من مشاهير علماء المسلمين .. - الصفحة 9 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 1158 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21818 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20434 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 86 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          فشكر الله له فغفر له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          وتعاونوا على البر والتقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-12-2022, 12:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

كتاب "الفلاحة" لابن بصال الأندلسي


فاطمة حافظ

شهدت الأندلس في عصرها الإسلامي نهضة زراعية شاملة عدد جوانبها ابن المقري في كتابه (نفح الطيب)، فذكر أن أهلها برعوا في استنباط المياه، وغرس النباتات، واختيار أجناس الفواكه، وتحسين البساتين بأنواع الخضر والزهر، وغرس الأشجار وتشذيبها “فهم أحكم الناس لأسباب الزراعة” كما وصفهم. وما ذهب إليه المقري ليس محض مبالغة وتعضده الدراسات الحديثة حيث يفترض فيليب حتى أن التقدم الزراعي كان من أمجاد أسبانيا المسلمة الحقيقية، ويشاركه الرأي جوزيف ماكيب الذي يقرر أن العرب لم يتركوا بها فدانا واحدا غير محروث أو مزروع عدا الغابات والجبال. وفي طليطلة ظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي، الذي كرس جهوده على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة.
بلغت نهضة الأندلس الزراعية أوجها خلال القرنين الخامس والسادس في عهد ملوك الطوائف ثم الموحدين، وتركزت في المدن الكبرى: قرطبة وطليطلة وإشبيلية وغرناطة والمرية، حيث عاش عدد من العلماء الزراعيين الذين طبقت شهرتهم الآفاق؛ ففي قرطبة اشتهر أبو القاسم الزهراوي الطبيب المعروف الذي وضع مختصرا في الفلاحة، وفي غرناطة ظهر محمد بن مالك التغنارى صاحب كتاب “زهرة البستان ونزهة الأذهان”، وفي أشبيلية ذاع صيت يحيى بن محمد العوام صاحب كتاب (الفلاحة الأندلسية) الذي طبع في سبع مجلدات، وأما طليطلة فعاش بها كل من ابن وافد صاحب (المجموع)، وظهر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي الذي كرس جهوده وقصرها على الزراعة، وطبقت شهرته الآفاق وصارت أساسا لمن أتى بعده ممن كتبوا في علوم الزراعة.
ابن بصال وكتابه الفلاحة

هو محمد بن إبراهيم بن بصال، ولد في طليطلة بالأندلس، ولا يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، لكن المصادر تتفق أنه كان من أهل القرن الخامس، وترجح دائرة المعارف الإسلامية أن وفاته كانت بقرطبة عام 499ه، وقد أدى فريضة الحج فارتحل من وطنه عبر صقلية ومصر وعاد محملا بالكثير من المعلومات عن نباتات الشرق وطرق الزراعة به.
نشأ ابن بصال في الوسط العلمي الزاخر الذي امتازت به طليطلة في عهد ملكها المأمون، ومن معاصريه ابن صاعد صاحب كتاب (طبقات الأمم)، وابن وافد الطبيب الشهير صاحب كتابي: (الأدوية المفردة) و(الفلاحة)، والزرقال العالم الزراعي والفلكي، ودخل في خدمة الخليفة المأمون وأشرف على بستانه الكبير، وكتب لأجله دراسة عن علم الزراعة أسماها “ديوان الفلاحة”، وله مختصر في ستة عشر بابا تحت عنوان (كتاب القصد والبيان)، وبعد استيلاء “الفونسو السادس” ملك قشتالة على طليطلة (٤٧٨ هـ/ ١٠٨٥ م)، انسحب ابن بصال إلى أشبيلية، إلى بلاط المعتمد حيث أقام له حديقة ملكية، واستقر بها لبضع سنوات ثم غادرها إلى قرطبة وكانت وفاته بها.
صدر كتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي لأول مرة مطبوعا ومحققا بتطوان المغربية عام 1955 عن معهد مولاي الحسن، حققه وترجمه إلى الإسبانية خوسي مارية بييكروسا الأستاذ بجامعة برشلونة وعاونه في التحقيق الأستاذ محمد عزيمان، وصدر الكتاب والترجمة معا في نحو أربعمائة صفحة، ولم يستطع المحققان تحديد عام تأليفه إذ لم يدون مصنفه تاريخ الانتهاء من تأليفه على عادة المصنفين التراثيين، وإنما اختتمه بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه والترضي على آل بيته الأكرمين، ويفتقر الكتاب إلى وجود فهرس للمصطلحات العلمية وأسماء النباتات والبذور الواردة فيه، وهي الطريقة الحديثة المتبعة في التحقيق، ولا ندري لماذا لم يقم المحققان بإعداده تيسيرا على من أراد استخراج مادة أو مصطلح.
انتشر الكتاب انتشارا واسعا ونقلت عنه جميع المصنفات اللاحقة؛ فذكره أبو الخير الإشبيلي في كتابه (عمدة الطبيب)، ويظهر أنه اتصل بالبصال وجرت بينهما لقاءات ومكاتبات، ونقل عنه ابن العوام في كتاب (الفلاحة) وأشاد بالكتاب والتجارب العملية لمؤلفه، واعتمد عليه عثمان التوجيبي في أرجوزته المعنونة (إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة فى أصول صناعة الفلاحة) وأشاد به صاحب (نفح الطيب) واعتبره أبرع الزراعيين الأندلسيين، ولحاجة الأسبان إلى علم الزراعة قاموا بترجمته إلى اللغة القشتالية، وقد استعان الأستاذ بييكروسا بهذه الترجمة القديمة لأجل استكمال الفصول الناقصة من الكتاب في طبعته العربية.
خصائص الكتاب ومنهجه

لا يسع المتتبع لكتاب “الفلاحة” لابن بصال الأندلسي إلى أن يعجب بمصنفه العالم الكبير الذي يمكن أن يوضع في مصاف العلماء الذين أسهموا في تطور العلوم الزراعية، ولعله أول من حرر المعلومات الزراعية من الخرافات والأباطيل إذ كانت الزراعة فيما مضى ترتبط بالسحر والتنجيم، وجعلها ابن بصال ترتبط على البحث والتجربة العملية، وهو يمتاز عن سائر المؤلفات الأندلسية بكونه مستمدا من التجربة الذاتية والمشاهدة العيانية لمؤلفه إلى أقصى حد، وأنه جاء خلوا من النقل عن الأقدمين من يونان ورومان وبابليين أو كتابات المعاصرين له، لكن هذا لا يعني أنه لم يطالع ما كتبوه لكنه بنى كتابه على تجاربه الذاتية.
وحول هذا المعنى قالت دائرة المعارف الإسلامية أن: “الدراسة التي كتبها ابن بصال فريدة في أنها لا تتضمن أية إشارة إلى علماء الزراعة السابقين؛ ويبدو أنها اقتصرت على تجارب المؤلف الشخصية، الذى يعتبر أكثر المتخصصين العرب الأسبان أصالة وموضوعية”.
أما المحققان فيقولان “أن الكتاب يبقى ممتازا بطابعه الخاص ككتاب مدرسي مختصر ثمرة تجربة زراعية مباشرة”، ويضيفان ” لقد تجنب ابن بصال في كتابه جميع المسائل الثانوية البعيدة عن التطبيقات الزراعية العملية على العكس من كثير من الزراعيين العرب الذين لا نجد عندهم حدا واضحا، يفصل بين علم الزراعة الحقيقي وبين الطب والصيدلة والسحر والتنجيم… وهذه التجربة العملية المباشرة تصل في بعض الأحيان إلى عرض وجهات فيها إرهاص بالنظريات الزراعية الحديثة”.
ويتميز منهج ابن بصال بالترتيب الموضوعي، والإحكام فهو يخصص كتابه لدراسة زراعة النباتات والأراضي الملائمة لها والأسمدة والآبار وما يتصل بهما، ولذلك لا يتناول زراعة الحبوب البرية كالقمح والشعير، ولا يتطرق لتربية المواشي وعلاج أمراضها وهي موضوعات تحدث فيها ابن وافد وابن العوام وغيرهما من النباتيين، ويتسم أسلوبه بالاختصار والإيجاز وهذا يتسق مع كون الكتاب مختصرا لكتاب آخر.
موضوعات الكتاب

يقع كتاب (الفلاحة) في ستة عشر بابا تتفاوت في الطول والقصر، وهي على النحو التالي:
الباب الأول، في ذكر المياه وأصنافها وطبائعها وتأثيرها في النبات، وهو يقسمها إلى أربعة أنواع؛ مياه الأمطار، مياه الآبار ومياه العيون، مياه الأنهار، والباب الثاني في الأرض وأنواعها، وهو يقسمها إلى عشرة أصناف، ويبين طبائع كل صنف، وكيفية تمييز الأرض الجيدة والأرض الرديئة، والباب الثالث في ذكر السماد وأنواعه وطريقة استعمال كل نوع منه، ومما يسترعي الانتباه أن ابن بصال يحذر من استعمال روث الخنزير كسماد وربما يكون متأثرا في ذلك بالعقيدة الإسلامية، وفي الباب الرابع يتحدث عن اختيار الأرض وإصلاحها.
أما الفصل الخامس فهو فاتحة الفصول العملية، وهو طويل نسبيا إذ يضم 35 فصلا ويتحدث فيه عن “فن الغراسة” متناولا غرس الأشجار المختلفة والأمراض التي تعتريها، ويتناول الفصل السادس طرائق الغرس فيذكر طريقة ” الغراسة بالتكابيس” و”الغراسة بالملوخ” و”الغراسة بالنوى”، ويدرس الفصل السابع طرق تشذيب الأشجار، وكيفيتها، وتوقيتاتها.
والبابان الثامن والتاسع مخصصان لدراسة التلقيح الشجري، ويقوده هذا إلى دراسة أجناس الأشجار ويحصرها في: الأشجار ذوات الزيوت، والأشجار ذوات الأصماغ، والأشجار ذوات الألبان، والأشجار ذوات المياه، وهو يبين طبيعة كل جنس وأنواع الأشجار التي تندرج تحته، ويتوصل من ذلك إلى أنه لا ينبغي تلقيح شجرة إلا بشجرة من جنسها عدا بعض الاستثناءات المحدودة.
وأما الباب العاشر فهو مخصص لفن الزراعة وهو يتناول زراعة الحبوب والأقطان لكن كما يلاحظ المحققان أنه لا يتناول زراعة القمح والشعير لكنه يقصر حديثه عن الحبوب التي تزرع في البساتين كالأرز والحمص، وفي الباب الحادي عشر يتناول زراعة البذور المتخذة لإصلاح الأطعمة كالتوابل (كمون، كزبرة، ينسون…)، وفي الباب الثاني عشر يتناول زراعة النباتات الجذرية كالقرع والبطاطا والبطيخ والقثاء، وفي الباب الثالث عشر يدرس زراعة البقول ذوات الأصول كاللفت والجزر والفجل، وفي الفصل الرابع عشر يدرس زراعة البقول المختلفة، أما الفصل الخامس عشر فهو مخصص لزراعة الرياحين والأزهار كالورد والنرجس والبنفسج.
ويختتم الكتاب بالباب السادس عشر وهو جامع لأبحاث مختلفة تتعلق بالمعارف الزراعية، من قبيل مكافحة ديدان الأرض، وكيفية تخزين الثمار والأزهار، وكيفية اختيار المكان الملائم للآبار وتخزين المياه، وطرق صنع المصنب وهو نوع من المربى، وما إلى ذلك من أمور يحتاجها الزراع.

تبين هذه الموضوعات جانبا من أهمية الكتاب الذي يبين المحصولات الأندلسية وطرائق الزراعة، أما الجانب الآخر فهو اشتماله على مصطلحات عربية تفيد الاختصاصيين الزراعيين في زمننا الحاضر ويمكن استخدامها في مقابل المصطلحات الأجنبية، كما يعتقد الأستاذ كرد علي، يضاف إلى ما سبق أنه يقدم لنا أسماء عدد كبير من آلات الزراعة الأندلسية ووظائفها، وهي تمثل جانبا خفيا من جوانب النهضة التقنية العربية.
وفي الأخير، يمثل كتاب الفلاحة لابن بصال يمثل مصدرا مهما ومرجعا لا غنى عنه لمن يريد الوقوف على البحوث العلمية الزراعية عند العرب والمسلمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-01-2023, 08:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

"تدبير المشايخ" جهود علماء العرب والمسلمين في مجال طب المسنين (ق3 - 10هـ/9 - 16م)
د. نجلاء سامي النبراوي



المؤتمر العالمي الأول لتاريخ العلوم الطبية والتطبيقية - جامعة الإمام محمد بن سعود، السجل العلمي 3 - 2017م، (ص 352 - 387).

الملخص:
يتناول البحث جهود علماء العرب والمسلمين في مجال طب المسنِّين من القرن الثالث حتى القرن العاشر الهجريين/ التاسع إلى السادس عشر الميلاديين.

وتنقسم الدراسة إلى شقين رئيسين:
الشق الأول منها: نبذة عن طب المسنِّين أو طب الشيخوخة (Geriatrics) كما هو معروف في العصر الحالي، ثم مفهوم الشيخوخة كما عرَّفها علماء وأطباء العرب والمسلمين من حيث بدايتها ومظاهرها وأعراضها وسماتها، وتتبع جهود علماء العرب والمسلمين في مجال طب المسنين سواء في مؤلفاتهم الطبيَّة الجامعة، أو في مؤلفاتهم المتخصِّصة، ويُلاحظ أن معظمها قد أخذ مصطلحًا واحدًا هو مصطلح "تدبير المشايخ"، ويلي ذلك تتبُّع كل عالِمٍ بالترتيب الزمني لوفاته بترجمة عامة له، ثم عرض مُؤلَّفه في هذا المجال، وبيان ما كتب فيه من تناول وتقسيمات.

ويأتي الشق الثاني من الدراسة في تتبُّع أوجه العناية بصحة المسنِّين من خلال المؤلفات العلمية، حيث تم تقسيمه إلى قسمين:
اختصَّ القسم الأول منها بأوجه الرعاية والاهتمام البدني من تعريف المؤلفين - سواء للقرَّاء أو المحيطين بالمسن - بالحالة العامة التي تتَّصف بها مرحلة الشيخوخة، ثم كيفية العناية بغذائه طعامًا وشرابًا، وبيان ما هو مسموح أو ممنوع منها، ثم الوسائل العلاجية التي تقدم للمُسنِّ من أدوية سواء نباتات أو أعشاب طبية أو غذائية، أو معالجته بالحَقْن أو معالجات أخرى، إلى جانب بعض الممارسات الصحية اليومية التي يجب أن تتوفر له، وكذلك ما كتبه هؤلاء عن أهمية التدليك وممارسة الرياضة البدنية الملائمة للمسنِّين للحفاظ على لياقتهم قدر الإمكان.

واختص القسم الثاني بأوجه الرعاية والاهتمام بالحالة النفسية للمُسنِّين، التي أكَّد الأطباء على شدة أهميتها؛ مثل الاهتمام البدني، خاصة أنها المرحلة الأخيرة من عمره.

وتأتي خاتمة البحث بتقييمٍ لجهود علماء العرب المسلمين - من خلال أعمالهم الواردة بالدراسة - في مجال طب المسنِّين في العصور الوسطى، مع ذكر التوصيات التي خلص إليها البحث.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-01-2023, 07:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية




عندما جاء الإسلام اهتم العرب منذ فجره بشتى ضروب المعرفة والعلوم، وصاحب الانتصارات الحربية الرائعة، تقدم الثقافة وازدهار الفكر على صعيد جميع العلوم والمعارف النظرية التطبيقية بالإضافة إلى مختلف الفنون والصناعات.
وكان الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة الإسلامية بالعلم والعلماء عاملاً هيأ الظروف الملائمة لانتشار التعليم، فما لبثت العلوم والطب أن اكتسيا ثوبًا جديدًا، بل نفخت فيهما الروح من جديد. فلقد شجع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نفسه دراسة الطب وقال: «تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم» (رواه أبو داود).
حافظ العلماء المسلمون على تراث المعرفة الإغريقية فاحترموه وقدروه ونهضوا به وطوروه، وكان ذلك إسهامًا عظيمًا في تقدم الطب، فقد ترجم المسلمون إلى العربية مؤلفات جالين وغيره، ووزعوها على المراكز العلمية في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، فكان لهذا العمل العظيم والجليل فوائده العلمية الكبيرة والجمة.
وقد أسهم ولاة المسلمين كذلك في نهضة علم المعالجة بالعقاقير، بل يعتقد الكثيرون أن الكلمة الإنجليزية Drug المرادفة للعقار الطبي، مشتقة من أصل عربي، كما هو الحال في آلاف المصطلحات الأخرى.
كذلك أنشأ الولاة المسلمون المستشفيات التعليمية الكبيرة والمستوصفات العامة في سائر أنحاء الدولة الإسلامية.
ومن حسن حظ العلوم الطبية أنها حظيت بالنصيب الأوفى بفضل هذا التشجيع المعنوي والمادي من الخلفاء وأولي الأمر والثراء، لاسيما خلال الحقبة الواقعة بين الأعوام 800 – 1200م.
وهذا الازدهار شمل جميع الدول الإسلامية من الشرق في الشام إلى الغرب في الأندلس، وكان لمصر الإسلامية النصيب الأكبر في هذا التقدم الحضاري، فقد أعطت لدنيا العلوم الطبية الكثير، واعتبرت أحد ينابيع الفكر العربي.. فقد أعطت ما لم تعطه الولايات الإسلامية الأخرى حضارة وعلمًا وفنًّا وفكرًا وابتكارًا، فبعد أن من الله عليها بالفتح الإسلامي سنة 21هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التقت حضارة العرب القادمين من شبه الجزيرة العربية بحضارة الفراعنة التي تسلمها أبناء النيل، وقد عكس المسلمون ضوء الشمس الغاربة للحضارات الفرعونية واليونانية، وكان لهم فضل الحفاظ على العلوم الطبية؛ لأن الرومان لم يحسنوا القيام على هذا التراث، بينما العرب المسلمون تسلموه وأتقنوه وأبدعوا فيه وأضافوا إليه.
كان هذا الالتقاء الحضاري نتيجة مباشرة في دفع عجلة التقدم في شتى ميادين العلوم والمعرفة والصناعات والنظم الإدارية، كما صاحب الفتوح الإسلامية إنشاء المدارس، ومن أروع مظاهر الحضارة الإسلامية مدارس الطب، فمنذ قيام الدولة الإسلامية كانت المساجد معاهد عامة لتعليم الشريعة فضلاً عن أنها دور للعبادة، وكان أول معهد هو الذي أنشأه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، بعد هجرته في السنة الأولى.
وبمرور الزمن أصبحت المساجد كلها جامعات إسلامية، وصار اسم المسجد جامع، واليوم نحن نسمي مؤسستنا العلمية الكبيرة الشاملة بمؤنث جامع أي جامعة، وأصبح يدرس فيها مختلف علوم الدنيا والدين .
واشتهر عمر بن منصور البهابري، ومحمد بن عبد الله المصري، بتدريس الطب في الجامع الطولوني الذي أنشاه أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية في مصر في خلال القرن الثالث الهجري، كما اشتهر عبد اللطيف البغدادي الذي كان يدرس الطب في الجامع الأزهر (وقد أنشأ في زمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس الدولة الفاطمية في مصر، خلال القرن الرابع الهجري).
كما أُنشئت بيوت الحكمة (أي خزائن الكتب) لجمع الكتب من مختلف العلوم لحفظها وترجمتها، وكانت أول دار حكمة هي دار الحكمة القياسية، التي أنشئت في زمن هارون الرشيد (القرن الثاني الهجري)، وجمع له البرامكة كتب الهند القيمة، وكتب فارس، واليونان، ونشطت حركة الترجمة، وفي عصر المأمون في أول القرن الثالث الهجري، فأصبحت دار الحكمة أكاديمية للبحث العلمي في مختلف العلوم، وخصوصًا العلوم الطبية، وأضاف العرب علومهم إلى ما ترجموه من علوم الأمم الأخرى.
ولما انتشرت العلوم وازدادت المؤلفات، وبلغ شغف الناس بالعلوم مبلغًا كبيرًا لم تعد دور الحكمة تفي بالغرض، فأنشئت دور العلوم لتلقى فيها المحاضرات، وأولها دار علم الموصلي (في القرن الثالث الهجري).
ثم ظهرت المدارس التي أنشئت عن طريق الأساتذة والأثرياء، وابتدأت بدار يجتمع فيها الأستاذ مع طلابه، وأقدم مدرسة هي مدرسة أبي بكر بن فورك الأصبهاني (القرن الخامس الهجري) في نيسابور، وكانت تدرس فيها مختلف العلوم، ثم أصبحت تلك المدارس حكومية، وأول مدرسة حكومية هي المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك (في القرن الخامس في بغداد وخراسان).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العرب المسلمين هم أول من جعل التدريس من واجبات الدولة، وأول من عرفوا تأميم الطب والعلاج.
ويعد الرازي واحدًا من أشهر الأطباء المسلمين، فقد ألف في القرن العاشر الهجري أكثر من ثلاثمائة كتاب في الطب، كما وضع موسوعة طبية كاملة، واشتهر كذلك الطبيب المسلم ابن سينا، حتى أصبح كتابه القانون في الطب واحدًا من أهم المراجع الدراسية في المدارس الطبية خلال العصور الوسطى، واشتهر طبيب مسلم آخر في قرطبة وهو الزهراوي، الذي كتب في القرن العاشر كتابًا يستعرض فيه بالتفصيل كل المعارف الطبية في زمنه، كما ألف كتابًا مصورًا في الجراحة يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الطب، وضمنه صورًا للأدوات التي تستخدم في علوم الجراحة.
ومن أمثلة دور العلم الطبية (دار ابن سينا)، فكان يجتمع فيها طلبة العلم، منهم من يقرأ في كتاب القانون، وآخر يقرأ في طرق الشفاء، وكان التدريس يتم ليلاً لعدم وجود فراغ خلال النهار بسبب خدمة السلطان والأمراء، ومن أهم المدارس الطبية أيضًا المدرسة الدخوارية بالشام، التي أنشأها أبو محمد بن علي بن حامد المعروف بالدخوار، وكان كحالاً (أي طبيبًا للعيون)، وتتلمذ على يديه كثير من أطباء دمشق، وكان أستاذًا ببيمارستان النوري الكبير، ثم بعد وفاته أوقفت داره وجعلت مدرسة للطب، وكذلك المدرسة الدينسرية التي أنشأها عماد الدين الدينسري، ولكن دور العلم والمدارس الطبية لم تف بالغرض المطلوب؛ لأن الطب من العلوم التجريبية التي لا تصلح لها هذه المعاهد، فكان لابد من الدراسة العملية، ولذلك ظلت البيمارستانات هي كليات الطب المفضلة لتدريس المقررات للطالب، حيث إنها مكان تتوافر فيه الحالات المرضية وطرق العلاج.
والبيمارستان هي كلمة فارسية تتكون من شقين بيمار بمعنى المرض، وستان بمعنى مكان، أي أن معناها مجتمعة مكان المرض ثم حورت في العصور الحديثة إلى كلمة مارستان، أصبحت لفترة طويلة تطلق على دور العلاج العقلي، حتى صارت التعبير العامي لهذا النوع من المستشفيات.
بذلك أنشئت المدارس الطبية العلمية، أو البيمارستانات التعليمية، وأهمها البيمارستان المقتدري في القرن الرابع الهجري في بغداد، وقد هدمه المغول، والبيمارستان النوري الكبير في دمشق (في القرن السادس الهجري) ، والبيمارستان العضدي في بغداد، والمنصوري بالقاهرة، الذي أنشأه المنصور سيف الدين قلاوون، (في القرن السابع الهجري)، وكان يشرف على البيمارستان ويدرس الطب فيه علماء شهد لهم التاريخ؛ ففي البيمارستان العضدي كان ابن بطلان، وابن التلميذ، وسنان بن قرة ، وفي المقتدري كان الواسطي. وفي النوري: ابن الدخوار، وابن النفيس، وابن أبي أصيبعة.
أما بيمارستان قلاوون في القاهرة فكان أعظم مستشفى، وكلية طبية في تاريخ مصر خلال العصور الوسطى، وكان يشرف على رئاسته كبير أطباء، وهو ما يقابل اليوم عندنا عميد كلية الطب، وكان يتم اختياره من كبار الأطباء، وأحسنهم سمعة وعلمًا، وكان الإشراف على البيمارستان يعتبر من وظائف الدولة المهمة ولرئيسه حق مقابلة السلطان في أي وقت، كما كان للبيمارستان قسمان: قسم للرجال، وآخر للنساء، وكل قسم من الأقسام الداخلية يشمل تخصصات عدة مثل: طب العيون – الجراحة – الإسهال والحمى – الأمراض العقلية والنفسية...إلخ.
كما كان قسم خارجي يتردد عليه حوالي 4000 مريض يوميًا يصرف لهم أصناف جيدة من العلاج، وكان كل قسم يشرف عليه رئيس، وكان لرئيس الأطباء ورؤساء الفروع فقط الإذن بمزاولة فنون الطب لمن يرونه صالحًا من الطلاب الدارسين بالبيمارستان، وكان يعاون المدرسين أو الأساتذة طوائف المعيدين، فنظام المعيدين هو أصلاً من ابتكار التعليم الإسلامي، وكان للمعبد واجبات منها ما ذكره القلقشندي (إذا ألقى المدرس الدرس وانصرف أعاد الطلبة ما ألقاه المدرس ليفهموه ويحسنوه).
كان الالتحاق بالمدرسة الطبية أو البيمارستان سهلاً، إذ يذهب الطالب إلى حيث يجلس الأستاذ، ويستمع إليه، والطالب حر في اختيار مقررات الدراسة، بل ودراسة ما يرغب فيه وحرية التنقل من أستاذ إلى آخر، حتى تكون الدراسة على هواه، ولا تفرض عليه في هيئة برامج أو مقررات إجبارية، ولم يكن الأمر فوضى كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن كانت هناك كتب أساسية يجب أن يدرسها الطالب، ولا يمكنه الحصول على إجازته إذا لم يتقن هذه الكتب.
ولعل الكثيرين يعلمون أن هذا النظام انتهى من عندنا نحن مبدعيه، وانتقل إلى الدول المتقدمة على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، ومازال قائمًا ويطبق لديهم حتى اليوم، فالطالب الذي يدرس دراسات عليا أو عادية يختار أستاذه والمقررات أو البرامج التي سيدرسها بنفسه وبحرية كاملة، ولا تفرض عليه أو يفرض عليه أستاذه أو مشرفيه. ولكن من يعترف اليوم بهذا الإبداع العظيم للعرب، وفضل الحضارة الإسلامية على العلوم وطرق المناهج والتدريس؟

وتمر ستة قرون كاملة بعد هذا الإبداع الإسلامي، ونجد في عام 1537م طبيبًا بلجيكيًا، بل عالمًا من علماء جامعة لوفان، هو أندريه فيزالوس، يترجم الكتاب التاسع من كتب الرازي إلى اللغات الأوروبية، وما لبث فيزالوس أن عين أستاذًا للتشريح في جامعة بادوا، وفي عهده أدخلت كلية الطب في جامعة بادوا الأساليب الإسلامية الجديدة في ممارسة الطب، التي ما لبثت أن انتشرت في سائر أوروبا وأسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدم الطب في أوروبا.
________________________________________________
اسم الكاتب: د . هناء إسماعيل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-06-2022, 05:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

تاريخ الطب عند العرب و المسلمين بين النظري و التطبيقي





الاستاذ الدكتور علي عمار





اعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو الغذاء؛ قال عليه الصلاة والسلام : «المعدة بيت الداء ، و الحمية رأس الدواء ، وأصل كلّ داء البردة». بمعنى : أن الغذاء يمر بمراحل :
أ‌- الطعام تمضغه أدوات ميكانيكية ووظيفية (تعصره المعدة بحرارتها – الباقي براز وفضلات).
ب- الكبد يحول العصير إلى دم (الصفراء).
جـ- ثم يرسب الكبد منه فضلات أخرى من الدم تسمى (السوداء).
- فالطب إذا جملة العلوم التي أسسها الكلدان كهنة بابل – أول من بحث في علاج الأمراض – وعنهم أخذ الأطباء فيما بعد ومنهم العرب (مصر فينقية، آشور- اليونان). أتقنوا و رتبوا علوم الطب. (الرومان– الفرس –العرب).
- فالعرب اعتمدوا في بداية الأمر العلاج (العصر الجاهلي) طريقة الكهان و العرافين (الرقى و السحر- الذبائح و العزائم).
- ثم اتجهوا إلى طريقة العلاج الحقيقية و الصحيحة.
فقد وجد بمصر أثـارا تـدل على العلاج عن طريق الكهنة و العزائم حيث يعالجون داخل معبد (إيزيس وأوزوريس) و (رع).
ومن أقوالهم العلاجية التي كانوا يكتبونها للمريض (هذا كتاب الشفاء لكل مريض ، فهل (لإزيس) أن تشفيني كما شفت (حوريس) من كل ألم أصابه من أخيه (ست) حتما قتل أباه (أوزوريس) ؟ فيا(إزيريس) أنت الساحرة الكبيرة...).
وقد كان العرب يعالجون بالطريقة المصرية حيث كانوا يعتمدون على العقاقير البسيطة ، أو الأشربة. خاصة (العسل). فقد كان أساس علاجاتهم. ثم الحجامة – ثم الكي. ومن أقوالهم : (آخر الطب الكي).
كما كانوا يلجئون في كثير من الأحيان إلى البتر والقطع و يكون ذلك بواسطة النار مثلما فعلوا (بصخر ين عمرو) أخو الخنساء حينما نتأت قطعة من جوفه مثل : الكبد على اثر طعنة حيث أحموا له شفرة وقطعوها.
وهم الذين أدركوا أن الجريح إذا شرب الماء مات.

- أطبـــاء العرب:
كانوا في بداية الأمر من الكهنة – ثم تعاطاه جماعة من العرب ممن خالطوا (الروم – الفرس) ، فأخذوا عنهم الطب في ق 06 م. وأقدم أطباء العرب هو (لقمان الحكيم). ثم جاء بعده (ابن خديم) الذي ضرب به المثل في الطب و الحذق فيقولون (أطب من ابن خديم).
ومنهم كذلك (الحارث بن كلدة) توفي (13هـ) ، وهو من بني ثقيف ومن أهل الطائف – رحل إلى فارس و أخذ الطب عن (جنديسابور) ،ثم عاد إلى بلاده ، وأقام بالطائف فنال شهرة واسعة – أدرك الإسلام – فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالذهاب إليه.
ومنهم (ابن أبي رومية التميمي) اشتهر بالجراحة. و(النصر بن الحارث ابن كلدة).
كما اعتنوا بخيولهم وإبلهم ومواشيهم حتى اختص منهم في معالجتها (البيطرة) . ومن أشهر أطبائهم في هذا المجال في الجاهلية (العاص بن وائل). ومن أشهر أطباء (جنديسابور) مدرسة للطب في ذلك الوقت جورجيس ابن بختيشوع السرياني كان ماهرا في الطب له مصنفات باللغة السريانية دعاه المنصور لمعالجته فلما عالجه منحه (03) جوار روميات وثلاثة آلاف دينار. وكان يعلم المنصور أنه قد خلف وراءه زوجته في بغداد وليس عنده من يخدمها – لكن (جورجيس) رفض الجوار وأخذ الأموال. فلما أصبح الصباح عاتبه المنصور فأجابه (جورجيس) :«أننا معشر النصارى لا نتزوج إلا امرأة واحدة ، وما دامت المرأة حيّة فلا نأخذ غيرها». فزاد المنصور إعجابا به وبصدقه و إخلاصه و أمانته. وكان (جورجيس) محبا للتأليف وكان يعرف اليونانية زيادة على السريانية – والفارسية- والعربية. وهو الذي نقل العلوم الطبية من اليونانية إلى العربية.

- الطــــــب في الإســـــلام :
الطب الإسلامي يعتبر خلاصة ما وصل إليه الطب عند الأمم السابقة عن الإسلام – المسلمون نقلوا كتب (ابقراط) – و(جالينوس) وغيرهما من أطباء اليونان – أطلعوا على ما كان عند اليونان – والكلدان القدماء كما نقلوا إليهم أشهر أطباء مدرسة (جنديسابور) طب اليونان بصيغته الفارسية –فظهر أول كتاب (الملكي) لأبي بكر الرازي الملقب (بجالينوس العرب) ألفه للملك عضد الدولة ابن بويه.
حيث جمع فيـه كـل ما وجده مشتـتا من ذكـر الأمراض و علاجاتها في ق 04 للهجرة – ثم ظهر بعده كتاب (القانون لابن سينا) وهو منشور ومشهور إلى يومنا هذا جمع فيه خلاصة أبحاث (اليونان – الكلدان – الهنود- الفرس - العرب) في الأمراض و معالجاتها و العقاقير و خصائصها ، ثم أضاف إليه الجديد فمثلا (وصف العلق وأشكاله وخصائصه).
كما حذر من شرب اللبن مع الحوامض أو الأسماك ، لأنهما يورثان أمراضا منها : الجذام – البرص.
- ومن الكتب التي استفاد منها الغرب استفادة وافية كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي من أهل ق 05 هـ. وهو قاموس في الطب يمتاز عن سواه بالقسم الجراحي.
- وكتاب (التيسير) لعبد الملك بن زهر الأندلسي – الذي ألفه لابن رشد الفيلسوف في أواسط ق 06 للهجرة.

- الأطبــــاء المسلمـــون :
بلغ عددهم في بغداد وحدها زمن المقتدر باليه في أول ق 04 للهجرة (860) طبيبا.
كما بلغ عـدد الأطباء النصارى الذين خدمـوا المتوكل أواسط ق 3هـ (56) طبيبا.
ما كان سيف الدولة إذا جلس حول المائدة جلس معه (24) طبيبا. ومنهم من كان يتقاضى أجرتين لتعاطيه مهمتين طبيبتين. ومنهم من كان يتقاضى ثلاث أجرات لتوليه ثلاث مهمات طبية.
وكان هؤلاء الأطباء طبقات ومتخصصين : (الجراح – الفاصد – الكحال – الأسناني – علاج النساء – المجناني. إلخ).
وقد كثر الكحالين في مصر أكثر من غيرها لإنتشار أمراض العين بهذه المنطقة.
كما نبغ عدد لا بأس به من النساء الطبيبات منهن :
- أخت الحفيد بن زهر الأندلسي – وابنتها : في مداواة النساء و كانتا تدخلان على نساء المنصور ، ولم يكن يقبل سواهما.
- ثم اشتهر في أيام بني أمية (زينب) طبيبة بني أود. وكانت على دراية واسعة بالجراحة و أمراض العين. و (شهدة الدينورية) و (بنت دهن اللوز الدمشقية) وغيرهن.
وكان الفحص الطبي عنـدهم يقتصر على فحص البول ، ونبض القـلب وكان المريض يحضر معه زجاجة بول.
- والعرب هم أول من استخدم المرقد(البنج). وهم الذين تفطنوا لعلاج الأظافر – و اليرقان (بوصفار) ، واستخدموا الأفيون لمعالجة الجنون.
ووصفـوا صب المـاء لقطع النـزف ، وعـالجـوا خلع الكتـف بالطريقـة المعروفة في الجراحة. ووصفوا إبرة الماء الأزرق (قدح العين) ، وأشاروا إلى عملية تفتيت الحصاة ، وهم أول من كتب في فروع الطب مثل الجذام. وأول من كتب فيه (يوحنا بن ماسويه). وهم أول من وصف الحصبة و الجدري في كتاب (أبي بكر الرازي).
- وفي الصيدلة استطاعوا جلب العقاقير من الهند وغيرها ، وذلك في أيام (يحي بن خالد البرمكي). وهم أول من إشتغل بتحضير العقاقير.
- وهم أول من أسس (الاقرباذين) أي المستشفيات ، وأول مستشفى أسسه (بابور بن سهل) المتوفى عام 155 هـ. وهم أول من أنشأ حوانيت الصيدلة على الصورة الحالية. وهم أول من أسس علم الكيمياء الحديثة بتجاربهم و مستحضراتهم ويعتبر (خالد بن يزيد) أول من نقل إلى العربيـة عن المدرسـة الإسكندريـة ، ثـم أخذ عنه (جعفر الصـادق المتوفى 140 هـ). ثـم بعـده (جابـر بن حيـان) ، ثم (الكندي) ، ثم (أبو بكر الرازي).
- وبشهادة الغرب فإن الفضل يعود للعرب في إكتشاف واستحضار ماء الفضة (الحامض النتريك) ، وزيت الزاج (حامض الكبريتيك) ، وماء الذهب (حامض النتروهيدروكلوريك) – و البوتاس ، وروح النشادر وملحه ، وحجر جهنم (نترات الفضة) ، والسلمياني (كلوريد الزئبق) والراسب الأحمر (أكسيد الزئبق) ، وملح الطرطير ، وملح البارود (نترات البوتاس). والزاج الأخضر (كبريتات الحديد) ، والكحول الزونيخ ، واليورق ، وغير ذلك من المركبات.
- وقد أشار ابن الأثير إلى أدوية إستخدمها العرب في واقعة الزنج عام 269 هـ ، إذ طلي بها الخشب امتناعا لإحراقه.
- وهم أول من استحضر البارود ، ووصفوا التقطير ، والترشيح، والتصعيد ، والتبلور، والتذويب. وكان أول من اكتشف ذلك هو الحكيم (يعقوب الكندي) في أواسط ق 03 هـ.
- أما علم النباتات و الأعشاب فقد عرفت النهضة العباسية بعد أن أخذت من مؤلفات (ديسقوريدس ، وجالينوس) ومن كتب الهند في أيام المتوكل – حيث نقل (اصطفان بن باسل) من اليونانية إلى العربية. ثم جاء بعده (ابن البيطار) في ق 07 هـ حيث تناول الكتاب المذكور سابقا بالدراسة. ثم سافر إلى اليونان ، ثم إلى أقصى بلاد الروم واجتمع بكثير ممن كان لهم باع في هذا المجال ، ثم اتجه صوب الشام ودرس نباتاتها ، ثم جاء الديار المصرية في خدمة الملك (الكامل الأيوبي) الذي كان يعتمد عليه كثيرا وبعد طول ألف كتابه في النبات الذي هو فريد في بابه وعليه اعتمد الغرب في نهضتهم الأخيرة.
- ثم برز في علم النبات (رشيد الدين بن الصوري) المتوفى 639 هـ صاحب كتاب (الأدوية المفردة) الذي كان يعتمد في أبحاثه النباتية على المصورين،حيث كان يخرج إلى البطحاء والمروج،والمزارع للدراسة
- المرستان أو البيمارستان لفظ فارسي معناه مكان معالجة المرضى يقابله اليوم المستشفى. غير أنها كانت في العهد السابق تشتمل على تـدريس الطب و التمريـض معـا وقد أنشأها العرب على منوال الفرس لا سيما (مارستات جنديسابور).
- وأول من أنشأ المستشفيات في الإسلام (الوليد بن عبد الملك) الأموي بدمشق عام 88 هـ. ثم العهد العباسي أنشأ المنصور أول مستشفى بعدما استقدم أطباء من مارستان جنديسابور. كما أنشأ دور لمعالجة المجانين و العميان و الأيتام.
- وأنشأ الرشيد المستشفيات معتمدا في ذلك على طبيبه (جبرائيل بختيشوع) في بغداد.
- ثم أنشأ (الفتح بن خاقان) وزير المتوكل في مصر مستشفى أطلق عليه اسم (المغافر).
- ولما تولى (ابن طولون) حكم مصر أنشأ مستشفى سنة 259 هـ عرف باسمه ، وأنفق عليه (000 60 دينار) ، ووضع رهن إشارة العامة. ثم بدأت تنتشر المستشفيات ببغداد وضواحيها بعد ذلك.
- قسم الدكتور عبد الحليم عقبي تاريخ الطب عند العرب و المسلمين إلى مرحلتين.

أ- مرحلة الترجمة و التحصيل :
وهي التي أفرد لها ابن أبي أصيبعة (بابا لنقله عن الأطباء). وهـذه المرحلة تمتد من بداية ظهور الإسلام إلى حوالي سنة 235 هـ / 850 م.
وكان أغلب أطبائها من المسيح المحليين أو المستوطنين من السوريين أو البيزنطيين ، وقد نقلوا أغلب النصوص إلى السريانية أولا ثم إلى العربية وأول من قام بهذه المهمة الضخمة (النساطرة) الذين منهم (سرجيوس) الذي عمل في مدرسة جنديسابور في أول الأمر ثم في بغداد.
في الوقت نفسه ظهر كطبيب يعقوبي أصله من مدينة (نينوى) بالعراق هو (أبو زكريا يوحنا بن ماسويه) الذي خدم ستة (06) من الخلفاء على التوالي منهم (هارون الرشيد – المأمون) ترك أثارا هامة منها (الكناشة – كتاب الأقراباذين) – وبعض الملاحظات حول تشريح القردة – والرمد – وأمراض النساء –والتغذية).
ومن أشهر تلاميذته (حنين بن إسحاق) وهو نسطوري من الحيرة عمل بدمشق وبغداد – كان المترجم الرسمي للمأمون ، و المتوكل وطبيبهما الخاص ويرجع إليه الفضل في ابتكار المصطلحات الطبية العربية ، وقد عرب نحو (200) مؤلف ووضع كتاب (العشر المقالات في العين) وهو أقدم ما ألف في أمراض العين بطريقة علمية.
- ثم أتم عمله بعده ابنه إسحاق ، وابن أخيه حبيش الذي عرّب قسم (أبقراط) من تلاميذته (عيسى بن يحي) (وعيسى بن علي الرمدي) (وقسط بن لوقا البعلبكي).
- ثم جاء (يوحنا بن سرافيون) يوحنا الدمشقي السرياني الأصل الذي ألف (الفصول) و (الكناشة) ترجمهما جيرار دي كريمون) ترجمة طبقت أول مرة في البندقية سنة 1469 م.
أما العرب فقد كان طبّهم في بدايته أعجميا لقلة العرب المهتمين بهذا المجال.

ب- مرحلة الأصالة و الاستنباط :
وقد بدأت مع بداية (ق 3 هـ)، وفيها نشأ أكبر فلاسفة العرب و أطبائها أمثال (الرازي – ابن سينا – الزهراوي – ابن رشد – المجوسي). وبعضهم من الفرس ، والبعض من الأندلس وقد انحصرت الإتجاهات العلمية والطبية في أربع اتجاهات :
1- الملاحظة الاكلينكية الدقيقة والتدريس إلى جانب السرير والمستشفيات.
2- الكيمياء وكان رائدها عراقي من الكوفة ( أبو موسى جابر بن حيان) (83 هـ - 148 هـ) (702 م – 765 م) الذي دارت الأساطير حول صورته ومازالت مصطلحاته وتسمياته في الكيمياء سائدة في كل لغات العالم إلى اليوم.
3- علم النبات وخواصه حيث أضاف العرب إلى تراث (ديسوقريدس) مفردات عدة أخذوها عن آسيا و إفريقيا.
4- تحسين و تنظيم المستشفيات التي ورثوا فكرتها عن بيزنطة. هذه الاتجاهات الأربعة هي الميزات التي جعلت الطب العربي سراجا وهاجا أضاء العالم قرونا عديدة و يمكن أن نذكر باختصار أربعة ممن شاركوا في هذه النهضة :
أ‌- أبو بكر الرازي محمد بن زكريا.
ب- الشيخ الرئيس ابن سينا.
جـ- علي بن العباسي المجوسي.
د - أبو القاسم الزهراوي.

ملاحـــظات عـــــــامـة :
- جالينوس اليوناني ظهر في عهد عيسى عليه السلام.
- قال عليه الصلاة والسلام : «أنتم أعلم بأمور دنياكم ...» عندما رأى العرب تلقح النخيل.
- البابليون و الكلدانيون و الأنباط هم الذين اشتغلوا بالسحر و الطلسمة وبالغوا فيها إلى درجة الشرك. معتمدين في ذلك على كتاب (طمطم الهندي). ثم ظهر بالمشرق (جابر بن حيان) كبير السحرة في هذه الملة- تفحص كتب الأقدمين في هذا المجال ، وأخرج صناعته ، ومنها الكيمياء.
- ثم جاء (مسلمة بن أحمد المجريطي) إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع الكتب السابقة و نقحها.
- وهو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم «حتى أنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله» سحر له في مشط – وفي جلف نخل – ودفن في بئر ذروان فنزل قوله تعالى: «من شر النفاثات في العقد..» قالت عائشة رضي الله عنها: «كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت».
1- البابليون هم الكلدانيون من النمط و السريانيين – فقد انتشر عندهم السحر بشكل فضيع ( زمان بعثة موسى عليه السلام).

الهـوامـــــــــش
- أحمد بك كمال – بغية الطالبين في علوم وفوائد المصريين. ط / بولاق – 1309 هـ.
- ابن أبي أصيبعة– طبقات الأطباء– (جزآن)–ج/1 ص 124.(1882). مصر.
- ابن سينا – القانون – ج / 1 – ص 107.
- الأصفهاني – الأغاني –ج / 14 – ص 132 – ط/بولاق – (1885م).
- ابن خلكان – المعجم – ج / 1 – ص312 (الانسكلوبيدية).
- ابن الأثير – الكامل في التاريخ – ج / 7 – ص 151 – (12 جزء)-1302 هـ. مصر.
- الهلال الصابوني – الوزراء – ص87 –(1904 م) – بيروت – لبنان.
- كاتب جلبي– كشف الظنون – (جزآن)– ج/2 – ص 341 –(1311هـ)الاستانة.
- ألعاملي – الكشكول – ص 05 – (1961 م) – العدد الثالث – مصر.
- Encyclopédie – Brait Art à Médecine.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-10-2022, 03:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

علم الشفرة

يعنى علم الشفرة Cryptology بتحويل نص واضح إلى نص آخر غير مفهوم باستعمال طريقة معينة يستطيع من يعرفها ان يفهم النص والعملية العكسية التي يتم بها تحويل النص المكتوب بالشفرة إلى نص واضح مفهوم تعرف باس «تحليل الشفرة».Cryptanalysis
ويحظى هذا العلم باهتمام كبير في عصرنا الحاضر بالنسبة لحكومات والمؤسسات والأفراد على حد سواء، نظراً للحاجة إليه في الحفاظ على المعلومات في المجالات العسكرية، وفي الميادين الصناعية والتجارية والسياسية والاقتصادية، وفي أغراض الاتصالات، وغير ذلك. وتستخدم الدول المتقدمة أحدث التقنيات والحاسبات العملاقة لتطوير قدراتها وتحقيق تميزها في هذا العمل .
وقد عرف علم الشفرة وتحليلها عند العرب باسم «التعمية واستخراج المعمى» ، وكان لهم دور رائد في تأسيسه وتطويره والتاليف فيه من زوايا مختلفة، فصنفوا عدداً لا بأس به من المخطوطات، منها:« رسالة الكندي في علم التعمية واستخراج المعمى» وهي أول رسالة عربية يعود تاليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وكتاب «المؤلف للملك الأشرف في حل المترجم» (ت 666هـ إلى 1268م)، وكتاب «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» لجابر بن حيان الكيميائي (ت 200هـ إلى 815 م) وكتاب «حل الرموز وبرء الأسقام في كشف أصول اللغات والأقلام» لذي النون المصري ثوبان بن إبراهيم (ت 245هـ إلى 859 م)، وكتاب «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» لأحمد بن علي بن وحشية (ت بعد 291 هـ إلى 914 م)، وكتاب «خصائص المعرفة في المعميات» لأسعد بن مهدى بن مماتي (ت 606 هـ إلى 1209 م)، وكتاب «مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة» لإبراهيم بن محمدين (ت 627 هـ إلى 1228 م)، وغير ذلك كثير. هناك من اشتهر بخبرته وكثرة مؤلفاته في هذا العلم، مثل علي بن محمد الدريهم (ت 762 هـ إلى 1361م) صاحب كتب «مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز» و «إيضاح المبهم في حل المترجم»، و «مختصر المبهم في حل المترجم» و «نظم القواعد في المترجم وضوابطه».
وقد اعترف كبير مؤرخي علم الشفرة المعاصرين «دافيد كان» D. Kahn في كتابه The Code Breakers بان هذا العلم ولد بشقيه بين العرب، ونسب اليهم الفضل الأول في اكتشاف طرق حل الشفرة وتدرينها قبل الغرب بمدة طويلة، وأقر بان هذه الحقيقة التي توصل إليها عن ريادة العرب في علم الشفرة تعتبر أهم انجاز تاريخي في كل ما احتواه كتابه .
It showed that the Arab had practiced cryptanalysis long before the west، and provided me with the most important historical break through in my whole book.
والباحث عن مؤلفات المسلمين الأوائل في علم الشفرة (أو التعمية) يجد انهم استحدثوا عدة طرائق ، لعل أبسطها طريقة القلب أو البعثرة، وتكون بتغيير مواقع حروف الرسالة وفق قاعدة معينة، كان تبدل الأول من الكلمة بالآخر منها، مثل: (رضوان ـ نضوار)، أو تقدم الحرف الأخير، نحو: (قاسم ـ مقاس)، أو تقلب حروف كل كلمة ضمنها، أي تكتبها معكوسة، مثل: (أحمد أخو علي ـ دمحا وخا يلع).
وهناك أيضاً طريقة التعمية بالاستبدال أو التعويض، وتقوم على ان يبدل كل حرف بحرف أخر، أو رمز من خارج النص وفق قاعدة محددة كان يبدل الحرف بما قبله على ترتيب حروف المعجم، مثل: (محمد ـ لجلخ)، أو يبدل كل حرف بما بعد، مثل: (محمد ـ نخنذ). وقد يكون التبديل بوضع الحروف على أسماء الأعلام، فيجعل لكل حرف اسم رجل أو غيره، أو على أسماء النجوم، أو الشهور، أو البلدان، أو الأذهان، أو العقاقير، أو الأشجار. ويمكن ان يكون التبديل على أسماء الأجناس، فيجعل لكل حرف اسم جنس مثل: الانام، والبشر، و البقول، والتراب والتوابل، والثياب، والجلود، والحديد، أو الحبوب، والخشب… إلى آخره.
وأشهر أنواع التعمية بالتبديل استعمال أشكال مبتكرة للحروف يخترعها المترجم أبجدية جديدة له على ترتيب حروف المعجم، وطريق ذلك كما يقول ابن الدريهم: ان «يثبت حروف المعجم، ثم يرتب تحت كل واحد شكلاً لا يماثل الآخر، فكلما جاء في اللفظ ذلك الحرف كتبه بحيث لا يقع له غلط، ثم يفصل بين الكلمات إما بخط أو بنقط أو ببياض أو دائرة أو غير ذلك» .
وعرف المسلمون طرائق أخرى مركبة أكثر تعقيداً تشمل تعمية المعاني بالتورية، واستعمال الصفات الكمية أو الكيفية للحروف، واستعمال الكلمات المحتملة، وغيرها ولعل الكندي كان أول من قام بإحصاء الحروف في الكلام المزيد لاستعمالها في حل الشفرة، وذلك اعتماداً على ما ورد في نص معين، فيكون الأول لأكثرها عداً، والثاني للذي يليه، وهكذا تتوالى مراتب الحروف في الاستعمال لتقابل بمراتب الرموز المستخدمة في الرسالة المعماة.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان مراتب الحروف تختلف باختلاف المادة اللغوية المحصاة، فمراتبها في إحصاء حروف القران ـ وهو أسبق من إحصاء أهل التعمية، لانه يعود إلى عصر الصحابة رضوان الله عليهم ـ تختلف قليلاً عن مراتبها في إحصاء الكلام العادي لنصوص فيها المزيد والمجرد، ومراتبها في كلا الإحصائين تختلف عما هي عليه في إحصاء الحروفذ إذا كانت مادة الإحصاء هي الجذور العربية لاشتمالها على الأصلي من الحروف دون الزائد.
وقد توفر المسلمون على العناية بحل الشفرة على أساس علمي تلبية لضرورات حضارية إبان استقرار الدولة الإسلامية واستحبار العمران ونشاط حركة الترجمة، بغية كشف ما رمزه الأقدمون من علومهم وكنوزهم في آثارهم التي ترجمت انذاك. وتشهد كنوز التراث الإسلامي ان الكندى سبق الإيطالي «ألبرتو» بسبعة قرون إلى وضع أول مخطوط في استخراج المعمي، وهو أيضاً أول من عرف مبدأ استعمال الكلمة المحتملة، وأول من فرق بين طريقتي التعمية بالبعثرة والاستبدال قبل «بورتا» في القرن السادس عشر الميلادي. كذلك كان ابن الدريهم أول من عرض طريقة التعمية باستعمال شبكة بسيطة، سابقاً بذلك «كاردانو» بقرنين من الزمان.
انها صفحات منسية من تراث المسلمين تنتظر من بعيد قراءتها بلغة عصرية، ليؤكد قيمتها التاريخي في سيرة علم الشفرة الذي بلغت أهميته الذروة في عصرنا الحاضر، عصر الحاسبات الإلكترونية وما تحويه نظم المعلومات من قواعد بيانات تحتاج إلى الحفظ من العبث أو السرقة عن طريق تعميتها، سواء أثناء تخزينها أو عند نقلها عبر خطوط شبكات الحاسبات .
علم البيزرة

تتفق المصادر على أن ـ كلمة البيزرة مأخوذة من اسم «الباز» أو «البازي» وهو نوع من الصقور، ولعل الاقتصار في إطلاق اسمه على هذا العلم دون غيره، يرجع إلى كونه أشهر طيور الصيد وأمهرها في الإمساك بالفريسة. وقد وصفه أبو عبد الله القزويني في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» بانه أشد الجوارح تكبراً وأضيقها خلقاً (مزاجاً)، ويوجد بأرض الترك، والغالب عليه بياض اللون.
و «البيزرة» هي حرفة «البيزار» الذي يدرب جوارح الطير على الصيد، وهي كلمة فارسية الأصل، أخذت من كلمة «البازيار»، أو «البازدار»، وهما تعنيان: القائم بأمر «البازى» أو الحامل له في الصيد، ثم عربت الكلمة إلى «البيزار» ويري الدميري في كتابه >. حياة الحيوان الكبرى» ان كلمة «البيزرة» عربية الأصل.
و« علم البيزرة» ، هو الذي يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث أصنافها، وتربيتها، وحفظ صحتها ومداوتها من الأسقام والأمراض التي تعرض لها، ومن حيث صفاتها وعلاماتها الدالة على قوتها في الصيد أو ضعفها فيه، وقد ألحق البعض هذا العلم بطب الحيوان (البيطرة). وقالوا: هو فرع منه، داخل فيه، ومن جملته.
ولا يعرف على وجه الدقة أول واضع لقواعد علم البيزرة وفنونه، فقيل: انه علم هندي المنشأ، وقيل: ان «بطليموس» الذي خلف «الإسكندر» هو أول من اقتنى البزاة، ولعب بها وضراها على الصيد، ثم لعب بها الملوك بعده.
وكان الصيد عند العرب حرفة وهواية مشهورة وقد أشار القران الكريم إلى تدريب الجوارح، فقال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (المائدة: 4).
وقد عني الأمويون والعباسيون بتربية الجوارح، وجعلوا لها أعطيات من بين المال، وكان يطلق على «البازيار» في عهد الدولة الأموية «صاحب الصيد»، كما عرفت في الدولة العباسية وظيفة «أمير الصيد» الذي يدبر أمر الصيد ويقوم عليه، واقتدت الدولة الفاطمية بالدولة العباسية في باب العناية بالطيور وصيدها بالجوارح وما يصلحها. ثم ثار للصيد بالطير أهمية كبري في عصر المماليك، وكانت وظيفة «صاحب الصيد» أو «أمير الصيد» من الوظائف التي يشغلها العسكريون، وكان القائم بها يضطلع بالإشراف على الجوارح من الطيور وغيرها وسائر انواع الصيد السلطانية، وكما كان يقوم بتنظيم جميع أمور الصيد، ويعاونه غلمان يكلفون بتزويد بيوت الطيور بالحمام وغيره من طيور الصيد لتغذية الصقور والجوارح وتدريبها ولم تكن وظيفة «أمير الصيد» تقتصر على رسوم السلطانية وحدها دون غيرها، بل كان عند بعض الأمراء في العصر المملوكي من يشغل تلك الوظيفة.
وقد تنوعت مساهمات العلماء المسلمين في علم البيزرة وتوسعوا في مباحثه التي اتصلت بعلوم أخرى، كالطب، والصيدلة، ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) واللغة، والفقه، ومن ثم نشأ عن ذلك تراث ثري في مجال البيزرة، فمنه ما عني بالجانب اللغوي، مثل: كتاب «الطير» للسجستاني، وكتاب «الوحوش» للأصمعي، وكتاب «البازي» وكتاب «الحمام»، وكتاب «العقاب» لأبي عبيدة ومنه ماعني بالناحية الفقهية وحكم الشرع في اصيد بالجوارح، مثل: كتاب «الصيد والذبائح» للإمام الشافعي، وكتاب «الصيد والذبائح» لمحمد بن الحاسب صاحب «أبي حنيفة». ومنه ما تناول علم البيزرة العام، مثل كتاب «الكافي في البيزرة» لعبد الرحمن بن محمد البلدي، وكتاب «الجمهرة في البيزرة» لعيسي الأزدي، وكتاب «المصايد والمطارد» لكشاجم، وكتب «البيزرة» لبازيار العزيز بالله الفاطمي، وكتاب «نزهة الملوك والسادات بالطيور والجوارح والجياد الصافنات» لمؤلف مجهول (وهو مطبوع) وكتأبي «البيزرة» و «ضواري الطير» «للغطريف بن قدامة الغساني» . ونجد «البلدي» على سبيل المثال في كتابه «الكافي في البيزرة» قد أوضح الأسس المنهجية لهذا العلم، فذكر ان البيزرة صناعة تنقسم إلى أربعة أقسام يقع كل منها في أربعة أبواب:
أما القسم الأول فيتناول معرفة أجناس الجوارح، ويبحث الباب الأول منه في عدد أصناف الجوارح، والباب الثاني في الفرق بين كل جنس منها والآخر، والباب الثالث في ذكر النافع من أصنافها، والباب الرابع في عدد ألوانها.
ويعني القسم الثاني بمعرفة النوع الفاضل المختار من الجنس النافع من الجوارح، ومعرفة الردئ منها. وبتناول الباب الأول من هذا القسم معرفة الجيد والردئ من قبل معدنه. والثاني معرفة الجيد والردئ من قبل صورته وهيئته، والثالث معرفة الجيد والردئ من قبل لونه، والرابع عرفة الجيد والردئ من قبل أخلاقه وأفعاله.
ويعني القسم الثالث بمعالجة «تدبير الجوارح النافعة ورياضنتها» ويبحث الباب الأول منه في ذكر أول من لعب بالضواري وتصيد بها، والثاني في وصية المتعلم لهذه الصناعة والمتعرض لها، والثالث في نعت الإجابة والتعلم لكل نوع، والرابع في تقدير طعم الضواري على طبيعة كل واحد منها.
ويتناول القسم الرابع «مداواة أمراض الجوارح» وفيه أربعة أبواب: الأول: في صفة طبائع الجوارح الضواري وأمزجتها وامتحانها عند ابتياعها، والثاني: في ذكر أسباب أمراضها وعلامات كل مرض، والثالث: في صفة مداواتها وعلاج أمراضها وتدبير أدويتها، والرابع: في تدبير قرنصتها وعلامات موتها وهلاكها.
ويتضح من هذا العرض المنهجي لموضوعات علم البيزرة انه متصل بعلوم أخرى أهمها علم البيطرة، وقد عني «البلدي» بالبحث في طب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات قيمة عن انواع الطفيليات التي تصيبها، منها قوله عن الديدان في دبر الطائر:«علامة الدود إذا كان في دبر الجارح، ان تراه يحك دبره دائماً وذرقه متصل على حاله لا خضرة فيه بل متغير الشكل الطبيعي، وربما خرج الكبار يأكل القمل الصغار. والقمل ينشف رطوبة الطير حتى يتركه جلداً وعظماً ان لم يعالج».
كذلك عني الغطريف الغسائي في كتابه «ضواري الطير» بطب الطيور الجارحة، وسجل ملاحظات دقيقة، منها قوله عن ديدان الحوصلة:«إذا رأيت الطائر قد ألقي ريمحه فكان له الدود، فاعلم ان في حوصلته دوداً». وقوله عن الديدان المعوية:« إذا رأيت الطير قد ورم ما فوق كتفيه، فاعلم ان في بطنه ديداناً عراضاً مثل حب القرع (الديدان الشريطية) التي تكون في الصبيان» وقوله أيضاً: «ان ترى الطير ينتف ريش مراقه، أو ينتف ريش فخذيه، فذلك يدل على العراض، أمثال دود الخل يعرض للصبيان في بطنه» .
إلى جانب المؤلفات التراثية التي استقلت بموضوعات علم «البيزرة» من جوانبه المختلفة، هناك من عرض فصولاً مطولة عنه، كالجاحظ ي كتابه «الحيوان»، والقزويني في كتابه «عجائب المخلوقات» والدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى».
وقد صيغ علم «البيزرة» شعراً، فوضع «ابن نباتة» أرجوزته «فرائد السلوك في مصايد الملوك»، وألف الفحيمي قصيدة في البيزرة.
ومن الجدير بالذكر ان عدداً من الكتب التراثية المعنية بعلم البيزرة قد ترجم في عصر النهضة الأوربية الحديثة إلي اللغة اللاتينية، ثم انتشرت هذه الترجمات بعد ذلك في مختلف بلدان أوروبا، وانتشرت معها رياضة الصيد بواسطة الصقور.
علم الطفيليات

هناك من بين المعنيين بدراسة إسهامات المسلمين في الحضارة الانسانية من أعطى اهتماماً كبيراً لعلوم الطب والصيدلة والأحياء في التراث الإسلامي بصورة عامة، ولا شك في ان الأبحاث والدراسات المعاصرة في كشفت عن الكثير من انجازات علماء الحضارة العربية الإسلامية في هذه الميادين التي أصبحت في عصرنا تتألف من فروع عديدة يشكل كل منها علماً مستقلاً. وهنا نجد ان مبحثاً حديثاً مثل «علم الطفيليات» Parasitology يكاد يكون منسياً أو مغموراً في المؤلفات التراثية، اللهم إلا من بعض الدراسات المحدودة التي تحتاج إلى مزيد من التطوير والتعميق .
ومن يتناول مؤلفات علماء الحضارة الإسلامية باحثاً عن أصول علم الطفيليات، سوف يجد الكثير من الحقائق العلمية والمنهجية التي تنسب زوراً وبهتاناً لعلماء الغرب دون أدنى إشارة إلى مكتشفيها الأصليين في العصر الإسلامي، فقد عرضت مراجع التراث الطبي للمسلمين ملاحظات دقيقة عن انواع الطفيليات التي تعيش داخل الجسم والتي تعرف اليوم «بالطفيليات الباطنية» Endoparasites التي تعيش على ظاهر الجسم، ولا يقلل من أهمية هذه الملاحظات الدقيقة انها كانت تعتمد في اكتشافها على ملاحظة الديدان الطفيلية بالعين المجردة، أو على الأعراض المرضية الدالة على وجودها. من ذلك ما جاء في المراجع التراثية عن أوصاف بعض «الطفيليات الأولية» Protozoa، مثل انواع الأميبا التي تعيش في جدار وتجويف الأمعاء الغليظة وتسبب مرض الدوسنتاريا Dysentry ، وما جاء عن أعراض بعض الأمراض، مثل حمى الملاريا التي كشف العلم الحديث عن طفيليانها التي تصيب الانسان من جنس «البلازموديوم» Plasmodium.
وتوافق المراجع الحديثة ما جاء في كتاب «الحاوي» لأبي بكر الرازي عندما ربط في ملاحظاته السريرية للإصابة بالملاريا بين نوبات الحمى وبين حالة تضخم الطحال المعروفة علمياً باسم Splenomegaly ، حيث قال:«…. الحميات التي تبتدئ بنافض أعلم انها من التي تنوب بأدوار، وذلك ان الغب والربع في الأكثر تحدث مع نافض شديد، ولكن يعقب حميات مختلفة، أما النائبة كل يوم فلا تكاد تحدث إلا مع علة في فم المعدة، على أن (حمى) الربع لا تكاد تحدث إلا مع علة الطحال» .
أما الديدان الطفيلية المعوية فقد تحدث عنها الرازي في كتابه «القانون مراجع التراث الطبي الإسلامي بين أربعة من هذه الديدان. هي الديدان العراض (المعترضة). أو الشريطية Taenia والديدان العظام (الكبار)، المعروفة حالياً «الإسكارس» Ascaris والديدان الصغار التي تشبه الدود المتولد في الخل وتسبب داء «الدبوسيات» Enterobiasis والديدان المستديرة، أو الشصية Hook Warm ، لاسيما الانكلستوما. وقد أشارت المراجع الحديثة إلى أنواع الديدان الشصية التي تعيش في الأمعاء الدقيقة وتتغذى على الدم والانسجة مسببة داء الانسيلوستوما (الشصيات) Ancylostomiasis .
وتجدر الإشارة في هذا الشان إلى ما اكتشف حديثاً من ان الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» هي ما نسميه الان «الانكلستوما» وقد أعاد دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838 م، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بأكثر من ثمانية قرون، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة «روكفلر» الأمريكية التي تعنى بجمع كل ما يكتب عن هذا المرض .
وتطرقت المراجع التراثية أيضاً إلى بعض انواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيداً عن القناة الهضمية، مثل ديدان العين التي تفضل منطقة العين، و«ديدان الفلاريا» المسببة لداء الفيل الذي وصفه الرازي في كتابه «المنصوري» بقوله:«ان هذا الداء إذا استحكم لم يبرأ، أما إذا لوحق في ابتدائه وعولج بما ينبغي برأ ووقف ولم يتزايد»، وقال عنه يعقوب الكشكري في كتابه «كناش في الطب» الذي وصفه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي): «إذا امتلأت عروق الدوالي بالدم العكر في الساقين وورمتا ورماً عظيماً حتى صارتا أشبه برجل الفيل، ولا يتهيأ للمريض ان ينهض بهما من عظمتهما، فان هذه العلة تسمى داء الفيل» .
أما بالنسبة لأنواع الطفيليات الخارجية التي تصيب جسم الانسان، فقد كثر الحديث عنها في مؤلفات الأطباء والعشابين، خاصة الصئبان والقمل الذي يتولد في الرأس وسائر الجسد.
من ناحية أخرى، لم يقتصر علم الطفيليات في التراث الإسلامي على تناول الطفيليات التي تصيب الانسان، بل انه امتد ليشمل بعض انواع الطفيليات التي تصيب الحيوان والطيور .
وليشمل أيضاً طرق المكافحة والعلاج وتحضير الأدوية من الأعشاب والنباتات الطبية التي ورد ذكرها للإفادة، بعد إجراء الاختبارات اللازمة على ما فيها من مواد فعالة باستخدام تقنيات العصر المتطورة.
وإذا كانت كل هذه المعلومات تؤكد دور علماء المسلمين الرائد في تأسيس علم الطفيليات استناداً إلى منهج تجريبي رائد، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اننا نعمد إلى مقارنته بالحالة المتقدمة التي وصل إليها في عصرنا الراهن، وان كنا ندعو أهل الاختصاص إلى بذل المزيد من الجهد لاستيفاء المعلومات التراثية الناقصة في هذا المجال، وذلك بالقراءة المتانية لمؤلفات الرازي وابن سينا والبغدادي والقيرواني والجاحظ، والبلدي والغطريف الغساني وابن زهر وغيرهم.

أحمد فؤاد باشا

المراجع :

1- زكريا بن محمد بن محمود القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، شركة الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة، 1401 هـ – 198 م، ص 204.

2- محمد مروان السبع، أعمال ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، 1990 م.

3- ناهد البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، عالم المعرفة، الكويت 1413 هـ – 1993 م.

4- عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، الحيوان، بيروت، 1978 م.

5- Sampson، A. W.، Range Management، Practices، John Wiley & Sons. New York، 1952.

6- محيي الدين قواس، أعمال الندوة “التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية” – طرابلس -ليبيا، 1990 م.

7- علي علي السكري، البيئة من منظور إسلامي، منشأت المعارف – الإسكندرية : 1995.

8- Ali، S. I، Hima – The Protected – area Concept in Islam، Journal of Islamic Thought and Scientific Creativity، OIC، vol. 7، No 1، 1996.

9- David Kahn، The Code Breakers، New Yourk، 1976.

10- J. H. Finch & E. G. Daugall، Computer Security: A Global Challenge، North Holland، 1984.

11- بازيار العزيز بالله الفاطمي، البيزرة، تحقيق : محمد كرد علي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1409 هـ – 1988م.

12 – أحمد فؤاد باشا، “مدخل البيزرة” دائرة سفير للمعارف الإسلامية، الجزءان 39 – 40، القاهرة، 1990.

13- عبد الرحمن محمد البلدي، “الكافي في البيزرة” ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983.

14- الغطريف بن قدامة الغساني، كتاب ضواري الطير، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 1984.

15- إسماعيل الحديثي وآخرون، علم الطفيليات، مديرية دار الكتب، جامعة الموصل، 1984.

16- محمد حسن الحمود، علم الطفيليات في التراث العربي، ندوة التراث العلمي العربي في العلوم الأساسية، طرابلس – ليبيا، ديسمبر 1990.

17- أحمد فؤاد باشا، التراث العلمي للحضارة ال؟إسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة، القاهرة، ط 2، 1984.

18- يعقوب الكشكري، كناش في الطب، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1985.


19- أحمد فؤاد باشا، “علوم منسية في تراث المسامين” (1)، مجلة المسلم المعاصر، ع 81 بيروت : 1996.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18-11-2022, 02:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي دور العرب في الرياضيات

دور العرب في الرياضيات
اللواء المهندس أحمد عبدالوهاب علي



لقد نبغ العرب في الرياضيات؛ فكان (الخوارزمي) أولَ مَن جعل الحساب علمًا قابلًا للتطبيق العملي، وهو الذي علَّم أوروبا طريقة الأعداد الجديدة، وكتابتها من اليمين إلى اليسار - كما يكتب العرب لغتهم - وأهمية استخدام الصفر، وخاصة في تبسيطه لعمليات الجمع والطرح.


و(الخوارزمي) هو صاحب الفضل الأكبر على علم الجبر، الذي خلق منه العرب علمًا مستقلًّا بفضل مؤلفات ودراسات أبو كامل، والبيروني، وابن سينا، والكراديسي وغيرهم - تلك المؤلفات التي نقل عنها كلٌّ من: (ليوناردو فون بيزا) ما خطَّه عن المعادلات التربيعية والتكعيبية، وكذلك (الجراف فون إيبرشتين) الألماني زعيم طائفة الدومنيكان - نقل عنها رسائلَه التي علَّمت أوروبا حساب العرب وجبرهم.


وفي عام 1845 أثبت الفرنسي (رينان) أن علم اللُّوغريتمات ينتسب إلى اسم العالم العربي: الخوارزمي.


كذلك نهَض العرب بحساب المثلَّثات، فكان الفلكي (القباني) أول من استبدل الأقواس بالأوتار، واستخدام تعبير: جيب/تمام الجيب الذي لم يعرفه الإغريق من قبل، وكان الفلكي (جابر) الذي برَع في علم المثلَّثات الكُروية، واستنبط من القوانين ما ساعد على حلِّ المثلث، والتقدم في علم الفلك.
••••

إن علماء الغرب يعترِفون بأن أوروبا قد بَنَتْ صرحها العلمي "على المجهودات العربية؛ فعن الفلكيين العرب أخذت أوروبا الحساب المعروف باسم الطريقة الستينية، وهو النظام القائم على اتخاذ الوحدة ستين قسمًا...، والعرب فقط هم الذين استكملوا الحساب الستيني، وبذلك أصبح حساب الفلكيين.


والعرب أيضًا هم الذين سبقوا أوروبا بنحو سبعمائة عام قبل إنجلترا وألمانيا، إلى إيجاد الحساب الخلافي (التفاضلي)، وصاحبَا الفضل في إيجاده: الطبيب الفيلسوف ابن سينا (890 - 1038)، واللاهوتي الغزالي (1053 - 1111)...، لقد أضاف ابن سينا - عن طريق بحوثه العلمية التي لم يسبقه إليها أحد - الكثير من النظريات الطبيعية، كذلك عالج اللانهائي ... في الطبيعة والرياضيات، ولا شك أن أوروبا لم تنتبه إلى مثل هذه النظريات الخاصة باللا نهائي... إلا في القرن السابع عشر الميلادي، بفضل أمثال: نيوتن، وليبنيتز...


فالعرب بأعدادِهم وآلاتهم، وحساباتهم وجبرهم، ونظرياتهم حول المثلَّثات الكروية، وعلوم البصريات، وغيرها - نهضوا بأوروبا، ودفعوها إلى الحركة العلمية دفعًا، ومن ثم استقلَّت، واكتشفت واخترعت، وتسلَّمت زعامة العلوم الطبيعية"[1].

[1] المرجع 6، ص 119 - 121.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-12-2022, 05:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية

الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية
أ. د. عبدالحليم عويس

إن الإحاطة بمآثر العرب ومنجزاتهم في علمَي الطب والصيدلة أمرٌ شاقٌّ جدًّا لا تتَّسِع لإبرازه هذه الدراسة الموجزة؛ ولذا فسوف نقتصر على إيراد بعض هذه المآثر أو المنجزات، وذلك فيما يلي:
أولًا: في مجال الطب:
أ- الالتزام بالمنهج التجريبي: سواء في التأليف والبحث، أم عند التطبيق والممارسة العلمية، ويقصد بالمنهج التجريبي في علم الطب (مجموعة الطرق والأساليب والقواعد، التي اهتدى إليها الأطباء المسلمون والعرب من خلال ممارستهم للمهنة)، فلم يكتفوا بالخبرة العملية، وما ورِثوه عن الأوائل، وإنما اعتمدوا على التشريح وعلم وظائف الأعضاء، كما استخدموا أسلوب التشخيص، بالإضافة إلى منهج العلة والمعلول واختبار الأدوية.

وينقسِم الأطباء المسلمون من هذه الزاوية إلى مجموعتين:
الأولى: مجموعة الممارسين الذين اهتموا في المقام الأوَّل بتشخيص المرض وعلاجه؛ معتمِدين على المشاهدات والملاحظات، وتأتي الفلسفة عندهم وسيلة لبلوغ هذه لغاية، ويمثل هذه المجموعة أبو بكر الرازي (المتوفى 320ه/ 932م)، وكان رئيس البيمارستان ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279 - 289ه/ 892 - 901م).

أما الفريق الثاني: فهم الذين درَسوا الطب على أنه جزء من المعرفة لا غنى عنه، وسَعْيُهم إلى استكمال المعرفة هو الذي دفعهم إلى تحصيل الطب بأسلوب منطقي؛ ولهذا أطلق عليهم "الفلاسفة الأطباء"، ويمثلهم ابن سينا (المتوفى 428ه/ 1036م)، وكلا الفريقين اتَّبع المنهج العلمي التجريبي، بصرف النظر عن كونه غاية أو وسيلة.

وإمعانًا من الأطباء العرب والمسلمين في عصر النهضة الإسلامية، وتقديرهم لأهمية الطريقة العملية - إلى جانب الدراسة النظرية في تعليم الطب والوصول إلى الحقائق العلمية - فإنهم لم يكونوا ليسمحوا بممارسة الطب إلا بعد اجتياز امتحان في كتب التخصص المعروفة في ذلك العصر، والتأكد من سَعَة ثقافة الطلاب النظرية والعملية في مجال تخصُّصهم، والوثوق من مهارتهم ومقدرتهم على التشخيص والعلاج، مثال ذلك ما ذكره ابن أبي أُصَيْبعة في "عيون الأنباء" أن الخليفة العباسي المقتدر بالله (295 - 320ه/ 907 - 932م) عهِد في عام (319ه/ 931م) إلى الطبيب سنان بن ثابت بن سنان بن قرة الحراني البغدادي بامتحان المتطبِّبين في بغداد، إثر وفاة أحد العامة نتيجةَ جهل أحد الأطباء، "وحدَّد لكلِّ واحد منهم ما يصلح له، وما يمكن أن يتصدى له، وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة ونيفًا وستين رجلًا، سوى مَن استُغني عن محنته (امتحانه) باشتهاره بالتقدُّم في صناعته، وسوى مَن كان في خدمة السلطان".

هذا، وقد اهتمَّ كبار الأطباء المسلمين بتأليف كتبٍ خاصة بامتحان الأطباء، وممن صنف في ذلك الطبيبُ الكبير والمترجِم القدير حُنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)[1].

(ب) الميل إلى التخصص في أحد فروع الطب:
فكان مِن بين الأطباء المسلمين متخصصون في مداواة الأمراض الباطنية، ويسمون "الطبائعيين"، ومتخصصون في الجراحة يطلق عليهم "الجرائحيون"، ومتخصصون في علاج العظام وتجبيرها يسمون "المجبِّرين"، وهناك مَن تخصص في طب العيون وهم "الكحالون"، أو في طب الأسنان، أو في طب النساء، إلى غير ذلك من فروع التخصص المختلفة.

وفيما يلي إشارة سريعة إلى تخصصينِ من هذه التخصصات؛ هما:
طب العيون:
تناول أطباء (بغداد/ المشرق) أمراضَ العيون بكلِّ عناية واهتمام؛ حتى قيل: "إن طب العيون من اختراع العرب"؛ حيث بلغ هذا العلم ذروته، بجهودهم التي ظلت الحجة الأولى خلال عصور طويلة، فلم يطاوِلهم في هذا الميدان لا اليونان من قبلهم ولا اللاتين الذين عاصروهم أو أتَوا من بعدهم.

ولا شك في أنَّ علماء العرب والمسلمين اعتمدوا على معلومات الإغريق (اليونان) في هذا العلم المهم، وقد ظهر أثر ذلك واضحًا في مؤلفاتهم، ولكنهم توصَّلوا بتجاربهم الخاصة إلى تطورات جديدة، مما جعل هذا الفرع يتطور على أيديهم تطورًا هائلًا، وأثمر مؤلفات هامة يأتي في مقدمتها كتاب "العشر مقالات في العين"، الذي صنَّفه الطبيب والمترجِم الكبير حنين بن إسحاق العبادي البغدادي (المتوفى 260ه/ 873م)، وهذا الكتاب اكتسب شهرةً واسعة في مجال الكحالة، بدليلِ أن المحتسب كان لا يسمح لأحدٍ بممارسة هذه الصنعة قبل التأكُّد مِن معرفته بمضمون هذا الكتاب[2].

وقد صنَّف علي بن عيسى الكحال (المتوفى سنة 430ه/ 1039م) كتاب "تذكرة الكحالين"، وهو مِن أشهر كتب العراقيينَ التي سطرت في هذا المجال.

قال عنه ابن أبي أصيبعة: "وهو الذي لا بد لكل مَن يعاني صناعة الكحل (طب العيون) أن يحفظه، وقد اقتصر الناس عليه دون غيره من سائر الكتب التي ألفت في هذا الفن وصار معروفًا عندهم".

ويتضمَّن هذا الكتاب معلومات قيِّمة عن تشريح العين وطبقاتها، ووصفًا مفصلًا لمائة وثلاثين مرضًا من أمراض العين، وعلاماتها، وطرق مداواتها بمائة وثلاثة وأربعين دواءً، كل ذلك ضمن ثلاث مقالات يتكون منها الكتاب: الأولى في تشريح أعضاء العين ووظائفها، والثانية في أمراض العين الظاهرة، والثالثة في الأمراض الباطنة للعين.

طب الجراحة:
حيث برع المسلمون في إجراء العمليات الجراحية، وأبدَوا مهارة فائقة في التعامل مع الأجزاء الدقيقة من جسم الإنسان؛ كالأعصاب، والعيون والأسنان، واستطاعوا تفتيت الحصيات داخل المثانة، واستئصال الأورام بأنواعها المختلفة؛ مستخدِمين في ذلك كلِّه الآلات والأدوات الجراحية المناسبة، والخيوط المصنعة من أمعاء الحيوانات، في تخييط الجروح بعد العمليات الجراحية.

ويرتبط التشريح بالجراحة ارتباطًا وثيقًا؛ ولذلك اشترط الأطباء العرب والمسلمون - على اختلاف تخصصاتهم - أن تكون لمَن يريد مزاولةَ الطب معرفةٌ بعلم التشريح ووظائف الأعضاء، وكان منهم مَن زاول التشريح بالفعل؛ إما للغاية العلمية، أو ابتغاء معرفة العلل والأمراض، وقد اختلفوا مع أطباء اليونان في كثير من آرائهم حول تشريح الأعضاء.

ويُعَدُّ الرازي (المتوفى 320ه/ 932م) مِن أوائل الأطباء المسلمين الذين كتبوا في علم التشريح ومارَسوه عن دراية واقتدار، وكان يؤكد على أن الطبيب يحتاج - لمعرفة علل الأعضاء الباطنة - إلى العلم بجواهرها أولًا، بأن تكون شوهدت بالتشريح، وإلى العلم بمواضعها من البدن، والعلم بأفعالها (الفسيولوجيا)، وبما تحتوي عليه (المورفولوجيا)، وبفضولِها التي تدفع عنها (طبائع الأمراض)؛ "لأن مَن لم يعرف ذلك لم يكن علاجه على صوب".

وممن مارَس التشريح على الحيوانات، الطبيب البغدادي يوحنا بن ماسويه (المتوفى 234ه/ 857م)، فقد قام بتشريح قردٍ كبير، وسجَّل ما توصل إليه من نتائج في كتاب له، قال عنه: "لم يوضع في الإسلام مثله"، وقد ذكر له ابن أبي أصيبعة من بين كتبه الطبية الكثيرة كتابًا يحمل عنوان "التشريح".

ج- بناء البيمارستانات:
عُنِي المسلمون عنايةً فائقة ببناء "البيمارستانات" لا في بغداد وحدها، ولكن في مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ تأسيسًا على إيمانهم بأن الرعاية الطبية حق لكل المواطنين، فقاموا بإنشاء البيمارستانات المتنقلة بجانب البيمارساتانات الثابتة، وملؤوا بها بقاع الإمبراطورية الإسلامية من بغداد شرقًا إلى بلاد المغرب والأندلس غربًا، كما عمَّت هذه المستشفيات بلاد الشام ومصر، حتى السجون كان الأطباء يدخلونها لعلاج المرضى فيها، وكانت البيمارستانات تنقسم إلى قسمين: ثابت ومتنقِّل؛ فالثابت ما كان يشيد في مدينة من المدنِ أو حي من الأحياء، وأما المتنقل، فهو الذي يُحمل ويُنقل مِن مكان إلى مكان بحسب الظروف والأمراض والأماكن المنتشرة فيها الأوبئة، وكذلك ظروف الحرب، فقد كانوا يُقيمون مستشفيات متنقِّلة في ميدان القتال في الخطوط الخلفية.

وقد شهِدت بغداد حاضرة العباسيين البداية الأولى لبناء البيمارستانات، ثم ما لبثت سائر المدن الإسلامية الكبرى أن تأثَّرت بها شرقًا وغربًا، وكانت تلك البيمارستانات مُعَدَّة لعلاج المرضى على اختلاف حالاتهم؛ فضلًا عن تدريس الطب فيها نظريًّا وعمليًّا، من خلال نخبة متخصصة من الأطباء والصيادلة.

وهكذا فلم تكن تلك البيمارستانات مؤسسات علاجية فقط، وإنما كانت معاهد علمية لتدريس الطب بالمعنى الصحيح، يَفِدُ إليها الطلاب من كل ناحية، يتلقَّون فيها العلوم الطبية، ويستمعون إلى شرح الأساتذة في حلقات تعقد في قاعات خاصة ملحقة بالبيمارستانات، أو في قاعات المرضى لملاحظة ما يقوم به الأطباء من تشخيص الأمراض، وإعطاء الأدوية اللازمة، وإجراء العمليات الجراحية.

مخطط البيمارستان:
بغضِّ النظر عن سَعَة البيمارستان التي تختلف من بيمارستان إلى آخر، ومقدار الزخرفة، ومساحة الحدائق الملحقة، وعدد النوافير الذي قد يختلف أيضًا؛ فإن البيمارستانات العربية الإسلامية كان لها مخطط أساسي يحتوي على:
1 - أقسام خاصة بالرجال، وأخرى خاصة بالنساء منفصلة عن الأولى.

2 - قاعات مرضى حسب التخصصات؛ فهناك قاعات أو عنابر مخصصة للمرضى المصابين بالحمَّى، وأخرى للأمراض العقلية والنفسية، وغيرها لمرضى الرمد، وهكذا.

3 - عنابر خاصة للناقهين من المرضى إلى أن يتم شفاؤهم، تحكى لهم فيها الحكايات المسلية.

4 - غرف للأطباء، للكشف على المرضى غير المنومين "عيادات خارجية".

5 - غرف لرئيس الأطباء وبقية الإداريين.

6 - قاعة محاضرات، يُلقِي فيها رئيس الأطباء دروسه، ويجتمع فيها مع تلاميذه.

7 - مطبخ لطبخ الأغذية الصحية؛ حيث كان الغذاء أحد طرق العلاج الرئيسية، وكذلك لطبخ الأشربة وغيرها من المواد العلاجية.

9 - صيدلية لتحضير الأدوية.
10 - مخازن.
11 - قاعة لغسل الموتى.
12 - مصلى "مسجد".
13 - مراحيض وحمامات.

بالإضافة إلى الباحات والأفنية والحدائق التي تحتوي على الأشجار والشمومات والمأكولات، وكثير من هذه البيمارستانات كانت تحتوي على سكن للعاملين فيها[3].

أما عدَّة الأطباء بالبيمارستان؛ فكانت تتوقَّف على سَعَته؛ فقد يكون به أربعة أو ستة أو عشرة أطباء أو كثر من ذلك، ويذكر أن البيمارستان المنسوب إلى عضد الدولة البُوَيهي في بغداد كان يضم أربعة وعشرين طبيبًا، ما بين طبائعيين وكحالين ومجبرين للعظام، وأطباء عيون، وذلك فضلًا عن الموظفين الإداريين، والفراشين والطباخين، وخدم المرضى، والصيادلة.

وكان الأطباء يتناوبون العمل في البيمارستان، فكان لكل طبيب وقت معين لزيارة قاعته التي يقوم فيها بمعالجة المرضى، وكان بعضهم يلازم البيمارستان يومًا واحدًا في الأسبوع، أو يومين، أو أكثر حسب عدد الأطباء، وربما لازم بعضهم البيمارستان ليلًا ونهارًا.

أقسام البيمارستان:
حيث إن الغاية من تشييد هذا البيمارستان تقديم الخدمات العلاجية للمحتاجين إليها، من الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم وسائر أمراضهم؛ من أمراض الأجسام قلَّت أو كثرت، اتَّفَقت أو اختلفت، وأمراض الحواس خفَّت أو ظهرت، واختلال العقول، التي حفظها أعظم المقاصد - فإن البيمارستان يحتوي على جميع التخصصات المتوفرة، ويقسم مبناه إلى أقسام حسب هذه التخصصات؛ ليحتوي كل قسم على عدة عنابر لإيواء مرضاه، وبحيث تكون عنابر النساء منفصلة عن عنابر الرجال.

نظام المعالجة في البيمارستان:
تتم المعالجة في البيمارستان والحصول على العلاج بإحدى ثلاث طرق:
1 - العلاج الداخلي:
إذا رأى الطبيب المعالج أن حالة المريض تستدعي التنويم في البيمارستان لتلقي العلاج، تعرض الحالة على رئيس الأطباء، الذي بعد موافقته يتم تحويل المريض إلى القسم المختص لحالته؛ حيث يقيم فيه لتلقي العلاج.

2 - العلاج الخارجي في عيادات البيمارستان:
هنا يتم حضور المريض إلى البيمارستان؛ حيث يقوم الطبيب المعالج بالكشف عليه في الأماكن المخصصة لذلك، ثم يصف له الدواء المناسب، ويقوم المريض بصرفه من صيدلية البيمارستان.

3 - الزيارات المنزلية:
في الحالات التي يصعب فيها نقل المريض إلى البيمارستان يتم تقديم العلاج للمريض في منزله؛ علمًا بأن الأولوية في العلاج للمرضى المقيمين، وقد ورد في وقفية الأمير عبدالرحمن كتخدا: "ومَن كان مريضًا في بيته وهو فقير، كان للناظر أن يصرف ما يحتاج إليه من حاصل هذا البيمارستان، والأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها، مع عدم التضييق في الصرف على مَن هو مقيم (بالبيمارستان)".

يتم تسجيل المرضى المنومين (المقيمين) في ملَّفات خاصة بذلك.

قال ابن جبير في وصف البيمارستان النوري بدمشق: "وله قومة وبأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى".

وعلى جميع أطباء البيمارستان أن يقوموا بعد الكشف على المريض، سواء في العيادات الخارجية أو في عنابر الأقسام، بتدوين نتائج كشفهم، وما يستجد في حالته، وما يصرف له من علاج وغذاء وشراب، في دستور المريض (ملفه الطبي).

البيمارستانات الشهيرة في بلاد الإسلام:
يقول الدكتور "جوزيف جارلند" في كتابه (قصة الطب): "... وقد أسس العرب عددًا من المستشفيات الممتازة جعلوها مراكز لدراسة الطب ولعلاج المرضى، كأحدث المستشفيات، وقد بلغ عدد هذه المستشفيات أربعة وثلاثين، موزَّعة بين أنحاء الإمبراطورية، وإن كان أهمها مستشفيات بغداد ودمشق، وقرطبة والقاهرة".

البيمارستانات في بلاد الإسلام:
أول مستشفى ثابت أقيم في بلاد الشام كان في دمشق، أمر بإقامته الخليفة الأموي (الوليد بن عبدالملك).

بيمارستان أنطاكية: بناه المختار بن الحسن بن بطلان، الذي توفي عام (455ه).

البيمارستان الكبير النوري: بناه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وقد توفي هذا الملك عام (569ه)، واشترط أن يخصص للفقراء والمساكين، ولكنه إذا وجد فيه دواء ليس موجودًا في البلاد، فلا يمنع عن الأغنياء حالة تعذُّر حصولهم عليه، وقد جاء وصف هذا البيمارستان في كتاب "رحلة ابن جبير"، قال: "دخلت دمشق عام (580ه) وبها مارستانان: قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الدواء والغذاء.

وفي مدينة "حلب" بنى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بيمارستان داخل باب أنطاكية، ووقف عليه الأموال لنفقات المرضى والأطباء، وقد عمل في هذا البيمارستان الطبيب ابن بطلان، وهاشم بن محمود ناصر السروجي الحسيني.

وفي "القدس" بنى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي بيمارستان كبيرًا، وقد عمل فيه من الأطباء: يعقوب بن صقلاب المقدس، ورشيد الدين أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري.

وبيمارستان عكا، فقد أمر الناصر صلاح الدين الأيوبي أن تكون أسقف عكا (بعض الأماكن التي هجرها الصليبيون) مستشفى لعلاج المواطنين.

وفي شبه الجزيرة العربية: كان يوجد في مكة بيمارستان يعرف بالبيمارستان المستنصري العباسي، وبيمارستان المدينة، وقد خدم فيه بأمرِ الملك الظاهر بيبرس الطبيبُ محيي الدين أحمد بن الحسين بن تمام.

وفي الريِّ وجد بيمارستان، وعمل فيه الرازي صاحب كتاب "الحاوي"، وهناك بيمارستان محمد الفاتح الذي أنشأه الفاتح بالقسطنطينية.

وفي بلاد العراق: بيمارستان بغداد الذي أمر ببنائه هارون الرشيد، وسماه بيمارستان الرشيد، وقد تولى إدارته: ماسويه الخوزي، انتدبه الرشيد لذلك من جنديسابور، وتولَّى مراقبته جبرائيل بن بختيشوع، وبيمارستان أبي الحسن علي بن عيسى الجراح، وبيمارستان بدر، غلام المعتضد بالله تعالى، أنشأه من ماله الخاص، وكذلك علي بن عيسى أنشأه من ماله الخاص.

وبيمارستان السيدة أم المقتدر التي توفيت عام (321ه)، وقد تولى رعايته الطبيبُ سعيد بن سنان بن ثابت.

والبيمارستان المقتدري؛ وذلك أن سنان بن ثابت بن قرة أشار على الخليفة المقتدر بالله أن يبني مستشفى للمرضى وتسمى باسمه، ومن الأطباء الذين علموا فيه: جبرائيل بن بختيشوع، ويوسف الواسطي.

وبيمارستان ابن الفرات وزير المقتدر، وبيمارستان أبي الحسن بجكم؛ الذي توفي عام (329ه).

والبيمارستان العضدي: أنشأه عضد الدولة البُوَيهي عام (732ه)، وعين فيه الأطباء والخدم للعناية بالمرضى، ومن الأطباء الذين عملوا فيه: جبرائيل بن عبدالله بن بختيشوع ونظيف الرومي، وأبو الحسن علي بن بكس، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو الحسن بن كشكرايا، وأمين الدولة بن التلميذ، وجمال الدين أبو الغنايم سعيد بن هبة الله بن أثردي، وأبو الفرج بن الطيب.

ومن البيمارستانات بالعراق: البيمارستان الفاروقي، وبيمارستان الموصل الذي بناه الأمير مجاهد قايماز، نائب قلعة الموصل عام (572ه).

وفي بلاد المغرب والأندلس:
كان لوصولِ التراث العلمي الطبي عند الأمم القديمة إلى الأمة العربيةِ عن طريق الفتوحات الإسلامية - أثرٌ كبير في تطوير الطب في الدولة الإسلامية، فنبغ عدد كبير من الأطباء في مختلف العصور والبلدان:
ففي "قرطبة" ولد رائد علم الجراحة الطبية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي عام (936م)، وكان مِن أعظم الأطباء الذين ساهموا بعلمهم في النهضة الطبية، واعتبره علماء الشرق والغرب أستاذَ علم الجراحة، فهو أول مَن جعل الجراحة علمًا حقيقيًّا، وكان له الفضل في تلخيص جميع المعارف الجراحية في عصره.

وفي مدينة "إشبيلية" من بلاد الأندلس برز أبو العلاء زهر بن عبدالملك بن محمد بن مروان بن زهر، المتوفى عام (525ه).
وفي مراكش نبغ أبو بكر محمد بن مروان بن زهر الحفيد، المتوفى عام (596ه).
وفي القيروان ولد أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد الجزار، أحد مفاخر بلاد تونس والمغرب العربي والعالم الإسلامي.

وفي هذه البلدان تتابع إنشاء المستشفيات، وكانت تُعرف "بالبيمارستانات"، وكثر عددُها، ويذكر أن قرطبة وحدَها كان فيها خمسون مستشفى.

وبالمغرب الأقصى بيمارستان مراكش، الذي بناه المنصور أبو يوسف، وكان كل يوم جمعة بعد الصلاة يخرج ويذهب إلى المرضى، ويسألهم عن أحوالهم، وما زال مستمرًّا على هذا حتى توفي عام (595ه).

وفي تونس:
بيمارستان "تونس": ومن الأطباء الذين عمِلوا فيه الطبيب محمد الشريف الحسني الزكراوي، المتوفى عام (874 ه).
ومن بيمارستانات بلاد الأندلس أيضًا، بيمارستان "غرناطة" الذي بدأ السلطان محمد الخامس في بنائه عام (767 ه).

وفي مصر:
بيمارستان زُقاق القناديل، من أزقَّة فسطاط مصر، وبيمارستان المعافر في حي المعافر بالفسطاط قرب القرافية، بناه الفتح بن خان في أيام الخليفة المتوكل على الله.

والبيمارستان العتيق: أنشأه أحمد بن طولون عام (259ه) في مدينة الفسطاط، وسمي أيضًا "المارستان الأعلى"، واعتبره بعض المؤرخين أولَ بيمارستان أنشئ في مصر، وأوقف عليه ابن طولون دخل بعض الأبنية، منها دُوره في الأساكفة، والقيسارية، وسوق الرقيق، وشرط ألا يعالج فيه "جندي ولا مملوك"، وجعل له حمَّامينِ: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وأدخل ابن طولون في هذا البيمارستان ضروبًا من النظام، جعلته في مستوى أرقى المستشفيات في الوقت الحاضر، فكان إذا دخله مريض تنزع ثيابه، ويودع ما معه من المال عند أمين البيمارستان، وتقدم له ثياب خاصة من البيمارستان، وكان المرضى يتناولون الأدوية والأغذية مجانًا، ويظل المريض في البيمارستان حتى يتم شفاؤه، فيقدم له فرُّوج ورغيف، فإذا أكلهما أذن له بمغادرة البيمارستان، بعد أن تُرَد إليه ثيابه ونقوده.

وبلغ من عناية أحمد بن طولون بهذا البيمارستان أنه كان يتفقَّده بنفسه يومًا في كل أسبوع، كان في الغالب يوم الجمعة، فيطوف على خزائن الأدوية، ويتفقَّد أعمال الأطباء، ويشرف على سائر المرضى، ويعمل على مواساتهم وإدخال السرور عليهم، بما في ذلك المحبوسين من المجانين، حتى غافله في يوم أحدهم ورماه برمانة كادت تقضي على ابن طولون، فلم يعاود البيمارستان بعد ذلك.

ولعلَّ أشهر البيمارستانات في العصرين الأيوبي والمملوكي، تلك التي أُنشئت في عهد كل من صلاح الدين الأيوبي، والمنصور قلاوون، فقد افتتح السلطان صلاح الدين الأيوبي ثلاثة بيمارستانات:
الأول في إحدى قاعات القصر الفاطمي الكبير، وهو البيمارستان العتيق.
كما أمر بإعادة فتح مارستان الفسطاط القديم.
وفي أثناء زيارته للإسكندرية عام (577 ه/ 1182م) أمر بإقامة مدرسة، وألحق بها بيمارستانًا.
وتولَّى الإنفاق على هذه البيمارستانات ديوانُ الأحباس (الأوقاف)، على اعتبار أن الرعاية الصحية في ذلك العهد كانت من أعمال البر والخير، أكثر منها من مهامِّ الدولة الحاكمة.

أما في العصر المملوكي، فمِن أشهر البيمارستانات التي أُنشِئت في ذلك العهد، وذاع صِيتها في أنحاء مصر وخارجها، وحَظِيت برعاية سلاطين المماليك، وأمرائهم، البيمارستان المنصوري الذي أنشأه الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، وذلك في موضع قاعة ست الملك ابنة الملك العزيز بالله الخليفة الفاطمي، والتي عُرِفت فيما بعد باسم دار الأمير فخر الدين جهاركس، ثم دار موسك، ثم عُرفت بالدار القطبية، نسبة إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقد ظلت في ورثته حتى أخذها السلطان قلاوون من ابنة الملك العادل مؤنسة خاتون، وعوَّضها عن ذلك بقصر الزمرد برحبة باب العيد، في 18 ربيع الأول (682 ه/ 1283م)، ورسم السلطان بعمارتها مارستان وقُبَّة ومدرسة، وتولَّى الإشراف على هذه العمارة الأمير علم الدين سنجر بن عبدالله الشجاعي، فأبقى القاعة على حالها، وجعلها مارستان[4].

وتجدر الإشارة إلى أن الأطباء المسلمين قاموا بوضع مؤلَّفات خاصة بتشييد البيمارستانات، وبيان نظام العمل بها، وطرق إدارتها، ولعلَّ أشهر هذه المؤلفات: كتاب "صفات البيمارستان" لأبي بكر الرازي الطبيب البغدادي (ت 320ه/ 932م)، وقد سجَّل فيه ما كان يلاحظه من أحوال المرضى الذين كانوا يُعالَجون تحت يدَيْه في البيمارستان الذي كان يشرف عليه ببغداد في عهد الخليفة المعتضد (279/ 289 ه - 892/ 901م).

ثانيًا في مجال الصيدلة:
أ- بالإضافة ما تقدَّمت الإشارة إليه من اهتمام الصيادلة والأطباء المسلمين بتحضير الأدوية المفرَدة والمركبة، وأنهم قد عرَّفوا الأدوية المفردة بالعقاقير الأصلية، أما الأدوية المركبة فسموها الأقرباذين، وقد أشاروا في مؤلفاتهم إلى وسائل تحضير هذه الأدوية؛ مثل: (الطبخ، والنقع، والسحق، والدق، والإحراق "التحميص"، والتبريد، والغربلة)، وغير ذلك.

ب - ابتكار المعالجة المعتمدة على الكيمياء الطبية؛ حيث لجأ الأطباء والصيادلة إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض يحدثه دواء معين، ويعد الرازي رائد هذا الاتجاه.

ج - إجراء البحوث والاختبارات على الأدوية قبل استخدامها؛ لمعرفة خصائصها، ومدى صلاحيتها وتأثيرها، وآثارها الجانبية، وقوتها الشفائية.

ويعني هذا أن الأطباء والصيادلة المسلِمين قد اعتمدوا على التجرِبة أساسًا لاختبار الأدوية ومعرفة خصائصها، بل كانت التجرِبة هي الطريقة الوحيدة لتحضير الأدوية المركبة.

د - إنشاء الصيدليات العامة والخاصة؛ ففي بغداد أُنشئتْ أول صيدلية سنة (149ه - 766م) في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، وهناك كذلك الصيدليات المتنقلة التي ألحقت بالبيمارستانات المتنقلة المصاحبة للجيوش أثناء المعارك الحربية، أو تلك التي كانت تَجُوب المناطق النائية والسجون أثناء انتشار الأمراض والأوبئة.

ه - إخضاع مهنة الصيدلة لرقابة الدولة وتفتيش حوانيتها بشكل دَوْري، كما اقتضت المصلحة العامة فرض امتحان، ومنح ترخيص بمزاولة مهنة الصيدلة لكل مَن يريد الاشتغال بها، كما كان الحال مع الأطباء[5].

[1] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (216، 217).

[2] المرجع السابق، ص (218، 219).

[3] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (69، 70).

[4] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، ص (80 - 88).

[5] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (234، 235).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-12-2022, 05:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي أثر الطب الإسلامي في الحضارة الإنسانية

أثر الطب الإسلامي في الحضارة الإنسانية
أ. د. عبدالحليم عويس


لكي ندرك الأثر الحضاري على أوروبا في الطب الإسلامي نورد هنا قصة طبيب (ريتشارد) قلب الأسد، الذي كان يُعالَج بالوسائل البدائية لتخرج منه الجن، وكاد يموت لولا أن أرسَل إليه عدوُّه صلاح الدين الأيوبي - بدافع من دينه وإنسانيته وفروسيته - طبيبَه الخاص ليعالجه بالعقاقير، ويصل به إلى درجة الشفاء.

كما أن صفحات الحروب الصليبية تضمُّ قصصًا طبية تدل على أن الصليبين لم يكن لدى أطبائهم إلا ضرب المريض أو قطع عضوه المريض، وغالبًا ما يموت المريض أثناء العلاج نظرًا لعدم استعمالهم التخدير.

ونظن أنَّ الحروب الصليبية في فتراتها - سلمِها وحربها - الطويلة، بالإضافة إلى الأندلس والترجمة، كانت أهم معابر الطب العربي الإسلامي إلى أوروبا وغيرها.

لقد تُرجمت الآثار الطبية للزهراوي؛ خلف بن عباس (ت 1107هـ) الأندلسي، الذي عاش في عصر الخليفة عبدالرحمن الثالث، وابنه الحكم الثاني (300 - 366هـ)، إلى اللغات الأوروبية، ودرست في معاهد الطب، كما تأثر به الجراحون واقتبسوا عنه، معترفين له باختراعاته لآلات جراحية عديدة.

قال ابن أبي أصيبعة عن الزهراوي في طبقات الأطباء: (كان طبيبًا فاضلًا، خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، ومع أنه اشتَهَر خصوصًا بالجراحة؛ فإننا نراه قد جمع بين فروع الطب والصناعة، وكان فيها جميعًا ماهرًا؛ فصحَّ فيه القول: هو أشهر أطباء العرب الثلاثة، وصِنْوَاه: الرازي وابن سينا)[1].

وإلى جانب هذا التأثير في الطب ثَم تأثير آخر؛ فقد تُرجم الكثير من الكتب الطبية، فترجم (بارافاكي) "Bravaci" كتاب التيسير للزهراوي سنة 1381م، وطُبع طبعات عدة، وفي الوقت الذي كان العرب فيه يمارسون الجراحة للماء الأزرق في العين، كانت مقرِّرات الجراحة ممنوعة في الغرب حتى عام 1163م، وقد دخلت المناهج بعد أن توافرت لديهم تراجم الكتب الطبية العربية، وبعد خبرة عملية في الطب الإسلامي إلى جانب التدريب العملي في المستشفيات، وكانت المدارس العربية في مراكز يقصدها طلبة العلم من كل أنحاء العالم؛ فأوروبا - بطبيعة الأمور - مدينة للعرب في الحقل العلمي.

وقد تخصَّص عدد من المترجمين في ترجمة الكتب الطبية[2]؛ مثل: قسطنطين الإغريقي، وجيرارد الكرموني، وأسطفان البيزاني الأنطاكي الذي ترجم خلاصة كتاب علي عباس، وظهرت أعداد مِن المدارس الطبية؛ مثل مدرسة (مونبلييه) "Montpelier" عام 1137م، وكان فيها عدد من المعلِّمين العرب حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، وارتبطَتْ أسماؤهم بالطب العربي وتدريسه في جنوب إسبانيا؛ حيث انتقل عن طريق هذه الدراسة الكثيرُ من الطب العربي إلى أوروبا[3].

وقد ثبت لدَى كثير من المنصِفين - من مستشرقين وعلماء - أن للمسلمين فضلًا كبيرًا في إنقاذ الطب من الضياع، وثبت لديهم أن أوروبا إنما تقدَّمت بالإضافات الكبيرة التي أضافها المسلمون للطب، والتي نُقلت إلى أوروبا، وكان لها دورها في تقدم المدنية الأوروبية، ويؤيِّد هذا (كمستون) "Camesten" في قوله: (إنه لو لم يكن للمسلمين غير هذا الفضل في الإنقاذ لكفاهم خدمة وفخرًا (أي في الإنقاذ من الضياع)، لقد رفع المسلمون شأن الطب، ولهم الفضل في جعل الجراحة قسمًا منفصلًا عنه، وفي إنشاء المستشفيات والتنقُّل فيها، وفي التصريح الشرعي لممارسة الطب والصيدلة.

وكذلك في الصيدلة طوَّروها وخدموا أسسها، وهم أول مَن أنشأ مدارسها، واستنبطوا أنواعًا من العقاقير، وامتازوا في معرفة خصائصها وكيفية استخدامها لمداواة المرضى، كما أعطوا من النبات موادَّ كثيرةً للطب والصيدلة[4].

يقول الدكتور غوستاف لوبون "Gustav Lebon": (إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة وعلم الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة...، والطب مَدِين للعرب بعقاقير كثيرة...، والطب مَدِين - كذلك - بطرق طريفة في المداواة، عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة، بعد أن نسيت زمنًا طويلًا؛ وعلم الجراحة مَدين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلَّت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدًّا)[5].

[1] محمد أمين فرشوخ: موسوعة عباقرة الإسلام (1/ 48 - 50).

[2] غنيمة: ميادين الحضارة الإسلامية (1/ 352).

[3] ينظر في موضوع الطب العربي وأثره في الغرب في الحضارة الإسلامية: عباس محمود العقاد: مرجع سابق ص (33 - 42).

[4] قدري حافظ طوقان: العلوم عند العرب ص (9).

[5] حضارة العرب (ترجمة عادل زعيتر) ص (488)، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-01-2023, 09:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

تاريخ الطب العربي
عبدالسلام تنبكجي


إن علم التاريخ من أجل العلوم نفعًا، وأرفعها شأنًا، فهو المرآة لحوادث الزمان، والمشكاة لاستنارة الأذهان، والمنهاج لاهتداء الخلف بهدي السلف. وأما علم الطب فيقول عنه حاجي باشا: به تحصل حياة النفوس والأرواح، وصحة الأبدان والأشباح، وبه يكون الخلاص من الأمراض والأسقام، والمناص من الأعراض والآلام، ومحصوله لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمان، ويقول الدكتور محمود صدقي: وكان العرب قبل الإسلام يضعون مرضاهم في الأزقة، ومعابر الطرق حتى إذا مرَّ بهم أحد ممن أُصيب بنفس الداء، وشُفي منه، فيُعلمهم بالدواء الذي استعمله ضد هذا المرض، ويقول أبو القاسم صاعد الأندلسي: وكان العرب في صدر الإسلام لا يهتمون بشيء من العلم إلا بلغتهم، ومعرفة أحكام شريعتهم، عدا علم الطب، فإنه كان موجودًا عند أفراد منهم، غير منكر عند جماهيرهم، لحاجة الناس جميعًا إليه، ولما كان عندهم من الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث عليها؛ حيث يقول: (تداوَوْا عبادَ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لم يضعْ داءً إلا وضع له دواءً؛ غيرَ داءٍ واحدٍ، الهَرَمُ)، ويقول الدكتور أبو زيد شلبي: ولما انتشر الإسلام، واطمأن المسلمون إلى مدائن الأرض التي فتحوها، اتجهوا إلى العلوم والمعارف، فعُنوا بالطب عنايةً فائقة، واستوحوا كُتب مَن سبقهم من اليونان وغيرهم، ثم عدَّلوها وصحَّحوها، وأضافوا إليها أبوابًا جديدة لم يسبقهم إليها أحدٌ، فتقدم الطب على أيديهم تقدمًا ظاهرًا، وفرَّقوا بين الجدري والحصبة، وهما مرضان كان يُظن أنهما مرض واحد، ووصفوا الالتهاب السحائي؛ أي: البرسام الحاد، وميَّزوه عن سائر الأمراض المصحوبة بالهذيان، وجعلوا من الجراحة علمًا حقيقيًّا وفنًّا له أصول وقواعد، وعرَفوا طب الأسنان وخلْعها وحشوها، ونبغوا في علم التشريح، وهم أول من استعمل المرقد (البنج) في العمليات الجراحية، وأول من استخدم المرقاة لمنع النزيف الشرياني، وأول مَن ألَّف في الأقراباذين أو فن تحضير الأدوية، وأول من وصف الغرغرينا التي تصيب مرضى البول السكري، وأول من رأى بأن حدقة العين تكبر وتصغر تبعًا لنسبة دخول الضوء فيها، وعرَفوا الجهاز العصبي، وأدركوا منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أن للحواس الظاهرة كالسمع والبصر واللمس والذوق - مغارزَ في الدماغ.

ويخبرنا بعض الأطباء أنهم كانوا يعالجون الرشوحات المائية أو الاستسقاء بحفر حفرة في الأرض عمقها ثلاث أقدام، وطولها عشر، وعرضها قدمان، ويوقدون في تلك الحفرة نارًا من الصباح إلى المساء، وفي المساء يخرجون النار منها، ويجعلون فيها ترابًا، ثم يجردون المريض من ملابسه، ويرقدونه بتلك الحفرة ويغطون جسمه بالتراب إلا رأسه، ويبقى كذلك إلى الصباح، فيخرجونه وقد خرج الماء منه، وأصبح صحيحًا، والفحص الطبي عندهم لا يختلف كثيرًا عما هو عليه الآن.

ويقول الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور: والعلم الحديث مدين لهم باستعمال عقاقير وأدوية كثيرة؛ كالرواند، والكافور، والصندل، والكحول، والقرنفل، وجوز الطيب، والمر، والعنبر، وغيرها من الأشربة والمراهم.

وفاقوا غيرهم في إقامة المشافي وترتيبها، والإنفاق والإشراف عليها، وكانت متاحة للجميع، ويعامل فيها الجميع أحسن معاملة.
وكانت مقسمة إلى أقسام كثيرة: قسم للطب، وقسم للأمراض العفنة، وقسم للجراحة، وقسم للعيون.

وكان بدمشق في ذلك العهد خمسة مشافٍ؛ منها:
المشفى الذي أنشأه سيف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك سنة 643 للهجرة، وكان مشهورًا بجمال موقعه، وحسن إدارته.

ويخبرنا بعض المؤرخين قائلًا: إن الأمير المذكور طلب من طبيبه الخاص أن يختار أجمل بقعة وأجودها مناخًا ليقيم عليها المشفى، فاحتال الطبيب لها حيلة يُحبذها، ولا شك كل طبيب صحي في هذا الزمن، فقد عمَد إلى غلمانه وأمرهم أن يعلقوا في كل حي من أحياء دمشق قطعًا من اللحم، وقال: خير بقعة هي ما لبث اللحم فيها أكثر من غيرها دون فساد، وعمل في المشفى من الأطباء إبراهيم بن إسماعيل بن أبي القاسم، وابن مقداد القيسي.

والمشفى الذي شيَّده نور الدين محمود أبو الثنا بن زنكي آق سنقر، ويقول الدكتور بشارة زلزل: إن نور الدين أسر بعض ملوك الإفرنج، وقصد قتله، ففدى نفسه بتسليم خمس قلاع وخمسمائة ألف دينار أنفقها نور الدين كلها على عمار مارستانه في دمشق، وقد امتدحه ابن بطوطة وابن جبير اللذان اعتبروه أحد مفاخر الإسلام، ولا تزال أبنيته قائمة إلى يومنا هذا.

ويقول الدكتور سامي حداد: وعقد إدارته إلى أبي المجد بن أبي الحكم عبيدالله بن المظفر بن عبدالله الباهلي، وأطلق له جامكية وجراية.

وكان أبو المجد يدور على المرضى ويتفقد أحوالهم، ويكتب لكل مريض ما يلزمه من الدواء والتدبير، فينفذ كل ذلك بلا تأخير، وكان يفرض عليهم منذ زمن المأمون والمعتصم اجتياز امتحان خاص يحدد كفاءاتهم.

نعم لقد عُني المسلمون والعرب بالطب عناية فائقة، ونبغ منهم علماء كبار، وجهابذة أفذاذ أنسوا من كان قبلهم، ومهَّدوا السبيل لمن جاء بعدهم، وعلى أساس نظرياتهم وابتكاراتهم ومنجزاتهم، كانت النهضة الكبرى في القرن العشرين؛ أي الرابع عشر الهجري، فهم وحدَهم آباء هذا العلم، كما كانوا آباء غيره من العلوم في العصر الحديث، ونذكر منهم على سبيل المثال:
ثياذوق الذي اصطفاه الحجاج بن يوسف لصحبته، وكان يثق بمداواته، وكان كريم الخلق، لطيف العشرة، سريع الخاطر والجواب، ويبدو أنه كان متأثرًا بالطب النبوي، ويُذكر أن الحجاج سأل جلساءه يومًا وكان من ضمن الحاضرين ثياذوق: أي الأشياء تُذهب الإعياء؟ فقال بعضهم: أكل التمر، وقال آخرون: التمريخ أو التدليك بالمصطلح الحديث، وقال: ثياذوق قضاء الحاجة، فقال الحجاج: صدقتَ.

وسأله الحجاج: أي شيء دواء آكل الطين وقد اعتاد به؟ فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير، فرمى الحجاج الطين ولم يعد إليه أبدًا، وله كتاب إبدال الأدوية؛ أي مزجُها. ويروي الرواة أنه نظم في علم الصحة قصيدة ظل الناس يتناقلونها، ومنها:
توق إذا أُطعمت إدخال مطعم
على مطعم من قبل فعل الهواضم
وكل طعام يُعجز السن مضغه
فلا تطعمنه فهو شر المطاعم
ووفر على الجسم الدماء فإنها
لأس بناء الجسم أقوى الدعائم
ولا تتعرض للدواء وشربه
مدى الدهر إلا عند إحدى العظائم
وأقبل على الحمام في اليوم مرة
وحافظ على هذا العلاج وداوم



وأبو الحسن ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن كرايا بن إبراهيم الحراني، ولم يكن في زمنه من يماثله في الطب، وكان جيد النقل إلى العربي، حسن العبارة.

وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي دبر مشفى الري، ثم مشفى بغداد زمانًا، وكان يوصف بالبيمارستاني، ومن كلامه:
الأطباء الأحداث الذين لا تجربة لهم قتالون، مهما قدرت أن تعالج بالأغذية، فلا تعالج بالأدوية، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.

ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة، ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس.

يجب على المريض أن يقتصر على طبيب يثق به، فخطؤه في جنب صوابه يسير؛ لأن من استعمل أطباء كثيرين وقع في خطأ الجميع.

ويعتبر كتابه الحاوي في الطب من أوائل الكتب التي عُنيت بالملاحظات الإكلينيكية أكثر من عنايتها بالباثولوجيا والفيزيولوجيا.

وذكر فيه المصادر التي نقل عنها بكل دقة وأمانة، ويقول الدكتور سامي حداد: الحاوي وهو أكبر مؤلفاته، قال أبو الفداء: إنه يقع في ثلاثين مجلدًا، لم يذكر ابن النديم منها سوى اثنى عشر فقط، وله أيضًا رسالة في الجدري والحصبة هي الأولى من نوعها.

وأبو مروان عبدالملك بن أبي العلاء بن زهر ولد في إشبيلية، وعاش في عهد المرابطين ثم الموحدين مشتغلًا بالطب، ومن مؤلفاته كتاب الأغذية وهو أهمها.

وأبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن نزيل دمشق من أهل الرحبة، لازَم صلاح الدين أيام ملكه، ثم أخيه من بعده، ثم الملك المعظم، وقرأ عليه خلقٌ كثير اشتَهروا بالطب، وتميَّزوا به وكان كبير النفس، عالي الهمة، كثير التحقيق، محبًّا للخير.

وأبو محمد عبدالله بن أحمد بن البيطار المالقي، رحل إلى المغرب وسوريا واليونان؛ ليرى النبات في موضعه، ويتحقق صفاته بالعيان، منكبًّا عن خطة التحدي والتقليد.

ومن طالع كتابه الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، تبيَّن ما كان عليه من ذكاء النفس وكثرة الحفظ، وصحة النقد وسعة المعرفة، وقد وصف فيه 1400 دواء؛ منها 300 عقار جديد، لم يكن للإغريق أي معرفة بها.

وأبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم بن النفيس، وكان في الطب إمامًا لا يُضاهى ولا يُدانى استحضارًا واستنباطًا، اكتشف الدورة الدموية التي لم يوفق جالينوس إلى إثباتها، وقال: إن الدم يصل من تجويف القلب الأيمن إلى الرئة؛ حيث يمتزج بالهواء، ومن الرئة يصل إلى تجويف القلب الأيسر.

وأبو محمد مهذب الدين عبدالرحيم بن علي الدخوار، خدم الملك العادل أبا بكر بن أيوب، فولَّاه رياسة الطب في مصر والشام، وفوَّض إليه النظر في أمر الكحالين، واعتبارهم، وامتحانهم، وكان يكتب لكل كحال منهم خطًّا بما يُحسنه من صناعة الكحل، فلا يجوز له أن يتجاوزه إلى عمل آخر، وكان له مجلس عام لتدريس الطب يجتمع إليه خلقٌ كُثُر من أعيان الأطباء يقرؤون عليه.

وموفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن أبي أصيبعة، صاحب كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء الذي لولاه لما بقِي من تاريخ الطب والأطباء أثر يذكر.

لم يقتصر النبوغ في الطب على الرجال فقط، فقد نبغ من النساء عددٌ غير قليل؛ كأخت الحفيد بن زهر الأندلسي، وابنتيها اللتين نبغتا في الطب، وبخاصة في أمراض النساء.

وينبغي للطبيب الذي يستحق التقديم أن يكون معتدلًا في مزاجه، طاهرًا في نفسه، متمسكًا بدينه، ملازمًا لشرعته، وافر العقل قوي الذكاء حسن التصور، معروفًا بصدق اللهجة وأداء الأمانة، مهتمًّا بما يعنيه، محبًّا لاصطناع المعروف، يساوي ظاهره باطنه في أفعال الجميل، حسن الخلق غير شَرِهٍ في كسب الحطام، ليس عنده حقد ولا حسد، صحيح الخط والعبارة، مواظبًا على درسه ومطالعته، ناظرًا في كتب المتقدمين، شفوقًا بالضعفاء والفقراء والمساكين، سابقًا إلى معالجتهم قبل معالجته الأغنياء، معروف الأستاذين والشيوخ، أخذ العلم عمَّن دونه ومَن فوقه، ويكون عفيف الفرج والبطن والنظر، كتومًا للأسرار، حُلو اللسان قليل المزح والكلام؛ أي: لا يتكلم إلا بحسب الحاجة؛ خوفًا من سقوط الحرمة، وأن يلبس ثيابًا نظافًا، وأجملها البياض، وليخاطب كلُّ إنسان بما يليق بمقامه من غير إلحاح، أما المريض فمن واجباته أن يكرم الطبيب ويتلقاه بالبشاشة وحسن القبول؛ ليجتهد في علاجه بالرغبة وإخلاص النية.

وأن يكون حريصًا على استعمال كل ما أمره به، واجتناب كل ما نهاه عنه، فقد قال بعضهم: إذا كان الطبيب حاذقًا والصيدلاني صادقًا، والمريض موافقًا، فما أقل لبث العلة، وقيل: إن الفاضل جالينوس قال يومًا لمريض كان يعالجه: اعلم أنني أنا وأنت والمرض ثلاثة، فإن طاوعتني كنت أنا وأنت اثنين والمرض واحدًا فنغلبه، وإن خالفتني كنت أنت والمرض اثنين وأنا واحدًا فتغلباني.

وألا يعاف شرب الدواء الكريه الطعم، بل يُقدم عليه ويتناوله غير نافرٍ منه؛ لأن ما تنفر منه الطبيعة لا ينجع فيها، وأن يعتقد فيه المنفعة، فترتاح نفسه إليه، وتنتعش طبيعته بواسطته، وألا تشره نفسه إلى ما يضره من الأطعمة اللذيذة، فإنها تكون مضرة بعد ذلك، وألا يكتم عن الطبيب شيئًا من أمره، فربما كان ما لا يُعتبر عنده معتبرًا عند الطبيب، وأن يُحسن ظنه بالسلامة، ويشدد قلبه مطمئنًّا، فإن ذلك يكون من أنفع العلاجات له؛ لأنه يقوي الطبيعة أمام المرض، فلا يدعه يقهرها ويستولي عليها، بخلاف الخوف فإنه يحل الطبيعة، فيتغلب المرض عليها ويغلب الطبيب والدواء، وعلى ذلك تكون الطمأنينة دواءً والخوف مرضًا ثانيًا.

ويجب على أهل المريض أن يبذلوا الجهد في ملاحظة كل ما يؤول إلى راحته، ويهتموا في قضاء حوائجه العلاجية وغيرها، ويجتنبوا إزعاجه جسمًا وفكرًا، ولا يفتروا عن تسليته وتطمينه، ولا يظهروا له خوفًا ولا جزعًا، ولا يحدثوا بعضهم سرًّا بحضرته، ولا يشير بعضهم إلى بعض، وإذا رأوه في ضنك وانتهاك يكلفون أنفسهم البشاشة، ويسهلوا الأمر عليه، ولا يمكنوا من الدخول عليه إلا من يستأنس به وترتاح نفسه إلى معاشرته، فإن ذلك مما يفيده؛ لأن خلوة المريض بنفسه دائمًا تجلب عليه الضجر، فيضيق صدره وتتردد في قلبه الهواجس والأفكار المزعجة.

ويجب على الذين يزورونه ألا يدخلوا عليه إلا بإذنه، ومتى جلسوا عنده، عليهم ألا يكثروا عليه المسائل، ولا يتحدثوا إلا بما تطيب نفسُه بسماعه، ولا يسر بعضهم إلى بعض كلامًا خفيًّا، ولا يطيلوا الجلوس عنده؛ لأن ذلك يمسكه عن قضاء بعض حوائجه، ويشغل أهل بيته عن تدبير ما يحتاج إليه.

للتوسع في هذا الموضوع انظر الآتي:
أبو زيد شلبي تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، مكتبة وهبة القاهرة 1964.
أحمد عيسى المأثور من كلام الأطباء، مطبعة جامعة فؤاد الأول القاهرة 1951.
أحمد عيسى تاريخ البيمارستانات في الإسلام، المطبعة الهاشمية دمشق 1939.
أسعد داغر حضارة العرب، مطبعة المقتطف القاهرة 1919.
أمين خير الله الطب العربي تعريب مصطفى أبو عز الدين، المطبعة الأميركانية بيروت 1946.
برهان العابد مختارات من تاريخ الطب، منشورات جامعة دمشق ط 4 1999.
جون بادو عبقرية الحضارة العربية؛ ترجمة عبدالكريم محفوظ، دار الكتب الوطنية بنغازي ط 1 1990.
حسن إبراهيم حسن؛ تاريخ الإسلام، دار الجيل بيروت ومكتبة النهضة المصرية القاهرة ط 14 1996.
حسن الشرقاوي؛ المسلمون علماء وحكماء، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع القاهرة ط 1 1987.
حنيفة الخطيب الطب عند العرب، دار الأهلية بيروت 1988.
رمضان الصباغ العلم عند العرب وأثره على الحضارة الأوربية، دار الوفاء الإسكندرية ط 1 1998.
سامي حداد مآثر العرب في العلوم الطبية، مطبعة الريحاني بيروت 1926.
سامي حداد المارستانات العربية، مجلة المقتطف يناير سنة 1937.
سعيد عبدالفتاح عاشور المدنية الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوروبية، دار النهضة العربية القاهرة ط 1 1963.
سيجريد هونكه شمس الله تشرق على الغرب؛ ترجمة فؤاد حسنين علي، دار العالم العربي القاهرة ط 1 2008.
عباس محمود العقاد حضارة الإسلام دار الكتاب اللبناني بيروت ط 1 1978.
عبدالحليم منتصر في تاريخ الطب عند العرب، مجلة رسالة العلم ديسمبر سنة 1970.
عبدالرزاق نوفل المسلمون والعلم الحديث، دار الشروق القاهرة ط 3 1988.
عبدالسلام تنبكجي الطب في الشعر العربي (مخطوط).
علي حسني الخربوطلي الحضارة العربية الإسلامية، مكتبة الخانجي القاهرة ط 2 1994.
عمر فروخ عبقرية العرب في العلم والفلسفة منشورات المكتبة العلمية ومطبعتها بيروت ط 2 1952.
عمر فروخ تاريخ العلوم عند العرب، دار العلم للملايين بيروت 1970.
فيصل السامر العرب والحضارة الأوروبية، منشورات وزارة الإعلام العراقية بغداد 1977.
فيليب حتي أعلام الطب العربي، مجلة المقتطف فبراير سنة 1935.
كامل حمود تاريخ العلوم عند العرب، دار الفكر اللبناني بيروت 1993.
كرنيليوس فانديك أطباء الشرق، مجلة المقتطف مايو سنة 1936.
محمد أمين أبو جوهر الطب عند العرب، مجلة المعرفة ديسمبر سنة 2001.
محمد رجائي صفحات من تاريخ الطب، الزهراء للإعلام العربي القاهرة ط 1 1988.
محمد رشدي مدنية العرب في الجاهلية والإسلام، مطبعة السعادة القاهرة 1911.
ناجي معروف أصالة الحضارة العربية، مطبعة التضامن بغداد ط 2 1969.
يوسف حريز تاريخ الطب عند العرب، مجلة المقتطف مايو سنة 1929.
تم بعونه تعالى

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06-01-2023, 09:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي الجذام في المغرب والأندلس (ق 4-9هـ /10-15م)

الجذام في المغرب والأندلس (ق 4-9هـ /10-15م)
د. نجلاء سامي النبراوي
الجذام في المغرب والأندلس[1]

(ق 4 - 9هـ/ 10 - 15م)




مأخوذ من بحث:
د. نجلاء سامي النبراوي: كبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة بالمغرب والأندلس (ق 6 - 9هـ/ 12 - 15م)، مجلة التاريخ والمستقبل، كلية الآداب، جامعة المنيا، عدد يوليو 2015م، (ص: 538 - ص: 578).

رصدت كتابات الجغرافيين والرحالة وكتب التراجم كثيرًا من الأماكن التي اشتهرت بتواجد المجذومين، والأماكن المخصصة لهم فيها، والتي انتشرت في شمال إفريقية وجنوب إسبانيا في العصر الإسلامي، ولم تعرف قبلها[2].

ففي مدينة القيروان حاضرة دولة الأغالبة (184 - 296هـ/ 800 - 908م) عُرفت (دمنة القيروان) أو (دار الجذماء)، التي تسجل اهتمامهم بالمجذومين ورعايتهم ووعيهم الصحي، وكانت هذه الدمنة بمثابة بيمارستان ويقع بأحد أطراف المدينة، غير أن "دمنة" هي الأشهر لهذا المكان، وقد تم الاستدلال على التخطيط المعماري للدمنة؛ فقد كانت على شكل مربع لها باب واحد كبير، يفتح على سقيفة، وعلى جانبي السقيفة غرفتان صغيرتان يسكنها حراس الدمنة، وبطول السقيفة يمينًا ويسارًا مصطبتان ملتصقتان بالجدار الأصلي مخصصتان لجلوس من يزور المرضى، وفي آخر السقيفة بابٌ ثانٍ أصغر من سابقه، يؤدي إلى صحن متسع مكشوف، ويحيط بجوانب الصحن الثلاثة أروقة معقودة الأسقف، ومن ورائها عدة حجرات صغيرة لإيواء المرضى.

ومن جهة أحد الأروقة يوجد باب مستقل يؤدي إلى دار واسعة تحتوي على حجرات، تسمى هذه الدار بدار الجذماء، بها حمام مخصص لهم[3].

وعلى بعد ميل ونصف من مدينة الحامة تنبع عين ماء ساخن جدًّا، يتجمع ماء هذه العين عند شمال المدينة مكونًا بحيرة أُطلق عليها بحيرة المجذومين؛ حيث يقيم عدد كبير منهم في أكواخ حول البحيرة.

ومن خصائص هذا الماء أنه يعالج داء الجذام وذكر (الوزان) سبب ذلك أنها تحوي نسبة عالية جدًّا من عنصر الكبريت[4]، وسجل البكري أنه بخارج مدينة تونس يقع (ربض المرضى)، وهو مخصص للجذماء[5].

كذلك كان هناك ربض بخارج مدينة (فاس) يسكنه المجذومون، وانتشرت حارات الجذمى خاصة في عصر الموحدين، وكانت خارج أسوار المدن؛ ففي مدينة فاس كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة المؤدي إلى مدينة تلمسان بالمغرب الأوسط، وقد بنى هذا الباب الخليفةُ الموحدي الناصر (595 - 610هـ/ 1199 - 1213م)؛ حيث جدد سور المدينة في عام 601هـ/ 1204م، ثم انتقل المجذومون في زمن المجاعة التي استمرت من عام 619هــ/ 1212م إلى عام 637هـ/ 1230م إلى الكهوف التي خارج باب الشريعة - أحد أبواب المدينة - إلى أن نقلهم عامل الأمير المريني يعقوب بن عبدالحق (656 - 685هـ/ 1258 - 1286م) إلى كهوف برج الكوكب بخارج باب الحبيسة من أبواب عدوة القرويين، بعدما اشتكى الناس أن المجذومين يستخدمون معهم مياه نهر قريب من (فاس)؛ مما يضر بهم[6].

وفي مدينة (مراكش) وجدت حارة الجذماء بخارج سورها بالقرب من باب أغمات، وقد ظهرت هذه الحارة في القرن 6هـ/ 12م حسبما أشارت إليها المصادر والتراجم، وتكونت لهذه الحارة رابطة أُطلق عليها رابطة الغار، كان يسكنها أناس أُصيبوا بداء الجذام.

وقد اهتمت السلطة آنذاك بإنشاء بيمارستان لهم؛ حيث أنشأ الخليفة الموحدي أبو يعقوب المنصور (580 - 595هـ/ 1184 - 1199م) بيمارستانًا بمدينة مراكش خاصًّا بالمرضى العقليين والعميان والمجذومين[7]، واهتم الولاة بأن تكون سكنى المجذومين دومًا بخارج أسوار المدن، وباتجاه الرياح الخارجة من المدينة وليس العكس؛ حتى لا ترتد الرياح لأهل المدينة الموجودين داخلها فيتضرروا، ويكون استخدام المجذومين للمياه بعد أن يخرج من المدينة[8].

وعرف أهل بلاد الجريد علاجًا لمرض الجذام؛ فيقول صاحب الاستبصار ما نصه: "ولا يجذم أحد ببلاد الجريد، وإن دخلها مجذوم توقفت عنه علته... ويقول أهل بلاد الجريد أن المرء إذا أكل أخضر، وهو الذي يسمى البهر يفعل ذلك، وأنه من بدت به علة الجذام، فأكثر من أكل البهر وطبخه وشرب ماءه، برأ بإذن الله"[9].

تؤكد الدراسات أن المجذومين كانوا مسؤولين بشكل أو بآخر عن تعقب أي شخص يُصاب بالمرض، ومسؤولين أيضًا عن إقامته بمجتمعهم، وخاصة في مدينة فاس.

ويرى الدارسون والمتخصصون أن مرض الجذام قد انتقل من الشرق إلى أوربا في أثناء الحروب الصليبية، وكذلك ظهر في شمال إفريقية.

وعرفت حارة الجذماء بمدينة قرطبة؛ حيث تواجدت على الضفة اليسرى للنهر الكبير الذي يقابل المدينة، وفي عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر الأموي (300 - 350هـ/ 912 - 961م) تم نقلهم إلى منية عجب قبل عام (329هـ/ 939م)، وقد اختفت المعلومات عنها بعد ذلك، لكن بعض المؤرخين المحدثين يرجح أنها استمرت حتى سقوط مدينة قرطبة في أيدي نصارى إسبانيا عام (636هـ/ 1239م)[10]، وعجب هي إحدى زوجات الأمير الحكم الأول الأموي (180 - 206هـ/ 796 - 822م)، وقد كانت المنية عبارة عن بستان كبير في الضاحية الغربية لقرطبة، وعُرفت كمؤسسة خيرية لها وقف تذهب إيراداته لمساندة المجذومين الموجودين في الأماكــن المنعزلة بالمدن الأندلسية، والتي تأكد وجود عدد منها في القرن (3، 4هـ/ 9، 10م)[11].

وقد أشارت كتب النوازل الفقهية إلى مكان هذا التجمع الموجود بعدوة نهر قرطبة، وأشارت أيضًا إلى أن العامة كانوا يساهمون في مساندة المجذومين ودعمهم ماديًّا من خلال وصياتهم، أو بتحبيس محصول بساتينهم للإنفاق عليهم.

فقد أوصى أحدهم بأن يوزع من ماله وممتلكاته بعد الوفاة على (الجذمى والقطع بحضرة قرطبة)، وقام آخر بتحبيس غلة أرضه على الجذماء تحديدًا.

وحدث أن أوصى أحدهم بحبس على ولده، فلم يكن له عقب وتوفي، وأوصى الفقهاء برجوع الحبس للمرضى والمجذومين والعميان بغرناطة، والنازلة بذلك تؤكد تواجد تجمع لهم في مدينة غرناطة[12].

ذكر القاضي عياض أنه عُرفت حارة للجذماء بمدينة طليطلة موجودة خارج أسوارها؛ ففي إحدى الترجمات مرَّ صاحبها وصديقه، وهما خارجان من المدينة على "ربض الجذماء"، وقد توفي صاحب الترجمة في عام 456هـ/ 1063م، مما يعني وجودها في القرن 5هـ/ 11م[13] على أن أشهر أماكن الجذام في الأندلس في ق3، 4هـ/ 9، 10م كانت في مدينتي بلنسية ومرسية[14].

وتجدر الإشارة إلى أن المستشفيات المتخصصة التي تأوي المجذومين لم تُعرف إلا بعد سقوط المدن الأندلسية في أيدي نصارى إسبانيا، وكثر عددها منذ عام 652هـ/ 1254م؛ فتأسست في إشبيلية عام 698هـ/ 1298م، ومالقة عام 897هـ/ 1491م، وميورقة، وبلنسية، وكانت المستشفيات هذه بمثابة أماكن احتجاز يطلق عليها Lazaratos، وعلى الجانب النصراني في مدن أوروبا الأخرى كان المجذومون يُجبرون على ارتداء ملابس معينة؛ حتى يحذر الناس منهم ويكونوا معروفين بينهم؛ كملابس لها أكمام طويلة مقفولة عند المعصم، وقفازات طويلة، وكمامات على الوجه، أو قلنسوات وأردية سوداء مرسوم عليها حرف L (أول حرف من كلمة مجذوم). وتكون باللون الأصفر على صدره، كما أجبروا على ارتداء أحزمة بأجراس تصدر أصواتًا تدل عليهم أثناء تحركهم[15].

كان المجذومون في أوروبا يعاملون معاملة قاسية في كثير من الأحيان، ويتعرضون للموت بقرارات من ملوكهم بطريقة وحشية؛ فقد قام الملك فيليب الخامس ملك فرنسا (716 - 722هـ/ 1316 - 1322م) يجمعهم وحرقهم أحياء، وأمر بتكرار ذلك إن وُجدوا، وكذلك فعل الملك تشارلز الخامس[16].

وقد اختلط أحيانًا عند العامة وفي كتب الفقه والحسبة بين الجذام والبرص، واعتبره كل منهما مرضًا منفرًا يمنع صاحبه من الاختلاط بالناس والتعامل معهم؛ فقد أكد الفقهاء أنه ينبغي على المجذوم إن كان له مالٌ أن يشتريَ لنفسه من يعينه على تلبيته احتياجاته، وأن يلزم بيته ولا يخرج منه، وإن لم يكن له مال أخرج من بيته - إن لم يكن فيه حق - خوفًا على باقي سكانه، ويُنفَق عليه من بيت المال[17].

وعليه؛ فإن أوجه الإنفاق على المجذومين كانت متعددة؛ منها ما يخصص من بيت المال، ومنها ما كان يقوم به العامة من إسهامات.

اختلف الفقهاء فيما بينهم في إخراج المجذومين من الحاضرة لناحية منها أو لا، ولكن الواضح من العرض السابق أن الأمر قد حُسم من المسؤولين برغبة الناس بوضعهم خارج المدن؛ مراعاة لعدم انتشار العدوى بين الأصحاء، وتبعًا لذلك مُنعوا من الاختلاط بالناس والاستسقاء من مورد ماء واحد، وأن تُجعل لهم أوانٍ خاصة بهم لنقل الماء من مورد الماء إلى أوانيهم، ويخصص لهم رجالًا يقومون بتلك المهمة[18].

وعلى مستوى التعامل التجاري مُنع المجذوم من مخالطة الناس بالأسواق والبيع لهم، فمُنع من بيع الزيت والخل وأي أطعمة، ومُنع من بيع لبن غنمه وجبنها وبيض دجاج يقوم بتربيته، كما مُنع من بيع ملابسه المستعملة، في حين لم يمنع المصاب بالبرص من ذلك، ولا من عمل الأشربة والمعاجين بنفسه وبيعها[19].

وقد شاعت أمثال شعبية عند العامة عن المجذومين منها: "إذا رأيت المبتلى اطلب من ربك العافية"، و"قيل للمجذوم اغسل يدك قال: ما بعد الجذام علة"[20].

ولإخفاء علة البرص عن رجل أو امرأة، أو عند بيع عبد أو جارية مصابة به - كان النخاسون يعمدون إلى بعض الحيل لإخفاء البرص؛ حيث يغرزون في مواضع البرص بالإبرة ويخضبون عليه القلقديس والعفص والزنجار من كل واحد جزءًا معجونًا بماء ولبن التين أربعة أيام في الشمس، فيبقى مصبوغًا أربعين يومًا، ويغسلون ذلك الخضاب بخل وأشنان مغلي أو بماء القلي[21].

نوهت كذلك كتب الحسبة على أن كثيرين كانوا يدعون الإصابة بإعاقات مختلفة، ويمشون في الأسواق والطرقات بغية التسول؛ فيذكر ابن عبدالرؤوف: "وكذلك يتفقد الذين يتخبطون في الأسواق، ويوهمون الناس أنه صرع، وتستخبر ذلك منهم، وكذلك أصحاب الأورام والقروح البشعة، ومن يتعلق مصرانه من جنبه، والذي يصبح بوجع الحصا، والذي يظهر أنه مقعد، والذين يقرحون أيديهم، ويوهمون الناس أن ذلك كله بلاء نزل بهم وهم يكذبون، وذلك كله منهم حيلة؛ لأخذ أموال الناس بالباطل، فيجب على صاحب الحسبة أن يقف ذلك كله على الصحة، ويعاقب من تحيل منهم بتلك الحيلة"[22].

[1] الجذام: مرض معدي مزمن، تسببه جرثومة تسمى المتفطرة الجذامية التي تتكاثر ببطء شديد، مسببة تلفًا تدريجيًّا ودائمًا بجلد المصاب به وأعصابه وأطرافه وعينيه، وهو مرض ينتقل عبر رذاذ الأنف والفم؛ [منظمة الصحة العالمية، مركز وسائل الإعلام (الجذام)، سبتمبر 2012م]، وقد عرفت أول مؤسسة للجذام في العصر الإسلامي هي مجذمة الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك (86 - 96هـ/ 705 - 714م)، والتي بناها في دمشق عام 88هـ، ثم تعددت بعد ذلك، وكذلك كانت بداية تأسيس بيمارستانات الأمراض العقلية في عهد الأمويين.

[2] Micheal W. Dols: The leper in medieval (on) Islamic Society, Speculum. Vol. 58, No. 4, published by Midieval .Academy of America, .1983, p. 907

[3] Micheal W. Dols: The leper in medieval (on) Islamic Society, Speculum. Vol. 58, No. 4, published by Midieval Academy of America, 1983, p. 907 ...
.Ibid, p 907 ...

[4] الحامَّة: من بلاد قسطيلية التابعة لبلاد الجريد، أهلها من بقايا الروم الذين أسلموا عند الفتح، وهي مدينة لها أرباض واسعة يسكنها الناس، ومياه هذه المدينة كلها حامَّة حارة تشتهر في بلاد الجريد كلها بالعنب الجيد؛ [الاستبصار في عجائب الأمصار، ص: 157 – 158، الوزان: وصف إفريقية، 2/ 92، وذكر الوزان أن عدد دور المجذومين في عهده بذلك الربض وصل إلى مائتي مجذوم].

[5] البكري: المغرب في ذكر بلاد المغرب، جزء من كتاب المسالك والممالك، مكتبة المثنى، بغداد، د.ت، ص: 40.

[6] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب روض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار الطباعة المدرسية، أو بسالة، 1843م، ص: 30، 31، الوزان: وصف إفريقية، 1/ 287.

[7] المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، نسخة غير موافقة للمطبوع.

[8] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص: 31.
Micheal. W. Dols: The Leper in medieval Islamic Society, p. 907.

[9] بلاد الجريد: سميت بذلك لكثرة النخيل بها، وهي مدن كثيرة وأقطار واسعة وعمائر متصلة، كثيرة الخصب والتمر والزيتون والفواكه وجميع الخيرات، وهي آخر بلاد إفريقية على طرف الصحراء، أولها من جهة الساحل مدينة قابس وآخرها مدينة درجين؛ [م.م: الاستبصار في عجائب الأمصار، ص: 150، 159، 160].

[10] المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ط: 3، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1991، ص: 242.

[11] القاضي عياض: ترتيب المدارك، 6/ 87، 90.

[12] Historia de la epra, p. 486.l

[13] البرزلي: جامع مسائل الأحكام، 5/ 354، الونشريسي: المعيار، 6/ 506، 7/ 186، 9/ 404، 405.

[14] ابن الخطيب: معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق ودراسة: محمد كمال شبانة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2002، ص: 91.

[15] .Historia de la lepra, p. 486

[16] .Ibid, p. 487
وكلمة Lazarette: كلمة ذات أصل لاتيني تعني الأبرص أو المجذوم؛ حيث كانت الدولة الرومانية تبالغ في الحجر على المجذومين فيخضعونهم للحجر مدى الحياة، ويعتقد أنها تحولت إلى اسم المكان المحتجز به هؤلاء المجذومون.
.Merbert C. Covey: People with leprosy, p. 320

[17] .Ibid, p. 486

[18] البرزلي: جامع مسائل الأحكام، 3/ 221، 222 (ماجل المجذومين بالقيروان)، الونشريسي: المعيار المعرب، 6/ 422.

[19] البرزلي: جامع مسائل الأحكام، 3/ 221.

[20] الزجالي: أمثال العوام في الأندلس، 2/ 10.

[21] السقطي: كتاب من آداب الحسبة، باريس، 1931، ص: 52.
القلقدس: هو المعروف بالزاج الأبيض، وهو مركب كبريتات الزنك، والعفص: هو ثمار شجر البلوط، ويستخدم لعلاج الأمراض الجلدية، أما الزنجار: فهو مادة خضراء نتاج تفاعل حامض الخليك مع النحاس، وله أنواع منها: المجرود، والمدود، ويستخدم كدواء للعين، كما يستخدم لمنع القروح الخبيثة من الانتشار بالجسم، والقلي: هو ما احترق من نبات الأشنان المستخدم كغسول؛ [شرح أسماء العقار، 2000، ص: 6، 24، 37، 140، 295، 345، ابن البيطار: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، 1/ 326 (ترقيم آلي)، نجلاء النبراوي: التقويم المصري في الأندلس في عصر الخلافة (دراسة في تقويم قرطبة)، مجلة كلية الآثار، جامعة جنوب الوادي، عدد 2009، ص: 22، 23 (صناعة الزنجار في الأندلس).

[22] رسالة ابن عبدالرؤوف في آداب الحسبة والمحتسب، ضمن ثلاث رسائل أندلسية، ص: 113.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 223.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 217.94 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]