|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#71
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (71) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). الفائدة الخامسة: دَلَّ قوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) على بُخْل اليهودِ الشديد، وحبِّهم الاستئثار بالمُلْك وبالمال، وهذه حقيقة يعلمها كلُّ مَن عامل اليهود. ولقد استحوذوا على الكراهية الشديدة في كلِّ الشعوب التي عاشوا فيها؛ فقد صَاغ الأدباء الأوروبيون القُدَامى بخلَ اليهود وعداوتهم للناس في رواياتهم، كالرواية المشهورة: "تاجر البندقية"؛ التي ألَّفها "شكسبير" الإنجليزي. وقد كانت الحويصلات التي عاشوا فيها؛ سببًا لانعزالهم المعنوي عن الناس، مع اهتمامهم البالغ بالمال، وأكلهم الربا أضعافًا مضاعفه، وأكلهم السحت، وهو: الحرام بأنواعه مِن الرشوة والغش، وبخس الناس أشياءهم؛ قال -تعالى-: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء: 161)، وقال -تعالى-: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة: 42)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75). وفي سبب نزول قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء: 60-61): أن الخصومةَ التي وقعتْ بين أحد المنافقين وبين يهودي، فطلب المنافقُ التحاكمَ إلى كعب بن الأشرف؛ عَلِم أنه يأخذ الرشوة، وطلب خصمه اليهودي التحاكم إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ عَلِم أنه لا يأكل الرشوة. (ذكره ابن جرير وابن كثير). ولذا نستفيد من هذه الآية الكريمة: أن اليهودَ إذا أخذوا شيئًا؛ فلن يعطوا منه نقيرًا؛ فضلًا عمَّا هو أكثر منه، والنقير هو: النُّقْرَة التي تكون في ظهر النواة، يخرج منها نبات النخلة، فمَن يحلمون بأن يعطيهم اليهود شيئًا بالسلام؛ مما أخذه اليهود مِن: الأرض أو البلاد، أو المال؛ فهم واهمون، ومخطئون أشد الخطأ، بل في الحقيقة هم مشاركون لليهود في ظلمهم وعدوانهم على المسلمين، والمفاوضات مع اليهود لا تُثمِر شيئًا؛ إلا إذا خرجوا منها رابحين، ولن ينسحبوا مِن أرضٍ أخذوها؛ إلا أن تُنزع منهم نزعًا، فهل بعد بيان الله لنا عن حقيقتهم مِن بيان؟! الفائدة السادسة: دَلَّ قوله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) على شِدَّة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عَبْر الزمان، وقد بيَّن اللهُ لنا في القرآن حرصهم، وحبهم لكفر المؤمنين وتركهم دين الإسلام؛ بسبب حسدهم لهم، فقال -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (آل عمران: 69). فالحسد الذي قَتَل قلوبهم، وملأها عن آخرها على المسلمين؛ بسببه كانوا مِن وراء دعوات الانحراف عن الدِّين، ومحاولات إضلال المسلمين، وقد كان عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ادَّعى الإسلام نفاقًا مِن وراء الثورة على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، والتي انتهت بقتله، ثم كان مِن وراء خطة إشعال القِتَال ليلة الجمل، بعد أن اتفق الصحابة رضي الله عنهم: علي وطلحة والزبير، وعائشة رضي الله عنهم، على الصلح والتسكين. قال ابن كثير رحمه الله: "قال: وأشرف القومُ (قلتُ: يعني الصحابة) على الصلح؛ كره ذلك مَن كرهه، ورضيه مَن رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي رضي الله عنهما تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبًا؛ فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأَنْ جَمَعَهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حَدَث هذا الحَدَث الذي جَرَى على الأمة؛ أقوام طلبوا الدنيا، وحسدوا مَن أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي مَنَّ الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ثم قال: ألا إني مرتحل غدًا؛ فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحدٌ أعان على قتل عثمان بشيءٍ مِن أمور الناس. فلما قال هذا اجتمع جماعة من رؤوسهم (قلتُ: يعني قتلة عثمان): كالْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى، وعبد الله بن سَبَأ المعروف: بابن السوداء (قلتُ: وكان يهوديًّا فأسلم)، وسالم بن ثعلبة، وَعِلْبَاء بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي. ولله الحمد. فقالوا: ما هذا الرأي؟! وعلي واللهِ أعلمُ بكتابِ الله ممَّن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدًا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم؛ فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟! فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا (قلتُ: يعني أنهم يريدون قتلهم)، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا؛ فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليًّا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت. فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا؛ فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم. فقال عِلْبَاء بن الهيثم: دعوهم، وارجعوا بنا حتى نتعلَّق ببعض البلاد، فنمتنع بها. فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذًا والله كان يتخطفكم الناس. ثم قال ابن السوداء -قَبَّحه الله-: يا قوم، إن عِزَّكُمْ في خُلْطَة الناس؛ فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس، ولا تدعوهم يجتمعون، فمَن أنتم معه لا يجد بدًّا مِن أي يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومَن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون؛ فأبْصَروا الرأي وتَفَرَّقوا عليه" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 10 / 450-452). ثم قال ابن كثير رحمه الله -بعد أن ذكر الصلح بين الصحابة رضي الله عنهم-: "وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون، وأجمعوا على أن يُثِيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم. وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلًا، وبيَّتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه، ولبسوا اللأمة، وركبوا الخيول، ولا يشعر أحدٌ منهم بما وَقَع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا، وقامت الحرب على سَاقٍ وقَدَمٍ، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 10/ 455). وإنا لله وإنا إليه راجعون. وأيضًا كان عبد الله بن سبأ هو أول مَن دعا إلى الغلو في علي رضي الله عنه؛ فادَّعى فيه الإلهية، وتَبِعه القومُ؛ فطلبه عليٌّ فهرب وأدرك أصحابه، فدعاهم إلى التوبة والرجوع إلى الإسلام؛ وإلا حَرَّقهم فأبوا حتى حرقهم علي رضي الله عنه، وخطَّأه ابن عباس في التحريق وصوَّبه في القتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) (رواه البخاري). ولا تزال بقايا الغلو في الرافضة في علي بن أبي طالب، حتى قال قائلهم: "علي جاعل الأرض مهادًا، وباني فوقكم سَبْعًا شدادًا، يدبرِّ الأفلاك!"، وكل ذلك من الكفر -والعياذ بالله-، واليهود هم أصل ذلك. كما أن اليهودَ هم أصل قول فرقة الجهمية الحلولية القائلين: "إن الله في كلِّ مكان!"، وأنكروا علوَّ الله على عرشه، فالجهم بن صفوان الذي تُنسَب إليه هذه الفرقة الضالة؛ شيخه الجعد بن درهم. قال ابن كثير رحمه الله: "كان الجعد بن درهم مِن أهل الشام، وهو مؤدِّب مروان الحمار؛ ولهذا يُقَال له: مروان الجعدي؛ فنُسِب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفون الذي تُنسَب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته؛ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 13/ 199). قلتُ: وهو الذي سَحَر النبي صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله عز وجل. ثم كان اليهود هم الذين خَرَج منهم أعظم الملاحدة ضررًا على البشرية، مثل: "كارل مركس"، ثم "لينين" الذي قَتَل من المسلمين في تكوين دولة الاتحاد السوفيتي نحو الـ 20 مليون مسلم، وكذا كان "فرويد" الذي هو أصل فلسفة الجنس، والانحرافات الجنسية الذي يُنسَب إليه عِلْم النَّفْس، ويبني أمره على الرغبات الجنسية المُحَرَّمة. فاليهود هم شرُّ مِن أفسد في العَالَم بكونهم يحبون الاستئثار بالمُلْك، ويستبيحون إضلالَ الناس؛ بأنواع الكفر والزندقة عَبْر الزمان.
__________________
|
#72
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (72) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). الفائدة السابعة: قوله تعالى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا): دليل على أن المُلْكَ في آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم عريقًا عَبْر الزمان، وأعظمه: ملك سليمان صلى الله عليه وسلم، الذي دعا ربَّه: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَ?ذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص: 35-39). وقد دل قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا) (متفق عليه)، على أن الله استجاب لسليمان، ولم يجعل لأحدٍ ملكًا كملكه؛ هذا من جهة النوعية: كتسخير الجن والريح، وإن كان لا يمنع ذلك أن يتسع ملك بعض الملوك، ومِن ذلك مُلك الأمة، إلى أوسع مما بلغه ملك سليمان في المشارق والمغارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ) (رواه مسلم). وذكر الله عز وجل إيتاء آل إبراهيم المُلكَ والحكمة، وإيتاءهم الملك العظيم في سياق الرد على حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، دليل على أمرين: الأول: أن اليهودَ منهم مَن كفر بالحق رغم الملك العظيم، ورغم ظهور أدلة النبوة التي هي أعظم الحكمة؛ فليس مستبعدًا بعد ذلك كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحسدهم له وللمؤمنين. الثاني: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فهو أهل أن يؤتى الملك، وأن تؤتاه أمته وأتباعه؛ خاصة أنه شرع صلى الله عليه وسلم أن الأئمة مِن قريش، كما ثبت به الحديث الصحيح، وقريش من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أبناء إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك في التوراة، كما سبق أن ذكرنا في هذه المقالات أن من ذرية إسماعيل اثني عشر رئيسًا، وقد وقع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك أمته وأصحابه؛ خاصة الخلفاء الراشدين والملوك العادلين، وكما أخبرت به التوراة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ) (متفق عليه). يعني: الخلافة. وفي رواية: (لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) (رواه مسلم)، وكلهم من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالتبعية. وفي الآية بشارة إلى أن الله يبقي الملك في آل إبراهيم، وهم مَن كان على ملته مِن أتباعه وذريته، وهذا لا يحصل إلا بأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم وحدهم الذين على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما ملك اليهود؛ فملك عارض سرعان ما يزول، كما يحدث في زماننا، فظلمهم وإجرامهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله من أعظم أسباب زوال ملكهم ومحقهم، كما قال الله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 140-141). وأعظم ملك لليهود يكون في زمن الدجال، وهو كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي، قال صلى الله عليه وسلم: (يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ) (رواه مسلم). والظاهر من الأحاديث: أنهم يملكون فلسطين، ويكون الدجال قرب القدس عند نزول المسيح صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يطلب المسيح الدجال فيدركه بباب لُدٍّ، وهي مِن قرى بيت المقدس، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب المِلْح في الماء، فلو تركه لذاب، ولكن يقتله ويريهم دمه في حربته، كما دَلَّ عليه حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم. ومدة لبث الدجال في الأرض وملك اليهود معه، وهو الذي ينتظرونه أشد انتظار، ويظنون أنه مسيح الحق وهم قد كفروا بالمسيح الحق مسيح الهدى صلى الله عليه وسلم، فهم ينتظرون مسيح الضلالة؛ ملكه لا يزيد عن أربعين يومًا، منها: يوم كسنة، ومنها: يوم كشهر، ومنها: يوم كجمعه، وسائر أيامه كأيامكم كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان. فملك اليهود زائل -بإذن الله- لا محالة؛ فلا تيأسوا أيها المسلمون، ولا تغتروا ببقاء ملكهم، فعن قريب يزول -بإذن الله-. الفائدة الثامنة: دَلَّ قوله تعالى: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? وَكَفَى? بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا): أن بني إسرائيل رغم ظهور علامات النبوة، وهي كما بيَّنا أعظم أقسام الحكمة، ورغم ظهور المُلك في آل إبراهيم؛ إلا أن منهم مَن كفروا وصدوا أنفسهم وصدوا الناس عن الإيمان بنبوة الأنبياء، بل كما قال الله عز وجل: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة: 87). فهكذا فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذَّبوه وحاربوه، وحاولوا قتله مرات كما في سبب غزوة بني النضير؛ إذ أرادوا إلقاء رحى عظيمة عليه صلى الله عليه وسلم، وهو جالس لديهم، وحاولوا قتله وأصحابه، واستئصال الإسلام والمسلمين في غزوة الأحزاب التي دبَّرها ومكر بها حيي بن أخطب القرظي، وأيضًا حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم بالسم يوم خيبر، ولا يزال بقاياهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم، ويصدون الناس عنه بأنواع الضلالات التي ينشرونها، ومنها: ما يزعمونه مِن الدِّين الإبراهيمي الجديد الذي هو دين الدجاجلة والكذابين! كما يحاولون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ فقد قتلوا الكثير منهم؛ هم يريدون بذلك إطفاء نور الوحي في الأمة، وأن تعم فيهم الخرافة والجهل، ويسأل الرؤوس الجهال فيضلون ويضلون. فهل بعد هذا البيان من الله عز وجل عن كفرهم وعداوتهم وحسدهم يمكن أن يقبل مسلمٌ صداقتهم أو التحالف معهم، ومناصرتهم؟! ولا شك أن التحالف مع أعداء الأمة لن يعود عليها إلا بالخسران والتمكين لأعدائها، وضياع حقوقهم وحقوق المسلمين في فلسطين وغيرها، وضياع الدعوة إلى الله عز وجل في كلِّ مكان يظهر فيه التحالف مع اليهود. نسأل الله أن يكفَّ شر أعداء الأمة عنها، وأن يحفظ عليها دينها، وأن يهدي أئمتها وقادتها لإقامة الدِّين وموالاة المؤمنين، وعدم موالاة الكافرين. آمين.
__________________
|
#73
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (73) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) (النساء: 123-126). النزاع قديم بين المشركين وأهل الكتاب وبين المسلمين -ولا يزال كذلك-؛ وكلٌّ يدَّعي أنه على الحق، وقد حَكَم الله لأهل الإسلام فبيَّن للمشركين وأهل الكتاب مِن اليهود والنصارى: أن أمانيَّهم بأنهم أهل الحق وأن دينهم هو الحق، لا ينبني عليها حكمٌ ولا قضاءٌ ولا جزاء، وإنما الدِّين عند الله الإسلام؛ فالإسلام هو الدِّين الحق الذي هو أحسن الأديان وأحقها، بل لا حَسَن مِن الأديان غيره، ولا حق سواه، ولا يَقْبَل اللهُ عز وجل من أحدٍ دينًا غيره، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، وقال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85). وهذا الدِّين هو اتباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي كان حنيفًا لله، أي: محبًّا له، مُخْلِصًا له، مريدًا له، مائلًا إليه بقلبه ووجهه وكل جوارحه، معرضًا عن غيره، متبرئًا مِن كلِّ ما يُعبَد من دون الله، ومِن كل مَن يعبد غير الله، متبرئًا مِن الشرك ومن المشركين أيًّا كانت ملتهم؛ ولذا اتخذه الله خليلًا، فمَن أراد الدِّين الإبراهيمي الحق؛ فليكن كذلك حنيفًا مسلمًا، وليتبرأ من المشركين من عُبَّاد الأوثان ومِن أهل الكتاب، وإن انتسبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإن الحنيفية هي ملته، وليس الأمر بالتمني ولا بالتحلي، ولا بالادِّعاء، ولا بمجرد الانتساب، بل بموافقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في عقيدته وعمله. قال الإمام بن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات من سورة النساء: "قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيُّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم؛ فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إلى قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) الآية، ثم أفلج الله حجة المسلمين على مَن ناوأهم مِن أهل الأديان. وكذا رُوي عن السدي ومسروق، والضحاك، وأبي صالح، وغيرهم، وكذا رَوَى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نَسَخ كلَّ كتاب، ونبينا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم فقال: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية، وخيَّر بين الأديان فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، (قلتُ: خَيَّر بين الأديان، أي: بيَّن خيرها وأحسنها واختارها للناس). وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب. وقالت اليهود والنصارى: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (البقر: 111)، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) (البقرة: 80). والمعنى في هذه الآية: أن الدِّينَ ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وَقَر بالقلب وصدقته الأعمال، وليس كل مَن ادَّعى شيئًا حَصَل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: "إنه هو المحق" سُمِع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8). وقد رُوي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثيرٍ من الصحابة، روى الإمام أحمد بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فكل سوء عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟! -(قلتُ: أي: الشدة والجهد سواء كانت بسبب الأمراض أو بسبب ضيق العيش أو الحاجة إلى الناس)-، قال: بلى. قال: "فهو ما تجزون به"، ورواه سعيد بن منصور بسنده، ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءا يُجزَ به في الدنيا". وقال أبو بكر بن مردويه: بسنده عن عبد الله بن عمر: انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا، ولا تمرُّن عليه. قال: فسها الغلام، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير، فقال: يغفر الله لك، ثلاثًا، أما والله ما علمتك إلا صوامًا قوامًا وصَّالًا للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها. قال: ثم التفت إليَّ فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به"، ورواه أبو بكر البزار، وروى في مسند ابن الزبير عن ابن بسطام، قال: كنت مع ابن عمر فمرَّ بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال: رحمك الله أبا خبيب، سمعت أباك -يعني الزبير- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءًا يجز به في الدنيا والأخرى"، ثم قال: لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه. وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عمر يحدِّث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، هل أقرئك آية نزلت عليَّ؟"، قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصامًا في ظهري حتى تمطأتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا أبا بكر؟"، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون، فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة". وهكذا رواه ثم قال: وموسى بن عبيدة يضعف، ومولى ابن سباع مجهول" (انتهى من تفسير ابن كثير). (قلتُ: وهذه الآثار ضعيفة الإسناد؛ إلا أن المعنى ثابتٌ من أدلة كثيرة في أن المصائب والآلام يكفَّر بها مِن سيئات العِبَاد). وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
|
#74
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (74) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) (النساء: 123-126). قال ابن جرير رحمه الله بسنده عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "لما نزلت -يعني قوله الله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)- قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصائب في الدنيا". طريق أخرى عن الصديق: قال ابن مردويه عن مسروق قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء". قال ابن جرير عن أبي بكر: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به؟! فقال: "يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة". حديث آخر: قال سعيد بن منصور عن عائشة: أن رجلًا تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: إنا لنجزى بكل عمل؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم، يجزى به المؤمن في الدنيا، في نفسه، في جسده، فيما يؤذيه". طريق أخرى رواها ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن، فقال: "ما هي يا عائشة؟" قالت: قلتُ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" رواه ابن جرير. طريق أخرى: روى أبو داود الطيالسي عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقالت: ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عائشة، هذه مبايعة الله للعبد، مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها، فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير". طريق أخرى: روى ابن مردويه عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفيظ عند الموت". -الفيظ: يقال فاظت وفاضت روحه لغتان، إذا خرجت روحه-. وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه". حديث آخر رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة؛ حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها" هكذا رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء. قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه". وقال عطاء بن يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن مِن نصب ولا وصب، ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر به من سيئاته" أخرجاه (البخاري ومسلم في صحيحهما). حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا؟ ما لنا بها؟ قال: "كفارات". قال أُبَيٌّ -يعني أُبَي بن كعب-: وإن قَلَّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها"، قال: فدعا أبي على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت (الوعك ارتفاع درجة الحرارة، أي: الحمى)، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره؛ حتى مات رضي الله عنه. تفرد به أحمد. حديث آخر: رواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)؟ قال: "نعم، ومَن يعمل حسنة يجزى بها عشرًا، فهلك مَن غلب واحدتُه عشرًا". وروى ابن جرير عن الحسن: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: الكافر، ثم قرأ: "وهل نجازي إلا الكفور"، وهكذا روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير: أنهما فسَّرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا. (قلتُ: الأحاديث السابقة الصحيحة تدل على فهم الصحابة رضي الله عنهم للآية على عمومها، وتأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكن ذَكَر تكفير السيئات بالمصائب؛ فدل ذلك على أن العبرةَ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإننا قد رجَّحنا أن الخطابَ في قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أنه خطاب للمشركين وأهل الكتاب، ولكن القاعدة الكلية العامة في قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) على عمومها كما بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنزاع كان بين المشركين وبين أهل الكتاب أيهم أحسن دينًا؛ ففلج الله حجة المسلمين بأن بيَّن أن أحسن الدِّين هو مَن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا، ومع ذلك بقي قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). وأما قول ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير والحسن أن ذلك هو الشرك فنعم؛ لأن الشركَ أعظم سيئة، وهي السيئة التي لا ينجو الإنسان إذا مات وهو عليها ولم يتب إلى الله عز وجل منها، فلا بد أن يجزى بهذه السيئة عذاب الخلود في النار، ولا يمنع من ذلك: أن السيئات دون الشرك داخلة في عموم الآية ويُجزَى بها المؤمن بالمصائب، وأما الكافر فيُمتَّع في الحياة الدنيا، فيلقى الله عز وجل ولم يُخَفَّف عنه شيء). قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه ابن أبي حاتم. والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال، لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم". وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 14-07-2024 الساعة 12:32 PM. |
#75
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (75) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) لما ذكر الجزاء على السيئات، وأنه لا بد أن يؤخَذ مستحقها مِن العبد؛ إما في الدنيا وهو الأجود له، وإما في الآخرة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة؛ شَرَع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده؛ ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو: الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير، وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، والثلاثة في القرآن. ثم قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي: أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانًا واحتسابًا، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون متابعًا للشريعة؛ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فَقَد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمتى فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراؤون الناس، ومَن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة؛ ولهذا قال تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدًا، أي: تاركًا له عن بصيرة، ومقبلًا على الحق بكلِّيته؛ لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه رادٌّ. وقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)؛ هذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدَى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرَّب به العبادُ له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)، قال كثيرون من السلف: أي: قام بجميع ما أُمِر به، ووفَّى كلَّ مقامٍ مِن مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة: 124)، الآية، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120)، الآية والآية بعدها. قال: وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قَدِم اليمن صلَّى الصبح بهم فقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم. وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما سمَّاه الله خليلًا؛ مِن أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْبٌ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل -وقال بعضهم: من أهل مصر- ليمتار طعاما لأهله من قِبَلِه، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب مِن أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره مِن الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: مِن الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فقال: نعم هو من خليلي الله، فسمَّاه الله بذلك خليلًا. قال: وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته: أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، (قلتُ: قد أحسن ابن كثير في ردِّ هذا الأثر واعتباره من الإسرائيليات). وإنما سُمِّي خليلُ الله؛ لشدة محبة لربه عز وجل لما قام له مِن الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: "أما بعد، أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله"، وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجبًا! إن الله اتخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله! وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلَّم موسى تكليمًا! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك؛ ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول مَن يحرِّك حِلَق الجنة فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر". قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. (قلتُ: أما لفظه: "وأنا حبيب الله ولا فخر"؛ فلا شاهد له مِن حديث صحيح، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع وأول مشفع" فثابت في الصحيح، وكذا: "أنه أول مَن يحرك حِلَق الجنة" فصحيح أيضًا، وأنه أكرم الأولين والآخرين ثبت في الصحيح كما في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة"). وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه (قلتُ: هو حديث صحيح، والرؤية المذكورة فيه هي رؤية بالقلب للرسول صلى الله عليه وسلم كما ثَبَت عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في المنام في أحسن صورة، والرؤية في المنام ليست رؤية بالعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه، فالرؤية في المنام رؤية بالقلب لا بالعين، ونقل الدارمي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بقلبه ولم يره بعينه). قال: وكذا رُوِي عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيِّف الناس فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبدٍ من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلًا. قال: مَن هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرِّق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبمَ اتخذني الله خليلًا؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم. وروى بسنده عن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع مِن بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء" (انتهى من تفسير ابن كثير). وهذه الآثار الأخيرة أيضًا من الإسرائيليات، فالله أعلم بها. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 14-07-2024 الساعة 12:33 PM. |
#76
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (76) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). في الآيات الكريمة فوائد: الأولى: ظَنُّ أهل كلِّ مِلَّة أنهم على الحق، وأنهم سيدخلون الجنة إن وُجِدت آخرة؛ لا يغني عن أصحابه شيئًا، فهي أماني الباطل، وليس الدِّين بالتمني ولا بالتحلي، والانتسِاب الباطل إلى الأنبياء، وإلى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم خصوصًا، ودعوى الدِّين الإبراهيمي الذي يتساوى فيه اليهود والنصارى والمسلمون، ولكن الإيمان والدِّين هو ما وَقَر في القلب وصَدَّقه العمل، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وَقَر في القلب وصَدَّقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حَسَنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى! وكَذَبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". الفائدة الثانية: وجود هذه الأماني الباطلة لدى المشركين وأهل الكتاب مِن أوضح الأدلة في الردِّ على مَن يزعم أن الكفرَ يلزم فيه المعاندة، بعد معرفة الحق في باطن الإنسان، وأن مَن أخطأ الاجتهادَ في أصلِ الدِّين ولو كَذَّب اللهَ وسولَه وأشرك بالله، بل ولو ألحد، لكن باجتهاده كان ناجيًا عند الله وإن كَذَّب الرُّسُلَ والكُتُب! كما يقوله طائفة مِن زنادقة زماننا؛ فيقولون بأن نسبية الحق مطلقة، بمعنى أن كلَّ إنسان يرى نفسه على الحق، فهذا هو الحق عنده، وعند غيره من الناس شيء آخر؛ فهو حق أيضًا! فالحق عندهم متعدد، والملل كلها صواب، وكلُّ مَن تمسَّك بكلِّ ما هو عليه كان ناجيًا داخلًا الجنة، وهذا المذهب في حقيقته كفر وتكذيب للقرآن وللرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية وغيرها ترد عليهم؛ فالمشركون وأهل الكتاب يمنون أنفسهم بالجنة، والمشركون وإن لم يؤمنوا بالآخرة فهم يمنون أنفسهم بأنهم أهل الحق، لا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكذَّبهم الله، فقال لهم ولأهل الكتاب: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) إلى قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: "وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد: مِن أنه عُني بقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)، مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن المسلمين لم يجرِ لأمانيهم ذكر فيما مَضَى مِن الآي قبل قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)، وإنما جَرَى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان المفروضِ، وذلك في قوله: (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلِآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) (النساء:119)، وقوله: (عِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) (النساء:120)، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) بما قد جَرَى ذِكْرُه قَبْلُ، أحقُّ وأولى مِن ادِّعاء تأويلٍ فيه (قلتُ: يعني أن ذلك في مجادلة بين المسلمين وأهل الكتاب) لا دلالةَ عليه مِن ظاهر التنـزيل، ولا أَثَرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذًا: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليُّكم عدوُّ الله مِن إنقاذكم ممَّن أرادكم بسوءٍ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله وبحلمه عنهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاءَ عمله، مَن يعمل منكم سوءًا، أو مِن غيركم (يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا). ومما يدلُّ أيضًا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) مشركو العرب، كما قال مجاهد: إن اللهَ وَصَف وَعْدَ الشيطانِ ما وَعَدَ أولياءهُ، وأخبَر بحال وَعْدِه، ثم أتبع ذلك بصفة وعدِه الصادق سبحانه بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)، وقد ذَكَر -جل ثناؤه- مع وصفِه وَعْدَ الشيطان أولياءه، وَتَمْنِيَتِهِ إياهم الأمانيّ بقوله: (يَعْدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ)، كما ذكر وَعْدَه إياهم؛ فالذي هو أشبهُ: أن يُتبعَ تمنيتَه إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عِدته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك، صَحَّ أن قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية، إنما هو خبرٌ مِن الله عن أماني أولياء الشيطان، وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم مِن سوء الجزاء، وما إليه صائرةٌ أعمال أولياء الله مِن حُسْن الجزاء، وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ لأن أماني الفريقين مِن تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يُمَنِّيهُمُوهَا بقوله: (وَلَأُضِلَنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ)". وقال رحمه الله في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا): "هذا قضاءٌ مِن الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلِها، يقول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) أيها الناس، وأصوبُ طريقًا، وأهدى سبيلًا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، يقول: ممَّن استسلم وجهُه لله؛ فانقاد له بالطاعة، مصدِّقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به مِن عند ربه" وهو محسن"، يعني: وهو عاملٌ بما أمره به ربه، محرِّم حرامه ومحلِّل حلاله، (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه مِن بعده وأوصاهم به، (حَنِيفًا) يعني: مستقيمًا على منهاجه وسبيله. وقال تعالى مبيِّنًا بطلان مذهب تعدد الحق لتعدد الأديان والملل: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت:19-23)، فقد ظنوا بربهم ظنًّا فاسدًا أهلكهم وهم يحسبون أنفسهم على الحق، وهم أعداء الله وهم يظنون أنفسهم أولياءه! وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف:103-105). قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "هم اليهود والنصارى؛ فأما اليهود فكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب" (رواه البخاري في صحيحه). فدلَّت الآيات على أن مَن ضَلَّ وهو يحسب أنه يحسن صُنْعًا بإعراضه عن آيات الله، وتكذيبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتقاده الفاسد في الآخرة؛ فهو أخسر الناس عملًا، ولا ينفعه ظنه أو تقليده أو اجتهاده في مخالفة رُسُل الله عز وجل، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب: 64-68)، فقد ضلوا بإضلال السادة والكبراء لهم؛ فلم ينفعهم تقليدهم، وظنهم أنهم على الحق. وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) (سبأ: 31-33) الآية؛ فقد دلَّت الآية على أن تقليدهم لكبارهم المستكبرين في الأرض لا ينفعهم، وظنهم الباطل لا يغني عنهم شيئًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، فدل هذا الحديث على أن بلوغَ خبرِ النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، ودعوته إلى التوحيد؛ كافٍ في قيام الحجة على اليهود والنصارى؛ فضلًا عن غيرهم. وكل هذه الأدلة تدل على أن الحق واحدٌ، وأن دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودين إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحسن مِن هذا الدِّين، ولا يقبل مِن أحدٍ غيره، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19). قال ابن قدامة رحمه الله في روضة الناظر -في الكلام على مسألة كلَّ مجتهدٍ مصيب، وزعم الزاعم: أن مخالفة ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن الحق؛ فهو معذور غير آثم، وهو مذهب الجاحظ-: "وأما الذي ذهب إليه الجاحظ؛ فباطل يقينًا، وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنا نعلم قطعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ اليهودَ والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلمُ أن المعاندَ العارفَ مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه" (انتهى من روضة الناظر). وهو يقصد أنهم لم يعرفوا ذلك؛ لأنهم أعرضوا عنه بعد أن بلغهم. ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص: 27)، وقال عز وجل: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة: 78)، أي: فلم ينفعهم ظنهم ذلك. وقال سبحانه وتعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (المجادلة: 18)؛ فدلَّت الآية الكريمة على أن حسبان المنافقين بحلفهم أنهم على شيء لم يجعلهم على شيء. وهذه القضية قضية مقطوع بها عند أهل الإسلام؛ في أن الدِّين واحدٌ، والحق واحد لا يتعدد؛ هو ما بُعِث به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 14-07-2024 الساعة 12:41 PM. |
#77
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (77) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (5) كتبه/ ياسر برهامي قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الكريمة: فهم الصحابة رضي الله عنهم لقول الله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على فهمهم العمومَ منه، مع توضيحه لهم: أن جزاءَ المؤمن على السيئات هو ما يصيبه في الدنيا مِن المرض والألم حتى الشوكة يشاكها كما سبقت بذلك الأحاديث التي ذكرناها في التفسير، مع أن سبب نزول هذه الآية: ادِّعاء أهل الكتاب والمشركين وتمنيهم أنهم الفائزون والناجون، وأنهم أهدى سبيلًا هو مِن أقوى الأدلة على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن هذه طريقة الصحابة في الفهم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فصارت مِن السُّنة. وبهذا انتفعوا بالآيات التي نزلت في الكفار، ومَن سبق مِن الأمم السابقة، وكذا كفار أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأنهم عَلِموا أنَّ ما ذمَّ اللهُ المشركين وأهل الكتاب عليه هو ذم لنا إذا ما فعلناه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة في تحذير الصحابة من طريقة أهل الكتاب، كما في قصة ذات أنوط، كما روى الترمذي وصححه، وصححه الألباني عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بشرك، فمررنا بسدرة يعكف المشركون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! قُلْتُم -وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنو إِسْرَائِيْلَ لِمُوْسَى: (اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأَعْرَاف:138)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)". وكما قال حذيفة رضي الله عنه لما قالوا له: إن قول الله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، أنها نزلت في بني إسرائيل، فقال لهم: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، أن تكون لكم كل حلوة، وتكون لهم كل مرة"، مستنكرًا علهم تخصيصهم الذم لبني إسرائيل وإن فعلوا مثل فعلهم! وهذه الطريقة مِن الفهم مِن أعظم ما ينتفع به العبدُ مِن كتاب الله؛ حتى لا يسقطَ النصوصَ على غيره رغم اختلاف حكم الإيمان عن الكفر؛ فيظن أن أوصافَ الكفار لا يُذمُّ عليها المسلمون إذا فعلوها! وهذا يقع فيه الكثيرون حيث يقولون: إن هذه الآيات نزلت في الكفار، أو في اليهود والنصارى وليست فينا، فيعمل مثل عملهم، وربما فعل الشرك والكفر كما فعلوا، مثلما يجوِّز البعض الآن دعاء الأموات من الأولياء أو مَن يظنهم أولياء، ويجوِّز طلب المدد منهم والتمسح بأضرحتهم؛ بزعم التبرك بأصحابها، والتوسل بهم، ويرد على مَن نَهَى عن ذلك بالآيات الصريحة بالنهي عن دعاء غير الله كقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5-6)، وقوله -تعالى-: (َلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 106-107)، وقوله -تعالى-: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 13-14)، وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء: 56-57). وغيرها مِن الآيات الكثيرة، القاطعة الدلالة على شرك مَن دعا غير الله؛ فيردون هذه الحجة الواضحة بقولهم: إن هذه الآيات نزلت في المشركين، وأنتم تحملونها على المسلمين، وأنه لا يوجد في المسلمين مَن يعتقد عقيدتهم! مع أن مَن تأمل أحوالَ الناس الذين يعظِّمون القبور ويطلبون المدد مِن أًصحابها، يعلم يقينًا: أن عقيدتهم كاعتقاد هؤلاء المشركين في أوثانهم التي ترمز عندهم إلى الملائكة التي اعتقدوا أنها بنات الله، وأنهم ما يطلبون ذلك إلا على سبيل الشفاعة، كمَن عبدها مِن دون الله -أو مع الله- ويزعم أنها تشفع لهم، قال الله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18)، وقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3). وكان المشركون يقولون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا هو لك، ملكته وما ملك"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن قولهم: "لبيك لا شريك لك لبيك. قد قد"، أي: اكتفوا بذلك؛ فصار هؤلاء اليوم يقولون: يستطيع الولي أن يخلقَ الجنينَ في بطن المرأة، وأن يهب طالب الولد ولدًا، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدبِّر الأكوان، وأن عليًّا يدبِّر الأفلاك، وأن الكون يدبره الأقطاب؛ يظنون أنهم إذا زادوا: "بإذن الله" أن ذلك يجزئ عنهم، مع أنهم كذبوا في ذلك الاعتقاد، وفعلوا مثلما فعل المشركون حين أرادوا أن يبرروا شركهم بأن يقولوا: "إلا شريكًا هو لك، ملكته وما ملك"؛ قال الله سبحانه وتعالى في الرد عليهم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى . إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى . أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى . فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى . وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (النجم: 19-26). وهذا كله يبيِّن: أن اعتقادَ مَن ينتسبون إلى الإسلام اليوم، بل إلى العِلْم والفتوى، مثل ما يعتقد المشركون في أوثانهم أنها على سبيل الشفاعة، وأنها مملوكة لله؛ فما دام أقرَّ بذلك جَاز أن يصرف لها: الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والحلف بها، وبعضهم يجوِّز ذلك بأنهم لا يستقلون بالفعل والتأثير، مع أن المشركين لم يقولوا ذلك، فصاروا شرًّا منهم، وذلك أن المشركين كانوا يقرون بأن مَن يدبر الأمر هو الله، قال الله -عز وجل-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس: 31). وبعضهم يدَّعي أن ذلك على سبيل المجاز العقلي، مع أن الناس لا تعرف المجاز ولا تقصده، بل يقولون: الأولياء يسمعون ويجيبون؛ نعوذ بالله، وكل ذلك بسبب عدم انتفاعهم بالقرآن، وعدم علمهم، وعدم عملهم بقاعدة: "العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"؛ التي عمل بها الصحابة، وفهموا بها القرآن؛ فانتفعوا بآياته. وإن كان لا بد لنا هنا مِن التنبيه على أن: الانتفاع بهذه القاعدة لا يَلْزَم منه التسوية بين المسلم والكافر، ولا بين الشرك وما دونه، كما يفعله كثيرٌ ممَّن يدَّعي التَّدَبُّر، ويسير على طريقة بعض المعاصرين الذين لم يتقِنوا العِلْمَ، وجعلوا يسقطون الآيات على الواقع دون إدراكِ الفَرْق بين الشرك وبين ما دونه، وبين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وبين كفر النوع وكفر المعيَّن، وبين الكفر بالعموم وبين تكفير نوع القائل أو الفاعل. وكذا مَن لا ينتبه إلى قضية استيفاء الشروط وانتفاء الموانع قَبْل تكفير المُعَيَّن، والتي نَبَع منها إنكار العذر بالجهل، وهو مِن أهم موانع التكفير في زماننا، وبالتالي: توسَّع في تكفير مجتمعات المسلمين، وكفَّر الملايين، بل مئات الملايين مِن المسلمين دون إقامة الحجة على مَن فعل الشرك منهم، وإزالة الشبهة فضلًا عمَّن لم يقع في الشرك، وإنما لم يَعْرِف حالَه؛ فوقع بسبب هذا: الخلل والاضطراب في مسائل الإيمان والكفر، والحق وسطٌ بين الفريقين، وعَدْل ونَصَف بين الطرفين.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 08:29 PM. |
#78
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (78) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الرابعة: دَلَّ قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) على شرط الإيمان في قبول العمل، وأن العمل لو كان صالحًا لا يقبل إلا مع الإيمان؛ فالشروط ثلاثة في قبول العمل: الأول: أن يكون صوابًا موافقًا للسنة. الثاني: أن يكون خالصًا لله. الثالث: أن يكون صاحبه مؤمنًا. وقد يظن البعض أن شرطَ الإخلاص هو شرط الإيمان، وليس كذلك؛ فقد يكون العمل صالحًا، مثل: بر الوالدين أو الإحسان إلى الفقراء كما يفعله كثيرٌ مِن المنصِّرين في إفريقيا، وغيرها، وقد يكون صاحبه يريد الثواب من الله لا يريد الرياء والسمعة، ولكنه ينتقِض عنده ركنٌ مِن أركان الإيمان كمَن قال: اتخذ الله ولدًا، أو اعتقد أن الأنبياء والملائكة أرباب، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 79-80). وكمَن يعتقدون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدبرُ الأكوان كما يقوله مَن يقوله مِن الصوفية الغلاة، أو مَن يعتقد أن عليًّا مدبر الأفلاك كما يقوله مَن يقوله مِن الشيعة، ولا يغني عنهم اعتقادهم أن هذا بإذن الله؛ فهذا قد قاله المشركون الذين كَفَّرهم الله عز وجل، وكَفَّرهم رسوله صلى الله عليه وسلم، حين قالوا في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إلا شريكًا هو لك، ملكته وما مَلَك"؛ فلم ينفعهم ذلك، ثم هذا مِن القول على الله بغير علمٍ، وافتراء الكذب على الله، قال الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33)، فجعل القول على الله بغير علمٍ بعد الشرك لشِدَّة غلظه؛ خاصة إذا كان ذلك متعلقًا بالله، وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، وقال عز وجل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (الأنعام: 21). وأما الاحتجاج بقوله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (النازعات: 5)؛ فإن تدبيرَ أمرٍ مِن الأمور بأمرٍ مِن الله تعالى لا يعني بحالٍ أن يكون مَن يفعل هذا يدبِّر الأكوان، فنحن ندبِّر أمور معاشنا وحياتنا، ونرتِّب مصالحنا، مع التوكل على الله تعالى؛ فهل يصح أن نقول عن أنفسنا: إننا ندبِّر الأكوان؟! فتدبير الملائكة لأمرٍ مِن الأمور لا يعني أنها تدبِّر الأكوان، فتدبير الأمر، أو تدبير الكون غير تدبير أمرٍ مِن الأمور، فالعموم في كلمة الأمر، والعموم في كلمة الأكوان، بتدبير الأمر فيها، لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس: 31)؛ فقد أقرَّ المشركون بأن الله عز وجل هو الذي يدبِّر الأمر أفيجوز لمسلمٍ أن يكون أسوأ اعتقادًا مِن المشركين الذين أشركوا في الإلهية بأن يعتقد أن غير الله يدبِّر الأمر، أفلا يتقون الله عز وجل في قولهم هذا الذي هو أفظع مِن الشرك الذي كان عليه المشركون؟! وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان وأركانه في حديث جبريل لما سأله عن الإيمان، فقال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (رواه مسلم)، فمَن فَقَد ركنًا مِن هذه الأركان بالكلية بحيث زال مِن أصله؛ فَقَد أصلَ الإيمان، فلا يُقبَل منه عمل صالح ولو كان خالصًا، فالإيمان بالله هو الإيمان به عز وجل ربًّا وإلهًا لا شريك له في ربوبيته ولا إلهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته؛ فإنكار وجود الله سبحانه كالملاحدة مهما عملوا من خيرٍ للبشرية وقدَّموا من أعمال انتفعت بها الإنسانية، يخلَّد صاحبه في النار ويحرمه الجنة. ومَن قال: اتخذ الله ولدًا لم يكن مؤمنًا بالله عز وجل، بل مشركًا؛ قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-31)، وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم: 88-95). وقال الله سبحانه وتعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، مع أن أهل الكتاب يقرون بوجود الله؛ فدلَّت الآية على أن الإيمان ليس مجرد الإقرار بوجود الله فحسب، بل بتوحيده بأنواع التوحيد؛ ولذا كان اليهود والنصارى غير مؤمنين إيمانًا مقبولًا عند الله عز وجل؛ بسبب ادِّعاء الصاحبة والولد لله عز وجل، وبسبب تكذيب كُتُب الله التي هي كلامه، وبسبب تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا عدم إيمانهم باليوم الآخر؛ لأنهم وإن أقروا بوجود اليوم الآخر إلا أنهم أنكروا مِن أنواع النعيم في الجنة، ومِن أنواع العذاب في النار ما وَرَد في كتاب الله عز وجل وكُتُبه المتقدِّمة، فكانوا كفارًا بذلك كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قوله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105)، فقال: هم اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب". وكذا مَن قال: إن الله عز وجل إنسانٌ بعينه فقد كَفَر، وحُرِّمَت عليه، الجنة وخُلِّد في النار؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72). وأشد شركًا وكفرًا مِن هؤلاء: القائلون بوحدة الوجود، وأن كلَّ البشر، وكل الحيوانات، وكل الجمادات، وكل شيء في الوجود، شيء واحد هو الله! كما قال ابن الفارض: وَإِنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ عَاكِفٌ … فَلَا تَعْدُ بِالْإِنْكَارِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الْمَجُوسُ وَمَا انْطَفَتْ … كَمَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مُذْ أَلْفِ حَجَّةِ فَمَا عَبَدُوا غَيْرِي وَمَا كَانَ قَصْدُهُمْ … سِوَايَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّةِ وَمَا عَقَدَ الزُّنَّارُ حُكْمًا سِوَى يَدِي … وَإِنْ حَلَّ بِالْإِقْرَارِ لِي فَهْيَ بَيْعَتِي وكما قال ابن عربي: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ ... فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبَانِ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ ... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ ... ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني ومَن كفر برسولٍ مِن الرسل أو مَلَك مِن الملائكة بتكذيب أو بغض، لم يَقْبَل الله منه عملًا، قال تعالى عن اليهود الذي قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 97-98)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 150-151). ومَن كَذَّب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أشد كفرًا مِن كل مَن كذَّب الرُّسُلَ قبل ذلك، ومَن كذَّب رسولًا واحدًا؛ فقد كذَّب بجميع الرسل، ومَن كفر بكتاب أنزله الله فقد كفر بجميع الكتب، وكفر بالله سبحانه وتعالى الذي تكلَّم بهذه الكتب، ومن كفر باليوم الآخر وأنكر شيئًا مما أتت به الرسلُ مِن المعلوم من الدِّين بالضرورة عما يكون في يوم القيامة، وما في الجنة وما في النار؛ لم يُقبَل منه عمل ولو كان صالحًا، ولو ابتغَى به وجهَ الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن ابن جدعان، وقد كان في الجاهلية يقري الضيف، ويعتق الرقاب هل ينفعه ذلك: (لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (رواه مسلم). وكذا مَن كذَّب بالقدر جملة أو تفصيلًا قد عُلِم من الدِّين بالضرورة، كمَن أنكر علمَ الله وكتابة المقادير، فقد كفر ولا يَقبَل الله منه عملًا، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، وكذا مَن كذَّب بمشيئة الله وقدرته وخلقه لأفعال العباد، لكن بعد أن تُقَام عليه الحجة؛ لوجود الشبهات عندهم في ذلك. وبالجملة: فمَن كَذَّب أيًّا مِن هذه الأركان الستة التي أخبر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمنًا، ولا يقبل الله منه عملًا، ولا صرفاً ولا عدلًا، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 08:27 PM. |
#79
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (79) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (7) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الخامسة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)، على أن مسئولية التكليف مشتركة بين الذكور والإناث؛ فكلٌّ منهم مسئولٌ عن فعل الصالحات وترك المنكرات، مع الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره، وهذا بخلاف النظرة المنحرفة للمرأة التي انتشرت قبل الإسلام وجاء الإسلام بهدمها، وقد انتشرتْ في جميع الديانات حتى المنسوبة إلى الأنبياء بسبب التحريف؛ فضلًا عن الديانات الأرضية، والحضارات البشرية، فالبعض يراها شيطانًا كما نَصَّت بعضُ مجامع النصارى على ذلك، والبعض يراها أداة للمتعة: كالحضارات اليونانية، والرومانية، كما تشهد بذلك تماثيلهم ورسومهم وآثارهم، وهذا الفكر هو الذي وَرِثَه الغربُ عنهم حتى لو تشدَّقُوا بحقوق المرأة! فلا تزال المرأة -عندهم- سلعة مجانية فوق كلِّ السلع في كلِّ ترويج وتسويق؛ حتى زجاجة المشروب الغازي، حتى كيس البطاطس المقلية؛ فضلًا عن المساكن وفيلات القُرى السياحية والسواحل البحرية، والسيارات، وغيرها. والحقيقة: أنهم برفع شعارات المساواة المطلقة دون قيدٍ، ووضع قواعد تخريب الأسرى وهدمها، ونشر ثقافة النِّدِيَّة التي تخالف الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها وتخالف الشريعة التي بيَّنها اللهُ بعدله؛ يضرون المرأةَ أعظم الضرر، ويخدعونها؛ لتقع في فخ الفتنة، وشَرَك الشِّرْك والضلال. وقد بَيَّن سبحانه وتعالى أن الرجالَ قوامون على النساء، فقال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34)، فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل، وليس علاقة تنافس وندية، وعلاقة سكينة لا قلق واضطراب، ونزاع مستمر يهدم البيت والمجتمع، وعلاقة مودة لا بغضاء وكراهية، وعلاقة رحمة لا عذاب، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21). وأول مَن أظهر ما هُدِم مِن شرائع الله السابقة في حقِّ الإناث هو الإسلام، وأول مَن رَدَّ للمرأة اعتبارها بأنها إنسان مكلَّفة لها الثواب إن أحسنت، وعليها العقاب إن أساءت، فهي مقصودة بتحقيق غاية البشرية في الأرض، وهي عبادة الله وحد لا شريك له، فشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي التي أقامت للمرأة حقها واعتبارها. ولا شك أن اختلافَ بعضِ التشريعات بين الرجل والمرأة؛ كلٌّ حسب طبيعته التي خلقها اللهُ فيها هو العدل، وليس العدل هو المساواة؛ فالحيض، والحمل والولادة، والرضاعة والحضانة، والتربية في سنوات الصغر الأولى، أولى بها الأنثى، والكد والسعي في الأرض، ومكابدة ومباشرة الأعمال الشاقة، وطلب الرزق والنفقة، وكذا القتال؛ أولى بالرجال حسب قدرتهم وطبيعتهم؛ فاحذروا الأفكار النسوية الغربية المدمِّرة للمرأة وللمجتمع كله، والتي تروِّج ظلم الإسلام للمرأة، وتحاول الالتفات على التشريعات الربانية العادلة باسم: المساواة؛ فهي والله تضر المرأة أضعاف أضعاف ما يظنون أنها تنفعها. الفائدة السادسة: دل قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) على إقامة الحجة لأهل الإسلام على أهل الكتاب والمشركين الظانين بمجرد الادِّعاء أنهم الأحسن والأفضل، فَنَصَر اللهُ حجةَ أهلِ الإسلام وبيَّن أن دِينَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو الإسلام الذي بُعِثَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك، وملة إبراهيم واجبة الاتِّباع على كلِّ أحدٍ. واتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم واجبٌ على كلِّ مَن بلغته دعوتُه مِن الإنس والجن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال الله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19)، فكلُّ مَن بلغه القرآنُ؛ فهو منذر، وواجب عليه الإيمان به واتباعه، فانحصر الدِّين الإبراهيمي الحق في دِين محمدٍ صلى الله عليه وسلم واتِّباع النور الذي أُنزِل معه، ومَن تأمل هذه الآية الكريمة وجدها تهدم فكرة الدين الإبراهيمي الجديد المزعوم، الباطل الذي أسسه اليهود؛ لاستغلال جهل الناس بحقيقة التوحيد والإيمان بالرسل؛ ولذا كانت أهم معالم هذا الدِّين المزعوم: اعتماد الصوفية العالمية كوسيلةٍ لحلِّ الخلافات بين الأديان؛ لأنها بنوعيها الغالية في الأنبياء والأولياء، والاعتقاد فيهم أنهم يدبِّرون الكون، بل الأكوان! وأنهم يخلقون ويرزقون، وإن أضافوا إلى ذلك: بإذن الله! وأنهم يستجيبون الدعاء على الغيب، وأن أسماعهم وأبصارهم وقدراتهم وَسِعَت العالَم، وكل هذا مِن الغلو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ) (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني). والنوع الثاني هو: الصوفية الفلسفية القائمة على وحدة الوجود ووحدة الأديان، كما روَّج لها قديمًا: الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وغيرهم؛ فكلاهما -أي: كلا النوعين- يهدم التوحيد والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا عجب أن يعتمدها الدِّين الإبراهيمي الجديد، وكذا اعتماد الرقص للتقريب بين الأديان؛ لأنه الذي يغيِّب العقل ويبعده عن الدليل، وكذا يعتمدون نشر ما يسمونه القِيَم المشتركة بين الأديان مع السكوت عن العقائد الفارقة بينها التي أنزلها الله في كتابه، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 4)، وهو سبحانه يمتن بالفرقان على مَن آمن واتَّقى؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29). نسأل اللهُ أن يجعلَ لنا الفرقان، وأن يهدمَ هذا الدِّين الخَبِيث الذي إبراهيم عليه السلام بريء منه، وكذا كل الأنبياء: موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا دين يُتَّبَع إلا دين إبراهيم الحق، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 08:27 PM. |
#80
|
||||
|
||||
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (80) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125). الفائدة السابعة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، والخلة هي المحبة العظيمة الخالصة، وهي أخص مِن المحبة المطلقة، والله يحب المتقين، ويحب المؤمنين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب الذين يحبونه؛ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائِم، ويحب مَن أدَّى الفرائض وهو مؤمن متَّقٍ، ثم واظب على النوافل حتى يصل إلى درجة المحبوبية الخاصة بأوليائه الذين مَن عاداهم فقد آذنه الله بالحرب، وهم الذين آمنوا وكانوا يتقون. أما الخُلَّة فهي: محبة خالصة كاملة مِن كلِّ وجه خاصة قد جعلها الله لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولنبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته قبل أن يموت بخمس: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) (رواه مسلم). وفي الصحيح في حديث الشفاعة الطويل في الإراحة مِن هول الموقف، وفي استفتاح باب الجنة فيقول آدم: (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ يعني أن خلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربِّه أقرب وأعظم من خلته هو، وكل هذه الروايات تدل على إثبات صفة الخلة لله سبحانه؛ فهو الذي اتخذ إبراهيم خليلًا، وليس فقط أن إبراهيم اتخذه خليلًا فتكون مِن صفة العبد، بل هي من صفة الرب -عز وجل-. وكما ذكرنا أنها المحبة الخاصة الخالصة، ولم يرد تأويل الخلة ولا المحبة بالإرادة كما يقوله متأخرو الأشاعرة المؤولون للصفات غير الصفات السبعة الثابتة عندهم بطريق العقل؛ لأنهم سَلَكوا طريقة التأويل التي تؤدي إلى التعطيل. ولقد سمع الصحابة -رضي الله عنهم- من الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات وهذه الأحاديث، ولم يقولوا له قط: هل تجوز الخلة على الله وهي صفة نقص؟! أو كيف يتخذ الله إنسان خليلًا وهذا يقتضي التشبيه؛ لأن الخلة هي المحبة التي تتخلل شغاف القلب؛ فهذا يستلزم التشبيه والتجسيم؟! ولا قالوا له مرة واحدة: إنها تستلزم التجسيم، ولا هي ولا غيرها، وهو محال على الله، وإننا لو قلنا ذلك؛ لكنا حشوة مجسِّمة كفارًا؟! ولا قالوا: كيف نثبِت لله سبحانه صفات وأفعال غير الصفات السبع التي يقبلها العقل دون غيرها -وهي: الحياة، والعلم، والقدرة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام-؟! ولا نشك أن كلَّ أشعري يقول بهذا الكلام المنكر، والمعتزلة والجهمية قبلهم يوقنون: أن هذا لم يقع من الصحابة، بل يجزمون أن الصحابة ما خاضوا بهذه الطريقة، ولا بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الصفة -الخلة وكذا المحبة- تقتضي النقص أو التشبيه أو التجسيم، ويجب نفيها أو تأويلها إلى أحد الصفات السبعة، لا والله ما حدث ذلك قط! ومَن قالوا بذلك لا ينسبون كلامهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا إلى أحدٍ مِن أصحابه، ولا إلى التابعين، ولا أئمة تابعيهم، وإنما ينسبون ذلك الكلام إلى الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء، وبشر المريسي أئمة الجهمية والمعتزلة، وكفى بهذا حجة في إبطال هذا المذهب المنحرف عن طريقة القرون الثلاثة الخيرية، وليحذروا من أن يحشروا مع هؤلاء المبتدعين؛ فإن المرء مع مَن أحب، كما قد تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا علمنا أن حقيقة هذه المذاهب المبنية على عِلْم الكلام المعدَّل من الفلسفة؛ إنما صنعه واخترعه فلاسفة اليونان، ومناطقة الوثنيون الكفار؛ علمنا أنه لا يجوز لمسلمٍ أن يقبله، ولا أن يتبعه؛ فضلًا أن يوالي ويعادي عليه، ويزعم أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة دون السلف الصالح مِن الصحابة ومَن تبعهم. ولقد فهم الصحابة هذه النصوص بمعانيها في اللغة اللائقة بالله -عز وجل-، وعلموا يقينًا أن كيفيتها في حقه سبحانه ليس ككيفيتها في حقِّ المخلوقين؛ لعلمهم بقوله -تعالى-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)، وقوله -عز وجل-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: 1-4). فالحقيقة التي هي الكيفية على التفصيل لا يعلمها إلا الله الذي هو أعلم بنفسه، وأعلم بغيره، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق به، وهو لم يتكلَّم على كيفية، ولم ينفِ المعنى قط، ولم يقل: هذه حروف كالكلام الأعجمي إياكم أن تفهموا له معنى خلاف معناه اللغوي العربي الذي لا يحتاج إلى تعريفات وحدود، وهي التي أدَّت إلى اعتقاد التشبيه على نصوص الكتاب والسُّنة، حتى قال قائلهم: إن الأخذَ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من أصول الكفر! نعوذ بالله من الخذلان، بل يجب أن يُقال في هذه النصوص المُثبِتَة للخلة والمحبة وغيرها: الخلة والمحبة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة. وتأمل عجيب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس، وهو من أدلة نبوته ومعجزاته؛ إذ أخبر بما يقع بعده محذِّرًا أمته من هذه البدع -وقد رواه مسلم في صحيحه-. وهو قد حَذَّر الأمةَ مِن أكثر ثلاث فِرَق تنتشِر ضلالاتها في الأمة مِن بعده -صلى الله عليه وسلم-، وهي: - الرافضة الذين يبغضون أبا بكر ويكفِّرونه، وقد بيَّن فضله فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ) (رواه البخاري). - وكذلك رَدَّ على الفرقة الثانية المعطِّلة الذين ينفون الصفات والأفعال الإلهية: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). - وأما الفرقة الثالثة: فهم غلاة الصوفية الذين يتخذون قبورَ الأنبياء والصالحين مساجد اتِّباعًا لأهل الكتاب، بل ويتقرَّبون بذلك إلى الله، عكس ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما يعلم -صلى الله عليه وسلم- مِن خطر الغلو الذي يؤدي إلى اعتقاد ربوبيتهم، بل وإلهيتهم بصرف العبادة لهم، مع علم هؤلاء الغلاة: أن مِن هؤلاء المقبورين مَن كان لا يصلي الجمعة، ولا الجماعة، بل ولا يصلي أصلًا؛ مع بقائه على ولايته ووقوعه في الفناء واتحاده بذات الرب، وأنه قد سقط عنه التكليف، ويسمون ذلك جنون الروح، بل يجعلون ارتكاب المنكرات من الكرامات كبيع الحشيش على باب المسجد "الأزهر"، وفعل الفاحشة أمام تلامذته حتى تركوه إلا واحدًا أعدَّ له ماء الغسل! نعوذ بالله. بل يجوزون ادِّعاء الألوهية منهم، ويقولون: لا يجوز الإنكار عليهم؛ لأنهم في مقام النحو، فيجوزون أن يقول الولي: سبحاني سبحاني، ما أعظم شأني! بل ويرون الحلاج الذي ادَّعى الحلول، وقُتِل على الزندقة والردة -بإجماع علماء زمانه- قد قُتِل بلسان الشرع، لكنه محمود بلسان الحق! وكأن الشرع قد جاء بغير الحق، وهذا قول يخرج صاحبه من الملة، ومخالف للمعلوم من الدِّين بالضرورة: مِن أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد جاء بالحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء: 170)، وهذا على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين في الظاهر والباطن وفي الحقيقة والشريعة، وليس في الدِّين باطل يخالِف الظاهر، ولا حقيقة تخالف الشريعة، بل الحق كله قد جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حقيقة وشريعة، ومَن أعرض عمَّا جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تُرهات وخزعبلات الزنادقة من الصوفية الحلولية والاتحادية؛ فهو لاحقٌ بهم. نعوذ بالله مِن حالهم، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-07-2024 الساعة 08:26 PM. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |