أهمية دراسة السيرة النبوية في فهم العقيدة الإسلامية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13240 - عددالزوار : 351154 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 1727 )           »          التكريم في الخطاب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 205 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 749 )           »          علم المستقبليات والفكر الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 143 )           »          كن حسن اللفظ والعبارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 127 )           »          رفيدة بنت سعد الأسلمية تعلم الناس الخير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 87 )           »          معيار الوسطية في العبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 131 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4596 - عددالزوار : 1306008 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4142 - عددالزوار : 832087 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-09-2024, 01:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,433
الدولة : Egypt
افتراضي أهمية دراسة السيرة النبوية في فهم العقيدة الإسلامية

أهمية دراسة السيرة النبوية في فَهْمِ العقيدة الإسلامية

وليد بن عبدالعظيم آل سنو

لا يمتري عاقلان في أن "أعظمَ نعمة أنعمها الله على عباده الإسلام والإيمان، والتوحيد هو سرُّ القرآن، ولُبُّ الإيمان"[1]، ومما لا شك فيه أن معرفة التوحيد - الفقه الأكبر - معرفةً يقينية على الوجه الذي أراده الله، وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقرَّره علماء السلف - واجبٌ على كل مسلم ليعرف ما يقوم عليه، وما يضادُّه وينقُضُه؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]؛ أي: فاثبُت على هذا العلم، والعقيدة الصحيحة هي وسيلة النجاة من عذاب الله؛ لأن العباد في حاجة إلى التعرف إلى خالقهم وصفاته وأسمائه وأفعاله؛ كي تطمئن به قلوبهم؛ لذا كانت العقيدة هي أهم علوم الإسلام قاطبة و"أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلَّف الله به عباده من فَهمِ توحيده وصفاته، وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين"[2]، ولله دَرُّ مَن قال:
أيها المغتدي ليطلب علمًا
كل علمٍ عبدٌ لعلم الرسولِ
تطلب الفرع كي تصحح أصلًا
كيف أغفلت علم أصل الأصولِ


فـ"التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، وقال هود عز وجل لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 65]، وقال صالح عز وجل لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، وقال شعيب عز وجل لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله))، ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلَّف شهادةُ أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشكُّ، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يُؤمَر به العبد الشهادتان؛ فالتوحيد أول ما يُدخَل به في الإسلام، وآخر ما يُخرج به من الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة))، وهو أول واجب، وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره"[3].

وقد أجمع أهل العلم على أن "علم أصول الدين - أي التوحيد - أشرف العلوم؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم... وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه، ومن المحال أن تستقلَّ العقول بمعرفة ذلك، وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أنْ بَعَثَ الرسل به معرِّفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشِّرين، ولمن خالفهم منذِرين، وجعل مفتاح دعوتهم، وزُبدة رسالتهم، معرفةَ المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تُبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها"[4]، وتتحقق معرفةُ أصل الأصول في حياة المسلمين في ضوء السلوك العملي للنبي صلى الله عليه وسلم عبر مسيرته الحافلة بمواقف الإيمان، والثبات في مواجهة المحن والإيذاء والمساومات، وتفنيد الشُّبُهات والادَّعاءات التي كان يثيرها المشركون والمنافقون حول توحيد الألوهية، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، والوحي والنبوة، وغيرها من المحاور العقدية العظمى، التي تناولتها السيرة النبوية بشكل جامع مانع.

وصدق قول القائل:
اعلم بأن الله جل وعلا
لم يترك الخلق سُدًى وهَملا
بل خلق الخلق ليعبدوه
وبالإلهية يُفردوه


فـ"لا صلاح للعباد، ولا فلاح ولا نجاح، ولا حياة طيبة، ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خِزْيِ الدنيا، وعذاب الآخرة - إلا بمعرفة أول مفروض عليهم، والعمل به، وهو الأمر الذي خلقهم الله عز وجل له، وأخذ عليهم الميثاق به، وأرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم، ولأجله خُلقت الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وبه حَقَّت الحاقة، ووقعت الواقعة، وفي شأنه تُنصب الموازين، وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسب ذلك تُقسم الأنوار، ومن لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور؛ وذلك الأمر هو معرفة الله عز وجل بإلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وتوحيده بذلك، ومعرفة ما يناقضه أو بعضه، من الشرك والتعطيل، والتشبيه والتشبه، واجتناب ذلك، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وتوحيد الطريق إلى الله عز وجل بمتابعة كتابه ورسوله، والعمل وفق ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما يناقضها من البدع الْمُضِلَّة، ويميل بالعبد عنها، فيجانبها كل المجانبة، ويعوذ بالله منها... وأرسل رسوله بذلك الكتاب مبلغًا ومبينًا؛ ليقرأه على الناس على مُكْثٍ، ويُبيِّنَه لهم أتم البيان، ويحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، ويهديهم به إلى صراط مستقيم، ولا شفاء للقلوب والأرواح، ولا حياة لها إلا بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 20 - 24]"[5].

الاهتمام بالجانب العقدي:
ظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم في مكةَ ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد الخالص، "فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء؛ خوفًا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام"[6]، وليس معنى هذا أنه لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد فقط، بل كان يدعو إلى صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، والنهي عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، إلا أنه أولى اهتمامه أكثر بالجانب العقدي؛ لأن الإيمان إذا وقر في القلب، انتفت جميع الشوائب المؤدِّيَة إلى زعزعته، وقد آتَتْ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم العقدية في مكة ثمارَها؛ حيث يَلْحَظُ من قرأ تاريخ حروب الردة التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عدم وجود أحدٍ ارتدَّ من المهاجرين والأنصار أبدًا، وما ذلك إلا لرسوخ الإيمان في قلوبهم؛ وعلى هذا فالواجب على الدعاة اليوم غرس العقيدة الصحيحة في النفوس أولًا، مع الاهتمام أيضًا بالجوانب الأخرى.

وعندما يولي الداعية الجانبَ العقدي اهتمامَه، فلا بد أن يدرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ((وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))، والحق أن تلك المضغة إذا وقر الإيمان فيها، منعت صاحبها من الوقوع في الفواحش بأنواعها، فمن الواضح الجلي أن أعظم القضايا التي عالجتها السيرة النبوية هي قضية التوحيد؛ فعن عمرو بن شرحبيل، عن عبدالله، قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))[7].

وعن عبدالله بن يسار، عن قتيلة بنت صيفي الجهنية، قالت: ((أتى حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله، فقال: يا محمد، نِعْمَ القومُ أنتم، لولا أنكم تشركون، قال: سبحان الله، وما ذاك؟! قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، قالت: فأَمْهَلَ رسول الله شيئًا، ثم قال: إنه قد قال، فمن حلَف فلْيَحْلِف بربِّ الكعبة، ثم قال: يا محمد، نِعْمَ القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله ندًّا، قال: سبحان الله، وما ذاك؟! قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قال: فأمهل رسول الله شيئًا، ثم قال: إنه قد قال، فمن قال: ما شاء الله، فليفصل بينهما: ثم شئت))[8]، وعن الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال: ((جعلتني لله عِدلًا، بل ما شاء الله وحده))[9]، وفي رواية قال: ((جعلت لله ندًّا، بل: ما شاء الله وحده))، فقضية التوحيد هي التي بعث الله من أجلها الرسل، وأنزل لها الكتب؛ لذا فهي آكد الواجبات؛ لأنها الركيزة التي تقوم عليها الأعمال مما يستوجب الجنة أو النار، فمن أفلت يده منها، أفلتها إلى النار، فكان لهذا الجانب النصيب الأوفر، والحيز الأكبر في الدعوة... وكذلك الصحابة فقد كانوا "لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع"؛ من أجل العقيدة.

فـ"رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية جَهْلَاء، لا تعرف من الحق رسمًا، ولا تُقيم به في مقاطع الحقوق حكمًا، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنه أسلافها، من الآراء المنحرفة، والنِّحَل المخترعة، والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، وغيَّروا في وجه صوابه بالإفك، ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشِّرعة، ونابذهم في النِّحلة كلَّ محال، ورمَوه بأنواع البهتان؛ فتارةً يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق، الذي لم يجربوا عليه قط خبرًا بخلاف مخبره، وآونةً يتهمونه بالسحر وفي علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدَّعيه، وكرَّةً يقولون: إنه مجنون مع تحقُّقهم بكمال عقله، وبراءته من مسِّ الشيطان وخَبَلِهِ.

وإذا دعاهم إلى عبادة المعبود بحقٍّ وحده لا شريك له؛ قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة، أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه؛ وقالوا: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ق: 3]، وإذا خوَّفهم نقمة الله؛ قالوا: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32]، اعتراضًا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة، وإذا جاءهم بآية خارقة، افترقوا في الضلالة على فِرَقٍ، واخترقوا فيها بمجرد العناد ما لا يقبله أهل التهدي إلى التفرقة بين الحق والباطل، كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم، والموافقة لهم على ما ينتحلون، إذ رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردًّا لِما هم عليه، ونبذًا لما شدوا عليه يد الظِّنَّة، واعتقدوا إذ لم يتمسكوا بدليل أن الخلاف يُوهن الثقة، ويقبح جهة الاستحسان، وخصوصًا حين اجتهدوا في الانتصار بعلمٍ، فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء.

فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم؛ لأنه خرج عن معتادهم، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم، حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم؛ ليُوقعوا بينهم وبينـه المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات، أو في بعض الأحوال، أو على بعض الوجوه، ويقنعوا منه بذلك؛ ليقف لهم بتلك الموافقة واهي بنائهم، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق، والمحافظة على خالص الصواب؛ وأنزل الله: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الكافرون: 1، 2] إلى آخر السورة، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة، ورمَوه بسِهام القطيعة، وصار أهل السلم كلهم حربًا عليه، وعاد الوليُّ الحميم عليه كالعذاب الأليم، فأقربهم إليه نسبًا كان أبعد الناس عن موالاته؛ كأبي جهل وغيره، وألصقهم به رحِمًا كانوا أقسى قلوبًا عليه، فأي غربة توازي هذه الغربة؟! ومع ذلك، فلم يَكِلْه الله إلى نفسه، ولا سلطهم على النيل من أذاه، إلا نَيل المصلوفين، بل حفِظه وعصمه، وتولَّاه بالرعاية والكلاءة، حتى بلَّغ رسالة ربه"[10].

فالعقيدة الإسلامية هي الرسالة العظمى التي جاء بها جميع رسل الله، وسُمِّى دين الله تعالى من لدن آدم حتى محمد دينَ التوحيد، وسُمِّيَ توحيدًا لأن مبناه على معرفة الله وحده، فالدعوة إلى التوحيد تعني تعبيد الناس لرب الناس، واجتناب الطاغوت، والطاغوت هو كل من يضع العراقيل في طريق الناس ليَحُول بينهم وبين عبادة ربهم، فيُحيل حياتهم إلى نزاع وشقاق، وفُرقة وتطاحن فيما بينهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، والعبادة هي تعلُّق قلوب العباد تألُّهًا لخالقها، تعظيمًا له وخوفًا، مع امتزاجها بالرجاء والرغبة والرهبة.

وفد بني فزارة أنموذجًا[11]:
قال أبو الربيع بن سالم في كتاب "الاكتفاء": ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم عليه وفد بني فزارة بضعةَ عشر رجلًا، فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، ابن أخي عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث - وفي رواية زينب بنت الحارث - وجاؤوا رسول الله مُقِرِّين بالإسلام، وهم مُسْنِتُون على رِكابٍ عِجافٍ، فسألهم رسول الله عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله، أسْنَتَتْ بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادعُ لنا ربك يُغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! ويلك! هذا إنما شفعت إلى ربي عز وجل، فمن الذي يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهي تئطُّ من عظمته وجلاله، كما يئطُّ الرَّحْلُ الجديد)).

فتأمل قولهم: "وليشفع لنا ربك إليك"، فتصورهم عن الله أنه إنسان آخر أقوى من محمد، يتصارعان معًا على السلطة، وهم يريدون لكل واحد منهما أن يشفع عند الآخر، وهم قد استسلموا للشريكين معًا، كما هو الحال في شركائهم الذين يشفعون بهم عند الله، والله كذلك يحتاج لهم فيراعيهم ويخافهم، وكان لا بد من علاج هذه الوثنية برفق؛ لتتضح زيوفها على سيد الخلق محمد، فقال وهو يصحح هذا الانحراف الرهيب عن مفهوم الألوهية عندهم: ((سبحان الله! ويلك! هذا إنما شفعت إلى ربي عز وجل، فمن الذي يشفع ربنا إليه؟)).

فهم - إذًا - يفاجؤون بنبيٍّ يدَّعي العبودية الكاملة لله، ولا يزعم لنفسه سلطانًا مما يُعطُون للآلهة، أو تعطي الطواغيت لنفسها عندهم؛ قال: ((لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهي تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرحل الجديد))، فقد نزَّهه سبحانه بوحدانيته وعلوه وعظمته، وأن السماوات تئنُّ من عظمة الله، وليُقرِّب هذا الصوت إليهم شبَّهه بأطيط الرحل الجديد.

ثم عاد بهم ليبين لهم صفات الله العليِّ؛ فهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وهو يضحك من اضطرارهم، وصدق لجوئهم عند هذا الاضطرار.

ويسمع الغَطَفانيُّون كلامًا لأول مرة في حياتهم عن الرب سبحانه، فالآلهة التي يعرفون غاضبة متجهِّمة، يُقدِّمون لها القرابين، ولا ترضى ولا تسمع ولا تبصر، فيقولون حسبما تدركه عقولهم: أو يضحك ربنا؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لَيضحك من شَغَفِكم وأزْلِكم وقرب غِياثكم)).

فقال الأعرابي: يا رسول الله، ويضحك ربنا؟

قال: نعم.

فقال الأعرابي: لن نعدَم من ربٍّ يضحك خيرًا، فضحِك النبي من قوله، وصعِد المنبر، فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا رفع الاستسقاء، فرفع يديه حتى رُئِي بياض إبطيه، وكان مما حُفِظ من دعائه: ((اللهم اسقِ بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحْيِ بلدك الميت، اللهم اسقِنا غَيثًا مُغيثًا، مريئًا مريعًا، طبقًا واسعًا، عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار، اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا مَحْقٍ، اللهم اسقِنا الغيث وانصرنا على الأعداء))[12].

وهكذا علاج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الوثنية؛ لأن الظاهر من كلام الوفد أنهم لم يفقهوا هذا الدين الذي دخلوا فيه، ولم يتحرر مفهوم التوحيد في ذهنهم ذلك التحرر الصحيح، ولا تزال الوثنية متغلغلة في أعماقهم، والسيرة النبوية تزخَر بتلك النماذج التي تُبين تعديل مسار الخط التوحيدي، والتركيز في تصحيح العقيدة لمن دخل في دين الله.

عن أنس بن مالك قال: ((أصابت الناس سنةٌ على عهد النبي، فبينا النبي يخطب في يوم جمعة، قام أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعَةً، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي، أو قال غيره، فقال: يا رسول الله، تهدَّم البناء، وغرِق المال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه، فقال: اللهم حَوالَينا، ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوبَةِ، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدَّث بالجَودِ)).

[1] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، جمع وترتيب: عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة المنورة - السعودية، ط1/ 1425هـ - 2004م، 1/ 368، بتصرف.

[2] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، ط1/ 1425هـ - 2004م، 1/ 22.

[3] شرح الطحاوية في العقيدة السلفية، قاضي القضاة صدر الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، ط1/ 1421هـ - 2000م، ص: 19، 20.

[4] السابق، ص: 9، 10.

[5] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، دار الحديث، تحقيق: سيد عمران، وعلي محمد، ط1/ 1420هـ - 1999م: 1/ 31، 32.

[6] الاعتصام، الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط1/ 1412هـ - 1992م، ص: 27.

[7] متفق عليه.

[8] صحيح: رواه أحمد، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، والطحاوي، والنسائي، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح، وأخرجه الطحاوي في المشكل وأحمد، وابن سعد، والحاكم من طريق المسعودي، وهو إسناد رجاله ثقات، إلا أن المسعودي - وهو عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة بن مسعود - كان اختلط، وقد ذكره الحافظ برهان الدين الحلبي في رسالته "الاغتباط بمن رُمِيَ بالاختلاط"، وأما الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهذا منه غريب، فقد أورد المسعودي هذا في "الضعفاء"، وقال: "قال ابن حبان: كان صدوقًا، إلا أنه اختلط بأَخَرَةٍ".

[9] صحيح لغيره: أخرجه أحمد، والطبراني، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو نعيم، والنسائي.

[10] الاعتصام، ص: 23، 26، بتصرف.

[11] انظر كلًّا من: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، وإمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، لتقي الدين أحمد بن على المقريزي، والخصائص الكبرى للسيوطي، والسيرة النبوية، لابن كثير، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للصالحي الشامي، وعيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لمحمد بن عبدالله بن يحيى بن سيد الناس.

[12] الحديث: ذكره البيهقي في دلائل النبوة، وأبو الشيخ في العظمة، والحديث في البخاري، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، ومسلم من دون ذكر وفد فزارة، إنما ذكر الأعرابي فقط.
(يرجى مراجعة: المنهج التربوي للسيرة النبوية (مجموعة التربية السياسية)، د. منير الغضبان: 1/ 135-134، دار الوفاء، ط7، 2006م).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.55 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.53%)]