؤلاء الذين في منزلة زوال الشك فقط، دون أن يصلوا إلى مراتب اليقين الأعلى، مثل مَن قال الله فيهم: (‌وَمِنَ ‌النَّاسِ ‌مَنْ ‌يَعْبُدُ ‌اللَّهَ ‌عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11)، فهؤلاء قبل الفتنة في حالٍ ناقصٍ من اليقين، لكن ليس عندهم الشك المحبط للإيمان، لكن إذا فُتِنوا افتتنوا، فزال عنهم الإيمان، والواجب على المؤمن إذا فُتِن أن لا يفتن؛ لأن يقينه يقاوم الشبهات التي يلقيها الشيطان عند الفتنة، فهؤلاء الذين إن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، قد خَرَجوا من الإيمان عند الفتنة، وكذلك مِن هؤلاء مَن قال الله -عز وجل- عنهم مِن المنافقين: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ‌إِلَّا ‌يَسِيرًا) (الأحزاب: 14)، فهؤلاء قبل أن تُدخَل عليهم المدينة لم يكونوا كفارًا، ولا منافقين النفاق الأكبر، بل عندهم شعبة نفاق؛ لأن المنافقين النفاق الأكبر يفرحون بأن تُدخل عليهم المدينة، ولا يتوقفون عن إعطاء الشرك إذا طُلِب منهم، بل قبل أن يطلب منهم، وأما هؤلاء فإنهم يتوقفون قليلًا ثم يعطون ذلك، فإذا قدَّر الله أن لا تدخَل عليهم بقوا على إيمانهم الضعيف الذي لم يصل إلى درجات اليقين الواجبة.
ثم بعد ذلك هناك درجة من اليقين والتصديق، هي درجة أعلى مِن ذلك، وهي درجة عدم الفتنة إذا اُفتُتِن وإن بقيتِ الوساوس؛ فالوساوس لا تقدح في أصل الإيمان، ولا الإيمان الواجب، بل هي تقدح في كماله؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن سأله: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَاكَ ‌صَرِيحُ ‌الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فالذي يدافع الوسوسة عنده اليقين الواجب، وأما مَن هو في المنزلة أعلى مِن ذلك؛ فهو الذي لا تأتيه الوساوس، وقد اطمئن قلبُه بأدلة اليقين.
وأما ما هو أعلى مِن ذلك؛ فهو درجة المعاينة التي سألها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ‌وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ ‌قَلْبِي) (البقرة: 260)، والتي أعطاها الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دون سؤالٍ؛ قال -تعالى-: (‌أَفَتُمَارُونَهُ ‌عَلَى ‌مَا ‌يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 12-18)؛ رأى جبريل -عليه السلام-، ورأى الجنة والنار في آياتٍ أراه الله -عز وجل- إياها).
قال: وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا مِن أهل اليقين، فقال -تعالى-: (‌وَإِذَا ‌قِيلَ ‌إِنَّ ‌وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية: 32).
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره.
وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ترضين أحدًا بسخط الله، ولا تحمدن أحدًا على فضل الله، ولا تذمن أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، وإن الله بعدله وقسطه جَعَل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" (قلتُ: صحيح موقوفًا، وليس معناه: أن لا يشكر الإنسان الناس على ما أحسنوا إليه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يَشْكُرُ ‌اللَّهَ ‌مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ ‌النَّاسَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ولكن المعنى أن لا تحمدهم على أنهم مصدر النعمة، وأنهم هم الذين تولوا إسداءها إليك من دون الله، وإنما هم أسباب يسرها الله -عز وجل- لكَ؛ لكي تصلك النعمة، وكذلك الذم على ما لم يؤتك الله؛ فأنت تنظر أولًا إلى أن هذا لم يكن لك برزق طالما فاتك؛ فإن (‌مَا ‌أَصَابَكَ ‌لَمْ ‌يَكُنْ ‌لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يذم الناس على تقصيرهم: كالسارق الذي سَرَق من الناس ما لا يستحق، والغاش والمختلس والمغتصب؛ فكل هؤلاء مذمومون بلسان الشرع؛ نذمهم على ذلك، ولا نظن أنهم منعوا عنا رزق الله).
قال: واليقين قرين التوكل؛ ولهذا فُسِّر التوكل بقوة اليقين. والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته، ولهذا حَسُن اقتران الهدى به؛ قال الله -تعالى-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل: 79)، فالحق هو اليقين، وقالت رسلُ الله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) (إبراهيم: 12)، ومتى وصل اليقينُ إلى القلب؛ امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريب وشك وسخط، وهم وغم؛ فامتلأ محبة لله وخوفًا منه، ورضًا به، وشكرًا له، وتوكلًا عليه، وإنابة إليه؛ فهو مادةُ جميع المقامات، والحاملُ لها.
واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي؟ (قلتُ: أي: هل يستطيع العبد أن يكتسبه أم هو مجرد هبة من الله؟).
فقيل: هو العلم المستودع في القلوب؛ يشير إلى أنه غير كسبي.
وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان، ولا ريب أن الإيمان كسبي.
والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه، موهبي باعتبار نفسه وذاته.
(قلتُ: معناه: أن العبدَ عليه أن يأخذ بالأسباب التي يحصل بها اليقين مِن النظر في ملكوت السماوات والأرض، ثم الله -عز وجل- هو الذي يخلق اليقين في قلبه، على العبد أن ينظر في أدلة الكتاب والسنة التي تأخذ بالقلب إلى اليقين، ولكن الله -عز وجل- هو الذي يري العبد الآيات، وهو الذي يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم).
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر).
وقال سبحانه و-تعالى-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة: 95).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #105  
قديم 15-09-2024, 02:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (105) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (9)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله تعالى: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).
الفائدة الثالثة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في شرحه "مدارج السالكين على منازل السالكين" للشيخ الهروي: أن اليقين على ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وذَكَر في علم اليقين أنه ثلاث مراتب، (قلتُ: وهي في الحقيقة ثلاثة أمور؛ لأنها كلها متلازمة وواجبة).
قال -رحمه الله-: "الأولى: قبول ما ظَهَر من الحق -تعالى-، وهي أوامره ونواهيه وشرعه، ودينه الله الذي ظَهَر لنا منه على ألسنة رسوله؛ فنتلقاه بالقبول والانقياد، والإذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رق العبودية.
الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب، الذي أخبر به الحق -سبحانه- على ألسنة رسله من أمور الميعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه.
فقبول هذا كله -إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا- هو اليقين بحيث لا يُخَالِجُ القلبَ فيه شبهةٌ، ولا شك، ولا تناسٍ، ولا غفلة عنه؛ فإنه إن لم يهلك يقينه؛ أفسده وأضعفه، (قلتُ: ويدخل في ذلك: الإيمان بالغيب الذي مضى مِن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وخلق آدم وإسكانه الجنة وزوجه، وما وقع من إبليس، وما وقع من إهباطه إلى الأرض، وكذلك ما وقع للرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فإن ذلك يجب الإيقان به، كالإيقان بالأمور الغيبية المستقبلية).
الثالث: الوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات، وضده: التعطيل والنفي، والتجهم؛ هذا التوحيد يقابله التعطيل.
وأما التوحيد القصدي الإرادي، الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده، فيقابله الشرك، والتعطيل شر من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإن ذاتًا لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم، ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئًا، وليست داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة، ولا مجانبة له، ولا مباينة، ولا مجاورة ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ سواء هي والعدم! والمشرك مقر بالله وصفاته. لكن عبد معه غيره؛ فهو خير من المعطل للذات والصفات (قلتُ: أي: هو أقل شرًّا منه).
قال: فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، وتوحيده، وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي، وعلم الأسماء والصفات والتوحيد، وعلم المعاد واليوم الآخر، والله أعلم.
(قلتُ: والظاهر أنه إنما رتبها على الدرجات الثلاث كعادته، من باب: أن علم التوحيد ومعرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته، والتعبد له بها، هو أعلى هذه العلوم على الإطلاق).
قال: الدرجة الثانية: عين اليقين، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين كالفرق بين الخبر الصادق والعيان. وحق اليقين: فوق هذا.
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمَن أخبرك: أن عنده عسلًا، وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذقتَ منه؛ فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.
فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق؛ فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ فذلك حينئذٍ حق اليقين" (انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله-).
قلتُ: وكلام السلف في حق اليقين ليس كما ذكره، فإن الله -عز وجل- قد ذكر حق اليقين في موضعين من كتابه؛ ذكر ذلك في سورة الواقعة، وذكر ذلك في سورة الحاقة، وكلام أهل العلم بالتفسير في حق اليقين: أنه الخبر الحق الذي هو يقين، فليس ما ذكره مع كونه صحيح المعنى هو الذي قُصِد بآيات القرآن التي ذكرت ذلك.
قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الواقعة: (‌إِنَّ ‌هَذَا ‌لَهُوَ ‌حَقُّ ‌الْيَقِينِ) (الواقعة: 95): "يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقرَّبين وأصحاب اليمين، وعن المكذِّبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم؛ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، يقول: لهو الحقُّ مِن الخبر اليقين لا شكَّ فيه"، ثم رَوَى عن مجاهد: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) قال: "الخبر اليقين".
وعن قتادة: "(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) حتى ختم، إن الله -تعالى- ليس تاركًا أحدًا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن؛ فأما المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في هذه الآية: "أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحدٍ عنه".
وقال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تعالى- في سورة الحاقة: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (الحاقة: 51)، يقول: "وإنه للحقّ اليقين الذين لا شكَّ فيه أنه من عند الله، لم يتقوَّله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-".
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك، ولا ريب".
فهذا كله يدل على ما ذكرنا من أن استعمال أهل العلم بالتفسير مِن السَّلَف فمَن بعدهم، هو أن حق اليقين هو الخبر أيضًا، وليس ما هو أعلى من المعاينة من الذوق، وإن كان هذا المعنى الذي ذَكَره رائقًا؛ إلا أنه ليس بالذي يدل عليه دليل اللغة، ولا كلام السلف من المفسرين، والله أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا، عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ؛ أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ، وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ! وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-".
انتهى باختصارٍ، وقد حذفتُ فيه الإشارات غير الصحيحة التي أشار إليها الهروي، وما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في بيان ما يجب أن يكون فيه فناء المؤمن وهو الفناء في توحيد الإلهية بحبه -سبحانه وتعالى- عن حبِّ مَن سواه وبمراده من الخلق عن مراد حظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناء، ولا الاستغراق في الشهود، بل فنوا بمراده عن مرادهم، ولا حاجة لنا إلى تشقيقات كلام الصوفية في مقاماتهم؛ فقد أغنانا الله -عز وجل- بالكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 119.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 115.54 كيلو بايت... تم توفير 3.55 كيلو بايت...بمعدل (2.98%)]