فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 9 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4949 - عددالزوار : 2053154 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4525 - عددالزوار : 1321005 )           »          المنافقون والمنافقات .. خطرهم وصفاتهم في كتاب الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          حكم تخصيص أدعية معينة لكل يوم من أيام رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حديث موضوع مكذوب حديث يا علي لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء لا يصح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كيف نستعد لرمضـــــان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تدبر جزء تبارك فضيلة الشيخ/ ماجد الجاسر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          ما يهمكم من معلومات عن بقية شهر شعبان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          ميزة جديدة من واتساب ستمنعك من مشاركة رقم هاتفك المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيف يجنب الآباء أطفالهم من اضطراب fomo ويقللون الاعتماد على وسائل التواصل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-02-2022, 07:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (78)

من صــ 297 الى صـ
ـ 304

فنقول: للناس في مقصود العبادات مذاهب: منهم من يقول: المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها؛ لتستعد بذلك للعلم، وليست هي مقصودة في نفسها، ويجعلونها من قسم الأخلاق، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين كالفارابي، وابن سينا، وغيرهما،
ومن سلك طريقهم من متكلم، ومتصوف، ومتفقه، كما يوجد مثل ذلك في كتب أبي حامد، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وابن عربي، وابن سبعين، لكن أبو حامد يختلف كلامه؛ تارة يوافقهم، وتارة يخالفهم.
وهذا القدر فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء، وبين فلسفة المشائين - أرسطو، وأمثاله، ولهذا تكلموا في الآيات، وخوارق العادات، وجعلوا لها ثلاثة أسباب: القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية؛ إذ كانت هذه هي المؤثرات في هذا العالم عندهم، وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات، والكرامات، وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس. لكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير، وهذا قصده الشر، وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء، كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر. فإنه مبني على إنكار الملائكة، وإنكار الجن، وعلى أن الله لا يعلم الجزئيات، ولا يخلق بمشيئته وقدرته، ولا يقدر على تغيير العالم،
ثم إن هؤلاء لا يقرون من المعجزات إلا بما جرى على هذا الأصل، وأمكن أن يقال فيه هذا، مثل: نزول المطر، وتسخير السباع، وإمراض الغير، وقتله، ونحو ذلك. وأما قلب العصا حية، وإحياء الموتى، وإخراج الناقة من الهضبة، وانشقاق القمر، وأمثال ذلك فلا
يقرون به، وقد علم بطرق متعددة ما يكون من الخوارق بسبب أفعال الجن، وبسبب أفعال الملائكة. وأحوال الجن معلومة عند عامة الأمم: مسلمهم، وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من هو من أجهل الناس، وكذلك من فسرها بقوى النفس، وهذا غير إخبار الله عنهم فيما أنزله من الكتب. وأما الملائكة فأمرهم أجل، وهم رسل الله في تدبير العالم كما قال تعالى: {فالمدبرات أمرا} [النازعات: 5]،
وقال: {فالمقسمات أمرا} [الذاريات: 4] وقد ذكر الله تعالى في كتبه من أخبارهم، وأصنافهم ما يطول وصفه، وآثارهم موجودة في العالم، يعرف ذلك بالاعتبار كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا ذكر مذاهب الناس في العبادات، وهؤلاء غاية ما عندهم في العبادات، والأخلاق، والحكمة العملية، أنهم رأوا النفس فيها شهوة، وغضب من حيث القوة العملية، ولها نظر من جهة القوة العلمية. فقالوا: كمال الشهوة في العفة، وكمال الغضب في الحلم، والشجاعة، وكمال القوة النظرية في العلم. والتوسط في جميع ذلك بين الإفراط والتفريط هو العدل. وما ذكروه من العمل متعلق بالندب لم يثبتوا خاصية النفس التي هي محبة الله، وتوحيده، بل ولا عرفوا ذلك كما لم يكن عندهم من العلم بالله إلا قليل مع كثير من الباطل،
كما بسط الكلام عنهم في موضعه. ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. فلا صلاح للنفس، ولا كمال لها إلا في ذلك، وبدون ذلك تكون فاسدة، لا صلاح لها، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر، ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقال:، {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]،

وقال: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]، وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45]، وقال تعالى:{ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51]، وقال لما ذكر قصص الأنبياء: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 92]،

وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]، وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 30]وقد قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]
فالغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده، وهي حقيقة قول القائل: لا إله إلا الله، ولهذا بعث الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب، ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا، كما قال تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6] أي لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد، والإيمان.
وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]في موضعين من كتابه، وهذا أول الكلمات العشر التي أنزلها الله على موسى حيث قال: أنا الله لا إله إلا أنا إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر، من التعبد، لا يكون لك إله غيري ; لا تتخذ صورا، ولا تمثالا، ما في السماوات من فوق، ومن في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض ; لا تسجد لهن ; ولا تعبدهن إني أنا ربك العزيز.
وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس، فعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه، هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى، والمسيح، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى: قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165]
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله معبودها ومحبوبها، الذي لا أحب إليها منه، ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده،
ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده، ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده، وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو، وذلك يتضمن كمال الحب، والذل، والإجلال، والإكرام، والتوكل،
والعبادة. فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها، ومن حيث هو ربها وخالقها. فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد إلا الله وحده، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه،

وأعظم عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله، ويخشاه مثل ما يخشى الله، ويرجوه مثل ما يرجو الله، ويدعوه مثل ما يدعوه، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه، وكان حكيما شجاعا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-02-2022, 07:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (79)

من صــ 305 الى صـ
ـ 312

فما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس، وتنجو من العذاب، كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس، ولا من الأخلاق ما هو دين حق، ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]

وهذه الفضائل الأربع التي ذكرها المتفلسفة لا بد منها في كمال النفس، وصلاحها، وتزكيتها. والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به النجاة والسعادة. ولكن الأنبياء بينوا ذلك، وقد قال سبحانه: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]

فهذه الأنواع الأربعة هي التي حرمها تحريما مطلقا، لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق، ولا في حال من الأحوال، بخلاف الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وغير ذلك، فإنه يحرم في حال، ويباح في حال.
وأما الأربعة فهي محرمة مطلقا. فالفواحش متعلقة بالشهوة. والبغي بغير الحق يتعلق بالغضب، والشرك بالله فساد أصل العدل فإن الشرك ظلم عظيم، والقول على الله بلا علم فساد في العلم، فقد حرم سبحانه هذه الأربعة، وهي فساد الشهوة، والغضب، وفساد العدل، والعلم. وقوله: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [الأعراف: 33] يتضمن تحريم أصل الظلم في حق الله، وذلك يستلزم إيجاب العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له، فإن النفس لها القوتان: العلمية، والعملية، وعمل الإنسان عمل اختياري، والعمل الاختياري إنما يكون بإرادة العبد. وكل إنسان له إرادة، وعمل بإرادته فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث، وهمام» والإرادة لا بد لها من مراد، وكل مراد فإما أن يراد لنفسه، وإما أن يراد لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه.
فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد، وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة، ولهذا قيل: العامة تقول:قيمة كل امرئ ما يحسنه. والعارفون يقولون: قيمة كل امرئ ما يطلب. وفي بعض الكتب المتقدمة: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته. وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس، وإنما جعلوا كمالها العملي في تعديل الشهوة والغضب بالعفة، والحلم، وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب، والشهوة: هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع، والغضب: دفع ما يضر البدن.

ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته. مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن، وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس، وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم. وقد بسطنا غلطهم في هذا الأصل من وجوه في غير هذا الموضع، وبينا أن النفس لها كمال في العمل والإرادة، كما أن لها كمالا في العلم، وأن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا، ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس، وبينا غلط الجهمية الذين قالوا: الإيمان هو مجرد العلم، وأن الصواب قول السلف والأئمة: إن الإيمان قول وعمل.

أصله قول القلب، وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته. وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به، ولا تكمل إلا به، وذلك هو إلهها، فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله، ولهذا قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة والجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون، لهم علم وعمل اختياري، ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته، وهو معبودهم، ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله، فلو كان في السماوات والأرض إله إلا الله لفسدتا. فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له.
وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك، فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء، فضلا عما تسعد به، ومما يبين ذلك أن أرسطو معلمهم الأول هو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى بالحركة الفلكية، فقالوا: الحركة الدورية حركة اختيارية نفسانية، فقوامه بحركته الاختيارية، وفساده بعدمها، وقوام حركته بما يتحرك لأجله، فإن الفاعل بالاختيار إنما قوامه بعلته الغائية التي يتحرك لأجلها، وغايته التي يتحرك لأجلها، هو العلة الأولى فإنه يتحرك للتشبه بها.

فجعلوا قوام العالم كله بالعلة الأولى من حيث هو متشبه به؛ لأن المتحرك باختياره لا بد له من مراد. ومعلوم أن الحركة الإرادية تطلب مرادا محبوبا لنفسها، وتستلزم ذلك أعظم من استلزامها مشبها به، فإن كل متحرك بإرادة لا بد له من مراد محبوب لنفسه، فإن الإرادة لا بد لها من مراد، والمراد يكون إما مرادا لنفسه، وإما لغيره،

والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير بدلا أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه، أو منتهى إلى مراد لنفسه، وإلا لزم التسلسل في العلل الغائبة، وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل، واتفاق العقلاء، وبسط هذا له موضع آخر. وإذا كان الفاعل باختيار يستلزم مرادا لنفسه محبوبا، فلا بد أن يكون لما يتحرك في السماوات بإرادته سواء كان هؤلاء الملائكة، أو ما يسمونه هم نفسا من محبوب مراد لذاته، يكون هو الإله المعبود المراد بتلك الحركات، وكذلك نفس الإنسان حركتها بالإرادة من لوازم ذاتها، فلا بد لها من محبوب مراد لذاته، وهو الإله،
وهذا المحبوب المراد لذاته هو الله تعالى، ويمتنع أن يكون غيره، كما قد بسط هذا في موضع آخر، وبين أنه يمتنع أن يكون موجودا بغيره، بل هو واجب الوجود بنفسه، فيمتنع أن يكون مرادا لغيره بل مراد لنفسه. وكما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران، يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان، فإن كون أحدهما قادرا يناقض كون الآخر قادرا؛ لامتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد، وامتناع كون أحدهما قادرا على الفعل حين يكون الآخر قادرا عليه، وامتناع ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخر مع التكافؤ.
كذلك يمتنع أن يكون إلهان معبودان محبوبان لذاتهما؛ لأن كون أحدهما هو المعبود لذاته يناقضه أن يكون غيره معبودا لذاته، فإن ذلك يستلزم أن يكون بعض المحبة والعمل لهذا، وبعض ذلك لهذا، وذلك يناقض كون الحب والعمل كله لهذا، فإن الشركة نقص في الحب، فلا تكون حركة المتحرك بإرادته له، فلا يكون أحدهما معبودا معمولا له إلا إذا لم يكن الآخر كذلك،

فإن العمل لهذا يناقض أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون لغيره. وكل من أحب شيئين فإنما يحبهما لثالث غيرهما، وإلا فيمتنع أن يكون كل منهما محبوبا لذاته؛ إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفس وتطلبه، وتطمئن إليه، بحيث لا يبقى لها مراد غيره، وهذا يناقض أن يكون له شريك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24-02-2022, 07:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (80)

من صــ 313 الى صـ
ـ 320


والقول الثاني: قول من يقول: إن الله عوض الناس بالتكليف بالعبادات ليثيبهم على ذلك بعد الموت؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف؛ لما فيه من الإجلال، والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، وقد يقولون: إن الغاية المقصودة التي بها يحصل الثواب هو العمل، والعلم ذريعة إليه، حتى يقولوا مثل ذلك في معرفة الله تعالى، يقولون: إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العقلية العملية.
، والقول الثالث: قول من يقول: بل الله أمر بذلك لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب، بل لمحض المشيئة، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم، والأشعري، وخلق كثير من المتكلمين والفقهاء، والصوفية، وغيرهم.
القول الرابع: قول سلف الأمة وأئمتها، وهو أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره محبوبا معبودا لذاته، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، ويرضى عنهم، ويفرح بتوبة التائب، ويبغض الكافرين ويمقتهم، ويغضب عليهم ويذمهم، وأن في ذلك من الحكم البالغة، وكذلك من الأسباب ما يطول وصفه في هذا الخطاب كما قد بسط في موضعه؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أن المسلمين في هذا أكمل من غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة. وإذا عرف مذاهب الناس في مقاصد العبادات فهم أيضا مختلفون في صفاتها، فمن الناس من يظن أن كل ما كان أشق على النفس وأشد إماتة لشهوتها فهو أفضل، وهذا مذهب كثير من المشركين الهند، وغيرهم، وكثير من أهل الكتاب اليهود، والنصارى، وكثير من مبتدعة المسلمين.
والثاني: قول من يقول: إن أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية
. والثالث: قول من يقول: فضل بعضها على بعض لا علة له، بل يرجع إلى محض المشيئة.
والرابع وهو الصواب: أن أفضلها ما كان لله أطوع، وللعبد أنفع. فما كان صاحبه أكثر انتفاعا به، وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل، كما جاء في الحديث: «خير العمل أنفعه» وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل من عبادات غيرهم، أما عن الأول فأولئك يقولون: كلما كانت الأعمال أشق على النفس فهي أفضل.

ثم هؤلاء قد يفضلون الجوع، والسهر، والصمت، والخلوة، ونحو ذلك، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين الهند، وغيرهم، ومن النصارى، ومبتدعة هذه الأمة، ولكن يقال لهم: الجهاد أعظم مشقة من هذا كله، فإنه بذل النفس، وتعريضها للموت، ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها، وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر، ومعلوم أن المسلمين أعظم جهادا من اليهود، والنصارى. فإن اليهود خالفوا موسى في الجهاد، وعصوه، والنصارى لا يجاهدون على دين، وأما على قول من يجعل العبادات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية، فلا ريب أن عبادات المسلمين - كصلاتهم وصيامهم وحجهم - أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية، من عبادات غيرهم التي ابتدعوها، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل.
وأما على قول نفاة التعليل، ورد ذلك إلى مشيئة الله: فيكون الأمر في ذلك راجعا إلى محض مشيئة الله، وتعبده للخلق، وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسل يكون متعبدا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته قد ابتدعها أكابرهم من غير أن يأتيهم بها رسول الله من عند الله. وأما على القول الرابع: فإن علم أن الله أمر به يتضمن طاعة الله.
وهذا إنما يكون في عبادات أمر الله بها، وهي عبادات المسلمين دون من ابتدع كثيرا من عباداتهم أكابرهم. وأما انتفاع العباد بها، فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب. فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم، وعدلهم، يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم. ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال، والاعتدال، كالطهارة، والاصطفاف، والركوع، والسجود، واستقبال بيت إبراهيم، الذي هو إمام الخلائق، والإمساك فيها عن الكلام، وما فيها من الخشوع، وتلاوة القرآن، واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم.
وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله. حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذا لم يكن لهم شرع يحكم به الناس.
وليس في الإنجيل حكم عام، بل عامته، وإنما فيه الأمر بالزهد، ومكارم الأخلاق، وهو مما يأمر به المسلمون أيضا. وقد ذكرنا في كون المسلمين معتدلين متوسطين بين اليهود والنصارى في التوحيد، والنبوات، والحلال، والحرام وغير ذلك، مما يبين أنهم أفضل من الأمتين، مع أن دلائل هذا كثيرة جدا، وإنما المقصود التنبيه على ذلك، وحينئذ ففضل الأمة يستلزم فضل متبوعها.

(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ... (143)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لما حولت [القبلة] ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}
قال: أي إذا حولت؛ والمعنى أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء ولم يأمر الله قط أحدا أن يصلي إلى بيت المقدس لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه فكان في شرعها هذه الحكمة.

(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)
[فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل]

فحينئذ فقولهم: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول؟
وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟
قال الحاكي عنهم: فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه.
فقالوا سبحان الله العظيم! إذا كان الكتاب الذي لهم، الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم.
فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا؟ ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها؟
وإن كان غير بعضها، وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا والجواب أن يقال:

أولا: هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم، وتبين أنهم - لفرط جهلهم - يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل، وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-03-2022, 06:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (82)

من صــ 329 الى صـ
ـ 336

وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه».
وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح - عليه السلام - واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.
وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح - عليه السلام - إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.
فالدين الذي اجتمع عليه - صلى الله عليه وسلم - المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال - تعالى - له:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.
فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.
الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.
فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال - تعالى -:
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وقال - تعالى -: عن الخليل وابنه إسماعيل.

{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه:
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.
منها: أن القرآن معجز.
ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.
ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.
وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.
والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.
وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.
وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.
فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.
وما قاله - عليه السلام - فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله.
يقول الله - تعالى -: «من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب» ونحو ذلك ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.
وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-03-2022, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (83)

من صــ 337 الى صـ
ـ 344

هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.
ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.
بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.
ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.
ثم كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.
وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح - عليه السلام -، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.
(فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: {ولكن شبه لهم} [النساء: 157] عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.
والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح - عليه السلام - فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق،

ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح،، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.
واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)

[مسألة السعي بين الصفا والمروة]
مسألة: (والسعي).

يعني به بين الصفا والمروة.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه ; فروي عنه: أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به ; قال - في رواية الأثرم - فيمن انصرف، ولم يسع: يرجع فيسعى وإلا فلا حج له.
وقال - في رواية ابن منصور - إذا بدأ بالصفا والمروة يرجع قبل البيت لا يجزئه.
وقال - في رواية أبي طالب - في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى: فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يقصر فعليه دم، إنما العمرة الطواف والسعي، والحلاق.
وروي عنه: أنه سنة، قال - في رواية أبي طالب -: فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامدا، فلا ينبغي له أن يتركه، وأرجو أن لا يكون عليه شيء.
وقال - في رواية الميموني -: السعي بين الصفا والمروة تطوع، والحاج والقارن والمتمتع عند عطاء واحد إذا طافوا ولم يسعوا.
وقال - في رواية حرب - فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه.
وقال القاضي في المجرد ... وغيره، هذا واجب يجبره دم، هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه.
فمن قال: إنه تطوع احتج بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]
{فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] فأخبر أنهما من شعائر الله، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون، دون زيادة على ذلك، إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] ثم قال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما - كما سيأتي إن شاء الله -: فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما. وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك. فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما، وإماطة الشبهة العارضة. فأما زيادة على ذلك: فلا. ثم قال تعالى: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه، ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع، كان دليلا على أنه تطوع، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة.
وعن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن لا يطوف بهما).
وعن عطاء في قراءة ابن مسعود، أو في مصحف ابن مسعود، (أن لا يطوف بهما) رواهما أحمد في الناسخ والمنسوخ.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12-03-2022, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (84)

من صــ 345 الى صـ
ـ 352

وعن أنس قال: «كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: عن عاصم بن سليمان قال: " سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]، فذكر إلى " بهما ".
فهذا أنس بن مالك: قد علم سبب نزول الآية، وقد كان يقول: " إنه تطوع " فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع.
وأما من قال: إنها واجبة - في الجملة - وهو الذي عليه جمهور أصحابنا، فإن الله قال: هما {من شعائر الله} [البقرة: 158] وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت، فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه، ويتعبد فيها له، وينسك حتى صارت أعلاما، وفرض على الخلق قصدها، وإتيانها. فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له، ويكون الخلق مخيرين بين قصده، والإعراض عنه ; لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم الشعائر واجب لقول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها، ووصى بها في غير موضع، وذم من لا يتقي الله، ومن استغنى عن تقواه توعده، وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما، وتعظيمهما من تقوى القلوب، والتقوى واجبة، كان الطواف بهما واجبا، وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما، كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن التي شرفها الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية.
وأما قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف، بحيث يستوي وجوده وعدمه، لأنهما جعلهما من شعائر الله، ثم قال: {فلا جناح عليه} [البقرة: 158] والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء، علم أنه علة، فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج، ثم أتبع ذلك بما يدل على الترغيب،
وهو قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] الآية. نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173] وقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93] الآية، فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار، والموجب للصلاة موجود حال السفر، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان، قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية، خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك، وقد تقدم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية.
وعن الزهري «عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت: " أرأيت قول الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158])، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أخي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله:
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها -: وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر طواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية.

قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما ; في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت» " متفق عليه.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: «قلت لعائشة - وأنا حديث السن - أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول: كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: «إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا، أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ".»
وفي لفظ له: «إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة».
وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي، نصب بين الصفا صنما يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير، ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما، ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون لها، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، لمكان الصنمين الذين عليهما: نهيك مجاود الريح، ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج، وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب، وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وذكره بإسناده عن ابن السائب، قال: كانت صخرة لهذيل، وكانت بقديد.
فقد تبين: أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها.
أما الأنصار في الجاهلية: فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له، ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة.
وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية - غير الأنصار - كانوا يعظمونهما، ولم يجر لهما ذكر في القرآن. وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين، وتعظيما لشعائر الله. فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]، وأوجب حجها على البيت، فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله، كان الأظهر إيجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت، ولذلك سن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من المزدلفة، فأفاض من عرفات، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة، ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا. فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه، أوجب الله النسك فيه.
وأما قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الاستجابة والانقياد، يقال: طوعت الشيء فتطوع أي سهلته فتسهل كما قال: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} [المائدة: 30]، وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية.
ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة، وانقيادا صرفا، وذلا للنفوس، وخروجا عن العز، والأمور المعتادة، وليس فيها حظ للنفوس، فربما قبحها الشيطان في عين الإنسان، ونهاه عنها، ولهذا قال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] قال رجل من أهل العلم: هو طريق الحج، وقال بعد أن فرض: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام، فلا يرى حجه برا،
ولا تركه إثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة، فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما، فقال سبحانه: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فاستجاب لله وانقاد له، وفعل هذه العبادة طوعا، لا كرها، عبادة لله، وطاعة له ولرسوله. وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر، وتطوع الخير خلاف تكرهه.

فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها، فهو متطوع خيرا، سواء كان واجبا، أو مستحبا، نعم ميز الواجب بأخص اسميه، فقيل: فرض، أو واجب وبقي الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين، كلغة الدابة والحيوان وغيرهما.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12-03-2022, 07:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (85)

من صــ 353 الى صـ
ـ 360


وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طاف في عمرته، وفي حجته، والمسلمون معه بين الصفا والمروة، وقال:
" «لتأخذوا عني مناسككم» "، والطواف بينهما من أكبر المناسك، وأكثرها عملا، وخرج ذلك منه مخرج الامتثال لأمر الله بالحج في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وفي قوله: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة: 196]، ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر، فكان فعله هذا على الوجوب، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات، وأما جنس تام من المناسك، ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة، فلا يجوز أصلا، وبهذا احتج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال عمرو بن دينار: " «سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة، فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة» " متفق عليه، وزاد البخاري: " «وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بالصفا والمروة» ".
وأيضا: فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: " «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، وذكر الحديث» " متفق عليه. وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة، وفي ضمنه أشياء كلها واجب.
وعن عائشة قالت: " «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل» " متفق عليه، فأمره بالحل بعد الطوافين، فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك.
وعن أبي موسى قال: " «أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت» "، وفي لفظ: " «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل» " متفق عليه. . .
ثم من قال: هو واجب يجب بتركهما هدي، قال: قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن، لأن المناسك ; إما وقوف، أو طواف، والركن من جنس الوقوف نوع واحد، فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا ; لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع.
ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام، فإنه إذا وقف بعرفة، ثم مات فعل عنه سائر الحج، وتم حجه، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط. والسعي لا يقصد بإحرام، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت، كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة، لأنه وقوف بعد وقوف، وطواف بعد طواف، ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول ; فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت، ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات، وقد دل على ذلك قوله {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] وقوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] الآية، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا ; لأن الأمر بذلك في القرآن أظهر ; وذلك لأن ما لا يفعل إلا تبعا لغيره، يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع، والناقص عن الركن هو الواجب ; ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب، وطرد ذلك أركان الصلاة، فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض ;
فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة، والركوع ابتداء في صلاة المسبوق، والسجود عند التلاوة والسهو، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده، فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض، وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده.
ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة.
ولأنه لو كان لتوقت أوله وآخره كالإحرام والطواف والوقوف، والسعي لا يتوقت.

ومن قال: إنه ركن احتج على ذلك بما روت صفية بنت شيبة أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: " «نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدة السعي، حتى أقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» "، وفي رواية: " «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» " رواه أحمد،ورواه أيضا عن صفية امرأة أخبرتها «أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة - يقول: كتب عليكم السعي فاسعوا» ".
وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد، وأمره على الوجوب كما تقدم، وما ثبت وجوبه: تعين فعله، ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل.
وأيضا: فإنه نسك يختص بمكان، يفعل في الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف بالبيت، وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته.
واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع، وقد قيل: نسك يتكرر في النسكين، فلم ينب عنه الدم كالطواف والإحرام.
وأيضا: فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا، لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا ; لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته، والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج، والسعي لا يختص بوقت.
وأيضا: فإن أفعال الحج على قسمين ; مؤقت وغير مؤقت، فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته، أو يجبر بدم، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله. وأما غير المؤقت: إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه، لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات، والطواف والسعي: ليسا بمؤقتين في الانتهاء فإلحاق أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار ; لأن ذلك يفوت بخروج وقته، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم. كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء.
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم. وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم. وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين.
فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم؛ وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم؛ فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه. وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك.
ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره. وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع: أكثر مما تستعظم ذلك من غيره؛ بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته؛ وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن. ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي؛ فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم: يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم.

(والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166)

وصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم.
وفي الآية " قولان ": قيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأوثانهم.
وقيل: يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم وهذا هو الصواب؛ والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم الإرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله؛ مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

من أحب غير الله ووالى غيره كره محب الله ووليه ومن أحب أحدا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه وكلاهما ضرر عليه. قال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}. قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا كانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12-03-2022, 07:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (86)

من صــ 361 الى صـ
ـ 368


فصل:
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئا جذبه إليه بحسب قوته ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته فإن المحب علته فاعلية والمحبوب علته غائية وكل منهما له تأثير في وجود المعلول والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها؛ فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل؛ فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضي انجذاب المحب إليه كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله وإلى امرأة ليباشرها وإلى صديقه ليعاشره وكما تنجذب قلوب المحبين لله ورسوله إلى الله ورسوله والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق لأجلها أن يحب ويعبد. بل لا يجوز أن يحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته والرب تعالى هو الذي يجب أن يحب لنفسه وهذا من معاني إلهيته و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء وحب النساء لما في ذلك من حفظ الأبدان،

وبقاء الإنسان؛ فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل. والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.

وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته فإن من تمام حبه حب ما يحبه وهو يحب الأنبياء والصالحين ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبا إلى حب الله وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه؛ كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله كما قال تعالى: {حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتجالسين في وحقت محبتي للمتباذلين في وإن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله وهم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال يتباذلونها ولا أرحام يتواصلون بها إن لوجوههم لنورا وإنهم لعلى كراس من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس} فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله.

كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله.

وهكذا إذا كان الحب لغير الله كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل فإن المحب يطلب المحبوب والمحبوب يطلب المحب بانجذاب المحبوب فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبا مجذوبا من الوجهين فيجب الاتصال ولو كان الحب من أحد الجانبين لكان المحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لكن المحبوب لا يقصد جذبه والمحب يقصد جذبه وينجذب وهذا " سبب التأثير في المحبوب " إما تمثل يحصل في قلبه فينجذب وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام ويلبس الثوب ويسكن الدار ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها.
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
وسئل:
عن الاجتهاد؛ والاستدلال: والتقليد؛ والاتباع؟

فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} في البقرة وفي المائدة وفي لقمان {أولو كان الشيطان يدعوهم} وفي الزخرف: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} وفي الصافات: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} وقال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} الآيات.
وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} وقال: {فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار} وفي الآية الأخرى: {من عذاب الله من شيء} وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه.
والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم.
أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون.
وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل.
وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة.
وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
(ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

بين الله السمع عن الكفار في غير موضع كقوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} وقوله: {ولا يسمع الصم الدعاء} وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس الحركة وإيجاب علم القلب حركة القلب فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعالى:
{إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله}. ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أي يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها - من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني - السمع الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم؛ فقال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}.
(ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها}.

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره: {الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر}. وكذلك قال للرسل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم}





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12-03-2022, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (87)

من صــ 369 الى صـ
ـ 376

وقال الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال الله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}. فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة والله إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه الله من الصيد وهو محرم والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه. ولهذا ميز سبحانه وتعالى بين خطاب الناس مطلقا وخطاب المؤمنين فقال:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين: أن يكون طيبا وأن يكون حلالا.
ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}. فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره؛ فما سواه لم يكن محرما على المؤمنين ومع هذا فلم يكن أحله بخطابه؛ بل كان عفوا كما في الحديث عن سلمان موقوفا ومرفوعا: {الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه}.
وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها}. وكذلك قوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة}. نفى التحريم عن غير المذكور فيكون الباقي مسكوتا عن تحريمه عفوا والتحليل إنما يكون بخطاب؛ ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}. إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات وقبل هذا لم يكن محرما عليهم إلا ما استثناه. وقد {حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير} ولم يكن هذا نسخا للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك ولكن سكت عن تحريمه فكان تحريمه ابتداء شرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وأبي هريرة وغيرهم: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن؛ فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه}.
وفي لفظ: {ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر. ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع}. فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب. وأن الله حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط. إنما أحل الطيبات وهذه ليست من الطيبات وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها؛ لا مأذونا في أكلها. وأما " الكفار " فلم يأذن الله لهم في أكل شيء ولا أحل لهم شيئا ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه؛ بل قال: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}. فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالا؛ وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا.
ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكا شرعيا؛ لأن الملك الشرعي هو القدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم والشارع لم يبح لهم تصرفا في الأموال إلا بشرط الإيمان؛ فكانت أموالهم على الإباحة. فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهرا يستحلونه في دينهم وأخذوها منهم؛ صار هؤلاء فيها كما كان أولئك.

والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها ملكوها شرعا لأن الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات. ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين " فيئا "؛ لأن الله أفاءه إلى مستحقه أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته.

وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه؛ فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر}. وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته} رواه أحمد وابن خزيمة في " صحيحه " وغيرهما. فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه كما يكره فعل معصيته.
وبعض الفقهاء يرويه: {كما يحب أن تؤتى عزائمه}. وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث: {القصر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته}. ولأنه بها تتم عبادته وطاعته.

(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

والذين قالوا لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن " الباغي " هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله و " العادي " هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق. قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه. وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد.
وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر. قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة. أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية:
الأنعام والنحل وفي المدنية: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين؛ بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه.
وأيضا فقوله {غير باغ} حال من {اضطر} فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: {فلا إثم عليه} ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى. والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان. فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى:
{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد؛ لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ " نوعان ": نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة. ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون في قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث.
وكثير من الكتب المصنفة في " أصول علوم الدين " وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في " المسألة العظيمة " كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب؛ بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه كما في قوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} وقال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.

وقد {خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه}. ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 12-03-2022, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (88)

من صــ 377 الى صـ
ـ 384

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ... (177)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وكذلك لفظ " البر " يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ " التقوى " وكذلك " الدين أو دين الإسلام " وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية وقد فسر البر بالإيمان وفسر بالتقوى وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله والجميع حق وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: {جاء رجل إلى أبي ذر فسأله عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية؛ فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فقرأ عليه الذي قرأت عليك فقال له الذي قلت لي.

فلما أبى أن يرضى قال له: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها}. وقال: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد {أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية} وروي بإسناده عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فسألتهم فلم يجيبوني فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال:
سبحان الله أما يقرءون الآية التي في البقرة: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}؟. قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} - إلى قوله - {وأولئك هم المتقون} فقال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم.
(فصل في حديث جبريل: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث» لماذا قال: الإسلام هذه الخمس؟)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس؛ فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيام العبد بها يتم إسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
و " التحقيق " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين. وهذه هي الخمس وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح فلا يعم وجوبها جميع الناس؛ بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا؛ وإقراء وتحديث وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه وقد يسقط بإسقاطه. وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب والعواري والودائع والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض؛ إنما هي حقوق الآدميين وإذا أبرئوا منها سقطت.
وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام وحقوق الزوجة والأولاد والجيران والشركاء والفقراء.
وما يجب من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والإمارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد؛ كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب؛ فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس؛ فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله؛ والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه ولم تطلب من الكفار.
وحقوق العباد لا يشترط لها النية ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار وما يجب حقا لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد وفيها شوب العقوبات فإن الواجب لله " ثلاثة أنواع ": عبادة محضة كالصلوات وعقوبات محضة كالحدود وما يشبهها كالكفارات. وكذلك كفارات الحج وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد وهو واجب في ذمته.
وأما " الزكاة " فإنها تجب حقا لله في ماله. ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم ويجب حمل العاقلة ويجب قضاء الديون ويجب الإعطاء في النائبة ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية. لكن بسبب عارض والمال شرط وجوبها كالاستطاعة في الحج فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه؛ حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلدة أخرى وهي حق وجب لله تعالى. ولهذا قال: من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها فلا تجب على الصغير والمجنون.
وأما عامة الصحابة والجمهور كمالك والشافعي وأحمد فأوجبوها في مال الصغير والمجنون لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما بخلاف بدنهما.
فإنه إنما يتصرف بعقلهما؛ وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية. وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما. والصلاة والصيام إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء.
(فصل جامع في الآية الكريمة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس {عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية} "
وقد دلت على أمور:
أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون وعامة هذه الأمور فعل مأمور به.

والثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهلها هم الصادقون يعني في قوله: (آمنا) وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه.

وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} {وإن الفجار لفي جحيم} وقال: {أم نجعل المتقين كالفجار} {إن المتقين في جنات ونهر} وقال: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم: وهم المتقون والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة وقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} وقوله لبني إسرائيل: {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا}. وقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} في " سبحان " " والروم " فإتيان ذي القربى حقه صلة الرحم والمسكين إطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العاني واليتيم نوع من إطعام الفقير. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم " {عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني} "
وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: " {لو صدق السائل ما أفلح من رده} ".
وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم في هود: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي الشعراء:{ألا تتقون} {فاتقوا الله وأطيعون} وقال تعالى: {ولكن البر من اتقى} وقال تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} وقال: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}.
فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التي يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فإن الواجب إما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به. وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد؛ وذلك أن التقوى إما تقوى الله:

وإما تقوى عذابه كما قال: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمي ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الإثم بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة فإن هذا هو المستحب الذي له أن يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى. ونقول ثانيا: إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي أن قيل ذلك كما في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى}





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 336.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 330.56 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]