|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#611
|
||||
|
||||
|
الذب عن أعراض المسلمين وحرمة الطعن فيهم والوصية الأخيرة التي ينبغي أن يوصى بها وهي عبرة تنبني على هذه المسألة: أن الوعيد الشديد ثابت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم باللعنات والدركات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين، وإذا كان هذا في العرض فقط، فما بالك بمن يتكلم في عقيدة الإنسان أو يتكلم في فكر الإنسان؟ الأمر أشد، والعرض أهون من الاعتقاد، وهذا لا يعني أن يتساهل الإنسان مع أهل الزيغ والضلال إنما المراد أن يتأكد وأن يتحفظ فيما يقوله. ولنعلم أن الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يستطيل على عرض أخيه المسلم، وأن الله لا يرضى الباطل ولا يرضى الزور ولا يرضى البهتان، وأن ينزل نفسه منزلة من يتكلم فيه، وألا يقبل لنفسه ولا لمتكلم ولا سامع أن ينقل إليه عن أحد -خاصة إذا كان من الدعاة أو الأخيار أو الصالحين- تهمة أو لمزة أو شيء من هذا، بل عليه أن ينصحه بأن يتقي الله عز وجل، ولذلك ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الذب عن أعراض المسلمين، حتى أن الله سبحانه وتعالى أشاد بهذا، فـ أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه له موقف مع أم أيوب حينما وقعت حادثة الإفك، قال الله: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور:12] ، وهذه الآية نزلت في أبي أيوب وأم أيوب لما بلغهم خبر اتهام عائشة رضي الله عنها، فبرءاها واستبعدا ذلك منها ورفعاها رضي الله عنهما، وهي أهل لذلك، وبعيدة عن تلك التهمة، فيقول الله عز وجل: (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم) ، فقال: ظن المؤمنون، فوصفهم بأنهم أهل إيمان؛ فلا تجد شخصا يبرئ سمعه ويبرئ لسانه عن أعراض المسلمين وعن الطعن في الناس إلا وفيه إيمان يردعه ويزجره، وفيه خوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يصلح سلوك الإنسان وتصرفاته شيء مثل: الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى والإنصاف والعدل؛ لأن الشخص الذي كما لا يحب أن يظلم فلا يظلم الناس، فتجد الشخص الذي يخاف أن يرتكب حدا من حدود الله عز وجل لا يقع في إخوانه المسلمين، فلا يأذن لسمعه ولا يأذن للسانه أن يستبيح أعراض المسلمين، قال الله تعالى: (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم) ، وما قال: بإخوانهم، وإنما قال: بأنفسهم، فنزل أخاك المسلم منزلة نفسك التي بين جنبيك، ومعنى: بأنفسهم في قول جماهير المفسرين: بإخوانهم، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، أي: لا تقتلوا إخوانكم، وانظر إلى جمال القرآن وعلو هذا الأسلوب الرباني المنزل من لدن حكيم خبير: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود:1] ، قال الله: {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} [النور:12] ، فنزهوها رضي الله عنها وقالوا: سبحانك؛ وهذا شيء من الخوف من الله سبحانه وتعالى والمراقبة لله عز وجل. فالواجب على كل مؤمن فضلا عن طالب علم، فضلا عن قدوة، أن ينزه نفسه عن الوقيعة في إخوانه المسلمين، ولا يشعر المرء أن الناس مراتب فيحتقر بعضهم؛ فقد يكون الشخص الذي تراه أشعث أغبر ذي طمرين ليس معروفا في نسبه وليس عنده وظيفة ويكون ضعيفا فقيرا لكنه عند الله أمة: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، وقد يتكلم الشخص بعدل في عقيدة مبتدع أو فكره أو منهجه، ولا نقول: لا تتكلم فيمن يستحق، لكن الشريعة وضعت لذلك موازين صحيحة ثابتة قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام:152] ، العدل أمر الله عز وجل به، وكان أئمة السلف يضربون فيه أروع الأمثلة، وكان بعض أئمة الجرح والتعديل يتكلم في الرجال فمر أحد العلماء رحمهم الله عليه، وهو يتكلم في تراجم الرجال، فقال له: اتق الله فلربما تكلمت في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة، فأجهش هذا الإمام الحافظ الذي يتكلم في الرجال بالبكاء من هول هذه الكلمة! وما قال له: أنت عدو للسنة، بل كانت قلوبهم ترجف من الخوف؛ ولذلك يقولون: لا يقبل الجرح والتعديل إلا من العدل الذي يعرف بالعدالة والاستقامة، الأمين الذي عنده أمانة فلا يخون الأمة، ومع ذلك يكون خائفا من الله عز وجل ويتمنى أنه لو كفي هذا الأمر، ولولا أنه مضطر لما تكلم فيه، فلا يتكلم تشهيا ولا شهرة، ولا يتكلم عن غرض، ولا يتكلم عن حقد، ولا عن حسد، فهذه موازين عامة ينبغي مراعاتها في كل عصر وزمان ومكان؛ لأن واجبنا كطلاب علم وأهل علم أن نبين للناس هذا خاصة في هذا الزمان الذي تساهل فيه عامتهم وخاصتهم، وهذا إذا كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى في غيره. فعلى كل حال: على الناس أن يتقوا الله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال له معاذ: (أو إنا مؤاخذون يا رسول الله! بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) ؟! حتى العيب إذا رأيته من أخيك المسلم مندوب لك أن تستره، فأول ما ترى العورة من أخيك المسلم فاعلم أنك ممتحن وأنك مبتلى من الله عز وجل، فالله عز وجل يبتليك بهذا الشيء، جيء بـ حاطب بن أبي بلتعة عندما ارتكب خيانة عظمى، حيث كتب إلى قريش بأن محمدا يريد غزوكم، حتى تستعد قريش قبل أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: الخيانة العظمى، حيث يفشو سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتب لأعداء الله عز وجل من المشركين، أي ذنب بالنسبة للمسلم حينما يوالي أعداء الله إلى هذه الدرجة؟ فلما كتب ما كتب وبعث بالكتاب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه، فلحق بالمرأة ووجد معها الكتاب، قال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله! إن لي ولدا وأهلا فأحببت أن تكون لي يدا عليهم أحميهم بها، يعني: ما فعلت هذا حقدا على الإسلام والمسلمين، انظروا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن عذره، مع أن الذنب واضح، والخطيئة واضحة، والجريمة عظيمة، والله ينزل فيها قرآنا من فوق سبع سماوات، مع أن القوم مشركون كافرون بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فكاتب قريشا، وهي ستتخذ الحيطة وستقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ليس سهلا حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: دعه يا عمر! ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ! وأنت ما يدريك أن هذا العالم والإمام الذي تتكلم فيه كانت بينه وبين الله مواقف صدق، وقد يكون الله غفر له ذنوبه. ونزله منازل ما تخطر له على بال! على الإنسان أن يتقي الله وأن يتورع، وأن يحرص كل الحرص على أن يزم نفسه بزمام التقوى، وليعلم كل إنسان أن أي ناصح وعالم وخطيب ومذكر إذا ذكر الناس وقال لهم: اتقوا الله فيما تقولون في إخوانكم المسلمين، فإنه ما قال شيئا من عنده، بل كلها من نصوص الكتاب والسنة، وكل أمر بالتقوى يتضمن أن يتقي المسلم أول ما يتقي ما بينه وبين الله ثم يتقي ما بينه وبين الناس؛ ولذلك قيل: (يا رسول الله! من المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من يده ولسانه) ، فهذه نصوص الكتاب والسنة تحذر من هذا البلاء العظيم، وحينما نذكر قضية القذف والخيانة الزوجية؛ نذكر بما هو أعظم منها وأولى بالتأكيد عليه، وجماع الخير كله تقوى الله عز وجل، وأن يعلم كل مسلم أن الله رضي له العبودية والإيمان والنصيحة والبر والإحسان، وكره إلى قلبه الكفر وعبادة الأوثان، وكره إلى قلبه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، سواء كان في اللسان أو الجنان أو الجوارح والأركان حتى يكون من أولياء الله السعداء، وليعلم كل إنسان أن هذه الدنيا بساعاتها ولحظاتها سيقضي منها ما كتب الله له أن يقضي، فإما أن يعيش عفيفا عن أعراض المسلمين فيعيش حميدا، ويموت سعيدا، ويبعث يوم القيامة وهو لا يحمل تبعة مسلم، ولا يحاسب بين يدي الله عن مسلم تكلم فيه، وإما أن يطلق لنفسه العنان فتكون منه زلات الجوارح واللسان والأركان، وعندها سيقف بين يدي العظيم الديان، حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وتنشر له كلماته، ويرى أمام عينيه عباراته، ويقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء:14] ، ويندم حين لا ينفع الندم، فيؤخذ من حسناته، فإذا فنيت منه الحسنات أخذ من سيئات صاحبه ثم طرحت عليه فيكون مصيره إلى النار، قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ المفلس من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته، حتى إذا فنيت حسناته أمر بسيئات صاحبه فطرحت عليه ثم أمر به فطرح في النار) ، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل! وأختم هذه الوصية: بأن الأمر لا يختص بنا، وأرى أنه من الواجب أن نربي أبناءنا منذ الصغر على العفة، فينبغي أن نحافظ على أولادنا وذرياتنا، فإن الخير في المجتمع والمحافظة على الحقوق لا يمكن أن ينتشر إلا بإصلاح الذريات، والعناية بالنشأة الصالحة، وعلى كل والد في بيته أن يعود أولاده ألا يتكلموا في أعراض الناس، وأن يرسموا المنهج السديد في حفظ عورات المسلمين، وألا يرضى لابنه يوما من الأيام أن يأتيه بكلمة فيها لمزة لجاره أو لأخيه أو لقريبه حتى الأولاد بعضهم مع بعض يعودهم ألا يتكلم بعضهم في بعض، ولا يعودهم الوشاية ونقل الحديث، حتى ينشأ الطفل على سلامة وبراءة وطهر وعفة، وكذلك يرسم له المنهج في النصيحة والتذكير، بأن يكون لهم خير قدوة، الأسئلة اللعان يوجب الفراق المؤبد بين الزوجين السؤال هل يفتقر اللعان إلى طلاق أم أنه طلاق بائن؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا لاعن الرجل امرأته وحلفت المرأة الأيمان فيفرق بين المتلاعنين فراقا أبديا لا يجتمعان بعده أبدا، قال سهل رضي الله عنه كما في الصحيحين: (مضت السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا) ، ولما لاعن عويمر، ولذلك عويمر امرأته، وحلفت المرأة قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا) ، فطلقها بالثلاث في كلمة واحدة في مجلس واحد، وهذا الذي جعل الشافعي رحمه الله يقول: إن طلاق الثلاث بلفظ واحد سنة؛ لأنه ثبت كما في الصحيح أنه طلقها ثلاثا بلفظ واحد، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه بدعة كما تقدم معنا في مسائل الطلاق؛ فالطلاق وقع من عويمر، لكن بدون إذن من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فوقع الطلاق منه رضي الله عنه حمية وتأكيدا على أنه صادق، ولا يريد أن تبقى معه هذه المرأة، لكن السنة أن يفرق بينهما، فليس هناك طلاق، بل يفرق بينهما فراقا أبديا، والله تعالى أعلم. الطريقة المثلى لمن رأى في بيت جاره ما يريبه السؤال أحيانا يرى الجار ما يريبه في بيت جاره، فهل له أن يخبر جاره أم الأفضل أن يسكت؟ الجواب لابد أن يؤخذ في الاعتبار فقه الفتوى فليس كل سؤال يجاب عنه، فما هي هذه الأمور المريبة؟ وما هي الضوابط المحددة التي يمكن أن يعرف فيها أن التهمة قوية أو ضعيفة؟ فصعب جدا أن تضع ضابطا من الشريعة، فالشريعة لم تضع ضابطا معينا للمتردد على البيت أو أحوال البيوت بحيث يحكم أن هناك تهما قوية أو ضعيفة؛ لكن المنبغي على أهل العلم وأهل الفتوى أن يجيبوا في مثل هذا على كل سؤال بعينه، فالشخص الذي يرى شيئا من ذلك عليه أن يتصل بعالم، فينبغي عليه أول شيء أن يرجع إلى العلماء، وإذا سئل العالم ودرس الموضوع فيستطيع أن يحكم على هذا الأمر، فقد تقع أمور مريبة منها ما يمكن التحقق فيه، ومنها ما لا يمكن التحقق فيه، فما يمكن التحقق فيه مثل أن تكون المرأة من الأقرباء بحيث يستطيع أن يتصل عليها ويسألها: من هذا الذي يدخل البيت؟ فقالت: هذا عامل يأتي ويفعل كذا وكذا، ويعلم سبب الدخول على المرأة، ويجد أن الأمر ليس فيه أي ريبة، ولا يمكنه قطع الشك باليقين، وفي بعض الأحيان يستطيع أن يتأكد هو بنفسه، مثل أن يرى الشيء ويسهل الاطلاع عليه دون أن يسألها ودون أن يتحرى من الغير، فهذه الأمور ينبغي على العالم حينما يأتيه السائل أن يسأله: ما الذي رآه؟ وما حدود التهمة فيما رآه؟ ثم النساء يختلفن؛ فمن النساء من يعرف لهن قدم سابقة في الخير والصلاح والبر والبراءة والغفلة والبعد عن الحرام، وبعض الأحيان لا يخشى من المرأة لكن يخشى من الرجل نفسه، فالفساد في الرجل أكثر من المرأة، وفي بعض الأحيان العكس، فتكون المرأة فاسدة والرجل دين صالح، يدعى لعمل أو أمر ما والزوجة متساهلة، فهناك أمور تحتاج إلى دراسة، فمن فقه الفتوى أن الأمور التي تحتاج إلى نظر لا يفتى فيها بالقواعد العامة؛ لأن الناس حتى طلاب العلم تختلف أفهامهم، فلو أعطيت فيها قواعد عامة لفسرها كل شخص على حدود فهمه، وهذا يسمى بفقه الفتوى، فعلى العلماء وطلاب العلم والخطباء أن يوجهوا الناس، ولا يضعوا في مثل هذه الأمور قواعد عامة، فالذي نعرفه عن أئمتنا ومشايخنا رحمة الله عليهم أنها تبحث كل مسألة على حدة، فإذا نظر فيها العالم أو الشيخ واستطاع أن يستبين وأن يتأكد من الأمر، فإن كان الأفضل الستر أمر به، وإذا رأى أن مثله لا يسكت عليه بل ينبغي عليه أن يطلع الزوج أمره فليخبر زوجها، وبعض الأحيان يكون الأسلم أن يخبر قرابتها ولا يخبر الزوج، حيث يكون في قرابتها من هو أعقل ومن هو أتقى لله عز وجل وأكثر محافظة من الزوج، وبعض الأحيان يكون ولدها أكثر صيانة لها وأكثر محافظة فيطلعه على الأمر، فكل هذه مسائل ينبغي أن ينظر فيها على حدة، ويعطى فيها الجواب بحسب أحوالها، والله تعالى أعلم. حكم قضاء الصلاة لمن تركها متعمدا السؤال من ترك الصلاة متعمدا هل عليه القضاء؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف مشهور، جمهور العلماء على أن ترك الصلاة متعمدا لا يوجب الكفر، وإذا كان لا يوجب الكفر فيجب عليه القضاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله عليهم، وذهب الحنابلة رحمة الله عليهم إلى أنه كافر، فعلى القول بكفره لا يقضي، وهذا الخلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، والصحيح الجمع بين النصوص فإذا ترك تركا كليا لا يقضي، وإذا صلى أحيانا وترك أحيانا فحديث عبادة يقوي أنه ليس بكافر، خاصة وأن قوله: (فمن تركها) ، يحمل على الترك الكلي، وحينئذ يجمع بين النصوص، والله تعالى أعلم. كيفية زكاة من نسي إخراج زكاة ماله السؤال من نسي أن يخرج زكاة ماله في وقت الحول ومضى على ذلك فترة، فكيف يخرج زكاة ماله؟ الجواب يجب عليه أن يخرج عن السنوات التي لم يخرج الزكاة فيها، واختلف العلماء في كيفية ذلك على قولين: منهم من يقول: يحسب السنة الأولى ويخرج منها الزكاة ثم يحسب زكاة السنة الثانية ويسقط قدر الزكاة التي أخرجها، ثم يحسب زكاة السنة الثالثة ويسقط قدر الزكاة من السنة الأولى والثانية، وهكذا، بمعنى: أنه يعفى عن المال الواجب في الزكاة فلا يزكه، ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليه أن يحسب المال تاما كاملا، ولا يسقط منه قدر الزكاة في السنوات السابقة، وهذا هو الصحيح فيما يظهر، والله تعالى أعلم. المراد بفتنة المحيا والممات السؤال ما معنى فتنة المحيا والممات؟ الجواب الفتنة تطلق بمعان عديدة، تطلق الفتنة بمعنى: العذاب، ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا} [البروج:10] ، يعني: عذبوهم واضطهدوهم؛ لأن الآية في سياق أصحاب الأخدود الذين عذبوا أهل الأخدود من المؤمنين، وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك، لقوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة:191] ، يعني: الكفر والشرك بالله عز وجل، وتطلق الفتنة بمعنى: الصد عن سبيل الله عز وجل، وفتنة الناس عن دينهم وصدهم عن دينهم وإغوائهم بالضلالات أو الشهوات. وفتنة المحيا هي: الأمور التي يبتلى بها الإنسان في دينه حال حياته، فما من مسلم ولا مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وابتلاه الله على قدر إيمانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) ، فدل على أنه لابد وأن يفتن المؤمن، ولذلك قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت:2] ، أي: لا يختبرون ولا يمتحنون ولا يبتلون من الله عز وجل، قال تعالى: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران:141] ، وقال: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة} [الأنفال:42] ، وفتن الحياة التي تتعلق بالدين تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: فتنة الشهوات، والقسم الثاني: فتنة الشبهات. ففتنة الشهوات هي: الفتن التي يبتلى بها العبد في شهوته، فبعض العلماء يجعل الشهوة قاصرة على شهوة الفرج والبطن، وبعضهم يجعل الشهوة عامة حتى جعل من الشهوة: شهوة الحديث والكلام، ففتنة الشهوة دركات وبعضها أشد من بعض، فهناك مقاصد، وهناك وسائل، فعلى سبيل المثال: الزنا فتنة شهوة لكن هناك ما هو دون الزنا مما يفضي إلى الزنا، كالنظرة المحرمة، واللمس المحرم، والخلوة بالأجنبية، ومحادثة النساء، وإغرائهن، فقد تصير هذه الوسائل -في بعض الأحيان- بتكرارها وتعاطيها أعظم من الزنا نفسه، فمثلا شخص -والعياذ بالله- اعتاد أن يحادث النساء ويغريهن ويفسدهن، فلربما أغرى المرأة الواحدة فتصبح عاهرة حياتها كلها بسبب كلامه وإغرائه، فيحمل بين يدي الله وزرها ووزر إغرائها بالحرام، مع أنه ربما لو زنى -والعياذ بالله- لا يصل في الإثم إلى هذا الذي وصله بسبب تكرار هذه الوسائل، فالفتن إذا كانت في الشهوات فهي دركات تختلف بحسب اختلاف آثارها، وما تفضي إليه من غضب الله عز وجل وسخطه، وفتنة الشهوات تشمل فتنة محبة العلو على الناس والمناصب، فتجد الشخص -مثلا- في وظيفته مبتلى بحب الظهور والبروز، فيظلم من تحت يديه، ويظلم عماله، ويظلم المستخدمين، وبعض الأحيان تكون عنده فتنة شهوة المدح والثناء والإطراء، فيحب أن يجله الناس ويمجدوه وإن كذبوا في وصفه وتمجيده، فهذه كلها من فتنة الشهوات، وهذه من فتنة الحياة التي قد تفضي بالإنسان -والعياذ بالله- إلى سخط الله وغضبه، والذنب قد يكون بريدا إلى الكفر، وقد يكون صغيرا ويكون بريدا إلى الكفر، فلا يستهين الإنسان بالمعاصي، فإن الجبال تكون من دقائق الحصى، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك قال عبد الله بن عباس: (لا تنظر إلى المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت) . أما فتنة الشبهة فتكون في مسائل الدين نسأل الله السلامة والعافية! وأعظمها ما يكون في الاعتقاد من الشكوك في الله عز وجل، فيفتن الإنسان في توحيده وإخلاص العبادة لله عز وجل، ومن ذلك الرياء في الطاعات فتجد الإنسان -والعياذ بالله- يصلي ولا حظ له في صلاته ولا أجر ولا مثوبة؛ لأنه صلى للناس، ويطلب العلم وهو يريد أمرا من الدنيا فيذهب أجره، وهذا من فتنته في دينه، فالفتنة أنواع ودركات مهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك كان من سنته عليه الصلاة والسلام الاستعاذة بالله عز وجل من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المحيا -كما يقولون-: طول العمر حتى يرى الإنسان ما لا يسره ويسمع ما يسوءه، قال الشاعر: يا رب يوم بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه فكم من إنسان رأى شهوات ورأى معاصي ورأى منكرات فمد له في عمره إلى زمان بكى على الذي قبله، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) ، فمن فتنة المحيا أن يزاد في عمر الإنسان ولا يزال يتهاوى في المعاصي والمحرمات، فيزيده طول العمر معصية لله، وبعدا عن الله عز وجل، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (شركم من طال عمره وساء عمله) . وأما فتنة الممات فإن الإنسان يفتن عند موته حتى أن الشيطان ربما استزله عند موته فختم له بخاتمة سيئة، ولذلك خاف العلماء والصالحون والأتقياء من سوء الخواتم، نسأل الله حسن الخاتمة! نسأل الله الثبات عند الممات! استعيذوا بالله من الفتن خاصة في سكرات الموت عندما يوقن الفاجر، ويؤمن الكافر، ويزلزل العبد فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويرزقهم الله عز وجل القوة واليقين، وليس هناك فيصل في هذه الدنيا أصدق من فصل الخاتمة، فهي التي تفصل بين الناس، فالسعيد يرى خاتمة السعداء: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا} [التوبة:21 - 22] ، فولي الله المؤمن أسعد لحظة له وأعز ساعة عنده؛ إذا دنت سكرته وحانت قيامته وأوذن بالرحيل من هذه الدنيا، فليس هناك ساعة أسعد عنده من تلك الساعة، حتى أنه لو خير بين الرجوع إلى أهله وبين الإقبال على ربه لاختار ما عند الله عز وجل على أهله وولده؛ من عظيم ما يجد عند الله سبحانه وتعالى من البشائر الطيبة؛ لأن الله يثبت بها المؤمنين؛ ولذلك تجد القصص العجيبة للأخيار عند الموت، فتجد الشخص منهم يتهلل وجهه ويشرق جبينه ويصبح كأنه صفحة من قمر أو كالشمس! ولقد رأينا ذلك في الرجال والنساء، وتجد منهم الأمر العجيب جدا من الثبات والسلوى والبشائر الطيبة حتى أنك ربما جلست جواره وهو ميت وأنت لا تحس أنك بجوار ميت! ليس فيه وحشة الأموات، والسبب حسن الخاتمة التي من الله عز وجل عليه بها. وقد يزلزل الإنسان عند الموت -والعياذ بالله- ولذلك تجد عبدة المال يزلزلون عند الموت، وتجد الشخص منهم قدمه في الآخرة وروحه في الدنيا حاملا هم المال وهم التجارة وكيف يخرج من هذه الدنيا! وكيف يخرج من شهواتها! لأنه عمر الدنيا وخرب الآخرة، فلا يحب أن ينتقل من عمار إلى خراب، فتجده مزلزلا مشتتا فإذا حانت قيامته ودنت سكرته فإذا به لا يعرف ما الذي يقول وما الذي يفعل! وإذا بكلامه يتغير، وإذا بصفحات وجهه تبدي ما في مكنون قلبه نسأل الله السلامة والعافية! وأشد الناس فتنة عند الموت الذين في قلوبهم مرض وهم أهل الزيغ في العقائد، وهؤلاء الذين يستهزئون بالدين، ويستهزئون بالصالحين ويغضبون الله سبحانه وتعالى بالكلام في حرماته العظيمة، ولذلك فإن الذي يسب الدين ويسب الله عز وجل لا يؤمن عليه من سوء الخاتمة، ومن يتهكم ويسخر من القرآن أو يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم فينتظر لهم الخاتمة السيئة وحينها سيعلم هؤلاء جزاؤهم؛ لأن الله يقول: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ، وسيعلمون عاقبة الكلام في الصالحين، وقد ذكرنا قصة الكاتب المشهور أبي رية الذي كان ينتقص أبا هريرة رضي الله عنه، ويتكلم فيه، قال بعض العلماء: لما سافرت نزلت إلى بلده، فشاء الله أني عزمت على زيارته في عصر ذلك اليوم لأجل أن أناقشه، فدخلت عليه وهو، في سكرات الموت، قال: وكان الرجل أبيض الوجه فإذا به قد اسود وجهه! وإذا هو في أشد الأحوال، وروحه ضيقة، ويلتقط أنفاسه بصعوبة شديدة، وهو يصيح ويقول: آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، حتى فاضت روحه! فالكلام في الصالحين والعلماء والأخيار والاستهزاء بأهل الطاعة، وكذلك سب الدين والسخرية من الدين؛ عواقبه وخيمة ذكر والدي رحمه الله أنه جاء مسافرون وأقبلوا على المدينة، وكانوا بحذاء وادي العقيق، فقال رجل: وصلنا المدينة، فقال رجل من الصالحين للمتكلم: قل: إن شاء الله، فقال ذلك الشقي: وإن لم يشأ! جرأة على الله عز وجل، قال: فما جاوزوا العقيق حتى انعطفت بهم السيارة فكان أول من دقت رقبته هذا الكافر، الذي رد على ربه المشيئة وقال: وإن لم يشأ سنصلها، فمثل ذلك عواقبه وخيمة، ولذلك لا يبتلى الإنسان بفتنة في الموت أشد من سوء المعتقد والمرض في القلب، قال بعض العلماء رحمهم الله: لا تعرف سوء الخاتمة لمن صلحت عقيدته، فمن كان صالح المعتقد يعيش في هذه الحياة قوي الإيمان بالله مخلصا لله عز وجل. ودائما على الإنسان أن يعود نفسه أن يكون مع الله عز وجل، فيخلص له العمل كله، فيتكلم لله ويعمل لله ويعطي لله ويفعل كل شيء لله، فإذا صارت أموره كلها لله عز وجل ثبت الله قلبه عند الموت. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها عند المصير إليه، وأن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
|
|
#612
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (464) صـــــ(1) إلى صــ(23) شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [2] باب اللعان هو أحد الأبواب التي أولاها الفقهاء اهتمامهم، يتبين ذلك من خلال ذكرهم لمسائل وأحكام اللعان، وهو يختص بالزوجين، وله شروط لابد من توافرها حتى يصح، كما أن له كيفية مخصوصة ذكرتها الشريعة لابد من التقيد بها. اختصاص حكم اللعان بالزوجين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة اللعان، وأصل اللعان أن الزوج يتهم الزوجة بالزنا -والعياذ بالله- أو ينفي الولد أو الحمل عنه، ففي كلتا الحالتين يكون هناك لعان، سواء اتهمها بالزنا أو نفى الحمل أو نفى الولد، على تفصيل سنبينه إن شاء الله تعالى. والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا قذف امرأته بالزنا. فإنه يخير بين أمرين: إما أن يقيم البينة على أنه صادق، وأن زوجته زانية، وحينئذ لا إشكال، فلا يقام عليه حد ولا لعان. وإما أن يتعذر عليه إقامة البينة، فالأصل الشرعي حينئذ يقتضي أن يقام عليه حد القذف؛ لأنه لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة أو حد في ظهرك) ، فخيره بين الأمرين: البينة التي تثبت أنه صادق في اتهام زوجته بالزنا، أو الحد الذي أوجبه الله على كل مفتر وقاذف، فجاء اللعان ليخرج الزوج من هذا الحد إذا تعذر عليه إيجاد البينة. فيختص اللعان بالزوج لأمور وأسباب خاصة، والأصل أن كل من قذف نطالبه بالبينة على صحة قذفه أو يقام عليه الحد، لكن مسألة اللعان تختص بالزوج والزوجة، ولذلك لو قذف الوالد ولده، أو قذف الأخ أخاه، أو قذف الصديق صديقه، فهذه الأمور لها أحكام خارجة عن اللعان. واللعان -كما ذكر العلماء- مستثنى من الأصول، والمستثنى من الأصول هو: الذي خرج بنص عن أصل عام، فالأصل العام هنا وجوب الحد إلا أن يثبت الزوج بالبينة صحة القذف بالزنا، فلما استثني اللعان وجاء على هذه الصورة الخاصة فينبغي علينا أن ننظر إلى الشروط الشرعية التي يثبت بها اللعان فنقول: إنه لا يثبت اللعان إلا إذا توافرت فيه الشروط تامة كاملة، وهذه الشروط هي التي يعبر عنها بالعلامات والأمارات التي ينبغي توافرها واجتماعها للحكم باللعان الشرعي، وهي الشروط التي يذكرها العلماء. فاللعان لا يمكن أن يكون لعانا شرعيا إلا بين الزوجين، فلو أن صديقا قذف صديقه أو أخا قذف أخاه، فجاء شخص وقال: يثبت اللعان بين الأخ وأخيه إذا حصل القذف قياسا على الزوج مع زوجته، فنقول: هذا قياس باطل؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، وقول القياس، إذا قال العلماء القياس يريدون به الأصل العام، وهذا ينبغي أن ينتبه له طالب العلم فالقياس هو: الشيء الأقيس الذي جرى على النصوص المحفوظة في الباب، فالأصل هنا أن من قذف فعليه أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، فخرج اللعان عن الأصل العام وهو القياس، فغيره لا يقاس عليه مع أن صلة الأخ مع أخيه صلة قرابة ولحمة، وربما تكون أعظم من صلة الزوج مع زوجه، لكن الشريعة نظرت إلى أن الزوج يقدم على إفساد فراشه، واتهامه لزوجه بالزنا إضاعة لمهره، وإضاعة لولده وليس هناك عاقل يتهم زوجته بالزنا كذبا، وينفي ولده منها، فالشريعة أعطت هذه الحالة المستثناة أحكاما خاصة، ولابد من توافر الشروط الشرعية، وهي: الشرط الأول: أن يكون اللعان بين الزوجين، فليس هناك لعان شرعي بين سيد وأمة وبين أخ وأخيه، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور:6] فخص هذا الحكم بين الزوج وزوجته، وهذا هو الشرط الأول. وقوله: (ويشترط في صحته) أي: من أجل الحكم بصحته وتنفيذه، والضمير في قوله: (صحته) عائد إلى اللعان، فلا ينفذ لعان إلا إذا كان بين زوجين، سواء كان قد عقد على المرأة ودخل بها أو لم يدخل بها، سواء كانت في عصمته أو طلقها طلاقا رجعيا؛ لأن المطلقة رجعيا في حكم الزوجة، وهذا اختيار طائفة من العلماء أن المطلقة رجعيا يحق لمطلقها أن يلاعنها؛ لأنه سيتضرر بنسبة الولد إليه، وسيتضرر بنسبة ما يكون من حملها إليه. اللعان باللسان العربي قال المصنف رحمه الله: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها] . الشرط الثاني: أن يجري اللعان باللسان العربي، وذلك أن اللعان ثبت بنص شرعي أشبه التعبد، ولذلك اشترط: عددا معينا، ولفظا معينا، وترتيبا معينا، فلابد أن يقع على هذه الصفة الشرعية الواردة، وهذا أصل عند العلماء، ومن باب الفائدة: دائما في الفقه ما استثني من الأصل، وجاء على صورة خاصة فينبغي عليك أن تتقيد بهذه الصورة الخاصة، فلا تزد عليها ولا تنقص؛ لأنه استثناء شرعي على صفة مخصوصة، لذلك لابد أن يكون بالصفة الواردة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالنص أنه لاعن بهذا اللسان، فالأصل أن يقع اللعان بلغة العرب لمن استطاع أن ينطق بها وعرف معناها. اللعان بغير العربية لمن جهلها قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلغته] . إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرف العربية فللقاضي حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عالما بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي. الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافيا، وإن قلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمين، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي. اللعان يسقط حد القذف عن الزوج قال المصنف رحمه الله: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان] . الشرط الثالث: أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فلا يجري اللعان إذا لم يقذفها بالزنا، والقاعدة عندهم: أن كل ما يثبت به القذف يثبت به اللعان، وما لا يثبت به القذف لا يثبت به اللعان؛ لأن اللعان في الأصل شرع لدفع الحد عن الزوج، وهذا يقتضي أن يكون هناك موجب للحد وهو القذف، والدليل على صحة اشتراط وجود القذف قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6] ، فاشترط سبحانه وتعالى وجود الرمي بالزنا؛ لأن الرمي في لغة العرب يطلق بمعنى التهمة. رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن أجل الطوي رماني فالرمي هو: القذف والتهمة بالسوء، فالرمي في قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6] يشمل جريمة الزنا، ورميه لها بالزنا إما أن يكون صريحا أو تعريضا، فالصريح لا إشكال فيه عند العلماء، وسيأتينا إن شاء الله صريح لفظ الزنا كأن يقول لها: يا زانية، أو يقول: أنت زنيت بفلان، سواء ذكر من زنت معه أو وصفها بالزنا، والرمي المحتمل للزنا كأن يقول: يا خبيثة، أو الرمي بالوصف المتضمن للزنا كأن يقول: يا فاسدة، فهذا يحتمل أنه قصد بالخبث جريمة الزنا، ولذلك فسر قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين} [النور:26] أي: الزانيات للزناة، وقيل: الخبث يطلق بمعنى الفساد الذي يشمل الزنا وغيره، ولذلك قال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157] ، فإذا قذفها صريحا فلا إشكال، وإذا قذفها تعريضا فهذا فيه تفصيل، وسيأتي عند ذكر الألفاظ التي يثبت بها القذف تعريضا أنه يسأل، القاذف عن نيته وقصده، فإذا فسر اللفظ المحتمل بالزنا فهو قذف، كأ، يقول: إنه قصد بقوله: يا خبيثة، إنها زانية، فحينئذ لا إشكال، فهو كما لو قال لها مباشرة: أنت زانية، والعياذ بالله! فيشترط -كما ذكر المصنف- أن يكون هناك لفظ دال على التهمة بالزنا، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، منهم من يقول: يثبت القذف بالزنا وحده ولا يشمل ما يلحق بالزنا، فلو رماها بغير الزنا مما يأخذ حكم الزنا فلا يثبت اللعان، مثل أن يرميها بالوطء في الدبر، وبعض العلماء يرى أنه يلحق بحكم الزنا، الوطء بالدبر، فيأخذ حكم الزنا في مذهب طائفة من العلماء، وبناء على ذلك قالوا: إذا رماها بتهمة في القبل أو الدبر مما يوجب الحد فإنه يحكم باللعان، وقال بعض العلماء: يختص الحكم بالزنا فقط، لكن ظاهر الآية: {والذين يرمون} [النور:6] أن الرمي يقع بالقبل ويقع بالدبر، وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب الزنا بتفصيل، وتبين الحكم الشرعي في الوطء بالدبر. ومفهوم قوله: بالزنا، أنه لو رماها بما لا يوجب الحد كأن يرميها بالسحاق -وهو إتيان المرأة للمرأة-؛ فلا يوجب اللعان. وقوله رحمه الله: (فإذا قذف امرأته بالزنا) خرج بذلك قذف الأجنبية، فلو كانت امرأة أجنبية عنه وقال لها: يا زانية، فنقول له: إما البينة وإما حد في ظهرك، فإذا قذف زوجته -سواء زوجته التي دخل بها أو التي لم يدخل بها، والتي طلقها أو التي لم يطلقها- فله إسقاط الحد باللعان، ولا يكون هذا إلا بالشكوى والمطالبة بذلك، أو يكون القذف في مجلس القاضي، وسيأتينا إن شاء الله أن اللعان لا يكون إلا في مجلس القاضي، والدليل على ذلك أن القذف حق خاص، ومن الحدود ما هو حق خاص، ومنها ما هو حق عام، ومنها ما الحق فيه مشترك لله وللمخلوق، فالحق الخاص لا يمكن للقاضي أن يقضي فيه حتى يطالب صاحبه، فمثلا لو أن شخصا أخذ مال شخص فعلى القاضي أن يجعل القضاء الشرعي حياديا، وألا ينحاز إلى إحدى الطائفتين إذا اختصموا، فليس له أن يتدخل ويقول: يا فلان! رد المال إلى فلان، حتى يشتكي صاحب الحق ويقول: إن فلانا ظلمني في كذا، فلابد أن يثبت أنه ظلمه، وينتظر منه أيضا المطالبة من صاحب الحق، فهذه الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يقذف في مجلس القضاء، مثلا امرأة آذاها زوجها وقذفها بالزنا في بيتها بينه وبينها، أو قذفها بالزنا أمام أمها أو أمام أبيها فرفعته إلى القاضي، فإذا رفعته إلى القاضي وأقر أنه قذفها بالزنا جرى اللعان؛ إذا: لابد أن يكون في مجلس القضاء أو بمطالبة الزوجة التي هي صاحبة الحق، فإذا قذفها بالزنا ورفعته إلى القاضي، فحينئذ يقال له: إما أن تثبته بالبينة، وإما أن يجري اللعان بينك وبينها. وقوله: (فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان) (فله) أي: للزوج، (إسقاط الحد) أي: حد القذف الذي هو ثمانون جلدة، (باللعان) لأن حكم القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، وانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في حكمه وتشريعه، فالذي يتسلط على أعراض المسلمين ويقذفهم ويتهمهم بالباطل جعل جزاءه قطع لسانه، كما قال تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، فمنع من قبول شهادته، ووصفه بالفسق، وهو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر من الوقوع في أعراض المسلمين، وأن يزين لسانه بتقوى الله عز وجل، وأن يحذر كل الحذر من أن يطلق لهذا اللسان عنانه في الوقيعة في مسلم أو مسلمة. فلذلك إذا قذف الرجل امرأته بالزنا فعليه البينة أو حد في ظهره. وقوله: (فله) أي: للزوج أن يدفع هذا الحد عنه باللعان؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للأزواج فرجا ومخرجا، ثم انظر إلى حكمة التشريع حيث يبدأ باللعان الزوج أولا ثم بعد ذلك الزوجة، فجعل الرهبة والتخويف أولا للمتهم للغير، الواقع في عرض الغير زجرا وتخويفا له، ولذلك يوقف عند الرابعة ويذكر بالله عز وجل. سبب تقديم الزوج قبل الزوجة في اللعان قال المصنف رحمه الله: [فيقول قبلها أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها] . يبدأ الزوج باللعان قبل امرأته، فلو أن المرأة بدأت قبل زوجها لم يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بالزوج وثنى بالزوجة؛ لأن الزوج يثبت والزوجة تنفي، والزوج يبني والزوجة تنقض، والنقض يكون بعد البناء، والهدم بعد الوجود، فأولا يثبت الزوج ويشهد، وكأن كل يمين منه بمثابة شاهد، ولذلك إذا امتنعت الزوجة عن أيمان اللعان أقيم عليها حد الزنا. إذا: لابد أن يبدأ الزوج قبل الزوجة؛ لأن هذا اللعان ثبت بصفة شرعية، اقتضت تقديم الزوج على الزوجة، فيبدأ الزوج باللعان ويقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، وهي لا تخلو من حالتين: إما أن تكون جالسة في مجلس القضاء، فيقول: زوجتي هذه ويشير إليها. وإما أن تكون غائبة عن مجلس القضاء لعذر فيقول: زوجتي فلانة بنت فلان، فيصفها وصفا يميزها عن غيرها، ويوجب ثبوت التهمة عليها. التقيد بلفظ أشهد عند اللعان ويقول: (أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه) ، فلابد أن يأتي بلفظ: أشهد؛ لقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6] ، فلا يغير في هذا اللفظ، ولا يزيد ولا ينقص، فلا يغير لفظ أشهد إلى أحلف؛ لأن الحلف يمين يمكن أن يكفر عنها، ولكن قوله: أشهد بالله، أمر عظيم جدا؛ لأنه يشهد الله جل جلاله، وكفى بالله شهيدا، ولذلك نسبة العلم إلى الله في شيء ليس بالأمر الهين، حتى أن بعض العلماء يقول: من قال: يعلم الله أنه حدث كذا وكذا، كاذبا فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله العلم بشيء لم يقع، حيث ينسب إلى الله صفات ليست موجودة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يشددون ويمنعون من هذه الكلمة، فإشهاد الله ونسبة العلم إلى الله في أمر ليس من السهولة بمكان. فذكر المصنف أنه لابد أن يتقيد بهذا اللفظ فلا يبدله ولا يغيره؛ لأنه أشبه بالتعبد، مثل ألفاظ التشهد، فيقول: أشهد بالله لقد زنت، فيثبت التهمة بالصريح من القول، ولا يقول: لقد أخطأت زوجتي، أو لقد زلت زوجتي، بل لابد أن يقول: لقد زنت، ويصرح ويقول: زوجتي؛ لأنه لو قال: قد زنت فلانة، فيحتمل أنه يقصد امرأة ثانية يشبه اسمها اسم زوجته، ويقول: زوجتي هذه؛ لأنه قد تكون عنده أكثر من زوجة، ويريد الإضرار بزوجة على حساب زوجة أخرى فاسدة، فيشهد بزنا زوجته قاصدا التي في ذهنه، فيقول: زوجتي هذه. تتابع الشهادات عند اللعان ويشترط تتابع الشهادات، فإذا أتم الزوج الشهادة الأولى يتبعها بالشهادة الثانية في مجلس واحد، فلو أنه شهد اليوم في الساعة الواحدة شهادة واحدة، ثم فارق مجلس القضاء ولو خمس دقائق، ثم رجع؛ أعاد الشهادة الأولى، وشهد أربعا متتالية في مجلس القضاء، وليس خارج مجلس القضاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -يثبت هذا الأصل-: (لقد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بهاا) ، فجعل اللعان في مجلس القضاء، ووقعت الشهادات في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وهذا المجلس يسمونه مجلس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحوال متعددة، وهذا يسميه علماء الأصول رحمهم الله شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، والمراد أنه تارة يكون في حكم القاضي، وتارة يكون في حكم المفتي، وتارة يكون في حكم الإخبار والبلاغ بالرسالة، وتارة يكون في حكم الشارع، وفي حكم البشرية العامة، فهي أحوال مختلفة. فلما جاء هلال بن أمية وكذلك عويمر وقذفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو كان بصفة القضاء لا بصفة الاستفتاء؛ لأنه لو كان بصفة الاستفتاء لكان حكما آخر، لكن جاءا متظلمين يريدان الحكم الشرعي في قضيتهما، فلو حصلت الشهادات هذه في غير مجلس القضاء لم يبن عليها الأحكام الشرعية، فلابد أن تكون الشهادات في مجلس القاضي، وأن تكون أربع شهادات من الرجل متتابعة لا فاصل بينها مؤثر. تذكير القاضي للملاعن بالله قبل الشهادة الخامسة وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل. والمراد باللعنة في مثل هذا -سواء كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلا مغايرا لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية! فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور. فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذبا، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعا للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالما لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب علي فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد. فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة) ، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما: (فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة. فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيبا وزجرا، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذبا فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه:81] ، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8] يعني: ويدفع عنها العذاب الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام. وقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها منزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل. قال رحمه الله: [ومع غيبتها يسميها وينسبها] : (ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها. أمور تبطل اللعان قال المصنف رحمه الله: [وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإن بدأت باللعان قبله أو نقص أحدهما شيئا من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف، أو لفظة (اللعنة) بالإبعاد، أو (الغضب) بالسخط؛ لم يصح] . بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله] . أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8] ، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناء على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه. إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة قال المصنف رحمه الله: [أو أنقص أحدهما شيئا من الألفاظ الخمسة] (أو أنقص أحدهما) سواء الزوج أو الزوجة شيئا من الألفاظ الخمسة فلا يصح اللعان، وكذلك الإبدال، فإذا قالت: بالله إنه لمن الكاذبين، ولم تقل: أشهد، فأنقصت الشهادة، أو قالت بدل أشهد: يميني أو أحلف، أو قال هو: أحلف بالله أو يميني بالله، فكل ذلك لا يقبل ولا يعتد به.
__________________
|
|
#613
|
||||
|
||||
|
غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان قال المصنف رحمه الله: [أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه] (أو لم يحضرهما) يعني: في اللعان (حاكم) وهو: القاضي أو الوالي العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له الولاية العامة وكان له القضاء، وكانت له الفتوى، وقد بينا أنه لابد في اللعان أن يجري في مجلس القضاء. وقوله: (أو نائبه) أي: نائب القاضي وهو: الشخص الذي ينيبه القاضي مقامه، أو نائب الحاكم وهو القاضي نفسه، فالقاضي ينوب مناب الحاكم، والحاكم يطلق بمعنى القاضي، ويطلق بمعنى ولي الأمر، فيشترط لصحة اللعان وجود ولي أمر أو نائبه أو القاضي أو نائبه. إبدال ألفاظ اللعان بغيرها قال المصنف رحمه الله: [أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف] (أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف) لأن القسم يكفر، على القول بأن اليمين الغموس الفاجرة يكفر عنها، واللعان فيه أيمان، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك ترجم أئمة الحديث رحمهم الله في كتبهم باب: اللعان أيمان، وبعضهم يقول: باب: شهادات اللعان أيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) ؛ لأن المرأة تبين كذبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لما حلفت الأيمان: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟) ، فلم يتب أحد منهما، فقال: (حسابكما على الله) ، ونقل خصومة الخصمين من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فكأنه قال: هذا الشيء لا أملك منه شيئا، فما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة، فحينئذ ينتقل الأمر من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فرغبهما عليه الصلاة والسلام في التوبة، ولذلك يقول العلماء: يسن أن يرغبهما القاضي في التوبة. إثبات الحدود يكون بالبينات لا القرائن لما قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة، وامتنع أحدهما أن يتوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه -يعني الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به أكحل العينين، خدلج الساقين، أسبغ الإليتين؛ فهو للذي رميت به) -يعني: أنها زانية- فجاءت به على الصفة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها به) ، وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام -لأن القصة وقعت لامرأة هلال وامرأة عويمر: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) ، وفي هذا فوائد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها به) يدل على دقة وسمو منهج القضاء الإسلامي الذي جعل الأحكام الدقيقة راجعة إلى أصول ثابتة لا تتغير، فالذي يدعي شيئا لابد له من البينة، والقاضي ينبغي أن يكون حياديا، فدل الحديث على أن القاضي لا يقضي بعلمه؛ لأنه تبين بالدليل الواضح أنها زانية، والوحي نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بأنها إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي اتهمت به، فثبت بالقرينة القوية أنها زانية، خاصة وأنها تلكأت، فيوجد قرائن قوية تدل على أنها زانية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة) فدل على أن القرينة لا تعد بينة، وأن القرائن لا يحكم بها في الأصول التي ثبتت فيها البينات الشرعية، وهذا يدل على أن فتح باب القرائن ووسائل الإثبات بالقرائن خلاف السنة، وسيأتينا إن شاء الله في باب القضاء تفصيل هذه المسألة، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: (لو كنت راجما أحدا من غير بينة) قفل هذا الباب، فلابد من البينات والحجج التي تبين صدق المدعي في دعواه. وفي هذا دليل على أن القاضي لا يقضي بعلمه، إلا في مسألة أجمع العلماء على أن القاضي يقضي فيها بعلمه، وهي: تزكية الشهود أو عدم تزكيتهم. وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلما فلو جيء بشاهد يشهد عندك وأنت قاض، وتعلم أن هذا الشاهد فاسق، تقول: أنا لا أرضاه شاهدا، وهذا إذا علمت منه فسقا، مثلا ثبت عليه أنه زنى أو قذف وأقيم عليه الحد، فهنا يثبت فسقه فتقول: لا أرضاه شاهدا، أو تعلم منه جرحا يوجب رد شهادته، فيحكم القاضي برد شهادته بعلمه وليس ببينة، وهذا بالإجماع، ولأن الله يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فجعل الرضا راجعا للقاضي، فله أن يرضى وله أن يرد، لكن لو أن القاضي يعلم أن فلانا أعطى فلانا ألف ريال، وتخاصما إلى القاضي، وقال الدائن: إن لي عند فلان ألف ريال، فقيل له: أحضر الشهود، فلا يقول القاضي: لا، دعواك صحيحة، وأعلم أنك صادق فيما تقول؛ لأن القاضي حيادي، وموقفه موقف الحياد، فلا يتحيز لأحد الخصمين، ولو جاءته بينة يعلم أنها كاذبة، مثل بينة مزكاة بشهود لكنهم أخطئوا أو كذبوا، فيقبل منهم الشهادة على الظاهر، ولا يرد شهادتهم، لكن المخرج أنه يثبت الحكم، بهذه البينة، ثم يقول لصاحب الحق: أنا أشهد لك، فارفع مسألتك عند قاض آخر حتى أشهد لك بذلك. وعلمه بصدق غير العدل لا يوجب أن يقبل ما تحملا وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لمن سواه قاضيا بحكمه فعلى القاضي أن يقضي في القضاء بكل حياد، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة اللعان قضى بكل حياد، ولم يتحيز لا إلى الزوج ولا إلى الزوجة، وأظهر الحقيقة ورد أمرهما إلى الله عز وجل. حكم القاضي بعد اكتمال اللعان إذا: السنة أنه يجري اللعان على هذه الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله، ويكون مهمة القاضي أن يسمع من الخصمين، وبعد الشهادة الرابعة تكون مهمته أن يوقف الزوج والزوجة قبل الخامسة لتذكيرهما، ثم بعد اكتمال اللعان يحكم بما يلي: أولا: يرغبهما في التوبة، ويقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب؛ لأنه إما أن يكون الزوج صادقا أو تكون الزوجة صادقة، ولذلك يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟ والتوبة هي: الرجوع، ورجوع الملاعن أن يقول: كذبت عليها فيما ادعيت من زناها، وتقول المرأة: هو صادق فيما قال أو فيما رماني به، ثم يقام الحد على من رجع سواء كان الرجل أو المرأة. فإذا انتهى اللعان، ورغبهما في التوبة ولم يتوبا، حكم بالفرقة بين الزوج وزوجته، فيفرق بينهما فراقا أبديا، فلا يجتمعان، وهذا من موانع النكاح المؤبدة، وقد تقدمت معنا، فمن الموانع المؤبدة: الفرقة باللعان، فهذه المرأة محرمة على الرجل إلى الأبد، ولذلك قال الزهري: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا، ولما قال عويمر رضي الله عنه بعد اللعان: (مهري، قال عليه الصلاة والسلام: إن كنت صادقا فلها ما استحللت من فرجها -يعني: ما استمتع بها قبل الزنا-، وإن كنت كاذبا فهو أبعد لك منها) ، وهذا من باب أولى، فكيف يتهمها بالزنا ثم يريد المهر؟! فيفسد فراشه، ويعتدي على أهله، ثم يريد بعد ذلك أن يأخذ المهر! فلا يستحق المهر ويفرق بينهما فراقا أبديا. قال المصنف رحمه الله: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد] . أي: لو أنه أبدل لفظة (اللعنة) بالإبعاد، فقال: أبعده الله إن كان كاذبا، لم يقبل منه، حتى لو كانت اللفظة قريبة من المعنى الذي يفيده اللعن أو الغضب، فلا بد من اللفظين: اللعن والغضب. قال المصنف رحمه الله: [أو الغضب بالسخط؛ لم يصح] : أي: لم يصح ذلك، ويجب أن تتقيد المرأة بلفظ الغضب. الأسئلة عدم ثبوت الإقرار في جريمة الزنا باللفظ المحتمل السؤال قول المرأة: لا أفضح قومي سائر اليوم، أليس هذا يعتبر إقرارا بزناها؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، والشهادة لا تثبت بشيء يحتمل، فقولها: لا أفضح قومي سائر اليوم، من حقها أن تقول هذا ولو كانت صادقة؛ فقد تقول المرأة الصادقة: لا أفضح قومي سائر اليوم، تعني: أنني صادقة، وسأحلف الخامسة، فهي كلمة لا تدل على الزنا مباشرة ولا ضمنا؛ لكن تلكؤ المرأة وخوفها وارتباكها، هذه العلامات والأمارات تعتبر قرينة، خاصة وأنها تلكأت وترددت حتى قال أنس رضي الله عنه: (حتى ظننا أنها سترجع) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (تلكأت حتى كادت أن ترجع) ، وهذا يدل على إدانة الحال؛ لكن لو قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فقد تكون صادقة، بمعنى: إنني صادقة وإنني امرأة بريئة وعفيفة ولا أرضى أن ينسب إلي الزنا فيجرح ويؤذى قومي، وليس هذا من الإقرار في شيء، وليس بدليل على الإقرار، وإنما هو أمر قالته ويحتمل أن يكون متضمنا للزنا بمعنى أنها لا تريد أن تفضحهم فامتنعت من الإقرار خشية الفضيحة والعصبية، ويحتمل أنها تريد الجزم، ولذلك لو قالها غيرها لكان الحال مترددا، فلا يقتضي ثبوت التهمة، والله تعالى أعلم. تكرار الإقرار بالزنا ينزل منزلة الشهود الجواب تكرار الإقرار بالزنا لمن اعترف به مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، والأشبه والأحوط لظاهر النص أنه يكرر إقراره -وسيأتينا إن شاء الله بسط هذه المسألة وبيان خلاف العلماء فيها فمن حيث الأصل فإن التكرار موجود، والنص واضح في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ويحك! ارجع واستغفر الله ثم تب إليه) أربع مرات، فهذا أصل يدل على أن كل إقرار ينزل منزلة شاهد. لكن الذين لا يشترطون التكرار استدلوا بأدلة، منها: حديث المرأة التي اعترفت، وهي قصة العسيف، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، قالوا: فلم يذكر تكرارا للإقرار، لكن أجيب بأن المجمل لا يعارض المفصل، ولذلك قالوا: ما وكل النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا إلا وعند أنيس علم، ومن هنا أعطاه الوكالة العامة، كأنه يقول يفعل معها في الإقرار ما هو مشترط شرعا. أما إقرار ماعز رضي الله عنه فإنه جاء المرة الأولى -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد ثم أتى فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني، فلما كانت الرابعة وأتمها، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟) -فقوله: (أبك جنون؟) تدل على أنه لا يقبل إقرار المجنون- فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، ثم قال له: (أشربت خمرا؟ -وهذا في صحيح مسلم- فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، وانظروا إلى دقة القضاء في الشريعة الإسلامية، من الذي يتبجح بالحقوق، فأين الذين يتبجحون بحقوق الإنسان المتهم، وحقوق الإنسان، هذا السمو هذا العلو في التشريع يدل على أنه لا أحسن من الله حكما لكن لقوم يوقنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشربت خمرا فقام رجل فاستنكهه) يعني شم رائحة فمه، لذلك بعض العلماء أخذ مما سبق أن الرائحة قرينة على شرب الخمر، وسيأتينا ذلك إن شاء الله في باب شرب المسكر، فلم يجد رائحة، ثم فصل معه في الزنا، وسأله عن الزنا، حتى أثبت أنه زنى بها زنا تاما، وهذه كلها شروط للإقرار بالزنا. أما حديث: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، ففيه نوع إجمال، فأجمل للعلم بتفصيله، فما علم من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مجملا فهو مفصل بهديه عليه الصلاة والسلام. لكن الذين يقولون: لا يشترط التكرار، عندهم دليل آخر، فيقولون: إنه أقر، ثم رجع، ثم أقر، وأنتم تقولون: لابد أن يكون في مجلس واحد، والشهود لابد أن يكونوا أربعة في مجلس واحد، وهذا استدلال قوي، لكن رد بقول الراوي: (فرجع غير بعيد) ، بمعنى: أنه ما زال في المسجد، وتتفرع عليه المسألة التالية: المسجد في حكم المجلس الواحد في القضاء، ولا يعتبر مفارقا لمجلس القضاء ما دام أنه داخل المسجد. فالشاهد أن المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله ولكلا القولين ما يدل عليه، وإن كان تكرار الإقرار فيه دقة أكثر، وفيه رعاية لظاهر السنة والعمل بها. واستدلوا أيضا بأن المرأة التي اعترفت بالزنا قالت: (يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟!) فهذا يدل على أنه لا يشترط التكرار، لكن أجيب بأن التكرار على صورتين، منها: هذه الصورة، أي: أنني مستعدة أن أرجع وأكرر إقراري لك ولو رددتني مائة مرة، فقالت: (أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟!) فبينت أنها مستعدة أن تكرر الشهادات، وهذه بمنزلة تكرار الإقرار، فالاستنباطات الشرعية من النصوص فضل من الله عز وجل لأهل العلم، والخلاف بين العلماء ما هو إلا رحمة من الله عز وجل إذا ثبتت به النصوص وجاءت به النصوص الشرعية؛ لأنه يجعل الشريعة شريعة مرنة واسعة بالاجتهادات والأقوال والردود والمناقشات التي تتفجر بها ينابيع الحكمة التي لا يمكن أن تصل إليها بقول واحد، ولذلك تجد هذه الشريعة صلحت في كل زمان ومكان، واستطاعت في أوج عظمة الإسلام أن تحكم من المحيط إلى المحيط، وهذا يدل على مرونة الشريعة الإسلامية؛ فمجيء الشريعة بالنصوص التي تحتمل أكثر من وجه معناه: أنها تقر الخلاف السائغ، لا الخلاف المذموم وهو الذي يقوم على رد النصوص الصحيحة الصريحة، والعبث بالأدلة والأهواء والآراء الفاسدة، أما الاستنباطات الشرعية من النصوص الشرعية والخلاف الشرعي الذي وقع بين الأئمة فهو رحمة؛ لأنه مبني على نصوص شرعية، وما كان من الشريعة فهو رحمة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، وعلى كل حال هذه المسألة كما ذكرنا فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله تفصيلها في مسائل الإقرار، والله تعالى أعلم. حكم الإشارة في الصلاة السؤال هل الإشارة في الصلاة تبطلها مثل الكلام؟ الجواب الإشارة تنزل منزلة العبارة، لكن في الصلاة فيها تفصيل: لا تبطل الإشارة في الصلاة على كل حال ما لم تكثر وتتفاحش، والدليل على أن الإشارة في الصلاة لا تبطلها عدة أدلة، وينبغي أن تقيد بالحاجة، فثبت في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وأمه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشية الظهر أو العصر ثم قام بعد الثانية ولم يجلس -أي: للتشهد- فسبحوا له فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن قوموا. وثبت عن المغيرة أنه وقع له ذلك في صلاة المغرب، وأنه أشار إليهم أن قوموا، وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت) . كذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار بيده حينما دخل وراء أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة، فسبح الناس لـ أبي بكر رضي الله عنه فالتفت، فأشار إليه أن مكانك، قال بعض العلماء: هذا وقع قبل تكبيرة الإحرام، لكن بعض أهل العلم يقول: هذا وقع بعد تكبيرة الإحرام. وفي النافلة فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار فيها لرد السلام، فكان إذا دخل عليه الداخل وسلم أشار بكفه عليه الصلاة والسلام، ويشير بكفه إلى الأرض ما يرفع كفه هكذا؛ لأنه قال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس! اسكنوا في الصلاة) ، فهذا منهي عنه، وأما الذي يشير بكفه إلى الأرض فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام ذلك. وفيما اختلف فيه هل هو فرض أو نافلة كصلاة الكسوف ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها لما كسفت الشمس، وأن أسماء رضي الله عنها جاءت ونظرت فقالت: ما شأن القوم؟ فأشارت إليها عائشة رضي الله عنها إلى السماء -أي: انظري إلى السماء وهذه إشارة- ففهمت أسماء، فنظرت إلى السماء فإذا بالشمس كاسفة. فهذا كله يدل على أن الإشارة لا تؤثر، خاصة إذا كان المصلي محتاجا إليها، فتشير إلى الرجل أن يقترب منك، وتشير إلى الرجل أن يتقدم، أو أن يتأخر عن الصف، فهذا كله لا بأس به إن شاء الله في الصلاة، لكن ينبغي ألا يتفاحش، والله تعالى أعلم. حكم صبغ الشعر بالسواد السؤال ما حكم صبغ الشعر؟ وإذا كان الشعر غير أسود، فهل يجوز صبغه باللون الأسود؟ الجواب صبغ الشعر إذا كان لسبب أذن به الشرع كتغيير الشيب فهو مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأتاه والد أبي بكر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ، هلا تركتموه حتى نأتيه! فإذا برأسه ولحيته كالثغامة بياضا، فقال عليه الصلاة والسلام: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد) . ففي هذا الحديث فوائد منها: إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لكبير السن، وهي سنته وهديه، وحفظه لحق الصاحب والخليل والمحب؛ لأن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة دون الخلة، وأحبه محبة عظيمة، فلم يكن في الخلق أحب إليه منه عليه الصلاة والسلام، وهو صدق في محبته وخلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرم عليه الصلاة والسلام والده وقال: (أثقلتم على الشيخ) ، وهذا يدل على أن الأخيار والصالحين إذا رأى أحد منهم والد صديقه يكرمه ويجله ويحترمه ويقدره ويوقره، وهل الإسلام إلا الأدب ومكارم الأخلاق ومحامدها؟ فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مكة -في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده -متواضعا لله عز وجل، ويقول: (أثقلتم على الشيخ) ! يعني: لماذا جئتم به إلينا؟ نحن الذين نأتيه، وقال ذلك كما قال بعض أصحاب السير: تطييبا لخاطر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وحفظا لحق كل من يعين على هذه الدعوة، فكل من يكون معك في هذه الدعوة معينا تحفظ له الحق في نفسه وأهله وإخوانه وقرابته، وقال: (هلا تركتموه حتى نأتيه) ؛ لأنه كبير السن، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا كريما، وكان كرمه على الوفاء والتمام. ولذلك نحن اليوم في غربة، فلا احترام للكبير، ولا توقير للشيبة والمسن، تجد كبير السن يدخل المسجد ويخرج وقد لا يجد من يسلم عليه! وإذا وجد من يسلم عليه قد لا يجد من يوقره! فيسلم عليه كما يسلم على عامة الناس! والأدهى والأمر إذا استخف به، والإنسان لا يسمو إلى الكمالات إلا إذا عاش كما يعيش الغير، لو أن الواحد منا فكر في كبير السن وهو في آخر عمره، فإنه قل أن يجد أخا من إخوانه، وقل أن ترى عينه صديقا من أصدقائه، فكلهم قد أسلموا أرواحهم وصاروا إلى الله جل وعلا، وقد لا يخرج من بيته إلا إلى مسجده أو إلى تشييع حبيب أو عيادة صديق؛ لأنه قد فارقه إخوانه. اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يأذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب أصعب الأشياء وأمرها فراق الأحبة وفراق الأصدقاء والخلان، فقل أن يجد من يأنسه، وقل أن يجد من يدخل السرور عليه، حتى إنه لربما عاد إلى بيته فوجد كل شيء غريبا عليه، حتى زوجته ربما تتغير عليه، ولربما تغير أولاده ضده، ويصبح كأنه بعيد يعيش في عالم غير عالمه، فما هو إلا في الذكريات، كأن لسان حاله يقول: ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب يقول بعض العلماء: الناس يفهمون هذا البيت: (فأخبره بما فعل المشيب) أي: من الونى والضعف، ولكن أعظم ما فعل المشيب فراق الأحبة والأصحاب، ففقدهم له وقع في القلوب لا يعلمه إلا الله عز وجل. ولقد رأينا هذا حتى في العلماء والأجلاء، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه مع صبره وجلده ما رأيته تأثر وساءت حاله وصحته إلا بعد فراقه لأحبابه الذين يعرفهم بالصدق والمحبة. ففراق الأحبة صعب فمن الذي بحنانه وعطفه وإحسانه يسد هذا الفراغ؟ ولذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة والمأثرة الحميدة فقال: (إن من إكرام الله إجلال ذي الشيبة المسلم) ؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر، وقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا) ، فكل ذي شيبة مسلم موقر، فهذا هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فكان يكرم الكبير، ويعطف على الصغير، فيسلم عليه ويرحمه. قال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ) ثم قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد) ، ففيه دليل على مشروعية صبغ الشيب، وأن السنة أن يغير بغير السواد، مثل: الحناء والكتم، والكتم ضرب من الصبغ بين الأسود والأحمر، وهو معروف وموجود إلى الآن، فهذا السنة في تغيير الشيب. أما لو كان شعر المرأة أو شعر الرجل أشقر فأراد أن يجعله أسود فلا يجوز؛ وما الدليل؟ من ناحية فقهية عندنا شيء يسمى الأصل، وعندنا مستثنى من الأصل، فالأصل عندنا أنه لا يجوز تغيير الخلقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشرة والمستوشرة -ثم قال-: المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فإذا خلق الله الشعر أحمر أو أشقر فليس من حق المخلوق أن يغيره؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، ولماذا ورد اللعن على تغيير الخلقة؟ قالوا: لأنها -أي المرأة- إذا قالت: لا أريده أحمر، كأنها لم ترض بقسمة الله لها، كما لو لم ترض بطول السن مثلا، فكأنها لم ترض قسمة الله لها، ومن هنا تعرف سبب فورود اللعن، ورد اللعن ليس فقط لتغيير الشيء، وإنما ورد لمسألة عقدية وهي: عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، والعبث بهذه الخلقة، ثم قال: (المغيرات لخلق الله) ، فإذا كان الشعر على لون فلا يجوز تغييره إلى لون آخر إلا إذا كان شيبا فيغيره بغير السواد، خلافا لمن قال: بجواز صبغه بالسواد، إلا أنه يستثنى من ذلك وقت الجهاد في سبيل الله، فقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله أن يصبغ الشيب بالسواد إرهابا للعدو وتخويفا له، وكثير من المحرمات استثنيت في الجهاد، ولذلك لما أخذ أبو دجانة السيف وتبختر في مشيته قال عليه الصلاة والسلام: (إنها لمشية يبغضها الله -هذا الفعل يبغضه الله- إلا في هذا الموضع) ؛ لأن فيها كسرا لأعداء الله عز وجل، وإظهارا لعزة الإسلام، فوافقت مقصود الشرع، بخلاف إذا تكبر وتجبر وعلا وطغى في غير هذا الموطن، فإنه يخالف مقصود الشرع، ويقع فيما حرمه الله سبحانه وتعالى. وبناء على ذلك فإذا كان الشعر يغير لشيب فلا إشكال، شريطة أن يكون التغيير بغير السواد، وأما إذا كان التغيير لغير الشيب فإنه محرم ولا يجوز فعله، والله تعالى أعلم. حكم نتف الشعر الذي بين الحاجبين الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تنتف ما بين الحاجبين؟ الجواب لا يجوز نتف الشعر الذي بين الحاجبين، والنص في هذا واضح، حيث أن النمص هو نتف شعر الوجه، وما بين الحاجبين هو من شعر الوجه فلا يجوز نتفه، ولا يجوز العبث به، ويترك على الخلقة التي خلقها الله عز وجل. وجمهور العلماء على أن هذا لا ينمص ولا يزال، سواء كان النمص بالنتف أو بالحرق أو بالحلق أو بالقص أو بوضع مواد من الأصباغ تخفيه فكل ذلك لا يجوز، وهو تغيير لما خلقه الله، وعلى المخلوق أن يرضى بخلق الله عز وجل لما فيه من حكمة عظيمة، وتذكير الناس بهذا الاختلاف الذي يدل على وحدانية الله عز وجل؛ لأن اختلاف الخلقة دليل على وجود الخالق الذي يصور كيف يشاء، ويخلق كيف يشاء، {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف:54] ، والله تعالى أعلم. الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار السؤال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسأ له في أثره ... ) الحديث، ما العلاقة بين زيارة الأقارب والمد في العمر والبركة في الرزق؟ الجواب الحديث صحيح وهو: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، فليصل رحمه) ، ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيان منه عليه الصلاة والسلام للثواب والجزاء الذي أعده الله لمن وصل الرحم، واشتمل على إنساء الأثر، وأصل نسأ في لغة العرب: التأخير، كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} [التوبة:37] ؛ لأنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها ومواعيدها، وسمي ربا النسيئة نسيئا؛ لأنه تأخير لأحد الربويين مما يجب فيه التقابض في مجلس العقد، فالنسأ أصله التأخير، فالمعنى: يزاد له في العمر. والأصل أن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكن هناك أوجه عند أهل العلم رحمهم الله في كيفية زيادة عمره، فمنهم من قال: إن الله تعالى يبارك في عمر الواصل لرحمه حتى أن السنة تعادل عشرات السنين، ولذلك من الناس من يعيش اليوم كسنة، ومن الناس من يعيش السنة كسنوات؛ لما وضع الله له من البركة والخير، بركة في نفسه، وبركة في أهله، وبركة على الناس، إما أن يكون داعية إلى الله عز وجل يحمل هموم الأمة فينفعهم وينصحهم ويوجههم، فلربما عمل الساعة منه تعادل سنوات؛ لما وضع الله له من البركة والأجر والمثوبة، وربما خطيب في مسجد ينصح الناس ويوجههم ويرشدهم إلى الخير، فيبارك الله في خطبته سنوات من عمره؛ لما يضع لها من القبول والانتشار بين الناس، وينتفع بما فيها من الخير، وكذلك ربما يكون الرجل عنده مال يسخره على هلكته بالحق، فيكسي به العاري، ويطعم به الجائع، ويغيث به الملهوف، وينصر به المظلوم، ويعين به على نوائب الحق؛ فيجعل الله اليوم من أيامه كالسنوات من غيره، لما فيه من الخير والبركة، فيدعو له الناس، ويعظم ترحم الناس عليه، وتكثر صلواتهم ودعواتهم له بالخير والبركة، فيبارك له في عمره وكأنه عاش سنينا عديدة، وهذا كله راجع للبركة التي يضعها الله عز وجل. ولذلك تجد أنك في بعض الأيام توفق لكثير من الأعمال التي تعملها في خاصتك لنفسك وأهلك وولدك بما لم يخطر لك على بال؛ لما يوضع من البركة، وهذا كله مقرون بطاعة الله عز وجل، فهذا وجه عند بعض العلماء، فمثلا: عمره ستون سنة لا يزيد ولا ينقص، ولكنه إذا كان واصلا للرحم جعل الله عز وجل أيام عمره بعد صلته للرحم طويلة مديدة بسبب البركة، فاليوم -بما يكون فيه من الخير والبركة عليه وعلى غيره- كأيام. ولذلك تجد بعضهم إذا عاش بين الناس نعم الناس بعيشه بينهم لما فيه من الخير، فتجده -مثلا- شجاعا ينصر المظلوم، فيجعل الله عز وجل أيامه أيام خير وبركة، وما كان بين قوم إلا نفعهم الله به، ومنهم من يكون كريما جوادا حتى أنه يموت وهو حي في الناس بسبب ما يذكرونه له من مآثر ومواقف حميدة، فكم يموت أقوام وهم في الناس أحياء بمآثرهم، فلم تمت مكارمهم ومآثرهم، وهذا زيادة في العمر؛ لأن أحدهم كأنه حي موجود يذكر في المجالس، وكأنه حي بسبب ما كان منه من الخير والبركة. وهناك قول ثان أنه يزاد في العمر حقيقة، فصحيفة الملك فيها: أن عمره ستون -مثلا- إن لم يصل رحمه، فإن وصل الرحم فعمره ثمانون، والملك لا يدري، ولذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، فالذي في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، فقد قدر وكتب وجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، ولكن صحيفة الملك هي التي يكون فيها التغيير والتبديل بنص القرآن: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد:39] ، وأم الكتاب هو الذي فيه حقيقة العمر وأصله، وهل هو واصل أو غير واصل؟ وهذا من أعدل الأوجه، وهو أنسب الأقوال. ولا مانع من القول الأول بأنه توضع له البركة، فحينئذ يكون وضع البركة بالنسبة لأصل اللوح المحفوظ أن يكون في عمره، وتكون النقص والزيادة على صحيفة الملك، لكن القول الأول واضح في الدلالة؛ لأنه يتفق مع ظاهر النص في قوله: (ويزاد له في عمره) فهي زيادة البركة فيما يكون له من الخير والنعمة. أما السؤال: ما هي العلاقة بين أن يزاد في العمر وينسأ في الأثر وبين صلة الرحم؟ أخي الكريم: لا يستطيع العقل القاصر أن يربط بين هذا الثواب الذي يضعه الله عز وجل وبين العمل، وهذا تقدير العزيز العليم، ولا يستطيع الإنسان أن يدركه، ولو أنه ظهر له بعض الحكم فلن يستطيع أن يدرك الحقيقة التي من أجلها جاء الثواب على هذا الشكل وعلى هذا الوجه. ولذلك يوصى طالب العلم ويوصى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسلم، فالنص إذا جاء بشيء لا تبحث عن العلل، ولا تتعود أن تبحث عن المناسبات والقرائن، وما يسمونه: بعلم اللطائف، فهذه أشياء ليست من أصل العلم، أصل العلم: الرضا والتسليم والقناعة التامة الكاملة؛ لأن الإنسان إذا صار عقلانيا وقف في التعبديات موقف الشك والريبة، وهذا الذي كان علماؤنا ومشايخنا رحمهم الله يشددون فيه، فكانوا إذا جاءتهم هذه المسائل من علوم الغيبيات التي لا يبحث فيها سلموا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فما تستطيع أن تبحث في شيء قد بينه الله عز وجل وبينته نصوص السنة، فلا يسعك أولا وآخرا ظاهرا وباطنا إلا قوله سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت} [النساء:65] ، وقوله: (حرجا) نكرة، تدل على نفي أي حرج كان؛ لأنه قضاء الله، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال: {ويسلموا تسليما} [النساء:65] ، فسلم رحمك الله! وينبغي على العلماء والأئمة والدعاة والخطباء دائما ألا يحاولوا ربط الناس دائما بالحكم والأسرار، خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي أصبح المتكلم والعالم في نظر الناس هو الذي يأتي باللطائف، ويحسن تعليل الأشياء، والكلام فيها، وهذا ليس هو العلم كله، حتى إن العلماء لما جاءوا في مسألة ليلة القدر مع أن عدد كلمات سورة ليلة القدر ثلاثون الكلمة، وجاءت الكلمة السابعة والعشرون في قوله: {سلام هي} [القدر:5] ، ومع ذلك تجد أئمة العلم القدماء يقولون: هذا ليس من أصل العلم والفقه؛ لأنه استنباط، وربما جعل الله السورة ثلاثين كلمة امتحانا أو ابتلاء للعباد، لكن ما عندنا نص يجزم بأن كون (هي) الكلمة رقم سبعة وعشرون فإذا ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وقد يضع الله هذه ابتلاء واختبارا للعباد، فقد يقول الإنسان على الله بلا علم، فالذي يدخل في العقلانيات قد يقول على الله ما لا يعلم. ولذلك كان العلماء يشددون في علم المناسبات من السور والآيات، فالله سبحانه وتعالى يحكم، وتأتي أحكامه على ما يمكن تعليله، وما لا يمكن تعليله، فالقاصر والمخلوق لا يستطيع أن يدرك ما لله عز وجل من الحكم، والله عز وجل أصدق قيلا، وأكمل حكما. فاللهم! إنا نسألك التسليم والرضا بما قدرت وحكمت، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
|
|
#614
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (465) صـــــ(1) إلى صــ(25) شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [3] إذا حصل اللعان بين الزوجين فإنه يترتب عليه فرقة أبدية بين الزوجين، وهناك قاعدة تتعلق باللعان ذكرها العلماء رحمهم الله وهي: أن كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها؛ ولذا لو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة، فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا يثبت اللعان، كما أن هناك ألفاظا ذكرها المصنف لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان. عقوبة من قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عزر ولا لعان، ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظا كزنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر] . يشترط في صحة اللعان أن يكون المحل الذي ورد عليه القذف يتعلق به القذف، ويثبت به حكم القذف. وتوضيح ذلك: أن اللعان شرع لدفع الحد عن الزوج القاذف، فلابد في الزوجة المقذوفة أن يثبت القذف في حقها، ولذلك كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها، فهذه قاعدة عند العلماء رحمهم الله. فلو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة كذلك فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا اللعان؛ لأن اللعان فيه معنى التعبد، والأيمان لا تصح من الصبية ولا من المجنونة، ولذلك لو لاعنها فإنها إذا حلفت لم تؤاخذ على أيمانها. ومن هنا: لا يصح لعان الصغيرة ولا يصح لعان المجنونة، فقال رحمه الله: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر) أي: أنه يثبت التعزير فيعزر، والتعزير يرجع في عقوبته إلى نظر واجتهاد الحاكم والقاضي، فإذا نظر القاضي إلى أي جريمة لا حد فيها؛ ولا عقوبة مقدرة من الشرع فيها، فإنه يجتهد في معاقبة صاحبها، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك في باب التعزير. وبناء على ذلك: لو أن رجلا تزوج بنتا عمرها -مثلا- خمس سنوات، قال وليها: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وتم العقد بينهما وعقد عليها، ثم قال لها: يا زانية، فحينئذ لا يثبت اللعان ولا يثبت القذف؛ لأن الزنا لا يتأتى من الصغيرة، فليست محلا للتهمة -وسيأتي في باب القذف من الذي يثبت في حده القذف، ويعتبر قذفه موجبا للحد، ومن هو بخلاف ذلك- فإذا قال لهذه الزوجة الصغيرة: يا زانية ورماها بالزنا، فإن الزنا لا يتأتى منها أصلا؛ لأن مثلها لا يوطأ وليست محلا للوطء، وحينئذ لا معنى لقوله: يا زانية، إلا الأذية والإضرار، فليست التهمة بالزنا حقيقية؛ لأنه لا يتأتى منها الزنا الذي له حكمه الشرعي. لكن هناك عقوبة وهي التعزير، فينظر القاضي في المرأة المقذوفة التي رماها بالزنا، وينظر إلى حاله، ثم يقدر العقوبة بحسب ذلك، وفي هذه الحالة لا يستطيع الزوج أن يقول: أريد أن ألاعنها وهي زوجتي؛ لأن هذا يدرأ ويدفع عنه الحد، فحينئذ لا يثبت أصلا حد القذف في حقه للأسباب التي ذكرناها، فإذا انتفى أمر القذف ولم يثبت حده فلا وجه للعان، وحينئذ ينصرف الأمر إلى جناية لا تقدير لها في الشرع، وهي جناية السب الذي ذكره لها بالزنا، وهذه لا عقوبة لها في الشرع محددة؛ لأنه ليس بالقذف الشرعي الذي يثبت، ولذلك قال تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات} [النور:23] ، والإحصان له شروطه كما سيأتينا إن شاء الله تقريره في باب القذف بإذن الله تعالى، وبناء على ذلك فلو قذف الصغيرة أو المجنونة التي هي زوجة له، وقيل له: قد قذفتها ونريد أن نعزرك، قال: أريد اللعان، نقول: لا لعان؛ لأن الصغيرة والمجنونة لا يثبت فيمن رماهما حد القذف، ولا يثبت اللعان بسبب ذلك. القذف بالتعريض والكتابة قال رحمه الله: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظا] أي: من شروط ثبوت اللعان، (قذفها) الضمير عائد إلى الزوجة، (بالزنا) إما أن يكون صريحا، كقوله لها: يا زانية -والعياذ بالله- أو رأيتك تزنين أو أنت زانية، وقد يكون تعريضا، كأن يقول لها في معرض الغضب وحال الخصومة: إني لست بزان، كأنه يقول لها: أنت زانية، فهذا تعريض، فعند بعض العلماء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القذف- أنه يوجب ثبوت التهمة؛ لأن الله اعتبره موجبا لثبوت التهمة، في قوله: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم:28] ، فجعل الله عز وجل هذا من الفرية مع أنهم لم يصرحوا لها بالزنا، وكأنهم يقولون: قد خالفت أباك وأمك فأنت على حال ليس كحالهم. فعلى كل حال يشترط في ثبوت اللعان أن يكون هناك قذف؛ لأن الله تعالى يقول: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6] ، فأثبت الله سبحانه وتعالى وجود الرمي، وقد بينا أن الرمي تطلقه العرب حسا ومعنى، والمراد به في الآية الكريمة الرمي المعنوي وهو القذف، فيشترط أن يرميها بالزنا لفظا؛ لأن عويمر العجلاني قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم ماذا يفعل؟ فقد يجد الرجل مع امرأته رجلا يزني بها، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء) ، فأثبت أن هناك قذفا، وجاءت الرواية عن هلال بن أمية أنه قال: (والله! يا رسول الله! لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فأثبت أنها زانية، وبين أنه يستند إلى المشاهدة والسماع اللذين هما أقوى دليل على ثبوت الأمر، وعدم الشك فيه. إذا: لابد من وجود الرمي بالزنا، وأن يكون لفظا، فلو رمى بغير الزنا سواء كان مما فيه فحش أو مما ليس فيه فحش؛ لا يجب اللعان، فمن قال لامرأته: يا غافلة أو يا بلهاء، فهذا ليس بقذف ولا يوجب إثبات الحد، وهكذا لو قال لها: يا مجنونة، فلابد من وجود التهمة بالزنا، وأن تكون لفظا لا فعلا، وقال بعض العلماء: الكتابة تنزل منزلة اللفظ، وهذه مسألة تقدمت معنا في حكم طلاق من كتب طلاقه، فقال بعض العلماء: إن كتابة الشيء كالتلفظ به، فمن كتب لامرأته بالطلاق ولم يتلفظ به وقع طلاقه، ومن قذف بالكتابة ولم يتلفظ به فإنه قاذف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت بها نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، ولأن الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة:67] ، وقد كتب إلى الملوك ملوك الأرض، فنزل الكتابة منزلة البلاغ المباشر، فدل على أن الكتابة تنزل منزلة العبارة. ومن أهل العلم من قال: إنه لابد من وجود الرمي بالقول إعمالا للأصل؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا قذف بالكتابة لم يكن رميا من كل وجه، ومن هنا: لا يأخذ حكم القذف، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الطلاق. وقوله: (كزنيت) : هذا لفظ صريح، فإذا قال لها وهي حاضرة شاهدة: زنيت، فهذه تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه، وإذا قال: يا زانية أو رأيتك تزنين فهذا أيضا لفظ صريح، إذا قاله لزوجته وهي حاضرة شاهدة، فهي تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه. قول العلماء فيمن قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر وقوله رحمه الله: (في قبل أو دبر) تقدم معنا مسألة هل اللواط ووطء المرأة في الدبر ينزل منزلة القبل؟ فيها وجهان للعلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من اختار أن وطء المرأة في الدبر كالزنا بها إذا كان من غير الزوج، وهكذا إذا كان زوجا فإنه قد أتى الحرام، وقالوا: إنه يعزر أشد التعزير. ومنهم من قال: يقام عليه الحد. ونسب لبعض العلماء الترخيص فيه، ولكنه مذهب شاذ لا يعول عليه ولا يعمل به؛ لأن الله تعالى يقول: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة:223] ، والحرث إنما هو في القبل دون الدبر، فوطؤها في الدبر كوطء الأجنبية، فهو وطء في غير المحل المعتبر شرعا، وروى الترمذي حديثا حسن بعض العلماء إسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن أتى امرأته في دبرها، وهذا وعيد شديد، وجماهير السلف والخلف رحمهم الله أن من كبائر الذنوب إتيان المرأة في الدبر، وللإمام ابن القيم كلام نفيس في هذا، وذكر أن المرأة حينئذ تسوء أمورها، وتفسد أخلاقها، فالرجل إذا أتى امرأته في دبرها أفسدها الله عليه، فذهب ماء وجهها، وأظلم قلبها، وكان سببا في كثير من المفاسد والشرور، إضافة إلى ما فيه من الاعتداء لحدود الله عز وجل والانتهاك للمحارم، فإن الله يقول: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223] ، والمراد بإتيان الحرث مكان الوطء، فلو أنه قذف المرأة بأنها وطئت في الدبر، أو وطئت في القبل، فالحكم عند الحنابلة رحمهم الله واحد، فهو كالقذف بالزنا الصريح، فإذا خاطبها بذلك ثبت به القذف، وحينئذ إذا كان زوجا فإنه يلاعنها. ألفاظ لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: وطئت بشبهة أو مكرهة أو نائمة، أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني، فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه، لحقه نسبه، ولا لعان] . قول الرجل لامرأته: وطئت بشبهة (فإن قال: وطئت بشبهة) أي: وطأك الغير بشبهة، والشبهة: الشيء المشبه للشيء الذي فيه ما يقارب أوصافه فيختلط به، فالوطأ بالشبهة هو: الذي فيه شبه من الحلال وشبه من الحرام، مثلا: امرأة يدخل عليها رجل يظنها زوجة له وهي تظنه زوجا لها، فيطؤها بشبهة، فهو ظن أنها زوجته ولا يقصد الزنا، ولا يريد الحرام، ولو علم أنها أجنبية لما وطئها، وكذلك هي، فهذه شبهة تدرأ الحد، فيه شبه من الحرام؛ لأنها ليست زوجته، وفيه شبه من الحلال حيث أنه لا يؤاخذ ولا يعاقب؛ لأنه يعتقد أنها زوجته، وكذلك هي مكنته من نفسها ظنا منها أنه زوجها، فهذا وطء الشبهة، ومن وطء الشبهة أن يكون في نكاح فاسد يظن أنه صحيح، فيعقد على المرأة عقدا فاسدا، ويظن أنها قد حلت له بهذا العقد الفاسد، ثم تمكنه من نفسها، وينكحها وهو يظنها زوجة حلالا، وحينئذ يكون الوطء فيه شبهة تمنع الحد، ويثبت بها نسب الولد. فلو قال لامرأته: وطئت بشبهة، لم يكن قذفا؛ لأن هذا ليس برمي بالزنا، فليس بقذف ولا يوجب ثبوت اللعان؛ لأنه إذا لم يكن اللفظ قذفا لا يثبت اللعان. قول الرجل لامرأته: وطئت مكرهة وقوله: (أو مكرهة) : أي: وطئت مكرهة، إذا أكرهت المرأة على الزنا فجماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يقام عليها حد الزنا، وأنها لا تأخذ حكم الزانية؛ وذلك لأنها إذا أكرهت سقط التكليف عنها، والله تعالى يقول: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، فلو أن امرأة توافرت شروط الإكراه فيها، وقد ذكرنا هذه الشروط في طلاق المكره، وقلنا: إن من شرط الإكراه أن يكون الشيء الذي تهدد به أعظم من الشيء الذي يطلب منها، فالقتل أعظم من الزنا، فلو قيل لها: إذا لم تزني قتلناك أو قتلنا ولدك، وعلمت أنه سيقع هذا الشيء الذي هددت به، ولا يمكنها أن تستصرخ ولا أن تستنجد، فمكنت من الزنا بها، ولكنها كارهة بقلبها غير مطمئنة، فهذه توافرت فيها شروط الإكراه، فجاء زوجها وقال لزوجته: وطئت مكرهة، فاشتكته عند القاضي وقالت: قذفني، فنقول: قوله: وطئت مكرهة، ليس بقذف؛ لأن الوصف بالإكراه يوجب ارتفاع حكم اللعان، وهذا وصف حقيقي، وهكذا لو قال: وطئت بشبهة، أو وطئت مكرهة، على أمر يعلمه بينه وبينها، فإنه لا يوجب ثبوت القذف. قول الرجل لامرأته: وطئت نائمة وقوله: (أو نائمة) : أي: وطئت نائمة، المرأة إذا وطئت وهي نائمة، اندرأ عنها الحد، ولا يوجب ذلك ثبوت زناها، كما إذا كانت ثقيلة النوم، وقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة كانت صالحة، ففوجئ أهلها بأنها حامل، فرفع أمرها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عنها فوجد أنها ممدوحة بالخير ويثنى عليها، فسأل عن أمرها فقالت: يا أمير المؤمنين! إني كنت نائمة ولم أشعر إلا وقد فرغ الرجل من حاجته، فدرأ رضي الله عنه عنها الحد. فالمرأة إذا كانت نائمة فإنها غير مكلفة، فلو وطئت وهي نائمة، ثم قال لها زوجها: وطئت وأنت نائمة، فإن هذا لا يوجب ثبوت اللعان. من لم يرم زوجته بالزنا ونفى الولد قال المصنف رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) القذف في اللعان يشتمل على صورتين: الصورة الأولى: أن يرميها بالزنا. الصورة الثانية: أن ينفي الولد ولا يرميها بالزنا، يقول: هذا الولد ليس بولدي، فيقال له: تتهمها بالزنا؟ يقول: هذا الولد ليس بولدي، وقد تحمل المرأة وتكون معذورة شرعا، مثل أن توطأ بشبهة، أو شاهدها وقد أكرهت فقال: هذا الولد ليس بولدي، فيقع اللعان على نفي الولد. فتارة يقع اللعان على درأ حد القذف، وتارة يقع على نفي الولد. دليل الصورة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك) ، فهو اتهم زوجته بالزنا، ودرأ عن نفسه الحد بهذا اللعان. ودليل الصورة الثانية -وهي أن ينفي الولد-: ما جاء في قصة هلال، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إليه فإن جاءت به خدلج الساقين، أكحل العينين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به) ، وجاءت به على هذه الصفة، وخدلج الساقين: أي: كثير لحم الساقين، وأكحل العينين: أي: أنه شديد سواد منابت الشعر في عينيه كأنها قد أكحلت، وسابغ الأليتين: أي كثير الشحم في الأليتين، فجاءت به على هذه الصفة، فهذا لعان على نفي الولد، فوقع لعان هذا الصحابي على الصورة التي يسميها العلماء: الصورة المركبة، وهي: أن يجمع بين نفي الولد وزناها، فيشهد في اللعان قائلا: إن زوجتي فلانة زانية، وإن هذا الولد ليس بولدي، وإذا كانت حاملا يقول: وهذا الحمل ليس مني. وقد يكون اللعان بنفي الولد دون التهمة بالزنا، والمرأة قد تحمل بدون زنا، فربما لو دخلت مستحما للرجال، فاستدخلت ماء الرجل في فرجها، فيقع الحمل دون وجود الزنا، وهذا قد يقع، وهذا الذي جعل التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي كشهادة الأربعة العدول، ومن هنا تدرك عظمة هذه الشريعة، وبعض الناس قاصر فهمه يقول: الآن عندنا تحليلات طبية، التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي، فربما أن المرأة تحمل باستدخال المني في الفرج بدون الوطء، وهذا معلوم وموجود. فقد يقع الحمل في صور بدون وطء، لكن ليس هناك مثل أربعة عدول من المسلمين يشهدون أنهم رءوا الزنا، وأنهم رءوا الرجل يزني بالمرأة، وأن ذلك منها كالميل في المكحلة، فهذا من أثبت وأوضح ما يكون، أو تقر المرأة أو يقر الرجل على هذا الشيء، فهذه هي البينات الشرعية. فالشاهد أنه حينما يقول: هذا الولد ليس بولدي، ولا يتهمها بالزنا، فهذا نوع من اللعان فينفي الولد، وهي تلاعن على أن الولد ولده. قال رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) : ليس ولدي أو ليس مني، وهذه المسألة لها صور: إذا كان الزوج يشك في الولد وفي الحمل، ونفى الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، فحينئذ إما أن ينفيه حال حملها قبل الوضع، أو ينفيه بعد الوضع. فإن نفاه حال حملها فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: لا تصح الملاعنة حتى تضع، فلا يرون اللعان في حال حمل المرأة؛ لاحتمال أن يكون الانتفاخ الذي في بطن المرأة مرض وليس بحمل، فحينئذ لا لعان؛ لأن هناك شبهة، وهناك أمر غير بين، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة رحمهم الله. وقالت الشافعية والمالكية: يصح اللعان على نفي الحمل، وهذا ثابت في حديث هلال بن أمية، فإنه لما لاعن نفى النبي صلى الله عليه وسلم الولد منه، ولم يجعله له، فدل على أن اللعان وقع على الزنا وعلى نفي الولد. والصحيح أنه يصح اللعان على نفي الحمل خلافا لمن قال: لا لعان حتى تضع المرأة. إذا: إذا نفى الحمل قبل أن تضعه المرأة، فالصحيح أنه يقع اللعان، وأن المرأة تلاعن، والرجل يلاعن. الصورة الثانية: أن يقع نفيه للولد وتهمته لزوجته وأن الولد ليس بولده بعد وضعها، فمن أهل العلم من قال: يشترط أن يكون بعد الوضع مباشرة فلا يتأخر؛ لأن سكوته بعد وضع الولد، وقبوله للتهنئة بالولد يعتبر رضا منه بنسبته إليه، وإقرار منه أن الولد ولده، فيشترطون أن يكون نفيه مباشرة، وألا يكون هناك تأخر ولا تراخ. فهناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول: الولد ليس بولدي، وهي زانية، فجمع بين الأمرين بين نفي الولد وزناها. الصورة الثانية: أن يقول: لم تزن، والولد ليس بولدي، فنفى الزنا لكن أثبت أن الولد ليس بولده. الصورة الثالثة: أن يقول: الله أعلم زنت أو ما زنت، لا أدري، ولكن الولد ليس بولدي. هذه ثلاث حالات: فإذا نفى الزنا وأثبت الولد -وهذا الذي يعنينا- قال فيه المصنف رحمه الله: (وشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان) ؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي الزوجة، وخذ هذه القاعدة: من عقد على امرأة عقدا شرعيا، ومضت مدة يمكن أن تحمل فيها أو تضع، فجميع ما تضعه المرأة -والعقد قائم- ينسب لهذا الرجل، سواء وضعته في حال حياته أو بعد موته بمدة الإمكان على تفصيل سيأتينا إن شاء الله في لحوق النسب، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) ، فقوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) قاعدة في أننا ننسب الولد للفراش، فإن كانت منكوحة نسب إلى الناكح، وإن كانت غير منكوحة نسب إلى أمه؛ لأنه ولد زنا والعياذ بالله! وبناء على ذلك: إذا قال: هذا الولد ليس بولدي، ففيه تفصيل: بعض العلماء يقول: إذا نفاه مباشرة بعد الوضع فإنه من حقه، وخاصة على مذهب من لا يرى اللعان حال الحمل، فإذا وضعت الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، أو شهد عدول على أنه نفاه مباشرة وأنه لم يقبل التهنئة به، ولم يثبت الدليل على رضاه؛ صح نفيه ولاعن. لكن المصنف رحمه الله يقول: (إذا شهدت امرأة ثقة) وهذه المسألة تعرف عند العلماء بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وستأتينا إن شاء الله في باب البينات، ونبين أن الشريعة تقبل شهادة الرجال فقط كما في الحدود والدماء ولا تقبل شهادة النساء، ولذلك ما ذكر الله شهادة النساء في الدماء وفي الحدود، فمثلا في الزنا، ما يشهد ثمان نسوة، ولذلك قال: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4] ، ولم يذكر البدل من النساء، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن النساء تغلب عليهن الغيرة، ويغلب عليهن الاستعجال للضعف البشري الذي هو من طبيعة خلقهن، لو خلق الله بنيتي ضعيفة، ما آتي وأقول: لماذا خلقني الله ضعيفا؟ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، وهذا الضعف الحاصل في المرأة كمال لها في مواطن، لكن خلقها سكنا للرجل وفيها هذا الضعف، ولذلك جبرت شهادتها بشهادة أختها، فقال: {فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282] ، فجعل شهادتها في الأموال {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما} [البقرة:282] ، فبين الله علة جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، {أن تضل إحداهما فتذكر} [البقرة:282] ، وفي قراءة (( فتذكر )) يعني: تجعلها كالذكر، (فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة:282] ، فتنقل شهادتها من النقص إلى الكمال، فالأمور التي تقبل فيها شهادة النساء هي الأموال وما يئول إلى الأموال إعمالا للنص، وهذا هو الأصل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، والمرأة لا تساوي الرجل في هذا، يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب، هذا شرع الله عز وجل، وهذا كتاب الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بينا غير مرة أن الله سبحانه وتعالى فضل الرجل على المرأة بنصوص الكتاب والسنة التي لا تقبل جدالا ولا مراء، كقوله: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} [الزمر:6] ، فأول ما خلق الله بيده آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ولم تكن حواء مخلوقة مستقلة، وإنما خلقها من آدم، تشريفا للذكر وتكريما له، والله يفضل من شاء كيف شاء ومتى شاء وبما شاء، {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء:23] ، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، فهذا التفضيل حتى في الخلقة والإدراك والتركيز والشعور، فالمرأة من حيث هي لا تقبل شهادتها في الدماء، ولذلك انظر إلى المرأة إذا وقع أمامها أي جرح تغمض عينيها فهي لا تتحمل، والشهادات تحتاج إلى تحمل، وتحتاج إلى قوة، خاصة الأمور التي فيها قتل، وفيها جرائم، وفيها اعتداء، فمن هنا: نقول إن شهادة النساء تقبل في الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء -وهذا محل الشاهد معنا هنا- كمسألة كون المرأة بكرا أو ثيبا، كما تقدم معنا في مسائل النكاح، وكمسألة الوضع في الفراش؛ لأن المرأة تلد غالبا عند النساء، فالنسوة هن اللاتي يقمن بتوليد النساء في الأصل، وهذا الذي أثبتته قواعد الشريعة؛ لأن الجنس مع الجنس أبعد عن الفتنة، وأبعد عن الحرام والوقوع في المحظور، فإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل أن المرأة تقبل شهادتها في الأموال، وما يئول إلى الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل مسألة الولادة، ومسألة الرضاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فيه شهادة الواحدة، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) وسيأتينا إن شاء الله في باب الرضاع، فلما قبل امرأة واحدة في إثبات الرضاع وهو مما لا يطلع عليه إلا النساء دل على قبول شهادتهن في نوع خاص، وهذا فيه تفصيل عند العلماء وضوابط وقيود؛ لأن الأصل يقتضي ألا تقبل الشهادة إلا بالعدد، فإذا شهدت المرأة الثقة أن امرأة ولدت هذا الولد على فراشه، وما زال النكاح قائما، وما زالت الزوجية قائمة على صفة يلتحق به الولد، فحينئذ الولد ولده ولا لعان على ما اختاره المصنف رحمه الله، ونحن قد بينا أن العمل على التفصيل، فإن كان هناك مبادرة بالإنكار حال حمله أو بمجرد وضعه، فله الحق أن يلاعن وأن ينفي هذا الولد عنه. تكذيب الزوجة لزوجها شرط في وقوع اللعان قال المصنف رحمه الله: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة] : ومن شرط وقوع اللعان أن تكذبه الزوجة، فلو أن الزوجة صدقته فإنه يقام عليها الحد، لو قالت: هو صادق، وأقرت بذلك في مجلس القاضي ثبتت عليها جريمة الزنا ويقام عليها الحد. لكن لو أنه قال لها: يا زانية، في البيت وسكتت، وسألتها إحدى النساء: هل أنت زانية؟ قالت: نعم، ووقع إقرارها في البيت، فحينئذ لا لعان؛ لأن اللعان يكون مع امرأة تكذب وتنفي، ولذلك ستشهد بالله أيمانا مغلظة على أنه ليس بصادق أو أن هذا الولد ولده، إذا: لابد أن تكذبه المرأة. الأمور المترتبة على اللعان سقوط الحد والتعزير قال المصنف رحمه الله: [وإذا تم سقط عنه الحد والتعزير] . وإذا تم اللعان على الصفة المعتبرة شرعا فلاعن الزوج سقط عنه الحد، وسقط عنه التعزير، والأصل أن الزوج إذا لاعن فإنه يدرأ بأيمان اللعان الحد عن نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق فيما أقول، وسينزل الله في قرآنا، فأنزل الله فيه قرآنا، فأثبت اللعان لأجل درأ الحد عن الزوج، فدل على أن الزوج إذا لاعن، وحلف أيمان اللعان كاملة أنه يندرأ عنه الحد. الفرقة الأبدية بين الزوجين قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد] إذا لاعن رجل زوجته، وحلفت المرأة أيضا ولاعنت، فيفرق بين الزوج والزوجة فراقا أبديا، قال الزهري رحمه الله: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا، ولذلك لما لاعن عويمر زوجته، وسأل عن المهر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت صادقا -أي بأنها زانية- فالمهر لها بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبا فهو أبعد لك منك) ، فشبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه يفرق بين المتلاعنين فراقا أبديا فلا يجتمعان. ولكن إذا كذب نفسه وقال: كذبت فيما رميتها به، وهي ليست بزانية، فهل يحق له أن يعقد عليها وترجع إليه؟ قال بعض العلماء: يصح ذلك، ويقام عليه الحد، وترجع إليه زوجته؛ لأنه شرع لسبب وهو بقاء اللعان، ومن العلماء من يقول: إذا وقع اللعان وقعت الفرقة إلى الأبد؛ لأنه تنتقل حكومة الزوج والزوجة من الدنيا إلى الآخرة، فيبقى الفراق بينهما حتى يقضي الله بينهما بالحق، وهو خير الفاصلين، فيقضي الله بينهما في حكومة يوم الدين؛ لأن كلا منهما قد أتى ببيناته وشهاداته، فتعذر ترجيح إحدى الشهادتين على الأخرى، فبقي الأمر معلقا إلى يوم القيامة.
__________________
|
|
#615
|
||||
|
||||
|
الأسئلة إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟ السؤال إذا وجد الشهود فهل للزوج أن يلاعنها أو يكتفى بشهادة الشهود وتستحق الرجم؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذه مسألة خلافية، فمن أهل العلم من يقول: من عنده بينة فإنه لا يلاعن، وإنما يقيم البينة ولا لعان، وحينئذ لا يثبت اللعان بالشهود. ومن أهل العلم من قال: هو مخير لاحتمال أن تكون البينة كاذبة؛ لأنه قد يشهد شهود ويكون عندهم خطأ أو يكون عندهم كذب وتزوير والعياذ بالله! ويريدون إلحاق الضرر بالمرأة، قالوا: فالأفضل: أنه يلاعن حتى يمكنها من أن تدفع عن نفسها الضرر، وعلى كل حال، فكلا القولين له وجه، لكن الأحوال تختلف، فإذا كان يعلم أنها زانية وعنده شهود فالأفضل والأكمل سترها بشرط ألا يكون هناك حمل يلتحق به، فإذا كان هناك حمل ولا يمكنه أن يدفع هذا الحمل إلا باللعان فقد فصلنا فيه القول في أول باب اللعان، وبينا متى يجب عليه أن يلاعن، ومتى يجوز، ومتى يحرم. فعلى كل حال إذا كان عنده بينة، وعلم أنها زانية، وحصل منه قذف لها، واشتكت؛ فحينئذ الأولى والأحرى أن يقيم عليها البينة، حتى لا يكون هناك تلاعب بحدود الله فتشهد بالباطل، وإذا لم تكن عنده بينة ولم يكن هناك شكوى منها وأراد الستر عليها ولا ضرر عليه فالأفضل والأكمل أن يستر عليها؛ لأن الشريعة نصوصها مطبقة على مشروعية الستر وأفضلية الستر، حتى إن ماعزا رضي الله عنه لما اعترف بالزنا ندبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على نفسه، وهذه من الرحمة التي بعث بها سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم. اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات السؤال أشكل علي قول المصنف: [سقط عنه الحد والتعزير] ، فما هو التعزير المقصود هنا؟ الجواب هو في مسألة إذا جمع بين نفي الولد وبين التهمة بالزنا، فحينئذ يسقط عنه حد القذف بالزنا، ونفي الولد في غير اللعان يوجب التعزير، فيسقط تعزيره باللعان. الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ينفي الولد والمرأة تشهد أن الولد ولده، فإذا كان هناك اشتراك بين ما يوجب الحد والتعزير، سقط عنه الحد فيما يوجب الحد، وسقط عنه التعزير فيما يوجب التعزير. ومن العلماء من يقول: إذا لاعن سقط عنه الحد، لكن يبقى التعزير فيعزر، فمسألة اندراج التعزير تحت سقوط الحد قد تقدمت معنا في مسألة الاندراج، فإن الاندراج يقع في العبادات مثل من يصلي راتبة الظهر فتندرج تحتها تحية المسجد، ومن يطوف طواف الإفاضة وينوي تحتها الوداع، ويقع أيضا في العقوبات، فيندرج الحد الأدنى تحت الأعلى، وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذلك -كما حكاه غير واحد من العلماء رحمهم الله- أنه لو زنى وهو محصن، وسرق، وقتل؛ فإنه يقام عليه حد القتل قصاصا، ويندرج تحته حد الزنا؛ لأنه اجتمع حق الله عز وجل وحق المخلوق، فلابد أن يقتل مرة واحدة، فإننا لو رجمناه بقي حق القصاص، ولو قتلناه قصاصا بقي حق الزنا، فقال: يقام عليه حد القصاص ويندرج تحته باقي العقوبات، وحتى إن بعضهم يقول: لا يقام عليه حد السرقة الذي هو الأخف، ومذهب بعض العلماء أنه تقام عليه الحدود الممكنة، تندرج الحدود التي لا يتعذر جمعها، والله تعالى أعلم. السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء السؤال ما هو ضابط العمر بالنسبة للتي توصف بأنها صغيرة؟ الجواب السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء هو التسع سنوات، وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف المناطق، لكن في الغالب تسع سنوات، وقد تقدم معنا هذا في كتاب الحيض، وبينا أن المرأة تتأهل لهذا بوجود الحيض فيها، وقد تكون ضعيفة البنية، لكن هذا بالنسبة إلى الغالب، خاصة في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: أعجب من رأيت في الحيض نساء تهامة، فإني وجدت جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، أي: أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات، وحملت ووضعت حملها في العاشرة، ثم هذا الحمل بلغ تسع سنين، فأصبح عمر الأم تسع عشرة سنة، ثم حملت البنت ثم وضعت، فأصبح عمر الأم إحدى وعشرين سنة، لكن هذا لما كان النساء في زمان البركة، ويأكلن أكلا طيبا، أما اليوم -والله المستعان- ضعفت البنية، الآن لو تزوج بنتا عمرها ثمان سنوات، تقوم الدنيا ولا تقعد، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها -يعني عقد عليها- وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنين! فالمرأة تتأهل للحيض، وتتأهل للوطء، وعمرها تسع سنوات، والله تعالى أعلم. حكم بول وروث الجلالة السؤال إذا كان يحرم أكل لحم الجلالة، فهل معنى ذلك أن بولها وروثها نجس؟ الجواب مسألة الاغتذاء بالنجاسة؛ فيها خلاف وتفصيل عند العلماء رحمهم الله، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه نهى عن أكل الجلالة حتى تحبس، وهذا يقتضي أنها تضررت بما أكلته، وإذا كانت تأكل النجس فقد أثر فيها، وينبغي فهم العلل من النصوص بما فيها من دلائل، فإذا كانت جلالة تأكل النجاسات فهي نجسة، وإن كانت تأكل القاذورات فهي مستخبثة، فيكون التحريم إما للنجاسة وإما للاستخباث، ولذلك طائر الرخم، وهو الطائر المعروف الذي يأكل الجيف ويغتذي بها لا يؤكل، مع أنه ليس من ذوات المخالب كالنسر والباز والباشق والشاهين وغيرها من الطيور الجارحة، قالوا: إنما حرم طائر الرخم لخبث مأكله، ودليل ذلك قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157] . والجلالة لها صورتان: بهيمة الأنعام أو الدواجن كالدجاج التي تتغذى على النجاسة أو التي تتغذى على القاذورات. فتتغذى بالنجاسة مثل أن تطعم الدماء، فبعض الدجاج تطعم الدم الذي يكون مسفوحا، فيجفف ثم تطعم، فهي متغذية بالنجاسة، وحكمها حكم الجلالة، أو تتغذى بالقاذورات مثل أن تطلق البهيمة كالبقر فتأتي إلى الزبائل وتأكل منها -أكرمكم الله-، فلا يشرب من حليبها، ولا يطعم من لحمها، حتى تحبس؛ فإذا حبست وأطعمت طعاما طيبا حل أكلها وذبحها، وحل أيضا الاغتذاء بلبنها، وبعضهم يرى حبسها أسبوعا حتى تطيب. فالمنع من أكل الجلالة لأمرين: إن كانت تأكل النجاسة فللنجس، وإن كانت تأكل القاذورات فللقذر، والله تعالى أعلم. حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر السؤال هل للمسافر أن يصلي صلاة الوتر والضحى والإشراق؟ الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الوتر حضرا ولا سفرا، ولذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان عليه الصلاة والسلام يوتر على بعيره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أوتر على بعيره فسئل عن ذلك -كما في الصحيحين- فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته) ، فأوتر على بعيره إلى غير القبلة في السفر، فالسنة ألا يترك المسافر الوتر لا حضرا ولا سفرا. وأما بالنسبة للضحى ففيه خلاف، وظاهر السنة أن صلاة الضحى تترك، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما) ، ومن أهل العلم من قال: تصلى الضحى في السفر لحديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ضحى فصلى في بيتها ثماني ركعات، فمن أهل العلم من قال: إنها ركعات الضحى، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن أوسط الكمال في الضحى ثمان ركعات، وأعلاها اثنتا عشرة ركعة، والصحيح أن هذه الثمان الركعات هي ركعات الفتح، صلاها عليه الصلاة والسلام شكرا لله عز وجل في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده لا شريك له، فصلى لله شكرا، ولذلك ما صلى كذلك إلا يوم الفتح، وصلاها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يوم فتح إيوان كسرى، فهذا هو الصحيح أن الثمان الركعات التي صلاها عليه الصلاة والسلام في بيت أم هانئ إنما هي صلاة الفتح شكرا لله عز وجل على نعمة الفتح. وصلاة الضحى الأشبه أنه لا يصليها المسافر، ولكن إذا أراد أن يصليها من باب الخروج من الخلاف فلا بأس وفيه وجه من السنة، والصحيح والأقوى أنها لا تصلى إلا حضرا. وأما بالنسبة لركعتي الإشراق، فالإشراق عام، فلو أنه سافر إلى جدة أو سافر إلى مكة أو سافر إلى المدينة فصلى الفجر في جماعة، ثم قال: أريد الخير، فانتظر حتى طلعت عليه الشمس في مصلاه وهو يذكر الله، ويقعد في نفس المصلى يذكر الله عز وجل، ولا ينام ولا يتحدث في أمور محرمة، ولا يتحول عن مكانه، ثم يصلي ركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولا يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة -كما في الصحيح من حديث جابر - أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر ويتحلقون عليه؛ لأن هذا ليس له علاقة بمسألة ركعتي الإشراق؛ لأن الإنسان مخير بين أن يجلس في مكانه فيصيب ركعتي الإشراق، وبين أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من طلب العلم، وطلب العلم أفضل من العبادة، ولذلك لو تعارض الجلوس إلى الإشراق مع حلقة علم، فإن نفع العلم متعد فهو مقدم على العبادة القاصرة، بل لو مضى إلى ذلك المجلس وفي نيته أنه لولا المجلس ولجلس إلى الإشراق وصلى، فإن الله يكتب له الأجرين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والله تعالى أعلم. السؤال والدي كبير في السن، وقد تقاعد من عمله، وهو ممن يحب العمل، فهل من البر البحث له عن عمل أم أحثه على الانشغال بالعبادة؟ الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد الجواب ابحث له عن عمل إذا كان عنده قدرة وطاقة ويحب أن يعمل، فالتمس رضاه بعد رضا الله عز وجل، وإذا كان يمكنك أن تقوم على معيشته أو راتبه يكفيه فيتفرغ للعبادة فهو أفضل، فمن تفرغ لربه كفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه وآخرته، وهكذا كان كبار السن من أهل الإسلام يلزمون بيوت الله عز وجل، ويعكفون على العبادة لعل الله أن يختم لهم بخاتمة الخير، والمؤمن إذا شاب شعره، ورق عظمه انتظر مجيء النذير من ربه، وانتظر الأجل الذي قدره له مولاه، فيستكثر من الأعمال الصالحة، ولربما ينكسر قلبه، ويخشى الله سبحانه وتعالى، فيتوب توبة نصوحا يغفر الله له بها ذنوب العمر كلها، وكم من رجل مسيء خطاء كثير الذنوب أسرف على نفسه، فوقف في آخر عمره على باب الله عز وجل يرجو رحمته فانكسر لله قلبه، واطمأن بذكر الله فؤاده، وسأل الله وتعالى أن يعفو عما سلف من الذنوب والعصيان، ولربما كان ابن سبعين أو ابن تسعين أو ابن مائة أو أكثر من ذلك وصدق مع الله فصدق الله معه، فمحا الله عنه ذنوب عمره كلها، والله يفرح بتوبة التائبين، ويحب من عبده أن يقبل عليه وهو أرحم الراحمين، هو أغنى ما يكون عن عباده، والعباد أفقر ما يكونون إليه، فالمؤمن إذا شقي في هذه الدنيا وتعب في جني مالها لكي يعف نفسه ويعف أهله، فعلى أولاده إذا كبر سنه، ورق عظمه أن يتقوا الله فيه، وأن يرحموا كبر سنه، وأن يحاول الابن البار أن يقوم على أبيه في آخر عمره، وأن يتفانى وأن يضحي وأن يجلب له ما يسد رمقه، ويعينه على ذكر الله عز وجل، وكم من ابن بار فتحت له أبواب الخير بدعوات صالحات طيبات مباركات من أم برها أو أب أكرمه في آخر عمره، فكفاه مئونة الدنيا، وكتب الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، فيوصى الابن أن يبحث أول شيء عن سداد حاجة والده، إذا كان الوالد بحاجة وعندك القدرة على أن تسد حاجته وتضحي له فحينئذ تقطعه عن الدنيا وتقول له: يا أبت! تفرغ لآخرتك واستجمع قلبك لربك، وكفى ما مضى، وجزاك الله عني وعن إخوتي وأهلك كل خير، لم تقصر في شيء فجزاك الله كل خير، والآن سأقوم على أمرك، وأسعى في جلب الرزق إليك، فادع الله أن يعينني، فتسعى والله سبحانه وتعالى لا يخيبك، وكم من عبد يرزق بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يسعى على أخيه وهو عبد صالح قال عليه الصلاة والسلام: (لعله يرزق بسببه) ، يعني: الأخ الغني فتح الله له أبواب الغنى والرزق بسبب قيامه على أخيه، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها عباده. على كل حال، إذا كان الوالد بحاجة إلى الراحة فالأفضل أن تقوم عليه، وإذا كنت تستطيع أن تكفيه هذا الهم وتقول له: اجلس في البيت وأنا أقوم عليك ولا يتأذى بذلك ولا يتضرر فافعل رحمك الله، واحتسب الأجر عند الله، وإن من أعظم الطاعات وأجلها زلفى عند الله -بعد توحيده والإيمان به وعبادته- بر الوالدين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولك ولكل مسلم التوفيق لذلك، والله تعالى أعلم. إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر السؤال مسافر ظن إمامه مقيما فنوى الإتمام، ثم تبين أن الإمام مسافر، فهل يلزم بالإتمام؟ الجواب من دخل وفي نيته أن يتم لزمه الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما لكل امرئ ما نوى) ، فإذا نويت الإتمام وجبت عليك الأربع. ودائما على الشخص أن يحتاط إذا شك في الإمام: هل هو مقيم أو مسافر أن ينوي القصر، فإذا نويت القصر وكان الإمام مسافرا فلا إشكال، تسلم معه، وإذا نويت القصر وكان مقيما أحدثت الإتمام؛ لأنه يجوز الزيادة على النقص، فلا بأس أن تدخل بنية القصر ثم يتبين أن إمامك مقيم فتنوي الإتمام، فلا حرج عليك في ذلك ولا بأس، والله تعالى أعلم. إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصرا أم يتمها؟ السؤال أذن الفرض وأنا مقيم ثم شرعت في السفر بعد الأذان مباشرة، فإذا أردت الصلاة وأنا في الطريق فهل أتم أم أقصر؟ الجواب إذا خرجت من آخر عمران المدينة وبيوتها وأذن عليك الأذان بعد خروجك فأنت مسافر، وتقصر صلاتك إذا كانت رباعية، وأما إذا أذن الأذان قبل خروجك -ولو بخطوة واحدة- من المدينة فإنه يجب عليك أن تتم الصلاة؛ لأنه توجه عليك النداء بأربع ركعات، ووجبت عليك وأنت مقيم، فلا يجوز إسقاط الأربع؛ لأنها ثبتت في ذمتك، وبناء على ذلك يجب عليك الإتمام ما دام قد أذن عليك أذان الظهر أو العصر أو العشاء قبل أن تخرج من آخر العمران، أما إذا خرجت وأذن عليك بعد خروجك فلا إشكال، والله تعالى أعلم. التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان السؤال هل من السنة في الرباعية تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الأخيرتين؟ وهل التخفيف في جميع الأركان؟ الجواب الظاهر من السنة أن التخفيف في جميع الأركان، ولكن التخفيف نسبي، فثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميرا لـ عمر على الكوفة- وكان رضي الله عنه وأرضاه من أحرص الناس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي) ، هذا الصحابي الجليل الذي غبر قدمه في سبيل الله عز وجل، وأبلى في الإسلام بلاء عظيما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، ومع هذا كله آذاه أهل الكوفة، وانظر كيف يبتلى الصالحون! فكل داعية وكل طالب علم وكل عبد صالح يتكلم فيه فلينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أنبياء الله عز وجل، فهذا الصحابي الجليل آذاه أهل الكوفة، وما زالوا يؤذونه حتى أرسلوا وفدا إلى عمر، وذكروا له عدة شكاوى: أول شيء أنه وضع بابا بينه وبين الناس، فجعل على قصره بابا لكي يحتجب عن الناس. ثانيا: قال قائلهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، والشكوى الثالثة إنه لا يحسن أن يصلي بنا! قبحهم الله وقبح ما جاءوا به، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف:5] ، فزعموا أنه لا يحسن الصلاة، انظروا ماذا يقولون عن أحد الأجلاء الذي كان سابع سبعة في الإسلام؟ كان يقال له: سبع الإسلام، وقيل: سدس الإسلام، ومع هذا قالوا عنه: ما يحسن الصلاة! شرعت الصلاة فرآها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو أن أمهاتهم لم تلدهم، ما كانوا يفقهون من دين الله شيئا، وهو يجاهد ويجالد رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون ويقولون: ما يحسن أن يصلي! -وهذا في الصحيح-، فأرسل عمر محمد بن مسلمة، فوجد الباب كما ذكروا فأحرق الباب، وكان قد قال له عمر: إن وجدت له بابا كما زعموا فأحرقه ثم لا تلبث حتى تأتيني به، فلما جاء وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام الوفد وقال أحدهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، ولا يحسن أن يصلي بنا الصلاة، فقال رضي الله عنه: أما الباب فإن الناس الذين في السوق قد شوشوا علي أثناء الخصومات؛ لأنه كان يقضي بين الناس، فكان إذا جلس يريد أن يسمع الخصوم، علت أصوات الناس في السوق، فلا يستطيع أن يسمع الخصوم، فاتخذ هذا الباب حتى يحجب عنه أصوات الناس في السوق، ويستطيع أن يقيم شرع الله عز وجل، انظروا كيف تفهم الأمور على العكس تماما؟! فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ولهذا فكل من أظلم قلبه -والعياذ بالله- ساءت ظنونه في خلق الله عز وجل، ولكن المؤمن التقي الورع دائما يلتمس المخارج، فهذا رده على الشكوى الأولى. وأما رده على الشكوى الأخرى فقال: إنهم يتهموني أني لا أحسن أن أصلي بهم مثال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطول في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فجاء بالسنة رضي الله عنه، وصدق وبر، ومن عاداه لقمه الحجر، حتى إنه رضي الله عنه قال: اللهم! إن كنت تعلم أنه كاذب فيما يقول، فأطل عمره، وأذهب بصره، وعرضه للفتن، فعمر فوق المائة سنة، وسقط حاجباه، وهو يتغزل بالنساء وعمره فوق المائة، تقول له المرأة: يا هذا! اتق الله، فيقول: أصابتني دعوة الرجل الصالح، نسأل الله السلامة والعافية! فالشاهد في قوله: ما كنت آلو -يعني أقصر- أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول في الأوليين، في الأخريين، وهذا يدل على أنه كان يستعجل ويخفف فيهما، والذي عليه العمل أن يكون قيامه في الأخيرتين أخف من قيامه في الأوليين، وأن يكون ركوعه وسجوده أخف، لكن مع مراعاة التعادل في الأركان. واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأولى والثانية من الأوليين بقدر واحد أو تخفف الثانية دون الأولى؟ والذي اختاره بعض العلماء أن ما ورد من الأحاديث بالمساواة في الأولى والثانية فسببه أن الأولى ينسب لها التطويل بالقراءة، لكن ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية يعادل الذي قرأه في الأولى، وطالت الأولى بدعاء الاستفتاح، وحينئذ تكون روايات الإطالة في الأولى على الثانية محمولة على وجود دعاء الاستفتاح، والتطويل ليس في القراءة، وإنما هو لوجود دعاء الاستفتاح. وقال بعض العلماء: أنه يطول في قرأءة الأولى، ويقصر في قراءة الثانية. ثم في الثالثة والرابعة وجهان أيضا لأصحاب الشافعي رحمهم الله، منهم من قال: يقرأ في الثالثة والرابعة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيقرأ: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] في الثالثة، و {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في الرابعة، وهذا يعني أن هناك فرقا نسبيا، وعلى كل حال فالسنة تخفيف الأخيرة عن الأولى، والله تعالى أعلم. حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة السؤال لو أن المستأجر رفض وأبى أن يتم الإجارة بعد التزام جزء من العين المؤجرة، وبقي جزء آخر صالح الانتفاع فما الحكم في ذلك؟ الجواب الحكم أنه يلزم بإتمام عقد الإجارة، فجمهور السلف والخلف على أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يعني إذا ثبت بين طرفين إجارة شرعية فإنه إذا صح العقد وثبت يجب على الطرفين أن يتما العقد، فإذا انهدمت بعض العمارة، وبقي بعضها على وجه يمكن الانتفاع به، فقال المستأجر: أنا أريد أن أبقى في هذا الجزء ولا ضرر على المالك، فإنه يلزم شرعا بإتمام العقد لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، والإجارة عقد، وأمر الله بالوفاء بالعقد، فلزم المؤجر أن يتم العقد لصاحبه، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يمتنع؛ لأن امتناعه ليس من حقه وإن كانت العين ملكا له، فالمنفعة ملك للمستأجر حتى يتم مدة الإجارة، وينتهي عقدها، ومن هنا يرتفع الأمر إلى القاضي، فيلزمه القاضي بإتمام العقد لما ذكرناه، والله تعالى أعلم. وسائل معينة للتخلص من داء الشح السؤال أجد في نفسي داء يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيرا ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحا وبخلا في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟ الجواب من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيبا أو إماما أو معلما تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس. وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شرا، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي واديا من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيرا فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئا؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا، إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائما أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول: أولا: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلا: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عونا على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عونا لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك. ثانيا: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علما يقينيا لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيرا، فكم من إنسان أصبح غنيا فأمسى فقيرا! ولربما يكون الإنسان ثريا وفي طرفة عين يكون فقيرا، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئا، ما أبقى له مالا ولا ولدا ولا أهلا، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين. وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلا محتاجا، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلا محتاجا، إلا أن يكون كذابا فهذا أمر آخر. فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلا عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحال بئيس {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتا، فإذا جاء بأس الله بياتا أو جاء صباحا فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} [هود:102] ، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود:102] ، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة {إن أخذه أليم شديد} [هود:102] ، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: {أحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص:77] ، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} [القصص:81] ، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله. ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره. ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوما تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عونا على طاعته ومحبته ومرضاته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
__________________
|
|
#616
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (466) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [4] مسائل إلحاق الولد بوالده في نسبته إليه من المسائل المهمة التي اعتنت بها الشريعة الإسلامية، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البولى، ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها. مناسبة ذكر مسائل إلحاق الولد بوالده في كتاب اللعان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الفصل في الحقيقة ليس من فصول اللعان، وليس هو من المسائل التي تتعلق بباب اللعان من كل وجه، ولكنه مختص بمسألة الأنساب، وإلحاق الولد بوالده في نسبته إليه، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يذكرون المسائل المتشابهة في أقرب المظان، فمسألة الأنساب مسألة مهمة، وتترتب عليها حقوق شرعية، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية بها، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها؛ لأن مسألة النسب تقوم على الإثبات والنفي، فإما أن يثبت نسبة شخص إلى والديه، وإما أن تنفى هذه النسبة، فنظرا إلى أن مسائل النسب فيها إثبات ونفي، وبعض مسائل اللعان تتضمن نفي الولد، فنظرا لوجود هذا الاشتراك ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكر أحكام النسب ولحوق الولد بعد باب اللعان؛ لأن اللعان في بعض صوره فيه نفي الزوج للحمل، أو ينفي الولد الذي وضعته زوجته، فينفي نسبته إليه، وحينئذ يرد السؤال ما هو الأصل في هذه المسائل؟ هل الأصل أن كل من ادعى نسبة ولد إلى شخص أنه يصدق ويقبل منه أم أن الأمر فيه تفصيل؟ هذا ما سيوضحه المصنف رحمه الله في هذا الموضع. البرهان الذي يقيمه من ادعى نسبا إلى رسول الله مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولد إليه، وتارة تكون من ولد يدعي النسبة إلى رجل آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيء عظيم كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول من قرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم. فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلانا من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة. وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات. الأمر المترتب على من انتسب إلى غير أبيه الحاصل: أن الشريعة الإسلامية حرمت على المسلم أن ينفي نسبة ولد من ولده، وحرمت على المسلم أن ينتسب لغير والده، فإذا انتسب الإنسان إلى غير والده فقد اعتدى على حدود الله، وانتهك محارم الله، وحلت عليه لعنة الله والعياذ بالله! لأنه عق والده، وقطع رحمه، وكذب في النسب، والكذب في النسب تترتب عليه حقوق، وتترتب عليه أمور عظيمة، وقد تكون هناك أمور مرتبة على وجود هذا النسب، فبنفيه وإبطاله له تسقط هذه الحقوق؛ كحق العاقلة، وحق الإرث، ونحو ذلك، فيسقطه عن آله وقرابته، ممن يلد أو ممن ينسب إليه. جزاء من نفى نسبة ولده إليه كذلك أيضا لا يجوز للوالد أن يعتدي على حدود الله عز وجل فينفي نسبة ولد من ولده، إلا إذا كان عنده ما يدل على عدم نسبته إليه فهذا أمر آخر، أما من حيث الأصل فإنه كفر بنعمة الله، وهذا من أعظم الظلم؛ لأن الظلم مراتب، وأعظم ما يقع الظلم إذا كان على القرابة، وإذا كان الظلم على أقرب الناس إلى الإنسان وهم أولاده فهو أعظم ذنبا عند الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء أن الذنب مع الغريب ليس كالذنب مع القريب، فالذنب مع القريب ذنب وقطيعة رحم، فكيف إذا كان من أقرب قريب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بضعة من الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) . وقد تهور كثير من الناس -إلا من رحم الله- وتفننوا في مسألة أذية الولد إلى درجة أن الوالد يقول لولده عند الغضب: لست بولدي ولا أعرفك ولا تعرفني! فيتبرأ منه، وهذه كلمة عظيمة جدا، ينبغي أن يحذر منها الناس، وينبغي على الخطباء وطلاب العلم أن ينبهوا الناس إلى هذا الأمر؛ لأنه اعتداء لحدود الله عز وجل، وإذا أخطأ المخطئ فإنه يقوم في خطئه، ولا تزال الحقوق الثابتة ويدعى غير الحقيقة، فالتبري من الأولاد عند حدوث خطأ أو شيء من ذلك لا يجوز شرعا؛ إلا في مسائل محددة دلت عليها الشريعة، ومنها البراءة في مسألة الولاء والبراء في العقيدة، وهذه مسألة خاصة والتبري فيها له حدود وله ضوابط، ولا يتعرض للنسب، بل لا يجوز للوالد إذا أغضبه ابنه أو أخطأ عليه وهو مسلم وابنه مسلم أن يتبرأ منه إلى درجة أن يحرمه من الإرث وكأنه أجنبي نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم الذنب، ولذلك ذكروا أن من علامات سوء الخاتمة والعياذ بالله! الجور في الوصية، وذلك بحرمان المستحق من الورثة، فهذا ممن يختم له بخاتمة سيئة، حتى أن بعض العلماء ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، قالوا: هذا يكون من أصناف أهل الكبائر فيدخلها دخول أهل الكبائر المعذبين، فيظلم ولده فيتبرأ منه فيقول لأولاده: فلان لا تعطوه الإرث، فلان ليس مني ولست منه، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة التي توجب دخول النار والعياذ بالله! بناء على أنها من كبائر الذنوب لما فيها من الظلم وحرمان المستحق من حقه. الشاهد أن باب نسبة الولد لوالده بينت الأصول الشرعية في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو أن ينسب المولود لوالده، ولذلك قال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب:5] ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في قوله: (الولد للفراش) كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، فدل على أن المرأة إذا ولدت ولدا على فراش زوجها فالولد منسوب إلى ذلك الزوج. الأحوال التي يحكم فيها بلحوق الولد إلى والده سيبين رحمه الله في هذا الفصل متى يحكم بلحوق الولد ونسبته إلى صاحب الفراش؟ ومتى يحكم بعدم اللحوق؟ وهذه مسائل -كما ذكرنا- مهمة جدا، ولها أهمية، خاصة النفي إذا كان في غير موضعه أو الإثبات إذا كان على غير وجهه. أن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله قال المصنف رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه منه لحقه] . (من ولدت زوجته) هذا شرط أن تكون زوجة له، والأصل أن يكون الزواج زواجا شرعيا صحيحا، فلا إشكال حينئذ في نسبة الولد للوالد، وأيضا لو كان الزواج فيه خطأ ويعتقد أنه زواج شرعي، مثل أن ينكح نكاح الشغار ويظن أنه نكاح صحيح، يزوج هذا بنته على أن يزوجه الآخر بنته ويقع النكاح بينهما ثم يولد لأحدهما، فينسب الولد إلى والده مع أن النكاح محرم شرعا ولا يجوز، فإذا كان في نكاح صحيح، أو نكاح فاسد وعنده تأويل ويظن أنه صحيح؛ فإن الولد يلتحق به، أو نكح المرأة بدون إذن وليها ويظن أن هذا جائز، ولا يعتقد اشتراط الولي وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله فالعقد فاسد، لكن الولد يلتحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) ، كما تقدم معنا في باب النكاح. فالشاهد أنه إذا كان الولد ناتجا عن وطء في نكاح صحيح أو نكاح فاسد أو ناتجا عن وطء شبهة -هذه ثلاث صور- فإن الولد يلتحق، ووطء الشبهة مثل أن يأتي شخص إلى امرأة يظنها زوجته وتظنه زوجا لها، ويطؤها على خلو وبراءة ثم بعد ذلك يتبين أنها ليست بزوجته وتحمل من هذا الوطء، فالولد ينسب لهذا الواطئ، ويكون وجود الشبهة موجبا لدرء الحد. كذلك لو تزوج أختا له -نسأل الله العافية- من الرضاع وهو لا يدري، ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تبين أنها أخته من الرضاع، فيفرق بينهما، ويعذر لعدم علمه وجهله بالحكم، ثم ينسب جميع الأولاد الذين ولدوا إليه، وحكم من ولدت زوجته في نكاح صحيح أو نكاح فاسد حكم الموطوءة بشبهة. وقوله: (ولدت من أمكن) : عندنا ضابط يتعلق بالزوج، وضابط يتعلق بالموطوءة التي هي الزوجة، فمعنى الإمكان الذي ذكره المصنف رحمه الله أنه لابد وأن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله، فقد يكون زوجا لا يمكن أن يولد لمثله، مثلا قال: أريد بنتك -يخاطب شخصا آخر- فلانة لابني محمد، ومحمد عمره سبع سنوات، قال: قبلت، وعقد النكاح بينهما، ثم إن هذه البنت حملت! ابن سبع سنوات وثمان سنوات لا يمكن أن تحمل المرأة منه ولو وطئها، فمثله غير داخل في الإمكان، فهناك إمكان جرت العادة والحس بإمكانه. عدم نقصان مدة الحمل عن ستة أشهر قوله: (ومن أمكن) أي: أن يولد لمثله، وكذلك تكون المرأة أيضا في حملها ووضعها على صفة لا يستحيل أن ينسب الولد إليه، وهذا ما فسره رحمه الله بقوله: [بأن تلده بعد نصف سنة] . بأن تلد الولد بعد نصف سنة من دخوله عليها، فإذا كان دخوله في أول السنة وولدت بعد ستة أشهر من دخوله، فإن الستة الأشهر زمن يمكن أن يكون به الحمل، فينسب الولد للداخل، لكن لو كان قبل ستة أشهر فلا يمكن؛ لأن الله يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] ، فجعل الحمل مع الفصال -يعني: انتهاء مدة الرضاع حين يفصل الولد وينتهي من الرضاع- ثلاثين شهرا، الرضاع له سنتان، أي: أربعة وعشرون شهرا لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] ، فالحولان أربعة وعشرون شهرا، وإذا كان الله عز وجل يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] فبقي من الثلاثين ستة أشهر، وهي أيام الحمل. ومن فقه العلماء أنهم فرعوا من هذه الآية الكريمة ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الأحكام الشرعية، بل كان بعض مشايخنا يقول: لو شئت أن أوصلها إلى مائة مسألة لأوصلتها! وكلها من قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] ، ومنها مسائل الحمل والإثبات خاصة عند اختلاط الأنساب، وحصول وطء الخطأ، ووطء الشبهة، ومسألة إسقاط الجنين إذا كانت المرأة توفيت وفي بطنها جنين فمتى يشق بطنها؟ كل هذه المسائل تتعلق بالستة الأشهر التي جعلوها زمن الإمكان لدلالة نص القرآن عليه، حتى الأطباء يستفيدون من هذه الآية الكريمة، فالستة الأشهر هي مدة الحمل، فإذا ولد الجنين في أقل منها فإنه ينسب إلى الداخل السابق، لا إلى الداخل الأخير، فإنه إذا ولدت قبل ستة أشهر من دخوله عليها فمعنى ذلك أن الحمل من غيره لا منه هو؛ لأنه لا يمكن أن يقع حمل ووضع قبل ستة أشهر، وبناء على ذلك قال المصنف رحمه الله: (بأن تلده بعد نصف سنة) أي: ستة أشهر، السنة القمرية اثنا عشر شهرا، فإذا ولدت بأقل من ستة أشهر فإنه لا يمكن أن ينسب الولد إليه. قال المصنف رحمه الله: [منذ أمكن وطؤه] . القضية ترجع إلى دخوله عليها، فما هو الضابط في السن؟ هل العبرة بتسع سنين أو بعشر سنين أو باثنتي عشرة سنة أو بخمس عشرة سنة؟ ومتى يبلغ الذكر حتى يتأتى منه المني وتحمل امرأته؟ الضابط عند بعض العلماء عشر سنوات، وهي سن التمييز، فإذا دخل في العاشرة فإنه يمكن أن يحتلم، فمن الناس من يبكر ويحتلم وهو في العاشرة، فقالوا: العشر هي أقل حد، فإذا حملت منه وعمره تسع سنين لا ينسب إليه، ولو حملت منه وعمره ثمان سنين لا ينسب إليه؛ لأنه في الغالب -والحكم للغالب- لا يحتلم في مثل هذه السن، وقالوا: سن التمييز ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وهي أقل ما يمكن أن يكون فيها الاحتلام، وبعض الأطباء المتأخرين يقولون: فعلا في الطب ما يشهد بصدق من قال من الفقهاء بهذا القول، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام حينما أمر بضرب الصبي لعشر. على كل حال، الأصل أنه لابد أن يكون حمل هذه المرأة يمكن أن ينسب لزوجها، بأن تلده بستة أشهر منذ أمكن وطؤه، فالعبرة بالوطء الذي يتأتى منه الحمل، فإذا كان إمكان الوطء له أربعة أشهر أو خمسة أشهر؛ نسب إلى ما قبله لا إليه. عدم زيادة مدة الحمل على أربع سنوات قال المصنف رحمه الله: [أو دون أربع سنين منذ أبانها] . هنا تحتاج إلى معرفة أقل مدة الحمل وأكثر مدة الحمل، فقد يطلق الزوج المرأة ثم بعد شهر أو شهرين يتبين أنها حامل، وقد يتبين أنها حامل بعد سنة، وقد يتبين بعد سنتين، وقد يتبين بعد ثلاث سنوات، وقد تضع بعد ثلاث سنوات، فهنا مشكلة، إذا طلق الرجل المرأة وبانت منه وانفصلت عنه، ثم تبين حملها في المدد المعروف فلا إشكال؛ لأنه إذا طلقها وبان أنها حامل بقيت على حالها حتى تضع، والولد ولده، لكن الإشكال إذا لم يقع هذا الحمل، ولم تلده على المعتاد، بل تأخرت في وضعها إلى أربع سنوات! فهل هناك مدة تبين آخر الحمل؟ اختلف العلماء رحمهم الله: بعضهم يقول: لا أقبل فوق تسعة أشهر، وهذا قول ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية، وما بعد التسعة الأشهر لو طلقها وأبانها ثم ظهر فيها حمل؛ فهو لغيره وليس له. وهذا إذا لم تكن قد تزوجت؛ لأنه إذا تزوجت ينسب للثاني ولا إشكال، نحن نتكلم في امرأة طلقت، وبقيت خالية من الأزواج حتى وضعت ما في بطنها، فهل ينسب إلى الزوج الذي طلقها أو ينسب إليها، ويكون هناك شبهة أنها زنت أو استكرهت على الزنا؟ هنا الإشكال، فما هي أقصى مدة يمكن أن ننسب فيها الولد للفراش؟ من أهل العلم من قال: تسعة أشهر -كما ذكرنا- وهو من أضعف الأقوال، ومن أهل العلم من قال: أربع سنوات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، وبعض أصحاب الإمام مالك يقولون بهذا القول، قالوا: إن أقصى ما وجدناه من الحمل أربع سنوات، فإذا وضعت الولد لأربع سنين، يعني: لم يتجاوز أربع سنوات منذ طلاقه وفراقه لها؛ نسب الولد إليه، وقال الحنفية: خمس سنين، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والحقيقة أن الأربع سنوات هي التي حكيت كأقصى حد وجد، وذكر عن بعض العلماء أن أمه بقيت في حملها أربع سنين، والله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر لله فيه حكمة، وقد تضعف المرأة ويكمل الجنين، وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة صالحة معروفة بالخير والصلاح غاب عنها زوجها، ثم قتل واستشهد، فحزنت عليه حزنا عظيما، ثم تزوجت برجل من بعده، وبعد زواجها بأقل من ستة أشهر بان الحمل فيها، وهم عمر رضي الله عنه أن يرجمها؛ لأنها محصنة، والحمل عند عمر رضي الله عنه دليل على إثبات الزنا، كما في خطبته المشهورة في الصحيح، فكان يرى أن الحمل يدل على الزنا، وأن المرأة إذا كانت لا زوج لها وحملت يقام عليها الحد، فالشاهد أنه هم أن يرجمها، ولكن كان رضي الله عنه يشاور الصحابة، وكانت له طريقته أنه يستشير المهاجرين ثم الأنصار، ثم بعد ذلك يجمع الناس، فلما هم أن يرجمها سأل عنها فوجد أنها امرأة صالحة، وأنها يبعد أن يكون منها الزنا لما عرف من استقامتها وصلاحها، فتورع رضي الله عنه، وكان محدثا ملهما كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر) ، فامتنع عن رجمها وأحب أن يشاور الناس، فاستشار المهاجرين فلم يجد شيئا، ثم استشار الأنصار فلم يجد شيئا، ثم جمع الناس كلهم فلم يجد شيئا، فجمع النساء واستشارهن، فقامت امرأة كبيرة السن معروفة بالعقل وقالت: يا أمير المؤمنين! أنا أقص عليك خبرها، إن هذه المرأة حملت من زوجها الأول، ولما جاءها الحزن ركن الجنين، يعني: ضعف أن يخرج لأمده، ثم لما تزوجها الثاني انكشف بماء الثاني فولدت الجنين قبل زمانه، فحمد الله أنه لم يكن رجمها، وأسقط عنها الحد، وألحق الولد بالزوج الأول. فقد يقع في بعض الأحيان تأخر في الحمل سواء لأمور طبية، أو لمشيئة الله عز وجل، وهو على كل شيء قدير، ومن حكمة الله أنه يخلف العادات، ودائما ينتبه طالب العلم بل كل مسلم إلى أن إخلاف العادات من أكبر الأدلة على وحدانية الله عز وجل؛ لأن أهل الطبيعة يستدلون بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها، فلما تختلف العادات يدل ذلك على أن هناك ربا يدبر هذا الكون ويصرفه سبحانه وتعالى، وهذا من أقوى الحجج في دمغ قولهم؛ لأن الطبيعة لا تضطرب، وهي التي ينسبون إليها الأشياء، فالشاهد أن الحمل قد يخرج عن الشيء المعتاد وقد يطول أمده، فبين ذلك رحمه الله حين قال: (أو دون أربع سنين منذ أبانها) ، فاعتبر الحد أربع سنوات، وهذا قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله أنه أربع سنين كحد أقصى، فما بين تطليقه لها وإبانتها من عصمته وبين وضعها لا يجاوز هذه المدة: الأربع السنين. إلحاق الولد إلى من عمره عشر سنوات قال المصنف رحمه الله: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشر] . (وهو): يعني الزوج الذي ولدت زوجته، يشترط فيه أن يكون ممن يولد لمثله، فإن كان ممن لا يولد لمثله -كأن يكون صغيرا- لم ينسب إليه، وعند العلماء الدليل الشرعي والدليل الحسي، فهناك أشياء دل الحس على صدقها، ودل الحس على كذبها، فيستند فيها إلى الحس، فهنا الدليل دليل حسي، إذ يستحيل أن الطفل أو الصبي الذي عمره ست سنوات أو سبع سنوات أن تحمل زوجته، ومن هنا يستند إلى دليل الحس، فإذا كان دون العشر لا ينسب الولد إليه اتفاقا، فأقل سن ذكروه العشر، فأقل من عشر لا ينسب الولد إليه. وهكذا بالنسبة للأسباب الأخرى مثل المجبوب، وهو: المقطوع العضو، لا يتأتى منه وطء، فلا ينسب الولد إليه، إلا في مسألة استدخال المني في الفرج، فبعض العلماء يقول: إذا أقر به، وثبت أن زوجته استدخلت منيه إلى فرجها، وإن لم يقع وطء منه لها؛ فإن الولد ولده. وهذه المسألة ذكرها العلماء في القديم والآن في زماننا جاءت مسألة طفل الأنابيب! وجاءت مسألة تجميد المني من الرجل! بغض النظر عن كون ذلك يجوز أو لا يجوز، لكن انظروا كانت فرضية في القديم ومع ذلك فصلوا في حكمها من جهة ثبوت الولد أو عدم ثبوته، ومسألة يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، إذ لا يجوز الإيلاج في الفرج من الأجنبي، ولا استدخال فيه في الفرج، ولا النظر إليه ولا لمسه، كما هو مقرر، لكن نحن نتكلم على إلهام الله عز وجل لتلك العقول وأولئك الأئمة الذين تكلموا على هذه المسألة، ففتحت وبينت الكثير من الإشكالات الموجودة في زماننا. على كل حال، إذا كان مجبوبا لا يتأتى منه الحمل فإنه لا ينسب الولد إليه، وكذلك لو كان صغيرا لا يتأتى منه المني الذي يكون به الحمل. عدم ثبوت البلوغ بالشك قال المصنف رحمه الله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه] يعني: إن شك في البلوغ، فلا يحكم ببلوغه، (إن شك فيه) يعني: في الزوج؛ لأن العبرة بالبلوغ، لأن البلوغ يكون منه المني، وبينا أن من علامات البلوغ الاحتلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) ، فالمني يكون منه الولد؛ لأن الله خلق الولد من ماء الرجل وماء الأنثى، فإذا كان في سن يتأتى منه أن يحتلم -وهو سن الاحتلام- حكم بأنه بلغ والاحتمال قائم، لكن إذا شك هل بلغ أو لم يبلغ؟ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يدل الدليل على أنه بلغ، فلا نثبت أنه بلغ إلا إذا ثبت بالدليل أنه قد بلغ بالاحتلام وبخروج المني، ولا يثبت البلوغ بالشكوك. وهذا مبني على قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فهو دون البلوغ، فلا نحكم بكونه بالغا إلا إذا قام الدليل على بلوغه، لأنه ببلوغه تتعلق به التكاليف والإلزامات، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على بلوغه، وهذا مفرع على قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، فنحن على يقين من أنه صبي وأنه دون البلوغ حتى نتأكد ونتحقق أنه قد بلغ.
__________________
|
|
#617
|
||||
|
||||
|
وطء الجارية في الفرج أو دونه موجب لثبوت النسب قال المصنف رحمه الله: [ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة أو أزيد لحقه ولدها] . بعد ما فرغ من بيان الأصول العامة شرع في مسألة التسري، وهو وطء الجارية، فالولد يلتحق بالوطء سواء كان في نكاح وزواج، أو كان في تسري، الذي هو وطء ملك اليمين، فالرجل إذا وطئ مملوكته وأنجبت فالولد ولده، أي: ينسب الولد إليه، وتكون هي أمه، وتعتق عليه بعد موته، كما هو معلوم في الأصول الشرعية. فالوطء الذي يكون للجارية موجب لثبوت النسب، وهذا قرره النبي صلى الله عليه وسلم في قضية عبد بن زمعة واختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تابع الولد للسيد، وهذا مبني على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ، فقوله: (الولد للفراش) شمل الأمة والحرة، وبعبارة أخرى: الحديث يشمل الوطء في الزواج والوطء بملك اليمين؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) يثبت نسبة الولد للفراش، والفراش في الشريعة نوعان: فراش بنكاح، وهو في الزواج، وفراش بملك اليمين، كما قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون:5 - 6] ، فجعل الفراش الشرعي المأذون به شرعا على ضربين: فراش الزوجية {إلا على أزواجهم} [المؤمنون:6] ، وفراش ملك اليمين {أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون:6] ، فلما قال: (الولد للفراش) أثبت الولد لكل فراش بناء على الأصل، فإن كان فراشا لنكاح نسب إليه، وإن كان فراشا لوطء يمين نسب إليه. فهنا لو أقر السيد أنه كان يطأ هذه الجارية وولدت على فراشه -وهي ما زالت في ملكه، وولدت في المدة المعتبرة بعد ستة أشهر من وطئه لها- نسب الولد إليه، هذا من حيث الأصل الشرعي لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) . وقوله: (ومن اعترف) : أي: أقر، (بوطء أمته في الفرج) : الذي هو موضع الحرث، فإذا قال: إنه قد وطئها في فرجها الذي يكون منه الحرث، فالولد حينئذ ينسب له؛ لأن هذا مما يكون به ولد، وهو الأصل في الولد. وقوله: (أو دونه) أي: دون الفرج؛ لأنه إذا وطئ دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج فتحمل، فقد ينزل خارج الفرج فينزل الماء إلى الفرج وتحمل، فالشبهه قائمة، ولذلك إذا كانت هناك دلائل يحتمل أن الحمل منه فإنه حينئذ لا إشكال. وقوله: (فولدت لنصف سنة) : من الوطء، لكن لو ولدت قبل نصف السنة -الذي هو الستة أشهر-، فقد ذكرنا أنه لا ينسب إليه سواء كان في وطء ملك اليمين أو غيرها، فمقصود المصنف: فولدت في ستة أشهر. وقوله: (أو أزيد) : ولدت بعد سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو عشرة أشهر؛ لأنه مستصحب حكم الأصل، فالحال كما تعلمون يطول ويقصر. وقوله: (لحقه ولدها) أي: لحقه ذلك الحمل والذي ولدته، فإذا ولدت فإنه ينسب إليه ذلك الولد سواء ولدت ولدا أو توأمين، كلهم ينسبون إلى ذلك الفراش؛ لأن الفراش منصوص حكمه بقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) . حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته قال المصنف رحمه الله: [إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه] . إذا وطئها ثم استبرأها بحيضة أو حيضتين، ثم ظهر فيها الحمل، تبين أنه ليس منه؛ لأنه بالاستبراء يتبين عدم الحمل، كما سيأتينا إن شاء الله في باب العدد والاستبراء، فإذا ظهر الحمل بعد الاستبراء ثبت عندنا أنه حمل غيره وليس بحمله، فلو استبرأها ثم بعد استبرائه لها بستة أشهر -بشرط ألا يطأها بعد الاستبراء- تبين أنها حامل، ووضعت بعد هذا الاستبراء بستة أشهر؛ فمن حقه أن ينفيه. وقوله: (ويحلف عليه) : هذا اليمين تسمى يمين التهمة، وستأتي إن شاء الله أيمان القضاء والأيمان التي تنزل منزلة الشهود، والأيمان التي تسمى أيمان التهم يدفع بها الضرر، وتكون في مسائل خاصة، وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ كل هذا سنذكره في باب الأيمان والدعاوي والبينات في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى، فيحلف بالله عز وجل أنه استبرأها، وأنه لم يحصل وطء منه بعد الاستبراء؛ لأنه قد يحلف أنه استبرأها ويحصل الوطء بعد الاستبراء فلا ينفيه؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا إذا استبرأها بعد وطئه لها، ولم يحصل وطء ثان بعد الاستبراء؛ لأنه قد يستبرئها ويطؤها مرة ثانية فيكون الحمل من الوطء الثاني، والمراد أن يحلف أنه استبرأها ولم يطأها بعد استبرائها. قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت؛ لحقه] . هذه المسألة ملتحقة بالمسألة التي قبل في النفي، فيقول: إنه حصل الوطء دون الفرج وأنزل دون الفرج أو في الفرج ولم ينزل، ففي هذه الحالة إذا قال: وقع مني هذا الشيء فإنه لا ينفعه؛ والولد ولده؛ لأنه إذا وطئها دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج وتحمل، وأيضا هو أقر أن هناك وطئا، فحينئذ أثبت على نفسه أنه تعاطى السبب الذي يمكن أن يكون منه الولد، والغالب أن من يطأ أنه ينزل، فإذا جاء بشيء خلاف الغالب وخلاف المعتاد فقال: لم أنزل، كانت فيه شبهة وتهمة؛ لأنه قد يقصد الإضرار بأمته. والسبب في هذا أن بعض الناس كان فيهم شيء من الجاهلية، فيستنكفون من وطء الجواري حتى لا يأتي أولادهم منهن، فيعيرون ويعابون بهذا، وهذا من بقايا الجاهلية، وقد يضع الله من البركة والخير في ابن الجارية ما لا يضعه في ابن الحرة، فهذا من الجاهلية ونعرات الجاهلية، ومما ذكر عن زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه حينما لمزه هشام بن عبد الملك بذلك، قال له زيد: أتعيرني بذلك؟ هذا إسحاق أمه سارة، وقد جعل الله من نسله إخوان القردة والخنازير، وهذه هاجر كانت أمة لكن جعل الله منها خير الأولين والآخرين. فمسألة أنها أمة أو أنها حرة تعد من مخلفات الجاهلية {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13] ، فهذه من النعرات ومن الأمراض والآفات التي بقيت من الجاهلية في نفوس بعض الناس، فوصل به الظلم أنه ينفي ولده منها استنكافا، ومن حكمة الله -وهو من غريب ما يحدث كما في التاريخ- أنه ربما كان أولاد الجواري والإماء أكثر نجابة وأرجح عقلا وأكثر فضلا من غيرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يبتلي بشيء إلا عوض بخير منه. على كل حال، نتكلم على الظلم ومجاوزة الحد، فالظلم أنهم كانوا يطئون الجواري ويتخلون عن أولادهم، فهذا ضيقت فيه الشريعة، ووقفت الشريعة أمام من يريد الإضرار بالمرأة والإضرار بالولد؛ لأن الولد يتضرر بنفي نسبته إلى والده، فبين رحمه الله أنه في هذه الحال لو قال: وطئتها وأولجت فيها وجامعتها ولكني لم أنزل، فإن هذا خلاف المعهود، والغالب أن الإنسان عند الشهوة لا يستحكم نفسه؛ فحينئذ لا يقبل قوله، ويبقى على الأصل. وقوله: (أو عزلت) يعني: ما أنزلت في الفرج وإنما أنزلت خارج الفرج. وقوله: (لحقه) : أي: لحقه الولد ولم ينفعه هذا الكلام، فهذه كلها دعاوى فيها تهمة، ولا يقبل قوله فيها. الأمر المترتب على من أعتق جارية أو باعها بعد اعترافه بوطئها قال المصنف رحمه الله: [وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل] . شخص كانت عنده أمة فوطئها ثم أعتقها، فتزوجها رجل بعد أن صارت حرة، أو باعها فوطئها المشتري على أنها ملك يمين له، فولدت لدون ستة أشهر؛ علمنا أن الولد للأول وليس للثاني، وحينئذ يكون قد باع أم ولده؛ لأنه تبين أنها كانت حاملة أثناء البيع، وتأتي مسألة بيع أمهات الأولاد التي تقدمت معنا، وقد اختار جمع من أئمة السلف -وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه لا يصح بيع أمهات الأولاد، وأن أم الولد تبقى جارية عند سيدها حتى يموت فتعتق عليه؛ لأنها أم ولده، ولذلك أحسن الله عز وجل إليها، ولا شك أن هناك ضررا على ولدها؛ لأنه سيكون حرا ولا يملك أمه بعد موت أبيه، فتعتق بموت سيدها، ولذا مضى قضاء الصحابة رضوان الله عليهم بعدم بيع أمهات الأولاد، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فرق بين أم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، وهذا الحديث فيه وجوه: بعض العلماء يقول: إنه في بيع أمهات الأولاد، فيبيع الأم ويبقي الولد؛ لأنه يتضرر ببقاء أمه جارية، وهذا لا شك أن فيه ضررا عظيما عليه. وقيل: (من فرق بين أم وولدها) يدخل فيه ما يفعله بعض الناس خاصة في هذه الأزمنة التي قل فيها الورع، ونسيت فيها الحقوق، فيأتي وينتزع أولاد المرأة منها بعد تطليقه لها، ويأخذهم بالقوة ويفرق بين الأولاد وأمهم، وقد يمضي الشهر وقد تمضي السنة بل تمضي السنوات ولا يمكنهم من رؤية أمهم، فإن فعل ذلك فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وكان بعض مشايخنا يقول: إن الله يفرق قلبه ويفرق همه في الدنيا قبل الآخرة، فقل أن تجد رجلا يفعل ذلك إلا وعجل الله له عقوبة الدنيا قبل الآخرة. الشاهد: أنه لا يجوز بيع أم الولد على هذا القول، فإذا حصل البيع فالبيع فاسد، وإذا تبين فساده فيحكم برد الثمن لصاحبه، فتسترد الأمة وتبقى أم ولد حتى تعتق على سيدها. وقوله: (أو باعها بعد اعترافه بوطئها) : ثم تبين حملها وولدت قبل ستة أشهر فإنه ينسب الولد إليه. وقوله: (فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل) : لحقه الولد؛ لأنه تبين أنه ولد للأول وليس للثاني؛ لأن الثاني لا يمكن أن يولد له بدون ستة أشهر، مثلا: وطئها في محرم، ثم باعها في صفر، ولما مضت الستة أشهر من الوطء تبين أنها وضعت في شهر جماد الذي هو الشهر السادس، فحينئذ نعلم أن هذا الولد منسوب للأول وليس للثاني، لأنه لا يمكن أن تلد لأربعة أشهر، إذا اشتراها في صفر ووطئها في صفر وربيع، فمعنى ذلك أنه وطئها وهي حامل، وحينئذ ينسب للأول ولا ينسب للثاني، ويلغى البيع ويحكم ببطلانه. الأسئلة لا يعترض بالمسائل المستثناة من حكم الأصل عليه السؤال كيف يمكن الجمع بين براءة رحم المرأة بعدة الطلاق وبين احتمال وقوع الحمل بعد أربع سنين؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذا لا شك أنه أمر مستثنى من حيث الأصل، ما جعلت العدد إلا لإثبات الحقوق في لحوق الولد وغيرها من الحقوق الواجبة في العدد، لكن هذه المسألة مستثناة، وقد بينا أنه قد يتأخر الحمل لأمور خاصة، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله: أن مسائل الاستثناء والأعيان لا يعترض بها على الأصول، فيبقى الأصل كما هو، وتبقى أحكام العدد كما هي، فيقال: هذه أحوال مستثناة تخص بأحكامها، ولا يلغى حكم الأصل، ولا يعترض به على هذه المسائل التي ثبت بالعادة أنه يقع شيء منها. وإذا نظر المسلم وجد أن هناك أمورا تستدعي العمل بهذه المسائل المستثناة، فإننا لو لم نحكم بذلك لحكمنا برجم المرأة، وأنها زانية؛ لأنه -مثلا- لو طلقها، وبعد أربع سنوات تبين حملها فإنه في هذه الحالة تتهم بالزنا، وخاصة عند مذهب من يرى أن الحمل دليل على ثبوت الزنا، كما قال عمر رضي الله عنه: (إذا كانت البينة أو الحبل) ، ففي هذه الحالة الأصل أنها بريئة والشبهة قائمة، ودرء الشبهات معتبر شرعا، فعلى كل حال ينبغي أن تنظروا أن المسألة متجاذبة ليست خاصة بقضية نسبة الولد، فيها جانب يتعلق بإقامة الحد، وإذا نفيت الولد يترتب عليه أنه ابن زنا، فلا ينظر الإنسان نظرة من جهة واحدة ويغفل بقية الجهات، ومن حكمة الشريعة أنها تعتني بالحقوق إذا تعدد أطرافها، فتعطي كل ذي حق حقه. وبناء على ذلك نقول: ما دام أنه ثبت في العادة أن الحمل قد يطول ويتأخر فإنه يحكم بلحوقه، وقد ينزل من المرأة دم استحاضة وتظنه حيضا ابتلاء من الله، ويتكرر معها وتحكم بأنها حاضت ثلاث حيضات، وأنها طهرت، والواقع أنه نزيف، وهذه المسألة لا تقع إلا عند اضطراب الحمل، فقد تضطرب ويجري معها الدم ويحكم ببراءة رحمها بعد ثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتبين أن هذا الدم كله دم فساد وعلة، وأنه دم نزيف، وأن الأمر في رحمها غير مستقر، ولذلك لا شك أنه عين الحكمة والصواب، وفيه إعمال للأصول الشرعية من براءة المرأة وعدم اتهامها بالزنا، والله تعالى أعلم. الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب السؤال إن من الأمور الجاهلية التي لا يزال بعض الناس عليها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهل من قابلها بهذا الأسلوب يلام على فعله؟ الجواب التفاخر بالأحساب والأنساب من بقايا الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13] ، الناس كلهم لآدم وحواء، وهذا يدل على أن الأصل واحد، فإذا كان الأصل واحدا فما الذي جعل بني فلان أفضل من بني فلان؟ وما الذي جعل بني فلان أزكى وأشرف وأكرم من بني فلان؟ حتى كانوا في الجاهلية يقتلون المائة بالواحد! وهذا كله من عمل الشيطان الذي أدخله على عصاة بني آدم، ولذلك قال بعض أئمة العلم رحمهم الله: من افتخر بأصله ففيه شبه من إبليس؛ لأن الله يقول حكاية عن إبليس: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف:12] ، فهذا التفاضل والتعالي على الناس من شأن الجاهلية، والإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أنه لو صعد بنسبه إلى السماء وهو عند الله وضيع فإنه لا ينفعه عند الله شيئا، وأنه إذا اتقى ربه وخاف ربه رفع الله قدره، وزكى شأنه وأمره ولو كان عند الناس وضيعا، فالعبرة كل العبرة بما بينك وبين الله عز وجل. وفي تاريخ الإسلام من الأئمة الأعلام أصحاب دواوين العلم والعمل، والأئمة الذين قادوا الأمة، وسطروا في دواوين المجد الصفحات المشرقة المنيرة، لم يفتخر منهم أحد يوما بنسبه وحسبه، فالعاقل الحكيم يعلم أنه لا وزن له عند الله إلا بتقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن حكمة الله عز وجل أنه ما غيب عبد خوفا من الله في قلبه إلا أورثه الله محبة وعزة عند الناس، وكانوا يستدلون على خوف الإنسان من الله وخشيته لله فيما يوضع له من القبول، فإن كمل خوفه كمل القبول له من الله في الخلق، وإن عظم خوفه عظمت مكانته، وجلت منزلته. هذا عطاء بن أبي رباح مولى من موالي العرب، أشل أفطس، ومع ذلك يدخل عليه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وهو في المسجد الحرام، ويسأله ويقول له: يا عطاء! سلني حاجتك، فقال له: إني لأستحي أن أسأل أحدا في بيت الله عز وجل، فلما خرج من المسجد قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك، فقال له عطاء: إني لأرجو الله أن يغفر لي ذنبي، قال: يا عطاء! ذلك ليس إلي، إنما أسألك أن تسألني حاجتك من الدنيا، فقال له: إني لم أسأل الدنيا من يملكها أفاسألها من لا يملكها؟! فقال سليمان بعد أن تولى لبنيه: يا بني! اطلبوا العلم فقد أذلنا العبد آنفا بعلمه، قال: أذلنا، وهو في نظر الناس أعز! فلا ينفع الإنسان حسبه ونسبه إذا لم يقم أمره على تقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن نظر إلى الناس بقلب مليء بالاحتقار، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يعرف بيته، ولا تعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يعرف نسبه، ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا به، شيء لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل. وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر على الناس مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية! تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحد لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن. فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناسا في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته. الحسب لا يغني الإنسان عند الله شيئا، إلا أن الإنسان الذي رزقه الله عز وجل حسبا مثل أن يكون من بيت معروف بالصلاح ومعروف بالعلم، أو من بيت معروف بالإمارة والوجاهة، وحافظ على هذه السمعة الطيبة آباء كرام من بيت عز وشرف وسؤدد، فحافظ على هذا المجد وسار على سيرة آبائه الطيبين، فأكرم الناس واحترمهم وقدرهم، واتخذ من هذا الحسب الطيب الكريم وسيلة لتربية أبنائه؛ لأن لهم عند الناس من المحبة والتقدير الشيء الكبير؛ ولأن آباءهم قد بنوا مجدا فلا يهدمونه، وأخذ من هذه المعاني ما يعين على التواضع، والحرص على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهذه نعمة من الله عز وجل على العبد، وهذا عصامي عظامي، عصامي حينما يبني مجده بنفسه بتوفيق الله عز وجل، وعظامي طاب معدنه، وإذا طابت الأصول طابت الفروع، إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية. والله عز وجل إذا وضع البركة في بيت أو قبيلة أو جماعة أو أسرة في إمارة أو في علم في دين أو دنيا؛ وضع البركة فيها، وعرفت بالخير وعرفت باستقامة أمور الدين أو استقامة أمور الدنيا، فإذا حافظت هذه الأسر على هذه الأمجاد أبقى الله الخير فيها، وأبقى لها المحبة والتقدير وبارك فيها، وأورثها من حسن العاقبة ما لم يخطر لها على بال. فلابد من المحافظة على الأصول الطيبة، وليس معنى كلامنا أن يضيع الإنسان نسبه أو يضيع حسبه، فهذه نعمة من الله أنعم بها عليه، لكن لا يتعالى على الناس، الذي يتعالى على الناس بنسبه فقد استذل الناس. ولذلك في قصة عمر رضي الله عنه مع ابن لـ عمرو بن العاص كان في مصر، وكان والده واليا على مصر، فذكروا في السير أنه أجرى سباقا بين الناس، فكان فيهم ابن عمرو بن العاص، فسبق قبطي ابن عمرو بن العاص، فأخذ ابن عمرو السوط وصار يضربه ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، حتى آذاه فأضره فسبقه، فجاء القبطي إلى عمر في الموسم واشتكى إليه، فسأل عمر الناس ووجده صادقا فيما قال، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال له: إذا كان الموسم فاقدم علي أنت وابنك فلان، فجاء عمرو ومعه ابنه ثم لما دخل عليه، قال عمر رضي الله للقبطي: أهذا هو الرجل؟ -يعني ابن عمرو - قال: نعم، قال: دونك الدرة، فقام وضربه وأمره أن يضربه مثلما ضربه، فلما ضربه وأتم ضربه، قال: وجهها إلى صلعة عمرو، فقال القبطي: أما إني قد ضربت من ضربني، ومراد عمر بقوله وجهها إلى صلعته تعزير ولاته إذا أساءوا للناس وأضروا بهم، فامتنع القبطي وكأنه يقول: هذا الأمر ليس إلي، هذا لك أنت، وأدب من وليت، فقال عمر رضي الله عنه لـ عمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! الناس لهم حق، ولا يظن أحد أنه إذا لقي شخصا فكأنه مملوك له، فيحتقره للونه، أو يحتقره لفقره، أو يحتقره لمنصبه، لا أبدا، أو أنه إذا أصبح من بني فلان فإن الناس أصبحت دونه، لا، هذا ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، ولذلك تضيع حقوق الناس وتعظم مظالمهم حينما ينظرون بهذه النظرات، فتجد المظلوم يؤخذ حقه ولا يستطيع أن يصل إلى حقه؛ لأن فلانا الذي ظلمه هو فلان، وحينئذ يكون باطن الأرض خيرا من ظاهرها. فعلى كل حال الشر العظيم، والحالقة -حالقة الدين وحالقة الشعر- أن يتفاخر بالأنساب على وجه تضيع فيه حقوق الناس، وتعظم به مظالمهم، وقد قال الله تعالى: {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر:1 - 8] {ألهاكم التكاثر} [التكاثر:1] ؛ لأنهم كانوا يتكاثرون بأحسابهم وأنسابهم، وقال: {حتى زرتم المقابر} [التكاثر:2] أحد الأوجه في تفسيرها أنه تفاخر بعضهم على بعض حتى عددوا الأموات، فذهبوا إلى المقابر، {حتى زرتم المقابر} [التكاثر:2] يعني: وصل بكم التكاثر والتفاخر حتى بالأجداث والرمم وأموات الجاهلية، {كلا سوف تعلمون} [التكاثر:4] وهذا تهديد ووعيد من الله لكل من يتفاخر في بنسبه. فعلى كل حال؛ على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يحمد الله إذا رزقه الله بيتا صالحا وأسرة طيبة، فإن هذا لا يعني أننا ننسى البيوت التي لها فضل وشرف، خاصة إذا كانت عظيمة الخير على الإسلام، وعظيمة الخير على المسلمين، كالأسر التي عرفت بالآباء الكرام الذين كانوا بعد الله عز وجل آباء للأيتام وللأرامل، سد الله بهم الحاجات، وفرج بهم الكربات، وأحسنوا إلى المؤمنين والمؤمنات، الآباء الذين أغلقت بهم أبواب الشرور، وفتحت بهم أبواب الرحمات، كانوا يسعون في الصلح بين الناس، وسد العوز والفقر وبذل الشفاعات الطيبات المباركات، ولا ينسى من كان من آبائه له مجد في الإسلام من إمارة وولاية، أو كان له مجد في الإسلام من نشر علم انتفع به المسلمون، فكل هؤلاء لا يذكرون إلا بالجميل، ويدعى لخلفهم أن يبارك الله فيه؛ لأن بقاء هذا الخير في هذه البيوت الطيبة فيه نفع عظيم، الجهر بالأذكار عقب الصلوات المكتوبات السؤال الأذكار التي تكون عقب الصلاة هل يجهر بها المرء أم أنه يخفي بها صوته؟ الجواب قولان للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة: جمهور العلماء على أن السنة في الأذكار أن تكون سرية، وألا يجهر الذاكر بها صوته؛ لأن نص القرآن يأمر بإخفاء الذكر، وقالوا: لأنه أقرب للإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأبعد عن التشويش والإضرار بالغير، وقال بعض أهل العلم رحمهم الله: يشرع الجهر بالأذكار، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما كانوا يعرفون انتهاء الصلاة إلا بالتكبير بعدها، وأجيب بأن المراد بالتكبير: الرنة التي تكون من مجموع الذكر ولو مع مخافتة الصوت، وهذا معروف، ومن يعرف مساجد البوادي التي لا يكون فيها إزعاج ولا تشويش فإنه يجد أن الناس أثناء الصلاة في سكون تام، وإذا انتهت الصلاة -ولو كانوا يسرون بالذكر- يحس برنة وصوت محسوس واضح يدل على أن الصلاة قد قضيت، وعلى كل حال: من جهر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، ومن أسر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، والنفس أميل إلى الإخفات وعدم الجهر، إلا إذا كان عالما يعلم الجهال أو كان في موضع فيه عوام فيرفع الصوت تعليما لهم، فلا بأس في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم. مناداة الابن لأبيه بكنيته السؤال إذا نادى الابن أباه بكنيته، فهل هذا من العقوق؟ الجواب هذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، في بعض الأحيان قد يحب الوالد أن يدعى بكنيته من ولده، لكن الأصل أنه لابد من تذلل الابن لأبيه؛ لأن الله يقول: {واخفض لهما جناح الذل} [الإسراء:24] ، فلابد أن يخاطبه مخاطبة تشعره بمنزلته، كقوله: يا أبت، وهذا هو الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وينبغي تحريه فيناديه بالأبوة؛ حتى يشعره بالفضل عليه وأنه دونه، والله تعالى أعلم. إذا لم يجر بهذا عرف -أي مناداة الأب بكنيته- فهذا فيه قبح، وأشنع من هذا أن يناديه باسمه المجرد، لكن إذا جرى عرف أن الوالد ينادى في بيته وولده بالكنية ولا يتأثر بذلك ولا يتضرر فهذا شيء آخر، لكن المحفوظ أنه يناديه يا أبت، ويشعره بحقه عليه، والله تعالى أعلم. نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله السؤال كثيرا ما يجد طالب العلم المشاق في تعامله مع العوام وتبليغ العلم وبيان الأحكام إلى درجة أن يمل فيها وتضعف همته، فما توجيهكم؟ الجواب هذا طريق الأنبياء والصالحين، وطريق خيرة خلق الله وصفوة الله من العباد أجمعين، ولابد من الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله عز وجل، أي طريق هذا الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الجنة؟ أي طريق هذا الطريق الذي وضعت الملائكة أجنحتها لصاحبه رضا بما يصنع؟ أي طريق هذا الطريق الذي ينعم فيه العبد برحمات الله عز وجل؟ فكم من عبد أصبح وهو داعية إلى الله فما أمسى إلا وقد غفرت ذنوبه! وكم من عبد داعية إلى الله أصبح وأمسى يأمر بأمر الله وينهى عما نهى الله عنه فكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه! (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالا يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) لا يستحقر الإنسان الخير، فكم من كلمة يسيرة قربت صاحبها إلى الله جل وعلا، خاصة إذا كانت من ذكره، وكم من متكلم بين أناس يجهلون السنن، فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة، ودل به وهدى حتى ثقلت موازينه وارتفعت له الدرجات العلى لما كان من أمره بطاعة الله! ولذلك عظم على عدو الله الشيطان ما يراه من أولياء الرحمن، فأخذ يخذلهم ويثبطهم ويسلط اليأس على قلوبهم، لكن ليصبروا؛ فإن الله مع الصابرين، وليرابطوا على صبرهم؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، خاصة في زمان عظمت غربته، وجلت كربته، ولا معين ولا ظهير ولا ولي ولا نصير إلا الله وحده، وهو على كل شيء قدير. فالواجب على المسلم ألا يمل لذلك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) أخي في الله: توكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وانظر إلى عظيم نعمة الله عليك حينما تمسي وتصبح وأنت تبلغ رسالة الله، وانظر نعمة الله عليك إذ اختارك واصطفاك لتأمر بأمره وتنهى عن نهيه، فتحبب إلى العوام، وتقرب منهم، ووطئ كنفك لهم، وكن ممن يؤلف ويألف، وكن من الذين سهلت أخلاقهم، وحسنت آدابهم، وجملت خلالهم، حتى تفوز بأحسن المنازل في دعوتك إلى الله. وعلى كل حال اليأس والضعف لا يصلح لطالب العلم، طالب العلم الحق مجرد ما يضع قدمه في الدعوة إلى الله لا يفكر في السآمة والملل، بل يضع روحه في كفه، طالب العلم في جهاد أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال كثير من العلماء وهم أغلب طائفة السلف: إن العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل إذا أخلص فيه العبد لربه. سئل الإمام أحمد رحمه الله: أي منزلة أعظم، منزلة العالم أو المجاهد؟ قال: العلم إن أخلص فيه لوجه الله. ولذلك قال الله في كتابه: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء:69] ، فابتدأ الله بالنبيين ثم ثنى بالصديقين وهم: العلماء العاملون الهداة المهتدون، فهذا السبيل الذي أنت فيه هو سبيل الأنبياء وطريق الأصفياء والأتقياء، ولكن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وأفلحوا وأدلجوا حتى بلغوا المنزل، عرفوا أن سلعة الله غالية فقدموا لها أرواحهم رخيصة، يصبر الواحد وهو يعلم الناس فيتغرب عن أهله ووطنه ويسافر ويشعر مع هذا كله أنه مقصر. طالب العلم الحق يتفانى في التضحية وهو يحس أنه لم يقدم شيئا، وأن الذي قدمه شيئا يسيرا، والعكس، فمتى أحس أنه قدم كثيرا، وأن الناس لا تتقبل منه، فيقول: ما لك وما للناس! لا، أنت تعامل رب الجن والناس، تعامل ربا لا يضيع مثقال خردلة من عمل صالح، تعامل ربا لا يصيبك هم ولا غم ولا كرب ولا نكبة إلا كتب الله أجرك، وأثبتها في ميزان حسناتك، حتى تلقاها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ما الذي رفعت به الدرجات وكفرت به الخطايا والسيئات غير الصبر، وأنت تصبر من أجل أحب الأشياء، وهو الدعوة إلى الله عز وجل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} [فصلت:33] ، هذه الآية كان الحسن البصري يقول فيها: هذا ولي الله، هذا حبيب الله، وهو الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تقل: ما لي وما للناس، وإنما إذا دعوت وبلغت وبينت فاحمد الله جل وعلا أن الله جعل لسانك يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ولم يجعلك داعية إلى الهوى والردى، وإذا علمت الجاهل قلت: يا رب! لك الحمد والشكر أن رفعتني وكنت وضيعا، وأعززتني وكنت ذليلا، ورحمتني وكنت معذبا، وهديتني وكنت ضالا، ولذلك خاطب نبيه وهو في أعلى مراتب الدعوة والتعليم {ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى:6 - 8] ، ذكره بنعمة الله؛ لأن بهذا التذكير تقوى النفس لتعليم الناس، والصبر على أذاهم، ولذلك قال له بعدها سبحانه وتعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى:9 - 11] فالذي يستشعر أن الله أعطاه نعمة عظيمة، وأن الله شرفه وكرمه بهذا العلم؛ فإنه يضحي ويجاهد ويجالد، والله عز وجل لن يضيع لك في هذا العلم ولا في غيره من الأعمال الصالحة مثقال خردل، وقد تسهر على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة، وقد تسهر على آية تحل حلالها وتحرم حرامها وتعرف شريعتها ونظامها؛ يكتب الله لك بها من الحسنات ما لم يخطر لك على بال، وتكون لك شفيعة بين يدي الله عز وجل، فهذه نعم ومنن تنالها برحمة الله. ما الذي يدعوك للسآمة والملل؟ هل تعلمت العلم من أجل أن يمجدك الناس وأن يعظمك الناس؟ هل تنتظر من الناس أن يثنوا عليك وأن يزكوك وأن يمجدوك؟ هيهات هيهات: (فمن تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) . هل تعلمت العلم من أجل أن تنتظر من الناس مكافأة، وأن تأمر فيطاع أمرك، وأن تقول فيسمع قولك؟ هيهات هيهات، الإنسان وهو يطلب العلم يفكر في شيء واحد وهو رضوان الله جل وعلا، يفكر في مرضاة الله سبحانه وتعالى قائما وقاعدا ساكتا ومتكلما، يفكر كيف يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا فكر كيف يرضي الله فتح الله له أبواب الرحمات، فأصبح إعراض الناس أفضل عنده وأكمل، لا يتألم بإعراضهم بل بالعكس يقول: الحمد لله أن الله عز وجل ما شغلني بهم، ولا علق قلبي بهم، فعلى كل حال عليك أن تنظر إلى ما بينك وبين الله، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس. ومما يوصى به طالب العلم حسن الظن بالله عز وجل، فإذا وجد الناس أعرضوا عنه أحسن الظن بالله، وقال: لعل الله لحكمة يريدني أن آوي إليه، يريدني أن أخلص له أكثر والعيب في وأنا المقصر، ما يقول: العوام فيهم وفيهم، وإنما يتهم نفسه ويرجع إلى نفسه، ودائما لا تسئ الظن بالله عز وجل خاصة في هذا العلم، فإن ربك فوق ما ترجو وتأمر كرما وفضلا وجودا وإحسانا وبرا، لا تظن بربك إلا كل خير، سواء كنت طالب العلم أو غير ذلك، لا تظن بهذا الرب إلا كل خير، فالشيطان إذا أراد أن يضر بالداعية أو طالب العلم أدخل إلى قلبه سوء الظن بالله عز وجل، فإذا ساءت ظنونه زاغ قلبه، فمل وسئم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إن أحدهم -والعياذ بالله- ربما يقول: أنا مالي وما للناس؟ وما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ حتى يندم عما كان منه من الخير؛ فيحبط عمله فيكون من الخاسرين نسأل الله السلامة والعافية! يقول: يا ليتني ما أمرت، يا ليتني ما فعلت! فتذهب حسناته -والعياذ بالله- كلها؛ لأنه ندم على ما كان منه من الخير، وتبرأ من هذا الخير. فعلى طالب العلم أن يجند نفسه بشيء واحد -هو سلوته وعماده وروحه ومنه تستمد القوة والعون من الله عز وجل- هو الإخلاص والتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أراد وجه الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن أراد وجه الله ثبت الله قلبه وسدد لسانه وشرح صدره، ولم يبال بالناس أقبلت أو أدبرت، والله إنه ليكمل إخلاص العبد مع الله عز وجل فيجلس مع العشرة آلاف وكأنه جالس لوحده. ويكمل إخلاص العبد ويكمل يقينه بالله عز وجل ويقف بين الأمة من الناس فلا يبالي بها أقبلت أو أدبرت، كل الذي يفكر فيه فقط مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل الذي يفكر فيه أن هذا القول الذي يقوله وأن هذا النصح وهذا التوجيه يصعد إلى الله عز وجل ويقبله، لا يبالي أقبلت الدنيا أو أدبرت، المهم أن يرضى الله سبحانه وتعالى، وعندما تجد عنده لسان صدق فلا يزل صاحبه، ولا يزيغ قلبه، مما أورثه الله عز وجل من كمال التوحيد والإخلاص، وهذا هو حال الرسل والأنبياء ما كانوا يبالون بالناس أعرضوا أو أقبلوا، فلما أعرض الناس عنهم سلموا أمرهم لله، وتوكلوا على الله، وفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، ومن فوض أمره إلى الله تولى الله أمره، ولذلك قال مؤمن آل فرعون: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا} [غافر:44 - 45] . فجعل الله الفرج بالتوحيد والإخلاص له عز وجل. فطالب العلم والداعية والخطيب لا يسأم ولا يمل، وليعلم أن الكلمات التي ذكر بها من الأحاديث والآيات البينات أنها إن ضاعت عند الناس فلن تضيع عند رب الجنة والناس، وأنه قد خطها من فمه ومن لسانه، وعليه ملائك حافظون لا يغيرون ولا يبدلون، خطت في صحائف أعماله وأقواله حتى يراها أمام عينيه في يوم ينفع الصادقين صدقهم، فيجزى على الحسنات إحسانا، وعلى السيئات إما عقوبة أو صفحا وغفرانا. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يربط على قلوبنا في طاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله
__________________
|
|
#618
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (467) صـــــ(1) إلى صــ(29) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [1] لقد شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تعتد بعد طلاقها أو وفاة زوجها لحكم عظيمة وجليلة منها الحفاظ على الأنساب، وكذلك إعطاء الفرصة للزوجين إذا كان يريدان الرجعة في حال الطلاق الرجعي، وكذلك حفظ العهد والود الذي بين الزوجين. مشروعية العدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب العدد] . (العد) في لغة العرب: الحساب والإحصاء، فإذا أحصى الشيء، قالوا: عده. ولما كان هذا النوع مما أوجب الله عز وجل فيه الحساب والاعتداد سمي بهذا الاسم؛ لأن المرأة تعد أيام عدتها، وكذلك تحسب وتحصي أيام أقرائها، وهذا الباب المراد به في اصطلاح العلماء: تربص المرأة في أجل مخصوص لانقضاء آثار النكاح. فالعدة تقوم على تربص المرأة الأجل المسمى الذي بينه الله عز وجل في كتابه، وثبتت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم لانقضاء آثار النكاح. وهذا الباب في الحقيقة مترتب على كتاب الطلاق؛ لأن الأصل في العدة أنها تترتب على الطلاق، إلا أنها قد تكون في الفرقة من خلع أو فسخ، وكذلك تقع في الوطء إذا كان وطء شبهة، وتقع في الوطء الحرام على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، ونظرا لتعلقها بالأبواب المتقدمة من الطلاق والخلع واللعان، ناسب أن يذكرها المصنف -رحمه الله- بعد بيانه لتلك الأبواب. والأصل في لزوم العدة ووجوبها: كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، فبين سبحانه وتعالى شرعية العدة، وأنها تكون للمطلقة ثلاثة قروء، وكذلك بين سبحانه العدة وشرعيتها بطريق المفهوم في الخطاب في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، فبين سبحانه وتعالى أنه إذا وقع الطلاق قبل الدخول فليس هناك عدة تحتسب، ومفهوم ذلك: أنه إذا وقع الطلاق بعد الدخول فإنه تجب العدة وتثبت. وقال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، فبين سبحانه وتعالى عدة الآيسة من المحيض، وهي: المرأة الكبيرة، وبين عدة الصغيرة التي لم تحض، وبين عدة الحامل، وهذا يدل على مشروعية العدة. كذلك أيضا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدة، حيث أمر بها فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها حينما طلقها زوجها، فقال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم) ، فهذا يدل على شرعية العدة. وكذلك أيضا ثبتت النصوص في الكتاب والسنة بعدة الوفاة، فأمر الله عز وجل المرأة التي توفي عنها زوجها بالعدة والحداد؛ فقال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234] ، فأمر الله بعدة الوفاة وهي الحداد، وكذلك أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) كذلك -أيضا- قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبقى مدة الحداد وهي عدة الوفاة. فمن مجموع هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء سلفا وخلفا على مشروعية العدة، وهذه العدة تتنوع وتختلف لكن الأصل العام أنها مشروعة. الحكمة من مشروعية العدة وفي شرعية الله سبحانه وتعالى لهذه العدة حكم عظيمة، والله لا يأمر إلا بكل خير ولا ينهى إلا عما فيه شر، والله يعلم ونحن لا نعلم، وله الحكم البالغة سبحانه وتعالى، وتمت كلمته صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. حفظ الأنساب فمن الحكم: أن العدة تحفظ الأنساب، وعن طريقها لا يختلط ماء الأزواج في الأرحام، وقد فضل الله عز وجل بني آدم وأهل التكليف بالتشريع بأن لا يساووا البهائم، فالمرأة إذا طلقت بقيت مدة العدة تستبرئ لرحمها، وتتبين من الحمل، فإن وجد الحمل بقيت حتى تضعه، وإن كانت غير حامل فحينئذ لا إشكال. فالمقصود: أنه عن طريق العدة تحفظ أنساب الناس فلا يختلط الماء. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) فلو لم تكن هناك العدة لوطئ الرجل المرأة، وربما علقت منه فحملت وكان في بداية الحمل لا يتبين حملها، ثم طلقها فوطئها الثاني فاختلط ماء الأول بالثاني، وفي هذا من الشر العظيم والبلاء الكبير ما الله به عليم. وفاء الزوجة لزوجها وكذلك أيضا فالعدة: وفاء من الزوجة لزوجها، فإن المرأة إذا توفي عنها زوجها واعتدت في بيت الزوجية تذكرت فضل زوجها، ولذلك تعتد في نفس البيت الذي جاءها فيه الخبر، فتتذكر ما بينها وبينه، فتترحم عليه، وإن عرفت منه خطيئة أو زلة سامحته واستغفرت له، واسترحمت له، وفي هذا من الخير ما الله به عليم. العدة تعين على مراجعة الزوج لزوجته كذلك في هذه العدة حكمة عظيمة من جهة الطلاق: فإنها تعين على مراجعة كل من الزوجين نفسه، فإن المرأة إذا طلقت واعتدت فإنها تعتد في بيت الزوجية في الطلقة الأولى، وفي هذه الحالة في الطلاق الرجعي تبقى في بيت الزوجية، فيراها الزوج وتراه في البيت الذي بينهما فيه من الذكريات ما يحرك قلبه ويحرك قلبها، فربما كان هناك أمل بين الزوجين أن يرجعا لبعضهما، وأن يصلحا ذات بينهما، لم يدخل الغريب فيفسد ما بين الزوجين، ولذلك كثير من المشكلات الزوجية تتفاقم وتتعاظم حينما يدخل الغريب بين الزوجين، فأمرت المرأة المعتدة بالعدة والبقاء أثناء العدة في بيت الزوجية، قال تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} [الطلاق:1] ، فقال: (بيوتهن) ونسب البيوت إلى الزوجة، وكأنه بمثابة تأكيد على أنه لا يحل إخراجها، وكأنها مالكة لهذا البيت، ومن كان مالكا لبيته لا يخرج منه، ولذلك كثيرا ما كان أيام السلف ومن مضى ممن كان يطبق هذه السنة، قل أن تجد رجلا يطلق زوجته الطلقة الأولى إلا ويرجع إليها ويصلح ما بينه وبينها؛ لأن أباها وأخاها لا يخرجانها ولا يتدخل أحد بينهما تنفيذا لشرع الله، والتزاما بدين الله، ولما غير الناس هذه السنة فاتت هذه الحكمة العظيمة، وأصبح الأمر أشد خطرا وأعظم ضررا، حتى إن المسألة تكون من أيسر ما تكون، فإذا طلقها زوجها وخرجت من بيت الزوجية اشتعلت نار الفتنة، حتى إن المرأة تحن وتئن وتتألم وتتوسل وتتضرع بالكلمات المؤلمة الجارحة للقلوب، لكي ترجع إلى زوجها، فلا تجد أذنا صاغية، وبعض الزوجات يرغبن في الرجوع إلى أزواجهن، ولكن يقف أبوها أو أخوها أو أمها ويتبرأ منها إن خرجت أو رجعت، فيقع الوالد في المنكر العظيم في إفساد الزوجة على زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) والسبب في ذلك قائم على الإعراض عن شرع الله عز وجل، والهجران لهذه السنة التي فيها هذه الحكمة العظيمة وهي: بقاء المرأة مدة العدة في بيت الزوجية، فمن الحكم المستفادة من العدة: أن الله سبحانه وتعالى يجعل كلا من الزوجين في فسحة محدودة لكي يراجع نفسه، فإذا أرادت المرأة أن ترجع وهي المخطئة، فإن الزوج يتأخر ويصر قليلا حتى تتأدب، وإذا أراد الرجل أن يرجع وهو المخطئ فإن المرأة تتأخر بعض الشيء، فيؤدب كل منهما الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق:1] لكن متى؟ إذا طبقت السنة، والتزم بشرع الله عز وجل. وبالمناسبة: ينبغي على الخطباء وطلاب العلم والأئمة أن ينبهوا الناس على هذه السنة التي أضاعها كثير إلا من رحم الله، وهي: العدة أو الاعتداد في بيت الزوجية بعد الطلاق؛ لأن الله عز وجل نهى عن إخراج النساء من بيوتهن، وقال: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1] . التعبد لله عز وجل كذلك أيضا: في العدة تعبد وتقرب لله عز وجل. زيادة ثواب المرأة ومن حكمها: أنها تزيد ثواب المرأة وأجرها، وهذا مما جعله الله للنساء خاصة، فالمرأة تعتد في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرا، وتعتد عدة الطلاق ثلاثة قروء في بيت الزوجية وهي تتقرب إلى الله عز وجل، وترجو ثوابه وتمتثل أمره سبحانه، فيزاد أجرها، وترفع درجتها، وفي هذا تحصيل لمصلحة الآخرة وصلاح أمر الدين بامتثال أمر الله عز وجل ودينه شرعه. أنواع العدد يقول المصنف رحمه الله: [كتاب العدد] . جمعها -رحمه الله- لاختلاف أنواعها، فهناك عدة الطلاق، وقد تكون عدة الطلاق من طلاق رجعي أو طلاق بائن، وكذلك أيضا هناك عدة الوفاة، وعدة القروء، وعدة الأشهر، وعدة وضع الحمل، فنظرا لهذا التعدد جمعها رحمه الله. كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعدد الزوجات. شروط لزوم العدة قال رحمه الله تعالى: [تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها] . (تلزم العدة). أي: تجب. والشيء اللازم هو الواجب على الإنسان، وكأنه التصق به فلم ينفك عنه، فلا يبرأ إلا بفعله والقيام به. (تلزم العدة كل امرأة) الأصل في لزومها قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة:228] وهذا خبر بمعنى الإنشاء: أي: عليهن أن يتربصن هذه المدة التي هي مدة العدة. كذلك مما يدل على لزوم العدة: قوله عليه الصلاة والسلام: (امكثي) هذا أمر، وقوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي) وهذا أمر، والقاعدة: (أن الأمر يقتضي الوجوب حتى يصرفه صارف) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العدة واجبة ولازمة في حق الزوجة من حيث الأصل. اشتراط المفارقة الزوجية للزوم العدة قوله: (فارقت زوجا) العدة لا تكون إلا من فراق، وأصل الفراق: البين والانقطاع عن الشيء، يقال: فارق المكان إذا ابتعد عنه وبان منه، والفراق يكون إما بطلاق وإما بخلع أو بالفسخ سواء كان بعيب أو بلعان كما تقدم معنا في أحوال فسخ عقد النكاح. (تلزم العدة): أي: تجب. (على كل امرأة فارقها زوجها). أي: بان منها زوجها، ويوصف الطلاق بكونه فراقا -وقد تقدم معنا- لأنه رفع لقيد النكاح، قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء:130] ، وقال: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق:2] ، فالطلاق فراق، وكل امرأة فارقها زوجها تلزمها العدة؛ لأنها مرتبة على الزوجية وأثر من آثار إنحلال هذا العقد. (تلزم العدة) (ال) في العدة: للمعهود شرعا (كل) من ألفاظ العموم. (فارقت زوجا) أو فارقها زوجها، والفرقة مثل ما ذكرنا: بطلاق أو فسخ أو بوفاة. (فارقت زوجا) من حيث الأصل لابد أن يكون الزواج صحيحا، وعقدا شرعيا صحيحا، وقد تلزم العدة إذا كان النكاح فيه شبهة، كشخص نكح نكاحا يظنه صحيحا فبان فاسدا، وكذلك إذا كان النكاح فاسدا فيه تأويل، كأن يكون فيه خلاف بين العلماء وعمل بأحد القولين وكان قولا مرجوحا، وكذلك تلزم العدة في الوطء المحرم الذي هو وطء الزنا كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والمصنف -رحمه الله- ينبه على العدة من حيث الأصل، وبناء على ذلك فهناك ارتباط بين العدة والزوجية؛ لأن الأصل في العدة ألا تكون إلا على الزوجية، ومن هنا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] إذا: العدة تثبت وتنفى -في الأصل- بعد قيام عقد الزوجية لأنها مترتبة عليه، ولذلك يعتبرها العلماء من الأمور المبنية على النكاح. اشتراط الخلوة بين الزوجين لثبوت العدة قال المصنف رحمه الله: [خلا بها مطاوعة] . (خلا بها) لما قال: (خلا) معناه: أن الذي عقد على زوجته ولم يخل بها فلا عدة له عليها؛ لأن الله قال في آية الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} [الأحزاب:49] ، يعني: عقدتم على المؤمنات: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، ومن هنا أخذ العلماء أن من الحكم المستفادة من شرعية العدة: براءة الرحم، فهنا أسقط الله عز وجل العدة لأنه لم يحصل بين الزوجين مسيس أو خلوة على خلاف بين العلماء، وبعض العلماء يقول: من خلا بامرأة ومكن من وطئها -بحيث كان بإمكانه أن يطأها بالشروط التي سيذكرها المصنف- ثم طلقها ولم يطأها، فالخلوة على هذا الوجه تمكين، والتمكين ينزل منزلة الفعل؛ لأن من مكن من فعل الشيء كأنه فعله، ولذلك يلزم بعاقبته، وتترتب على هذه الخلوة: العدة، كما لو أن أجيرا استأجرته ليعمل عندك يوما، فجاء وجلس عندك مستجيبا بحيث لو أمرته بأي أمر ينفذه، فلم تأمره بشيء حتى مضى اليوم، وهو مكنك من نفسه فثبت له الحق، فهذا التمكين ينزل منزلة الفعل للشيء، ومن هنا لما مكنت المرأة نفسها لزوجها أن يطأها وكل الأمور ميسرة له وبإمكانه أن يطأ ولا تحول بينه وبين ذلك لا هي ولا أهلها فإنه ينزل منزلة من أصاب ومن فعل، فتثبت العدة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وقال الشافعية والمالكية والظاهرية رحمة الله على الجميع: لا يمكن أن يحكم بالعدة إلا إذا وقع جماع، أي: لا يكفي التمكين، بل لا بد من وقوع الجماع، واستدلوا عليه بظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن} [الأحزاب:49] ، وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل أسقط العدة إذا لم يحصل بينهما مسيس، والمسيس: المراد به الجماع، فدل على أن الخلوة لا تأخذ حكم الجماع؛ لأنه لم يقع مسيس، فصار كل من اختلى بامرأة وأمكنه وطؤها ولم يطأها داخلا في هذه الآية الكريمة، فلا عدة على زوجته، وفي الحقيقة من حيث الدليل أن مذهبهم أرجح؛ لأن ظاهر الآية قوي: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، وقع الطلاق: {من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] ما قال: من قبل أن تدخلوا عليهن. ولذلك الدخول شيء والمقصود من الدخول شيء آخر، فالمذهب الذي يقول باشتراط الإصابة قوي جدا من حيث الدليل، ولذلك رجحه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، فلا يكفي مجرد أن يخلو بها، بل لا بد من أن يحصل المسيس بينهما، والمسيس يكنى به عن الجماع. قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله يكني) . اشتراط المطاوعة في الخلوة بين الزوجين للزوم العدة [مطاوعة] . إذا قالوا: إن الخلوة تنزل منزلة المسيس فلا بد أن ينبهوا على أمور تكون بسببها الخلوة مؤثرة، فلو خلا بها إكراها دون مطاوعة منها، فعندهم لا يثبت لهذه الخلوة الحكم الشرعي، ولا يترتب عليها لزوم العدة. اشتراط علم الزوج بالمرأة أثناء الخلوة بين الزوجين للزوم العدة قال رحمه الله: [مع علمه بها] . هذا شرط ثان. إذا: تكون مطاوعة غير مكرهة، فإذا أكرهها وأدخلها بالقوة وخلا بها على وجه يمكنه أن يطأها ثم لم يطأها وكان بالقوة -قالوا:- لا يأخذ حكما؛ لأن الإكراه يسقط به الحكم، وتسقط هذه الخلوة ولا تأثير لها. والشرط الثاني: علمه بها، فقد يختلي الزوج بالزوجة وهو لا يعلم أنها معه فلا يكفي ذلك في إيجاب العدة، مثل: أن يكون كفيف البصر وتدخل عليه زوجته في مكان يمكنه أن يجامعها ويصيبها، قالوا: فإذا لم يخبر بأنها زوجته ولم يعلم بها فإن الخلوة حينئذ لا تنفع ولا تثبت بها العدة. اشتراط قدرة الزوج على الوطء للزوم العدة قال رحمه الله: [وقدرته على وطئها] . وقدرة الزوج على وطء زوجته، فلو كان غير قادر على وطئها، كأن يكون -مثلا- بحالة لا يمكنه أن يطأها كالنائم أو مثل ما ذكر بعضهم: السكران. وكان بعض مشايخنا يقول: هذا لا يمكنه؛ لأنه يحتاج إلى شيء من التهيؤ والقصد، وإن كان بعضهم يجعل مسألة السكران في حكم الشرط السابق، وهو: علمه بها؛ لأن السكران لا يعلم، والله يقول: {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] . قال رحمه الله: [ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسا أو شرعا] . (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كانت هذه الخلوة مع وجود ما يمنع في أحدهما أو فيهما، والمانع إما أن يكون حسيا أو أن يكون شرعيا، فالمانع الحسي: مثل أن يكون مجبوبا، وقد تقدمت معنا العيوب ومنها: الجب، وهو: قطع الذكر، وهو إما أن يكون جبا كاملا كقطع الذكر بكامله مع الخصيتين، فهذا لا يرتبون عليه العدة؛ لأنه إذا كان جبا كاملا بأن قطع الذكر مع الخصيتين فلا يتأتى منه حمل؛ لأنه لا يتأتى منه جماع، ولو كان الجب ببعض الذكر بحيث يمكنه أن يطأ بما بقي أو ببعضه على وجه يمكنه أن ينزل -لأن الخصيتين باقية- فيمكن أن يحصل الحمل، فلو جامعها مع كونه مجبوبا فربما أنزل المني فحملت من هذا المني فتحتاج إلى العدة للاستبراء، ومن هنا فرقوا بين الجب الكامل والجب غير الكامل. أي: أن يكون مقطوع الذكر ومقطوع الخصيتين أو لا يكون مقطوع الخصيتين، فهذا المانع الحسي في الرجل، والمانع الحسي في المرأة: كأن تكون رتقاء، وقد بينا عيوب النكاح التي تكون في النساء وفصلنا فيها، كأن يوجد فيها عيب يمنع من وطئها، كأن تكون ضيقة الفرج وهذا عيب يمنع من وطئها؛ فإنه حينئذ لا يحكم بثبوت العدة. فهذا هو المانع الحسي الذي لا تثبت به العدة سواء كان العيب في الرجل أو في المرأة أو فيهما معا، كأن يكون مجبوبا أو كانت رتقاء. كذلك لو كان المانع الذي يمنع من الوطء شرعيا كالحيض، والنفاس، والاعتكاف، والإحرام. كرجل اختلى بامرأة حائض ثم طلقها، فلا يمنع من ثبوت العدة في حقها، فهذا مانع شرعي لكن تثبت العدة مع وجود هذا المانع الشرعي، ومن الموانع الشرعية: أن يكون محرما وتكون هي محرمه أو أحدهما محرما فخلا بها فلا يمنع من ثبوت العدة، فإنه لو خلا بها وثمة مانع شرعي في أحدهما أو فيهما معا فلا يمنع من ثبوت العدة؛ لأنه ربما -والعياذ بالله- انتهك حدود الله ووطئها، وهذا فيه حفظ للحقوق؛ لأن المرأة لو لم تثبت لها العدة على هذا الوجه، فربما حملت وكتمت حملها، وربما توفي عنها وتتهم بالحرام مع أنه قد أصابها، فعلى كل حال: هذا المانع لا يمنع من العدة. مقصود المصنف -رحمه الله- أن يقول: إذا وجدت الخلوة ولو مع وجود ما يمنعه حسا أو يمنعها حسا أو مع وجود ما يمنعه شرعا أو ما يمنعها شرعا من الوطء لزمت العدة، فما دام حصل الاختلاء على وجه يمكن فيه أن يطأها فالعدة ثابتة، هذا مراد المصنف، وبناء على ذلك فلو سألك سائل، فقال: لو تزوج رجل امرأة ثم بعد زواجه منها اختلى بها خلوة يمكنه أن يطأها في هذه الخلوة، لكن فيه أو فيها أو فيهما مانع حسي أو شرعي: فهل تثبت العدة؟ تقول: نعم، فوجود هذا المانع لا يمنع من كونه يحصل مسيس -مثلما ذكرنا- كأن يكون مجبوبا يتأتى الحمل من مائه، أو يكون محرما أو معتكفا، أو تكون هي حائضة أو نفساء، فهذا كله لا يمنع من ثبوت العدة. (حسا أو شرعا) يعني: سواء كان المانع حسيا أو شرعيا. لزوم العدة بالوطء والوفاة قال رحمه الله: [أو وطئها أو مات عنها] . الوطء يحصل به المسيس الذي هو منصوص الآية، والخلوة على الوجه الذي ذكره بالشروط التي ذكرها تثبت بها العدة، وبناء على ذلك ذكر لنا ضربين: الضرب الأول: ما يتعلق بالخلوة المنزلة منزلة الإصابة. والضرب الثاني: الإصابة الحقيقية التي هي الوطء. وقد أجمع العلماء على -الضرب الثاني- أنه لو خلا بها واعترفت واعترف أنه وطئها تثبت بذلك العدة؛ لأنه مفهوم قوله تعالى: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] ، فهذا طلقها من بعد ما مسها، ولأنه هو الأصل في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة} [البقرة:228] . (أو مات عنها) فتلزمها عدة الوفاة؛ لأنه سيأتي -إن شاء الله- عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرا، وهذه العدة كانت في الجاهلية، والحداد كان موجودا في الجاهلية ولذلك ما كان موجودا في الجاهلية من العادات والشرائع انقسم في شرع الله عز وجل إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم ألغاه الشرع وأبطله: كنكاح الشغار. الثاني: قسم أثبته وأبقاه وحث عليه كأن يكون من مكارم الأخلاق ومن حسن العادات، كحلف الفضول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في دار عبد الله بن جدعان حلف ما أحب لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت) ، فهذا يدل على إقرار شيء جاهلي لكنه يتفق مع الإسلام؛ لأن هذا الحلف كان لنصرة المظلوم ومنع الظالم من الظلم، وهذا يتفق مع الشرع. الثالث: قسم هذبه الإسلام، يعني: أبقى منه شيئا وألغى منه شيئا، فقد يبقي الشيء في الأصل ويمنع من صفات معينة فيه، وقد يبقي الشيء بأصله، ويحدد له أجلا معينا. مثل: الحداد، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تدخل في أضيق وأظلم وأسوأ مكان من البيت -والعياذ بالله- ثم تمكث سنة كاملة، لا تمتشط ولا تدهن، ولا تغتسل وتصبح في حالة مزرية -والعياذ بالله- من العنت الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإذا أتمت السنة افتضت ببعرة -والعياذ بالله- في فرجها وهذا أشنع وأقذع، فجاء الإسلام فأمر في أول الأمر بالسنة حولا كاملا: {متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة:240] ، ثم نسخ وخفف الله ذلك بأربعة أشهر وعشرا فجعلها عدة الوفاة، فأبقى الأصل الذي هو حداد المرأة على زوجها، ولكنه هذبه وخففه فجعله أربعة أشهر وعشرا.
__________________
|
|
#619
|
||||
|
||||
|
لزوم العدة في النكاح الفاسد قال المصنف رحمه الله: [حتى في نكاح فاسد فيه خلاف، وإن كان باطلا وفاقا لم تعتد للوفاة] . تقدم معنا النكاح الفاسد وهو الذي اختلف العلماء فيه فقال بعض العلماء: إنه فاسد، وقال بعض العلماء: إنه صحيح، ومن أمثلة ذلك: النكاح بدون ولي فإن الحنفية -رحمهم الله- يصححونه والجمهور يبطلونه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنه: (لا نكاح إلا بولي) - فهذا نكاح فاسد فيه خلاف، فلو نكح نكاحا فاسدا فيه خلاف لزمت العدة، فمن حيث الأصل الأنكحة التي فيها خلاف بين العلماء، إذا عقد شخص معتمدا على القول الثاني الذي لا تراه فنكاحه صحيح، لأنه لا إنكار في المختلف فيه. لكن لو أنك سئلت عن هذا النكاح. يعني: طلب منك القضاء في مثل هذا العقد ورفع إليك ورضيا بك، فحينئذ تحكم ابتداء لا استئنافا؛ لأن الاستئناف تصحيح عقود المسلمين التي مضت على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء، هذا في مسائل الفروع المختلف فيها، هل من حق القاضي أن ينقض القضاء أو لا؟ والذي عليه العمل عند العلماء: أنه لا ينقض حكم غيره بناء على اجتهاد الغير إلا إذا خالف نصا قطعيا في كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع، أما إذا كان من المختلف فيه فلا ينقض، لكن لو ترافعا إليه قضى بما ترجح في نظره، فالقاضي يقضي بما ترجح عنده لا بما ترجح عند الخصوم، وبناء على ذلك: يحكم بفساد هذا العقد أو بصحته ولا يوجب الحد على الزوجين؛ لأن لهما شبهة شرعية، وبناء على ذلك: لو رفع إليه هذا النوع من النكاح الذي يراه فاسدا فإنه تثبت العدة إذا حكم بفسخه. والفائدة التي نستفيدها من هذا: أن العدة تكون في نكاح صحيح وفي نكاح فاسد، بخلاف بعض العقود الشرعية التي إذا فسدت فسدت آثارها، وبعض الأحيان يفسد العقد ويبقى الأثر، ويحكم ببعض الآثار المترتبة عليه كالعقد الصحيح، مثل مسألة: العدة، حيث تبقى كالعقد الصحيح ويثبت المهر بما استحل من فرجها، وفي بعض الأحيان يحكم بفساد العقد وما يترتب عليه من آثار، كما إذا كان حكم بأن البيع فاسد للربا؛ فإنه يبطل من أصله ويرد الثمن والمثمن، ويرد الطرفان النقدين إذا تصارفا على وجه الربا، ويبطل ما ترتب على ذلك، فلو أن الذهب الذي اشتراه بصفقة ربوية أصبح يساوي أضعافه فلا يأخذ المشتري الربح؛ فهذا يفسد وتفسد آثاره، كذلك في العبادات في بعض الأحيان يفسدها الشرع ويحكم بفسادها وفساد آثارها، ولا تلزم الآثار، ولا يلزم ضمان الإخلالات، وبعض الأحيان تفسد العبادة ويلزم ضمان الأخطاء التي تقع فيها كالصحيح، ومن أمثلة ذلك مثلا: الصلاة، فإذا حكمنا بفسادها كما لو صلى ثم تكلم كلاما أفسد صلاته، فإن الصلاة تبطل كلية ولا يلزمه سجود سهو إن كان قد سها قبل الإفساد، ولا يلزمه ضمان ما فيها من أخطاء. ولو أنه حج حجا فأفسده بجماع قبل الوقوف بعرفة، فإننا نقول له: أتم هذا الحج الفاسد، ولو وقع منه أي محظور آخر لزمه ضمانه، فنحكم بفساده ولزوم الضمان كالصحيح، فيشبه الفاسد من وجه ويشبه الصحيح من وجه آخر، وهكذا -مثلا- في العمرة، لو أنه أحرم بالعمرة وجامع زوجته قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة -بين الطواف والسعي- حكم بفساد عمرته، ثم لو أنه بعد أن جامعها تطيب أو قص أظفاره أو قلم أظفاره أو قص شعره لزمه ضمان مثل هذا بالفدية. إذا: هناك أشياء يحكم الشرع بفسادها وتترتب آثار عليها كالصحيحة، وهناك أشياء إذا حكم بفسادها حكم بفساد ما يترتب عليها، فهنا حكمنا بفساد العقد ولكن تترتب العدة؛ لأنها لبراءة الرحم فيستوي فيه العقد الصحيح والعقد الفاسد، وحتى في الزنا -والعياذ بالله- إذا وطئت المرأة بالزنا وأرادت أن تتزوج بعد هذا الزنا فلا يجوز لها أن تتزوج حتى تستبرئ رحمها، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى. عدم لزوم عدة الوفاة في النكاح الباطل (وإن كان -النكاح- باطلا وفاقا) يعني: ما اتفق العلماء على إبطاله، هل تعتد فيه للوفاة؟! العدة هي في الأصل متفرعة عن حرمة الزوجية وشرعيتها، أما إذا كان النكاح باطلا كنكاح المتعة فهو باطل بالاتفاق، فلو نكحها نكاح متعة وظنه نكاحا شرعيا، فنقول: تلزم العدة إذا طلقها، أو فارقها، أو فسخ القاضي عقد النكاح من أجل فساد العقد، ثم بعد ذلك نقول،: لا تعتد لو توفي عنها؛ لأنه ليس هناك حرمة زوجية؛ لأن عدة الوفاة في حق الزوج وحرمة الزوجية وهي ليست قائمة في مثل هذه الحال، لكن بالنسبة للعدة من جهة الفسخ قالوا: إنها مترتبة لبراءة الرحم أو لشبهة، ولذلك في العدة -كما سيأتي معنا- أن الحكمة عقلا: براءة الرحم ونحوها، وفيها جانب التعبد، فأنت ترى الرجل كبير السن ربما يبقى عشرات السنين في آخر عمره مع زوجته لا يطؤها ولا يأتيها، ومع ذلك إذا توفي تعتد، وإذا طلقها تعتد مع أنه لا وطء، لكن الشرع يحكم بالعدة في هذا، فهذا جانب تعبدي، مع أن التعليل المعقول هو براءة الرحم، ودل عليه قوله سبحانه: {طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، فنبه على أن العلة فيها براءة الرحم، وقال في آية العدة: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة:228] ، فجعل الحكمة من العدة: براءة الرحم. عدم لزوم العدة عند صغر الزوج أو عدم حصول الخلوة قال رحمه الله: [ومن فارقها حيا قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله، أو تحملت بماء الزوج، أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة] . قال رحمه الله: (ومن فارقها حيا قبل وطء وخلوة) . أي: إذا فارق الزوج زوجته وطلقها قبل أن يختلي بها فإنه لا عدة له عليها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، فنص الله تبارك وتعالى على إلغاء العدة إن وقع الطلاق قبل الدخول، فبين المصنف رحمه الله أن هذه الحالة لا عدة فيها، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله. والخلوة فيها تفصيل بين أهل العلم رحمهم الله، لكن الجماهير على أن المراد بالخلوة: الدخول، فإذا دخل بها ووطئها؛ فإنه حينئذ تثبت له العدة وإلا فلا مانع. (ومن فارقها حيا قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما). من فارقها حيا قبل الدخول فلا عدة له عليها، أي: قبل أن يحصل الوطء وقبل أن تحصل الخلوة، وبناء على ذلك فإذا حصل الوطء أو حصلت الخلوة فإن له عليها العدة. (وهو ممن لا يولد لمثله). إن حصل الفراق بعدهما -بعد الخلوة والوطء- وهو ممن لا يولد لمثله فلا عدة له عليها. (أو تحملت بماء الزوج). قالوا: في الحالة الأولى مثل: الصغير لو أنه خلا بامرأة، أو وطء المرأة فإن هذا لا يولد لمثله، ففي هذه الحالة لا يثبت له الاعتداد في حال مفارقته لها، وكذلك أيضا إذا تحملت بماء الزوج. وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في المرأة إذا أدخلت مني زوجها هل في هذه الحالة تثبت العدة، أو لا تثبت؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله: فالشافعية يرون أنها إذا تحملت بماء الزوج تثبت العدة، والجمهور: على أنه لا تثبت العدة. وقول الجمهور فيه إعمال للأصل، وقول الشافعية -رحمهم الله- فيه الاحتياط، وهو أشبه من جهة النظر، إلا أن الأصول ترجح مذهب الجمهور؛ لأن العبرة بالدخول والوطء الذي هو طريق العادة والغالب، والنادر لا يعلق الشرع الحكم عليه. (أو قبلها أو لمسها بلا خلوة). يعني: إذا حصلت منه المقدمات من تقبيل أو لمس. فلو أن رجلا عقد على امرأة فلمسها، أو قبلها ثم طلقها بعد ذلك؛ فإنه لا عدة له عليها، لأن اللمس لا يعتبر دخولا، ولا يعتبر جماعا، والله تبارك وتعالى اشترط للعدة وجود الجماع، وبناء على ذلك: إن حصل منه طلاق بعد تقبيل أو لمس، فإن العدة لا تثبت بمثل هذا. الأسئلة السؤال من نكح أخته من الرضاع ثم فرق بينهما فهل يجب عليها العدة؟ العدة من النكاح الباطل الجواب بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فهذا السؤال فيه حكم وفيه تنبيه، أما من جهة التنبيه: فينبغي لأهل الرضيع والمرضعة أن يعلموا وأن يحتاطوا في هذا الرضاع على وجه لا يحصل فيه الخلل بهذه الصورة الشنيعة، لدرجة أن الرجل يتزوج أخته من الرضاع ولا يجد المرضعة تنبهه ولا أختها ولا أقرباءها، وهذا سببه الإهمال وعدم التنبيه على الرضاعة، فأمر الرضاعة أمر عظيم تترتب عليه أحكام شرعية، فيجب على المرأة المرضعة أن تحتاط، وعلى أهل الرضيع أن يحتاطوا وأن يتقوا الله عز وجل؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب علينا أن نمتثل شرع الله عز وجل، وأن نحفظ هذه الأنفس من الوقوع في الخطأ، فإذا كان هذا لازما فإنه يلزم أن يحتاط بالإعلام والإخبار، حتى لا يطأ الرجل أخته من الرضاع أو عمته من الرضاع أو خالته من الرضاع. ثانيا: إذا تحقق أن الرضاع مؤثر وأنه بلغ العدد المعتبر شرعا وهو خمس رضعات معلومات، لقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن: بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) ، فأثبتت الخمس رضعات. فإذا ثبت الرضاع على وجه معتد به شرعا فإنه يفرق بينهما، أما لو لم يثبت الرضاع وفيه شبهة كأن يأتي الإخبار من عدو أو ممن يكذب، أو تكون المرأة التي ادعت الإرضاع معروفة بالكذب وبإفساد البيوت، واحتفت قرائن تدل على بعد هذا الشيء فلا إشكال؛ لأن الأصل صحة العقد حتى يدل الدليل على بطلانه. إذا: لابد من أمور: أولا: صيانة الرضيع ومن ارتضع معها. ثانيا: لا بد من التحقق من أن الرضاع مؤثر. ثالثا: أن يفرق بينهما إذا ثبت الرضاع على الوجه المعتبر شرعا. رابعا: أنه تعتد استبراء لرحمها كما سيأتي -إن شاء الله- بيان حد ما يجب أن تستبرئ به من الحيض، والله تعالى أعلم. كيفية مسح النساء على الرأس للوضوء السؤال بعض نساء تجمع شعر رأسها إلى الخلف وتلفه، فهل يجب عليها عند الوضوء حل الشعر الملفوف أم يجزئها المسح عليه؟ الجواب هذه المسألة فيها جانب يتعلق بالعبادة، وجانب يتعلق بغير العبادة، أما جانب المسح على الرأس: فالأصل أنها تمسح الشعر الذي يحاذي محل الفرض؛ لأن الله فرض على المرأة أن تمسح رأسها كاملا والرأس من الناصية في مقدمه إلى منابت الشعر في القفا عند حدوده قبل القذال قبل الرقبة، فهذا القدر من جهة الطول، أما من جهة العرض، فمن عظم الصدغ إلى عظم الصدغ، فهذا القدر هو الذي يجب مسحه، والأذنان من الرأس، لقول عليه الصلاة والسلام: (الأذنان من الرأس) فلو مسحت من رأسها هذا القدر فلا يجب عليها مسح ما استرسل من الشعر؛ لأن العبرة بمحل الفرض وما حاذاه، والصحيح: أنه يجب مسح جميع الرأس ولا يجب مسح بعضه كما يقول الشافعية والحنفية -رحمهم الله- والمالكية في رواية الثلث، فيجب عليها أن تمسح جميع رأسها بكفيها، وتأخذ بالسنة بالإقبال والإدبار على أحد الوجهين عند أحد العلماء، لحديث عبد الله بن زيد ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما. فإذا مسحت الفرض وما يحاذيه أجزأ، ولذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) فهي تقول: (إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي) تظفر شعر رأسها وسألت عن الظفائر هل تنقضها أو لا؟ قال: (لا، إنما يكفيك) يعني: يجزئك (أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) فدل على أن العبرة بأصل الرأس؛ لأنه من الترؤس والارتفاع، ومحل الفرض هو العبرة، فإذا حثت الماء ثلاث حثيات وروت أصول الشعر فقد غسلت الموضع المأمور بغسله وهو أعلى الرأس، والشعر الزائد على ذلك ليس بمحل للفرض ولا بمحاذ لمحل الفرض ولذلك سقط عنها حل الظفائر، ويستوي في ذلك غسل الجنابة وغسل الحيض على أصح قولي العلماء كما تقدم معنا في أحكام غسل الجنابة. المسألة الثانية: جمع الشعر إذا كانت داخل البيت مع زوجها وبين أولادها جائز، لكن إذا خرجت في الخارج وجمعت شعر رأسها في أعلى الرأس حتى يكون كالسنام، فهذا فيه وعيد شديد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) -نسأل الله السلامة والعافية- فأحد الأوجه عند العلماء: هو جمع الشعر في أعلى الرأس، فتجعل الشعر مجموعا في أعلى رأسها، والأصل أنها تحل ضفائر شعرها وترسلها، وهذا هو الأكمل والأبعد عن لفت النظر والإغراء بنظر الغير إليها، والله تعالى أعلم. حكم صلاة المرأة على الميت في بيته السؤال هل يجوز للمرأة أن تصلي على الميت في بيته قبل أن يصلى عليه ويدفن؟ الجواب هذا الأمر لا أعرف له أصلا، لكن من ناحية العموم فإنه يصلى على كل ميت، ولكن كونه لم يفعله السلف الصالح رحمهم الله، ولا ثبت أن الزوجات والنساء يجتمعن يصلين صلاة خاصة، وإنما كان يشهد ذلك في مشاهد المسلمين عامة وتصلي المرأة عموما مع الرجال، ولذلك صلت أمهات المؤمنين مع عموم الصحابة رضوان الله عليهم، وعائشة رضي الله عنها سئلت: هل تدخل المسجد للصلاة على الميت كي تصلي مع الناس؟ ولم تأمر أن تخصص، ولو كان هذا مشروعا لكان أمهات المؤمنين صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، فهذا الشيء لا أعرف له أصلا من حيث فعل السلف رحمهم الله، والأشبه: أن المرأة لا تصلي عليه صلاة مستقلة، خاصة وأن المرأة لا تخرج من بيتها وأنها ملزمة بعدة الوفاة، ومعلوم أن المرأة لا تخرج من بيتها في عدة الوفاة بأصل شرعي، لتظافر النقل أن كل زوجة تصلي على زوجها قبل خروجه، فهذا يدل على أنه مقتصر في الصلاة على الصلاة الشرعية، ولا شك أنها تقتصر على الدعاء له والاستغفار والترحم عليه، وجوز بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- خروجها للصلاة على زوجها؛ لأنه يراه من الحاجة، ولا يرى في ذلك بأسا، والله تعالى أعلم. حكم الصلاة عن شمال الإمام إذا ضاق المكان في المصلى السؤال ما حكم الصلاة في الجانب الأيسر من الإمام إذا ضاق المكان في المصلى؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: قال بعض العلماء: من صلى عن يسار الإمام بطلت صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره كما في الصحيحين، (قال: فأخذني وأدارني عن يمينه) قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يأخذ ابن عباس ويديره عن يمينه وهي حركه داخل الصلاة لا تستباح إلا من أجل صحة الصلاة، فلو كانت الصلاة صحيحة لما تكلف هذه الحركة، ورد الآخرون وقالوا: هذا الحديث حجة على صحة الصلاة؛ لأن ابن عباس كبر تكبيرة الإحرام وهي ركن الصلاة ووقعت عن يسار الإمام، فلو كانت الصلاة باطلة لنبهه النبي صلى الله عليه وسلم على قطع صلاته واستئنافها، ولكن كونه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بذلك دل على أن صلاته صحيحة، فرد الأولون وقالوا: هذا العذر للتكليف؛ لأنه زمان التشريع، وفعل ابن عباس على البراءة الأصلية فصحت صلاته بالبراءة الأصلية، فقالوا لهم: إذا صححتموها لعذر فإنها تصح عند وجود الحاجة والعذر؛ لأنه لا يصلي أحد عن يسار الإمام إلا عند وجود الحاجة والعذر، فالسؤال الذي ورد أنه إذا ضاق المكان ولم يجد مكانا فصف عن يسار الإمام، فالذي يظهر -والله أعلم- صحة الصلاة، لكنني أنبه على أنه ينبغي على المسلم التقي الورع أن لا يدخل في الإشكالات، فالصلاة أمرها عظيم، فهذه المواقف المشتبه فيها والتي فيها خلاف يخرج الإنسان من الشبهة ويصلي في آخر المسجد، ولذلك لا داعي أن يحرج نفسه، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نترك ما فيه ريبة، وأن نفعل ما لا ريبة فيه، فيرجع المسلم ويتقي ربه ويصلي وراء الإمام، لكن إذا ضاق المكان فلا بأس أن يصلى عن يساره، والله تعالى أعلم. حكم زيادة (وبحمده) في تسبيح السجود السؤال قول المصلي في سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده، زيادة (وبحمده) هل هي صحيحة؟ الجواب لا أحفظ -الحقيقة- بالنسبة للسجود، إلا عموم قول عائشة في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر:3] ،كان يقول سبحانك اللهم وبحمدك ربي اغفر لي) وهذا أصل عام يدل على مشروعية الدعاء به، ولا أعرف أحدا من العلماء منع من هذه الزيادة في السجود، ولا أعرف أحدا من العلماء بدع هذه الزيادة؛ لأن التعظيم والتمجيد لله عز وجل في السجود مشروع، والأفضل والأكمل فيه أن يكون بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] ، فلما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) فالتسبيح يكون باسم الله عز وجل الأعلى، بعض العلماء يقول: هو قوله: (سبحان ربي الأعلى) والبعض قالوا: إنه مطلق التسبيح، ولذلك إذا سبح بمطلق التسبيح سقط عنه الواجب، والله تعالى أعلم. حكم الزيادة على الشاتين في العقيقة للمولود الذكر السؤال هل الزيادة على شاتين في العقيقة للولد وشاة للبنت مخالف للسنة؟ الجواب هذا فيه تفصيل: من زادها يعتقد شرعيتها فقد ابتدع، ومن زادها صلة للرحم وإكراما للضيف، وإحسانا للإخوان فهو مأجور غير موزور. مثلا: جاء في العقيقة عدد كبير جدا فذبح الشاتين ثم ذبح شاتين أخريين فلا بأس وهو مأجور، وهذا من إكرام الضيف ومن محاسن الأعمال التي يحبها الله عز وجل ويرضاها، وهكذا لو أنه دعى الناس إلى عقيقة فذبح الشاتين ثم ذبح جزورا؛ لأن ضيفه كثير فلا بأس بذلك ولا يعتقد أن الجزور تابع للعقيقة، إنما يقصد به الوفاء والإكرام لضيفه وإخوانه وصلة رحمه، فهو مأجور على ذلك، والله تعالى أعلم. حكم تزويج الولي موليته رجلا وهي في عصمة آخر السؤال رجل خطب امرأة وعقد عليها دون أن يدخل بها، ثم قام والدها بتزويجها لآخر دون أن يطلقها الأول، فهل نكاح الثاني يعتبر باطلا أم يفتقر أيضا إلى طلاق؟ الجواب العقد الأول إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة في صحته بأن عقد عليها عقدا صحيحا فالزوجة زوجته، والزوج الثاني لاغ نكاحه ولا صحة لعقده؛ لأن المحصنة المعقود عليها لا يصح أن يتزوجها شخص ما دامت في عصمة الأول، فالنكاح الثاني باطل ولا يمكن أن يصحح حتى يفارق الأول، وهذه امرأة منكوحة ولا تحل للزوج الثاني، والنكاح الثاني فاسد، وعلى ولي المرأة هذا أن يتقي الله، فإن كان الأب هو الذي زوج فإن القاضي يعزره تعزيرا بليغا، وإذا كان الزوج الثاني عقد على المرأة ودخل بها وهو يعلم أنها في عصمة الأول وأن الأول لم يطلقها فإنه زان، وإذا كان محصنا فإنه يرجم من ناحية الحكم الشرعي؛ لأنها لا تحل له إلا إذا طلقها الأول وخرجت من عصمته، وبناء على ذلك فلا يجوز التلاعب في حدود الله عز وجل، وهذا الأب ظالم معتد على حدود الله، وهذا لا شك من الاعتداء والانتهاك لحرمات الله عز وجل ويفضي إلى الزنا الذي حرمه الله عز وجل، فإذا علم أنها لا تحل للثاني وتلاعب بهذا، فإنه يعزر تعزيرا بليغا ويزجر، وبعض العلماء يسقط ولاية هذا الأب في النكاح، أي: لا يجعل له ولاية على هذه المرأة؛ لأنه بهذا الفعل فسق في النكاح نفسه، وعند طائفة من العلماء أن الأب أو الولي -ولي النكاح- إذا كان فسقه في نفس النكاح -يتلاعب بشروطه- فإنه لا تثبت له ولاية، وتنتقل إلى أقرب قريب من بعده من العصبة، وإذا كان أخوها موجودا تنتقل الولاية إليه وتسقط ولاية الأب إذا أقر واعترف أنه يزوجها من أزواج عديدين، أو من أكثر من زوج، وبناء على ذلك ينبغي رفع هذا الأمر إلى القضاء للفصل فيه، والله تعالى أعلم. حكم قول: (رب اغفر لي ولوالدي) في الجلوس بين السجدتين السؤال ما حكم قول: (ربي اغفر لي ولوالدي) في الجلسة بين السجدتين؟ الجواب ما أحسنه وأجمله وأعظمه برا للوالدين وإحسانا لهما، والأئمة والعلماء نصوا وذكروا أنه مما يستحب للابن: أن يدعو لوالديه في صلاته، وإن تعذر في حق النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى؛ لأنه منع من الاستغفار لوالديه فلا تمتنع سائر الأمة من ذلك، والإنسان مأمور أن يشرك والديه في الاستغفار، وأما تبديع من قال بين السجدتين: ربي اغفر لي ولوالدي، فإني لم أجد أحدا من أهل العلم مع التتبع والتقصي نص على هذا التبديع أبدا، والله عز وجل أمر بالدعاء للوالدين، لكن إذا ألزم وقال: يجب أن يدعو لوالديه، نقول: هذا ليس له أصل، أما التبديع لمطلق الدعاء للوالدين فإنني لا أعرف أحدا من أهل العلم يقول هذا، وقد كان الأئمة -رحمهم الله- من السلف يقولون في قوله تعالى: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} [النمل:19] يؤخذ من هذه الآية: الاستحباب للولد أن يشرك والديه بالدعاءفي صلاته، وأن هذا من أعظم البر؛ لأن الله تعالى أمر بالاستغفار والترحم على الوالدين، وجعل هذا من البر حتى بعد وفاتهما كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما) ولا شك أن الصلاة التي هي الدعاء عليهما والاستغفار للوالدين أرجى ما تكون إذا كانت في الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع، قال: أدبار الصلوات المكتوبات) فجعل الصلاة محلا لاستجابة الدعاء، فإذا دعا لوالديه بين السجدتين، أو في السجود، أو في التشهد، امتثالا لأمر الله عز وجل ببرهما والإحسان إليهما فقد أحسن، وأسأل الله العظيم أن يعظم أجره ومثوبته إذ لم ينس والديه في هذه المواطن الشريفة التي ترجى فيها الإجابة، وأما إذا اعتقد وجوب هذه اللفظة ولزومها بين السجدتين فهذا ليس له أصل، والإلزام بدعاء مخصوص في موضع مخصوص خاصة في العبادات يفتقر إلى دليل ونص، أما إذا كان مندرجا تحت أصل عام فلا غبار عليه، وأما أنه امتنع في حقه عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع في حق غيره، وقد دلت النصوص على الحث عليه والأمر به، فلا مانع أن يكون بين السجدتين، أو يكون في السجود، أو يكون في الدعاء بعد التشهد، والله تعالى أعلم. حكم إلقاء الكلمات بعد خطبة الجمعة الجواب الحقيقة أن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل في بعض الأحيان، فقد يحتاج إلى تعليق على الخطبة إذا كان أمرا لازما كخطأ في حكم شرعي أو في مسألة اعتقادية فلابد من التنبيه عليها، أو أن خطيبا أخطأ الجادة فأحل حراما وحرم حلالا -وإن شاء الله الخطباء أبعد عن هذا، لكن على فرض أنه قد يوجد شيء من هذا- فلابد أن يقوم الإنسان، لأنه إذا لم يتدارك بعد الخطبة، فأين يتداركهم؟!! وهؤلاء ينبغي إعلامهم أن هذا الأمر ليس من شرع الله عز وجل، لكن ينبغي أن يكون الأمر أمرا متفقا بين العلماء على خطئه، أما لو كان أمرا خلافيا والخطيب يرى فيه قولا لعلماء وأئمة، فلا يأتي واحد بعد أن ينتهي يعقب عليه أو يكتب ويقول: لي عليك ملاحظة، فهذا أمر مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله، خاصة الأئمة والعلماء، فإذا خطبوا أو بينوا أمرا، أو دليلا أو صححوا ما ضعف الغير، أو ضعفوا ما صححه الغير، وقالوا بما ترجح عندهم، فهم ومن تبعهم يتقربون إلى الله بهذا، فلا يأتي أحد يشوش عليهم؛ لأنك إذا فعلت ذلك ساغ للغير أن يأتي لشيخك ويخطئه كما خطأت أنت شيخه، ويفتح على الناس بلاء عظيم، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في مسألة: العذر بالخلاف ومراعاة آداب الخلاف، فتكلموا عليها في كتب الأصول، وكان أئمة العلم ودواوينه يسيرون على هذا. السؤال يقوم بعض الناس يوم الجمعة بعد إلقاء الخطبة وأداء الصلاة بالتعليق على موضوع الخطبة أو ينبه على مسألة ما، فما حكم هذا الفعل؟ إذا: التعقيب على الخطيب لا يكون إلا عند الضرورة؛ لأنه سيؤثر في نفسية الخطيب، ويؤثر في نفسية الناس، وينزع ثقة الناس به، خاصة إذا كانت المسائل مختلف فيها، وخاصة إذا كان الذي يعقب صفيق الوجه سليط اللسان لا يتقي الله عز وجل، ولا يراعي الحرمة، ونقول هذا؛ لأنه في هذا الزمان كثرت الجرأة على أهل العلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلي قدر الإنسان ويعظم أجره، ودواوين العلم كلهم ابتلوا بهذا، وما سلم أحد من أئمة العلم من هذا البلاء، لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة كالرد على شخص يدعو الناس إلى بدعة متفق على التبديع فيها، أو يدعوهم إلى تحليل حرام وتحريم حلال أحله الله عز وجل، أو إذا قام الناس من المسجد ولا يمكن أن تجمعهم فقمت وحمدت الله وتكلمت وبينت، أو إذا كان الخطيب عنده استعداد أن تنبه وتنصح حيث تأتي وتنبه الناس وتنصحهم، أو تنصحه بينك وبينه، والإنسان الذي عنده استعداد أن يصحح خطأه، يستر ما أمكن، وإذا جئته بالملاحظة وكانت صحيحة ومتفقا على الخطأ الذي وقع فيها قبلها منك فهذا تنصحه فيما بينك وبينه، وهو يتولى نصح الناس؛ لأن نزع ثقة الناس فيه والكلام في العلماء والأئمة -خاصة ممن لهم قدم صدق في نصح الناس وتوجيههم- مفسدة أعظم، وخاصة عند العوام فإن ثقتهم تنزع منه وتحدث بلبلة وتشويش، فهذه أمور ينبغي أن تضبط بضوابط شرعية وعلى كل من يريد أن يقوم بهذا الأمر أن يرجع إلى أهل العلم، والأشبه والأولى في مثل هذه المسائل أن يفتي في كل مسألة بحدودها حتى يكون أضبط وأرعى للحقوق الشرعية؛ لأن هذا أمر فيه حقوق منها: أولا: حق المتكلم؛ لأن الواجب على الناس عموما عالمهم وجاهلهم أن يكرموا كل من يدعو إلى الله عز وجل؛ لأن الله أكرمه وشهد من فوق سبع سموات أنه لا أحسن قولا ممن يدعو إليه سبحانه وتعالى، والخطيب داعية إلى الله، وليعلم كل مسلم أن لهؤلاء الذين تصدروا لتوجيه الناس في المساجد من الخطباء والأئمة -جزاهم الله خيرا- والدعاة المخلصين، أن لهم حقا عظيما على المسلمين، وأنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأن هؤلاء عن طريقهم يرغب في الدين، وعن طريقهم يحبب في الطاعات، وعن طريقهم بإذن الله عز وجل ينفر الناس من معصية الله وانتهاك حدوده عز وجل، فإذا أصيبت الأمة في أمثال هؤلاء فإنه مقتل عظيم، فالواجب علينا أن نعلم أن كل مسلم مطالب بتهيئة الأسباب للمطالبة بهذا الحق، وتجد السلف الصالح -رحمهم الله- حفظوا لأئمتهم ولعلمائهم ودواوين العلم حقوقهم ولم يرضوا لأحد أن يثلبهم أو ينتقصهم أو يجرحهم لما في ذلك من التوهين في الدين، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الإساءة للقاضي في مجلس القضاء أو الكلام فيه أو في علمه لا يسقط فيه الحق ولو سامح القاضي. ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب قالوا: لأن القاضي إذا سامح عن نفسه بقي حق الشرع، والداعية إذا تكلم فيه وقال: سامحتك، بقي حق الدعوة؛ لأنه كم من أناس نفروا من هذا الداعية ونفروا من هذا الخطيب وقام وراءه في الخطبة وتكلم فيه أو جرحه أو تطاول في عرضه -نسأل الله السلامة والعافية- إذا: هناك ضوابط لمن أراد أن يقوم يتكلم، ما الكلام الذي يقوله؟ وما الذي ينبغي عليه مراعاته؟ ولذلك نقول: كل مسألة ينبغي أن تحد بنازلتها وأن يفتى فيها بأمرها؛ لأن الأمر يحتاج إلى انضباط، فإذا أراد أن يتكلم، وتكلم في حق هذا العالم أو الخطيب أو الداعية أو الناصح وأساء إليه أو انتهك حرمته، فإنه في هذه الحالة لو سامح الخطيب والداعية عن نفسه بقي حق الشرع، فإن هذا الشخص تسمى باسم الدعوة، ولذلك لو أن حارسا يحرس عمارتك أو بيتك فجاء شخص فضربه وهو يحرس عمارتك لاعتبرت ذلك إساءة إليك كما هو إساءة إليه، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن قام على حدود الله أن تنتهك؟ ومحارم الله أن تعتدى؟ وذكر بالله ووعظ بالله، أترى ربك لا يفي بعهده ووعده؟ ولذلك قل أن تجد أحدا تصدر لأهل العلم وأهل الفضل إلا وجدت دلائل عقوبة الله عز وجل -خاصة إذا استطال في أعراضهم- العاجلة والآجلة، ومن شاء صدق ومن شاء كذب، فالله عز وجل بالمرصاد وهو عزيز ذو انتقام، فهذا الأمر نضيق فيه ونشدد؛ لأننا نعلم أن هذه الأمة قامت على التربية والأدب، وما استقام أمرها إلا بالأدب، وهذا عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند أبي بكر دليل وعنده دليل ويقول رضي الله عنه: كيف تقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ومع ذلك يصر أبو بكر ويقول: إنها لقرينتها بكتاب الله، ولأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -هذا له دليل وهذا له دليل- ويقول عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر. وهذا كله على الأدب، قال: فعلمت أنه الحق) وما ذكر حجة ودليل، قال: رأيت الله شرح صدر أبي بكر. يعني: هو أعلم منه، والله عز وجل وفقه فرضي بعلمه وفضله، ولذلك كنا مع العلماء وكنا مع المشايخ نجلس في مجالسهم ونسمع من كلامهم، وفي بعض الأحيان ربما تعرضوا للمسألة بدليل واحد وفيها عشرات الأدلة، فيأتي الشيطان ويحاول أن ينتقص العالم وهذا طبيعي جدا؛ كذلك الإمام لو صلى ونسي أو أخطأ في القراءة وله قدم راسخة -فهذا لحكمة من الله عز وجل- هل إذا صلى الإمام ونسي آية في قصار السور وهو من حفاظ القراءات يطعن فيه أو ينقص من قدره؟ كلا والله، فهذه حكم من الله عز وجل أنه ربما تحصل الزلة ويحصل الشيء اليسير فيدخل الشيطان، فعلى الإنسان أن يحفظ قلبه من انتقاص أمثال هؤلاء سرا وجهرا، ونشدد في هذا؛ لأننا وجدنا الأمة قامت واستقامت أمورها على الأدب، ووالله ثم والله إننا سنلقى الله يوم نلقاه وقد ربينا الناس على حمل حرمات العلماء ولا نربيهم على جرحهم وانتهاك حرماتهم وثلبهم والتشهير بهم، فهذا أمر ينبغي أن يوضع في نصابه، يرضى من يرضى، ويسخط من يسخط؛ لأن علينا أن نرضي الله عز وجل، فالواجب على العلماء والخطباء وطلاب العلم حتى بعضهم مع بعض أن يربي بعضهم بعضا على تعظيم حرمة المسلم فضلا عن الداعية إلى الله، فما قامت أمور هذه الأمة إلا بحفظ هذه الحقوق ورعايتها وصيانتها، والخوف من الله سبحانه وتعالى في ذلك، نسأل من الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
__________________
|
|
#620
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (468) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [2] المعتدات على أنواع، فإما أن يكون التقسيم بحسب سبب العدة، أو بحسب حال المعتدة نفسها، ومن الأنواع المترتبة تقسيمها على حال المعتدة: الحامل، وعدتها تكون مدة حملها، فإذا وضعت حملها انتهت عدتها على تفاصيل في أحكامها. عدة الحامل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والمعتدات ست] . قوله رحمه الله تعالى: (والمعتدات ست) إجمال قبل البيان، جمع رحمه الله أصناف المعتدات، فالنساء اللاتي تثبت العدة في حقهن ستة أنواع، وقد بينا غير مرة أن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم يجملون الأحكام ثم يفصلونها، وبينا محاسن هذا وأنه مقتبس من هدي الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [الحامل: وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل] . النوع الأول من المعتدات: الحامل، فإذا كانت المرأة حاملا؛ فإن عدتها أن تضع حملها كاملا، وينفصل عنها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، فبين سبحانه وتعالى أن عدة المرأة الحامل أن تضع الحمل. والحمل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أ، تلقيه المرأة وتخرجه، ولا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تلقيه وقد اكتمل وتم، والحالة الثانية: أن تلقيه قبل التمام والاكتمال، فإذا أخرجت المرأة حملها ونفست، وانفصل الولد عنها؛ فإنه يحكم بخروجها من عدتها، ولا يشترط انقطاع الدم عنها، فالعبرة بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] . وأما الحالة الثانية: وهي أن تلقي الحمل قبل تمام المدة فلا يخلو إلقاؤها إما أن يكون بعد تخلق الجنين، وإما أن يكون قبل تخلق الجنين، فإن ألقته قبل تخلق الجنين فإنها لا تخرج من عدتها، وأما إذا ألقته بعد التخلق وفيه صورة الآدمي أو الخلقة أو بعد نفخ الروح فيه فإنه يحكم بخروجها من عدتها. قال رحمه الله: [بما تصير به الأمة أم ولد] . تصير أم ولد إذا ألقت ما فيه صورة الآدمي، وهذه المسألة: إذا ألقت المرأة وأسقطت، تتفرع عليها أحكام في العبادات والمعاملات، فإذا ألقت المرأة ما في بطنها قبل تمامه واكتماله نظرنا فيه، فإن كانت فيه صورة الآدمي وصورة الخلقة فهذا يؤثر في العبادات والمعاملات، ففي العبادات: الدم يعتبر دم نفاس إن جرى منها قبل إلقائه، وفي المعاملات: يحكم بأنها قد خرجت من عدتها، وأما إذا كان الذي ألقته ليس فيه صورة خلقة الآدمي فإنه في هذه الحالة لا يكون الدم دم نفاس، وإنما هو دم استحاضة، فيكون نزيفا تغسله ثم تتوضأ وتصلي، ولا يمنع صوما ولا صلاة، وتعتبر في حكم الطاهرات. إذا: الإسلاب والإسقاط ينظر به إلى الشيء الذي أسلبته وأسقطته؛ فإن حصلت فيه صورة التخلق وصورة الآدمي ولو كانت ناقصة فإنه تثبت فيه الأحكام في العبادات والمعاملات، وإن كانت ليست موجودة فيه صورة الآدمي فلا تثبت فيه لا العبادات ولا المعاملات، وهذا هو ما عبر به: أن تصير الأمة أم ولد، وحينئذ تعتق على سيدها بعد موته. عدم اعتبار وضع الحمل في العدة إذا كان الزوج لا يولد لمثله إذا طلق الزوج امرأته وكانت حاملا فإما أن يكون ممن يولد لمثله، وإما أن يكون ممن لا يولد لمثله، فإن كان ممن يولد لمثله فالولد للفراش؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من طلق امرأته بعد الدخول وهي حامل نقول لها: عدتك وضع الحمل، وأما إذا كان قد طلقها وتبين فيها الحمل وهو ممن لا يولد لمثله ويتعذر منه الحمل مثل: الصغير ومثل: ممسوح الآلة الذي ليس لديه عضو، فحينئذ يحكم بعدم الاعتداد بهذا الحمل. (لم تنقض به) يعني: لو حملت ووضعت فالحمل ليس منه، وحينئذ لا تعتد بهذا الحمل، وبعد انتهاء حملها تعتد كعادتها من الأقراء، لأن هذا الحمل فيه شبهة الزنا بأن يكون من غيره كما لو اعتدي عليها فأكرهت على الزنا والعياذ بالله، أو وطئها أحد وهي نائمة، ففي هذه الحالة لا يحكم بكون الحمل مؤثرا في العدة. ومراد المصنف أن يقول: الأصل أن الحامل تخرج من عدتها بوضع الحمل، لكن يشترط أن يكون الحمل للرجل الذي تعتد من طلاقه، فإذا كان الحمل من غيره فلا. كيف يكون الحمل من غيره؟ إذا تبينا أن مثله لا يحمل كالصبي، ومثل من كان ممسوح الآلة، فإنه في مثل هذا الحالة تبقى حتى تضع حملها ثم تستأنف عدتها من طلاقها. (أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكحها). بينا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أقل مدة الحمل، فإذا كان الذي دلت عليه النصوص أنه لا يمكن أن يكون الحمل قبل ستة أشهر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] ، فبين أن مدة الحمل ومدة الرضاع هي ثلاثون شهر، والثلاثون شهرا إذا فصلت منها مدة الرضاع بقيت مدة الحمل، ومدة الرضاع أربع وعشرون شهرا أي: سنتان؛ لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] فبقيت من الثلاثين ستة أشهر، فأصبحت الستة أشهر هي أقل مدة الحمل، فإذا وضعت الولد في أقل منها حينئذ لا ينسب له، ولا يعتد بهذا الحمل في خروج المرأة من عدتها إذا أخرجته. أكثر مدة الحمل قال رحمه الله: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين] . قيل: أكثر ما وجد في حمل المرأة أنها تستمر إلى أربع سنوات، وذكر عن بعض أئمة السلف أنه مكث في بطن أمه أربع سنين، وهذا هو الغالب الموجود، وهو أكثر ما وجده العلماء وتكرر حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله: لا يعرف بأكثر من أربع سنين، وبناء على ذلك: فلو كانت المرأة في عصمة الرجل وتأخر حملها إلى أربع سنين، فإنه يحكم ببقائها في عدتها حتى تضع هذا الحمل. أقل مدة الحمل قال رحمه الله: [وأقلها ستة أشهر] . وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما ذكرنا من دلالة الآيتين الكريمتين، حيث بين الله تعالى أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، وأن مدة الرضاع سنتان: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] فبقيت ستة أشهر، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اعتبروا أن أقل المدة ستة أشهر. غالب مدة الحمل قال رحمه الله: [وغالبها تسعة أشهر] . الغالب أن المرأة تضع حملها في مدة تسعة أشهر، تزيد قليلا أو تنقص قليلا، وعلى كل حال: ففائدة معرفة أقل الحمل وأقصى مدة الحمل تكون من جهة النسبة وترتب الأحكام، فإذا وضعته قبل أقل مدة الحمل فالحمل ليس له، فإذا كان العقد في بداية محرم اعتبرنا منها أقل مدة الحمل، فلو لم تتم مدة الحمل فيما بعد محرم، كأن تضعه في خمسة أشهر بعد محرم فإننا لا نحكم بكونه ولده، وتكون قد حملت به قبل العقد، وحصل وطء من غيره فلا ينسب إليه، وهكذا لو أنها وضعت فوق أربع سنين، فإنه لا ينسب إليه، ولا تترتب عليه الأحكام من حيث العدة، فتخرج من عدتها إذا ثبت نسبة الحمل إليه، ولا يحكم بخروجها من العدة إذا ثبتت نسبة الحمل إلى غيره أو تعذرت نسبته إليه. حكم إسقاط النطفة والعلقة والمضغة والأجنة قال رحمه الله: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوما بدواء مباح] . (ويباح إلقاء النطفة) هذه المسألة وهي مسألة: إسقاط ما في البطن من النطفة والعلقة والمضغة والأجنة. وهذا الإسقاط والإجهاض للأجنة فيه تفصيل: وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز أن تجهض وتسقط الأجنة بعد نفخ الروح، وأنه إذا نفخت الروح في الجنين وأسقطت المرأة ذلك الجنين فإنها تعتبر قاتلة، وهكذا إذا أعانها الطبيب فأعطاها دواء أو علاجا للإسقاط، وهكذا لو أعانت المرأة أو الرجل من النساء على الإسقاط بترويع أو تخويف أو حمل ثقيل ونحو ذلك. فإذ نفخ الروح فلا يجوز إسقاط الأجنة؛ لأنها أنفس محترمة، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله. أما قبل نفخ الروح ففيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والذي دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر فينفخ الروح فيه) فدل هذا الحديث على أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوما. ومن هنا اختلف فيما قبل نفخ الروح، هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من حرم ذلك ومنعه وقال: إنه لا يجوز، ومن أهل العلم من رخص فيه وجوز، وكلا القولين موجود في المذاهب الأربعة، إلا أن الذين شددوا من الحنفية والمالكية رحمهم الله وبعض أصحاب الإمام أحمد، والشافعية استدلوا بأدلة صحيحة قوية، فإن الأصل في الأجساد والأرواح أنه لا يجوز الإقدام على العبث بها أو تعريضها للتلف أو تغيير الخلقة، وهذا أصل دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله لما ذكر قبائح الشيطان ذكر منها: تغيير الخلقة: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء:119] فأخبر الله تبارك وتعالى أن مما يسوله الشيطان لعصاة بني آدم العبث في خلقته، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه أن ما قبل نفخ الروح من الخلقة، ولذا قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك) ولذا قال: {ثم خلقنا النطفة علقة} [المؤمنون:14] فدل على أنها من الخلقة، ونص السنة يدل أيضا على أنه لا يجوز العبث في الخلقة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة قال: (المغيرات خلق الله) فجعل العلة في اللعن -والعياذ بالله- إقدامهن على تغيير خلق الله عز وجل، وثبت في الحديث الصحيح من كلامه عليه الصلاة والسلام بنص الكتاب والسنة على أن مراحل التخلق هي كما في قوله الله: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} [المؤمنون:14] فهذا يدل على أنها مخلوقة، وأنها من خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نسب الخلقة إليه، فالإقدام على إتلاف هذه الخلقة وإزهاقها حرام؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي تحريمها، ولم نجد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفريقا بين ما قبل نفخ الروح وما بعد نفخ الروح. ثم استدلوا بالعقل وهو النظر الصحيح، وهو قياس قوي جدا: وهو أن جمهور العلماء منهم من يقول -كبعض أصحاب المذاهب- قالوا: إن هذه لم تخلق، فقالوا لهم: أرأيتم بيض الصيد، فإن الله حرم علينا قتل الصيد، فسئلوا عن بيض الصيد هل يجوز إتلافه؟ فقالوا: لا يجوز، وفيه الضمان، مع أن بيض الصيد سيئول إلى الخلقة المكتملة، وهذا يدل على حرمة الإقدام على إتلاف هذه الأشياء، ثم لا يشك عاقل على أن هذا خلق الله عز وجل الذي سيئول إلى الخلقة المعتبرة شرعا، فبأي دليل يقدم على إسقاطه ومنعه من البقاء؟ وهذا الفعل يخالف الأصول الشرعية، فإن من المقاصد الأصلية في النكاح تكثير سواد الأمة، ونسل الأمة، وهذا الفعل يضاد تماما قوله: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) وهذا يمنع مقصود الشرع من النكاح، فالذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول الشرعية والأدلة أنه ليس هناك دليل قوي يدل على جواز الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الروح لا تنفخ إلا بعد المائة والعشرين يوما ليس فيه دليل على جواز إتلاف هذه الخلقة، فإن العبث بهذه الخلقة والإسقاط للأجنة له آثار سلبية، وحتى الأطباء أنفسهم يقررون هذا، فإن المرأة إذا أقدمت على تعاطي الدواء أو تعاطي الأسباب التي تسقط الجنين فإنه لابد من وجود أثر لهذا التعاطي ولهذا الفعل، ولابد من وجود تبعات ومضاعفات تضر بالمرأة وتضر بجسدها، ولا يمكن أن الإنسان يشك في هذا، فالجسد إذا أخرج عن عادته وطبيعته لابد أن يتضرر، فلو استعمل الدواء لابد له من أثر، ولو تعاطت الأسباب الشنيعة الفظيعة من الترويع أو حمل الأشياء الثقيلة فإنها قد تسلب ويحدث معها نزيف وتضطرب عادتها، ويحدث لها من الأضرار في جسدها ما لا يخفى في كثير من الأحوال التي يفعل أو يقدم فيها على الإسقاط، وبناء على ذلك: فالذي نعرفه من نصوص الشرع وأصول الشريعة أن الواجب على الطبيب أن يقدم على علاج الأبدان ووقايتها من الضرر، أما أن يقدم على إسقاط الأجنة والعبث في خلقة الله عز وجل فهذا ليس له دليل لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس للذين قالوا بجواز الإسقاط إلا دليل واحد وهو حديث ابن مسعود الذي تقدم وقد أجبنا عنه، بل حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقوي عدم جواز الإسقاط؛ لأنه يدل أنه من خلق الله، والنصوص تدل على عدم العبث في خلق الله فيقتضي المنع. ثم أيضا تجد نفس المذاهب والأقوال التي أجازت الإسقاط تجدها مضطربة في الفتوى والقول بجواز الإسقاط، والذي تطمئن إليه النفس ترك هذه الأجنة وترك هذه الخلقة وعدم إقدام الأطباء على إسقاط الأجنة سواء كان قبل نفخ الروح أو بعده. حكم إسقاط الجنين إذا غلب على الظن هلاك المرأة لكن تستثنى من هذا مسائل: منها: إذا كان بقاء الجنين يغلب على ظن الطبيب أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها، وهذا يسمى عند الأطباء بالحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر، وحقيقته: أن الجنين يتخلق في غير موضعه الطبيعي، ثم ينتفخ ويفجر القناة ثم ينفجر في بطن المرأة فيقتل المرأة ويموت هو بنفسه، فحينئذ يجوز الإسقاط، ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين إن تعذر إسقاطه؛ وذلك لإنقاذ نفس محرمة، وليس من باب إسقاط الأجنة، وإنما هو تلاف لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، فنحن لا يمكننا أن نعرض حياة الأم اليقينية للخطر والضرر بسبب حياة قد تبقى وقد لا تبقى؛ لأن بعض الأطباء يقول: حياة الجنين نفسها مستبعدة؛ لأنه إذا تم الاكتمال في هذا الموضع سيفجر القناة، فيموت الجنين في بطن الأم، وتموت الأم تبعا لذلك. إذا: حتى حياة الجنين غير مستقرة، وبناء على ذلك: يجوز إسقاط الجنين في مثل هذه الحالة وأشباهها مما تتعرض فيه الأم للهلاك والضرر، وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى؛ لأن نصوص الكتاب والسنة دالة على هذه القاعدة التي هي: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما) ومن الأدلة على ذلك: أن الخضر عليه السلام كسر لوحا من السفينة لأجل إنقاذ السفينة كاملة، وهذا يدل على أنه يجوز إتلاف الأقل لما هو أعظم منه، والجنين هنا ليس في مقام الأم، وكذلك حياته ليست غالبة ولا متيقنة، فتقدم الحياة المتيقنة وهي حياة الأم على الحياة الموهومة، وهذا هو الذي يفتى فيه بجواز الإسقاط. أما بالنسبة لتساهل المرأة في هذا الأمر، وتقول: أتعبتني تربية الأولاد، وأريد ما بين الأولاد تفاوتا؛ فهذه كلها شهوات ونزوات، ورغبات النساء ليست موجبة للعدوان على هذه الحدود الشرعية من العبث بخلقة الله عز وجل، وتعريض الأنفس للضرر، وإزهاق الأرواح، خاصة إذا كان بعد نفخ الروح، فإن الله عز وجل شرع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ضمان الأجنة كما جاء في قصة المرأتين لما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى فألقت جنينها، فقتلتها وألقت ما في بطنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين، وهذا يدل على أنه له حرمة. فعلى كل حال: على النساء أن يتقين الله عز وجل، ويشرع للزوج أن يمنع زوجته؛ لأن الولد ولده، إلا إذا قرر الأطباء أن المرأة تتعرض للخطر والضرر كما ذكرنا فهذا يستثنى، ولا يجوز للطبيب أن يعين على مثل هذه الأعمال لما فيها من الاعتداء على حرمات الله عز وجل، والإقدام على إتلاف الأجساد والعبث فيها دون مسوغ شرعي. قوله رحمه الله: (بدواء مباح) . يعني: عند من يقول بجواز الإسقاط قبل الأربعين وقبل بداية التخلق، يقولون: في هذه الحالة يشترط أن يكون الدواء مباحا، وسيأتينا -إن شاء الله- أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم لا يجيزون التداوي بالمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز التداوي بالمحرمات، وبناء على ذلك: يشترطون أن يكون الدواء مباحا، وأن تكون الوسيلة وسيلة مشروعة، وليست بوسيلة ممنوعة. الأسئلة حكم تناول الأدوية التي تزيد في الإخصاب السؤال هناك بعض الأدوية تزيد من الإخصاب وإمكانية الحمل، فهل يجوز تناولها رغبة في الحمل؟ الجواب الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالمسائل الطبية النازلة الجديدة تحتاج إلى أن لا يفتى فيها إلا بعد الجلوس مع الأطباء ومن لهم خبرة في هذه المسائل؛ لمعرفة حقيقتها. مثلا: الأدوية التي تستعمل للإخصاب هل هناك بديل، وهل هناك ضرر يترتب على هذا الدواء؟ لأنه قد تكون هناك مضاعفات، وهل إذا استخدم هذا الدواء لا تتضرر المرأة، وهل إذا حصل حمل لا يتضرر الحمل ولا تنتج آثار سيئة على الحمل؟ هذه الأمور والتساؤلات كلها لا يجيب عنها إلا الأطباء المختصون، وليس كل طبيب يصلح لأن يأتمنه العالم أو يسأله عن هذه المسائل، ففي بعض الأحيان يكون الطبيب عنده تحمس لحل الشيء أو تحليل الشيء، فإذا كان عنده تحمس فشهادته شهادة متهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) الظنين في لغة العرب المتهم كما قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] ، وفي قراءة (( بظنين) والعلماء عندما ذكروا الشهادة قالوا: إذا كان عنده حرص على الشهادة ويشهد قبل أن يستشهد -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- لا تقبل شهادته، ولذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم قال: ثم يأتي أقوام يشهدون ولم يستشهدوا) فهذا يدل على أنه حرص على الشهادة، وهذا موجب للتهمة في شهادته، فالذي يحرص على تحليل الأشياء متهم؛ لأن له مصلحة في تحليله، أو يريد أن يقنع الناس حتى يتعالجوا عنده، فمثل هذا لا تقبل شهادته؛ لأنها محل حرص على التحليل وسيؤثر هذا الحرص على بيان السلبيات، وسيؤثر هذا الحرص على بيان المضاعفات، وكشف حقيقة الشيء المسئول عنه، ولذلك إذا بين الطبيب حقيقة الدواء، أو حقيقة الطريقة، أو حقيقة الأمر الذي يسأل عنه حينئذ تنكشف الأمور ويمكن للعالم أن يفتي بالحل والتحريم. فهذه الأدوية من حيث الأصل مشروعة لتكثير سواد الأمة، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فإذا كان لا يستطيع أن ينجب أو عنده ضعف في الإنجاب، أو المرأة عندها ضعف في الإخصاب والإنجاب فتعاطت الأدوية من أجل أن تنشط فهذا في الأصل العام وسيلة لمشروع، والقاعدة: (أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) ، هذا من حيث الأصل العام. لكن، ما طبيعة هذه الأدوية، وما هي الطريقة التي يتم بها استخدام هذا العلاج. مثلا: الرجال لهم وضع، والنساء لهن وضع، فالنساء قد يكشف في علاجها عن العورة، وقد تلمس العورة، وقد يولج في الفرج شيء، وهذا كلها محاذير شرعية لابد من النظر فيها، لكن الأصل العام من حيث تكثير سواد الأمة، وحصول الذرية فهو أمر سائغ شرعا ولا إشكال فيه، لكن هذه الأدوية تحتاج إلى نظرة ومعرفة عن طريق الأطباء الذين لهم إلمام بهذا. فالأصل يقتضي الجواز، ولكن قد يكون هذا النوع من الدواء لا يجوز استعماله، وهذا معروف، حتى مرض الرأس قد يكون علاجه بمسكن له مضاعفات، ومسكن ليس له مضاعافات، فنقول: هذا المسكن الذي له مضاعفات لا يجوز استخدامه مع وجود المسكن الذي لا مضاعفات فيه. فهل معنى ذلك أن علاج الرأس محرم؟ الجواب: لا. إنما حرم تعاطي هذا النوع من الدواء لعلة، والإشكال أن بعض الفتاوى تنظر إلى الأصل العام، والإطار العام دون النظر إلى الحقيقة، والسبب في هذا عدم الرجوع إلى الأطباء وسؤال من عنده إلمام وخبرة. والرجوع إلى الأطباء لا يكفي فيه أن ترجع إلى واحد أو اثنين، ولا يكفي أن ترجع إلى طبيب عنده علم نظري وليس عنده علم تطبيقي، فكلما كان الطبيب عنده علم نظري وتطبيقي وممارسة وتخصص فيما يسأل عنه، ومرور على الحالات المختلفة، كلما ذلك كان أجلى وأوضح. وعلى كل حال فمن حيث الأصل العام: تعاطي الأسباب التي لا محذور فيها للإخصاب والإنجاب لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم. حكم تسمية المولود والعقيقة عنه إذا مات السؤال إذا مات المولود بعد ولادته بأيام فهل تجب تسميته والعقيقة عنه؟ الجواب إذا مات المولود بعد سبعة أيام فالسنة أنه يعق عنه ويسمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) وقد نص العلماء رحمهم الله على أن السنة في العقيقة أن تكون في السابع، فإذا تأخر الوالد عن ذبحها ثم توفي المولود قبل أن يتمكن والده من ذبحها، فإنه يذبحها ويتداركها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون) والمرهون أصله من الرهن، والرهن في لسان العرب: الحبس، كما قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] فعيلة بمعنى: مفعولة. أي: مرهونة، فهذا يدل على مشروعية العقيقة عنه، وكونه يبقى أو يموت هذا لا تأثير فيه ما دام أنه بلغ هذا الوجه، والله تعالى أعلم. حكم صلاة النافلة أربع ركعات متصلة السؤال هل يجوز أن تصلى النافلة أربع ركعات متصلة؟ الجواب في صلاة الليل لا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها أربعا ولم يجلس إلا في آخرها صلوات الله وسلامه عليه، وفي صلاة النهار فيه خلاف، والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس أن يصل الأربع بتسليمة واحدة، كأن يدخل قبل صلاة الظهر فيما بين الأذان والإقامة ويخشى أن تقام الصلاة لو فصل بتسليمتين، فيجمع الأربع بتسليمة واحدة، فلا بأس بذلك ولا حرج عليه، ولا يجلس في التشهد الأول إذا صلى أربعا، خلافا لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، بل يصل الأربع ويجلس في آخرها تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. حكم الدم الخارج بعد انتهاء العادة بأيام السؤال إذا أتت المرأة الدورة الشهرية ثم انقطع الدم بعد المدة المعتادة، ثم بعد ذلك بأيام رجع الدم فماذا تفعل؟ الجواب من حيث الأصل: كل امرأة جلست أيام عادتها حتى أتمتها ثم جاءها الدم بعد ذلك قبل تمام أقل الطهر فإنه دم استحاضة وليس بدم حيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة المستحاضة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) وقال كما في حديث فاطمة رضي الله عنها في الصحيحين: (دعي الصلاة أيام أقرائك) فقوله عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام العادة التي كنت تحيضينها، فدل على أن العبرة بأيام الحيض المعتادة. لكن إذا عاودها يوما ويومين ثم انقطع بعد ذلك؟ إذا كانت عادتها -مثلا- ثلاثة أيام ثم انقطع الدم بعد ثمانية أيام، ثم عاودها في اليوم العاشر والحادي عشر، ثم انقطع، فتنتظر ثلاثة أشهر، فإن عاودها في الثلاثة أشهر بهذه الصفة فقد انتقلت إلى عشرة أيام، لكن انتقلت إلى عشرة أيام منفصلة فتصبح عادتها ثلاثة أيام متتابعة ويومان منفصلان، وهذا يحدث عند بعض النساء وتكون عادتها قد انتقلت في الشهر الثالث، فإذا جاءها على هذه الصفة فالعادة تنتقل إلى العدد الجديد انفصل الدم أو انقطع، فلو اتصلت يومان بالعادة فأصبحت العادة عشرة أيام تنتقل العادة إلى عشرة أيام، ولو انفصل ولم يتصل فتكون عادتها ثمانية أيام ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يأتي بعد ذلك دم ليومين وتكرر معها ثلاثة أشهر بهذا المعنى فقد أصبحت عادتها من الثمانية منتقلة إلى العشرة، فاليومان تابعان للحيض إذا ثبت ذلك في ثلاثة أشهر متتابعة، والله تعالى أعلم. حكم صيام المرأة الحائض إذا استخدمت علاجا يمنع نزول دم الحيض السؤال لو شربت المرأة دواء يمنع حيضها حتى تتمكن من صيام رمضان فما الحكم؟ الجواب أولا: الأدوية التي تستعمل لمنع الحيض ذكر الأطباء أن لها ضررا، وذكر بعض أهل الخبرة أنها قد تتسبب في سرطان الرحم، وهذه المشكلة أقول فيها: لابد من الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة، فأي شيء يخرج البدن عن طبيعته سيكون له مضاعفات؛ لأن الله وزن هذا البدن وقدره وخلقه وصوره، وتبارك الله أحسن الخالقين. فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلف الضرر والعواقب السلبية، فهذه الحبوب فيها ضرر كما يثبت أهل الخبرة ذلك، حتى إن من علاماتها وأماراتها أن تربك العادة، والله سبحانه ما خلق هذا الدم عبثا، ولا جعل هذه العادة سدى، حتى الأجهزة العصبية الموجودة في البدن تتفاعل مع هذا الحدث الذي خلقه الله، وهذا النزيف من الدم الذي يطهر الرحم في مدة معلومة قد يختل ويتأثر نتيجة منع هذا الدم من الخروج وكل هذا يبين فساد هذه الأدوية التي تستعمل، وهذا أمر يعرفه من يرجع إلى الأطباء المختصين الذين عندهم دراية ويتكلمون عن هذا الموضوع بكل وضوح وبكل إنصاف وتجرد. ثانيا: هذه الأشياء لا يجوز تعاطيها من حيث الأصل كما ذكرناه لوجود الضرر، ويبقى السؤال: هل إذا شربت الدواء وانقطع حيضها تصبح طاهرا؟ خلاف بين العلماء، والصحيح: أنها تصبح طاهرة؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، فإذا لم يوجد الدم فإنه يحكم بطهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) وهذه لم تقبل حيضتها لأنه لم يخرج الدم، وبناء على ذلك يحكم بطهرها، وهذا اختيار طائفة من المتأخرين من أهل العلم، وأشار بعض الفضلاء إلى هذه المسألة بقوله: إذا شربت هند لأن تمنع الدم عن الزمن المعتاد بالطهر فاحكما وذلكم فرع السماع وإن يكن بتعجيل حيض قبل إبانه فما تنال الذي قد حاولت من براءة لشيخ خليل دون ريب وأحجما عن الصوم فيها والصلاة ورجحوا قضاءهما والصوم تقضي متمما فهذه المسألة الصحيح: أنه يحكم بطهرها، فلو شربت العلاج ثم طافت طواف الإفاضة صح طوافها، ولو شربت العلاج وصامت أيامها من رمضان صح صومها؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، وهو غير موجود، فيحكم بطهرها على أصح القولين عند العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |