الحج: دروس وعبر - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         منهاج السنة النبوية ( لابن تيمية الحراني )**** متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 150 - عددالزوار : 66242 )           »          مَحْظوراتِ الْإِحْرامِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 27 )           »          اغتنام وقت السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الملل آفة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 25 )           »          الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          عظمة الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          في انتظار الفرج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان شهر الرحمات وشهر البطولات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          المرأة في أوروبا القديمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          فقه بناء الأمم والحضارات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-06-2023, 05:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,469
الدولة : Egypt
افتراضي الحج: دروس وعبر

الحج: دروس وعبر
الشيخ محمد عبدالتواب سويدان

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أنْ جعلْتَنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أيها المسلمون:
فيقول الله في محكم آياته: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وقال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والحَجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيان الفقرَ والذنوب، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد، والذهب والفضة))، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ هذا البيت، فلم يرفُث ولم يفسُق، خرج من ذنوبه كيوم ولدتْهُ أمُّه)).

إخوة الإسلام، الحج عبادة عظيمة، شرعها الله لعباده المؤمنين؛ وذلك لِما فيها من المنافع العظيمة، وما تهدف إليه من المقاصد الجليلة، ولِما يترتب عليها من خير في الدنيا والآخرة، والحج فريضة على جميع المكلفين في أقطار الدنيا؛ رجالًا ونساءً، إذا استطاعوا إليه سبيلًا، وهنالك العديد من الدروس والعِبر المستفادة من هذا الركن العظيم، ومن أبرز تلك الدروس والعِبر المستفادة من الحج ما يلي:
أولًا: الحج يُذكِّر الأمة بيوم القيامة: ولكن كيف يذكرنا الحج بيوم الحساب؟ كنت أستغرِب عند قراءة أول سورة الحج؛ حيث يقول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]، فالقرآن ليس فيه شيءٌ عشوائيٌّ أبدًا، كل كلمة فيه لها معنًى؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

فكنت أتعجب وأقول: لماذا الله سبحانه وتعالى يبدأ سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة، بدلًا من التذكير بأهمية الحج؟ وما العلاقة بين الحج ويوم القيامة؟ وبعد تدبُّرٍ وتأمُّلٍ، وجدت أن هناك تشابهًا عجيبًا بين الحج واليوم الآخر؛ فالحاج يخرج مودِّعًا أهله، وهذا يذكِّر بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا، فيتذكر الحاج ويتذكر الناس جميعًا أن هناك يومًا سيخرج الناس لتوديعه، لكن من غير عودة، ويتطيب الحاج قبل لُبْسِ الإحرام، وكذلك يتم تطييب الميت بالطيب عندما يُلَفُّ بالكفن؛ إيذانًا بانتهاء حياته، وبدء آخرته، بل إن ملابس الحج بالنسبة للرجال تُذكِّر الناس جميعًا بيوم القيامة؛ فلباس الحج يكون فيه عري نسبي للرجال، فأنت تكشف كتفك في الحج؛ لكي يذكرك بالعري الكامل يوم القيامة، ولكي تتذكر الصورة التي ستكون عليها يوم الحساب؛ روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحشَر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلًا، قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعًا، ينظر بعضهم إلى بعض، قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، الأمر أشدُّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض)).

وبعد أن تذهب إلى الحج تعيش في جوٍّ أشبه ما يكون بيوم القيامة، فالناس جميعًا في الحج وُقُوفٌ، وفي زحام شديد، وكلهم واقفون في مكان واحد، في عرفة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))؛ [أخرجه أحمد، وأبو داود].

وكذلك يُحشَر الناس في مكان واحد يوم القيامة إذ ينادي عليهم المنادي: هلموا إلى ربكم، فيقوم كل الناس لرب العالمين؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]، فكل الناس وقوفٌ في الحج، وكل الناس وقوف يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].

ويحج الناس ورؤوسهم غير مغطاة تحت أشعة الشمس، ويوم القيامة تدنو الشمس من بني آدم، ليس عليهم ما يحميهم من حرها، والناس في الحج في حرٍّ وعرق شديدين، وكذلك يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا؛ جاء في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويُلْجِمهم حتى يبلغ آذانهم))، يا لطيف، يا رب سلِّم، والأمر لا يقتصر على ساعة أو ساعتين، بل إن الأمر شاق، والسفر طويل، كما أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يتفرغ لها المسلم أيامًا متتالية، وكذلك يوم القيامة يوم طويل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 10]، ففي بعض التفسيرات أن اليوم القمطرير: هو اليوم الطويل؛ قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: مائة سنة، وقال كعب: بل ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم: خمسون ألف سنة؛ فالمؤكد أنه يوم طويل عسير، يحتاج إلى استعداد واهتمام وترتيب.

وهناك أشياء أخرى كثيرة في الحج تذكِّرك بيوم القيامة، فالسعي بين الصفا والمروة يذكرك بالسعي يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج: 43]، فالناس يوم القيامة يذهبون إلى الأنبياء، ويسألونهم أن يشفعوا لهم في أن يحاسب الله الناس، إما إلى جنة وإما إلى نار، وأنت حين تذهب وترجع في الصفا والمروة تتذكر يوم القيامة الذي ستذهب فيه وتعود.

أيها المسلمون: الآن بعدما رأينا الشبه الكبير جدًّا بين الحج وبين يوم القيامة، فالحج يمر بأكثر من موقف يذكِّر بيوم القيامة، لا بد أن نقول: يا تُرى لو أن الأمة تذكَّرت يوم القيامة بالصورة هذه، سيصير حالها بأي صورة، وسيصير وضعها بأي شكل؟ فإن معظم الفساد والمعاصي والضلال الذي يحصل في الأرض؛ يحصل لأن الناس نسَوا أن هناك يومًا اسمه يوم القيامة، أو أن هناك يومًا اسمه يوم الحساب، سيُحاسَب فيه كل واحد على كل عمل عمله في الدنيا، منذ أول لحظة من لحظات التكليف إلى لحظة الموت؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [ص: 26]، لماذا؟ ما هو سبب الضلال؟ ﴿ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].

فنسيان يوم الحساب كارثة ومصيبة، ولو أن الناس تذكَّروه لحلُّوا كل مشاكل الأرض؛ لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أول يوم نادى فيه بدعوته في مكة، ذكَّر بهذا اليوم؛ قال: ((والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبُنَّ على ما تعملون، وإنها لجنة أبدًا، أو نار أبدًا)).

فبالله عليك لو كنت تتذكر يوم الحساب فعلًا، هل سيصير حالك هو حالك المعهود، أو أنك ستعيد النظر في ألف موقف مرَّ بك؟ فلو أن واحدًا تذكر أنه سيُحاسَب، هل سيرتشي؟ هل سيظلم؟ هل سيسرق؟ هل سيختلس؟ هل سيعُقُّ والديه؟ هل سيتعدى على حقوق زوجته أو أولاده، أو جيرانه أو أصحابه، أو حتى الناس الذين لا يعرفهم؟ لا أعتقد أنه سيفعل ذلك إذا كان عنده يقين بيوم الحساب، فصلاحُ الأرض في تذكُّرِ يوم الحساب؛ فالحج تذكرة علنية واضحة، صريحة قوية لكل المسلمين أن هناك يومًا سنرجع فيه إلى الله، وكأن الحج يقول: استيقظ يا مسلم، استيقظ يا مؤمن، لا توجد لحظة في حياتك إلا وهي تسجَّل: ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].

ثانيًا: الحج يُربِّي فينا تحقيق الانقياد للشرع المطهر واتباعه: فكثير من أفعال الحج غير مفهومة المعنى؛ كالطواف والسعي وأعدادهما، والرمي وعدده وتكرره، وتقبيل الحجر، والوقوف بعرفة، والمبيت بمُزْدَلِفَةَ ومِنًى، ومع ذلك تُفعَل؛ اتباعًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير؛ يقول الله: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، ويقول تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].

وفي مسند أحمد أن جابرًا يقول: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النَّحر، يقول لنا: خذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي ألَّا أحج بعد حجتي هذه))، وهو خطاب لجميع الأمة، وقد وعى الصحابة هذا الدرس، وطبقوه في حياتهم كلها؛ فهذا عمر بن الخطاب يتابع النبي في كل شيء، حتى إنه لما أتى إلى الحجر الأسود قبَّله، كما قبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إني لَأعلمُ أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي يقبلك ما قبلتك"؛ [رواه البخاري].

وعبدالله بن عمر تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وفعل كما فعل، ولما استلم الحجر الأسود أكَّد اتباعه للسنة بقوله: "اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، واتباعًا لسنة نبيك"؛ [الطبراني في الأوسط].

فمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة، ومخالفته فتنة، فقد رُويَ أن رجلًا جاء إلى الإمام مالك بن أنس، فقال له: "يا أبا عبدالله، من أين أُحْرِم؟ قال: من ذي الحُلَيْفَةِ، من حيث أحرم رسول الله، قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة، قصَرَ عنها رسول الله؟ إني سمعت الله يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]".

فللإخلاص والمتابعة أهمية عظيمة؛ فقبول الأعمال الصالحة وردُّها متوقف عليهما، فإذا وُجِدا قُبِلت، وإذا فقدا - كلاهما، أو أحدهما - رُدَّت؛ لقوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى فَقَدَ العمل واحدًا من هذين الشرطين، حبِط وبطل".

وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2] قال: "أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة".

ثالثًا: التذكير بالحرب الدائمة مع الشيطان عند رمي الجمرات:
أيها المسلمون: وفي الحج تذكير للمؤمنين بعدوهم القديم والأكبر، الذي يعد لهم كل يوم ألف عدة، ويغفُل عنه كثير من المسلمين؛ هذا العدو الذي حذرنا الله منه ومن خطواته في كتابه؛ فقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [النور: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].

هذا العدو يأتي إلى الجاهل بالدين الذي لا يعرف الخير من الشر، ولا السنة من البدعة؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104].

ويأتي إلى أهل الباطل وأهل المعصية، فيزيِّنها ويهوِّنها، ويلمعها، حتى يستمرِئَها القلب ويعتادها، ويتلذذ بها، وربما دافع عنها ودعا إليها؛ ﴿ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39].

ويأتي إلى المتكبر، والمتكبر لا يقبل الحق، ولا يقبل النصح، ويتمادى في غيِّه، ويتيه في ضلالته، حتى يفجَأَهُ الموت، وهو على المعصية.

ويأتي إلى الغضبان، فيتحكم في عقله وعصبه، وسمعه وبصره؛ في الحديث ((أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب))؛ [صحيح البخاري].

ويأتي إلى البخيل يعِد ويخوِّف من الفقر؛ حتى لا ينفق الإنسان، ويبسط يده في سبيل الله على أهله وذي الحاجة؛ قال الله عنه: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].

وفي النهاية يتبرأ الشيطان من أتباعه: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [الحشر: 16، 17].

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22]، فاستعيذوا بالله من الشيطان، وكونوا منه على حذر؛ حتى لا يُفسِدَ عليكم دينكم، حافظوا على ذكر الله؛ أذكار الصباح، وأذكار المساء، وتلاوة القرآن؛ حتى لا يُفسِدَ عليكم أنفسكم وبيوتكم ودنياكم، نسأل الله عز وجل أن ينصرنا عليه في كل الميادين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد أيها المسلمون:
فمع أبرز الدروس والعبر المستفادة من الحج نقول:
رابعًا: الحج يذكرنا بالمساواة بين طوائف المسلمين المختلفة، معنًى في منتهى الروعة؛ فالكل سواسية كأسنان المشط، الغني بجوار الفقير، والحاكم بجوار المحكوم، والكبير بجوار الصغير، فالجميع قد طرح الملابس، وظهروا في زي واحد، الغني والفقير، والقوي والضعيف، في وحدة تامة في الشعائر والهدف، والعمل والقول، لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، لا اختلاف في الهيئة الخارجية، ولا في المناسك، ولا في المكان، ولا في الزمان، الناس سواسية، تختفي الفوارق بينهم؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناس بنو آدم، وآدم من تراب))؛ [أخرجه أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، ألَا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألَا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسودَ، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلَّغتُ؟ قالوا: بلغ رسول الله))؛ [أخرجه أحمد].

حين ترى هذا المنظر، وترى بشكل واضح التعاون والتآلف والمحبة في أروع صورها، فيرتسم في مخيلة كل مسلم ومسلمة حديثُ نبينا الكريم، الذي حفِظه الجميع؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))؛ [رواه مسلم].

أيها المسلمون، وأخيرًا: سفر الدنيا يُقطَع بسير الأبدان، وسفر الآخرة يُقطَع بسير القلوب مع الأبدان، وليس الشأن أن تقوم الليل صافًّا قدميك، ثم تصبح مع الركب، لكن الشأن كل الشأن أن تبيت في فراشك، ثم تصبح وقد سبقت الركب.

عباد الله: من فاته في هذا العام القيامُ بعرفةَ، فليقم لله بحقه الذي عَرَفَهُ.
من عجز عن المبيت بمزدلفة، فلْيَبِتْ عزمه على طاعة الله، وقد قربه وأزلفه.
من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم لله بحق الرجاء والخوف.
من لم يقدر على نحر هديه بمنًى، فليذبح هواه هنا، وقد بلغ الْمُنى.
من لم يصلِّ إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت، فإنه أقرب إلى من دعاه مِن حبل الوريد.
من لم يُنِبْ في هذا اليوم، فمتى ينيب؟ ومن لم يُجِب في هذا الوقت، فمتى يجيب؟
ومن لم يتعرف بالتوبة، فهو غريب، يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي.

يا عزائم الناسكين لجمع أنساك السالكين اجمعي، يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا والمروة اسعي وأسْرِعي، وفى عرفات الغُرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي، ثم إلى منًى نَيل المنى فارجعي، فإذا قُرِّب القرابين فقرِّبى الأرواح ولا تمنعي.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وأقم الصلاة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 58.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 57.20 كيلو بايت... تم توفير 1.52 كيلو بايت...بمعدل (2.59%)]