وقفات تربوية من أحاديث خير البرية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب( مناظرة بين الإسلام والنصرانية : مناقشة بين مجموعة من رجال الفكر من الديانتين ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الشاكر العليم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          هل هذا شذوذ أو ازدواج في التوجه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          زوجي مصاب بمرض الفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          اليأس طريق إلى الإلحاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          أخاف أن أكون سببا في شذوذ أخي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          أشاهد الأفلام الإباحية رغم زواجي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          هل ما أفعله شذوذ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          ابتليت بالشذوذ الجنسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          هل أنا شاذ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-07-2024, 06:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (1)

الاستعاذة من الفتن الأربع




  • كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الفتن الأربع رغم أنه معاذ ومعصوم إظهارا للفقر والعبودية والخضوع لله وليكون قدوة لأمته فعلا وتشريعا
  • الاستعاذة هي أحد أنواع الدعاء الذي جعلته الشريعة أسرع الأبواب لإجابة الله للعبد وانفتاح أبوابه أمامه
روى الشيخان واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي اله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ».
من أقرب ما يتقرب به العبد لربه أن يدعوه بفقره إليه، وأن يستشعر العبد ضعفه بين يدي ربه، ويستحضر أنه لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو ما تمثله كلمة التعوذ التي تجسد صورة العبد الهارب من هلاكه، وكيد أعدائه إلى جناب ربه لاجئا مستجيرًا.
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا
إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى
كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي
فأعداء الإنسان من نفسه التي بين جنبيه وهواه وميوله، والشيطان المتربص به ليوقعه في معصية الله، والدنيا التي تحاصره بفتنها، لا طاقة للإنسان لمواجهتها إلا بمدد من الله وإعانة وإحاطة واكتناف، فلا مناص من الهرب والفرار إلى الله.
الاستعاذة أحد أنواع الدعاء
والاستعاذة هي أحد أنواع الدعاء الذي جعلته الشريعة أسرع الأبواب لإجابة الله للعبد وانفتاح أبوابه أمامه، قال -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، ولا يرد القضاء سوى الدعاء، وكل ما يعرف عن الدعاء من ترغيب في المداومة عليه وترهيب من التقصير فيه ينطبق على الاستعاذة، فكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة»، سيكون التعوذ من العبادة أيضا؛ لأنه نوع من الدعاء، وهو أحد أسباب دفع القضاء الذي يخافه العبد، ويستعين بالدعاء لرده، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» متفقٌ عليه». فلابد من المداومة عليه والاستشعار الدائم لمعناه العميق.
تعددت تعوذات النبي - صلى الله عليه وسلم
وقد تعددت تعوذات النبي - صلى الله عليه وسلم - فشملت أمور الدنيا والآخرة، فقد تعوذ من الأمور الأربعة في حديثنا، وتعوذ أيضًا من العجزِ والكسلِ، والجُبنِ والبُخلِ، والهَرمِ، وضَلَعِ الدَّينِ ومن الجوع والخيانة، وغَلبةِ الرِّجالِ وقهر الرجال، وتعوذ من القسوةِ، والغفلةِ، والعيْلةِ، والذلةِ، والمسكنةِ، والفقرِ والكفرِ، والفسوقِ والشقاقِ والنفاقِ، والسمعةِ والرياءِ، ومن الصممِ، والبُكمِ، والجنونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وسيِّئِ الأسقامِ، وتعوذ من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن نفسٍ لا تَشبعُ، ومن دعوةٍ لا يُستجابُ له، وتعوذ من التردِّي والهدْمِ والغرقِ والحرقِ، وتعوذ من تخبط الشيطان عند الموت، ومن الموت مبرا يوم الجهاد، ومن الموت بلدغ العقارب، وتعوذ من زوال نعمة الله تحول عافيته ومن فجاءة نقمته ومن سخطه -عزوجل.
التعوذات الأربع
والحديث الجليل الذي بين أيدينا جاء في بعض رواياته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه هذه التعوذات الأربع كما يعلمهم السورة من القرآن لشدة عنايته بهن وحرصه على تحفيظهم إيَّاها والعمل بها، كما أن تكرار هذه الاستعاذات الأربع خمس مرات على الأقل في اليوم والليلة دليل على خطورة هذه الأمور، ولزوم الاستحضار الدائم لها والاحتياج لتوفيق الله في مقابلها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بهن رغم أنه معاذ ومعصوم إظهارا للفقر والعبودية والخضوع لله، وليكون قدوة لأمته فعلا وتشريعا.
الوظيفة العملية للصلاة
ونلحظ أن ختام الصلاة بهذا الدعاء يربطها بالحياة الدنيا والآخرة في آن واحد، فهو حلقة ربط بينها وبين الممارسة الفعلية لمواجهة فتنة المحيا ثم فتنة الممات بغرض اتقاء عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة الدجال، فيكون هذا الدعاء مذكرا بالوظيفة العملية للصلاة وهي النهي عن الفحشاء والمنكر.
المعالم العقائدية
وقد حوى الحديث عددا من المعالم العقائدية كإثبات عذاب القبر ونعيمه ووجوب الإيمان به؛ لأنه أول منازل الإيمان باليوم الآخر وإثبات خروج المسيح الدجال، وأن فتنته من أعظم الفتن التي تمر على الخلق منذ آدم.
فوائد فقهية
ومما فيه من الفوائد الفقهية استحباب الدعاء قبل التسليم لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع: «ثم ليتخير من المسألة ما شاء»، وفيه استحباب هذه التعوذات الأربع بالذات استحبابا شديدا وهو قول الجمهور من أهل العلم، بل ذهب بعضهم لوجوبها.
أهمية التعوذ من الفتن
كما أن فيه التنبيه على أهمية التعوذ من الفتن فهي تحيط بالإنسان منذ بداية خلقه إلى لحظة موته، كلما زالت فتنة أعقبتها أختها، وليست الفتن شرا دائما بل منها ما يكون خيرا إذا صبر العبد وثبت فيها، فيزداد بها الذين آمنوا إيمانا، وتكون شرا على ضعاف الإيمان وتنقية للصف المسلم منهم.
فتنة المحيا والممات
ونص الحديث على فتنة المحيا والممات على وجه الخصوص، ففتنة المحيا هي كل ما يتعرض له الإنسان في كل لحظات حياته من الكفر والشرك والبدع والشهوات والشبهات، وما يمر به من الأقدار خيرها وشرها.
معنى فتنة الممات
وفتنة الممات لها معنيان:
  • أولهما: الاحتضار وخروج الروح وما يشعر به الإنسان عندها من آلام شديدة في سكرات الموت، وما ورد من حضور الشيطان للحظة الاحتضار لدعوة الإنسان للكفر بالله عندها، ففتنة الممات على ذلك جزء من فتنة المحيا، ويكون ذكرها بعدها لتأكيد خطورة هذه اللحظة من الحياة.
  • وثانيهما: سؤال الملكين في القبر عن الرب والدين والرسول، ويكون ذكرها مع فتنة المحيا لقربها منها زمنيا، أو لأنها حصاد لها.
الاستحضار الدائم للموت
والاستحضار الدائم للموت ولما بعده من فتن في هذه الموضع من الصلاة متناسب مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات»، فيكون اليوم الآخر ومنازله دائمة موجهة لسلوك المسلم كلما خرج من الصلاة.
فتنة المسيح الدجال
ويجدر بنا أن نهتم بما ورد في الحديث من التعوذ من فتنة المسيح الدجال، وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان قرب الساعة على الناس بخوارق عظيمة ويدعوهم لعبادته فيتبعه جل الخلق، إلا من عصمهم الله وبصرهم، ولنوضح معنى كلمة «المسيح»:
  • في حق عيسى -عليه السلام-: هو المتحرك في الأرض للتعبد أو للجهاد، أو هو الذي يمسح على أصحاب العاهات فتبرأ ببركة مسحته.
  • في حق الدجال: المتحرك في الأرض للإفساد أو لأنه ممسوح العين اليمنى أعور.
ولا يقال المسيح مطلقا بغير صفة إلا إن أُريد به المسيح النبي، أما المسيح الدجال فلا يطلق إلا مقترنا بوصف الدجال للتفريق بينهما، كما يخطئ من يسمي المسيح الدجال «المسيخ»، لعدم وروده في السنة بهذا اللفظ مطلقا. وفي الذكر المتكرر على مدى اليوم والليلة للمسيح الدجال تبصير بدعاة السوء، وناشري الإلحاد والفساد، فإنهم كالمسيح الدجال يخرجون على الناس باسم المصلحين المجددين، وهم الهادمون للفضيلة والدين.
معاني غريب الكلمات
  • تَشَهَّدَ: فرغ من قراءة التشهد وقبل أن يسلم من الصلاة.
  • أَعُوذُ: أعتصم وأستجير.
  • فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ: الابتلاء والامتحان في الحياة، وعند الاحتضار وسؤال الملكين في القبر.



اعداد: الشيخ: محمد الباز






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-07-2024, 04:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (2) الدنيا سجن المؤمن



  • الدنيا سجن لجوارح المؤمن عن المحرمات التي إن حبسها زاد إيمانه والسجن هنا بمفهوم حبس النفس المؤمنة عن الشهوات المحرمة بحسب الخطاب الشرعي
  • جنة المؤمنين في الدنيا في قلوبهم بطاعتهم لله وقربهم منه وهم في نعيم مع كل حال من أحوال القدر
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، أورد مسلم هذا الحديث الشريف في افتتاح كتاب الزهد من صحيحه، وكأنه يشير إليه بوصفه موجها أول لفهم حقيقة الزهد في الدنيا ولضرورة أن يضبط المسلم تصوره عنها عبره، فحياة المسلم يراها طريقا طويلا عديد المنازل، ويرى الدنيا أحد هذه المنازل وليس أفضلها، فضلا عن أن تكون آخرها أو أن تكون هي المستقر.
ولنا وقفات مع هذا الحديث الجليل:
وقفة مع معنى (الدنيا)
تحمل الدنيا العديد من المعاني والظلال فهي الكلمة المفتاحية في الحديث، فهي في اللغة مؤنث الأدنى، وهو الأقرب، ومنه قول الله -تعالى-: {قطوفها دانية} أي قريبة يتناولها أهل الجنة بيسر، وسمى الله دارنا التي نحياها بالدنيا، وهو اسم يحمل معنى التسفُّل والتنقُّص، فأصلها الدنو، وهو أصل كلمة الدنيَّة أيضا بمعنى النقيصة، كما في قوله -تعالى-: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:61)، وسميت الدنيا أيضا، لسبقها للآخرة، وقيل لقرب زوالها، وجاء في الحديث أن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنها أهون عند الله من هوان جدي ميتٍ عند الناس. إن كانت الدنيا موصوفة بأنها الأقرب في زوالها والأعجل للإنسان، وموصوفة بالدنو، فلابد للمؤمن العاقل أن يؤثر ضيق السجن القريب الأدنى ثقة في سعة الجنة في الآخرة، ولا جناح عليه أن يسجن في دار النقائص والعلة فنعيمها منقطع زائف، فليتصبر السجين فسرعان ما سيفرج عنه، وأما عن هوانها عند الله ففيه تنبيه للمؤمنين ألا يغتروا بها لحقارتها ولكونها متاعا قليلا. الكافر يفرح بالجنة القريبة وملاذِّها في الدنيا، ويسخر من المؤمنين المصدقين بالجنة البعيدة، قال -تعالى-: {زُيِّن للذينَ كفروا الحياةُ الدنيا ويسخَرُونَ من الذين آمَنُوا} (البقرة:212)، حينها نعلم غروره وخسرانه؛ حيث أُغرِم بالنقص وتمتع بالزائل الزائف، وباع دنياه بآخرته، فبئست الصفقة، ونعلم جهله أيضا؛ حيث يرى هذا المتاع الزهيد جنة تستحق الصراع والمغالبة، قال -تعالى-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 196).
وقفة مع معنى (سجن المؤمن)
فالدنيا سجن لجوارحه عن المحرمات التي إن حبسها زاد إيمانه، والسجن هنا بمفهوم حبس النفس المؤمنة عن الشهوات المحرمة بحسب الخطاب الشرعي. الدنيا سجن المؤمن، فلا تنتظر أيها المؤمن الراحة فيها، واستعد لما تلقاه من متاعب ومصاعب، وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة حفت بالمكاره، فالصبر عليها هو طريق الجنة، وهي جنة الكافر بنظره مقارنة بما ينتظره من العذاب يوم القيامة. الدنيا سجن؛ لأن فيها التكفير لذنوب المؤمنين بصور البلاء والمصائب والكفارات والحدود، ويصدق ذلك ما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى الله وما عليْهِ خطيئةٌ». الدنيا سجن؛ لأن الله يحول بأقداره بين عباده وبين التمتع بها ليكون نصيبهم عنده من النعيم كاملا لم يتعجلوا منه شيئا في الدنيا، وقد صح في المسند عنه صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله لَيَحْمي عَبدَه المُؤمِنَ مِن الدُّنيا، وهو يُحِبُّه، كما تَحْمون مَريضَكُم مِن الطَّعامِ والشَّرابِ تَخافونه عليه».
الأغنياء والفقراء من المسلمين
الأغنياء والفقراء من المسلمين والمؤمنين كلاهما مسجون في الدنيا، فالفقير مسجون عن إدراك شهواته وملاذِّه بفقره، والغني مسجون عن الاكتساب إلا من الحلال، ومسجون عن الإنفاق إلا باعتدال، ومسجون عن الإنفاق إلا في رضى الله -عزوجل-، وسجن الغني أصعب لوجود المال في يده وقوة الداعي للإنفاق، وكلاهما خلاصه يوم القيامة في النعيم المقيم.
حقيقة نعيم المؤمن في الدنيا
قد يكون المؤمن في هذه الحياة الدنيا ممتعًا يأكل من طيباتها، وينعم بنعيمها ومع ذلك هي سجن له؛ لأن له عند الله من النعيم المقيم واللذات غير المتناهية، فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن يقارن نعيم الدنيا بنعيم الآخرة يجد الدنيا سجنا ليس أكثر.
بين نعيم الآخرة ونعيم الدنيا
وذُكر أن الحافظ ابن حجر لما مر قاضي القضاة يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة، فهجم عليه يهودي يبيع الزيت وأثوابه ملطخة، فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإِسلام تزعم أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، فأي سجن أنت فيه؟ وأي جنة أنا فيها؟، فقال الحافظ: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في الجنة فأسلم اليهودي.
جنة المؤمنين في الدنيا
جنة المؤمنين في الدنيا في قلوبهم بطاعتهم لله وقربهم منه، وهم في نعيم مع كل حال من أحوال القدر، فإن أصابتهم ضراء صبروا وإن أصابتهم سراء شكروا، وأما الكفار إذا أصابهم الضراء في هذه الدنيا، فإنها تضيق عليهم أشد من ضيق السجون، وربما ينتحرون لعدم صبرهم على أقدار الله.
حياة أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم
كان أشرف الخلق وأكرمهم عند الله رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يحيا حياة بهذه النظرة للدنيا في تقلله من الدنيا ما استطاع وزهده فيها، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن عمر قال: «دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم (جلد)، حشوها ليف، قلت: يا رسول الله، ادع الله فليوسع على أمتك؛ فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله! فقال: «أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» وفي رواية: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». الجنة هي الموطن الأصلي لبني آدم وحُبِسوا عنها في هذه الدنيا بعد نزول آدم -عليه السلام- إلى الأرض. الخروج من الدنيا هو لحظة الحرية والراحة الحقيقية للمؤمن، كما جاء عند البخاري أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: «مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه! قالوا: يا رَسولَ الله، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ الله، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ». سجن الدنيا يبيعه المؤمن لله إيثارا لما عنده: «إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» (التوبة: 111).
وقفة مع معنى (جنة الكافر)
  • الكافر لا يؤمن بالبعث بعد الموت؛ فصارت له الدنيا كالجنة فهي بالنسبة له نهاية المطاف.
  • الكافر حريص على الحياة ويراها جنته على ما بها من كدر وتنغيص؛ لما يعلم أن له بعدها العذاب المقيم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة:96).
  • الكافر إن عمل بعض العمل الصالح ابتغاء وجه الله فإنه يثاب به في الدنيا، فتكون الدنيا جنته على عمله الصالح، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى عليها في الدنيا ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر، فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً».



اعداد: الشيخ: محمد الباز





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 31-07-2024, 07:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية (3) مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ



  • من الفوائد العقدية في الحديث أن الأعمال الصالحة تتفاضل وأنها من أسباب زيادة الإيمان.
  • من الفوائد الفقهية في الحديث جواز الإخبار عن أعمال الطاعات التي عملها الإنسان مع توقي الرياء والإعجاب
  • اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتفقد أحوال من يربيهم وسؤاله إياهم عن أعمال الطاعات التي يقومون بها وبعث روح التنافس بينهم فيما ينبغي أن يكون الميدان الحقيقي للتنافس
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وفي رواية مطوَّلة عند البزار أن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد عقب صلاة الصبح، وفيها أن الصدقة كان كسرة خبز في يد عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذها منه وأعطاها لفقير يسأل في المسجد، ورواية البزار ضعيفة لأنها مرسلة، لكن نستأنس بها لاستجلاء سياق الحدث.
الجنة ليس مجرد خبر صادق من عند الله نؤمن به ونصدقه، بل هي الغاية والهدف من كل عمل يعمله المسلم، قال -تعالى-: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وهي البوصلة التي يصبح المسلم ويمسي يتلمس طريقه بها ببذل الأعمال الصالحة دون كسل أو توانٍ.
أعجب ما اشتمل عليه الحديث
ومن أعجب ما اشتمل عليه الحديث أن نجد أبا بكر الصديق لشدة اجتهاده - رضي الله عنه -، وحرصه على التقرب إلى ربه بمختلف طرائق الخير التي شرعها الله لعباده، قد فرغ من الأعمال الأربعة قبل صلاة الفجر، وقبل أن يعرف عظيم ثواب اجتماعها في يوم واحد، وتلك المبادرة وهذا الحرص هو من أورث أبا بكر مكانته الجليلة في هذه الأمة، والذي أورثه تبشير النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة في ذلك اليوم.
العبادات الأربع بالحديث
وللعبادات الأربعة المسؤول عنها في الحديث من الفضل ومن الثواب الرباني المتضاعف ما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي بها في مواضع عدة:
  • ففي فضل الصيام قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ، إِلّا باعَدَ اللَّهُ، بذلكَ اليَومِ وَجْهَهُ عَنِ النّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
  • وفي فضل اتباع الجنازة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَلّى على جِنازَةٍ ولَمْ يَتْبَعْها فَلَهُ قِيراطٌ، فإنْ تَبِعَها فَلَهُ قِيراطانِ، قيلَ: وما القِيراطانِ؟ قالَ: أصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ»
  • وفي فضل إطعام المساكين، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا النّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
  • وفي فضل زيارة المريض، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن عادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الجَنَّةِ حتّى يَرْجِعَ»، وخرفة الجنة هي ثمارها وظلالها.
اجتماعها في يوم واحد
وتزداد هذه العبادات درجة وثوابا إذا اجتمعت من المسلم في يوم واحد، وهذا حال نادر، قل من يوفق له؛ حيث لم يجب من الصحابة عن أسئلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي بكر الصديق، وعليه فينبغي للعاقل الاجتهاد في اللحاق بهذه القلة، والموفق من وفقه الله -عز وجل- وقد ذكر أهل العلم فائدة من هذا الحديث أن المطلوب هو اجتماع العبادات الأربعة وليس ترتيبها كما وردت، فالعبرة بفائدتها التزكوية وليس بالترتيب.
برنامج تربوي عملي متكامل
وتعد هذه العبادات باجتماعها في يوم واحد برنامجا تربويا عمليا متكاملا، ينبغي للوالدين والمربين الحرص على تفعيله، سواء في ذاتهم أم من تحت ولايتهم:
  • فالصيام مدرسة الاستحضار الدائم للمراقبة الربانية، وتهذيب للنفس بالجوع، وتذكير بالمواساة للفقير، وتضييق لمسالك الشيطان، ومضعف لشدة الشهوات.
  • وفي أثناء الصيام يكون إطعام المسكين حال جوعك دافعًا، لاستحضار نعمة الله الذي رزقك الطعام وأنت تخرج من رزقه شكرا وقربة لوجهه، وتستعين به لإتمام عبادتك له.
  • ويتكامل معه زيارة المريض الذي ربما كان غير قادر على الصيام، فنتذكر نعمة الصحة والقدرة على التعبد بما لا يقدر المريض عليه، وتتأمل في تقلب الحال البشري بين القوة والضعف.
  • وتكون الجنازة وحضور الدفن ومشاهدة القبور تذكيرا بفناء الدنيا وحقارتها، ودعما للنفس في صيامها وصدقتها وعيادتها للمريض، وحثا على الاستزادة من الباقيات الصالحات التي تصحب الإنسان في القبر.
أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم
ومن أجمل ما نستخلصه تربويا من الحديث أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ عدل عن الأسلوب الخبري المباشر في الخطاب لبيان فضائل الأعمال إلى ما يشبه أن يكون مسابقة علنية مفتوحة لأهل المسجد والمسلمين كافة، بتكرار سؤاله أيكم؟ أيكم؟، وهذا الأسلوب على ما فيه من التجديد والطرافة، يحمل من وجه آخر شدة اهتمام المربي العظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفقد أحوال من يربيهم، وسؤاله إياهم عن أعمال الطاعات التي يقومون بها، وبعث روح التنافس بينهم فيما ينبغي أن يكون الميدان الحقيقي للتنافس.
الفوائد العقائدية
وقد حوى الحديث الجليل -إلى جوار ما سبق من الفوائد التربوية- عددا من الفوائد العقائدية، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» يعني أنه يدخلها بغير حساب، وإلا فإنه يكفي لدخول الجنة مجرد الإيمان، والفضيلة هنا في كون هذه الأعمال تجعل صاحبها يدخل باجتماعها الجنة بغير حساب، وفي الحديث شاهد لعقيدة أهل السنة أن الأعمال الصالحة تتفاضل، وأنها من أسباب زيادة الإيمان، كما أن فيه شاهدا لتفاضل أهل الإيمان في قوة الإيمان وتفاضلهم في درجاتهم.
الفوائد الفقهية
كما أن فيه العديد من الفوائد الفقهية، كجواز الإخبار عن أعمال الطاعات التي عملها الإنسان مع توقي الرياء والإعجاب، وفيه عدم كراهة رد السؤال بكلمة (أنا)، لكن تكون الكراهية لهذا اللفظ إذا صدر الرد عن إثبات النفس ورعونتها، وتوهم كمال ذاتها وحقيقتها، كما صدر عن إبليس حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (الأعراف: 12)، ونحو ذلك مثل أنا العالم وأنا الزاهد وأنا العابد. وفيه بيان جواز طلب سؤال الأموال والصدقات داخل المسجد دون إلحاح أو إيذاء بتخطي الصفوف، وهو قول الجمهور ومنعه الأحناف مطلقا. وفيه جواز التصدق داخل المسجد على من سأل دون إلحاح أو إيذاء بتخطي الصفوف، فإن ألح أو تجاوز الصفوف وآذى المصلين حرم التصدق عليه باتفاق أهل العلم، ففيه إعانة على منكر.


اعداد: الشيخ: محمد الباز





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-08-2024, 02:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية – إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ



  • كان النبي صلى الله عليه وسلم نبيا وحاكمًا يستقبل كل رعيته ويرفق بهم حتى اليهود منهم
  • تقدير تحية الإسلام والحرص عليها لأنها من أهم ما اختص الله به الأمة المسلمة
  • الرفق يجعل القلوب تلين على صاحبه فصاحب الرفق محبوب لأنه تبع لمحبة الله
  • إذا دعا الداعي بشيءٍ ظُلمًا فإنَّ الله لا يَستجيب له
روى الشيخان واللفظ للبخاري، أَنَّ عَائِشَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، (زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم )، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».
لم يكن مجتمع المدينة خالصًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين الصادقين كما يظن بعض الناس، بل كان فيه من اليهود والوثنيين، إلى جانب المنافقين داخل الصف المسلم، وبمقتضى الإدارة ومسؤولية النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه حاكما للمدينة وأمة الإسلام فيها، فمن الطبيعي أن يستقبلهم أحيانا لعقد لقاءات للتباحث في الشؤون المشتركة، فيتبسط معهم ويرفق بهم، فهم مستهدفون بالدعوة للإسلام على أي حال.
الحسد والعداوة والبغضاء
لكن، وكما قال -تعالى-: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، وقوله -تعالى-: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، تأبى نفوس اليهود إلا أن تبدي بعض ما انطوت عليه من الحسد والعداوة والبغضاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحيوه بتحية قبيحة يدعون عليه فيها بالموت، فقالوا السام بدلا من السلام، جريا على منهجهم الأصيل في تحريف الكلم عن مواضعه والتلاعب بالألفاظ. ورغم ما في قولهم من القبح والشناعة، فلم يزد - صلى الله عليه وسلم - على أن يردها عليهم بقوله: «وعليكم»، رفقا بهم، وحرصًا على مكافئتهم بمثل مقصدهم دون زيادة، وفي هذا الموضع نزل قول الله -عز وجل-: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
مهلا يا عائشة
ورغم هذه الجريمة الواضحة نجده - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مهلا يا عائشة»، فأمرها بالتمهل والرفق في استقبالهم رجاء إسلامهم ليروا أخلاق الإسلام، مع ما بدر منهم من عداوتهم حتى في دخولهم، مع تطييب خاطر السيدة عائشة -رضي الله عنها- بما ورد في إحدى روايات الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «فَيُسْتَجَابُ لِي مِنْهُمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ»، يعني: إن الله يجيب دعوتنا عليهم ولا يجيب دعوتهم علينا. ونجد هذه الواقعة تأتي مصداقا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أحمد وصححه الألباني، أنه قال: «ما حسَدَتْكم اليهود على شيءٍ ما حسَدَتْكم على السلام والتأمين».
تقدير تحية الإسلام والحرص عليها
وهذا الحديث الأخير يوجهنا إلى تقدير تحية الإسلام والحرص عليها؛ لأنها من أهم ما اختص الله به الأمة المسلمة، فهي كلمة عظيمة وهداية من الله لمن أحبه من خلقه، لما ورد عند الشيخين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلَق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فسلِّم على أولئك من الملائكة، فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله»، فلا ينبغي الاستهتار في إلقائها ولا التهاون في لفظها.
دعاء وخبر
وتحية «السلام عليكم» جملة تحمل دعاء وخبرا، فالدعاء: سؤال من الله للذي تُسلِّم عليه أن يسلم من كل سوء وشر في الدنيا والآخرة، والخبر؛ حيث تخبر من تُسلِّم عليه أنه يسلم منك ولا يصيبه منك شر أو أذى، ولما تحمله تحية الإسلام من معانٍ دقيقة، ونتلمس معاني الرفق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أحاطت بالموقف، فقد حث - صلى الله عليه وسلم - على الرفق حتى مع أعدى أعدائه، لتكون مجالسه - صلى الله عليه وسلم - مجالس لين ورفق ورأفة بالداخل والجالس والسائل والمحتاج والملهوف، من المسلمين وغيرهم.
ارتباط الرفق بمحبة الله -عزوجل
وبين - صلى الله عليه وسلم - ارتباط الرفق بمحبة الله -عزوجل-، الأمر الذي يدفع المسلم للصبر عليه تعبدا وابتغاء لمرضاة الله، فإن محبة الله لشيء تدل على كثرة نفعه وأنه يدخل في أكثر الأمور، فالرفق يجعل القلوب تلين على صاحبه فصاحب الرفق محبوب؛ لأنه تبع لمحبة الله، وهو أدعى لقبول الدعوة والنصيحة عند الناس، مع مراعاة أنه ينبغي أن تجتمع الحكمة مع الرفق؛ فبعض المواضع يفسد الرفق فيها، وثمة مواضع كثيرة يجب فيها الغلظة وربما القتال أيضًا.
أبعاد شخصية أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها
ومن وجه آخر في الحديث الجليل نستطيع أن نلمس أبعادًا في شخصية أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فهي امرأة فطنة ذكية رغم صغر سنها، ويتضح ذلك في قولها «ففهمتها»، وهي صاحبة غيرة على مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، النبي والزوج تدافع عنه ولا تسكت على التقليل من مقامه الشريف، وهي صاحبة شخصية صلبة ترد صراحة على اليهود كلمة السوء دون مهادنة.
الابتعاد عن الفحش من الكلام
وفي الحديث أيضا من بليغ الفوائد أن المسلم ينبغي له أن يبتعد عن الفحش من الكلام، حتى ولو كان في مقام رد الاعتداء عن نفسه، فيكتفي بما يدفع به عن نفسه ولا يزيد على ذلك، وأنه إذا دعا الداعي بشيءٍ ظُلمًا فإنَّ الله لا يَستجيب له، وفيه من قول عائشة «أولم تسمع ما قالوا؟» جواز تنبيه المستمع إلى معنى ما إن كان هناك ظن أنه لم يفهمه، أو لم ينتبه له. وفيه دفاع المرأة عن زوجها بمقتضى كونه مسلما وبمقتضى كونه زوجا فهو أدعى، وفيه تعليم الرجل امرأته ما يليق وما لا يليق من الكلام والسلوك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أقر عائشة على لعنها اليهود رغم إساءة اليهود له.
إثبات صفة الحب لله -عزوجل
وفي الحديث من الفوائد العقائدية إثبات صفة الحب لله -عزوجل- على الوجه الذي يليق به -تبارك وتعالى- {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وجواز لعن الكفار على العموم، وعدم جواز لعن المُعيَّن منهم؛ فلعله يُختم له بالإسلام؛ وذلك لأن اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله -عز وجل.


اعداد: الشيخ: محمد الباز





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 27-08-2024, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية – استشهاد عبد الله ابن حرام



  • الرعيل الأول بلغوا كمال الإيمان بصدق محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمها على محبة الولد والمال والأرواح
  • في الحديث إثبات وقوع الكرامات لأولياء الله ومنه استشعار بعض المؤمنين لدنو أجلهم وإخبارهم بذلك
  • جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أحد السبعة المكثرين من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين جاوزت أحاديثهم في الكتب الستة أكثر من ألف حديث لكل منهم
روى البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهمَا-، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، «فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ»
جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أحد السبعة المكثرين من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين جاوزت أحاديثهم في الكتب الستة أكثر من ألف حديث لكل منهم، وهو وأبوه من الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية قبيل الهجرة النبوية مباشرة، ووالده عبدالله بن حرام كان نقيب قومه بني سلمة مكلفا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم البيعة، كما أنه من أهل بدر - رضي الله عنه .
حديث أبوي عذب
ويروي جابر - رضي الله عنه - حديث والده ليلة أحد، وهو حديث أبوي عذب يفيض حنانا ورقة، يودع فيه أب ابنه وكان عمره يومها نحو 19 سنة، ولم يكن قد تزوج، ويستعد الأب للشهادة، بعد ما وقع في نفسه من أنه سيكون شهيدا صبيحة اليوم التالي، ورغم شدة الموقف وغلبة العاطفة، ومصارحته ولده بشدة محبته له، وهو الابن الذكر الوحيد بين تسع بنات، لكن هذه العاطفة لا تتقدم على محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو أحب الخلق إليه ومحبته أشد من محبة ولده الذكر الوحيد، كما لا تتقدم على محبة الجهاد في سبيل الله، فما بلغ هذا الرهط من الرعيل الأول ما بلغوه من كمال الإيمان ومن منازل الجنان، إلا بصدق محبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمها على محبة الولد والمال والأرواح، وبالجهاد بالأفعال والأموال والدماء.
الفضل الرباني
لقد عاين عبدالله بن حرام الموت يوم بيعة العقبة، حين أوشكت قريش أن تدرك أهل البيعة ليلتها، وعاينه يوم بدر مرة أخرى، فما ضعف وما استكان ولا داخل قلبه الخور أو التردد حين وقع في قلبه أنه مقتول صباحا، بل تقدم مفتديا دينه ومودعا متاع الدنيا بيقين راسخ بما ينتظره عند الله، وقد ظللته الملائكة بعد استشهاده، ووقع له من الفضل الرباني من لم يشهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيره من الصحابة الكرام؛ حيث قال لجابر: «ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيا أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا، فقالَ : يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ : يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ -تبارك وتعالَى- : إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ». رواه الترمذي وابن ماجة.
اختيار لمكانته وشرفه فيهم
ولا يظن ظان أن عبدالله بن حرام كان ثريا موسرا حين اختياره رسول الله نقيبا على بني سلمة، بل كان الاختيار لمكانته وشرفه فيهم، ولحسن دينه وإسلامه ومبادرته بالبيعة في مكة، فلم تكن العرب ترى المال شيئا بجوار الشرف، وكم ساد فيهم من لم يكن أكثرهم مالا كعبد المطلب وأبي طالب في قريش؛ لذلك نجده في وصيته لولده جابر بعد وصيته برسول الله يوصيه بقضاء دينه، وكان مدينا دينا عظيما لتاجر من يهود المدينة، وكان من ضخامة الدين أنه حين رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمر حديقتهم، وهو كل ما تنتجه عبر عام كامل، أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يراها تسد دين عبدالله. ولم يكن أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحتى الموسرين منهم، أرباب رفاهية وتنعم، بل كانوا كالرجال الذين لهم همومهم وعيالهم، وديونهم التي تحملوها لإيواء إخوانهم الذين هاجروا إليهم، بل الكثيرون منهم أصحاب فقر وفاقة ومعاناة، ولم يمنعهم ذلك عن التضحية في سبيل الله بما يملكون في سبيل إقامة هذا الدين وتدعيم دولته الناشئة في المدينة.
الحديث حمل لنا كرامتين
وحمل لنا الحديث كرامتين، الأولى- حين ألهم عبدالله بن حرام أنه مقتول صبيحة يوم أحد، فصدق وكان أول من قتل، والثانية- أن الأرض لم تأكل شيئا من جسده رغم مرور ستة أشهر على استشهاده، وفي ذلك إثبات وقوع الكرامات لأولياء الله من الطائعين، ومنه استشعار بعض المؤمنين لدنو أجلهم وإخبارهم بذلك، وهو معروف ومتكرر إلى اليوم.
استحباب الوصية قبل الموت
كما حفل الحديث بالعديد من الأحكام الفقهية مثل استحباب الوصية قبل الموت، ووجوب قضاء دين الميت على ورثته، وجواز دفن اثنين في قبر واحد لضرورة، وقد وقع في أُحد دفن ثلاثة في قبر واحد، لكثرة شهداء هذا اليوم وضعف المسلمين عن القدرة على الحفر؛ بسبب كثرة الجراح، والتعجل للاستعداد لمعركة أخرى وشيكة مع كفار قريش، وفيه جواز استخراج جثمان الميت ونقله لمصلحة، وفي قول جابر - رضي الله عنه - «فكان أول قتيل» إشارة لعدم جواز إطلاق وصف شهيد على القتيل بغير خبر صحيح من الوحي؛ لأنه من علم الغيب، ولكن نقول نحسبه شهيدًا.
جواز محبة أحد الأبناء محبة زائدة
وفيه أيضا جواز محبة أحد الأبناء محبة زائدة على غيره من إخوته، بشرط ألا يؤثر ذلك على العدل بين الأبناء، وفيه بر جابر بأبيه ومحبته له وغيرته عليه، فلم يطق أن يكون أحد مع أبيه في قبره فاستخرجه بعد ستة أشهر ليكون له قبر خاص، وقد قضى دينه، واختار أن يتزوج ثيبا للقيام بشؤون أخواته، مقدما سعادتهن على سعادته. ونختم هذه الفوائد بطرفة علمية، وهي كون هذا الحديث يعد حديثا نبويا بالرغم من أنه ليس فيه شيء من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه حوى إقراره - صلى الله عليه وسلم - لاستخراج جثة عبدالله بن حرام وإعادة دفنها في قبر منفصل، فهي سنة تقريرية وليست قولية، وهي أحد فروع الحديث النبوي.
معاني الكلمات
  • لَمْ تَطِبْ نَفْسِي: لم ترتح نفسي
  • هُنَيَّةً: تصغير هُنا، أي: قريباً
  • غَيْرَ أُذُنِهِ: أثر تغير بسيط في أذنه



اعداد: الشيخ: محمد الباز





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 11-09-2024, 06:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,073
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات تربوية من أحاديث خير البرية

وقفات تربوية من أحاديث خير البرية – سداد دَيْن جابر بن عبدالله رضي الله عنه



  • ترك عبدالله بن حرام لجابر من الأخوات ما اختلفت فيه الروايات بين ست وتسع بنات وهو عائلهن الوحيد
  • تظهر القصة تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته على أسرة صاحبه الشهيد عبدالله بن حرام
  • وصية والد جابر له ليلة استشهاده بقضاء دينه تعبر عن إرادته لأداء أموال الناس
روى البخاري عن جابر بن عبدالله: «أنَّ أباهُ اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ سِتَّ بَناتٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا ثَلاثِينَ وسْقًا، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يأخذوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاء، فَلَمّا حَضَرَ جِدادُ النَّخْلِ أتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدِي اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا كَثِيرًا، وإنِّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فَقالَ لأصْحابِهِ: «امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ» فَجاؤُونِي في نَخْلِي، فَجَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فيَقولُ: أبا القاسِمِ لا أُنْظِرُهُ، فَلَمّا رَأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- قامَ فَطافَ في النَّخْلِ، ثُمَّ جاءَهُ فَكَلَّمَهُ فأبى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بيْنَ يَدَيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- فأكَلَ، ثُمَّ قالَ: «أيْنَ عَرِيشُكَ يا جابِرُ؟» فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: «افْرُشْ لي فيه» فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بقَبْضَةٍ أُخْرى فأكَلَ منها، ثُمَّ قامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ فأبى عليه، فَقامَ في الرِّطابِ في النَّخْلِ الثّانِيَةَ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، قالَ: «اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ على ناحِيَتِهِ»، فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ أُغْرُوا بي تِلكَ السّاعَةَ، فَلَمّا رَأى ما يَصْنَعُونَ أطافَ حَوْلَ أعْظَمِها بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عليه، ثُمَّ قالَ: «ادْعُ أصْحابَكَ»، فَما زالَ يَكِيلُ لهمْ حتّى أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، وأَنا واللَّهِ راضٍ أنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، ولا أرْجِعَ إلى أخَواتي بتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ واللَّهِ البَيادِرُ كُلُّها حتّى أنِّي أنْظُرُ إلى البَيْدَرِ الذي عليه رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، كَأنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً واحِدَةً.» هذا اللفظ مجمع من الأحاديث أرقام 2395، 2396، 2528، 2781، 5443.
تركة كبيرة بين دين وبنات
استشهد عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - في غزوة أحد، وكان من آخر كلامه لولده جابر - رضي الله عنه - (راوي الحديث)، أنه أوصاه بقضاء دينه، وكان دينا ثقيلا يقدر بنحو أربعة أطنان من التمر، وكان أصحاب الدين يهودا، كما ترك عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - لجابر - رضي الله عنه - من الأخوات ما اختلفت فيه الروايات بين ست وتسع بنات، وهو عائلهن الوحيد. وهذه تركة كبيرة بين دين وبنات، ولكن الذخيرة والكنز الذي تركه له معينا على هذه التركة هي محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، والثقة بموعود الله في قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (النساء:9).
الله لا يضيع أجر من أحسن عملا
فيحين موعد قضاء الدين فيعرض جابر - رضي الله عنه - على الغرماء كل ما على النخل الذي ورثه من تمر فرفضوا لعلمهم أنه لا يفي بدينهم، وهذه من حكمة الله وابتلائه للمؤمنين عامة ولجابر خاصة، ليتيقن منذ البداية من عجزه على الوفاء وليصبر على هذه الأزمة، فينال أجرها وترتفع درجته بها، ثم يفتح الله بمعجزة على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يعلم بها كرامة والده الشهيد عند الله، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولو كان في النخل وفاء بالدين لما أطلع جابر واطلعت الأمة عل هذه المعجزة، ولما فاز جابر بدرجة الصابرين في الضراء والشاكرين في السراء.
تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وشفقته
ومن أعظم ما تجد في هذا الموقف تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وشفقته على أسرة صاحبه الشهيد عبدالله بن حرام، ويقدم لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أعظم المثل على متابعة الداعية لقومه ومعايشته لهم في كل مناحي الحياة وعدم اقتصاره على مسجده ومنبره، فيذهب بنفسه وهو خير من وطئ الحصى، وسيد ولد آدم، ويصطحب معه وزيراه، أبا بكر وعمر وآخرين ليستنظروا اليهود لجابر، ولكي لا يظهر جابر أمامهم ضعيفا بلا سند بعد استشهاد أبيه. ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صاحب الدين اليهودي، ويتواضع ويتنزل ليكلمه شافعًا في تأخير الدين أو النزول عن بعضه المرة بعد المرة، ثلاث مرات، ولكنه تأبى نفس اليهودي الدنيئة أن يقدر شفاعة خير الخلق ويرد عليه ثلاث مرات مغلفا رده بنوع من التوقير السمج المصطنع، فيخاطب اليهودي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بأبي القاسم، ولو كان توقيره لمقام النبي صادقا لأجاب شفاعته، لكن هيهات نفس الدنيء تطاوعه، فهم أحرص الناس على الدنيا والمال.
دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- بالبركة والنماء
وأمام هذا التعنت والصلف، كان جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غاية في السكينة والهدوء؛ إذ ترك اليهودي ليرقد تحت العريش، في تواضع على الأرض، ليبدو بمظهر المتجاهل له ولباقي الدائنين، وليبث في نفس جابر والحاضرين من أصحابه معاني الثقة في الله وفي مدده، إضافة إلى تجوله في الحديقة - صلى الله عليه وسلم- ودعائه ربه -عزوجل- فيها بالبركة والنماء، وأنعم به من دعاء، لو عقله المسلم ما انقطع عنه طرفة عين. وتكون المعجزة حين يجلس - صلى الله عليه وسلم- بنفسه على كوم من التمر، ليباشر بيده الشريفة وزن التمر وسداد الدين، طمأنة لجابر، وإغاظة لليهود، فيكثر التمر ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فيوفي اليهودي دينه من كوم واحد دون أن ينقص منه تمرة، ويقضي الله الدين عن أوليائه بفضله، ويحفظ عليهم أموالهم وحديقتهم كاملة بعدما ظنوا ألا سبيل ولا فرج، وبعدما كانت نفوسهم قابلة بسداد الدين ولو لو تبق بعده تمرة واحدة، ويختم جابر القصة بإرجاع الفضل والمنة لله وحده، مع الافتقار والتذلل والثناء قائلا: «أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي».
تطبيقا عمليا لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم
ونجد في الحديث تطبيقا عمليا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه»، فوصية والد جابر له ليلة استشهاده بقضاء دينه تعبر عن إرادته لأداء أموال الناس.
فوائد الحديث
حفل الحديث بعدد من الفوائد الفقهية نذكر منها ما يلي:
  • في الحديث أن قضاء دين الميت واجب على ورثته، ومقدم على حقوقهم في التركة.
  • جواز المعاملات المالية مع الكافر غير المحارب.
  • جواز طلب تأخير الدَّين وإنظار المدين برضا الدائن وبما لا يضره.
  • وفيه استحباب الشفاعة لأصحاب الديون والحاجات ولا سيما الضعفاء منهم؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم-: «اشفعوا تؤجروا».
ألفاظ الحديث
  • وسْقًا: هو وحدة حجم وليس وزنا وهو ستون صاعا، ويزن نحو 130 كجم، فجملة الدين نحو أربعة أطنان
  • جِدادُ النَّخْلِ: قطع ثمار النخل وحصادها.
  • نَسْتَنْظِرْ: نطلب تأخير سداد الدين ومنحه نَظِرة وهي المهلة.
  • الرِّطابِ: أحد مراحل النضج لثمر النخل قبل أن يصير تمرا.
  • فَبَيْدِرْ: أي اجعله في البيدر وهو مكان تجفيف التمر.
  • أُغْرُوا: ألحوا في المطالبة.



اعداد: الشيخ: محمد الباز





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 120.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 116.29 كيلو بايت... تم توفير 3.97 كيلو بايت...بمعدل (3.30%)]