شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 74 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 191 - عددالزوار : 3632 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5093 - عددالزوار : 2337454 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4678 - عددالزوار : 1633869 )           »          ما هي فوائد الفشار للضغط ؟ تعرف على فوائد الفشار لضغط الدم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          طرق المذاكرة السريعة والفعالة أيام الامتحانات , كيفية المذاكرة السريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          اعمال يدوية وفنية خاصة بالمدارس,احلى واجمل ابداعات المدارس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          فواصل للمواضيع . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 36 - عددالزوار : 170 )           »          فضل العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          الأحاديث الصحيحة فى فضل العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          لانعاش ذاكرة الطفل قبل الدراسة,طرق انعاش ذاكرة الطفل قبل بدء العام الدراسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-10-2025, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (526)

صـــــ(1) إلى صــ(18)

شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [2]

يجب قطع يد الطرار الذي يقطع الجيوب ويأخذ منها المال، ويشترط في المال المسروق أن يكون مالا محترما، ولا تقطع يد من سرق آلات لهو أو خمر مع التفصيل في ذلك.
ومقدار نصاب المال الذي تقطع فيه يد السارق ربع دينار من ذهب أو ثلاثة دراهم من فضة، أو ما يعادل قيمة أحدهما، مع خلاف بين أهل العلم في ذلك.
حكم قطع يد الطرار
بسم الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أو نحوه ويأخذ منه] : ما زال المصنف رحمه الله يتكلم على صور يتحقق بها مفهوم السرقة، ومن ذلك قوله: (ويقطع الطرار الذي يبط الجيب) ففي بعض صور السرقة: يقدم السارق على قطع الجيب: إما بالسكين، أو بالموس، أو بالشفرة، فالطرار هو: الذي يسرق من الجيب، والسرق من الجيب له صورتان: الصورة الأولى: أن يدخل يده فيستل المال الموجود في داخل الجيب.
الصورة الثانية: أن يقطع الجيب من أسفله أو من جنبه، ثم يستل المال منه.
فمن أهل العلم من قال: أن الذي يبط الجيوب -أي: يقطع الجيوب- لا تقطع يده، ويرون أن القطع لا يكون إلا إذا كان في حرز، وكان صاحب الحرز منتبها -يعني: عينه على الحرز- ومن هنا قالوا: إن من نام في المسجد، ورداؤه تحته، أنه ينبغي اشتراط كون الرداء تحت الجسم، أو تحت الرأس، فإذا استله من تحت الرأس فقد استله من حافظ، وحينئذ قالوا: إنه إذا كان الرجل في غفلة واستل المال منه بدون أن يعلم فإن يده لا تقطع؛ لأن المال في الجيب ليس في حرز عند من يقول بعدم القطع، إلا إذا كان صاحبه عينه على الجيب، ومن هنا يرون أنه لا قطع عليه، واختار المصنف القول بالقطع.
قالوا: لو استغفل صاحب المال، ثم استل المال من جيبه، وقطع الجيب فأخرج منه المال -من أسفله أو من عرضه- فإنه يعتبر سارقا، وقالوا: إن الشخص عينه على ماله ما دام حاملا للمال، ثم إنه قد استل المال منه خفية، فتتحقق فيه شرط السرقة، وقالوا: الطرار في حكمه إذا كان يبط الشنطة، مثل ما يقع في (المحافظ) ونحوها يقطعها ثم يستل المال منها، فقوله: (أو نحوه) مثل: المحفظة، أو الهميان والكمر، فإذا كان (الكمر) مشدودا على صاحبه، ثم جاء واستل المال من (الكمر) وصاحبه حامل له قطعت يده.
فقوله: (الطرار) : هو الذي يبط الجيب (يبط الجيب) أي: يقطعه، سواء كان القطع من أسفله أو من عرضه؛ لأنه لما قطع الجيب فقد أخذ المال من الحرز، وحينئذ يكون بط الجيب مثل كسر الأقفال في الصناديق، وكسر الأبواب، وهذا يعتبر أخذا للمال من حرزه، فقالوا: إن صورة هذه السرقة -على هذا الوجه الذي اختار المصنف- توجب القطع.

اشتراط أن يكون المسروق مالا محترما
قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون المسروق مالا محترما] .
أي: لا نقطع يد السارق إلا إذا توافرت الشروط في السارق، وفي المال المسروق، وفي فعل السرقة، ومن هنا: ابتدأ رحمه الله فقال: (يشترط أن يكون المسروق مالا) والمال عند العلماء هو: كل شيء له قيمة فيعاوض عليه، ويشمل الذهب والفضة وهو ما يسمى بالأثمان، ويشمل المثمونات، وعلى هذا: تقع السرقة في الذهب والفضة، وتقع في المجوهرات، وتقع في المعادن، مثل: النحاس، والحديد، والرصاص، والنيكل، والزنك، وكذلك تقع في الثياب، وتقع في الأطعمة، وتقع في الأشياء التي يرتفق بها كقطع الغيار الموجود في زماننا لاستصلاح الأدوات الكهربائية، أو أدوات النقل، كل هذا يعتبر مالا له قيمة، وسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه.
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالنفوس تميل بطبعها إلى الذهب والفضة، وكل شيء له قيمة.
لما قال رحمه الله: (أن يكون مالا) : هذا الشرط، مفهوم عكسه: أنه لو سرق شيئا ليس بمال فلا قطع، والذي ليس بمال، مثل: أن يسرق آدميا حرا، فالحر ليس بمال، لا يباع ولا يشترى، ومن هنا اختلف العلماء في سرقة الأطفال الصغار: فلو أنه اختطف طفلا صغيرا؛ خدعه حتى خرج من المدينة، أو خرج به من بيت أهله، فبعد أن أخذه -كانوا في القديم يأخذونه ويبيعونه- أو اختطفه، وأصبح يستخدمه لخدمته، أو نحو ذلك.
الطفل الحر من الصغار غير المميزين والمجنون الذي لا يعقل، اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، أما الحر البالغ فلا يمكن أن تقع السرقة به -كما ذكر العلماء- أن يكون نائما ثم يسرقه، فجماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه لو سرق حرا كبيرا لا قطع؛ لأنه ليس بمال، ولا في حكم المال، ولا يباع ولا يشترى.
وأما إذا كان صغيرا مثل: الأطفال الذين لا يميزون، والمجانين الذين يخدعون، ويسرقون إلى خارج المدن، ويقع هذا في ذوي العاهات، فبعض الأحيان يسرقهم ضعاف النفوس -نسأل الله السلامة والعافة- من أجل أن يتكسبوا بهم، أو نحو ذلك، فلو سرقه؛ هل تقطع يده أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا تقطع يده، فالجمهور على أنه لا تقطع يد من سرق الأطفال، ومن سرق الكبير المجنون، أو الطفل غير المميز.
وذهب بعض العلماء إلى أنه تقطع يده، واحتجوا بحديث ضعيف: أن رجلا كان يسرق الصبيان، ثم يخرجهم من المدينة، ثم يبيعهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، وهذا الحديث ضعيف؛ لا يصلح للاحتجاج به، وأجاب العلماء عنه سندا: بالضعف، وأجابوا عنه متنا: بأنه يحتمل أن يكونوا صغارا وصبيانا مماليك، وحينئذ يكونون من جنس الأموال؛ لأن المملوك يباع ويشترى.
وقوله: (مالا محترما) الشرط الأساسي: المال، ثم شرط الشرط: أن يكون محترما؛ لأن المال منه ما هو محترم، ومنه ما ليس بمحترم، فإذا قلنا: إنه يشترط المال، هذا شرط يخرج منه: سرقة الحر كبيرا كان أو صغيرا، ومن اشتراط المال ذهب بعض العلماء إلى أن من سرق المصحف لا تقطع يده، إذا كانت قيمة المصحف تعادل النصاب؛ قالوا: لأن المصحف ليس بمال، هو كلام الله عز وجل؛ ولذلك لا يعتبر مالا، لكن هذا ضعيف؛ لأن البيع والشراء ليس لكلام الله عز وجل، والبيع لم يقع لنفس المصحف، إنما هو قيمة الصحف، وكتابة هذه الآيات، والمعاوضة على هذا الشيء، وليس على كلام الله عز وجل؛ ولذلك جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- أجازوا بيع المصاحف كما تقدم معنا في كتاب البيع، ومنعه الإمام أحمد -رحمه الله - في إحدى الروايات عنه، وقال ابن عمر: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف) .
والصحيح: أن المعاوضة في المصحف واقعة على الورق، وعلى ما يكتب فيه المصحف، وعلى كتابة الآيات، ويجوز أن تستأجر شخصا في كتابة القرآن، وتكون الأجرة على تعبه في الكتابة، وحينئذ الثمن المدفوع لشيء له قيمة، وجمهور العلماء أجازوا بيعه وخالفوا الإمام أحمد، قال الناظم: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي أي: منع بيع المصحف الإمام أحمد، وكرهه الجمهور، ومنهم الشافعي.
إذا ثبت هذا؛ فإنه لو سرق المصحف، والمصحف له قيمة تعادل النصاب قطعت يده، وهكذا لو سرق كتب العلم.
وهناك شرط آخر لم يذكره -رحمه الله-: أن يكون مالا منقولا؛ لأن المال ينقسم إلى ثابت: وهو العقار، ومنقول: وهو من غير العقار والأثمان كما بيناه في البيع، وقلنا: إن المثمونات إما أن تكون من العقارات أو من المنقولات، فالأموال تنقسم: إلى ثمن ومثمن، والمثمن ينقسم إلى: عقار ومنقول، والثمن: هو الذهب والفضة، والمثمن: هو كل شيء من غير الذهب والفضة له قيمة، ثم هذا المثمن: إما أن يكون عقارا كالبيوت، والأراضين، والمزارع، فهذه لا تقع فيها السرقة؛ لأن شرط السرقة: النقل، وهذه لا يمكن نقلها، فيسمى اغتصابا ولا يسمى سرقة، فلا تقع عليه ضوابط السرقة، كما سيأتي في الشروط التي دلت عليها الأدلة.
ومن هنا: اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت السرقة: نقلها من الحرز، وثبوت الأخذ الذي هو شرط الفعل، وإذا ثبت هذا: فإن السرقة لا تتحق بالمنقولات، وعليه بنى العلماء: اشتراط أن يكون المال منقولا؛ لكي يخرج العقار، فإن العقار لا قطع فيه، وكذلك لو أنه اغتصب عمارة، أو اغتصب مزرعة، أو اغتصب مخططا، فإنه لا يعتبر سارقا.
إذا: يشترط أن يكون مالا، وأن يكون المال متقوما منقولا.
وقوله: (محترما) ، المال ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون المال محترما شرعا، مثل: الذهب والفضة، والمعادن، والمجوهرات، والأكيسة، والأطعمة، ونحوها.
وإما أن يكون غير محترم شرعا، مثل: الميتة الخمر الخنزير، فهذه كلها لا قيمة لها شرعا، فلو أن شخصا سرق خمرا؛ فإنه لا تقطع يده، مع أن الخمر قد تباع ولها قيمة، فهي مال في الشكل، لكن الشرع أسقط عنها المالية.
والدليل على أن الخمر والخنزير والميتة لا قيمة لها شرعا: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فهذا يدل على أن هذه الأشياء ليس لها قيمة في الشرع، وإذا لم يكن لها قيمة في الشرع؛ فهي غير محترمة، فلو أنه سرق خمرا، نقول: إنه لم يسرق مالا؛ لأن الخمر ليست بمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) والخمر لا تساوي ربع الدينار ولا أقل؛ لأن الشرع أسقط المالية عنها، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما أهداه الرجل المزادتين من الخمر امتنع من قبولهما، وقام رجل وسار المهدي، فقال له عليه الصلاة والسلام: (بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها يا رسول الله! قال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها) وفي رواية: (حرم بيعها) ، فلما قال: (حرم ثمنها، حرم بيعها) دل على أنه لا قيمة لها.
من هنا: اشترط العلماء المالية، وأن يكون المال منقولا ليخرج العقارات، وأن يكون متقوما محترما شرعا، فيخرج آلة اللهو، ويخرج الخمر، والخنزير، والميتة، فهذه لا قيمة لها شرعا.
حكم سرقة آلات اللهو
قال رحمه الله: [فلا قطع بسرقة آلة لهو] .
آلة اللهو ينبغي أن يفصل في حكمها، آلة اللهو لا قيمة لها شرعا، لكن لو كانت الآلة -مثلا- مصنوعة من ذهب، فإنه إذا سرقها فقد سرق مالا، إذا كانت مموهة بالذهب، مطلية بالذهب، مصنوعة من الذهب، وفيها ربع دينار من الذهب فأكثر؛ فقد سرق ربع الدينار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) ، ومن هنا: إذا كانت مصنوعة من مادة في الأصل لها قيمة، فإنه حينئذ لا ننظر إلى كونها آلة لهو، وإنما ننظر إلى وجود المالية في عين المال المسروق، ومن هنا: لو أنها كسرت جاز بيعها؛ لأنها كسرت، - إذا: لها قيمة، وإذا كانت مطلية بذهب، أو فضة، وتعادل النصاب فأكثر فقد سرق مالا معتبرا شرعا، فكونها آلة لهو لا يضر، وبعض العلماء يفصل، ويقول: آلات اللهو إذا كانت لها قيمة في نفسها، بحيث لو كسرت تصلح أن تباع، وتكون قيمتها في البيع تعادل النصاب فأكثر، حينئذ يثبت القطع؛ لأنه سرق المال المعتبر شرعا، أو ما يبلغ النصاب، وأما إذا كسرت ولا قيمة لها -أي: لا تعادل النصاب- فإنه لا قطع فيها.
حكم سماع الدف
فقوله: (آلة لهو) خرج اللهو المأذون به شرعا، مثل: الدف، فالدف مأذون به شرعا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (الدف) دل على أن الدف من آلات اللهو المأذون بها شرعا، والمباحة، والنص في هذا واضح؛ ولذلك ضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالدف، وسمع الدف عليه الصلاة والسلام، وأذن به عليه الصلاة والسلام في النكاح.
والعجيب! من البعض يقول: نعجب من الشيخ يفتي بحل جواز الدف، وكأنه منكر عظيم! يعتبرون أن هذا شيء لا يجوز، كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في النكاح ويقول: (أعلنوا) ؟ ولا يمكن أن يتحقق الإعلان إلا بسماع الناس له، ومن هنا: لا ينبغي للإنسان أن يحكم بالأحكام الشرعية بهواه وبالشيء الذي يألفه والذي لا يألفه، وإذا أنكر على غيره ممن بينه وبينه أخذ وعطاء، فلا يدعوه ذلك إلى ألا يتجرد للنص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا) وهذا خطاب عام، ومن هنا نقول: إن آلات الدف آلات محترمة شرعا، لها قيمة، ولو أنه استأجر أمرأة لضرب الدف في العرس فبإجماع العلماء -رحمهم الله- على أنها إجارة شرعية، وذكر العلماء هذا وفرقوا بين الدف وغيره كما هو معروف في كتاب الشهادات، ففرقوا بين آلات اللهو والعزف وبين الدف، فالدف مأذون به شرعا، وضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من غزوته، وكانت قد نذرت أن تضرب بذلك، ودخل عمر رضي الله عنه على المرأة وهي تغني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، وكان عند عائشة رضي الله عنه جاريتان تغنيانها بما كان في يوم بعاث، فالأصول الشرعية تقتضي جواز ضربه وسماعه، لكننا نقول: الإغراق في هذا الشيء والمبالغة فيه مكروهة، لكن لا نقول: إنه حرام، ولا نقول: يسمعه النساء ولا يسمعه الرجال، من أين هذا التفصيل؟! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا) ما قال: أعلن، والنص واضح في هذا، وينبغي للإنسان أن يتجرد للنص وأن يتبع النص، وإذا سمع أحد من أهل العلم يفتي بشيء عنده دليل وعنده حجة، ويعلم أن هناك سنة وأن هناك دليلا فإنه ربما يرد سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رد سنة -والعياذ بالله- عن هوى ضل، فعلينا أن نتقي الله عز وجل في الأحكام الشرعية، وأن نفرق بين الدف وغيره، ونقول: إن الإغراق فيه وكثرة سماعه خلاف الأولى، أو نقول: إن هذا مكروه؛ لأنه يشغل عن ذكر الله عز وجل الذي هو أفضل، لكن لا نستطيع أن نقول: إن هذا حرام! وهل يتعبد الله عز وجل عباده أن يضربوا الدف بالنكاح بالمحرمات؟! وهل يأمر الله عز وجل بإعلان النكاح بالأمور الممقوتة شرعا والمحرمة شرعا؟! حاشا والله! إذا جاء النص فالإنسان يعمل به، وعليه أن يحترم أهل العلم ويحترم اجتهادهم ونظرهم؛ لأننا مأمورون بالوقوف عند النصوص، وعلينا أن نظن خيرا بأهل العلم المتقدمين الذين أجازوا، والمتأخرين مادام عندهم حجة، فنقف معهم وألا يدعو الإنسان إلى رد السنة بالهوى، وبالشيء الذي يألفه، فيرى الذي يألفه مسنونا، والذي لا يألفه غير مسنون، ولو كان في بيئة تضرب الدف لكان شيئا عاديا أن يقول: إنه جائز ومباح! فلذلك ينبغي لنا أن نتجرد للحق، وأن نعلم أن هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع من الآلات وهو الدف وأنه جائز ومشروع.
وإذا كسر الدف وجب ضمانه، وإذا باع الدف واشتراه جاز ذلك؛ لأنه آلة لم يحرمها الشرع، ولم يحرم سماعها الشرع، وعلى هذا لو سرق هذه الآلة يجب القطع إن كانت تساوي نصابا أو أكثر، وهذا على الأصل عند أهل العلم.
حكم سرقة مال محرم كالخمر
قال رحمه الله: [ولا محرم كالخمر] .
ولا تقطع اليد في محرم كالخمر، المصنف -رحمه الله- أسقط المالية عن آلة اللهو، وعن الخمر، والخمر إسقاط المالية عنها لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فأسقط عن الميتة والخمر والخنزير المالية، والأصنام مفصل فيها على حسب مادتها كما هو معروف في قول جماهير العلماء والأئمة رحمهم الله، ولذلك لو كانت الأصنام من ذهب وسرقها شخص، وفيها ما يعادل النصاب فأكثر؛ قطعت يده، والخمر الخنزير والميتة محرمة العين؛ ولذلك لا مالية لها.
يقول رحمه الله: (فلا قطع) ، هذا مفرع على اشتراط المالية، أما الخمر ليست بمال، والميتة ليست بمال، والخنزير ليس بمال، والدليل على أن هذه الأشياء ليست بمال: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين وهو المتقدم، وأما الخمر ففيها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها) ، والخنزير فيه حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان كما في الحديث الصحيح: أنه ينزل حكما عدلا مقسطا، وأنه يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب) فلما قال: (يقتل الخنزير) أسقط عنه المالية، ودل على أنه لا قيمة له شرعا، ومن هنا: لو أنه سرق خنزيرا فإنه لا يجب عليه القطع.
ولو سرق حيوانا محنطا، وهذا الحيوان المحنط قيمته -مثلا- خمسة آلاف ريال، وهذا الحيوان المحنط من الميتات، فنقول: لا قطع؛ لأنه ليس له قيمة شرعا، ولو سرق آلة لهو، وهذه آلة اللهو من خشب فلو كسرت لا تساوي شيئا، أو تساوي ما دون النصاب؛ فإنه لا قطع، لكن لو كسرت مادتها وفيها ربع دينار فأكثر أو ثلاثة دراهم فأكثر؛ ففيه القطع، ويفصل بهذا التفصيل.

اختلاف العلماء في اشتراط النصاب لقطع يد السارق
قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون نصابا، وهو: ثلاثة دراهم، أو ربع دينار.
أو عرض قيمته كأحدهما، وإذا نقصت قيمته المسروق أو حكمها السارق لم يسقط القطع] .
ذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أننا لا نقطع يد السارق حتى يكون الذي سرقه قد بلغ النصاب، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اعتبار النصاب فقال: (في ربع دينار فصاعدا) فدل على أن ما دون ربع الدينار ليس بمحل للقطع، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في البستان إذا سرق منه الثمر بعد أن يؤويه الجرين أنه قال: (فإذا سرق منه بعد أن يؤويه الجرين -الذي هو الحرز- ما يعادل ثمن المجن قطعت يده) فاشترط عليه الصلاة والسلام شرطين: الشرط الأول: أن يكون الثمر قد أواه الجرين: وهو بيت الحفظ للثمرة، وهو حرز الثمرة، أما إذا كان على النخلة وسرق فلا قطع.
الشرط الثاني: أن يكون قد بلغ النصاب، فقال: (إذا بلغ ثمن المجن) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه قطع في المجن، قالت أم المؤمنين عائشة حينما سئلت عن المجن، قالت: إن قيمته كانت ربع دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط النصاب للقطع في السرقة، ومن هنا: ذهب الأئمة الأربعة إلى أننا لا نقطع في القليل والكثير، وإنما يشترط: أن يكون المال المسروق قد بلغ نصابا، واختلف الأئمة الأربعة في قدر النصاب كما سيأتي، لكنهم متفقون على أن النصاب شرط من شروط السرقة.
وذهب الظاهرية رحمهم الله إلى أنه لا يشترط النصاب، وأن من سرق أي شيء قليلا كان أو كثيرا؛ فعليه القطع، وهذا مبني على عموم القرآن في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38] ، قالوا: إن الله لم يشترط نصابا، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) قالوا: والبيضة لا تعادل ربع الدينار، وأجيب عن الدليلين بما يلي: الدليل الأول وهو قوله تعالى: (( والسارق والسارقة )) عام مخصص بالسنة، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، وأن العام من النصوص من الكتاب والسنة يجب حمله على الخاص، وحينئذ نقول: إن هذا النص وهو قوله تعالى: (( والسارق والسارقة )) قد جاء ما يبين لنا حد السرقة شرعا في السنة، فلا نعتبر ما دون النصاب سرقة، ولكن نوجب فيه تغريم السارق ضعفي قيمته، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث السنن، ولا نقطع، فإذا كان دون النصاب فإنه يغرم ضعفي القيمة ويؤدب ويعزر، ولكن لا تقطع يده.
أما بالنسبة لاستدلالهم بحديث: (لعن الله السارق) فأجيب بأن البيضة هي من السلاح، وتكون غطاء للمقاتل في قتاله، ومنها ما يعادل ثمنه الربع دينار، فمعنى قوله: (لعن الله السارق يسرق البيضة) أي: ما يعادل القطع، والحبل منهم من أجاب: بأن حبل السفن يعادل ربع الدينار، ولكن الأنسب في هذا الحديث أن يجاب عنه من أحد وجهين: الوجه الأول: أن نقول: أنه خرج مخرج المبالغة، وما خرج مخرج المبالغة لم يعتبر مفهومه، يعني: بولغ في الأمر، وليس المراد به اللفظ، مثل قوله: (الحج عرفة) ليس المراد: أنه لا يوجد حج إلا الوقوف بعرفة فقط، وإنما المراد به: المبالغة، وبيان عظم أمر عرفة، وهنا: عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم السرقة فقال: (يسرق البيضة فتقطع يده) ، وهذا على سبيل المبالغة والتبشيع.
الوجه الثاني: أن نقول: إن هذا الإطلاق مقيد بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون المراد به: ما عادل قيمة السرقة.
هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النصاب، فالصحيح: أنه لا نقطع اليد إلا إذا بلغ المال المسروق نصابا، وأن هذه الإطلاقات في الكتاب والسنة مقيدة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه: فإننا لا نقطع إلا فيما يكون نصابا.
قدر النصاب في مال السرقة
إذا كان النصاب معتبرا شرعا؛ ف
السؤال كم هو النصاب؟ ذهب الحنابلة، والمالكية من حيث الجملة -وعندهم تفصيل- إلى أن النصاب ما يعادل ربع الدينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة، والمالكية يرون أن الدراهم هي الأصل، والحنابلة يرون أن الدراهم والدنانير كلاهما أصل، أو ما يعادل قيمة أي واحد منهما، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- ودرج عليه، وهو قول طائفة من السلف رحمهم الله، هذا القول الأول.
القول الثاني: أنه لا يعتد إلا بربع دينار، وأن نصاب السرقة هو: ربع دينار، ولا ينظر إلى الفضة، وأنه لا بد من التقييم بالذهب وحده، وهذا مذهب الشافعية.
القول الثالث: أن النصاب هو: ربع دينار، أو عشرة دراهم، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله.
والذين قالوا بأن العبرة بربع دينار أو بثلاثة دراهم، أو ما يعادل قيمة أحدهما استدلوا بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما ربع الدينار فالحديث ثابت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) إذا: هذا أصل في الذهب، ونعتبر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) أن ما يساوي من الذهب ربع الدينار فأكثر نقطع به.
وأما الدراهم: فعندنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في دلو قيمته ثلاثة دراهم.
وهذا يدل: على أن الثلاثة دراهم نصاب في السرقة.
والذين قالوا: إن العبرة بربع الدينار -وهم الشافعية- احتجوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والذين قالوا: إن العبرة بعشرة دراهم استدلوا بحديث الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (لا قطع إلا في عشرة دراهم) ، وهذا حديث ضعيف.
والذي يترجح هو القول بأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو يعادل أي واحد منهما.
والفرق بين قول الشافعية والحنابلة: أنه لو سرق ثوبا وقيمة هذا الثوب -مثلا- ثلاثة دراهم، ولكنها لا تعادل ربع الدينار، فحينئذ عادل نصاب الفضة، ولم يعادل نصاب الذهب، فالشافعية لا يقطعون، والحنابلة يقطعون، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في المجن وقيمته ثلاثة دراهم، وهم يجيبون عن هذا، ولكن يعادل بالذهب أو بالفضة، أو ما هو معادل لقيمة الذهب أو قيمة الفضة، وهذا هو الصحيح، وله أصل، واحتج بعض العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة مثل الإمام ابن قدامة بأن هذا التقدير، وهذا المسلك اعتبره نفس الحنفية، والشافعية في كتاب الزكاة، واعتبروه في تقييم الأنصبة، واعتبروه في الديات في القتل كما مر معنا.
إذا: قول الحنابلة في هذه المسألة أشبه وأولى -إن شاء الله- بالترجيح وأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يعادل إحدى القيمتين.
ويتفرع على هذا: إذا قلنا: ربع دينار؛ أنه يقطع إذا كسر الدينار، وأخذ من هذا الكسر ما يعادل الربع، أو كان فيه كسرة تعادل ربع الدينار، ويشترط في قطعه بربع الدينار: أن يكون وزنها خالصا من الذهب، فلو كان ربع الدينار فيه غش مضروب، وفيه مادة من النحاس، بمقدار عشرة في المئة، أو عشرين في المئة، مغشوش بهذا القدر؛ فإن ربع الدينار ليس بخالص، فلا بد أن يكون مصفى من الذهب بعدل ربع الدينار، فإذا نقص بالشوب؛ فإنه لا قطع.
فيستوي في الربع الدينار أن يكون ربع دينار، أو يكون مقطعا أجزاء، ويستوي أن يكون من الدينار نفسه، أو يكون من الذهب تبرا، أو حليا، أو سبائك، وكل هذا إذا عادل الذهب الخالص منه ما قيمته ربع دينار؛ فإنه تقطع به اليد.
كذلك قولهم: ثلاثة دراهم، فإن أي شيء من الفضة يعادل بعد التصفية من الشوب ثلاثة دراهم فإنه تقطع به اليد.
يستوي أن تكون الفضة من الدراهم نفسها ثلاثة، أو تكون ثلاثة دراهم مكسرة، أو تكون قطعا فضية وزنها وزن الثلاثة دراهم خالصة، أو تكون -مثلا- أقلاما، أو حديدا مطليا بفضة ولو صفي هذا الطلاء الموجود لعادل ثلاثة دراهم؛ ففيه القطع.
كذلك أيضا: ما قيمته ربع دينار، وما قيمته ثلاثة دراهم: لو أنه سرق مجوهرات، فإننا ننظر إلى قيمة هذه المجوهرات، فلو سرق خاتما من زبرجد، أو خاتما من عقيق، أو خاتما عليه أحجار كريمة، أو خاتما من حديد، نظرنا قيمة هذه الأحجار الكريمة وقيمة الخاتم، فإن كان هذا الخاتم من حديد بنقشه وما فيه من الأحجار الكريمة وما هو مرصع به من الجواهر يعادل ربع الدينار في قيمته أو يعادل ثلاثة دراهم في قيمته؛ قطعنا يده.
وهكذا لو أنه دخل إلى محل وكسر حرزه وسرق منه -مثلا- كيس أرز أو كيس سكر نظرنا إلى قيمة هذا السكر أو الأرز، فإن كانت قيمته تعادل ربع الدينار أو تعادل قيمته ثلاثة دراهم؛ أوجبنا القطع.
ولو دخل -مثلا- مكتبة، وكسر بابها، ودخل إلى داخلها، فسرق منها كتبا أو أقلاما أو دفاتر، أو دخل إلى محل قماش فسرق منه طاقات قماش؛ ننظر إلى عدل هذه الأشياء من غير الذهب والفضة بالذهب والفضة، فإن بلغت بالذهب ما قيمته ربع الدينار فصاعدا قطعت يده، وإن بلغت بالفضة ما قيمته ثلاثة دراهم فصاعدا قطعت يده، وهذا هو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وأن الأمر لا يختص بنصاب الذهب، بل إنه يشمل الذهب أو الفضة أو ما يعادل إحدى القيمتين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-10-2025, 03:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



اعتبار قيمة المسروق عند إخراجه من الحرز
قال رحمه الله: [وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز] .
أو عرض قيمته -أي: قيمة النصاب- وقت إخراجها من الحرز، مثل ما ذكرنا في الأطعمة والأكسية، لو أنه مثلا: جاء إلى مستودع فيه حديد وسرق قطع حديد، أو جاء إلى قطع غيار وهي في حرزها محفوظة وكسر أقفالها ودخل إلى الحرز فأخرج حديدا قيمته تعادل النصاب فأكثر؛ فإذا وقع الأمر على هذا الوجه فهو سرقة؛ لأنه عادل النصاب.
لكن
السؤال هل العبرة في قيمة النصاب أثناء أخذ المسروق أم العبرة بعد إخراجه من الحرز؟ بعض العلماء يقول: العبرة بوقت الأخذ، وبعضهم يقول: العبرة بوقت خروجه من الحرز.
قلنا: إنه يشترط أن تكون القيمة وقت الخروج؛ لأن السرقة لا تتحقق إلا بالإخراج، فلو أنه كسر القفل وأراد أن يخرج المال من الصندوق ولم يخرجه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذ، وكذلك لو أنه دخل إلى مستودع الحديد أو مستودع قطع الغيار، أو المكتبة، أو دخل إلى محل القماش، فهذا شروع في الجريمة، والشروع في الجريمة لا يعتبر جريمة، يعني: لا يأخذ حكم الجريمة كلها؛ لأن الله جعل لكل شيء قدره، فمن عمل مقدمات الزنا ولم يزن فليس بآخذ حكم الزاني، ومن هنا: شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الجرائم التي لها عقوبات لمعرفة الفعل، حتى أنه سأل ماعزا رضي الله عنه، وشدد عليه حتى يتحقق أن الجريمة وقعت، وأن هناك فرقا بين الشروع في الجريمة وبين الجريمة نفسها، فالرجل حينما اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصاب من المرأة دون الحد، فهذا شروع في الجريمة، ولكنه لم يصل إلى الجريمة نفسها، فمن دخل إلى محل فيه قطع غيار، أو دخل إلى محل فيه المال فكسر أغلاقه، ولكنه لم يخرج؛ فليس بسارق، فإذا أخرج المسروق فقد وقع فعل السرقة، حينئذ إذا أخرج وتمت صورة الإخراج المعتبرة شرعا؛ نظرنا في قيمة المخرج، وهنا يرد السؤال عن النصاب: هل الذي أخرجه يعادل النصاب أو لا يعادله؟ فائدة المسألة: أنه لو دخل وكسر الأغلاق ووصل إلى داخل الحرز، ولكنه لم يخرج المال من الحرز فليس بسارق كما سيأتينا، فلو كانت قيمة المال الذي أخذه أثناء أخذه تعادل ربع دينار، ولكنه لما أخرجه نقصت قيمته عن ربع الدينار؛ فليس بسارق، أي: أنه لم يبلغ نصاب السرقة؛ لأن العبرة بوقت الإخراج، وليس العبرة بوقت الشروع في الجريمة، أو فعل الجريمة نفسها، ومن هنا اشترط العلماء: أن تكون القيمة وقت الإخراج.
ويترتب على هذا: ما لو أفسد المال قبل إخراجه، فلو أنه جاء -مثلا- يريد أن يسرق وعاء من الزجاج نفيسا غاليا، وكسر الأغلاق ودخل، ثم أراد أن يحمل الوعاء فسقط من يده فانكسر، ولكنه لم يخرجه من حرز، فحينئذ لم تتحقق السرقة، ويعتبر جناية إتلاف، وفيها الضمان، فلو أخذ أجزاء هذا المكسور، وكانت أجزاء المكسور تعادل ربع الدينار فهي سرقة، ولو أخذ أجزاء المكسور وهي لا تعادل ربع الدينار فليست بسرقة؛ لأنها دون النصاب، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخذ -أي: من الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع) فقال: (أخذ) فاشترط عليه الصلاة والسلام الأخذ، وقال: (ما قيمته ثمن المجن) فجعله عدلا بالنصاب، ومن هنا نعتبر قيمة النصاب وقت الإخراج، ومن هنا: لو أنه أراد أن يسرق شاة، وهذه الشاة قيمتها ربع دينار، ثم دخل إلى زريبة الغنم وأمسك بالشاة، ثم ذبحها حتى لا تصيح وتفضحه، فلما ذبحها أخرجها وهي مذبوحة نظرنا: فإذا كانت بعد الذبح تعادل ربع الدينار؛ فحينئذ ثبتت السرقة، وإذا كانت بعد الذبح ينقصها الذبح عن ربع الدينار، وعن ثلاثة دراهم فليست بسرقة؛ لأنه لم يأخذ مالا معادلا للنصاب.
إذا: العبرة عند العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله- بقيمة النصاب وقت الإخراج، ولو أنه في الساعة الثانية كسر الأغلاق، وفي الساعة الثالثة جمع المسروقات وخرج بها، فعند خروجه في الساعة الثالثة كان قيمة هذه الأشياء المسروقة لا تعادل النصاب سقط الحد مع أنه وقت الكسر للأقفال، ووقت الشروع في الجريمة كانت تعادل النصاب.
هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: يقولون: لو أنه دخل وأتلف الشيء، مثل: أن يبلعه، لو أنه مثلا: أخذ ذهبا وبلعه حتى لا يعرف أنه سرقه، ثم خرج به، فهل هو سارق؟
الجواب نعم، يعتبر سارقا؛ لأنه إذا بلعه فقد حفظه في جوفه كما لو حفظه في جيبه، فالجوف مثل الجيب، وهذه حيلة لبعضهم أثناء السرقة: أنهم يبلعون بعض الأشياء المسروقة، ثم يأخذونها -أكرمكم الله- إذا خرجت من الجسم، وبعض العلماء يقول: لا، هذه شبهة: إذا بلعه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذه محمولا، وهذا ضعيف؛ لأن الحمل بالجوف كالحمل باليد، ولا شك أنه إذا خرجت فضلات الجسم خرج هذا الشيء، وبعد ذلك يتحقق أنه سرق، فالذين يقولون: إنه لا يعتبر سارقا، يقولون: لا يعتبر سارقا إلا إذا أخرجه، فإذا أخرجه فإنه سارق، وإذا لم يخرجه فليس بسارق، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا وضعه في جوفه ولم يخرجه احتمال أنه يموت قبل أن يخرجه، وحينئذ لا تتحقق السرقة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يشترط أن ينتفع به، وإنما يشترط فقط أن يتسبب في إخراجه من الحرز، كما لو أنه أخذ المال، ورماه من فوق الجدار، ثم تأخر بالخروج، وجاء سارق آخر وأخذه، ففي هذه الحالة يعتبر سارقا؛ لأن السرقة تتحقق بالإخراج، سواء هو الذي انتفع، أو انتفع غيره، فالجريمة وقعت، ومن هنا يقال: العبرة بوجود الأخذ، والعبرة في القيمة بوقت الإخراج، لا بوقت الأخذ.
قال رحمه الله: [فلو ذبح فيه كبشا، أو شق فيه ثوبا، فنقصت قيمته عن نصاب، ثم أخرجه، أو تلف فيه المال؛ لم يقطع] .
فلو ذبح فيه كبشا، في داخل الزريبة قبل أن يخرجه من الحرز، وكانت قيمة الكبش مذبوحا أقل من قيمة النصاب، وقيمته حيا تعادل قيمة النصاب سقط الحد؛ لأنه لما خرج أخرج مالا دون النصاب.
وقوله: (أو شق ثوبا) ، جاء إلى فستان يريد أن يسرقه، وهذا الفستان تعادل قيمته قيمة النصاب إذا كان مفصلا، ولكنه لو قطع فإنه لا يعادل قيمة النصاب، فجاء يريد أخذ الفستان فشاء الله عز وجل أن ينشق الفستان أو أنه فسد بأي طريقة، سواء نزعه أو أراد أن يحفظه فانشق، أو هو شقه بالقصد، فكل هذه الأحوال مادام أنه حصل الإتلاف الذي ينقص القيمة عن النصاب فإنه يؤثر.
وقوله: (فنقصت قيمته عن نصاب) ، يعني: أثناء الخروج.
وقوله: (ثم أخرجه، أو تلف فيه المال لم يقطع) ، أقول: لا تستعجبوا من الأمثلة! لأنه لا بد أن نأتي بأمثلة نطبق عليها قواعد العلماء -رحمهم الله- ومن هنا يظهر الفقه، فلو سرق شخص طبق بيض، وطبق البيض قيمته تعادل النصاب، فلما أراد أن يخرج سقط البيض من يده على الأرض وتلف قبل أن يخرج، فحينئذ لا قطع، ولو أنه أخذ خلا في إناء من زجاج، والخل هذا قيمته ربع دينار فأكثر، أو ثلاثة دراهم فأكثر، ثم جاء يحمله فانزلق من يده فانكسر، فحينئذ تلف الخل، وتلف البيض، فهذا التلف يذهب القيمة، فلا حد ولا قطع؛ لأنه لم يسرق، والشروع في الجريمة لا يوجب ثبوت الحد كما ذكرنا.


الأسئلة




لا ضمان ولا قطع في قتل أو سرقة الكلاب
السؤال هل كلب الصيد أو الحراسة من المال المحترم؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه.
أما بعد: كلب الصيد ليس بمال محترم، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: (ثمن الكلب خبيث) وفي لفظ: (ثمن الكلب سحت) ، وفي الصحيحين أيضا من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب) ، وفي الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه سئل عن بيع الكلب والسنور فقال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سنن أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: (إن جاءك يريد أخذ ماله، أو أخذ ثمنه فاملأ كفه ترابا) ، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن الكلب ليس بمال، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاءك يريد أخذ ماله فاملأ كفه ترابا) ، فأسقط المالية عن الكلب، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب المأذون باتخاذه -ككلب الصيد والحرث والماشية- وبين غيرها، ومن هنا: فالحكم عام، وعليه: فإنه لو قتل كلب صيد، فلا ضمان على من قتله، وقد تقدمت معنا في باب البيع هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
الفرق بين سرقة الثمار من النخل وبين السرقة من مكان مسور
السؤال أشكل علي أنه لا قطع على من سرق من النخل، وبين من سرق من مكان مسور لا يدخله أحد إلا بإذن صاحبه، مثل مزارع النخيل؟
الجواب الحرز لا بد من اعتباره في السرقة، والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثمرة على النخلة، وبين الثمرة في حرزها، فقال: (لا قطع في ثمر ولا كثر) ، والحديث في السنن عند أبي داود، وابن ماجة، والترمذي، وأحمد في مسنده، والنسائي، وهو حديث صحيح، فبين أنه لا قطع فيها، وروى النسائي -وهو حديث صحيح أيضا- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أخذ بفيه -أكل- من غير خبنة، ولم يحمل شيئا فلا قطع، فإن أخذ -من الثمر- وخرج به -من البستان- قبل أن يؤويه الجرين فعليه العقوبة، وضعف القيمة ... ) يعني: يعاقب بأن يدفع قيمة الثمر مرتين، ويعاقب بالتعزير كما تقدم معنا ما كان دون الحد، (ومن أخذ بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع) ، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحرز، ولم يجعل الثمرة على النخل حرزا، ومن هنا لو قص العرجون من فوق النخلة، ولوكان يساوي ربع الدينار فإنه لا قطع عليه؛ لأنه لم يحصل الشرط وهو الدخول والأخذ من الحرز.
وأما مسألة البساتين نفسها إذا كانت محاطة، فإن هذا السياج ليس وحده هو الحرز؛ لأن السنة بينت أنه يشترط في الثمر أن يؤويه الجرين؛ لأن البساتين مثل المساجد، ومثل الأماكن العامة، يدخلها الناس، فمنهم من يدخل بإذنه، ومنهم من لا يدخل بإذنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مر ببستان فدخله فأكل منه غير متأثل -يعني: غير متمون- وأكل على قدر كفايته فإنه ليس بسارق، وهذا مما أذن به، ولذلك الخارص إذا خرص النخلة أسقط منها هذه الأشياء المأخوذة، ولا زكاة فيها، فالشريعة فرقت بين الأخذ من البساتين من ثمارها ومما فيها من النتاج مادام أنه لم يؤوه الحرز والجرين كما في الثمر، وبين الذي قد آواه الجرين، فما كان داخل الحرز وأخذ من حرزه ففيه القطع، وهذا تفريق السنة، وليس تفريقنا نحن, فليس بمحل إشكال.
وكونك تقول: لو جاء وأخذ من المستودعات المحاطة بأسورة أنه تقطع يده، فهناك فرق، فالمستودعات المعدة للحفظ أسورتها حرز لها، إذا وضعت عليها أسورة تتناسب مع المال المحفوظ، وكانت في موضع وعليها حراسها، ومن هنا: يكون الشيء الموضوع وفي الحرز، والعين الحافظة، فإذا جاء وتغفل الحافظ وسرق المال، فإنه قد سرق من حرز، بخلاف الثمر الذي على النخل، وهذا كله بتفريق الشرع، وهذا مال حرزه أن يؤوى إلى الجرين وهو الثمر، وهذا مال حرزه أن يكون محفوظا داخل هذه الأسورة، أو داخل هذا الحائط، ونحو ذلك، وعلى هذا لا إشكال، كل مال يعتبر فيه الحرز بحسبه، والله تعالى أعلم.

عدم الفرق بين قولك: اتفق العلماء وأجمع العلماء

السؤال هل هناك فرق بين الاتفاق والإجماع؟ وهل يعتبر اتفاق العلماء إجماعا؟

الجواب الإجماع له صيغتان: صيغة قوية، وصيغة ضعيفة، بعض العلماء يقول: قوية وضعيفة، وبعضهم يقول: صريحة وغير صريحة، فصيغة الإجماع القوية والصريحة: أجمعوا واتفقوا، فإذا قال العالم: اتفق العلماء، أو قال: أجمع العلماء، فهو إجماع، ولا يقال: اتفقوا وأجمعوا إلا فيما فيه إجماع مثل ما نقول: اتفقوا على وجوب الصلاة، واتفقوا على وجوب الوضوء، هذا إجماع، والاتفاق بهذه الصيغة يعتبر من صيغ الإجماع القوية والصريحة.
أما صيغة الإجماع الضعيفة فهي: لا خلاف، ولا نعلم مخالفا، ولا أعلم مخالفا، ولا يعلم له مخالف، فهذه كلها من الصيغ الضعيفة، يحتمل ما قلنا: لا نعلم خلافا، حسب علمنا، ولكننا لم نعلم، ولا يعلم مخالف -هذه بصيغة البناء للمجهول- ولكن قد يوجد المخالف، لكن حينما تقول: أجمعوا، فمعنى ذلك: أنهم اعتبروا الحكم المذكور في الإجماع، والاتفاق إجماع.
وبعضهم يقول: (اتفقوا) للأئمة الأربعة، و (أجمعوا) لغيرهم، وهذا غير صحيح، فالعلماء وأئمة الأصول يقولون: إن اتفقوا: من صيغ الإجماع الصريحة, وليست خاصة بالمذاهب الأربعة، فينبه على هذا، لكن إذا كان عالم من العلماء سار على مصطلح ففرق بين أجمعوا واتفقوا، فجعل اتفقوا في الأئمة الأربعة، وأجمعوا فيما زاد عنهم وهو الإجماع المحرر، فهذا اصطلاح خاص، ولكن الأصل عند علماء الأصول: أن صيغة أجمعوا واتفقوا واحدة، ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم.
الإمام ابن رشد والإمام ابن قدامة من أئمة النقل للإجماع يعبران بـ (اتفقوا) ، ويعبران بـ (أجمعوا) ، والإمام ابن حزم رحم الله الجميع يقول في مراتب الإجماع: واتفقوا، فيعبر عن الإجماع بالاتفاق، فمسألة أن صيغة (اتفقوا) لا تدل على الإجماع، هذا ليس بصحيح، بل تدل على الإجماع، وعلى هذا تعتبر من الصيغ القوية، وعرفوا الإجماع بقولهم: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام الشرعية في أي عصر من العصور، قالوا: الإجماع: اتفاق، فعبروا بالاتفاق عن الإجماع، فدل على أنهم يعتبرون الإجماع اتفاقا.
متى تدرك الركعة مع الإمام
السؤال بم تدرك الركعة مع الإمام؟
الجواب تدرك الركعة مع الإمام بإدراك التكبير للركوع والفراغ منه قبل أن يبدأ الإمام بالتسميع، فإذا وجدت الإمام قد حنى ظهره، وفرغت من الله أكبر، فكبرت للركوع قبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركت الركعة، وإذا أدركت الركعة أدركت الصلاة، وعلى هذا ففي يوم الجمعة، لو أنك جئت في الركعة الثانية والإمام في الركوع، وقلت: الله أكبر، وأدركت الركوع قبل أن يرفع الإمام، وقبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركتها جمعة، فتضيف ركعة واحدة، ولكن لو أن المأموم جاء وقال: (الله) وقبل أن يقول: (أكبر) ، قال الإمام: سمع، فحينئذ لم يدرك الركوع، ويبقى واقفا؛ لأنه أدرك ما بعد الركوع، فإذا بدأ الإمام بالسين من (سمع) انقطع الإدراك، سواء كان ذلك قبل أن يكبر للركوع، أو أثناء تكبيره للركوع، وقبل الفراغ، فالشرط أن يفرغ من الله أكبر، قبل أن يبدأ الإمام بالسين من سمع، حتى لو رأيت رأسه مرفوعا، ولم يتكلم وكبرت أنت بسرعة، وتكلم بعد أن كبرت فإنك قد أدركت الركوع، فالعبرة بالانتقال بالفعل وليس بالقول.
كيفية صلاة المجتهدين المختلفين في القبلة جماعة
السؤال رجلان اجتهدا فتخالفا في القبلة، فأحدهما يصلي إلى جهة المشرق، والآخر إلى جهة الشمال، هل من الممكن أن يصليا جماعة وهما على هذه الحالة؟
الجواب يصلي كل واحد إلى جهته؛ لأنه يعتقد أن القبلة في غير جهته، فإذا صلى مع الآخر فقد صلى إلى غير قبلة، ومن هنا نص الجمهور على أنه: إذا اختلف مجتهدان في قبلة لم يجز لأحدهما أن يصلي وراء الآخر، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يصلي أحدهما وراء الآخر، وجعلوا هذه المسألة من مسألة الاقتداء في المخالف في الفروع، وهي مسألة تحتاج إلى تحرير، والأول أحوط وأقوى وأولى إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
ترك صلاة الجماعة للضرورة
السؤال أنا طبيب في الطوارئ في أحد المستوصفات الطبية، هل يجوز لي الصلاة في جماعة في العمل حيث أنه توجد أحيانا حالات حرجة؟
الجواب الأطباء تتعلق بهم أرواح الناس، ولا شك إذا كان في وقت يخشى فيه إتيان الحالات الطارئة، أو خصص للحالات الطارئة، وهكذا من يكون في حراسة أموال الناس، أو حراسة أرواحهم كأجهزة الأمن ونحوها، أثناء تلبسهم بهذه الأعمال يرخص لهم في ترك الجماعة، ويرخص لهم في ترك الجمعة إذا حصلت ضرورة، وهذا مبني على أصول الشريعة: أنه إذا خشي على الأنفس يجوز لهم أن يصلوا جماعة في أعمالهم، خاصة وأنه يقول: أصلي جماعة في عملي، فهذا لا بأس فيه، ولا حرج، بل حتى لو أدى الأمر إلى ترك الجماعة فهو مرخص له.
وتوضيح ذلك: أنه لو جاءته حالة طارئة بين الحياة والموت، وتوقف لإنقاذ هذه الجراحة على عمل جراحي، أو تدبير جراحي، فإنه في هذه الحالة مسئول أمام الله عن هذه النفس، وتعين عليه شرعا أن ينقذها، حتى إن بعض العلماء يقول: كل طبيب قدر على إنقاذ نفس ولم ينقذها فإنه -والعياذ بالله- يعتبر قاتلا، كما لو رأى غريقا وهو قادر على إسعافه وإنقاذه، ولم يسعفه يعتبر قاتلا، حتى إن الإمام ابن حزم -رحمه الله- يرى أن عليه القصاص، ويقول: لأنه كان قادرا على إنقاذه، وهذا قول مرجوح؛ لأنه بعض الأحيان لا يقصد قتله، لكن انظروا كيف يشدد العلماء في التساهل في هذا الحق! فهم يعتبرونه من الفرض العيني إذا توقف إنقاذ هذه النفس عليه، وأما الدليل: فلا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن الجماعة للمرض، وكان معه العباس، وعلي رضي الله عنهم، ثم خرج إلى الصلاة وهو يهادى بينهما، فمعنى ذلك: أنهما لم يحضرا الجماعة، وكانا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضا بحديث أنس في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، قال أنس رضي الله عنه: (فصلى في المشربة فصلينا بصلاته) ، فتركوا الجماعة في المسجد، وصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المشربة، وله أصل من فعل السلف: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع الصارخ على ابن عمه، وهو في سكرات الموت، وهو خارج إلى صلاة الجمعة، فترك الجمعة ورجع إلى ابن عمه، وهذه أحوال خاصة إذا خشي فيها على النفس الموت والهلاك.
فالأطباء عليهم مسئولية، تصور لو أن طبيبا قال: أذهب وأحضر الجمعة، وذهب وحضر الجمعة، وجاءت حالة طارئة في نفس وقت صلاة الجمعة، فمن يكون المسئول أمام الله عز وجل؟ هو خصص من ولي الأمر، وأعطي راتبه من بيت مال المسلمين على أن يقوم بهذا الأمر، ويكلف به، ويناط به، فقد تعين عليه أن يقوم به، لكن لو أنه أراد أن يخرج إلى موضع قريب يصلي به واحتاط، وقال لهم: بمجرد أن تروا حالة طارئة أخبروني، فهذا إذا كان يتدارك فيه الأمور لا بأس، أما لو أنه لا يتدارك الأمور، فلا يجوز التغرير بأرواح المسلمين، والمخاطرة بها، ولذلك أسقط الله عن المسلمين الجماعة عند الخوف على النفس، كما في حال المسايفة، فإنه في حال القتال في المسايفة يصلي الرجل وهو يضرب العدو، لماذا؟ لأنه لو تفرغ يصلي لقتله العدو، فحفظ الله النفس، وأسقط بحفظ النفس أفعال الصلاة كلها من الركوع والسجود، حتى إن الرجل ليضرب بسيفه، ويقول: الله أكبر! سبحان ربي العظيم، وهو لا يركع ولا يسجد ولا يستقبل القبلة، كما قال الله عز وجل: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة:239] ، فأحل في حال المسايفة أن نصلي رجالا، وركبانا، ولا نستقبل القبلة، ولا نركع ولا نسجد حفاظا على الأنفس والأرواح، فإذا كان في نفس واحدة تتخلف، فما بالك بمن أنيطت به أرواح الناس! وبمن أنيطت به أجسادهم! لا شك أن هذا أولى وأحرى، ولذلك هؤلاء الأطباء ونحوهم ممن تتعلق بهم أرواح الناس وتتعلق بهم المسئولية عن هذا الأمر العظيم يرخص لهم في ترك الجمعة والجماعة، ولكن ينبغي لكل طبيب أن يرجع إلى عالم ليضع له الضوابط المعتبرة لهذا الترك، ومتى يعتبر معذورا، ومتى لا يعتبر معذورا، والله تعالى أعلم.
حكم من فقد الماء أثناء ركوب الطائرة
السؤال من أدركته الصلاة على الطائرة، ولم يجد ما يتوضأ به من الماء، ولا ما يتيمم به، فكيف يؤدي صلاته؟
الجواب هذا فيه تفصيل: إذا كان السفر يستغرق وقت الصلاة، بحيث لا يمكن أن ينزل إلى الأرض، ويجد الماء قبل خروج الوقت فإن حكمه حكم فاقد الطهورين، وفاقد الطهورين يصلي على حاله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فقد النبي صلى الله عليه وسلم العقد لعائشة رضي الله عنها بذات الجيش، وطلبه الصحابة رضوان الله عليه، فذهبت طائفة من الصحابة، وأبعدت، فأدركتهم الصلاة، ولم يفرض التيمم بعد، فصلوا على غير وضوء وعلى غير تيمم، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحح صلاتهم؛ لأن التيمم ما شرع بعد، فنزلت آية التيمم بسبب هذه الحادثة، ومن هنا: أخذ العلماء أن فاقد الطهورين يصلي ولا يقضي، والشرط في هذا: أن يستغرق وقت الرحلة وقت الصلاة، فمثلا: يسافر وقت الفجر ويدركه وقت الفجر في الطائرة، ولا ينزل إلى الأرض إلا بعد طلوع الشمس، أما لو أنه نزل قبل طلوع الشمس بوقت يمكنه أن يدرك الصلاة في المطار ويتوضأ، فيجب عليه أن يؤخر الصلاة حتى يدرك الماء ويتطهر كما أمره الله عز وجل ويصلي.
وجمع الصلاتين له نفس الحكم، فلو أنه سافر وقت الظهر، وسينزل إلى الأرض في وقت العصر، فحينئذ يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فإذا نزل توضأ وصلى الظهر والعصر جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، لكن لو أن السفر في ساعات تستغرق وقت المغرب مع العشاء، ولا يصل إلا في وقت الفجر، فحكمه حكم الصورة الأولى التي تقدمت، فيشترط أن يستغرق وقت الفريضة كاملة، سواء كانت مجموعة إلى غيرها، فينظر إلى وقت الثانية، أو كانت غير مجموعة فينظر إلى وقتها نفسها، والله تعالى أعلم.
حكم التسول في المساجد
السؤال كثيرا ما نرى أناسا يقومون بعد انتهاء الصلاة فيقطعون على المصلين تسبيحهم، ويقومون بشرح ظروفهم المادية ويتسولون داخل المسجد، فهل هذا جائز؟ وهل يجوز منعهم؟ وما هو واجب إمام المسجد تجاه ذلك علما أن كثيرا منهم يصطنعون الإعاقة؟
الجواب بالنسبة للذي يكذب ويصطنع فلا إشكال أنه آذى المصلين في بيت الله عز وجل وكذب، وأخذ أموال الناس بالباطل، ومن سأل الناس تكثرا لم تزل المسألة فيه حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم.
والسؤال لا خير فيه ما لم يضطر إليه الإنسان لدين أو نحو ذلك؛ فإنه يسأل، أما هذا الشكل الموجود بمجرد انتهاء الناس من الصلاة يقوم ويصيح ويلغط، فالحقيقة لو منع هؤلاء برفق وقيل لهم: اذهبوا إلى باب المسجد، وانتظروا حتى يتصدق الناس عليكم، فالمساجد ما بنيت من أجل عرض حال المرضى وحالات المديونين، ولقد كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر، ولربما صرع في المسجد، كما كان حال أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك ما جعلوا المساجد لهذا.
الإشكال هو في الصياح، أما السؤال داخل المسجد لو مر على الناس وسألهم فأعطوه فجائز، لحديث علي رضي الله عنه المشهور، فيخفف فيه، ما لم يصل إلى حد الأذية.
لكن الذي نشاهده بعد السلام مباشرة والصياح واللغط فهو أمر فيه إزعاج، والأشبه أن هؤلاء يمنعون برفق حتى لا يقع في نهي السائل، وإن كان بعض العلماء يرى أن قوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} [الضحى:10] أن المراد به: سائل العلم؛ لأن الله تعالى يقول: {ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى:6 - 8] ، فقال: (( ألم يجدك يتيما )) ثم قال: {فأما اليتيم فلا تقهر} [الضحى:9] ، ولما قال: (( ووجدك ضالا )) قال: {وأما السائل فلا تنهر} ولما قال: (( ووجدك عائلا )) قال: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى:11] ، وهذه مقابلة، والمقابلة معتبرة في نصوص الكتاب والسنة، وإذا قلنا بالمقابلة فإن السائل المقصود به سائل العلم، ولذلك لا ينهر سائل العلم، ودلت على أنه لا يجوز أذية سائل العلم؛ لأن أمره عظيم، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات بسبب الإعراض عن السائل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه.
فالشاهد: أن هؤلاء يشوشون على الناس ويؤذونهم، فذكر بعض الأحوال وبعض القصص، والكشف حتى عن مواضع لا يليق كشفها أمام الناس، فهذا أمر لا شك أنه مؤذ جدا، وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق، فقد توسع الناس بشكل فظيع جدا، وأعجب من هذا الكذب! ذات مرة قام رجل في مسجد وشكى، ويعلم الله حينما تسمع شكواه يرق قلبك، وكان هذا بعد صلاة المغرب، ففوجئت لما جلس للسؤال، جاءني رجل -هو ليس من المدينة وإنما جاء من مدينة أخرى- جاءني رجل من جماعته، وقال: هذا الرجل يملك ثلاث عمائر بهذه الطريقة التي يكذب بها على الناس، قلت له: أناشد الله أن تصدق فيما تقول، لا تتهم الناس، قال: والله! إني لأعرفه وأعرف أولاده، اسمه فلان بن فلان الفلاني، ويسكن في المكان الفلاني من المدينة الفلانية، وولده الكبير اسمه فلان، اذهب إليه، وقل له: أنت فلان؟ وانظر! وقفت أنا، وليس من شأني هذا، ولكني تألمت جدا أن يكذب على الناس، ويأخذ أموال الناس، وذكر أشياء ليست صحيحة، فقلت: فلان! فالتفت، قال: نعم، قلت: أنت أبو فلان، قال: نعم، قلت: أنت فلان بن فلان، قال: نعم، قلت: تعال أريدك، فسألته قلت: عندك في بلد كذا وكذا عمائر، وأنت رجل غني، فتغير وجهه ولم ينكر، قلت له: الآن تترك هذا المال في مكانه، وتصرفنا معه بما ينبغي، لكن الشاهد: ثلاث عمائر يملكها، ويكذب على الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر جد خطير! فلا شك أن هناك من يكذب، وهناك من يتصنع، فنسأل الله السلامة والعافية، فمثل هؤلاء لا يجوز معاونتهم على الباطل، ولا يجوز معاونتهم على الكذب على المسلمين، وأيا ما كان أوصي إخواني ألا يتعجلوا في أذية هؤلاء؛ لأن هناك فعلا من عنده ظروف قاهرة، وهناك من ألجأته الحاجة، ولذلك يترفق الإنسان حتى لا يؤذي الصادق؛ لأن هناك أناسا هم صادقون، والسبب أن الناس تغيروا، وقل أن تجد من تسأله، حتى اضطر بعضهم إلى أن يقف أمام الناس ويسألهم، فنسأل الله العظيم للجميع التوفيق والهداية، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24-10-2025, 03:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (527)

صـــــ(1) إلى صــ(11)


شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [3]
يشترط في قطع يد السارق أن يكون السارق قد أخرج المال من حرز، ويرجع في معرفة حرز الأموال إلى العرف؛ لأن العادة محكمة، وقد بين أهل العلم أدلة ذلك كما تراه في هذه المادة.
شروط فعل السرقة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وأن يخرجه من الحرز] أي: يشترط في وجوب قطع يد السارق: أن يكون الشيء المسروق قد أخرجه من الحرز، وهذا الشرط يتعلق بركن الفعل والأخذ، فقد تقدم معنا أن السرقة تقوم على: سارق، وشيء مسروق، وفعل للسرقة، فهذه ثلاثة أركان ذكرها العلماء رحمهم الله في تحقق ماهية السرقة، فلو وجد السارق، ولم يوجد المسروق، ولم يوجد الفعل؛ لم تقع السرقة؛، ولو وجد السارق، ووجد الشيء المسروق، ولم يوجد الفعل لم تقع السرقة، إذا لا بد من الثلاثة الأشياء.
فأما السارق فقد تقدمت الشروط التي ينبغي توافرها فيه حتى نحكم بقطع يده.
وأما الشيء المسروق فقد تقدم أنه يشترط أن يكون قد بلغ النصاب، وأن يكون مالا محترما، إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.
شرع المصنف رحمه الله بهذا الشرط في فعل السرقة، وفعل السرقة يقوم على أمرين: الأمر الأول: ما يسميه العلماء: الأخذ.
والأمر الثاني: أن يكون الأخذ من الحرز.
إذا: لا بد من وجود الأخذ، والإخراج إذا كان الشيء محرزا في مكان، وأن يكون هذا الأخذ من الحرز، وعلى هذا فإنه يتحقق بهذين الوصفين شرط فعل السرقة المعتبر.
إذا: لا بد من الأخذ، قالوا: فلو أنه جمع المتاع؛ فإنه لا يوصف بكونه آخذا إلا إذا انتقل به، ولو أنه كما ذكرنا بلع المسروق، فإنه عند طائفة من العلماء لا يعتبر آخذا له إلا إذا خرج، فإذا: لا بد من وجود الفعل وهو الأخذ، وهذا الأخذ يشترط أن يكون من الحرز، فلو أنه أخذ من غير حرز فلا قطع، ومن هنا نص المصنف رحمه الله على اشتراط الحرز.
إخراج المال المسروق من حرزه
وأصل الحرز في لغة العرب: الحصن، وهذا حرز للمال، أي: شيء يحفظ به، والحرز ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الحرز بالمكان.
القسم الثاني: الحرز بالحافظ والمراقب.
فأما حرز المكان فهو أن يكون المكان ممتنعا، ولا يحق لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، فكل مكان انطبقت عليه هذه الصفة فهو حرز، فمثلا: البيوت تعتبر حرزا؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يدخل بيت أحد إلا بإذنه، ولأنها تحفظ ما بداخلها، وإذا قلت: إن البيت حرز، فإنه لو دخل وأخذ شيئا من البيت، مثل: أن يأخذ طاولة أو أواني ثم يخرج بها فهو سارق؛ لأننا نعتبر البيت حرزا.
ومن هنا حرز المكان أن يكون حافظا لما فيه، ولا يمكن لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، ويشمل هذا البيوت والشقق أو -كما يقول المتقدمون- الدور، ويشمل أيضا في زماننا الصناديق والخزائن والأحواش المحصنة والأسوار المغلقة التي لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا باحتيال، وكل شيء محصن محفوظ من الأبنية فإنه حرز، وعلى هذا فإن أي بناء منع الغير من الدخول فيه أو لا يتمكن الغير من الدخول فيه إلا بإذن فإنه حرز.
ثم هناك أحراز يمكن نقلها مثل: الصناديق، فإنها تعتبر حرز مكان، والخزائن تعتبر حرز مكان، هذا القسم الأول من الحرز.
القسم الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ، وهو أن يكون المال له عين تراقبه، كالإبل معها الراعي، والغنم والبقر معها الراعي الذي يحفظها بإذن الله عز وجل، فحرز الحافظ يكون للشيء الذي لا يشترط في الدخول فيه إذن، مثلا: المسجد، فلو أن شخصا سرق من المسجد شيئا يساوي النصاب لم نقطع يده إلا إذا كان محرزا بحارس أو أمين أو مراقب، أو سرقه من تحت الشخص، ولذلك صفوان رضي الله عنه قطعت يد سارقه؛ لأن صفوان وضع الرداء تحته، وسرق السارق رداء صفوان من تحت رأسه، ولو أنه نام والرداء تحته ثم انقلب عنه فلم يصبح تحته وجاء السارق وأخذه لم تقطع يد السارق؛ لأن المسجد ليس بحرز مكان، إذ يدخل فيه الإنسان من دون إذن، فالأماكن العامة والحدائق والمنتزهات لا تعتبر حرزا إلا إذا كان عليها رقيب أو حارس وتمت السرقة باستغفال هذا الرقيب والحارس وأخذت خفية، فحينئذ يحكم بكونها سرقة، وفرق العلماء رحمهم الله بين هذين بتفريق الشرع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بين أن سرق الثمر من النخل لا قطع فيه، فلو أن شخصا أخذ من فوق النخلة عرجونا؛ فإنه لا تقطع يده، وإنما عليه ضمان هذا العرجون بمثليه ثم يعاقب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم، وقال: (من أكل منه دون أن يحمل معه شيئا فلا قطع عليه، ومن أخذ -أي: الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما يعدل ثمن المجن؛ قطع) فاعتبر عليه الصلاة والسلام البستان من حيث الأصل ليس حرزا؛ لأن الغالب أنه يمكن دخوله والأخذ منه، وجعل عليه الصلاة والسلام لمن مر ببستان فأكل منه دون أن يحمل معه شيئا؛ أنه لا شيء عليه.
إذا: الأصل عندنا أن الحرز يكون على هذين الوجهين: الوجه الأول: إما أن يكون الحرز بالمكان، وهو الذي يكون معدا لحفظ الأشياء.
الوجه الثاني: أن يكون معدا لحفظ الأشياء مثل: الصناديق والأحوشة والأسورة المغلقة على ما فيها، ولا يستطيع أحد أن يدخل فيها إلا بإذن، فإذا تحقق هذان الوصفان؛ فإنها أمكنة تعتبر حرزا لما فيها، فمثلا: جاء إلى دكان -الدكان يعتبر حرزا- ثم كسر باب هذا الدكان، وأخذ ما بداخله أو احتال على قفل الدكان فكسره ثم فتح الباب ودخل، أو جاء إلى زجاج المحل فكسره أو احتال فقصه ودخل؛ فإنه قد دخل إلى مال في حرزه.
وهكذا لو أنه جاء إلى بقالة وهي مغلقة وموصدة أبوابها فكسر أقفالها أو احتال على الدخول عليها من الأبواب التي تكون في الظهر وتكون بعيدة عن أعين الناس؛ فدخل منها بكسر الأغلاق، أو كسر تلك الأبواب أو الاحتيال على النوافذ برفعها والدخول فيها؛ فقد دخل إلى الحرز.
إذا: هذه الأمكنة المبنية المعدة للحفظ تعتبر حرزا، وكذلك الأمكنة التي لا يدخل إليها إلا بإذن، تعتبر حرز مكان.
يبقى
السؤال لو كان المكان حرزا لا يدخل فيه إلا بإذن لكن فتح بابه، فهل حكمه أثناء غلق الباب كحكمه إذا فتح بابه، والعكس؟ مثلا: نقول: إن الشقة حرز، وإذا كان بابها مغلقا واحتال على الباب ودخل وسرق منها فهو سارق، لكن لو أنه جاء ووجد باب الشقة مفتوحا، فانسل خفية ودخل، فهل هو سارق؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: الوجه الأول: منهم من اعتبر دخوله واحتياله بالدخول دون أن يشعر به أهل المحل سرقة من الحرز، ويستوي عند هؤلاء أن يكون الباب مفتوحا أو يكون الباب مغلقا في الأمكنة المعدة للحرز.
الوجه الثاني: من أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا كان الباب مفتوحا؛ فالمنبغي على أهل البيت أن يراقبوا، وأن يجعلوا أحدا يراقب، ومن هنا إذا دخل لا قطع، والمذهب الذي يقول بوجوب القطع يقول: إن هذه الأماكن في الأصل -حتى ولو كانت أبوابها مفتوحة- لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا بإذن، والعرف جار بكونها حرزا، ولا يدخل إليها إلا بإذن.
النوع الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ والمراد به الحارس، ومن يوضع لمراقبة الأموال، فالأشياء التي تحفظ بالرقيب إذا عدمنا المكان، أو كان الشيء في غير موضع حرز؛ فإنه يحفظ بالرقيب، فمثلا: الإبل البقر الغنم تحفظ بالرقيب.
فالأسواق المفتوحة تحفظ بالحراس، فلو وقعت السرقة في حال عدم وجود حارس؛ فإنها ليست بسرقة؛ لأنها ليست بحرز، فليس هناك من يحفظها، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحرز، وهذا أصل يدل على وجود الحفظ للمال، ونفهم من كونه عليه الصلاة والسلام يأمر بالقطع إذا وضع الثمر في الجرين، ولا يأمر بالقطع إذا أخذ من غير جرين أن هناك فرقا بين المسألتين، وأن الأمر راجع إلى حفظ المال، وأنه متى ما كان المال سائبا أو كانت الأموال من جنس ما يكون في البراري والفيافي ونحو ذلك فحرزها بحارسها، والرقيب عليها، فإذا وجد الحارس وسرقت أثناء وجود حارس؛ فإنها سرقة.
وأما إذا أخذت دون أن يوجد حافظ أو حارس؛ فإنها ليست بسرقة.
وقوله: (وأن يخرجه) الضمير عائد إلى المال، (من الحرز) أي: من المكان الذي هو حرز لذلك المال، فكل مال ننظر فيه إلى حرز مثله، فالذهب والفضة -اللذان هما الأثمان- لهما حرز يناسبهما، فالذهب والفضة حرزها وهي نقود ليس كحرزها وهي حلي، فالحلي تحفظ في صناديق غير صناديق النقود، وتحفظ في الدكاكين في أماكن ليست كأماكن النقود، فمثلا: محلات الذهب قد يضطر صاحب المحل أو الدكان أن يضعها في الزجاج، وهذا إذا جئت تضعها أمام الناس في زجاج فإنه يسهل كسره والأخذ منه، لكن نفس الدكان حرز وحفظ لها، فالذهب والفضة لهما طريقة يحفظان بها، والإبل والبقر لها طريقة تحفظ بها، والأغذية لها طريقة تحفظ بها، والأكسية كلها ينظر فيها إلى حرز مثلها.
قال رحمه الله: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع] .
الفاء للتفريع (فإن سرقه) سرق المال، (من غير حرز) فلا قطع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في ثمر ولا كثر) ، ومن المعلوم أن الثمر فوق رءوس النخل , وقد يدخل السارق إلى البستان -والبستان يعتبر مثل السياج- فلما أسقط عليه الصلاة والسلام القطع في الثمر الذي هو على رءوس النخل، وفي الكثر الذي هو طلع الفحل، دل على أنه لا بد من وجود الحرز، بدليل أنه قال: (بعد أن يؤويه الجرين وقد بلغ ثمن المجن قطع) فاشترط عليه الصلاة والسلام الحرز، فدل على أنه إذا لم يكن حرز فلا قطع.
الضابط في معرفة حرز المال
قال رحمه الله: [وحرز المال ما العادة حفظه فيه] : أي: ما جرت العادة بحفظه في ذلك المكان، وهذه المسألة مبنية على قاعدة شرعية، تقول: (العادة محكمة) ، وهذه القاعدة دلت عليها نصوص الكتاب ونصوص السنة، وأجمع العلماء رحمهم الله على حجيتها، فإن الله تعالى رد عباده إلى العرف، والعرف هو العادة، فإذا جرت العادة بشيء بين المسلمين حكمنا بهذه العادة، ويشترط دليل الكتاب، فمن أمثلة أدلة الكتاب: قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228] ، فرد الأمر إلى العرف، وقال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229] ، فأمر بمعاشرة النساء بما جرى به العرف.
كذلك أيضا السنة قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فردها إلى العرف.
والإجماع انعقد على اعتبار القاعدة التي تقول: (العادة محكمة) ، فالعلماء مجمعون على العمل بها؛ لأن الشرع أطلق في أشياء وردها إلى العرف، فمثلا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه، بماذا يتحقق القبض؟ يختلف في الطعام في المكيلات، والموزونات، والمعدودات، والمذروعات؛ فإذا ألحقناها بالطعام فهذا القبض يرجع فيه إلى العرف.
أيضا: قال صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضا ميتة فهي لها) ، بماذا يتحقق إحياء الموات؟ نرجع إلى كل عرف بحسبه، وكل زمان بحسبه، في القديم قد يكون غرس شجرة واحدة يعتبر إحياء، وفي القديم قد يكون وضع الحجر بعضه فوق بعض دون بناء إحياء، ولكن في زماننا: في المدن الإحياء له طريقة، وفي القرى له طريقة، وهذا يدل على أن الشريعة تعتبر العرف.
ويشترط في هذا العرف: أولا: ألا يكون مصادما للشرع، فليس هناك عادة نحتكم إليها إذا صادمت الشرع، وذكر العلماء لهذا أمثلة: فلو جرت العادة بمحرم كشرب المحرمات، لا نقول: إن العادة محكمة، فيجوز شرب المحرمات، وكذلك: لو جرت العادة بحلق اللحية لا نقول: يجوز حلق اللحية؛ لأن العادة جرت بها، فيشترط ألا تصادم العادة الشرع، ومن هنا قالوا: وليس بالمفيد جري العيد بخلف أمر المبدئ المعيد فإذا كانت العادة تخالف الشرع رددناها وعملنا بالشرع؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.
ثانيا: أن تكون هذه العادة منضبطة، وكذلك تكون في الغالب أو الأكثر على خلاف عند العلماء فيما هو غالب أو أكثر.
الشاهد: أننا نرجع في العادة إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان المال المسروق من البهائم سألنا أهل البهائم، كيف تحفظون بهائمكم؟ فالحفظ في القرى ليس كالحفظ في المدن، فإذا قالوا: نحن عندنا في بيئتنا أننا نضعها في الأحواش، وأن من يريد حفظ غنمه يضعها في هذه الأحواش، فوجدنا السرقة تمت من هذا المكان الذي يعتبر في العادة حرزا لمثل هذا المال؛ فحينئذ يقطع السارق.
كذلك أيضا: لو جرت السرقة في السوق، فسرق طعاما من سوق الأطعمة، فنسأل أهل هذا السوق: ما هي عادتكم في حفظ هذا المال؟ فإذا قالوا: عادتنا أنه إذا جاء المزارع بهذا الطعام نفعل به كذا، ونحفظه في كذا، فحينئذ نعتبر الحرز الذي جرت به العادة، فيقول رحمه الله: (ما العادة بحفظه) أي: ما جرت العادة بحفظه، فالحرز نحتكم فيه إلى العرف والعادة، ومن هنا قالوا: يختلف باختلاف الزمان، والمكان واختلاف الجور والعدل في الأزمنة، فإذا كان الزمان زمان عدل فإن أقل حفظ حرز.
وإذا كان الزمان زمان فساد وجور وظلم، يحتاج الناس إلى حرز أمين، ولذلك بين العلماء والأئمة رحمهم الله اختلافه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
اختلاف الحرز باختلاف المال
قال رحمه الله: [ويختلف باختلاف الأموال] .
أي: الشيء المحفوظ، فمثلا: شخص يريد أن يحفظ ذهبا أو فضة ليس كالذي يريد أن يحفظ الخشب، فتاجر الخشب جرت العادة أنه يضع خشبه في داخل أحوشة مغلقة، وتاجر الحديد يضع الحديد في أحوشة مغلقة تكون حرزا لها، فجرت العادة بهذا، لكن تاجر الذهب له طريقة أخرى، فهو له دكاكين معينة، ثم أيضا هذه الدكاكين فيها مواضع مخصوصة يضع فيها الذهب أو طريقة معينة يضع الذهب فيها عند العرض للناس، ويضع فيها الذهب عن انتهاء عمله أو خروجه من عمله، فإذا: نرجع إلى كل عرف بحسبه، فقال رحمه الله: (ويختلف باختلاف الأموال) يختلف بسبب اختلاف نوعية الأموال، فعندنا الذهب مال، والفضة مال، والطعام مال، والبهائم مال، والمعادن مال، وكل شيء له قيمة يعتبر مالا.
قال رحمه الله: [والبلدان] .
بعض البلدان يكون الحرز فيها يحتاج إلى قوة، والإمكانات متوفرة وآلات الحرز موجودة، فحينئذ نطالبه بحرز يتناسب مع بيئته، لكن لو كان في بيئة ضعيفة لا يتيسر فيها الإمكانات لحفظ الأموال، حافظها على قدر استطاعته، ونعتبره حرزا؛ لأن عرفه يتناسب مع هذا الحرز، فكل بلد وما جرت عادتهم بحفظ المال به.
قال رحمه الله: [وعدل السلطان] .
أي: إذا كان السلطان عادلا فإن الحرز يكون خفيفا، وذلك أن الناس إذا أخذوا بالعدل استقامت أمورهم، ويحصل عند الناس خوف من الله عز وجل، ويأمن الناس بعضهم بعضا؛ لأنه يحس أن له مثل الذي عليه، وحينئذ يأمن الناس، ولا يلتفت بعضهم إلى مال الآخر من أجل أذيته والإضرار به، والعكس، فإنه إذا حصل الجور، وكان الزمان زمان جور تنافسوا -والعياذ بالله- في الجور، فإذا أخذ الناس بسلطان العدل الذي قامت عليه بالسماوات والأرض واستقامت عليه أمور الدنيا ولا تستقيم إلا به؛ فإن أمورهم تستتب، ولربما وضع الرجل قماشا على باب محله وبداخله من المجوهرات والخيرات ما الله به عليم! ولكن الله عز وجل يصرف النفوس عن الفساد، ويصرفها عن الأذية والضرر، ولذلك أزمنة الفتنة تنساق النفوس -والعياذ بالله- فيها إلى الفساد والأذية والإضرار والبطش والسوء حتى إن الناس كأنهم قد سلبوا -والعياذ بالله- عقولهم، وكأن الله إذا أراد بقوم فتنة سلبهم عقولهم؛ فعاثوا وعاثت بهم الشياطين والعياذ بالله، وعندها يكون بطن الأرض خير من ظاهرها، وهذا في أزمنة الجور والظلم، ولذلك تجد أهل الجور يتنافسون في الفساد.
أما إذا غلب العدل تنافس الناس في الخير، فهم تبع لهذا المؤثر بعد الله سبحانه وتعالى، فكونهم مأخوذين بالعدل أو مأخوذين بالجور له أثر، ففي أزمنة الجور يكون الحفظ أشد، والحرز أقوى، وأما في أزمنة العدل فإن الأمر يكون أخف، ولذلك جاءت كنوز كسرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة، فوضعها رضي الله عنه وأرضاه في المسجد، حتى أن المسجد أضاء في ظلمة الليل من كثرة ما فيه من المجوهرات والنفائس، فلما رآها بكى رضي الله عنه وقال: (إن أناسا أدوا هذا لأمناء) ، ووضعوا عليها القماش، وكان الناس في زمان عمر رضي الله عنه -وهو زمان الخلافة الراشدة- راضين مطمئنين مأخوذين بالعدل؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يضعها في المسجد، فما احتاج أن يضعها في أغلاق، وكان الرجل يسافر بهذا المال حين يبعثه قائد المسلمين بالفتح، فيرسل القافلة وهي مليئة بالأموال والمجوهرات، ويستطيع الرجل منهم -وحاشاه- أن يسرق أو يخبئ أو يغل منها ما شاء، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يكونوا أمناء؛ لأنهم تربوا في مدرسة النبوة على يد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، الذي عرف منذ صغره بالأمانة، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
زمان العدل يخف فيه الجور والتعدي على أموال الناس، ومن هنا ينظر في كل زمان بحسبه، وفي كل مكان بحسبه، وفي كل مال بحسبه.
ومن مسائل الاختلاف أن يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فهذه منها مسألة الحرز في الأموال.
قال رحمه الله: [وجوره] .
إذا كان عدلا أو كان جائرا.
قال رحمه الله: [وقوته وضعفه] .
إذا كان قويا فإن الناس تهاب وتخاف، حتى بلغ ببعض الولاة -من قوته- أن الناس كانوا إذا رءوا المال المسروق في زمانه هربوا عنه، فإذا أخذ الناس بالقوة والحزم في البطش والسرقة والتعدي على أموال الناس، فإن الناس يأخذهم من الخوف والرعب الشيء العظيم، حتى إن الرجل لو رأى مالا مسروقا فر عنه، ولربما غير الطريق الذي يسير فيه، وجاء عن بعضهم أنه مر على كيس من الطعام ثم ذهب إلى الوالي -وكان معروفا بالحزم- فقال له: إني وجدت كيسا من الطعام فيه كذا، قال: ما أدراك بما فيه! حللته فككته؟ قال: لا، ولكني تحسسته بأصبعي، قال: اقطعوا أصبعه! وهذا نوع من الإسراف في الحزم، لكن إذا أخذ الناس بالقوة احتاطوا لأنفسهم، فأزمنة الجور يعظم فيها الفساد، وهكذا أخذ السلطان للناس بالقوة يكفهم عن أخذ الأموال، وحينئذ يعتبر أيسر شيء حفظ للأموال، حتى إن الرجل لربما وضع أبسط الأشياء على ماله لكي يحفظه ويعتبر في العرف قد حفظه وصانه، ويعلم الناس أنه محفوظ، والعكس بالعكس، إذا أصبحت أزمنة فساد؛ فإنه لا يغني فيها الأغلاق، ولربما لا يغني فيها البناء، إلا إذا كان على صفة مخصوصة، مثلا في بعض المدن تكثر السرقة حتى يصبح الشخص لو وضع المال داخل بناء لا يكفي، ما لم يضع عليه أجهزة تراقبه، أو يستخدم الأشياء الحديثة من أجل حفظ أي اعتداء أو الانتباه لأي داخل ومع ذلك تحدث السرقة! فإذا: لا بد من النظر لكل عرف ولكل بيئة بحسبها.
من أمثلة حروز الأموال
قال رحمه الله: [فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة] .
فقوله: (وحرز الأموال) .
أي: الأثمان من الذهب والفضة لا بد أن تكون في الأغلاق، أي: داخل الصناديق المغلقة، ووراء البناء، فلو أنه وضع الذهب في صندوق وأبرزه للناس، فإنه ليس بحرز، لكن لو يدخله في بيته، أو دكانه فإنه يكون داخل الحرز، وهو الصندوق، ولذلك جرى العرف عندنا الآن أن الشخص لو دخل على بائع وعنده أموال فإنه يجد صندوقا مخصوصا للأموال، ويجد خزنة للدكان والبقالة وللمتجر، فهذه الأموال محفوظة وراء الدور الذي هو البناء، وداخل الأغلاق؛ فلو أنه وضع المال داخل الدكان بدون غلق، ففي هذه الحالة لا يعتبر حرزا إذا جاء السارق وسرق، ولو أنه أخرج الأموال من الصندوق أو من الخزنة ووضعها على الطاولة؛ ثم جاء السارق وسرقها فإنه لا يعتبر آخذا من حرز.
إذا: لا بد من أمرين: أن يكون في الأغلاق التي هي الصناديق المغلقة، وأن تكون وراء الجدران، أي: في الدور أو في الدكاكين.
وقوله والجواهر) كذلك؛ لأن الأموال تدعو النفوس إلى حفظها، وجبلت النفوس على حفظها، والجواهر لربما كانت أغلى من الذهب والفضة، ومن هنا من كان عنده ألماس لا يضعها في بيته، إنما يبحث عن مكان أمين يضع فيه الألماس، ولو وضعها في بيته لا يضعها في درج مكتبه، ولا يضعها مثلا في كيس في غرفته، إنما يضعها في خزنة تحفظ هذا المال النفيس، أو يضعها في صندوق قوي محكم يغلقه على هذا المال، فكل مال بحسبه، والجواهر تحتاج إلى صيانة أكثر من الذهب والفضة في بعض الأحوال، والذهب والفضة في بعض الأحيان يحتاج إلى صيانة أكثر، ومن هنا نبه المصنف على اختلاف الأموال واختلاف الأحوال.
وقوله: (والقماش) مثلا: تاجر عنده أقمشة؛ فإنه يضعها داخل الدكان ويغلق عليها دكانه، فلا بد أن تكون في حرز ومغلق عليها.
وقوله: (في الدور) هذا الحرز الأول.
وقوله: (والدكاكين) دكاكين القماش حرز للقماش الذي فيها.
وقوله: (والعمران) القماش داخل المدينة ليس كالقماش خارج المدينة، فإذا كان داخل المدينة يكون داخل الدكان، وداخل البناء، وإذا كان خارج المدينة فلا بد أن يبحث عن حرز يحفظه به، فلو أنه كانت عنده (بسطة) ، وليس عنده دكان، وجاء شخص وسرقها، فإنه لا تقطع يده إلا إذا كان هناك رقيب، ونحن هنا نتكلم عن الحرز بالمكان، ولا نتكلم عن الحرز بالنظر، فلو كان القماش تحت عين الرقيب، وجاء وسرق من تحت عين الرقيب؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر سارقا.
وقوله: (وراء الأبواب) إذا كانت في بناء تكون وراء الأبواب ووراء النوافذ المغلقة.
وقوله: (والأغلاق الوثيقة) هي الخزنة، فمثلا: النقود في المحل توضع داخل خزنة، فلو أن سارقا سرقها من غير الخزنة دون حافظ ولا رقيب لها، لم تقطع يده؛ لأن هذا إهمال وتسيب، والإهمال والتسيب ليس فيه حرز على وجه.
قال رحمه الله: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائج إذا كان في السوق حارس] .
انتقل هنا إلى النوع الثاني وهو قضية الحرز بالحافظ، والحافظ هو الحارس الذي يراقب المال، فمثلا: أكيسة فيها أطعمة، مثلا: أسواق الفواكه أسواق الخضار أسواق التمر ونحو ذلك، فهذه حرزها إذا كانت تحت مراقبة الحارس؛ فإذا وجد حارس يراقبها وجاء السارق وسرق؛ فإنه في هذه الحالة قد أخذ من حرز، وأما إذا كانت هذه الأشياء موضوعة أو بائعها انصرف وتركها أو انشغل عنها وتركها؛ فليست في حرز، وحينئذ لا يثبت القطع.
قال رحمه الله: [وحرز الحطب والخشب الحظائر] .
جمع حظيرة، وأصلها تكون للحيوانات والبهائم، وجرت العادة أن الذي يبيع الحطب والفحم في القديم يضعها في الحظائر، فيأتون -مثلا- بجريد النخل، ويكونون منه سياجا على محل البيع، فتكون هذا السياج بمثابة السور في البناء، وجرت العادة أن مثل هذا يحفظ الحطب والفحم ونحو ذلك، وعبر به المصنف كنوع من الأنواع التي تحفظ بها الأموال، بطريقة غير الطريقة الأولى؛ لأن الطريقة الأولى بالبناء، وهذا لا بناء فيه، فعبر رحمه الله بهذا تنبيها على نوع من أنواع الحرز، وهذه الأشياء ضعيفة بالنسبة للبناء، أي: إذا جئت تنظر إلى الحرز بالحظائر فهو أخف من الحرز الذي بالبناء، مع أنها تكون محكمة، وتكون قوية في بعض الأحيان، ولا يستطيع أحد أن يدخل منها، لكن قد يكون الولوج عن طريق الحظائر أخف من الولوج عن طريق البناء، ومع هذا تعتبر الحظائر حرزا، فإذا جرت العادة أنها تحفظ في مثل هذه الحظائر فهي حرز، فلو سرق كيسا من الفحم وهذا الكيس تعادل قيمته النصاب، وكان من داخل حرز مثله؛ قطع، وإلا فلا.
قال رحمه الله: [وحرز المواشي الصير] .
الصيرة تحفظ المواشي بإذن الله عز وجل، وهذا إذا كانت في معاطنها كالإبل والبقر والغنم فإنها توضع في الصيران وتحفظ، لكن إذا كانت سائمة وراعية؛ فإنها تكون بالراعي إذا كان معها راعيها وحافظها فإنه حرز لها، وهذا حرز الحافظ.
قال رحمه الله: [وحرزها في المرعى بالراعي] .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في الإبل -كما في حديث السنن- بين حبيسة الجبل وبين ما أخذ منها من معطن، فما أخذ من المعاطن أخذ من الحرز إذا كانت محفوظة، وما أخذ من البراري دون أن يكون عليها رقيب فلم تؤخذ من حرز، فلا قطع.
وعند العلماء تفصيل في المطولات بالنسبة للإبل والغنم والبقر، فكل هذه البهائم إذا رعت فلها طرق مختلفة، فتارة تسرق أثناء سيرها إلى المرعى، وتارة تسرق أثناء قيامها بالرعي، فالحافظ الذي معها إذا كانت عينه على مجموعها؛ فإنه حرز، سواء أخذ من أطرافها أو أخذ من وسطها إذا كانت مجتمعة في واد وهو قائم عليها يراقبها.
لكن إذا كانت سائرة إلى المرعى فبعض العلماء يرى القاطرة حرزا إذا كان قد أخذ بالفحل؛ لأن الفحل تسير وراءه الإبل، أو حصلت السرقة من آخرها فهي سرقة، يعني: يعتبر بالخط الواحد للبهائم ولو كانت عشرة أو عشرين، هب أنها تسير وهي تبع لقائدها، وقائدها عينه عليها، لكنه تتناوب عينه على الأول والثاني والثالث، وأثناء تناوب عينه على أولها سرق السارق من آخرها، فيكون قد سرق من حرز؛ لأنه في هذه الحالة تحت النظر، وإذا قلنا: تحت النظر فلا يشترط أن يكون النظر محددا للكل، إنما الكل بمثابة المال الواحد، ففي هذه الحالة تقطع يده، ويفرقون في المطولات بين كونها مسروقة من قاطرة الإبل أو قطيع الغنم أو قطيع البقر، في أثناء مشيه أو في أثناء رعيه.
قال رحمه الله: [ونظره إليها غالبا] .
هذا هو حرز النظر، فيكون مراقبا لهذا المال، ولا يكون أحد حارسا ولا حافظا إلا بالمراقبة غالبا، أي: يعني في غالب الحال، لكن لربما ينصرف نظره لشيء يسير فينظر إليه، ثم فجأة ينظر أمامه حتى ينظر الطريق الذي تسير إليه، وينظر إلى الشمس، ونحو هذا، لكن الغالب أن نظره عليها.
وعلى هذا: إذا وجدت مع الحارس على الصفة المعتبرة من كونه حافظا ومراقبا عليها؛ فإنه إن وقعت السرقة قطع السارق، ونعتبر وجود الحارس حرزا لهذا المال.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-10-2025, 03:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



الأسئلة




حرز السيارات
السؤال كيف يكون حرز السيارات؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن وضعنا الضابط، العلماء رحمهم الله في باب السرقة تكلموا كلاما طويلا جدا في مسألة الحرز، والسبب في هذا أنهم يتكلمون في زمانهم، والحرز يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وبالنسبة للسيارات فيكون على حسب العرف.
السيارة من حيث الأصل: إذا كانت -مثلا- موضوعة في (كراجها) في البيت، ومغلق عليها، فجاء شخص وكسر الغلق، ثم سرقها فهو سارق، وفي هذه الحالة يكون قد أخذها من الحرز، وانطبقت عليه شروط السرقة؛ فتقطع يده.
أما إذا كانت السيارة معروضة للبيع في المعرض، فننظر إلى البناء الموجود، فإذا كانت داخل حوش المعرض فجاء وتسور الحوش، أو احتال ودخل الحوش، ثم سرقها فهو سارق؛ لأن العبرة بالأخذ من الحرز، أما إذا كان المعرض مفتوحا، والناس تدخل وتخرج فحينئذ يعتبر الحافظ والمراقب.
إذا: ينظر في الأحوال بحسب اختلافها.
لكن هنا مسألة: يشترط أن تكون السيارة في الحرز، لكن إذا سرق شيئا من السيارة فهناك فرق بين أن يسرق السيارة وبين أن يسرق من السيارة، فلو أنه كسر زجاج السيارة وأخذ المسجل منها فهو سارق؛ لأن مسجل السيارة يحفظ فيها، وقد جرت العادة أنه محفوظ بغلق باب السيارة، وقفل الزجاج، فإذا اعتدى على هذا الزجاج وكسره أو عبث في مفتاح السيارة حتى فتحها ثم دخل وأخذ المسجل؛ فإنه قد أخذه من حرزه، فالمسجل مربوط ومتصل بالسيارة، وحرزه هذا الرباط، مثل: حرز الأغلاق؛ لأنه موثق ومضبوط وموضوع في السيارة، فلو سرق مركبة السيارة وكانت تساوي نصابا قطع، لكن لو أن صاحبها تركها مفتوحة فجاء هذا وفتحها فحينئذ نعتبره إهمالا من صاحب السيارة، ولا يتحقق في ذلك معنى الحرز، والله تعالى أعلم.
حكم نقض الوتر بصلاة بعده
السؤال أشكل علي من أراد أن يصلي في الليل هل يسلم مع الإمام في التراويح حتى يكسب قيام ليله أم يشفع الوتر بركعة حتى يصلي في آخر الليل، وتكون صلاته آخر الليل وترا؟
الجواب الذي يظهر -والعلم عند الله- أن أقوى الأقوال في هذه المسألة أنه يسلم مع الإمام، ويصيب فضيلة من قام مع الإمام حتى ينصرف، ثم ينتظر إلى آخر الليل ويأتي بركعة ينقض بها الوتر، ولذلك أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الوتر ناقضا للوتر، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) ، فقوله: (لا وتران في ليلة) يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يقتصر على الوترين، وهذا يدل على أن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول.
ومن هنا: يجوز له أن يوتر وترين للحاجة ثم يوتر الوتر الأخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه تأخير الوتر إلى السحر، وفعل ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه كان إذا صلى الوتر أول الليل قام آخر الليل فصلى ركعة نقض بها الوتر الأول ثم صلى ما شاء ثم أوتر، وهذا هو الأشبه لما فيه من موافقة السنة.
أما كونه بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بركعة فهذا فيه إشكالات: أولا: لأنه يدخل مع الإمام بنية المخالفة في العدد، وفرق بين المخالفة في النية فرضا ونفلا وبين المخالفة في صورة الصلاة، والمخالفة في صورة الصلاة مؤثرة؛ ولذلك جماهير العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله -حتى على مذهب الأئمة الأربعة- لم يصححوا صلاة المغرب وراء العشاء لاختلاف صورة الصلاتين، وحينئذ سيدخل بثنائية وراء فردية فيضطر إلى الجلوس بالتشهد ولا يعرف في الشرع الجلوس بين ركعتين في ثنائية، إنما يكون الجلوس في آخر الثنائية أو يكون في آخر الوترية إذا كانت واحدة.
ثانيا: سيستبيح الدعاء بعد الركعة الأولى وهو يعلم أنه سيصلي ركعتين، فإذا قال قائل: إن هذا كان لمكان المتابعة، فنقول له: إذا: يتابع الإمام على الحقيقة، فيسلم مع الإمام، والقول بأنه بعد سلام الإمام يأتي بركعة، يقول به بعض العلماء، والصحيح أنه يسلم مع الإمام تحقيقا للمتابعة وإعمالا للأصل وخروجا من المخالفة؛ لأنه يفعل أمورا لا تعرف في سنن الصلاة الشرعية من الجلوس بين الركعتين، وإحداث الدعاء في الركعة الأولى، وإنما عرف في الشرع القنوت في الثنائية بعد الثانية وليس بعد الأولى إذا كانت ثنائية، أو القنوت بعد الأولى كما في الوتر، الأول كما في الفجر، والثاني كما في الوتر، وحينئذ يخرج عن سنن الصلاة، فلو قال قائل: هذا للمتابعة، نقول: نعم، هذا في الفريضة حينما يلزم، ولكن هنا ليس بملزم، وبإمكانه أن يحقق الموافقة في الشرع بالتسليم مع الإمام، وخاصة وأنه يحوز على فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، والله تعالى أعلم.
صلاة التراويح في البيت
السؤال هل إذا قمت في ليالي رمضان منفردا في بيتي يكتب لي قيام ليلة، وإذا كان ذلك فكيف أجمع هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ؟
الجواب لا يكتب للإنسان أنه قام ليلة إلا إذا استتم القيام كاملا لليلة، هذا بالنسبة إذا كنت تريد أن تحيي الليل، مثل: العشر الأواخر إذا أحييتها بالصلاة، لكن فضيلة الصلاة مع الأئمة جاء لها استثناء، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر المأمومين وراء أئمتهم فقال: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) وهذا الحديث المقصود به أن يبقى المأمومون وراء أئمتهم، فلا يأت إنسان ويقول: لدينا إمام أول وإمام ثان، فإذا انصرف الأول انصرفنا معه.
هل يعرف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إمامان؟ إذا: الأصل أن ننظر ماذا قصد الشرع؟ هل قصد الصورة أم قصد المعنى؟ بل قصد المعنى وهو: أن نقوم مع الأئمة ولا ننصرف عنهم، ويقولون: استنباط المعنى من النص الذي يعود بإلغاء معنى النص باطل، فمقصود الشرع أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف، فخرج مخرج الغالب، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم الغالب فيه أن يؤم إمام واحد، وعلى هذا لو جاء يستنبط من هذا النص: أن ينصرف مع الإمام حتى في أول الصلاة فإنه سيلغي معنى النص؛ لأن معنى النص المراد به التكثير، لماذا قيل: (من قام مع إمامه) ؟ هل جاء لصورة أم جاء لمعنى؟ بل جاء لمعنى وهو: الحرص على متابعة الأئمة والحرص على الصلاة معهم.
فقوله: (من قام مع إمامه) المراد به: أن يقوم مع إمامه إلى أن ينصرف، فإذا ثبت هذا؛ فإن هذا المعنى موجود في الجماعة، وليس موجودا في الفرد؛ لأن الفرد ليس له إمام، وليس هناك إمام يريد أن يتابعه فيكثر سواده؛ لأن الصلاة صلاة نافلة، ولذلك ورد الترغيب فيها بهذا المعنى، فإذا أراد قيام الليلة وكان يريد أن يحصل الفضيلة فليصل مع الجماعة.
لكن السؤال هل الأفضل أن يصلي مع الجماعة أول الليل أم الأفضل أن يصلي في بيته وحده ويحيي آخر الليل؟ الأشبه أن صلاته في بيته -إذا كان حافظا للقرآن خاشعا مخلصا ويتأثر ويضبط القرآن، ويعطي للقرآن حقوقه- أفضل؛ ولذلك عمر رضي الله عنه ترك الجماعة، وكان يمر عليهم ويقول: (نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل) ، وهو الذي أمرهم أن يجتمعوا، لكن ينقسم الناس إلى قادر وغير قادر، فعامة الناس في غالب أحوالهم لا يقدرون أن يقوموا السحر وآخر الليل، ومن هنا جعل التراويح لهم في أول الليل ولكن قال: (والتي ينامون عنها أفضل) ، فهم في حال حسن، وهناك ما هو أحسن وأكمل، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، فالأفضل والأكمل أن يصلي في بيته بالصفات التي ذكرناها: أن يكون قادرا على إحياء آخر الليل بالقرآن، قادرا على القيام في آخر الليل، لأن ذلك يكون أخشع لقلبه، وأكثر تأثرا، وقد يصلي مع جماعة وإمامه يسرع في القراءة، ولا يستطيع أن يتدبر القرآن كما ينبغي، ولكن إذا خلى بربه وخلى في بيته وقرأ القرآن بورك له في قراءة القرآن في بيته، وبورك له في نفسه، وبورك له حتى في البيت الذي يقرأ فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيرا) ، هذا بالنسبة لمن يقدر.
أما إذا كان ضعيفا أو كان لا يستطيع أن يقوم آخر الليل، فيحرص على أن يقوم مع الجماعة، وهذا هو الأشبه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف) له أن ينوي في قرارة قلبه أن يحصل على الفضيلة لوحده حتى يكتب له الأجر بالنية، والله تعالى أعلم.
مدة القصر في السفر
السؤال ما هي المدة التي يقصر فيها المسافر؟ ومتى يعتبر المسافر مقيما؟
الجواب المدة التي يقصر فيها المسافر أن يكون ناويا للجلوس أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، فإذا نوى أن يجلس أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج لزمه الإتمام من أول وصوله إلى المدينة، فلو سافر من مكة إلى الرياض وفي نيته أن يجلس السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، ثم يسافر الأربعاء وكان سفره يوم الجمعة فمكث السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، لزمه الإتمام عند وصوله إلى الرياض، وحكمه حكم المقيم بالوصول.
وأما إذا قدم إلى الرياض وهو لا يدري كم سيجلس، ولا يدري كم المدة، فإنه يقصر مدة جلوسه ولو طال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان ينتظر العين، فأرسل عيونه، وكانت تبوك ماء من مياه العرب، لم تكن مدينة كحالها اليوم، ولا قرية وإنما كانت ماء من مياه العرب، ونزل عليه الصلاة والسلام فأرسل عيونه ولا يشك أحد -وهذا يعرفه أهل السير- أنه لا يدري هل سيبقى يوما أو يومين أو ثلاثة؛ لأنه أرسل عيونه لينظروا جيش بني الأصفر -وهم الروم- هل عندهم نية لغزو النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، وهذا أمر يستغرق وقتا طويلا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري متى يرجعون، قد يكون أرسل عينه ثم يأتيه العين اليوم الثاني ويقول: هم على ماء كذا، أو هم قد خرجوا على موضع كذا، ومن المعلوم أن بين تبوك والشام مفاوز، ولذلك لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم قطعا كم سيمكث.
وجمهور العلماء والأئمة كلهم يحتجون بهذا الحديث على أنه إذا لم يعلم مدة مقامه أنه يقصر، وأن حديث تبوك ليس من التحديد في الشيء؛ لأن البعض يظن أنه دليل على أنه يقصر الصلاة لو نوى سبعة عشر يوما، وهذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم المدة التي سيمكثها في تبوك؛ لأنه أرسل عينه، والعين قد يأتيه بالخبر اليوم أو بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة، فهذه الحالة الأولى للمسافر.
الحالة الثانية: أن يكون ناويا لأقل من أربعة أيام؛ فإنه يقصر ولا بأس ولا حرج أن يصلي الرباعية ثنائية ولو في منزله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك كما في الصحيح في قصة مسجد الخيف، وهذا بالنسبة للمدة التي تقصر فيها الصلاة: أن تكون أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج أو لا يعلم المدة التي سيمكثها؛ ولذلك مكث أنس بن مالك رضي الله عنه في فتح تستر أكثر من ثلاثة أشهر وهو يقصر الصلاة؛ لأن الثلج حبسهم.
والأصل عند جمهور العلماء رحمهم الله أن المدة محددة، والدليل على تحديد الأربعة الأيام: حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين أن يبقوا في مكة ثلاثة أيام) ، فدلت هذه السنة على أن المسافر ينتقل من كونه مسافرا إلى كونه مقيما في اليوم الرابع؛ لأنه رخص لهم ثلاثة أيام، وهم قد تركوا مكة لله، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فلما أجاز لهم ثلاثة أيام ومنعهم من اليوم الرابع دل على أنهم في اليوم الرابع يكونون في حكم المقيم.
وعلى هذا؛ فإنه يحدد بهذا القدر من الأيام غير يوم الدخول والخروج، فلو سافر يوم الجمعة ووصل يوم الجمعة ويسافر يوم الأربعاء، فحينئذ تتحقق المدة، لكن لو كان يصل يوم السبت، ويسافر الأربعاء؛ فإنها ثلاثة أيام، فيقصر، فالعبرة بإلغاء يوم الدخول ويوم الخروج حتى تتمحض هذه المدة على ظاهر السنة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24-10-2025, 03:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (528)

صـــــ(1) إلى صــ(22)


شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [4]
من الشروط في إقامة الحد على السارق: أن تنتفي الشبهة في المال المسروق، وهناك أصناف من الناس لا تقطع أيديهم وإن أخذوا مال غيرهم، وثبتت السرقة بشهادة عدلين، أو بإقرار السارق نفسه.
ما يمنع من قطع يد السارق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تنتفي الشبهة] .
يشترط لوجوب حد القطع أن تنتفي الشبهة في السارق، وقد تقدم معنا تعريف الشبهة في حد الزنا، وبينا أن السنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وردت بإسقاط الحد عند وجود الشبهة، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، وهو منهج الأئمة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أوسع الناس في باب الشبهة، وكان يسقط الحد عند وجود الريبة والشبهة، ولذلك استقر مذهبه على ذلك، وثبتت عنه الآثار الصحيحة لإعمال الشبهة في إسقاط حد السرقة، كما في قصة غلام الحضرمي، وهي من القصص التي اعتبرها العلماء دليلا على إثبات أن الشبهة موجبة لسقوط حد السرقة.
فيقول: (وأن تنتفي الشبهة) النفي ضد الإثبات، وإذا قلت: تنتفي الشبهة، بمعنى: ألا توجد شبهة، وهذا شرط راجع إلى الملكية.
ومن هنا نجد من العلماء -رحمهم الله- من عبر في شروط السرقة بالملك التام القوي، أي: يكون المسروق منه قد ملك المال ملكا تاما قويا بحيث لا تحصل منازعة بينه وبين السارق، فإذا وجدت الشبهة فإن هذا يؤثر في الملكية التامة كما في الشريك مع شريكه، وكما في الابن مع أبيه، والأب مع ابنه، ونحو ذلك من صور الشبهة، وهذه الشبهة اعتبرها أئمة الإسلام رحمهم الله -ومنهم الأئمة الأربعة- أنها موجبة لسقوط الحد، لكنها تختلف في صور، فتارة تكون الشبهة شبهة البعضية، وتارة تكون الشبهة شبهة الملك، ومن هنا فرق العلماء رحمهم الله فأعملوا صورا من الشبهة، وأسقطوا صورا أخرى، وقالوا: إن الشبهة لا تعتبر موجبة لسقوط الحد، والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا توافرت شروط السرقة فإننا نقطع يد السارق، وعلى هذا لا نسقط الحد إلا إذا وجدت شبهة قوية.
السارق من مال أبيه والعكس
قال رحمه الله: [فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا] .
يعني: لو سرق الابن من مال أبيه فإنه لا تقطع يد الابن، ولو سرق الابن من مال جده وإن علا لم تقطع يده، والعكس: لو سرق الأب من مال ابنه، أو سرقت الأم من مال بنتها، أو سرقت الأم من مال حفيدتها، أو الأب من مال حفيده، فإنه لا يثبت القطع، وهذه الشبهة هي شبهة البعضية، والمراد بالبعضية: أن السارق يكون بعضا من المسروق منه، أو يكون المسروق منه بعضا من السارق، ومعنى ذلك: أن الولد قطعة من والده، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) ، وهذا في صحيح البخاري، فقال: (بضعة مني) ، فكأنها قطعة منه عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت منه عليه الصلاة والسلام صارت هي وهو كالشيء الواحد، فإذا سرق الولد من والده كأنه أخذ من ماله.
وجاءت السنة تؤكد هذا فيما رواه ابن ماجة وغيره -وصححه غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل الوالد له يد على مال ولده، وإذا كانت له يد على مال ولده فإنه حينئذ لا يقطع؛ لأنه لم يسرق، فكأنه أخذ من ماله؛ ولهذا جماهير الأئمة -حتى حكي الإجماع في هذه المسألة- على أنه لا يقطع والد من مال ولده، ولا مولود من مال والده.
هذا الحكم عند العلماء والأئمة رحمهم الله عام وشامل للأصل مع فرعه وللفرع مع أصله، وعلى هذا نحكم بسقوط الحد إذا سرق الابن من مال أبيه وجده وإن علا، وإذا سرق من مال أبيه الذي تمحض بالذكور كجده من جهة أبيه أو جده من جهة أمه كأبي أمه، فلو سرق من مال جده لأمه لم يثبت الحد، وكذلك أيضا لو ثبت أن السرقة من الوالد لولده فإنه يستوي في ذلك الأب مع الأم، فيستوي الذكور والإناث من الولد والوالد.
قال رحمه الله: [ولا من مال ولده وإن سفل] .
هذا هو العكس، فهو أثبت أن الوالد لا يقطع بولده، وأيضا الولد لا يقطع من مال ولده، والأصل في هذا السنة كما بينا، وهذه يسميها العلماء شبهة البعضية، ويستوي الذكر والأنثى في الآباء والأمهات، ويستوي الذكر والأنثى في الأولاد، ويستوي القريب والبعيد، فالأب المباشر والأب بواسطة، والابن المباشر والابن بواسطة وهو الذي يسمى بالحفيد.
قال رحمه الله: [والأب والأم في هذا سواء، ويقطع الأخ] .
ويقطع الأخ إذا سرق من مال أخيه؛ لأنه لا شبهة بين الأخ وأخيه، ولذلك تصح الزكاة على الأخ، ويجوز أن يدفع زكاته لأخيه؛ لأنه ليست هناك شبهة بعضية، ومن هنا قسم العلماء القرابة في السرقة أو شبهة السرقة إلى قسمين: القسم الأول: قرابة مؤثرة، مثل: قرابة البعضية في الوالد والولد.
القسم الثاني: قرابة غير مؤثرة، وهي قرابة الأخ مع أخيه، مثل سرقة الأخت من مال أخيها، والأخ من مال أخته.
قال رحمه الله: [وكل قريب بسرقة من مال قريبه] .
وكل قريب يقطع إذا سرق من مال قريبه، والدليل على ذلك: عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة:38] ، فأمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن نقطع يد كل سارق سواء كان قريبا أو غريبا، فلما جاءت السنة تستثني الوالد مع ولده والولد مع والده، أبقينا الحكم على العموم، واستثنينا ما استثنته السنة.
السارق من مال زوجته والعكس
قال رحمه الله: [ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر] .
إذا سرق الزوج من زوجته، أو سرقت الزوجة من مال زوجها، فهذا يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الأخذ من حرز.
الصورة الثانية: أن يكون من غير حرز.
فلو أن زوجة أخذت مالها ووضعته في صندوق وقفلت عليه، فجاء الزوج خفية وكسر الصندوق وأخذ المال الموجود فيه، فهذه سرقة؛ لأنها أخذ من الحرز، وتنطبق عليها شروط السرقة.
الصورة الثانية: أن يكون الأخذ من غير حرز كما لو أن الزوج دخل بيته، ووضع المال على الطاولة فجاءت الزوجة وأخذت منه خمسمائة ريال خلسة دون علم منه على صورة السرقة، ولكنه من غير حرز، والعكس لو أن الزوج فعل ذلك بزوجته.
في الصورة الأولى إذا كان من حرز اختلف العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يرى أن الزوج يقطع إذا سرق من مال زوجته، والزوجة تقطع إذا سرقت من مال زوجها، وبعض العلماء يرى أن الزوجة لا تقطع والزوج يقطع، وبعضهم يرى أنه لا يقطع واحد منهما بسرقته من مال الآخر.
فالذين قالوا بأنه لا تقطع يد الزوجين إذا سرق أحدهما من مال الآخر احتجوا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة عبد الله بن عمرو الحضرمي كان له غلام، ثم إن هذا الغلام سرق من مال زوجته -غلام أي: عبد مملوك- فجاء بهذا العبد المملوك إلى عمر رضي الله عنه وقال له: يا أمير المؤمنين! إن هذا سرق فاقطع يده.
قال: ماذا سرق؟ قال: سرق مرآة زوجتي وهي بستين درهما، وهذا يعادل النصاب وزيادة، فقال عمر رضي الله عنه: (خادمكم أخذ متاعكم، لا قطع عليه) ، وفي بعض الروايات: (مالك سرق مالك) أي: العبد من مالك وسرق مالك، قالوا: إن هذا يدل على أن الزوج لا يقطع إذا أخذ من مال زوجته؛ لأن العبد مع سيده كالشيء الواحد، وإذا كان العبد مع سيده كالشيء الواحد ولم تقطع يد عبده فمن باب أولى ألا تقطع يد السيد نفسه، وهذا دليلهم على إسقاط الحد عن الزوج.
وقالوا: هذا قضاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا القضاء سنة، ولم ينكر عليه، وهذا أمر تدعو الضرورة إلى انتشاره؛ لأنه كان في خلافة عمر رضي الله عنه، ومع هذا لم ينكره أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: إن المرأة لا تقطع إذا سرقت من زوجها لوجود الشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلط يدها على مال زوجها، وذلك عند وجود الحق لحديث هند في الصحيح أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فهذا يدل على أن المرأة فيها شبهة في تسلطها على مال زوجها.
فقالوا: إن كلا منهما -أي: الزوج والزوجة- يتبسط في مال الآخر ويرتفق به، والغالب أنه لا يفعل هذا على سبيل الاعتداء وعلى سبيل السرقة، وإنما يفعل هذا غالبا لوجود نوع من الانبساط، وقالوا: هذا القضاء يدل على أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر.
والذين قالوا: لا تقطع الزوجة ويقطع الزوج، احتجوا بحديث هند، قالوا: إنها هي التي تتوسع في مال زوجها، وليس الزوج الذي يتوسع في مالها، فبقي الزوج على الأصل.
والحقيقة أن ظاهر قضاء عمر بن الخطاب -خاصة وأننا أمرنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين- يقوى به الاستثناء.
وأما بالنسبة لمسألة الأخذ من غير حرز فلا إشكال في سقوط الحد فيه، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، فالمصنف رحمه الله أخذ بهذا القول الذي عمل به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله أصل من السنة، وخاصة في حديث هند رضي الله عنها وأرضاها.
قال رحمه الله: [ولو كان محرزا عنه] .
قوله: (عنه) : أي: عن السارق سواء كان الزوج أو الزوجة، ولو كان المال في حرز وقوله: [لو] : إشارة إلى خلاف مذهبي؛ لأن من العلماء من فرق بين كون المال المسروق من غير حرز، وبين كونه مسروقا من حرز، ففرق بين المسألتين.

السارق من مال سيده والعكس
قال رحمه الله: [وإذا سرق عبد من مال سيده] .
العبد إذا سرق من مال سيده له صورتان: - الصورة الأولى: أن يحوجه السيد ويلجئه إلى السرقة، فمثلا: يمنع عنه طعامه ويمنع عنه شرابه، فيعتدي العبد على مال السيد ويسرق منه، فهذا سبب يعتبره العلماء موجبا لسقوط الحد، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله: أن غلمانا -أي: عبيدا- كانوا لـ حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها ثم أكلوها، فرفعهم حاطب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد منه أن يقطع أيديهم بالسرقة، ثم سأل عمر رضي الله عنه فوجد أن حاطبا رضي الله عنه كان مقصرا معهم في الإطعام، فقال: (أراك قد أحوجتهم بالسرقة) وأسقط القطع عنهم.
ومن هنا منع القطع في زمان المجاعة؛ لأنه إذا حصل الجوع والضيق بالناس، واضطر السارق للسرقة أو أن امرأة -مثلا- ترملت وما عندها أحد يعول عليها ثم التجأت للسرقة وهي مضطرة إلى ذلك، فهذه الأحوال تستثنى، وهكذا مسألة العبد مع سيده: إذا كان السيد ظالما للعبد لا ينفق عليه ولا يطعمه، وحبسه ومنعه حقه، فسرق العبد من مال سيده، فلا إشكال في سقوط الحد عنه.
-
الصورة الثانية: أن يكون أخذه على غير وجه ضرورة، فالأصل في هذه المسألة يدل على أن العبد من مال السيد، ولذلك جاء في أثر ابن مسعود رضي الله عنه لما رفع إليه سرقة العبد من مال سيده قال: (مالكم سرق بعضه بعضا) ، فالمملوك إذا سرق من مال سيده يحكم بكونه من المال ويسقط الحد، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضاء عبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهم مخالف، ولهذا اعتد بسقوط الحد إذا سرق العبد من مال سيده، خاصة وأن العبد له حق في هذا المال.

وأما سرقة السيد من مال عبده، فمن المعلوم أن السيد يملك العبد وما ملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع) فهذا يدل على أن العبد ليس له يد على ماله، وأن للسيد ماله، ومن هنا سقط الحد لوجود الشبهة.
وهذه الصور التي ذكرها رحمه الله تسمى صور الشبهة في الملك، فالأولى -وهي صورة الوالدين- شبهة البعضية، والعبد في مال سيده شبهة الملك، وسيذكر لها صورا أيضا في صورة السيد مع عبده، والعبد مع سيده شبهة الملك، والشريك مع شريكه، والفقير من بيت مال المسلمين، فكل هذه من صور شبهة الملك.
قال رحمه الله: [أو سيد من مال مكاتبه] : هذا على القول بأن المكاتب عبد حتى يؤدي أنجم الكتابة، وهذا هو الأصل أنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع عليه الرق.

السارق المسلم الحر من بيت مال المسلمين أو من غنيمة لم تخمس
قال رحمه الله: [أو مسلم حر من بيت المال] .
أو سرق مسلم حر من بيت مال المسلمين، هذه المسألة ضابطها: أن يكون هناك شبهة للسارق في المال الذي سرق منه، بمعنى أن له حقا فيه، ولكنه حق مبهم غير معين، فالمسلم له حق في بيت مال المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه وغيره: (إنه ما من أحد إلا وله حق في بيت مال المسلمين) ، وهذا أصل، لكن هذا الحق ليس معناه التسلط على أموال بيت المال وسرقتها أو أخذها، وهذا لا يمنع تعزيره، ولا يمنع عقوبته، لكن الحدود تدرأ بالشبهات، فإذا سرق من بيت مال المسلمين سقط عنه الحد؛ لأن له حقا في بيت مال المسلمين.
وقوله: (أو مسلم) اشترط أن يكون مسلما؛ لأن الكافر ليس له حق في بيت مال المسلمين، وقوله: (حر) لأن العبد مملوك لسيده.
قال رحمه الله: [أو من غنيمة لم تخمس] .
أو سرق من غنيمة لم تخمس، تقدم معنا أحكام الغنائم وتخميسها، وما هو المراد بذلك، فإذا غنمت الغنيمة فقبل قسمتها يختلط حق الغزاة مع حق بيت مال المسلمين، فالغنيمة يكون فيها حق للغزاة الذين هم الأصل في حصول الغنيمة، وبيت مال المسلمين له حق، ولذلك ذكرنا كيفية تقسيم الغنيمة، وبينا الأدلة الشرعية في ثبوت حق لبيت مال المسلمين في خمس الغنيمة.
فالخمس يخرج من الغنيمة، والأربعة الأخماس تقسم بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهم، على الأصل الذي بيناه، فإذا كانت الغنيمة لم تخمس، فإنه في هذه الحالة إذا سرق غير الغزاة منها فله حق باستحقاق بيت مال المسلمين إذا كان مسلما حرا.
لكن لو أنها خمست، وأخرج منها خمس بيت المال، فهذه الأربعة الأخماس إذا سرق السارق منها نظرنا فيه: فإن كان من الغزاة، فهذا غلول -نسأل الله السلامة والعافية-، وفيه الوعيد الشديد، ولكن له شبهة؛ لأنه من الغزاة، وله حظ في الأربعة الأخماس، وأما إذا كان من غير الغزاة فتقطع يده؛ لأنها إذا خمست وفصل حق الغزاة عن حق بيت المال وسرق من حق الغزاة؛ فقد سرق من غير ملكه، وحينئذ يثبت الحد، ولا شبهة له؛ لأنه ليس من الغزاة، وليس له حق في هذا المال، فيعتبر أشبه بالسرقة من سائر الأموال.
لكن لو أنه كان من الغزاة وسرق من الأربعة الأخماس فلا تقطع يده لمكان الشبهة.
فلو كان من الغزاة وسرق من الخمس فإن له أصلا بكونه في بيت مال المسلمين، وله الأصل العام في كون له حق كسائر حقوق المسلمين عموما في بيت المال.

السارق الفقير من غلة وقف على الفقراء
قال رحمه الله: [أو فقير من غلة موقوفة على الفقراء] .
سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لو أن غلة وقف تصرف على الأيتام والأرامل والفقراء.
فالفقراء -مثلا- لهم الثلث من الغلة بحكم شرط الواقف، فجاء فقير وسرق منه، فإذا سرق من غلة الفقراء لم تقطع يده؛ لأنه سرق من مال له فيه شبهة؛ لأن له حقا في هذا المال كالحق العام، وإذا سرق شخص من مال موقوف على طلاب العلم قطعت يده؛ لأنه سرق من مال لا حق له فيه.
هذه الصور كلها مندرجة تحت شبهة الملك.
السارق من مال له في شركة
قال رحمه الله: [أو شخص من مال فيه شركة له] .
أو سرق شخص من مال فيه شركة -وشركة وشركة-، إذا سرق أحد الشريكين أو الشركاء من مال الشركة، فإنه في هذه الحالة توجد شبهة الملك؛ لأنه ما من جزء من هذا المال إلا وله فيه سهم ونصيب بحسب حصته من الشركة العامة، وحينئذ لا تقطع يده، ولكن لو ميزت حصص الشركاء، فمثلا ربحوا مليونا، وقسم هذا المليون بينهم أرباعا كل واحد له ربع، وميز نصيب كل واحد، وقبضه وحازه، ثم تسلط أحدهم على نصيب شريكه قطع.
إذا: الشرط أن يكون المال لم يقسم، وأن يكون المال على صورة الشركة، وسواء وقعت السرقة في أصل المال أو وقعت في الربح؛ لأنه يملك في أصل المال ويملك في ربحه.
قال رحمه الله: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه] .
صورة المسألة: أن يكون ولده شريكا، فسرق الأب من شركة ولده، فمثلا: ابنه شريك لثلاثة أجانب ليسوا بقرابة، فجاء الأب وسرق من شركة ابنه، فإن الأب مع ابنه كالشيء الواحد، فكما أننا فلا نقطع يد الابن لا نقطع يد الأب، والعكس، فلو كان الأب هو الشريك وجاء الابن وسرق من مال لأبيه فيه شركة؛ لم تقطع يده؛ لأننا أثبتنا في السنة أن الابن مع أبيه والبنت مع أبيها وأمها والابن مع أبيه وأمه كالشيء الواحد.
قال رحمه الله: [لم يقطع] .
أي: لم يقطع في جميع هذه الصور لوجود الشبهة.


ما تثبت به السرقة




شهادة عدلين
قال رحمه الله: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين] .
هذا الشرط معتبر لثبوت حد السرقة، فالسرقة جريمة من الجرائم لا يثبت فيها القطع إلا ببينة ودليل، والدليل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شهادة الإنسان على نفسه، وهو حجة الإقرار، فيقر ويعترف أنه سرق، ولذلك جاء السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر واعترف، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يده.
القسم الثاني: أن يشهد الشهود على أنه سرق، فإذا ثبتت هذه الشهادة بالصفة المعتبرة في القضاء الإسلامي حكمنا بقطع اليد.
إذا: هناك دليلان: الأول: البينة، وهي: الشهود.
الثاني: الإقرار، وهو: شهادة الإنسان على نفسه بالجرم.
ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولا ذكورا بالغين عاقلين، سالمين من التهمة، ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا تقبل شهادة المجانين، ولا تقبل شهادة خفيف الضبط وكثير النسيان وكثير الوهم؛ لأن الله يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، ومثل هذا لا ترضى شهادته.
ولا تقبل الشهادة من ذي خصومة، فلو أن عدوا شهد على عدوه أنه سرق لا نقطع يده، فمثلا: وقعت خصومة بين أشخاص، ثم فوجئنا بهؤلاء الأشخاص الذين هم طرف في الخصومة والعداوة جاءوا شهودا على أعدائهم أو على شخص من أعدائهم أنه سرق؛ فلا تقطع يده لأنهم متهمون في هذه الشهادة.
ومن هنا ثبت الحديث عند الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين) ، والظنين: هو المتهم.
قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] في قراءة: ظنين أي: بمتهم، فإذا كان الذي شهد على خصمه عدما لم نقبل شهادته.
كذلك يشترط في الشهود: أن يبينوا شهادتهم على وجه تنتفي به الريبة، فيبينوا المال المسروق، ويبينوا أن السرقة وقعت من حرز، ويبينوا الشخص المسروق، ويقولون: هذا.
ويشيرون إليه في مجلس القضاء أو يذكرونه باسمه ويرفعون نسبه على وجه يتميز به عن غيره، واشترط بعض العلماء أن يبينوا أنهم رءوه يسرق من مال فلان، فيحددونه ويبينونه.
كذلك أيضا يشترط في الشهود: توافق شهادتهم، فلا يكون هناك اختلاف في الشهادة، فلو شهد شخص أنه سرق بالليل، والآخر شهد أنه سرق بالنهار؛ لم تقطع يده حتى تكمل شهادة الليل أو شهادة النهار؛ لأن سرقة الليل غير سرقة النهار.
أو شهد أحدهما أنه سرق ذهبا والآخر شهد أنه سرق فضة؛ لم تقطع يده؛ لأن سرقة الذهب غير سرقة الفضة، ما لم يكن المسروق ذهبا وفضة، أو شهد أحدهم أنه سرق إبلا والثاني قال: سرق غنما، هذه شهادة وهذه شهادة، هذه سرقة وهذه سرقة، فلابد من اتحاد مضمون الشهادتين وألا تتناقض الشهادتان، حتى يكون بينهما اتفاق على وجه تستطيع أن تعتبرهما بينة واحدة.
ولذلك قالوا: لو قال أحدهما: سرق ثوبا من نوع كذا.
وقال الآخر: بل سرقه من نوع كذا.
أي: نوع غير النوع الأول، لم تقبل شهادتهما، وهذا مذهب الجمهور خلافا للإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه قال: ربما يخطئ الشاهد في هذا ويغتفر.
ويشترط في الشهود: العدد، فتقبل شهادة الاثنين، وأقل من الاثنين لا تقبل في السرقة، فإذا شهد واحد وحلف المدعي للحق أن فلانا سرق منه؛ ثبت المال ولم يثبت القطع، بمعنى: لو قال الشاهد: فلان سرق من فلان عشرة آلاف ريال، وليس هناك شاهد آخر، فالقاضي يقول للمدعي: احلف يمينا، فإذا حلف اليمين ثبت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الشاهد مع اليمين في الأموال، فنوجب على الشخص المشهود عليه أن يضمن العشرة آلاف، لكن لا نقطع يده؛ لأنه لم تكمل بينة القطع.
كذلك يشترط في الشهود: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء، فالشريعة لم تقبل شهادة النساء في الجنايات لما في النساء من ضعف في خلقتهن، ولذلك المرأة لو وقفت أمام جريمة لا تتحمل، ولذلك تجدها تصرخ وتغمض عينيها وتنفعل، وهذا الانفعال يخرجها عن التركيز، والإنسان لا يستطيع أن يغير في خلقة الله عز وجل، ولا أن يحمل المخلوق الضعيف مالا يتحمل، فهذه خلقة الله عز وجل، ومن هنا فشهادتهن قاصرة في الحدود كالسرقة والقتل وفي الجنايات على الأطراف والأعضاء، وهذه الأمور تحتاج إلى قوة من الشاهد حتى يستطيع أن يستبين، ويحتاج إلى نفس صابرة أثناء الجناية، فتستطيع أن تصبر حتى تستوعب الجريمة كاملة، وتستطيع أن تدلي بشهادة بينة واضحة، ومن هنا اشترط فيهم الذكورة والعدد والعدالة، فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، فأمرنا بالتبين من خبر الفاسق؛ فدل على أن الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على سقوط شهادة الفاسق، والعدل هو: الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر وذو أنوثة وعدل والحجا وذو قرابة خلاف الشهداء هذه كلها من شروط الشهادة، فيجب توافر هذه الصفات حتى نحكم باعتبار الشهادة على السرقة، ولذلك لا تقبل شهادة الشهود مجملة، فلو قال الشاهد: هذا سرق مالا.
لا نقبل شهادته ما لم يبين، ولا تقبل متناقضة، بل لابد فيها من الاتفاق بين الشاهدين، وإذا اختلف المضمون في بعض الصفات -مثل: اللون- فقال أحدها: سرق ثوبا أبيض، وقال الآخر: سرق ثوبا أصفر؛ فبعض العلماء يتسامح فيه إذا تقاربت الألوان.
إقرار السارق بالسرقة
قال رحمه الله: [أو بإقرار] .
الإقرار حجة، والإجماع منعقد على أنه ليس هناك حجة أقوى من الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، بل إنه لا يشهد على نفسه إلا وهو صادق في شهادته، ولذلك يعتبر الإقرار عند بعض العلماء -كما يعبرون- سيد الأدلة؛ لأنه ليس هناك حجة مثل الإقرار، ولذلك اختاره الله عز وجل في أعظم الأمور، وهو الشهادة على وحدانيته، وأخذ العبادة بشهادة الإقرار، فقال سبحانه: {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} [آل عمران:81] ، فالشاهد من هذا: أن الإقرار هو أقوى الحجج، ولكن لابد وأن يكون المقر عاقلا؛ فلا يقبل إقرار المجنون ولا السكران على التفصيل في مسألة السكر، وسبقت معنا هذه المسألة، وسنبينها -إن شاء الله- في باب الإقرار، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه- لما أقر عنده ماعز بن مالك بالزنا قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، فقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فالصحابي أقر واعترف بالجريمة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال له: (أشربت خمرا؟) وهذا يدل على أن السكران لا يقبل إقراره، فإذا أقر فلابد وأن تتوافر فيه الأهلية للإقرار، ولذلك لا بد من البلوغ والعقل وسلامته من الآفات، وألا يكون متهما في إقراره، والجمهور على أنه لو أقر بالسرقة لا يقبل إقراره مجملا، ولذلك يزاد شرط التفصيل في الإقرار، فلابد أن يبين المال الذي سرقه، وقدره، حتى نستطيع أن نعرف: هل بلغ النصاب أو لم يبلغ؟ وكذا نوعه حتى نستطيع أن نعرف: هل هذا يوجب القطع أو لا يوجبه؟ فلابد من توافر هذه الشروط حتى يعتد بإقراره، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل شروط الإقرار العامة.
اختلاف العلماء في تكرار الإقرار
قال رحمه الله: [مرتين] .
اختلف العلماء في السارق إذا أقر: هل يشترط تكراره؟ وقبل هذا؛ اعلم أن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان بإكراه، فلو أكره شخص على الإقرار فإقراره ساقط؛ لأنه لا إقرار مع الإكراه، قال عبد الله بن مسعود ويروى عن غيره من الصحابة: (إن الرجل ليس بأمين على نفسه ولا على ماله أن يقول ما لم يقل إذا ضرب أو أوذي) ، فقال: ليس بأمين، والإقرار حجة إذا كان الشخص أمينا.
وبالنسبة للإقرار هل يشترط فيه التكرار؟ ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن الإقرار لا يكون حجة في السرقة إلا إذا كرره مرتين، فقال: إنه سرق.
ويعود مرة ثانية يقول: إنه سرق.
ويبين ما الذي سرقه ويحدده، لاحتمال أن يظن أن الشيء الذي سرقه يوجب القطع، والواقع أنه لا يوجب القطع؛ لأن الناس تختلف ظنونهم، فلربما سرق مالا تافها وظن أن هذا يوجب القطع، ولربما أخذ مالا من غير الحرز فظن أنه سارقا وهو ليس بسارق، فلابد أن يقر، وأن يكون إقراره مرتين بما يثبت به الحد، فإذا كرر الإقرار مرتين ثبت عليه الحد، وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بحديث الحاكم والدارقطني والبيهقي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقيل: يا رسول الله! إن هذا سرق.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت.
فقال: بلى يا رسول الله! فأمر به فقطعت يده) ، لما قال له: (ما أخالك سرقت) كأنه يلقنه أن يمتنع من الإقرار.
وهذا يسمى عند العلماء -وتكلم عليه الأئمة-: تلقين الخصم، فإذا اتهم بالجريمة يلقن في السرقة ما يدرأ عنه الحد، وفعله بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من الخلفاء الراشدين كـ علي رضي الله عنه وغيره وعمر أيضا رضي الله عن الجميع، فقالوا: إن هذا يدل على تكرار الإقرار؛ لأنه لما أقر المرة الأولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) فرد الإقرار الأول، فرجع الرجل وقال (بلى) يعني: قد سرق، والسؤال معاد في الجواب، فلما قال له: (ما أخالك سرقت) يعني: ما أظنك سرقت، كأنه يلقنه أن يدفع عن نفسه التهمة فقال: (بلى) ، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت عليه الصلاة والسلام عليه الحد.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24-10-2025, 03:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





والجمهور يرون أنه لا يشترط تكرار الإقرار، وأن المرة الواحدة تكفي في ثبوت الحد عليه، واحتجوا بحديث صفوان رضي الله عنه وأرضاه، فإن السارق لما سرق رداءه أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره ولم يأمره بتكرار الإقرار، فدل على أن الإقرار مرة واحدة يوجب ثبوت الحد، والصحيح إن شاء الله أنه لا يشترط التكرار، ويجاب عن حديث التكرار بأنه في التلقين وليس في الإقرار؛ لأنهم قالوا: يا رسول الله! هذا سرق.
ولم يقر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة: (ما أخالك سرقت) ، فليس هناك ما يدل على أنه صرح بالسرقة.
فالحديث من هذا الوجه يجاب عنه متنا، والسند فيه ضعف، وفيه مجاهيل، والمتن ليس فيه تكرار؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! إن هذا سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت) ، فهي دعوى وردها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقر الرجل، وكان ينتظر منه الجواب فقال: بلى.
فصار هذا تلقينا للخصم، وليس بتكرار للإقرار، وعلى هذا لا يقوى دليل من قال بالتكرار، والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله- أن المرة الواحدة كافية وإن صح الحديث فإنه يحمل على التلقين.
قال رحمه الله: [ولا ينزع عن إقرار حتى يقطع] .
يشترط في الإقرار أن يبقى عليه حتى يقطع، وهناك شيء يسميه العلماء إثبات الجريمة، ثم بعدها الحكم، ثم بعدها التنفيذ، ثلاث مراحل: - الإثبات، والحكم، والتنفيذ.
وعبء الإثبات يبقى على المدعي، فلابد في السرقة من وجود مدع وهو صاحب المال، وإذا ثبتت السرقة بإقرار الشخص أو بالبينة فحينئذ يحكم القاضي بثبوت الجريمة، والقاضي سلطته سلطة تشريعية يثبت بها الجريمة، فيبقى التنفيذ، فإذا جاء التنفيذ الذي هو القطع والعمل بما أمر الله عز وجل به، فالأصل يقتضي المبادرة، فنص الأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز التأخير، وأنه يجب المبادرة بقطعه إحياء لحق الله عز وجل، وإتماما لأمره سبحانه وتعالى، والأمر يقتضي الفور؛ لأن الله أمرنا إذا ثبتت السرقة أن نقطع، والأمر يقتضي الفور في هذا.
فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا ادعيت عليه السرقة فأقر ثبتت، فوجب على القاضي أن يحكم، فإذا حكم القاضي، فيشترط أن يبقى الرجل على هذا الإقرار إلى التنفيذ، فلو أنه قبل القطع ولو بلحظة رجع عن إقراره، فقال البعيد: كذبت، فأخبر عن نفسه أنه كذب في إقراره، أو قال: ما سرقت.
أو كنت أمزح أو نحو ذلك، وقف الحد ومنع من تنفيذه.
إذا: يشترط في إتمام العمل بهذه البينة أو بهذه الحجة أن يبقى على إقراره حتى ينفذ، هذا قول الجمهور رحمهم الله.
وهناك من قال: إن الرجوع لا يؤثر، وأنه لو رجع لم يسقط الحد؛ لأنه تعلق به حق الآدميين، والصحيح: أنه يسقط حد القطع، ولا يسقط الحق المالي، وخذها قاعدة في الإقرارات: إن الرجوع إن كان لحق الله أثر، وإن كان لحق المخلوق لم يؤثر.
فلو أن شخصا أقر أن عليه لفلان عشرة آلاف ريال، ثم قال: لا ليس له عشرة آلاف ريال، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لمخلوق، وبإقراره ثبت في ذمته العشرة آلاف ريال التي أقر بها، لكن لو أنه قال: إنه زنى، ثم قبل التنفيذ رجع؛ عند ذلك يسقط الحد عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة ماعز: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) ؛ لأنه لما فر عندما أدركته الحجارة كما في الصحيح.
وقد تقدم معنا أن من أقر بالزنا وأراد أن يرجع عن إقراره فإن الشرع يرغبه في ذلك، وأنه إذا رجع يحكم باعتبار رجوعه، لكن الحق هنا لله عز وجل.
أما في السرقة فقد اجتمع الحقان: حق الله وحق المخلوق، فحق المخلوق أنه يقول: سرق مالي؛ لأن من سرق يجب أمران إذا ثبتت سرقته: نطالب القاضي بإقامة الحد والحكم عليه بالقطع، ونطالب السارق برد وضمان المال المسروق، فهو إذا أقر أنه سرق مالا فقد أقر أن في ذمته للشخص مالا، وحينئذ نلزمه برد هذا المال الذي أقر به، فإذا رجع عن إقراره فقد رجع عن حق ثابت للمخلوق فلا ينفع الرجوع منه، فيجب عليه ضمان المال المسروق الذي أقر أنه سرقه، ولكن لا ينفذ الحد؛ لأن رجوعه شبهة.
اشتراط أن يطالب المسروق منه بماله
قال رحمه الله: [وأن يطالب المسروق منه بماله] .
يشترط أن يطالب المسروق منه بماله؛ لأن السرقة فيها حق للمخلوق، ولذلك ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعوى من صاحب الحق، وفي رداء صفوان أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الحد بدعوى صفوان، وعلى هذا العمل أنه يشترط أن يطالب المسروق منه بماله، فإذا طالب المسروق منه بماله، وثبت أن السارق سرق أو ادعى أنه سرقه وأقر المدعى عليه فقد ثبتت الجناية، ولكن لو أنه طالب ثم رجع عن المطالبة قبل إتمام القضية فإنه يسقط الحد، فإذا رجع قبل الإثبات، وأما إذا ثبت وأقر الرجل فرجع الشخص عن المطالبة ثبت الحد ولو رجع.
ولذلك صفوان رضي الله عنه وأرضاه لما سرق السارق رداءه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، وصفوان رضي الله عنه ما كان يظن أن يد الرجل ستقطع، فقال: (يا رسول الله! هو له.
-
أي الرداء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)
، فهذا يدل على أنه لو أسقط دعواه بعد الحكم أو قبل التنفيذ لم ينفع، وقبل الإثبات وقبل الحكم ينفع.
قطع يد السارق من مفصل الكف
قال رحمه الله: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت] .
(وجب) بمعنى: ثبت، فإذا وجب القطع وثبت فإننا نحكم بحد الله عز وجل وينفذ هذا الحد ولا يؤخر كما ذكرنا.
وقوله: (قطعت يده اليمنى) ، الدليل على ذلك قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38] ، وفي قراءة ابن مسعود (( أيمانهما )) ، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف والجماهير على قطع اليد اليمين؛ لأنها في الغالب التي يتعاطى بها السرقة، وهي التي فيها القوة، وهي التي فيها الأذية والضرر، فقطعها أبلغ، فتقطع يده اليمنى.
وقد بين رحمه الله أنها تقطع من مفصل الكف مع الساعد، فمن طرف تشد اليد كما ذكر العلماء والأئمة رحمهم الله حتى إذا قطعت، وذلك أبلغ في انفصالها وبيانها، فتقطع من مفصل الكف مع الساعد، وهناك قول ضعيف وشاذ: إنها تقطع من المنكب.
والصحيح: أنها تقطع من مفصل الكف، وعليه درج أئمة الصحابة رضوان الله عليهم في أقضيتهم، فإنهم قطعوا من مفصل الكف، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قدم اليمين وأن القطع يكون لليمين، وظاهر هذا أنها تقطع اليد سواء كانت صحيحة كاملة أو كانت معيبة أو ناقصة، فلو أنه في يمينه مقطوع الأصابع أو بعضها قطعت يده ولو كانت معيبة على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فرق بين أن تكون أكثر الأصابع مقطوعة أو أقلها، ومن أهل العلم من قال: إنها تقطع من عند الأصابع، وهذا كله ضعيف.
والصحيح أنه إذا كانت اليد موجودة قطعت.
واختلف في اليد المشلولة هل تقطع أو لا تقطع؟ فمن أهل العلم من منع من القطع، وعلل ذلك بأنه ربما نزف وحصل الضرر وقد يموت؛ لأن اليد المشلولة لا يتحكم في دمها، ومن أهل العلم من توسط كما اختاره الإمام النووي وغيره أنه يرجع إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان الأطباء يستطيعون حسمها فإنها تقطع.
والأصل: أنها تقطع بالألم، فلا يكون القطع بالتخدير، فلا تخدر يده، والمقصود إيلامه حتى يشعر بجريمته وجنايته.
والحسم المراد به: وضعها في الزيت أو الدهن المغلي؛ لأن اليد إذا قطعت نزف الدم، وإذا نزف الدم هلك الإنسان، فلابد أن الدم يمنع ويحبس، وجاء في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بحسم اليد إذا قطعت، منعا من النزيف، والحديث فيه كلام، ولكن العمل عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يعضده مراسيل وموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في زماننا -والحمد لله- يوجد طرق لإيقاف الدم وإيقاف النزيف.
وهنا مسألة معاصرة، وهي: أنه بإمكان الأطباء أن يعيدوا اليد بعد قطعها، فبعد تطور الطب وسهولة الجراحات الدقيقة بإمكانهم أن يعيدوا اليد بعد قطعها، والعجيب أن بعض المتأخرين أفتى بجواز ذلك! وهذا من أغرب ما يكون، فيقول: وضع التخدير إذا قطعت، ثم إذا قطعت ترد! إذا: ماذا جرى؟ تقطع يد السارق اليوم وغدا تعود إليه! فأين العبرة؟ وأين الاتعاظ؟ والحدود شرعها الله زواجر وجوابر.
(جوابر): للنقص الذي في المكلف حينما عصى الله عز وجل فيجبر الله كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فأقمنا عليه حد الله فهو كفارة له) ، فأثبت أن الحدود كفارات، فهي جوابر لنقص العبد.
(وزواجر): لأن من رأى هذه اليد المقطوعة اتعظ واعتبر وارتدع ولم تسول له نفسه ذلك، فإذا قطعت يده ورجعت لم تعد زاجرة ولا جابرة، فهو في نفسه لم يتألم، فلم يحصل له الألم الذي يعظه ويذكره؛ وأيضا غيرة لم يره بهذه الحالة التي تزجره وتمنعه عن الوقوع في السرقة، ثم إنها إذا خدرت ولم يشعر بشيء لم يتعظ الناس، ولم يجدوا نوعا من العبرة التي تردعهم عن حدود الله عز وجل ومحارمه، فالأصل يقتضي أن يقام حد الله عز وجل على الصفة الواردة.
قال رحمه الله: [ومن سرق شيئا من غير حرز ثمرا كان أو كثرا أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع] .
هذه مسألة التعزير بالمال، من سرق ما هو أقل من النصاب، أو من غير حرز، يعني: أخذ، وهو قال هنا: (سرق) تجوزا؛ لأن السرقة لا تثبت إلا إذا كانت من حرز، فقوله: (من سرق) بمعنى: من أخذ، فمن أخذ مالا دون النصاب، أو أخذ مالا يبلغ النصاب ولكنه من غير حرز، بمعنى: أنه ما توافرت فيه شروط السرقة، فعند ذلك يعزر، وهذا ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تضعف عليه القيمة، ويغرم قيمة الذي سرقه مرتين، ويعزر بما يليق به ويمنعه من العودة للجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أضعفت عليه الغرامة وعليه العقوبة) , فأمر بأمرين في تعزيره: الأمر الأول: مضاعفة قيمة المال المسروق.
الأمر الثاني: عقوبة السارق بالتعزير، فيعاقب بما يناسبه، إما بسجنه أو جلده أو توبيخه، على الأصل الذي ذكرناه في باب التعزير، فمن الناس من يعاقب بالقول ويكفيه، ومنهم من يعاقب بالضرب الذي يردعه، ومنهم من يعاقب بالسجن الذي يردعه، فكل على حسب حاله.
الأسئلة




حكم الخادم أو الخادمة إذا سرقا
السؤال إذا سرق خادم أو سرقت خادمة من أصحابها، فهل حكمه كحكم العبد أو الأمة؟ أثابكم الله.
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالخادم والخادمة ليسا بمملوكين، ولذلك لا ينطبق عليهما ما ذكره العلماء في المملوك، وهذا يسمى عند العلماء بسرقة الأجير من مال مستأجره، فإذا تحققت شروط السرقة فتقطع يد الخادم، وتقطع يد الخادمة، على الأصل الشرعي؛ لأنهما داخلان في عموم النص الآمر بقطع يد السارق، والله تعالى أعلم.
حكم من سرق للمرة الثانية
السؤال إذا سرق السارق مرة أخرى بعد قطع يده فما الحكم؟
الجواب اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والوارد في قضاء الصحابة أن تقطع رجله اليسرى، فتقطع يده اليمنى أولا في السرقة الأولى، ثم تقطع رجله اليسرى؛ لأنه حد شرعي، ولذلك في الحرابة أمر الله عز وجل بقطع اليد والرجل من خلاف؛ لأنه إذا قطعت اليدان تعطلت المصالح، وهذا من حكمة الشريعة، وإذا قطعت يد ورجل بقيت له مصالح؛ ولأنه يحتاج أن يرتفق ويمشي.
وكان علي رضي الله عنه يقول: (كيف يغتسل؟ كيف يتوضأ؟ كيف يقضي حاجته؟ كيف يصلي؟) فلما كرر السارق السرقة احتار في أمره رضي الله عنه وأرضاه.
ومن أهل العلم من قال: تقطع يده الثانية، والأقوى أنها تقطع رجله، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن تعذر قطع اليمين وقطعت اليسار في الأولى قطعت رجله اليمنى في الثانية، والله تعالى أعلم.
دفن اليد أو الرجل المقطوعة
السؤال يقول السائل: اليد التي قطعت في حد من حدود الله ماذا يفعل بها؟ هل تغسل وتكفن أم تدفن مباشرة؟
الجواب الجزء لا يأخذ حكم الكل، وهناك مسائل يأخذ الجزء فيها حكم الكل، مثل أن يقول لزوجته: يدك طالق، رجلك طالق، يدك مني علي كظهر أمي، ونحو ذلك، فهذا الجزء يأخذ حكم الكل.
وهناك مسائل الجزء لا يأخذ فيها حكم الكل، ومنها هذه المسألة، فإنه إذا قطعت يده أو صار عليها حادث فبترت فإنها تدفن.
واستدل العلماء على مشروعية الدفن بدليلين: الدليل الأول: دفن الأظافر، وهذا فيه إشكال؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن الأظافر هو خوف السحر، وفيه حديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله، فالأظافر ربما -والعياذ بالله- تستعمل لأذية الإنسان بالسحر، ولذلك شرع دفنها بعد القص.
الدليل الثاني وهو القوي على أنها تدفن قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس:21] فقوله تعالى: {فأقبره} [عبس:21] يدل على قبر الإنسان بعد موته، والتعبير للكل والمراد به أيضا الجزء، فلو قطعت يده أو رجله، أو أصاب يده مثلا تآكل فقطعت يده فإنها تدفن، والله تعالى أعلم.
الفدية بالإطعام لمن لم يستطع صوم رمضان
السؤال والدي رجل كبير ومريض ولا يستطيع الصيام، فهل لي أن أطعم عنه في أول شهر رمضان، وهل أدفعها في مشروع تفطير الصائم أم لابد من الإطعام؟
الجواب إذا كان الشخص مريضا أو كبيرا في السن فهو بالخيار بين أمرين: - إما أن يخرج عن كل يوم بيومه.
-
أو يخرج في آخر رمضان.

أما الإخراج عن كل يوم بيومه فينتظر إلى أن تغيب الشمس في قول بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: من بداية اليوم؛ فبمجرد فطره في الصباح يطعم؛ لأنه حينئذ ثبت وجوب الحق عليه، وأما من بداية الشهر فإنه لم يثبت عليه استحقاق؛ لأنه ربما مات، وربما لم يكتمل الشهر، ولذلك لا يجب عليه الإطعام إلا بعد ثبوت الحق، وإذا أطعم قبل تمام المدة أو أطعم في بداية رمضان لم يجزه إلا عن اليوم الذي أطعم فيه، وذلك كما لو أخرج الزكاة قبل بلوغ النصاب، فزكى ولم يملك النصاب، فسبب الوجوب غير موجود، وعلى هذا لابد أن يكون في اليوم نفسه إذا أراد أن يطعم، أو ينتظر إلى نهاية الشهر ويجمع الأيام كلها، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه في آخر الشهر يجمع ثلاثين مسكينا ويطعمهم.
وعلى هذا؛ فإنه إن شاء أطعم عن كل يوم بيومه، وهذا هو الأفضل والأحسن والأكمل، فإن هذا يمكنه من الفقراء، ويعينه على الإطعام على الوجه المعتبر.
ثم إنه إذا أطعم المسكين في يومه، يدعوه هذا إلى أن يتحرى في المحتاج، بخلاف ما إذا جمع المساكين الثلاثين، فإنه ربما يتساهل في بعضهم، فالأولى أنه يطعم في كل يوم بحسبه.
حكم العمرة في رمضان لأهل مكة
السؤال ما حكم العمرة في رمضان لأهل مكة؟
الجواب العمرة في رمضان لأهل مكة وغيرهم سواء، والأصل في ذلك عموم النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترغيبا في العمرة، وما ورد عن السلف من التشديد في العمرة إنما هو في العمر المطلقة؛ لأن المقصود من العمرة: الطواف بالبيت، وأهل مكة بمكة، فكان عطاء وغيره من السلف الصالح رحمهم الله يستحبون لأهل مكة بدل أن يخرجوا للتنعيم ويكثروا من العمر أن يطوفوا بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة: زيارة البيت، فهم في البيت ومن أهل البيت، ومن هنا ضيق عليهم في إنشاء العمر.
أما العمر المقصودة الوارد بها النص التي لم يرد فيها استثناء؛ فهي باقية على الأصل، والترغيب فيها وارد، ومن اعتمر في شهر رمضان من أهل مكة وغيرهم كانت عمرة كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: (ما منعك أن تحجي معي؟ -حينما قفل عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع_ قالت: يا رسول الله! ليس لنا إلا ناضح وقد أخذه أبو فلان، فقال صلى الله عليه وسلم -مطيبا لخاطرها وللأمة جمعاء- إذا كان رمضان فاعتمري، فعمرة في رمضان كحجة معي) ، فلم يقل: إلا أهل مكة، بل قال: عمرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك لو قيل بالتخصيص لخصص النساء دون الرجال، ولو قيل بالتخصيص لخصص المعذور دون غير المعذور، ولو قيل بالتخصيص لخصصت المرأة فقط لوحدها، لكن القاعدة: العبرة بعموم اللفظ (عمرة في رمضان كحجة معي) ، وما قال لها: اعتمري في رمضان القادم فإن لكي بها حجة عوضا -مثلا- عن الحجة، إنما خاطب بخطاب العموم، وهذا العموم ليس فيه تخصيص ولا استثناء، فيبقى على الأصل وهو الأظهر، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن العمرة مشروعة لأهل مكة وغيرهم على حد سواء، والله تعالى أعلم.
حكم السعي إلى الصلاة
السؤال أيهما يقدم المسلم حين القدوم إلى الصلاة إذا أراد أن يدرك تكبيرة الإحرام أو الركعة، هل يسرع إسراعا لا يخل بمقصود الصلاة من الخشوع -كأن يكون سريع المشي عادة- أم أنه يمشي بسكينة ويفوته خير بسكينته؟
الجواب الأصل يقتضي عدم الإسراع عند سماع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ، إلا أن بعض السلف رحمهم الله خففوا في الإسراع اليسير واحتجوا بحديث قباء (لما خرج عليه الصلاة والسلام إلى قباء ثم سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع في مشيه) ، وهذا الإسراع ربما يكون هو مقصود السائل؛ لأنه يوجد إسراع بسعي، ويوجد إسراع جد في السير، وكان صلى الله عليه وسلم من هديه الخلقي أنه إذا مشى مشى مشية الرجل ولم يمش مشية المتماوت.
ولذلك قال الراوي: (كأنه يتحدر من صبب) ، أي: كأنه نازل من جبل أو نازل من مكان عال، من قوته ورجولته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فالاشتداد بالمشي الذي لا يذهب السكينة ولا يذهب الوقار معفو عنه، وورد عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورخص فيه الأئمة.
ولكن الإسراع الذي هو الهرولة والجري فهذا منهي عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكرة: (زادك الله حرصا ولا تعد) أي: لا تعد إلى هذا الإسراع؛ لأنه سمع منه جلبة، وعلى هذا إذا كان الإسراع من الضرب الذي يوءذن به فلا بأس، وإن كان على خلافه فإنه ممنوع منه، والله تعالى أعلم.
تقديم بر الوالدين
السؤال أبي رجل كبير في السن فهل الأفضل الاعتكاف أم بر الوالدين، مع العلم أن هناك أخوة لي يبرونه؟
الجواب الله المستعان! ليس هناك شيء -يعدل بعد توحيد الله عز وجل وإقامة فرائض الله- بر الوالدين، ليس هناك أجمل ولا أكمل ولا أفضل من ساعة تلزم فيها رجل الأم أو رجل الأب تقضي حوائجهما وتنفس كرباتهما بعد توحيد الله عز وجل، وتفرحهما وتحسن إليهما، استجابة لأمر الله عز وجل الذي لم يقله المرة ولا المرتين، وإنما كرره وقرنه بأعظم الحقوق {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] ، وقال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] .
من هذا الذي يستطيع أن يعدل اعتكافه ببر الوالدين؟ برك لأبيك وأمك أعظم، وإدخالك السرور على الوالدين أفضل وأجل، ولو كان ذلك لقضاء حوائجهم الدنيوية، ولو قال لك أبوك: اجلس في الدكان، فتجلس في الدكان وتبره، ويشهد الله بقرارة قلبك أنه لولا الله ثم بر الوالدين للزمت المساجد، وتحفظ دينك وتحافظ على القيام على الوالدين والإحسان إليهما، حتى إن الله تعالى يقول له: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] ، وعبر بالمصدر ثم اختار أعظم كلمة في العبادة وهي الإحسان، فأحب شيء لله عز وجل أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه العبادة وصفها الله بصفة الإحسان (قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) ، وقال الله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك:2] ، ما خلق الله الخلق إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فاختار الله هذه الكلمة العظيمة التي اختارها لنفسه في عبادته، واختارها أيضا للوالدين فقال: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] .
تأمل كيف يأمر ربك سبحانه وتعالى ببرك لوالديك وجلوسك معهما وقضاء حوائجها، فلا يمكن أن يعدل بركوع وسجود في اعتكاف؛ لأن بر الوالدين حق واجب، والاعتكاف نافلة؛ ولأن بر الوالدين مفضل بعد الصلاة المفروضة، يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) قال عبد الله رضي الله عنه: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) .
احرص بارك الله فيك! على البر بوالديك، وخاصة في هذه المواسم الطيبة المباركة؛ مواسم النفحات والرحمات والخيرات، فيبحث الإنسان عن أقرب السبل وأقصرها مما يفضي به إلى جنة الله ورضوانه، ألا وإن من تلك السبل المحببة إلى الله: بر الوالدين.
واعلم أنها ساعة سعيدة حينما تفوز برضا الوالدين، وأي ساعة تلك الساعة إذا خرجت ووراءك أب صالح يرفع كفه إلى الله لك بصالح الدعوات! وأي ساعة تلك الساعة حينما تخرج ووراء ظهرك أم جبرت كسرها وأدخلت السرور عليها، وبددت حزنها، وعالجت سقمها ومرضها وداءها، وبردت كبدها وحرها وضمأها، وقمت على حوائجها، فخرجت من عندها وهي راضية عنك، فرضي الله عنك برضاها! أي ساعة تلك الساعة حينما تحس أن والديك راضيان عنك! ولو لم يكن في بر الوالدين شرفا وفضلا إلا أن الله قرنه بتوحيده، وأمر به أنبياءه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لكفى بذلك فضلا وشرفا، ولكن من هو الموفق؟! ومن هو السعيد؟! يا هذا! لو تعلم ما لك في برك لأبيك خاصة حينما رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه، لو علمت ما لك في برك لأمك الحنون التي حملتك وأرضعتك وكابدت من أجلك وعانت ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لو علمت ماذا تساوي الدقيقة من الأجور والحسنات ورفعة الدرجات، وماذا تساوي من حسن الخاتمة عند الممات، لما تركت طاعتها لحظة.
فما رأينا بارا بوالديه إلا فتحت أبواب الخير في وجهه، ولا رأينا بارا بوالديه إلا سعيدا قرير العين، ولا رأينا بارا بوالديه ضاقت عليه الدنيا إلا نفس الله عنه ضيقها، ولا تكالبت عليه الأحزان والأشجان إلا بدد الله عز وجل همها وغمها، ما رأينا البر يعود إلا بالخير والفضل والبركة والإحسان.
كل إنسان رزقه الله أبا وأما فليحس أن هناك أمانة، وأن الله ائتمنه عليهما عند المشيب والكبر، فماذا يغني لك الأحباب والأصحاب والسهر معهم والأنس بهم ووالداك بحاجة إليك؟ أي محروم هذا المحروم الذي يخلف أمه وراء ظهره مريضة سقيمة محتاجة إليه تئن وتحن، ثم يذهب ويحتال حتى يأخذ منها الرضا الملفق المزور، ويعلم الله من قرارة قلبه أنه خان والديه، وأنه قد غشهما، لكي يذهب ويدعي أنه يركع ويسجد وأنه يتقرب إلى الله عز وجل؟! من هذا المحروم الذي يترك والديه وراء ظهره، وهما أحوج ما يكونان إلى علاج أو دواء أو مال أو أي حاجة من الحوائج وهو قادر عليها؟! فاتق الله في والديك، والزمهما واحرص كل الحرص على إدخال السرور عليهما، فهما طريق الجنة، وفي الحديث: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.
قال: أتريد الجنة؟ قال: نعم.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) ، ما المراد بأن يضحكهما؟ هل بكلمة أو كلمتين؟ (أضحكهما) يعني: كن في حالة وهيئة وشأن وفي جميع أمورك تضحك بها الوالدين، حتى إن العبد الصالح قد تتكالب عليه هموم الدنيا وغمومها ويؤذى في عمله ووظيفته، ويأتي من عمله ووظيفته مكروبا محزونا فيدخل على والديه ويكتم حزنه فيضحك معهما، والله يعلم كم في قرارة قلبه من الأشجان والأحزان، وكم من مكروب منكوب إذا دخل على والديه ضحك كأنه في جنة وفي سعادة، وهذا والله! لن يخرج إلا قرير العين برحمة ربه.
فليبحث الإنسان عن رضا الوالدين، وليبحث عن كلمة تبدد أحزانهما، وليبحث عن سرور يدخله على الوالدين حتى ولو كان بالحكاية والرواية، فإن المحسن بمجرد أن يجلس عند أمه يبحث عن كلمة أو قصة أو حكاية تدخل السرور عليها التماسا لمرضاة الله (( وبالوالدين إحسانا )) [الإسراء:22] .
وقف العبد الصالح على والدين عند مشيبهما وكبرهما وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه لا يفتر ولا يتعب ولا ينصب، يجتهد ويجد في رضا الوالدين، هذه هي السعادة، وهذا هو طريقك إلى الجنة.
فعليك أن تبدأ بحق الله أولا من الفرائض التي فرضها عليك، كإقام الصلوات وإيتاء الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك تثني ببرك لوالديك، فالتمس رضاهما، وجد واجتهد وشمر عن ساعد الجد في ذلك.
وبعض الأحيان الشيطان يدخل على الإنسان مدخلا غريبا، يكون الوالد تاجرا، فيقول لولده: ابني! أريدك أن تجلس في الدكان.
صحيح أن هناك فتنا، ولكن الفتن من تعرض لها فتن، ولكن الإنسان إذا اتقى الله ربط الله على قلبه، فيأتيه الشيطان ويقوله له: الناس في عبادة، يركعون ويسجدون وأنت جالس تبيع وتشتري! أو تأتيه والدته وتقول له: أريد أن أذهب إلى المستشفى.
أو تريد أن تدخل السرور على أولادها، أو تريد أن تشتري شيئا من السوق، فتجد الواحد يدقق ويبحث عن مآخذ، فيقول في نفسه: لا السوق فيه فتن، فيه كذا وكذا، نقول: نعم في السوق فتن، ولكن ابحث عن طريقة تستطيع أن تبر بها والديك، ولا تضيق الأمور، وتجده إذا أراد حاجة لنفسه ذهب إلى السوق في أعز أوقات الفتن، ولم يبال! والنفوس مجبولة على أن الشيء الذي للغير تنتقد فيه وتضيق فيه، والشيطان حريص على حرمان الإنسان من الخير.
اجعل بر والديك نصب عينيك، واتق الله عز وجل في الطريق التي تبر بها والديك، وسيسهل الله عز وجل لك ذلك؛ لأن الله يقول: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} [الليل:5 - 7] .
فإذا كنت في نيتك وقرارة قلبك حريصا على برك لوالديك، فتح الله لك أبواب الرحمة، وأدخل السرور على الوالدين بك، إن من عباد الله الأخيار الصلحاء من فاز في رمضان وغير رمضان ببره لوالديه، فلا يعلم أحد مقدار ما فاز به من الدرجات والباقيات الصالحات إلا الله وحده.
فبر الوالدين هو الطريق إلى الجنة والرحمة والبركة والتوفيق، وهو الطريق إلى كل خير ورشد.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي في حاجة مكروب أو منكوب أو مسلم -يعني: في قضاء حاجة- أحب إلي أن أعتكف في هذا المسجد) ، ويروى عن بعض التابعين، ويروى عن بعض السلف رحمهم الله.
وهذا من باب تقديم النفع المتعدي على النفع القاصر، ونقول أولا: بر الوالدين فرض والاعتكاف سنة، وثانيا: إنك إذا بريت الوالدين ونويت الاعتكاف كتب لك الأجران، وثالثا: إن بر الوالدين نفعه متعد، والصلاة والعبادة نفعها قاصر، والنفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، والأمر الرابع: أن الأصل يقتضي في باب المفاضلات أن ينظر إلى حصول الضرر فـ (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) ، فبعض الإخوان إذا غاب عن والديه تشوشا، وهنا ننصح الأساتذة الفضلاء الذين يحرصون -جزاهم الله خيرا- على أخذ بعض الشباب الصغار إلى المساجد، وبالأخص الحرمين، أن ينتبهوا لهذا، وأنا من وجهة نظري أن بعض الصغار دخولهم الحرمين يضيق على من هو أكبر وأولى بالاعتكاف، وإذا نظر إلى شدة الزحام ودخول هؤلاء الصغار الذي بعضهم قد يعبث، وبعضهم قد لا يشعر بمعنى الاعتكاف، ولا يتأثر به التأثر المحمود، فلو اقتصروا على من يتأثر وعلى من ينتفع لكان أفضل؛ لأن الناس كثرت الآن وليس كما كان في السابق، وتعليم الشباب وتعويدهم على الخير يكون في أزمنة أخرى غير رمضان، ونحن لا نشك أن هذا من باب الخير ومن باب التعاون، لكن الذي نلحظه ونجده، وقد اشتكى لنا كثير من الناس، أنهم قد يأتون بعدد كبير من صغار السن ويدخلونهم إلى الاعتكاف، وهذا يؤثر ويضر في مزاحمة من هو أكثر خشوعا وأولى بالعبادة ممن هو قاصر.
وخروج هؤلاء






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24-10-2025, 04:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (529)

صـــــ(1) إلى صــ(24)


شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [1]
من حدود الله عز وجل في كتابه الكريم حد الحرابة على من تعرض معصوم محترم بسفك دمه أو أخذ ماله أو الاعتداء على عرضه، وهذا الحد قد وضعته الشريعة ردع الشذاذ المحاربين وعصابات السلب والقرصنة، وقد بين الشارع الحكيم الأمور التي تتحقق بها الحرابة، ونحو ذلك.
مشروعية حد الحرابة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد قطاع الطريق] هذا الباب يشتمل على حد من حدود الله عز وجل، التي ثبتت بدليل الكتاب والسنة، وإجماع العلماء رحمهم الله.
ومناسبة هذا الباب للباب الذي قبله أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وحد الحرابة وقطع الطريق فيه اعتداء على الأموال والدماء والأنفس والأعراض، واعتداء على أمن الناس، وذلك بتخويف السبل، فإما أن تكون المناسبة لخاص مع خاص، بأن ننظر إلى أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وقطع الطريق الغالب فيه طلب المال، فناسب أن يذكر الحد الأكبر بعد الحد الأصغر؛ لأن الحرابة أكبر من السرقة.
وإما أن يقال: إن حد الحرابة أشمل، فيصبح حد الحرابة عاما بعد خاص، والخاص هو السرقة وهي اعتداء على الأموال، وقبلها جريمة الزنا والقذف وغيرها من الاعتداءات، فبعد أن بين الحدود الخاصة بالأموال بالسرقة، والجناية على العقل كحد شارب الخمر، والجناية على الأعراض من القذف وحد الزنا، شرع في بيان الحد الذي يجمع أكثر من حد وعقوبة، وهو: حد قطع الطريق أو ما يسمى: حد الحرابة.
وكلتا المناسبتين صحيحة، ولا شك أن من دقة المصنف رحمه الله أن يذكر حد الحرابة بعد الحدود الخاصة، ومن دقته أن يراعي المناسبة بين حد السرقة في الجناية على الأموال وحد قطع الطريق.
وقد اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في هذا الباب، فمنهم من يقول: باب حد قطع الطريق أو قطاع الطريق، ومنهم من يقول: باب الحرابة.


مناسبة باب الحرابة لما قبله




تعريف حد الحرابة
والحرابة: مأخوذة من الحرب، وهي ضد السلم، ومن عبر بالحرابة راعى نص الكتاب وتأدب مع الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} [المائدة:33] فوصفهم بكونهم محاربين؛ ولأن هذه الجريمة لا يمكن أن تكون إلا وفيها صفة المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم والخروج عليهم بما فيه خوف وضرر وأذية، وليس المراد به خروج البغاة.
وأيضا لا تكون جريمة إلا إذا اشتملت على صورة مخصوصة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله من الشروط المعتبرة لكي نحكم بأنها جريمة حرابة.
فالذين عبروا بالحرابة راعوا لفظ القرآن، والذين عبروا بقطع الطريق راعوا أيضا وصف نبي الله لوط عليه السلام لقومه، قال: {وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت:29] فكلا التعبيرين صحيح، ولكن التعبير بالحرابة فيه نوع من العموم، وذلك إذا قلنا: إن الحرابة لا تختص بالصحراء فقط، بل تقع الحرابة داخل المدن في الجرائم والعصابات المنظمة، أو حتى الاعتداء الفردي المسلح الذي يكون جهارا وتخويفا للناس علانية.
والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله: أن الحرابة لا تختص بالصحراء، ولا تختص بالبحر كما في قرصنة البحار، ولكن يمكن أن تكون داخل المدن، وهذا يترتب عليه مسائل؛ لأن عقوبة الحرابة عقوبة قوية، حتى ولو سامح أهل الحقوق فإنها لا تسقط، وينفذ الإمام والسلطان الحكم وينزل العقوبة ولو سامح أهل الحقوق، وحينئذ فأي شيء تعطيه حق الحرابة فهو أمر عظيم، وليس من السهولة بمكان الحكم على أي جريمة أو جماعة أو أفراد بأنهم محاربون لله ورسوله.
ومن هنا وضع العلماء الضوابط، فالتعبير بالحرابة فيه شمولية وعموم أكثر من التعبير بقطع الطريق؛ لأن التعبير بقطع الطريق يشعر بأن الحد متعلق بالاعتداء في الصحراء دون المصر ودون المدن، وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله على تفصيل عندهم في ضابط المدن؟ ومتى تكون الجناية داخل المدن؟ منهم من يفصل في هذا ومنهم من يطلق.
والشاهد عندنا: أن من عبر بالحرابة يمتاز بأمرين: الميزة الأولى: مراعاة لفظ القرآن.
والميزة الثانية: أنه أشمل وأعم، إذ لا يشعر باختصاص العقوبة والحد بالجناية في الصحراء دون البنيان.
تعريف مصطلح قطاع الطريق
قوله: (حد) تقدم معنا تعريف الحد لغة واصطلاحا، وأن هذا المصطلح يطلق على العقوبات المقدرة شرعا.
ومن هنا لما كانت الحرابة مقدرة من الله عز وجل وجعل فيها القتل عقوبة، ومع القتل الصلب للمقتول الجاني، وجعل فيها قطع اليد والرجل من خلاف، وجعل فيها النفي من الأرض، وكلها عقوبات حددها الشرع وعينها وقصدها، ومن هنا وصفت بكونها حدا.
وقوله: (قطاع) جمع قاطع، وأصل القطع ضد الوصل، قالوا: إن الناس يسافرون ويخرجون في السفر قاصدين المدن، وقاصدين أماكن مخصوصة، فإذا حصلت الحرابة قطع المحارب عليهم سفرهم وطريقهم، فوصفت بكونها قطعا للطريق وقطعا للسبيل.
وقوله: (الطرق) جمع طريق، وسمي بذلك؛ لأن الناس يطرقونه بالنعال، أو يسمع فيه طرق النعال من الإنسان إذا سلكه، والطريق والسبيل معناهما واحد، وقيل: السبيل للمعنويات، والطريق للمحسوسات، وإن كان قد جاء في القرآن: {وتقطعون السبيل} [العنكبوت:29] وهذا يدل على أنه يطلق على المحسوسات كما يطلق على المعنويات.
قال تعالى في إطلاق السبيل على المعنويات: {إنا هديناه السبيل} [الإنسان:3] أي: ألهمناه سبيل الخير والشر، وهذا من إطلاق السبيل إطلاقا معنويا.
وقوله رحمه الله: [باب حد قطاع الطريق] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد قطع الطريق، وما جعله الله من العقوبة لهذه الجريمة.
أدلة القرآن على عقوبة الحرابة
الأصل في ذلك كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل آيتي المائدة، وهما قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:33 - 34] ، وهاتان الآيتان نزلتا في إثبات عقوبة الحرابة، وإسقاطها، فالآية الأولى: إثبات لعقوبة المحاربين وقطاع الطرق، والآية الثانية: في إسقاط الحد عنهم، وذلك بتوبتهم قبل القدرة عليهم، فبين الله سبحانه وتعالى شرعية هذا الحد.
وسيأتي إن شاء الله في معنى قوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] هل (أو) هنا للتخيير، وأن الأمر راجع للإمام والوالي ينظر الأصلح؟ أم أن (أو) هنا للتنويع على حسب الجرائم التي تقع من هؤلاء الذين اعتدوا على سبل المسلمين فقطعوها وأخافوها، ومنعوا الناس من مصالحهم، وأرعبوا الناس وأدخلوا الخوف عليهم؟ فهل هي عقوبة تختلف باختلاف جرائمهم فيكون القتل لمن قتل، والصلب لمن قتل وسرق؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله في موضعه.
أدلة السنة على عقوبة الحرابة
أما دليل السنة فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن أناسا من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها) أي: أصابهم الجوى، والجوى: نوع من الأمراض يأتي الإنسان عند اختلاف الطعام عليه، واختلاف المكان والبيئة (فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فخرجوا إلى إبل الصدقة، فلما صحوا ووجدوا العافية قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فجاء الصارخ في أمرهم إلى المدينة، فما غابت الشمس حتى أتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم) أي: أمر بالمسامير فأحميت بالنار، ثم سملت بها أعينهم.
قيل: إنهم سملوا عين الراعي فسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وهذا هو الصحيح، والرواية في هذا صحيحة: (ثم تركوا في الحرة) وهي من حرار المدينة، والمدينة لها حرتان، والظاهر أنها حرة الوبرة، وهي الأقرب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب في تنفيذ الحد فيها (يستسقون فلا يسقون حتى هلكوا) ، قال الراوي عن أنس رضي الله عنه: (قد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفمه من شدة العطش) .
هذه هي الشريعة التي وضعت الحزم في موضعه، والرفق في موضعه، والرحمة في موضعها، وحينئذ أعطت الناس حقوقهم، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت حد الحرابة كما أثبتها القرآن.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل نزول آية المائدة سببه هذه القصة؟ - من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن سبب نزول هذه الآية قصة العرنيين، وحينئذ تكون نازلة في قوم مخصوصين، وينظر إلى عموم لفظها؛ لأن اللفظ عام: {إنما جزاء الذين يحاربون} [المائدة:33] وهذا فيه عموم.
وبناء على ذلك تكون نازلة في المسلمين.
وقيل: إنهم ارتدوا، وهذا أحد الأوجه، فتصبح نازلة في أهل الردة وهو الوجه الثاني لسبب نزول الآية.
وقيل: إنهم كانوا على الإسلام ولكنهم بطروا النعمة، وكفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وقابلوا المعروف بالإساءة، فتكون حينئذ مشروعة في المسلمين.
ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن الآية لم تنزل في العرنيين، وإنما نزلت بعد العرنيين، وهذا يترتب عليه أمر، وهو أنا إذا قلنا: سمل العينين والتمثيل بهم لم يكن بسبب أنهم فعلوا ذلك بالراعي، فحينئذ تكون نسخا للمثلة ويكون لها حكم خاص، وهذا القول يختاره جمهور العلماء، والقول بأنها نزلت في العرنيين قال به أنس بن مالك وقتادة بن دعامة السدوسي الإمام المشهور، ومذهب الجمهور على أن الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزلها للمسلمين تشريعا لهذا الحد.

دليل الإجماع على عقوبة الحرابة
أجمع المسلمون على اعتبار عقوبة الحرابة، وإن كانوا قد اختلفوا فيمن يمكن أن نصفه بكونه محاربا قاطعا للسبيل؟ ومن الذي لا يمكن وصفه بذلك؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما تيسر منه.
مسائل في حد الحرابة
إذا: فقوله رحمه الله: (باب حد قطاع الطريق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة قاطع الطريق.
صور وقوع جريمة الحرابة
قال رحمه الله تعالى: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة] .
ذكر المصنف رحمه الله شرطين هامين لا بد من توفرهما لكي نحكم بجريمة الحرابة: الشرط الأول: التعرض للناس بالسلاح، وحينئذ يصدق عليهم أنهم حاربوا الله ورسوله.
الشرط الثاني: أن يكون هذا الفعل منهم جهرة لا سرا وخفية.
فلا بد من وجود هذين الشرطين، فإذا تحقق هذان الشرطان لم يلتفت إلى كون جريمتهم داخل المدن أو خارجها، ولم يلتفت لكون الجريمة صادرة من جماعات أو أفراد، وعلى هذا فتشمل الحرابة جرائم الجماعة وجرائم الأفراد، وفي جرائم الجماعات تشمل العصابات وتشمل الاتفاق من الجماعة دون وجود تعصب.
وتوضيح ذلك: أن الحرابة يمكن أن تكون بالجماعة، إذا نظمت ورتبت وخططت للاعتداء على مال أو نفس أو عرض مسلم، أو على ذي حرمة كالذمي، فإنهم إذا خططوا لذلك فهي جريمة منظمة، وبالتالي فإنه يدخل فيها من لا يدخل في فعل الأفراد، فيدخل في الجريمة المنظمة: المخطط والمنفذ والمدبر.
فلو أن جماعة اجتمعوا وخططوا للهجوم على جماعة من المسلمين، أو على متاجر، أو على أسواق، أو على محلات، أو على دور فيها أعراض، وحرمات بقصد قتل من فيها أو قصد ضربه وأذيته أو قصد الاعتداء على الأعراض كما في المجموعات إذا صارت بتنظيم وتخطيط لأماكن تجمع النساء من أجل فعل الفاحشة والاعتداء على الحرمة من النساء.
كل هذا يستوي فيه من يمثل ومن يخطط، فلا يختص الحكم في الجماعات المنظمة بمن ينفذ، بل إن الذي يدبر ويخطط قد يكون أشد جرما وأعظم بلاء من الذي ينفذ، حتى إن الجريمة لربما لم تقع ولن تقع إلا إذا وجد من يعرف بعض الأسرار وبعض والوسائل والطرق التي يمكن أن يتوصل بها المجرم إلى جريمته.
ومن هنا ففي عصرنا الحاضر لو اجتمعت عصابة للهجوم على محل أو مركز تجاري داخل المدن أو الاستراحات كما في المحطات والصحاري، واحتيج مثلا إلى فك رموز لأجهزة الكترونية أو أجهزة معقدة، فجاء إنسان عنده خبرة ومعرفة وخطط لذلك وأعانهم عليه، فهو شريك لهم ومحارب، وهم في الفعل هم الذين ينفذون.
ففي الواقع لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذه الحرمة من الدماء والأموال والأعراض لولا هذا التدبير.
كذلك لو خان الخائن فتدخل في الجرائم المنظمة خيانة الخائن، مثل أن يكون قائدا لنساء وهن من حرمات المسلمين يؤتمن عليهن، كأن يوصلهن إلى مكان خارج المدن، فيتفق مع هذه العصابة أو مع هذه المجموعة، فهذه الجريمة منظمة مرتبة.
ومذهب طائفة من العلماء أن هذه الجرائم للجماعات المنظمة يستوي فيها المدبر والفاعل الممثل، فكلهم سواء، ويستوي أيضا فيها العاقر مثل من يحمل السلاح، ومن ينفذ الجريمة بالفعل، فإذا هجم هؤلاء بسلاحهم على محل، فحمل أحدهم السلاح حتى لا يتحرك أحد، وقام الآخر بفتح الخزانة أو قام الآخر بالزنا والعياذ بالله، أو قام الآخر بربط المجني عليه أو نحو ذلك من الأذية، فحامل السلاح لم يفعل فعل الجريمة، ولم يفعل الجريمة من القتل أو السرقة، ولكنه يعتبر في حكم الفاعل.
وأيضا يدخل في هذه الجماعات: العصابات المنظمة بالردء، وهو ما اختلف فيه العلماء، والجمهور على أن الردء والحماية للعصابات المنظمة حكمها حكم الجريمة نفسها، فلو كانت العصابة تتكون من مجموعتين: مجموعة تحرس وتكون قبل الجريمة، أو أثناء الجريمة، ردءا وحفظا لمن يفعل الجريمة، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنهم يدخلون في ذلك، وأنهم محاربون.
كذلك تكون من الجماعات غير المنظمة وهو ما يسمى بالاتفاق، وكثيرا ما يقع في أهل الشر، لو أن شخصا خرج مع عائلته بسيارة مسافرا، ونزل في موضع في الصحراء فيه مجموعة من الأشرار، أو نزل في محطة واتفق نزوله مع وجود مجموعة من الأشرار، فجاء أحدهم فوقف أمام هذا الرجل، يريد أن يعتدي على عرضه، وجاء البقية من أصحابه الأشرار ووقفوا معه، وهجموا على هذا الرجل واعتدوا على عرضه أو دمه أو ماله، فهذه جريمة غير منظمة ولا مرتبة، لكنها في حكم الجناية الواحدة، يستوي أن يجتمعوا بتدبير وتخطيط وترتيب للهجوم وترتيب للفرار وتغطية للجريمة بعد فعلها، وبين أن يقوموا بذلك الفعل اتفاقا، كأن يتفق رأيهم على الشر، سواء كانوا مع بعض أو كانوا متجانسين، مروا على هؤلاء ووجدوهم يضربون الرجل أو يعتدون على عرضه، فنزلوا وفعلوا معهم فعلتهم فهم سواء، وحكمهم حكم المحاربين سواء.
هذا بالنسبة للجماعات، ويدخل فيها العصابات المنظمة كما هو موجود في الأزمنة والعصور على اختلافها، وتدخل فيها الجماعات غير المنظمة التي تحصل اتفاقا بالتواطؤ على الشر ومحبة الشر والتشوف للشر، من أذية الناس وانتقاص حرمات المسلمين والاستخفاف وعدم المبالاة بها.
كذلك أيضا: كما تقع الحرابة من الجماعة تقع من الفرد، فلو أن رجلا أشهر سلاحه على رجل مسافر وقال له: أعطني مالك، أو أشهر سلاحه وأخذ ما في جيبه، أو أشهر سلاحه وأخذ بضاعته من سيارته، أو أشهر سلاحه واعتدى على امرأة موجودة في السيارة، أو اعتدى على الرجل في حرمته، أو اعتدى على الأطفال تحت تهديد السلاح؛ فإنها حرابة.
إذا: لا تختص الحرابة بالفرد ولا بالجماعة، وإنما هي عامة شاملة لحمل السلاح تهديدا للوصول إلى جريمة، سواء كانت بالاعتداء على النفس، أو على الحرمات من الأعراض أو الدماء، ولو كانت مجرد إخافة.
التعرض للناس في الحرابة يشترط فيه حمل السلاح عند البعض
وقوله: [هم الذين يعرضون للناس بالسلاح] يشترط وجود السلاح في قول بعض العلماء، والجمهور على أنه لا يشترط السلاح، وأن العبرة بوجود الضغط والقوة والقهر.
وقوله: (بالسلاح) يستوي أن يكون قديما أو حديثا، ففي زماننا حمل السلاح مثل المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية، ونحو ذلك من المتفجرات وتلغيم الأماكن، كل هذا يعتبر من الحرابة.
وأيضا: الأسلحة القديمة التي تسمى الأسلحة البيضاء، فلو حملوا السيوف أو الخناجر أو السواطير، فهذه كلها تعتبر من السلاح عند العلماء رحمهم الله، فإذا أخاف بها السبيل، فأرعب حافلة في سفر أو دخل على محل تجاري جهرة حاملا للساطور أو السيف وأخذ وفعل ما فعل، فهذا كله يعتبر حرابة.
إذا كان بغير سلاح فمثل الضرب واللكز واللكم، وهذا نص عليه بعض العلماء رحمهم الله، وفي زماننا لو كان يحسن بعض الأعمال الهجومية التي يخيف بها السبيل، فإنه إذا كان يحسن الضرب بيديه أو رجليه وأرعب من في الحافلة بذلك، أو أرعب من في المحل التجاري بذلك وهدده وخوفه أو خنقه، فكل هذا يعتبر من الحرابة.
إذا: يشترط المصنف وجود السلاح، وعلى هذا الشرط إذا لم يوجد السلاح فليس بحرابة.
لكن من العلماء من قال: السلاح وما في حكمه، وهذا المذهب أقوى.
وقوله: [بالسلاح] الأصل أن حمل السلاح لا يكون إلا في الحرب، وانظر في دقة العلماء رحمهم الله، كيف أن حمل السلاح لا يكون إلا لشخص يحارب، فإذا جاء هذا الشخص، أو جاءت هذه المجموعة حاملة للسلاح على المسلمين في أسفارهم أو بيوتهم ومساكنهم ومحلاتهم التجارية، فقد أعلنت الحرب على المسلمين، فهي محاربة وإن كانت لا تأخذ حكم الحرب العامة؛ لكن انظر كيف نزلت الشريعة! ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فلا يمكن أن يحمل المسلم السلاح على أخيه المسلم، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) والعياذ بالله.
إذا: هذا أمر عظيم، ولذلك عظمت الشريعة حمل السلاح على المسلم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من حمل السلاح على المسلم فليس منه، فاشترطوا لكي يكون محاربا أن يحمل السلاح على المسلمين، وهذا على التفصيل يستوي فيه القديم والجديد.
والقاضي ينظر في الجريمة والحادثة ونوعية السلاح الموجود فيها، فإذا كان يشترط السلاح نظر فيه وحكم بكونه حرابة، وإلا لم يحكم بكونه حرابة.
والصحيح أن التخويف بالسلاح وما في حكم السلاح له حكم واحد، ومن هنا لو حمل العصا أو الحجارة فقد نص طائفة من العلماء على أنها حرابة، فقد يفعل الحجر ما لا تفعله السكين، وقد تفعل العصا ما لا يفعله السيف، ولذلك لا يختص الحكم بالسلاح المقصود عينا، فلو أنهم هجموا على حافلة وحمل كل واحد منهم حجرا، وهدد صاحب الحافلة أن ينزل، أو المرأة أن تنزل، أو دخل بيتا وحمل معه حجرا فهدد رب البيت واعتدى على عرضه جهرة، أو اعتدى على ماله، أو اعتدى على حرمة من حرماته، فكل هذا يعتبر حرابة.
وقد بين المصنف رحمه الله اشتراط السلاح، والصحيح أن السلاح وما في حكمه سواء.
حكم اغتصاب المال مجاهرة
وقوله: [في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة] .
الشرط الثاني: أن يكون هذا الاعتداء على سبيل الجهر والعلانية، لا سرا وخفية، ولذلك فمن جاء خفية وسرق من محل تجاري، أو سرق من خزينة، أو من بنك، أو من مصرف خفية؛ فهو سارق.
أما الحرابة فيشترط أن تكون جهارا، والجهر يكون تحت القهر والتهديد، فلو كان جهارا بسرعة، بأن اختطف المال من الرجل وهرب دون تهديد بالسلاح، فهذا مختلس ومنتهب، وليس عليه قطع، وقد تقدم بيان حكمه، وانظر كيف أن الشريعة تفصل في كل جناية وجريمة بما يليق بها، وتعطيها حقها وقدرها.
ومن هنا فإذا كانت الجريمة بالاعتداء على المال سرا فهي سرقة إذا تحققت فيها شروط السرقة، وإذا كانت علانية فيفصل فيها: فإن وقعت علانية تحت قهر ووطأة السلاح والتخويف فهذه حرابة، وقد بين المصنف رحمه الله أنها حرابة سواء كانت داخل مدينة أو خارجها.
وإن كانت جهارا أمام الناس ولكنها ليست تحت وطأة السلاح مثل ما يقع الآن، حيث يكون الشخص سريعا فيخطف من الرجل شنطته، أو محفظته، أو مالا أو كتابا أو شيئا في يده ذا قيمة ثم يفر، فهذا ليس بسارق وإنما هو منتهب، ويأخذ حكم الانتهاب.
لكن لو أنه هدده وأرعبه وخوفه، فهذا التهديد تنتقل به الجريمة إلى الحرابة، وحينئذ يأخذ حكم المحارب.
وقد اشترط العلماء رحمهم الله أن يكون علانية، والمصنف رحمه الله يختار أن هذه الجريمة تقع داخل المدن في البنيان كما تقع في الصحراء.
والعلماء متفقون على أنها لو وقعت في الصحراء خارج المدن وكانت على مسافة بحيث لو صرخ الصارخ لا يسمعه أحد، ولا يمكن نجاته أو استغاثته؛ فإنها حرابة، سواء كانت في البر أو البحر، مثل القرصنة البحرية بالاعتداء على السفن والبواخر التجارية واختطافها، أو أخذ ما فيها تحت وطأة السلاح، فكل هذا حرابة.
لا يشترط في الحرابة أن تكون في الصحراء
وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يشترط أن تكون في الصحراء وهذا هو الصحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى عمم في الآية الكريمة ولم يخص الحكم بالصحراء، وإذا قيل: إن سبب نزولها في العرنيين وقد فعلوا هذا في إبل الصدقة، وإبل الصدقة كانت بعيدة، فجوابه: أولا: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانيا: أن العلماء لم يتفقوا على أن المقصود بالآية هم العرنيون.
ومن هنا: يقوى القول بأن الحكم لا يختص بالصحراء، وبناء عليه فالاعتداء على الأموال في البنيان والمدن والاعتداء على الأعراض والأنفس، وتخويف الناس داخل المدن جهارا بحمل السلاح كله حرابة.
مثلا: لو أن جماعة هجموا على محل تجاري، وأشهر أحدهم السلاح وقام الآخر بأخذ المال من الخزنة، أو أخذ الأموال من الدواليب ونحوها كما في المجوهرات ونحوها، فهي حرابة.
لكن لا بد أن يكون هذا العمل أمام الناس، وذلك كما تفعل بعض العصابات التي تأتي وتدخل في وضح النهار إلى المحل وتمارس هذا العمل، فهذا حرابة، وينطبق عليها حكم المحارب، سواء كانوا جماعة أو أفرادا، يدخل الفرد المحل التجاري ويضع سلاحه على من عند الصندوق، ويقول له: أخرج لي المال، فهذا التهديد فيه إشهار السلاح، وثانيا: أنه جهرة ولم يكن سرا، فحينئذ نحكم بكونه حرابة مع أنه داخل المدينة؛ لأنه وقع على ملأ، وحصل به تخويف الناس، وحصل به المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم، وحينئذ يصدق عليه أنه حرابة.
كذلك أيضا: لو أن جماعة أو عصابة هجمت على رجل في بيته بقصد الاعتداء على عرضه والعياذ بالله، فأشهر أحدهم السلاح، وقام الآخرون بفعل الجريمة، أو قام بعضهم بالزنا والعياذ بالله، أو الاعتداء على الرجال أو الأطفال القصر، فهذه حرابة ولو كانت داخل البيت؛ فقد نص العلماء على أنه يأخذ حكم الحرابة، وهذا في الاعتداء على الأعراض.
أما الاعتداء على الدماء كأن تحقد عصابة على رجل، فجاءوا جهرة أمام الناس ومعهم السلاح فهددوا الناس أن يقف أحد أو يتعرض أحد، ثم أخذوا الرجل وقتلوه، فهذه حرابة بالاعتداء على النفس.
فالنوع الأول: حرابة بالاعتداء على المال.
والنوع الثاني: حرابة بالاعتداء على العرض.
والنوع الثالث: حرابة بالاعتداء على النفس.
ويستوي في المال أن يأخذوه أو لا يأخذوه بل يتلفوه، فالعصابات التي تدخل إلى المدن في وضح النهار وتحت وطأة السلاح تكسر وتخرب وتفسد الأشياء محاربة، وهذا يسمونه الإرعاب والخوف.
فهم لا يريدون مالا ولا عرضا ولا قتلا، وهذا النوع يعتبر جناية على جماعة المسلمين بالتخويف والإرهاب وإدخال الرهبة والرعب، وتفعله العصابات من أجل أن يخاف الناس، يفعلونه في المدن وخارج المدن.
فخارج المدن يتسلطون على أطراف المدن كالمزارع ونحوها ولا يقتلون أشخاصا معينين مقصودين، ولكن يقتلون أشخاصا لأجل أن يرهبوا الآخرين، فالعصابات تحدث الرعب وتحارب بإحداث الرعب، فمسألة قصدهم للمال ورغبتهم فيه ليست هي الأساس، إنما العبرة في بإشهار السلاح، وأن يكون ذلك جهرة، سواء قصدوا قتل النفس كما يحدث في قتل المعينين، أو إحداث الخوف والرعب عندهم، أو قصدوا أموالهم أو أعراضهم، فجميع ذلك يأخذ حكم الحرابة.
وفي دخولهم للمدن واعتدائهم على الأعراض والأموال والأنفس، أو مجرد الإخافة في الصحراء، يقع باحتكار السبل، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من ذلك أن يأتوا إلى الطريق التي يمشي فيها المسافرون، فيقفون أثناء الطريق ومعهم السلاح ولا يقتلون، ولكن لا يسمحون لأحد أن يمر إلا بإذنهم، أو لا يسمحون لأحد أن يمر حتى يدفع لهم ضريبة، وهذا كله يعتبر قطعا للسبيل وحرابة، وهذا الأصل الذي ذكرناه هو الذي تدل عليه معاني الشريعة.
وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن تخصيص الحرابة بالصحراء ضعيف: أولا: لأن الله لم يفرق بين الصحراء والبنيان، وجعل الأمر راجعا إلى محاربة الله ورسوله.
ثانيا: أن العرنيين لو فعلوا هذا في الصحراء ونزلت الآية في حقهم، فإن هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإن إخافة الناس في المدن أعظم وقعا وأشد بلاء وأعظم جرأة وفسادا في الأرض؛ لأن إخافة المدن ليست كإخافة السبل، مع أن إخافة سبل المسافرين نوع لا يحتمله الناس، لكن أن يهجم على الناس في عقر دارهم، ويحدث الخوف للناس في مدنهم وقراهم، فهذا كله أشد من الذي اتفق عليه العلماء رحمهم الله، وهي الجرائم التي تكون في الصحراء خارج البنيان.
وعلى هذا: لا نحد مسافة ولا مكانا، بل نقول: العبرة بحمل السلاح على التفصيل الذي ذكرناه، وأن يكون ذلك جهرة، حتى يتحقق فيه أنه محاربة لله ورسوله.
ويستوي أن يكون في البر أو البحر أو الجو، كاختطاف الطائرات بإشهار السلاح، سواء قصد أخذ مال المسافرين، أو قصد الاعتداء عليهم، أو قصد مجرد الإخافة.
فالعلماء رحمهم الله قرروا أن مجرد إحداث الرعب في أمن الناس وطمأنينتهم خروج ومحاربة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
إذا: لا نشترط أن يكون الأمر فيه إغراء، سواء كان الإغراء بطلب الدماء أو الأموال أو الأعراض من الشهوات ونحوها.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-10-2025, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




إلحاق الغيلة بالحرابة
وفي حكم هذا الأمر ما كان بين الجريمتين، وهي مسألة الغيلة، ومسألة الاستدراج.
ففي حكم المحاربين الشخص أو الأشخاص الذين يستدرجون بفعل الجرائم من المدن، فعلى القول باشتراط الصحراء قرر بعض العلماء أنه لو استدرج امرأة بفعل الزنا بها، حتى أخرجها من المدينة ثم هددها وزنى بها، أو استدرجها أمام الناس بالقوة أو اختطفها، أو استدرج صبيا لفعل الفاحشة -والعياذ بالله- أو رجلا لقتله، فإن هذا كله يعتبر حرابة.
والفائدة إذا قلنا: جريمة، سواء جريمة قتل أو جريمة زنا أو جريمة لواط أنه يسري عليها حكم الجريمة الخاصة، لكن إذا قلنا: إنها حرابة، فيجب على ولي الأمر تنفيذ الحكم، ولو شفع فيه أهل الأرض كلهم ردت شفاعتهم، ولا يجوز لأحد أن يقف ويمنع من قتلهم وصلبهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا اعتدوا على الأموال على التفصيل الذي نذكره؛ لأن الحق فيها لله عز وجل.
فالاستدراج بفعل الجرائم في زماننا كاختطاف الناس جهرة، وإعطاء المخدر له حتى لا يتحرك، أو ربط المجني عليه حتى لا يتحرك، وأخذه أمام الناس واختطافه من بيته أمام جيرانه تحت وطأة السلاح، أو اختطافه من عمله أو مكتبه أمام زملائه تحت وطأة السلاح، وإخراجه من المدينة، كل هذا يعتبر من الحرابة؛ لأنه وجد فيه حمل السلاح، ووجد فيه المجاهرة وقصد به ما ذكرناه فهو في حكم الحرابة؛ لأن شرطها قد تحقق فيه.

التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم
يقول رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس] .
الناس المراد بهم المسلمون أو من لهم حرمة كالذميين، فالذمي له حرمة المسلم، لا يجوز الاعتداء على ماله ولا على دمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) .
فالكفار الذين يدخلون بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من يقوم مقامه، أو دخل كافر بلاد المسلمين تحت أمان من امرأة مسلمة فإنه لا يجوز أن يتعرض له، وذمة هذه المرأة كذمة المسلمين جميعا، ففي الصحيحين: (أن أم هانئ رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، وفاطمة تستره بثوب يوم الفتح -فتح مكة-، فقال: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحبا بـ أم هانئ فقالت: زعم أخي -وهو علي رضي الله عنه، وكانت قد أمنت أحد قرابتها من الكفار- أنه قاتل لرجل أمنته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) فدخل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمانه، مع أن الذي أجارته امرأة.
ولذلك نص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، فقال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) .
وقتل الكافر المؤمن داخل بلاد المسلمين فيه وعيد شديد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى غضب الله عز وجل على صاحبه، وإعراضه عنه يوم القيامة والعياذ بالله؛ لأنه أخفر ذمة المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يتعرض للذمي والمؤمن والمعاهد، فمن له ذمة من مسلم فذمة المسلمين واحدة كما نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقوله: [يتعرضون للناس] يشترط أن تكون للناس حرمة في دمائهم، وفي الأموال على اشتراط القطع في السرقة لابد أن يكون المال له حرمة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
وقوله: [بالسلاح] أي: يكون هذا التعرض مصحوبا بالسلاح.
وقوله: [في الصحراء أو البنيان] هذا ظرف الجريمة (والبنيان) أي: داخل المدن، وعلى هذا: يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من أهل العلم أن الحرابة لا تختص بالصحراء، وقدم المصنف الصحراء لأنها محل إجماع، وقوله: أو البنيان؛ لأنها تابعة لذلك على الصحيح.
وقد بينا أن الاعتداء في البنيان أعظم من الاعتداء في الصحراء.
لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة
وقوله: [فيغصبونهم المال] ذكر رحمه الله هذا؛ لأن قطع الطريق وإخافة السبل غالبا ما يقصد به أخذ أموال الناس، لكن الحكم لا يختص بغصب المال بل يشمل الاعتداء على النفس والعرض، وحينئذ فإن من دقة المصنف أنه ذكر الأدنى للتنبيه على الأعلى، وذكر المال وإن كان أخف من إخافة السبل، لأنه أقل ما يكون في الحدود؛ لأن فيه قطعا لليد والرجل من خلاف في الحرابة، فذكر المال, وإلا فلو أنهم تعرضوا للناس بقصد قتلهم هناك، فمثلا: بعض الجرائم وبعض المجرمين الذين يخرجون بالسلاح بقصد قتل الناس واستباحة دمائهم، ويكون هذا عن حقد على المجتمع أو نوع من الإرعاب للمجتمع والإرهاب والتخويف له، وهذا يدخل في الحرابة، فالمصنف رحمه الله ذكر المال لكنه لا يقصد تخصيص الحكم بالمال فقط، فينتبه لهذا.
فقوله: [يغصبونهم المال] هذا على الغالب أن الاعتداء يكون من أجل الأموال، ويقع أيضا بالاعتداء على الأعراض، فلو جاء مثلا في منطقة يغشاها النساء، أو أماكن تجمع النساء في الأفراح، فجاء وأشهر سلاحه عليهن، فهذا يعتبر من الاعتداء على العرض وإن لم يفعل الجريمة.
المقصود أن المصنف لا يقصد تخصيص الحكم بالاعتداء على المال، فإن الاعتداء على الدماء بالقتل، والاعتداء على الأجساد بالضرب، والاعتداء على السوءات والأعراض بالانتهاك وفعل الفواحش، كل هذا يعتبر من الاعتداء، ولو سلم من الاعتداء بحيث تجرد الفعل وصار محض تخويف فإنه إرهاب واعتداء على أمن الناس، وهذا يعتبر جريمة، وله عقوبة في حد الحرابة أيضا.
وقوله: [مجاهرة] هذا الشرط الثاني الذي ذكرناه، وهو أن يكون جهارا لا خفية.
وقوله: [لا سرقة] ولذلك لما كانت الجناية على المال خفية سرقة، فقال: (لا سرقة) و (لا) هنا للإضراب، أي أنه لا يشمل حد السرقة، فالسرقة لها حكم خاص، فلو أنه اعتدى على المال خفية فإنه يحكم بكونه حد سرقة، ولا يحكم بكونه حد حرابة.
اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئا أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] .
قوله: (فمن) من صيغ العموم، والمجرم في جريمة الحرابة يشترط فيه أولا أن يكون مكلفا، بالغا، عاقلا، فلو كانت جريمة الحرابة من مجنون رفع السلاح، فهذا لا يقام عليه حد الحرابة؛ لأنه مجنون وغير مؤاخذ.
ولو كان صبيا فإنه أيضا لا يقام عليه حد الحرابة, لكن لو اشترك الصبي مع البالغ، والمجنون مع المكلف العاقل، فهل هذا الاشتراك شبهة يسقط الحد عن الشريك؟ الصحيح أن اشتراك المكلف مع غير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، وأن هذا لو فتح بابه لاستطاع أهل الجرائم أن ينفذوا جرائمهم بواسطة غير المكلفين.
وإن قيل: غير المكلف شبهة؟ نقول: غير المكلف كالآلة، فلو أن مكلفا أمسك حية وأنهشها لشخص فقتلته الحية، لقلنا: إنه قاتل، فهو الذي أغرى الصبي، وهو الذي دفعه وحفزه، وربما هدد الصبي أن يخرج معه، ولربما أغراه، وهكذا بالنسبة لضحكه وعبثه بالمجنون حتى يطيعه.
وقد تقدم معنا في باب القتل أن الاشتراك بين المكلف وغير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، ولذلك فإن الذي عليه العمل أنه لو اشترك الصبيان مع البالغ سقط الحد عن الصبيان، وأدبوا بما يتناسب مع سنهم؛ لأن فيهم المميز وغير المميز، ولا يعني هذا أن نطلقهم هكذا، وإنما ينظر فيهم، فمن كان مميزا فله حكم، ومن كان غير مميز فله حكم آخر.
وأما بالنسبة للمكلف فإن الحكم أن يقام عليه حد الحرابة، وليس عندنا دليل على إسقاط الحد عنه، فكون شريكه غير مكلف لا تأثير له في مؤاخذة الشرع لهذا النوع من المكلفين.
وعلى هذا: فإنه لو اشترك من يسقط عنه الحد ومن لا يسقط عنه الحد وجب الحد.

لا تشترط الذكورة في المحاربين
كذلك أيضا قوله: (من) يشمل النساء، فلو أن عصابة من النساء اتفقت على جريمة الحرابة، فإن جمهور أهل العلم على أن النساء يطبق وينفذ عليهن حد الحرابة كالرجال، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية عنه، وإن كان بعض أصحابه قد قال بقول الجمهور كـ الطحاوي وغيره، وبينوا أن المرأة والرجل على حد سواء، وعليه فإن النساء يقام عليهن حد الحرابة كالرجال.
ومن هنا قال المصنف: (فمن) وهذا يشمل الذكور والإناث المكلفين، والمراد بقوله: (من) أي: المكلف الملتزم وهو المسلم أو المعاهد أو الذمي الذي التزم بأحكام الإسلام.
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئا] فجريمة الحرابة تختلف على حسب اختلاف الجريمة، وهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصواب، وأن يلهمنا الحق فيما اختلفوا فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.


الأسئلة




الفروق بين الحرابة والغصب
السؤال ما الفرق بين الحرابة والغصب أثابكم الله؟
الجواب كل من الحرابة والغصب فيهما مغافصة ومعافصة ومغالبة، فيشتركان في هذا المعنى، وكل منهما يقهر المجني عليه للوصول إلى جريمته من أخذ المال ونحو ذلك.
لكن الفرق من وجوه: أولا: الغصب يكون في الأموال والحرابة تكون في الأموال وغير الأموال.
ثانيا: الغصب ليس فيه اعتداء على النفس، والحرابة فيها اعتداء على النفس، وهذا راجع أيضا للفرق الأول.
ثالثا: الحرابة فيها تهديد بالسلاح، والغصب لا يشترط فيه التهديد بالسلاح.
رابعا: أن الغصب في كثير من صوره يكون فيه نوع من الشبهة، فالجار يأخذ شبرا من جاره، ويقول: هذا حقي، فيكون عنده نوع من الشبهة، ونوع من الاحتيال، قد تكون شبهة حتى بالنسبة له، فيظن أن هذا حقه، وهو في الحقيقة غاصب لمال أخيه، وهذا من أهم الفوارق.
خامسا: الغصب ليس فيه عقوبة بالحد، وإنما فيه تعزير إذا ثبت، والحرابة فيها عقوبة وفيها حد مقدر، وهذا من ناحية الأثر.
سادسا: الغصب يسقط بعفو المغصوب منه، والحرابة لا تسقط بعفو المجني عليه.
سابعا: يستحب العفو عن الغاصب ومسامحته لعظيم الأجر، قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40] ، والحرابة لا يجوز للإنسان أن يتنازل فيها عن حقه، ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن المحاربين لا تجوز مسامحتهم؛ لأن هذا أمر عظيم جدا، وحتى لو عفا فلا يعتد بعفوه، لكن يقولون من ناحية المكلف نفسه: لا يجوز له أن يسامح.
هذه بعض الفوارق بين جريمة الغصب وجريمة الحرابة، والله تعالى أعلم.

حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحا
السؤال إذا كان المجني عليه يملك سلاحا، وغلبه الجاني، فهل يكون الجاني محاربا أيضا؟

الجواب العبرة بوجود الفعل وهو المجاهرة وحمل السلاح، بغض النظر عن كون المجني عليه عنده سلاح أو ليس عنده سلاح، فقد يكون عند المجني عليه سلاحان فضلا عن سلاح واحد، ولكن أمامه عشرون شخصا مسلحون، فماذا يفعل؟! وقد يوجد عنده سلاح ولكن لا يستطيع أن يتحرك؛ لأن السلاح على رأسه، إذا: الحرابة تكون من الجاني وإن كان المجني عليه يملك سلاحا؛ لأن الحرابة سلوك إجرامي وجريمة وانبعاث للأذية والضرر، يستوي أن يكون المجني عليه قادرا على الدفع أو غير قادر على الدفع.
ومن هنا يكون حرابة ولو كان المجني عليه مسلحا.
صور نقل الفتوى
السؤال إذا سمعنا الفتوى في الدرس، فهل يجوز لنا أن نقول: قال الشيخ فيها كذا، إذا سألنا أحد، أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة تعرف عند العلماء بنقل الفتوى، ونقل الفتوى له صورتان: الصورة الأولى: النقل الحرفي للسؤال الحرفي أو المشابه، فإذا كانت المسألة التي سئل عنها الشيخ هي التي وقعت خارج الدرس، فهذا هو النقل الحرفي للسؤال.
أو ينقل فتواه حرفيا وليس مجيبا عن سؤال، كأن يقول: جلست في الدرس وسمعت الشيخ يقول كذا وكذا، فهذا رخص فيه العلماء وأجازوه، ويستحب للإنسان أن ينشر العلم، ومن أراد أن يبارك له الله في علمه فليحفظ ما استطاع ويكون وعاء خير، كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وشرب الناس منها، وأكلت الدواب من الكلأ.
فهذا حال أعظم الناس انتفاعا، ينتفع بالعلم في نفسه، ثم يبلغه للغير، وهذا هو السنة في العلم: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122] هذا أول شيء، ثم بعد ذلك: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122] .
فأي شخص يجلس في مجلس علم، ويسمع فيه آية أو حديثا أو علما ينتفع به فعليه أن ينشره، ويبين للناس، وإذا نشرت العلم أسقطت عن نفسك مسئولية عظيمة، وإذا لم تنشره فإنه لا يزال أمانة في عنقك حتى تبلغه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) .
فمن جلس في مجالس العلماء وعرف الحكم أو المسائل أو الفتاوى، فعليه أن ينشره بين الناس إبراء وإعذارا إلى الله عز وجل، خاصة في المحرمات والمنكرات والحقوق والواجبات، فالأمر أشد والمسئولية أعظم.
فمثلا: جلست عند الشيخ، فبين لك أنه يجب فعل كذا، أو يحرم فعل كذا، فهذا واجب على المسلم أن يبلغه.
الصورة الثانية: إذا كان النقل للفتوى بالمعنى، كأن ينقل فتوى تشبه الفتوى التي قيلت للشيخ، أو لم ينقل الناقل حرفيا، ففي الحالة الأولى ينقل نقلا مجردا لا في مقابل فتوى، فيقول: سمعت الشيخ سئل عن مسألة كذا وكذا، فقال فيها كذا وكذا.
فهو لم يجب عن سؤال ولا يحكي الفتوى جوابا للسؤال، فهذا مرخص فيه كما ذكرنا، وهو من حمل العلم، وهو مستحب.
لكن أن يأخذ الإنسان فتوى في مسألة، ثم يسمع سائلا يسأل في مسألة، فيفهم بحسب فهمه وتقديره أن المسألة التي في الدرس هي المسألة التي تشبه المسألة التي أمامه والتي يسأل عنها، فهذا شدد فيه العلماء رحمهم الله.
فلابد أن يكون عالما بالمسألتين، هل هما في حكم المسألة الواحدة أم مختلفتان؟ فإن شك وجب عليه أن يسكت، ولا ينقل الفتوى حتى لا يخلط، يقول للسائل: اذهب إلى فلان واسأله.
فإن قال قائل: كيف يكتم العلم؟ قلنا: هذا ليس كتمانا للعلم، هذه مخاطرة؛ لأنه ربما كان المسئول عنه الآن غير المسئول الذي أجاب أو حصلت الفتوى عنه.
فلذلك لا يجوز في هذه الحالة أن ينقل الفتوى إلا إذا كان ضابطا للسؤالين، وبعض طلاب العلم من خلال التجربة والجلوس مع العلماء والمشايخ تصبح عنده ملكة ودرجة من الفهم والوعي، فيميز بين المسائل؛ لأن بعض طلاب العلم فتح الله عليه في الفهم والفقه، ومنهم من فتح الله عليه في فهم عبارات العلماء في المتون، لكن لا يعرف في الفتوى ولا يحسن نقلها ولا يحسن الإفتاء، ولو طلبت منه أن يدرس كتابا لأبدع وأجاد وفتح الله عليه في ذلك.
ومنهم العكس: لا يحسن شرح الكتب، ولا يحسن تحرير العبارات وبيان معانيها ودلالاتها، ولكنه ما إن يسمع سؤالا إلا وضبطه، ولا يسمع جوابا إلا حرره، فعنده ملكة في فهم الفتاوى.
وتجد بعضهم شغوفا بسماع الفتاوى، ثم يقرأ السؤال مرتين أو ثلاثا ويحدد عناصر السؤال، ثم يحدد عناصر الجواب، ويكثر من قراءة فتاوى المتقدمين؛ لأنهم يضبطون العبارات والفتاوى، فعندما تصبح عنده هذه الملكة التي يغلب معها في الظن السلامة، فيجوز له حينئذ إذا غلب على ظنه أن هذه المسألة هي المسألة التي سئل عنها، مثل لو أنه أيام طلبه سمع شيخه يسأل عن مسألة، ثم سئل عن مسألة مشابهة لها، وهو يعلم أن الجواب واحد، فإنه حينئذ ينقل جواب شيخه، سواء أسنده أو لم يسنده، لكنه عن علم ومعرفة، فهذا نقل للفتوى محرر، وقد وجدت عنده ملكة يفهم بها السؤال وموارد الفتوى، ويفهم الجواب والمقصود من الجواب، فحينئذ يغلب على الظن السلامة، فهذا يجوز فيه النقل.
أما المحفوظ عن العلماء رحمهم الله فهو التشديد في نقل الفتاوى، وعدم قراءتها على الناس، خاصة إذا كانت في المسائل الدقيقة، مثل مسائل البيوع أو المسائل التي فيها تفاصيل.
أما المسائل الظاهرة المحرمة التي نهى الله عنها ورسوله، وفيها فتاوى، مثل فتاوى تحريم المحرمات من الزنا والخمور ونحوها من المحرمات الظاهرة، فإن العبارات فيها واضحة، والمسائل المسئول عنها واضحة حتى لعوام الناس، فهذا لا بأس بحكايته ونشره، وهذا نشر للعلم، ويؤجر الإنسان على ذلك.
وهنا ننبه على أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على البركة في هذا العلم، فأعظم الناس بركة في العلم أعظمهم نفعا للمسلمين، وجمعا له وعملا به ودعوة إليه.
ومن هنا قال الله عن نبي من الأنبياء: {وجعلني مباركا أين ما كنت} [مريم:31] فما بورك النبي إلا بالنبوة، والنبوة فيها خير، كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص:29] فبركة العلم نشره، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ ما أوحي إليه، وأن يبلغ ما أنزل إليه.
وهذا كله يحتم على المسلم أن يحرص على نقل علم العلماء، ولا يشترط أن يكون في الأجوبة والفتاوى، فعلمهم لا يختص بذلك، وإنما يشمل جوانب عديدة، خاصة فيما تعظم الحاجة إليه، والله تعالى أعلم.
حكم الدعاء بغير العربية في السجود
السؤال هل يجوز أن يدعو المصلي بلغته في السجود إذا لم يعرف اللغة العربية؟
الجواب يجوز للساجد أن يدعو بلسانه وبالعربية، وذلك لأن النصوص عامة في مشروعية الدعاء، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) ولم يرد اشتراط أن يكون الدعاء عربيا، وإنما يكون اشتراط العربية في الأذكار الخاصة: كالتشهد، والتكبيرات والتسمية والتحميد، ونحوها مما يشترط فيه التعيين.
وأما بالنسبة للدعاء، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمصلي أن يدعو بلغته ولسانه، والله تعالى أعلم.
حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها
السؤال امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنبا فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟
الجواب هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعورا تاما كاملا، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياما تاما كاملا؟ لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان.
صومي وصلي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربك عليك، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن.
فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .
فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملا، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندما صادقا وأن تشتكي إلى ربها.
إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي) .
ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاما كاملا، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف:96] .
فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربك، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيرا، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة.
فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منك شيء من المعصية أحسنت الظن بالله مباشرة، وأقبلت على الله وصدقت مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} [الحجر:49] لكن: {وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر:50] .
لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: {يرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء:57] وهما جناحا السلامة للعبد.
لكن أن تكون سببا في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: {اقرأ وربك الأكرم} [العلق:3] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى.
فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25-10-2025, 04:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (530)

صـــــ(1) إلى صــ(17)

شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [2]

شرع الله تعالى حد الحرابة زجرا لمن تسول له نفسه قطع الطريق وترويع الآمنين، أو الاعتداء على حقوق الآخرين، والأصل في هذا الحد آيتا المائدة، ولكن العقوبة تختلف باختلاف الفعل الذي قام به المحاربون، وفق ما بينه الفقهاء وأهل العلم.
من شروط تطبيق حد قطع الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئا] .
تقدم بيان بعض الضوابط والمقدمات المتعلقة بحد الحرابة وقطع الطريق، وقد شرع المصنف رحمه الله في هذه العبارة في بيان العقوبة الشرعية المترتبة على جريمة قطع الطريق وإخافة السبيل.
فبين المصنف رحمه الله أنه إذا أقدم المحاربون وقطاع الطريق على القتل وأخذ المال؛ فإن العقوبة تجمع أمرين: الأمر الأول: أن يقتلوا.
الأمر الثاني: أن يصلبوا.

يستوي المنفذ والمخطط من المحاربين في استحقاق العقوبة
فأما بالنسبة للقتل، فبين المصنف رحمه الله يقتلوا سواء حصلت المكافأة بينهم وبين المقتول أو لم تحصل، وهذه العقوبة أشار إليها الله عز وجل بقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا} [المائدة:33] فجمع لهم بين القتل والصلب، وقد جاء في أثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، أن المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يقتلون ويصلبون، وظاهر قوله أنهم يقتلون يستوي فيه المباشر للقتل والمعين عليه.
وهذه المسألة لها صور عديدة، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن من أشهرها قضية الحماية، وهي أن يكون قطاع الطريق على مجموعتين: مجموعة تهدد بالسلاح، ومجموعة تباشر الجريمة، فالظاهر من الأصول الشرعية والمختار من أقوال العلماء رحمهم الله أنه إذا قتل واحد منهم فإنهم يستحقون القتل جميعا، ويستوي في ذلك المباشر للقتل أو المخطط له، أو المهدد للمقتول، أو من ربطه، أو عقره، أو أغلق عليه الباب، فكل هؤلاء يجمعون في حكم واحد؛ لأن الجريمة تمت بهذه الوسائل، فيستوي في ذلك المباشر والمتسبب والمعين بالرأي.
ومن هنا فإن في زماننا قد توجد بعض الوسائل التي تحتاج إلى تفكير وعمل وجهد يتوصل من خلالها إلى الجريمة، كما في بعض الأجهزة التي تحتاج إلى فك شفراتها السرية، أو بعض المخابئ أو بعض الأشياء التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة، فهذا الخبير لو أخذه المحاربون وتواطأ معهم على الجريمة أو أعانهم على فك هذه الأمور السرية أو الشفر، ففتح أسرارها وكشف لهم طريقة الدخول، وبين لهم كيفية حماية أنفسهم من الضرر، وكيف يستطيعون أن يصلوا إلى جريمتهم؛ فهو شريك لهم، بل هو رأس الداء والبلاء، فإذا دخلوا بواسطة هذا التخطيط وهذه المعونة فقتلوا ولو واحدا فقط، فإنهم يقتلون جميعا ويقتل هذا المدبر؛ لأنه لولا الله ثم تدبيره ومعونته على ذلك بالرأي الذي توصل من خلاله إلى الجريمة ما وقع شيء.
ومن هنا لا يشترط في الحكم بالقتل أن يكونوا مباشرين للقتل، بل يعطى الحكم للجميع، ووقوع القتل من البعض كوقوعه من الكل؛ لأن كل واحد منهم راض بالقتل، وكونه يشهر السلاح وغيره يباشر القتل يدل على أنه راض بهذا الفعل؛ لأن الإعانة بإشهار السلاح هي التي تعقر المقتول، وتمنعه من أخذ الحيلة وطلب الوسيلة للنجاة والفرار، فلذلك يستوي من يشارك بالعمل، ومن يشارك بالرأي، ومن يشارك بالحماية.
يقولون: إذا اشتركوا فقد يفعلون الجريمة كلهم، فأحدهم يقتل، والثاني يسرق، والثالث يضرب، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم الفاعل وهو القاتل فيقتلون جميعا.
ومن هنا لا يشترط في ثبوت القتل للجميع أن يباشر الجميع القتل، فالمعونة والحماية والتدبير والتخطيط والتهديد وإشهار السلاح، كل هؤلاء يعتبرون في حكم القاتل.
لا تشترط المكافأة لإقامة حد الحرابة
كذلك يستوي أن يكون قتلهم للمكافئ أو غير المكافئ، ومثل له المصنف رحمه الله بقتل الوالد لولده، فلو كان في المحاربين أب، واشترك مع غيره في قتل ولده، فحينئذ يستوي أن يكون مكافئا أو غير مكافئ؛ لأن الأصل أن الوالد لا يقتل بولده، وكذلك أيضا لو كان المقتول عبدا والقاتل حرا.
وفرق بعض العلماء في هذه المسألة، فجعل الحكم أخف إذا كان غير مكافئ، وجعله أشد إذا كان مكافئا، والأصل يقتضي التسوية.
وقوله: [ومن منهم قتل مكافئا أو غيره كالولد والعبد والذمي] أي: كالولد إذا قتله أبوه، والعبد إذا قتله الحر، والذمي إذا قتله المسلم، لأن قتل الذمي من أشد الجرائم والعياذ بالله، ومن تتبع السنة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد الوعيد الشديد على التعرض لمن له ذمة الله ورسوله، وأنه إذا دخل بلاد المسلمين في ذمة المسلم أو ذمة إمام المسلمين أو من يقوم مقامه، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخفر ذمة المسلمين، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة، كما قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) أي: أدنى شخص في المسلمين؛ فلو دخل الكافر في ذمته فكأنه دخل في ذمة المسلمين جميعا، وورد الوعيد الشديد من اشتداد غضب الله عز وجل على من خفر ذمة الله ورسوله والعياذ بالله.
فالشاهد من هذا أنه لو اعتدى على مال ذمي، فإن الذمي إذا دخل بلاد المسلمين وله ذمة المسلمين فدمه وماله وعرضه حرام، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وكما تقدم معنا في عقد الذمة، حيث بينا كيف كان حال السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم في الوفاء بالذمم، وما هو منهج الشريعة في مسألة إعطاء الكافر الذمة، فهذه الذمة لا تخفر، فلو أخفرت فإن هذا الذمي له حرمة، والاعتداء عليه قد يوجب أن يقتل المسلم به من باب الحرابة، لا من باب المكافأة.
أي أنه إذا قتل الحر العبد فلا نسوي بين الحر والعبد لأن الشريعة فرقت في ذلك، كما في أسلوب الحصر والقصر في القرآن في قوله تعالى: {الحر بالحر} [البقرة:178] أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، لكن هذا القتل ليس من باب المكافأة، وإنما هو من باب آخر، وهو أن قتل الذمي يعتبر حرابة للمسلمين، ومن حارب المسلمين فإنه يقتل، وهذا المعنى تسقط فيه المكافأة، بدليل أننا ذكرنا أن المقتول لو كان له أولياء، فقالوا: سامحنا وتنازلنا لوجب القتل، وهذا شبه إجماع بين السلف الصالح رحمهم الله؛ لأن القتل واجب لحق الله؛ لأن القضية قضية إشهار سلاح ومحاربة المسلمين، بغض النظر عن كونهم قتلوا مكافئا أو غير مكافئ، فهذا لا يلتفت إليه، فالقضية ليست قضية مساواة أو قصاص؛ لأن القصاص له ضوابطه وشروطه.
القضية هنا مبنية على محاربة جماعة المسلمين, ومن هنا ننظر إلى الأصل الذي قرره العلماء في الحرابة، وهو أن الحرابة لا تكون إلا إذا أشهروا السلاح على المسلمين، فبإشهار السلاح يكونون قد خرجوا على جماعة المسلمين، ومن هنا يستوي أن يقتلوا مكافئا أو غير مكافئ، فالعقوبة من باب آخر، وليست من باب المؤاخذة بالجريمة.
القتل والصلب إذا اعتدوا على المال وقتلوا النفس
ومن هنا نبين أن العقوبة بالقتل والصلب والقطع لا يشترط فيها بعض الشروط المشترطة في القتل، أو السرقة ونحو ذلك.
وقد بين المصنف رحمه الله أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالعقوبة أن يقتلوا ويصلبوا، والقتل في أصح القولين أن تضرب أعناق المحاربين، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلب يكون قبل القتل، بأن يصلبوا ثم يطعنوا بالحربة وهم مصلوبون، والصحيح أن يقتلوا ثم يصلبوا، وأن القتل بعد الصلب فيه مثلة وتعذيب.
فأما صلبهم فبأن يربط المقتول على خشبة يقال لها: صلب، لأنها على شكل علامة الصليب توضع من وراء يديه، وهذه الخشبة المعترضة تربط فيها يداه، وأما القائمة فيربط فيها جسده على وجه لا تسقط به، ثم ترفع الخشبة بعد ربطه وإحكامه عليها، وتوضع في مكان وتثبت، فيصلب بعد قتله.
وقد اختار بعض السلف أنه يصلب ثم يقتل، وراعوا في ذلك السنة، وهي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة) ، وقد قال في الحديث الصحيح: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) فهذا أصل في الشريعة؛ ولأن القصاص يكون ضربة بالسيف وهذا أرفق، فبذلك يعتبر هذا هو الأصل.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يصلب ثم يقتل، وقد استدل الذين قالوا: إنه يصلب ثم يقتل، فقالوا: إن الصلب عقوبة، والعقوبة تكون للحي لا للميت، ومن هنا نصلبه حيا ثم نقتله بعد الصلب، فلا بد أن يمس جسده الصلب، ثم بعد ذلك يقتل، أما إذا قتل ثم صلب فالصلب لا معنى له.
وهذا ضعيف؛ لأن الصلب قد يكون فيه تعذيب لنفس المصلوب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا) أي في الإثم، وبين أن الميت يتأذى، وأثبت هذا حتى في قبره، ولذلك لا يمنع أنه إذا صلب يعذب، وأن هذا لا نعرفه نحن ولا نطلع عليه، فأمور الآخرة غيبية.
ثانيا: أن الصلب لا يمنع أن الشريعة أرادت القتل لأنه قتل، وأرادت الصلب زجرا لغيره، ومن هنا فقولهم: إن الصلب لا معنى له بعد القتل ليس صحيحا؛ لأن الحرابة فيها معنيان كسائر الحدود: أنها تعاقب الشخص وتطهره من إثمه وجرمه، وكذلك أيضا تزجر غيره، ولذلك قال الله تعالى في الحدود الشرعية وفي العقوبات: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، وقال سبحانه وتعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] وكل هذا من أجل زجر المجتمع.
ومن هنا فقولهم: إنه لا بد أن يكون الصلب عقوبة للمصلوب ليس بوارد من كل وجه، وعليه فالصحيح أنه يقتل ثم يصلب.
وهذا الصلب حكمه في الشرع واجب، بمعنى أنه متصل بالعقوبة، وأنه يجب على السلطان والقاضي إذا نفذ حد الحرابة بالمحاربين وتم الشرط المعتبر للجمع بين العقوبتين أنه يقتلهم ثم يصلبهم، فهو واجب، وهو حق من حقوق الله عز وجل؛ لنص الآية الكريمة عليه.
مدة صلب المحاربين
وقد اختلف العلماء في الصلب على وجهين: الوجه الأول: أنه غير محدد ولا مقدر.
الوجه الثاني: أنه محدد مقدر.
فالذين قالوا: إنه غير محدد، قالوا: يصلب حتى يشتهر أمره، وحينئذ لا يحدون بالزمان ولا بالصفة بأن يتغير أو يخشى تغيره أو نحو ذلك، بل يقولون: يجعل مصلوبا في داخل المدينة، وإذا كان الصلب في مكان الجريمة أبلغ في زجر الناس وتخويفهم، فيوضع في نفس مكان الجريمة، فالذي يراه القاضي أو الإمام أصلح وأمكن في زجر الناس وتخويفهم من حدود الله عز وجل والوقوع في محارمه فليفعله، فقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: يصلب حتى يشتهر أمره، ولم يحد في ذلك حدا، وهو قول بعض السلف.
وقال بعض العلماء: يصلب ثلاثة أيام، كما اختاره الشافعي وطائفة من السلف رحمهم الله.
والذين قالوا: حتى يشتهر أمره؛ قد يحصل اشتهار الأمر بنصف النهار، بأن يجتمع الناس كما في القرى الصغيرة وفي الأماكن المحدودة ويطلعوا على عقوبته ويتعظوا ويعتبروا ويتسامع الناس بذلك ويروه، فحينئذ إذا رأى ذلك كافيا أنزله وأعطي لأهله لكي يغسلوه ويكفنوه ويصلى عليه، فالمحارب المسلم لا زال له حق الإسلام، فبعد قتله وصلبه يعطى لأهله فيقومون بحقه من تغسيل وتكفين وصلاة عليه.
والذين قالوا: إنه يصلب ثلاثة أيام: أجيب عنهم ورد قولهم بأن هذا التوقيت ينبغي أن يكون فيه نص من الشرع يدل عليه، وليس هناك دليل على أن الصلب لابد وأن يكون ثلاثة أيام، والأزمنة تختلف، ولذلك قد يصلب لمدة يومين وينتن، ويؤذي الناس برائحته، فيكون فيه أذية للأحياء، مع أن المقصود قد يتحقق بأقل من ثلاثة أيام.
ومن هنا فإن التوقيت بثلاثة أيام ضعيف، والصحيح ما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله أن الصلب يكون حتى يشتهر أمره على الوجه الذي يردع الناس ويزجرهم، وهذا هو المقصود الشرعي من هذه العقوبة.
لا يشترط في الحرابة لتطبيق العقوبة بلوغ المال نصاب السرقة
بين المصنف رحمه الله أن من قتل وأخذ المال قد اختلف العلماء فيه على قولين: فمنهم من قال: يشترط أن يبلغ المال حد النصاب، وقد تقدم معنا بيان حد النصاب، والدليل الشرعي على تحديده وخلاف العلماء رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن هذا المال الذي يأخذه المحارب ويستوجب قتله أو قطع يده ورجله من خلاف -كما سيأتي- لا يشترط فيه أن يكون قد بلغ حد النصاب في السرقة، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى حد للسرقة نصابا، وفي الحرابة لم يثبت في الكتاب ولا السنة تحديد للقطع فيها بالنصاب.
فلو قال قائل: إننا نلحق هذا بهذا.
قلنا: لا يصح ذلك، فإننا وجدنا أن عقوبة الحرابة جمعت بين قطعين: قطع اليد والرجل من خلاف، وهذا لا يكون في السرقة إلا بجريمة مكررة -أي: مرتين- فدل على أن مقصود الشرع تعظيم الجناية، وحينئذ فكوننا نقيسها على السرقة ليس بوارد؛ لأنها جاءت فيها عقوبة السرقة مضاعفة مرتين، فإذا قالوا بالنصاب فيلزمهم أن يقولوا: يكون النصاب مضاعفا؛ لأنه قطع لليد والرجل من خلاف، ومن المعلوم أن السارق تقطع يده، فقطع العضوين لا يكون إلا مكررا إلا على القول الذي تقدم أن بعض العلماء يختارون أن السارق إذا تكررت سرقته بد قطع يده أنها تقطع رجله.
والشاهد من هذا أن القول بالتوقيت ضعيف، والصحيح أنه لا يحد في قطعه، وبناء عليه فلو هجمت عصابة مسلحة على محل تجاري في الاستراحات أو في البراري على القول بأن الحرابة تكون خارج المدن، أو هجموا داخل المدن عيانا أمام الناس فأشهروا السلاح، وجاء واحد منهم وأخذ من الصندوق أو أخذ من الرفوف شيئا لا يساوي النصاب، حتى لو أخذ علبة عصير لا تعادل النصاب وشربه واستباحه أو أخذه معه، فإنه في هذه الحالة يكون قد تحقق المقصود من الاعتداء على المال، وهذا من أبلغ ما يكون، أي أنه إذا نظر إلى حد الحرابة وجد أن قضية التهديد بالسلاح مؤثرة جدا في إثبات جريمة الحرابة، حتى يوصف بكونهم قد حاربوا الله ورسوله.
ومن هنا نجد طائفة من العلماء اشترطوا أن يكون من المحاربين إشهار للسلاح، فمحور الجريمة يعود على الخروج والعصيان الظاهر، وحينئذ يستوي أن يكون ما أخذوا من المال يساوي النصاب أو لا يساويه، لأننا ما جئنا هنا لنطبق حد السرقة حتى نشترط ما يشترط في السرقة، ولذلك لم نشترط الحرز، فلماذا أسقطنا شرط الحرز؟ ومن المعلوم أن السرقة تكون خفية والحرابة تكون علانية، فتبين أن هذه جريمة وتلك جريمة أخرى مختلفة عنها.
وبما أن جريمة الحرابة علانية فإن فيها تحديا عظيما للمسلمين بخلاف جريمة السرقة فهي خفية، وفيها استتار ونوع من الرعاية للحرمة والخوف والهيبة، لكن أن تكون عيانا بيانا تحت وطأة السلاح أمام الناس فإن هذا شيء آخر، والحرمة فيها أشد، فينبغي أن تكون العقوبة أبلغ، ومن هنا لا يشترط أن يكون المال الذي يأخذونه قد بلغ النصاب، وأن العبرة في اعتدائهم على المال.
إذا ثبت هذا فحينئذ يستوي أن يأخذوا أو يتلفوا، فالعصابات المسلحة لو أنها دخلت بيوت الناس فأتلفت شيئا من المال أثناء دخولهم كأن كسروا مثلا زجاجات المحلات، وقتلوا ولو شخصا واحدا، ثبت القتل وثبت الاعتداء على المال، وحينئذ يقتلون ويصلبون.
اشتراط قصد المال للجمع بين القتل والصلب في حد الحرابة عند بعض العلماء
أعلى ما يكون في حد الحرابة أن يجمع بين القتل والتصليب وبعض العلماء فرقوا فقالوا: لا يجمع بين القتل والصلب إلا إذا اجتمع الاعتداء على النفس والاعتداء على المال، ثم فصلوا في الاعتداء على المال، فقالوا: لا نأمر بصلبهم بعد القتل بناء على اعتدائهم على المال إلا إذا كان السبب الباعث لهجومهم واعتدائهم إرادة وطلب المال، وعلى هذا القول يفرق بين القتل من أجل أخذ المال، وبين القتل دون قصد أخذ المال.
ففي الصور التي يجمع فيها بين العقوبتين: أن يأتي إلى محل تجاري أو إلى بنك ويهجم عليه فيقتل الحارس أو يقتل أي شخص ممن هم موجودون ثم يأخذ المال، فحينئذ يتبين أن الجريمة من أجل أخذ المال، وأنهم قتلوا من أجل الوصول إلى المال، وفي هذا الوجه يجتمع العلماء على أنه يقتل ويصلب.
الصورة الثانية: وهي محل الخلاف، وذلك أن يكون مقصودهم القتل، مثل أن يقع بين العصابة وبين شخص آخر عداوة ويريدون قتله، فيأتون إليه في منزله أو في عمله ويدخلون تحت وطأة السلاح فيقتلونه ثم يأخذون ماله، ففي هذه الحالة لم يكن أخذ المال مقصودا، وإنما جاء تبعا لجريمة القتل، وعلى القول الذي يشترط أن يكون القتل من أجل أخذ المال، يقولون: لا يصلبون، وإنما يقتلون.
والصحيح أننا نقول: إنه يجب صلبهم سواء قتلوا من أجل أخذ المال، أو قتلوا بدون قصد وأخذوا المال ولم يكن قصدهم من القتل أخذ المال وإنما إرعاب الناس، أو العداوة أو الأذية ونحو ذلك.
وقوله: [وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] القتل وأخذ المال جريمتان، ويستوي أن تكون من الجميع أو من البعض.
فمن الجميع مثلا: ثلاثة أشخاص تعرضوا بسلاحهم لرجل ومعه زوجته وأخته، وكل واحد منهم قتل واحدا وأخذ المال الذي معه، حينئذ كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل وآخذ للمال، ولا إشكال في هذه الصورة أن القتل يكون من الجميع وأخذ المال من الجميع.
أما من البعض: فمثلا: جاءت عصابة أو جاء قطاع طريق وهجموا على قرية أو مدينة، فدخلوا محلا تجاريا، فأشهر أحدهم السلاح على من بداخل المحل، وقام الآخر بطعن شخص تعرض له، فقتله، وقام الثالث بجمع الأموال الموجودة في الخزنة.
إذا: أحدهم هدد وهو الذي رفع السلاح، والثاني باشر جريمة القتل، والثالث باشر جريمة السرقة، وفي هذه الحالة قلنا: لا يشترط، وهناك تفصيل عند بعض العلماء، ولكن الصحيح هو مذهب الجمهور أنه لا يشترط أن يكون الجميع قتلة، ولا يشترط أن يكون الجميع أخذوا المال، ولا يشترط أن يكون الجميع هم الذين يمارسون العمل، فالكل حكمهم واحد: أن يقتلوا ويصلبوا، هذا الذي نختاره، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى.
حكم المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال
وقوله: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب] هذه الدرجة الثانية من العقوبة، وهي القتل دون الصلب، وفيها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) ففرق بين أن يكونوا قد اعتدوا على المال مع القتل، وبين كونهم قتلوا فقط، ومن هنا اختار الإمام أحمد وأصحابه وهو مذهب بعض العلماء أيضا، أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أنهم يقتلون ولا يصلبون، وهذه الصورة كثيرا ما تقع في حالات البغي والاستكبار، وهي العصابات التي تريد إثبات عدوانها على المجتمع بتخويف المجتمع وإرهابه، وليس لها مطمع بالمال أكثر، وإنما تريد زعزعة أمن الناس، وإقلاقهم وإشعارهم بأنهم أهل قوة وشوكة وغلبة، ويقع هذا من العصابات في العمران والصحاري.
فالعصابة حينما تقدم على القتل المجرد دون أخذ للمال فهذا غالبا ما يكون من أشد الأذية والإضرار بالناس، لأنهم يريدون إرعاب الناس، ومن هنا قال العلماء: إن من تأمل حد الحرابة وجد أنه يضر الناس في أعظم مصالحهم بعد الدين، وهو عصب حياتهم وهي التجارة، لأن هذا النوع من الجرائم كان مؤثرا تأثيرا شديدا في أمن السبل، وأمن السبل لا يراد فيه غالبا إلا انتقال الناس؛ لأن السفر أكثر ما يقع للتجارة، وابتغاء فضل الله عز وجل، ومن هنا قال بعض الأئمة: إن الله عز وجل رحم عباده بالتجارة، وبين أن التجارة ابتغاء لفضل الله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل:20] ، وقال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10] ، وقال: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15] فجعل المال من رزقه وعطائه لعباده وخلقه، فإذا وقعت الحرابة قطعت سبل الناس، وحينئذ تجد بعض القرى قد يموت فيها الناس ويهلكون، ولا يستطيعون أن يتوصلوا إلى طعام، ولا دواء ولا كساء؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يخاطر بنفسه ولا بروحه.
وهذه هي الميزة التي ينبغي لكل من يدرس الفقه الإسلامي خاصة فقه الجنايات أن لا ينظر إلى العقوبة مجردة، وإنما ينظر إلى الجريمة التي شرعت من أجلها العقوبة بجميع صورها، وينظر إلى آثارها، فأكثر ما تأتي العقوبة مراعية للأثر المترتب على الجريمة، حتى إنك لو تأملت شيئا قليلا في السرقة فقط، لو تأمل الإنسان العقوبة مجردة عن أسبابها قد يزيغ رأيه والعياذ بالله، ويعزب رشده، كيف تقطع اليد من أجل مبلغ من المال والنفس والروح أعظم، وكيف يقتلون هنا ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، من أجل مال يسير، خاصة إذا كان دون النصاب.
لكن إذا نظرت إلى أن الشخص الواحد الذي يحمل سلاحه في العراء وفي الصحراء يهدد أمة، لا قافلة أو شخصا أو شخصين.
وأيضا: فإنه يعين غيره أن يسلك مسلكه، فلو سكت عنه الناس وسكتت عنه الشريعة ولم تعاقبه، لفتحت باب الإجرام والمجرمين، فينظر الإنسان للآثار، ولذلك فإن الذين يشهرون بالإسلام ويرفعون عقيرتهم بأذية المسلمين في باب الحدود والجنايات كلهم لا يعقلون؛ لأن الذي عنده عقل ينظر إلى الجريمة من جميع الجوانب، وهؤلاء ينظرون يقولون: كيف يقتل وكيف يصلب! هذا شيء بشع، أن يؤتى بالشخص ويعلق مصلوبا أمام الناس، فينظرون إلى الجاني ويرحمونه، ولا ينظرون إلى الأمم التي تخوف في أموالها ودمائها وأعراضها ومصالحها، وكيف يضرب في عصب الحياة، ليس على سبيل القرية أو المدينة، بل قد يكون ذلك على سبيل الأمصار والأقطار، ومن هنا ففي العقوبة التي وردت في الشريعة في حد الحرابة ينبغي أن ننظر إلى الآثار المترتبة على الجريمة كاملة، ولا ننظر إلى مجرد شخص يأتي ويعتدي فقط، أو: هل المال بلغ النصاب أو لم يبلغ النصاب؟ أو كيف نعاقب بهذه العقوبة الشديدة على شيء تافه؟ فلو أنه أخذ مالا يسيرا أو كسر زجاجا فإننا نعتبره معتديا على المال ونستبيح قطع يده ورجله من خلاف.
وعلى هذا فإننا نقول: إن من اعتدى على الأنفس ولم يعتد على المال فإنه يقتل ولا يصلب، وهذا هو الذي يدل عليه أثر حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 25-10-2025, 04:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




جناية المحاربين على أطراف بدن الإنسان
وقوله: [وإن جنوا بما يوجب قودا في الطرف تحتم استيفاؤه] الجناية على الأطراف تقدم تفصيلها وضوابطها في الشريعة، ومتى يحكم بالقصاص ومتى لا يحكم بالقصاص، والجناية على الطرف بأن قطعوا يد شخص، أو ضربوه حتى أصابها الشلل، أو فقئوا عين شخص، أو قطعوا لسانه، أو قطعوا أصابعه، كل هذه الجنايات على الأطراف فيها القصاص بالضوابط التي تقدمت في باب القصاص.
والمصنف رحمه الله يختار هنا القول بالتفريق بين حق الله وحق المخلوق، وأن الجناية لو وقعت منهم على أطراف الناس وأعضائهم بما يوجب قودا.
قال: تحتم استيفاؤه.
ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن القتل يأتي على جميع ذلك، وأنه لا يقتص في الأطراف، وأنه يحكم بحد الحرابة وخاصة على القول الذي يقول: إن الأمر إلى الإمام، فإذا كان الإمام رأى أن المصلحة بالقتل قتلهم ولو لم يقتلوا، وهذا القول الثاني الذي اختاره بعض أهل العلم رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط في حكم القاضي بالقتل أن يكونوا قد قتلوا.
وعلى هذا القول لو جنوا على الأطراف ولم يقتلوا ورأى الإمام المصلحة في قتلهم قتلهم، وهذا موجود في مذهب المالكية والظاهرية وبعض أئمة السلف، وقالوا: الإمام هو المخير، والقاضي هو الذي له النظر، فلو جاءوا ودخلوا بالسلاح على بيت رجل وهددوه، ثم قاموا فقطعوا رجل شخص، وآخر قطع يد ابنته، والثالث اعتدى على عين ففقأها، فإذا استبشع هذا القاضي، وقال: لا أريد القصاص إنما أريد قتل هؤلاء؛ لأن هذه الجريمة بهذا الشكل أرى أنه لا يردع الناس فيها إلا القتل، فقضى القاضي بالقتل، فالصحيح أن له ذلك، وأنه لا يتعين القتل بحالة قتلهم.
وفي هذه الحالة إذا قلنا: إن له ذلك فإن القتل يأتي على جميع جناياتهم على الأطراف ونحوها، وأما إذا قلنا: إنه ليس من حقه أن يقتل إلا إذا قتلوا كما يختاره المصنف رحمه الله وهو مشهور في المذهب، فحينئذ ينظر فإذا جنوا على الأطراف بما يوجب قصاصا تحتم استيفاؤه، فلو عفا صاحب الجناية فإنه لا يلتفت إلى عفوه، بل يؤاخذهم القاضي أو الإمام بجريرتهم، سواء عفا صاحب الحق أو لم يعف، فالأمر سيان، فيقطع ما قطعوا من الأطراف.
وإذا قلنا بذلك فلو أن شخصا من مائة شخص من المحاربين اعتدى على طرف إنسان فإنها تقطع أطراف الجميع؛ لأنهم يرون أنهم في حكم الشخص الواحد كما تقدم في القتل.
حكم المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل
وقوله: [وإن أخذ كل واحد من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا، قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ثم خلي] هذه المرتبة الثالثة في العقوبة، أنهم لو اعتدوا على المال ولم يقتلوا وكان اعتداؤهم على المال ما يعادل نصاب السرقة فأكثر، فحينئذ تقطع يد المحارب ورجله من خلاف، وهذا صريح آية المائدة.
وإذا قطعت يده ورجله من خلاف فإن القطع للموضعين يكون في ساعة واحدة، ولا يؤخر قطع الرجل عن قطع اليد، وتقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر القرآن: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} [المائدة:33] .
فتقطع يده اليمنى بناء على أنهم يرون أنه سرق، واشترطوا أن يكون قد أخذ ما يعادل نصاب السرقة، والتي تخالف اليد اليمنى هي الرجل اليسرى، ومن هنا تقطع اليد مع الرجل من المفصل في اليد والرجل وتحسم بالزيت المغلي بالنار، لأجل قطع النزيف، وقد تقدم معنا الحسم في حد السرقة.
وبناء على هذا لا يرى المصنف رحمه الله أنهم إذا اعتدوا على الأموال أن يقتلوا، وهذا هو القول الذي اختاره الحنفية رحمهم الله فهم يوافقون الحنابلة في أنه إذا اعتدى المحاربون على الأموال فيشترط أن تكون الأموال قد بلغت نصاب السرقة، ويشترطون حرمة المال، إلى غير ذلك مما يشترط في اعتبار المال المسروق، فإذا اختل الشرط لم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وعند غير الحنابلة حتى عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله اختار أنه لا يشترط النصاب، والدليل على ذلك: أولا: أن الآية الكريمة لم تنص على اشتراط النصاب ولم يأت في السنة ما يدل على اشتراط النصاب.
وثانيا: أن القطع في الحرابة غير القطع في السرقة، فالقطع في الحرابة جاء بطريقة مخالفة للسرقة من جهة الزيادة؛ إذ لم يتقيد بقطع السرقة الذي هو قطع اليد، ومن هنا لا نشترط فيها ما يشترط في السرقة؛ بل نقول: إن للشرع مقصودا في هذا، ونزيد على ذلك أنه لو رأى الإمام أن من المصلحة قتلهم بالاعتداء على الأموال قتلهم بذلك.
مثال ذلك: لو أن عصابة من قطاع الطريق هجموا على محلات تجارية فأتلفوا وأفسدوا ما فيها، ولم يأخذوا معهم شيئا يعادل نصاب السرقة، فإنا نقول بتعزيزهم لأجل السلاح حين أشهروه، وإن كانوا في السبل أخافوا السبيل، وخرجوا على جماعة المسلمين بهذا السلاح، وجاءوا علانية وجهرة لا خفية كطريق السرقة، فإذا قلنا باشتراط النصاب حينئذ لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
ولكن إذا لم نشترط النصاب ونظرنا إلى الأصل الذي ذكرناه أن الحرابة فيها خروج وتمرد وتحد للمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حينئذ لا نشترط أن يكون الذين اعتدوا عليه من المال قد بلغ نصاب السرقة، ولا نشترط أيضا أخذهم لهذا المال، وبناء على ما قرره المصنف يشترط فيه الأخذ، ولكن على ما نختاره لو أنهم لم يأخذوا بل أتلفوا، وأكثر ما يفعله أهل الفساد والطيش أنهم يتلفون أموال الناس ويعتدون عليها، فيأتون إلى المحلات التجارية وهي أسواق المسلمين فيها أرزاقهم ومصالحهم، ومملوكة لمسلم له حرمة، وله ذمة الإسلام، ثم يأتي عيانا بيانا ويشهر السلاح، ثم يتلف هذا المال أمام الناس من غير أن يأكله أو يشربه وإنما يفتح العلب ويهريقها على الأرض، ثم يتلف الأشياء الموجودة من الأطعمة، فمثل هؤلاء لا يردعهم أن يقال بتعزيرهم.
قد يرى الإمام أن هذه عصابات قد تستشري، هذا يعلم هذا، وهذا يجر هذا، ولا يقطع دابرها بشيء مثل أن ينظر للأصلح والأوفق للمجتمع، فإن رأى أنه اعتداء معتبر على المال نظر هل يكفي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن ذلك يردع الناس، ووجد له أثرا فيكتفي به، لكن إذا وجد أنهم متمردون عصاة، وأنهم يجرئون غيرهم، وأنها لا تنحسم مادة شرهم إلا باستئصالهم من المجتمع، فإذا: لا يتقيد الأمر بالنصاب ولا بالأخذ، لأن الإتلاف اعتداء، بل إن الإتلاف أسوأ من الأخذ؛ لأن الذي يأخذ الطعام يأكله ويرتفق به فهو يراعي حرمة الطعام؛ لأنه يريده لنفسه ويرتفق به حتى لو أخذه وباعه، لكن أن يأخذ المال، أو الطعام الذي جعله الله عز وجل طعمة لخلقه فيرمي به في الأرض، ويتلفه دون أن ينتفع به الإنسان، فهذا من أبلغ ما يكون جناية وجرما.
وفي حكم هذا لو أنهم أخذوا السفينة ونهبوا ما فيها صدق عليها أنهم أخذوا، وانطبق الشرط الذي ذكره المصنف، لكن لو أنهم أغرقوا السفينة بما فيها من طعام وأرزاق، ولم يأخذوا شيئا فهذا يكون له حكم الحرابة، ويوجب الحد الذي ذكرناه، وجعل الأمر والنظر للإمام أبلغ، وهو إن شاء الله أقرب إلى الصواب؛ لأن مقصود الشرع حسم مادة الشر، وإيقاف البلاء عن المجتمع، وعدم فتح باب الفتنة على المسلمين بالجرأة على دمائهم وأموالهم ونحو ذلك.
وقوله: [قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى] : هذا هو القطع يكون من خلاف، وبعض العلماء يفصل بين أن تكون يده هي التي يعمل بها، فمثلا: لو أن أكثر عمله ومصالحه باليسرى قطعت اليسرى مع الرجل اليمنى؛ لكن المحفوظ عن الجماهير أنها تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى.
وقوله: [في مقام واحد] وهذا من أبلغ ما يكون عقوبة وزجرا، ولو أن قاطع طريق قطعت يده ورجله بحكم الله، لكان ذلك من أبلغ ما يكون في ردعه وردع غيره أن يسلك سبيله، فلن تسول له نفسه يوما من الأيام أن يخرج على المسلمين ويشهر سلاحه من أجل أن يعتدي على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، إذ كلما حدثته نفسه رفع كفه التي قطعت، وجاء يقف من أجل أن يذهب أو يروح وإذا برجله المقطوعة تذكره، ما الذي سيكون له؟ وما الذي سيجنيه من فعله وتمرده على المسلمين في مصالحهم ومرافقهم {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه:54] فهي آيات بينات {ومن أحسن من الله حكما} [المائدة:50] أي: لا أحد أحسن من الله حكما ولا أتم شرعا {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] .
حكم استخدام التخدير عند تطبيق الحدود
وقوله: [وحسمتا] : لأن النزيف قد يهلكه، فتحسم بالزيت حتى تنسد أفواه العروق، لأنها لو تركت من دون حسم فإنه سينزف، وإذا نزف فإنه يموت، وهكذا الرجل تحسم حتى لا ينزف، وفي زماننا يمكن إيقاف النزيف بالطرق الطبية المعروفة، فلا بأس أن توقف، ولكن لا تخدر يده أو رجله، وإنما يذوق ألمها كما آلم المسلمين جماعة وأفرادا، فيتألم ويذوق الألم، ولا يجوز شرعا أن يخدر؛ لأن هذا لا يجعله يحس بشيء، ولا يجد مرارة الذنب وأثر الجريمة كما ينبغي، لكن إذا قطعت يده وهو تحت وطأة الألم، فصاح وتأوه وتضرر وتألم، حتى أبلغ صياحه الناس، وسمعه الخلق وتأثروا؛ وقع المقصود شرعا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه العقوبة دون وجود معالم رفق؛ لأن الله يقول في الحدود: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] فليس هناك رأفة بمن يستحقها، وهذا من عدل الله الذي قامت عليه السماوات والأرض، والرحمة توضع في موضعها، لكن هناك من يرحمون القاتل الجاني! ويقولون: كيف تقتلونه؟ وهم دعاة الحقوق، يقولون: كيف ييتم أطفاله، وكيف ترمل نساؤه؟ وذلك لأن عقولهم قاصرة، ونظرتهم عمياء، ألا شاهت وجوههم، ينظرون إلى القاتل أنه سييتم أطفاله، وترمل نساؤه، ولا ينظرون إلى من قتل وأزهقت روحه بالباطل، أف لهم وما يدعون، وهذا من الباطل، والمبطلون دائما نظرتهم قاصرة، ومعارفهم محدودة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الحكيم العليم، وهؤلاء لا حكمة عندهم ولا علم، لأن من يقف في وجه شرع الله عز وجل فقد سلب البصيرة والعياذ بالله، وانطمس نورها من قلبه، وذهب فرقان الحق ونوره من صدره، فأصبح كما قال الله تعالى: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} [الأنعام:71] فلا يدري ولا يعي ما يقول.
فهؤلاء الذين ينظرون إلى الجاني دون المجني عليه لا شك أن نظرتهم قاصرة، فنحن نقول: إنها لا تخدر اليد، ولا يرأف به ولا يشفق عليه ولا يرحم، وإنما يعاقب بعقوبة الله، ويذوق ألمها ويحس بهذا الألم وبمرارته، بغض النظر عن كونه قطعا أو غير قطع، قطعا في الحرابة أو قطعا في السرقة.
وقوله: [ثم خلي] أي: يترك، ولا يوجد عقوبة زائدة، فإذا قيل: تقطع يده ورجله من خلاف فهذا حد الله، ولا يزاد على حدود الله المقدرة.
تطبيق حد الحرابة على استباحة الأعراض
من أهل العلم من أدخل في الحرابة الاعتداء على الأعراض، فإن الاعتداء على العرض أعظم من الاعتداء على المال، وقد يتمنى الإنسان أن يقتل دون عرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الدم والعرض، فقال: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) فالاعتداء على العرض يقع في الجرائم والعصابات المنظمة التي تختطف النساء، أو تستدرج الأطفال والقاصرين، أو تستدرج بفعل الفواحش تحت وطأة السلاح، فهذا من الاعتداء على العرض.
ولذلك فالنظر في الحرابة بنظرة شمولية لا يتوقف عند مسألة الاعتداء على المال وعلى النفس فقط؛ بل ننظر إلى مقاصد الشريعة كما يقول الإمام ابن القيم، وذلك هو شرع الله.
ومن نظر النظرة العامة الشاملة فإنه نظر النظرة التي ترضي الله عز وجل، لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة:3] .
فالعقوبات ينبغي أن تكون مستوفية لجميع ما يقع من الجرائم، فلقائل أن يقول: ما ورد إلا القتل وقطع اليد والرجل من خلاف والنفي.
ونقول: إن الشريعة قد تنبه بالأدنى على الأعلى، فنبهت بالقتل على غاية ما يقع من الاعتداء، ونبهت بالاعتداء على المال، وهناك وسط بينهما وهو العرض، فله نفس الحكم وهذا له نظائر في الشريعة، ومن هنا لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض في الجرائم المنظمة، والعصابات التي تتخصص بإشهار السلاح في الاعتداء على الأعراض داخل المدن، أو الاعتداء على العرض خارج المدن، أو الاعتداء على العرض داخل المدن استدراجا إلى خارج المدن تحت وطأة السلاح، فهي محاربة، وحكمها حكم الحرابة.
وقد بينا أن الصحيح أن القاضي له الحق أن يعاقب بالقتل إذا رأى أن حسم مادة الشر تكون بذلك، ومن هنا لو أن عصابة مرت عليها سيارة داخل المدينة، فأوقفت السيارة وأخرجت منها امرأة واختطفت هذه المرأة، فالاختطاف في داخل المدينة للنساء يكون من البيوت من السيارات من المجامع العامة من مجامع النساء كله يعتبر حرابة، وهو أشد وأعظم من أن يعتدى على المال.
أين العرض من المال؟ وأي شيء أشد شناعة وفظاعة من يؤتي إلى حرمات المسلمين التي يتمنى الإنسان أن يسيل دمه ولا يرى عرضه ينتهك، ولذلك فالاعتداء على العرض يدخل في الحرابة إذا كان داخل المدن، سواء كان بالقتل لفعل الفاحشة، أو التهديد بالقتل لفعل الفاحشة، أو الإخافة، وقد تجد مجموعة يأتون إلى مجامع النساء ويشهرون السلاح ويحدثون الرعب بين النساء، أو بين من يقوم على مصالحهن ومرافقهن كمساكن النساء، كل هذا إذا تكرر ينظر فيه وتدرس كل قضية على حدة، وينبغي أن ينظر القاضي إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وينظر الإمام إلى ما يقطع دابر أمثال هؤلاء عن المسلمين.
وإذا نظرنا إلى حكمة الله وسنن الله عز وجل وجدنا أن نقم الله عز وجل في العرض أعظم من نقمه في الأموال، فقل أن يتعرض أحد لأعراض المسلمين إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر إذا لم يتب ويرجع عن ذلك.
والشهوة قد تعمي الإنسان وتصمه، سواء كان الاعتداء بالحرابة أو غير الحرابة، فلن تجد أحدا يستبيح أن يستغوي المرأة أو يغازلها أو يستدرجها للفحش والفساد، ويزين ويحبب إليها ذلك وهي ضعيفة، ويغريها من أجل فعل الفاحشة، إلا وجدت مكر الله عز وجل به عاجلا أو آجلا، أو هما معا والعياذ بالله.
ومن هنا نجد أن من سنن الله عز وجل تعظيم أمر العرض؛ لأنه ليس لقمة سائغة يلوكها من شاء، بل يغص بها الإنسان، ولن يموت حتى يرى ما يسوؤه كما أساء إلى أعراض المسلمين، إن أساء إليهم في الغيبة سلط الله عليه ما يسوؤه في غيبته، وإن أساء إليهم في المشهد لن يموت ولن يخرج من الدنيا حتى يريه الله بأم عينيه ما يقرح قلبه ويبكي عينه كما قرح قلوب المسلمين وأبكى عيونهم.
وأيضا نعرف أن من مقاصد الشريعة تعظيم أمر العرض، ولذلك لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض، خاصة أننا في هذا الزمان حيث تساهل الناس -إلا من رحم الله- في هذا الأمر حتى أصبح بعض الفحش والفساد عند الناس شيئا مألوفا، فيأتي الرجل ويعتدي على العرض فيكلم المرأة الأجنبية أو يغازلها أو يؤذي سائقها ونحو ذلك عيانا بيانا أمام الناس، بلا حياء من الله ولا حياء من خلقه {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] .
فكم من عين امتدت إلى أعراض المسلمين ينتظرها العمى في لقاء الله عز وجل، وكم من عين تمتعت بأعراض المسلمين سيذيقها الله عز وجل عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ومن تاب تاب الله عليه.
وكل شخص ينبغي أن يضع نصب عينيه أن أمر العرض ليس هينا، ومقاصد الشريعة عند دراسة الاعتداء على العرض لا يمكن أن تغفل ذلك، وعليه فإننا نقول: إذا كانت هناك عصابة أو جماعة تحت وطأة السلاح اعتدوا على العرض، فهذا على مراتب: اعتداء يبلغ الغاية القصوى ويستدرج المرأة ويقتلها مثلما يقع في بعض العصابات، يفعلون الفاحشة ثم يقتلون المرأة، فلا مانع أن يجمع الإمام والقاضي لهؤلاء بين القتل والصلب، ولا يختص القتل والصلب بالقتل وأخذ المال، فلو أنهم اعتدوا على عرض من أعراض المسلمين في الأسفار، فأوقفوا السيارات في طرقها، وأنزلوا النساء منها، وفعل بعضهم الفاحشة والعياذ بالله وقتل، فإنهم يقتلون ويصلبون كما جمعنا بين الاعتداء بالقتل وأخذ الأموال بين القتل والصلب، فالعرض أولى وأشد وأعظم حرمة عند الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو مقصود شرع الله، أي: أن ينزجر الناس عن حدود الله ومحارمه، والعرض أشد حرمة من المال، فإذا نقول: إذا أنزلوا وقتلوا قتلوا وصلبوا.
فلو أنهم أنزلوا النساء واعتدوا بالزنا، ورأى الإمام أن هذه حادثة سابقة، وأنه يخشى إن فتح الباب، أو أنه لو أقام عليهم الحد أن هذا لا يردعهم؛ خاصة إذا كانوا غير محصنين، فحينئذ إذا رأى أن المصلحة في قتلهم فله قتلهم.
كذلك لو أنهم أنزلوا النساء فكشفوا ستر المرأة، واستهزءوا بها، فهذا اعتداء على العرض، لكنه دون الاعتداء الأول، وكذلك لو أنهم تكلموا.
فهناك أذية باليد كأن يمد يده على غطاء المرأة، وهنا أذية باللسان كأن يتكلم بكلام فحش وبذاءة ونحوها من الأذية، فهذه أخف عقوبة، فينظر القاضي والوالي ما هو الأصلح في زجر هؤلاء وعقوبتهم بفعلهم.
فالشاهد من هذا أنه يدرج في مسألة الاعتداء في الحرابة الاعتداء على الأعراض، ويستوي في ذلك أن يحصل غاية الاعتداء بالقتل وفعل الجرائم، أو يكون بدون ذلك من الأذية، كما يحدث في مضايقات النساء ونحوه، فإنها إذا كانت تحت وطأة السلاح والتخويف والتهديد فهي في حكم الحرابة.
حد الحرابة بالنفي
وقوله: [فإن لم يصيبوا نفسا ولا مالا يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى البلد] هذه من العقوبة في الحرابة وهي النفي، وقد اختلف العلماء في النفي على وجهين: الوجه الأول: الحبس، فيدخلون إلى السجن ويحبسون.
الوجه الثاني: أن يشرد بهم فلا يستقرون في مكان إلا بعث في طلبهم من بلد إلى بلد حتى يتوبوا إلى الله عز وجل ويرجعوا قبل أن يقدر عليهم، وهذا الوجه الثاني من أقوى الأوجه، ولا مانع من الأخذ بالوجه الأول في بعض الظروف التي يصعب فيها التشريد، خاصة إذا خشي من تركهم أن يسري فسادهم إلى البلدان والأمصار والقرى التي يشردون إليها.
فالصحيح التشريد، ولكن لا يمنع في بعض الظروف أن يأخذ بسجنهم وحبسهم إذا رأى الإمام ذلك ووجد فيه مصلحة لجماعة المسلمين.
وهذا النفي إذا لم يكن منهم قتل ولا اعتداء على المال أو العرض، فمثلا: جاءوا وخوفوا السبل؛ لكنهم لم يأخذوا الأموال ولا اعتدوا، كما يقع في بعض الأماكن، حيث تأتي بعض العصابات وتحتكر السبيل، فلا تدع أحدا يمشي أو يمر بهذا السبيل إلا بعد تخويف وتهديد وإرعاب؛ لكنهم لا يعتدون على الأموال ولا على الأنفس، فحينئذ يشرد بهم وينفوا من الأرض على ما اختاره المصنف رحمه الله وطائفة من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وهو قول ابن عباس في الأثر المشهور عنه.
الأسئلة




التوفيق بين آية المائدة وحديث العرنيين في تقديم القتل على الصلب
السؤال جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين قتلوا الراعي، بل قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهم قد قتلوا الراعي، فلماذا لم يقتلوا في الحال أثابكم الله؟
الجواب قضية العرنيين فيها كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف أئمة التفسير في الجمع بين آية المائدة وبين حديث العرنيين، حتى إن بعض العلماء يرى أن الآية ناسخة لحديث العرنيين، وأن حديث العرنيين جاء على وجه خاص لأن فيه شيئا من التمثيل، والصحيح أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وكل قد خرج من مشكاة واحدة وهو الوحي: {وما ينطق عن الهوى} [النجم:3] عليه الصلاة والسلام {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:4] فأما بالنسبة للعرنيين فحصل منهم أمران: الأمر الأول: الاعتداء على بيت مال المسلمين.
الأمر الثاني: الاعتداء على الراعي نفسه.
وهناك أمر ثالث ورد في بعض الروايات واختاره بعض العلماء أنه حصل منهم موجب الردة، أي: أنهم ارتدوا، حتى أن بعض العلماء لما جاء في سبب نزول الآية ذكر أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يرى أن الآية نزلت في العرنيين، وأن قضية العرنيين هي سبب نزول آية المائدة، ولكن خالف الجمهور في هذه المسألة، وهناك قول أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب آخر من الأسباب، وهو أن الآية نزلت في قوم ارتدوا، وهو القول الثالث في سبب نزول الآية، وهذا القول الذي قيل فيه: إنها نزلت في قوم ارتدوا، يعني العرنيين، لأنه وقع منهم الردة بناء على الرواية التي ذكرناها وأشرنا إليها.
وحينئذ لا تستطيع أن تعطي مسألة العرنيين مسألة ما نحن فيه؛ لأن العرنيين إن جئت تنظر إلى الاعتداء على المال فهو موجود، والاعتداء على الأشخاص بتسميل عين الراعي، لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم بالنار، فكان يؤخذ المرود ويحمى بالنار ثم يوضع في عينه حتى تسيل، وهذا من أشد ما يكون مثلة، ومن هنا قالوا: هذه العقوبة لا تتأتى مع الأصل الشرعي في النهي عن المثلة، وهذا الذي جعل بعض العلماء لم ينظروا إلى رواية تسميل عين الراعي، وإنما نظروا إلى أصل الحديث؛ لأن بعضهم ينظر إلى أصل الرواية وهي أنهم اعتدوا على المال وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن هنا قالوا: إن هذا تمثيل منهي عنه شرعا؛ لأنه لا يجوز التمثيل بعين الجاني إلا إذا مثل بعين غيره فإنه حينئذ يمثل به {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] .
فالشاهد من هذا أننا ننظر إلى جريمتهم في حق الراعي وجريمتهم في حق المال، وردتهم عن الإسلام، فهذه ثلاث جرائم، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين عقوبة المال في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين عقوبة المثل في تسميل أعينهم، وبين عقوبة القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وهذا هو القتل البطيء، فهو لم يقتلهم مباشرة لكنه قتلهم قتلا بطيئا؛ لأنه إذا حبس الماء عنهم قتلوا، ومنع الماء عن العطشان نوع من القتل، وقد ذكرنا هذا في القتل بالسببية، وجاء في الرواية: (فلقد رأيت أحدهم يكدم بفمه الأرض -من شدة العطش - وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون) .
فهذا فيه قتل وفيه قطع، وفيه عقوبة للردة بقتلهم واستباحة دمائهم، وفيه عقوبة للمال بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وفيه عقوبة بالمثل بتسميل أعينهم، فإذا نظرنا إلى أنه لا بد أن يقتلهم مباشرة جاء على هذه كلها، وهو عليه الصلاة والسلام مشرع للأمة، فلما أعطى كل جريمة حقها وحظها كان هذا غاية العدل والقضاء وأتم ما يكون عليه القضاء والحكم، فكل جريمة وقعت منهم وجد لها علاج، ووجد لها عقوبة، وهذا ما نعنيه بالنظرة الشمولية في العقوبة، أي: أن الإنسان حينما ينظر نظرة شاملة للجريمة ويجد عقوبتها مناسبة لكل شيء وقع من الجاني؛ فهذا أبلغ في عقوبة الجاني وأبلغ في ردع الغير عن أن يسلك مسلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم له المقام الأعظم والمنزلة الأتم في الحكم بين العباد صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما أمسك الرجل بردائه صلوات الله وسلامه عليه، قال له: اعدل يا محمد! قال: (ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟) ، فمن الذي يعدل إذا لم يعدل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فالشاهد من هذا أنه عدل، فأعطى حق الله عز وجل بقتلهم بالردة، وأعطى المخلوق حقه حينما سمل أعينهم، وأعطى بيت مال المسلمين حقه حينما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
فلا يشكل حديث العرنيين على الآية، إنما يشكل إذا نظرنا إليه من بعض الجوانب وقيل إنه ليس فيه قتل، وقد قلنا: إنهم إذا اعتدوا على المال وقتلوا فإنهم يقتلون، فكيف لا يوجد قتل وقد قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والصحيح أنه قتل بطيء؛ لكن هذا النوع من القتل لا نستخدمه في حكم الحرابة؛ لأنها جاءت نصوص تورد الشبهة، وهي نصوص النهي عن المثلة والتعذيب، ومن هنا لما تعارض عندنا هل هذا سابق للنهي أو متأخر عنه قلنا: الاحتياط أن نأخذ بالنهي؛ لأن آخر الأمرين نهيه عليه الصلاة والسلام عن المثلة، وعلى هذا فلا إشكال ولا تعارض إذا حمل على أول الأمر، والله تعالى أعلم.
مشروعية صلاة الجماعة ثانية
السؤال هل الجماعة الثانية لمن فاتته الصلاة مشروعة؟ وهل فضلها مثل فضل الجماعة الأولى أثابكم الله؟
الجواب يجوز للمسلم أن يحدث جماعة ثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والذين منعوا إحداث الجماعة الثانية احتجوا بحديث ابن مسعود في صلاته عليه الصلاة والسلام حينما تأخر عن الصلاة، فصلى الصحابة رضوان الله عليهم، وكان قد تأخر بقباء عليه الصلاة والسلام، فلما أتى المسجد لم يعرج عليهم، ومضى إلى بيته، قالوا: فهذا يدل على أن الجماعة الثانية لا تجوز.
والواقع أنه ينبغي لطالب العلم أن ينظر بين الدليل وبين الدعوى، فهم يقولون: لا تجوز الجماعة الثانية ويمنعون من إحداثها، وعدم الجواز والتحريم لا يؤخذ من الفعل، لأن دلالة الفعل محتملة، ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المسجد ووجدهم قد صلوا ولم يصل في المسجد جماعة يحتمل وجوها: منها: أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد الجماعة في المسجد ثانية.
ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام -وهو الأقوى- لم يرد كسر خواطر الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنك لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء وأحدث الجماعة الثانية فيكون هذا حرجا كبيرا لمن أمهم وصلى بهم، وهذا واضح جلي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، وهذا يجعل الصحابة مرة ثانية يتأخرون أكثر، ويؤخرون الجماعة أكثر؛ لحضوره عليه الصلاة والسلام ورغبة في الصلاة وراءه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
فالشاهد أننا لا نجد في الفعل ما يدل على التحريم، بل غاية ما نقول: إن السنة أن يمضي إلى منزله، لكن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في غيره، ومن هنا لا يقوى هذا الحديث على صرف النصوص الواردة في الصلاة في المسجد عموما.
وثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بدليل الأولى، حينما قال: (من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فصلى معه) أولا: كون الصحابي يقوم ويصلي في المسجد من أصدق الدلائل على أنه لا يذهب إلى بيته، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البيت والصحابي صلى في المسجد، فلو كان الذهاب إلى البيت واجبا، لقال له: يا هذا! اقطع صلاتك واذهب إلى بيتك وصل فيه، ولا يجوز أن تصلي في المسجد، ولا يجوز أن يسكت عن تنبيهه عما هو منهي عنه ومحرم شرعا، وأنتم تقولون: لا يحدث جماعة ثانية.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يتصدق) أسألك بربك! لو وجد شخص لم يصل أيقول عليه الصلاة والسلام: من يتصدق؟ ثالثا: لو لم يكن الصحابة قد عهدوا وألفوا أن يصلي المتأخر وإن وجد غيره صلى معه هل يأتي ويقوم الرجل ويصلي؟ ولذلك قال: (من يتصدق على هذا؟) كأنه وجده بدون جماعة؛ لأنه ألف أن يكونوا في جماعة، ولكنه تعذر وجود من لم يصل، فقال: (من يتصدق) فالذي صلى يعيد الصلاة مرة ثانية.
رابعا: يندب إلى إعادة الصلاة مع أنه ينهى عن إعادة الصلاة مرتين.
فكله تحسين للأجر، أليس هذا أصل في تحبيب الشرع وترغيبه أن يكون المصلي الثاني مع جماعة؟ إذا قلت: نعم، نقول: نبه بالأدنى على الأعلى، فإذا صحت الجماعة الثانية بإعادة الصلاة الأولى فلأن تصح بدون إعادة من باب أولى وأحرى، فهذا هو الذي نختاره؛ وهو أن الصحيح جواز إحداث الجماعة الثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 25 ( الأعضاء 0 والزوار 25)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 449.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 443.59 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]