|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الداعية (1) فقه الدعوة شريف عبدالعزيز الدعوة إلى الله من أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه سبحانه، وهي أشرف الوظائف على الإطلاق بعد وظيفة النبوة، والقائمون عليها هم ورثة الأنبياء، يقومون في الأمة مقامهم، كما أنها رافد عظيم من روافد الدين؛ بها ينتشر الإسلام في العالَمِين، ومن خلالها تعم الهداية أرجاء الأرض، وفي ضوئها يرى العالَم ما عند المسلمين من خير وبركة، ولهذا كله تتطلب الدعوة إلى الله فقهًا لا يقل أهمية عن فقه العبادات والمعاملات إن لم يكن أهم منهما؛ فالفقه في الدعوة أضحى من أهم المتطلبات وعلى رأس الأولويات، ومن دون ذلك الفقه تبقى مسيرة الدعاة يشوبها الخلل ويعترضها الزلل. وفقه الدعوة هو العِلْم الذي يُعْنى ببيان ما يحتاجه الداعية من أحكام وضوابط لكي تصبح دعوته على بصيرة، ويدخل في ذلك بيان الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية، وكذلك تفصيل أحوال المدعو ووسائل دعوته، وترتيب أولويات الدعوة، وواقع المجتمعات المدعوة وظروفها، وكل ما يتصل بمجال الدعوة إلى الله. ونحن في هذه السلسلة من أفقاه الداعية سوف نعرض لأهم أنواع الفقه التي يحتاجها الداعية أثناء ممارسته لوظيفته الدعوية، أفقاه لا يستغنى عنها، وسوف نبدأها بالحديث عن " فقه الواقــــــع " أولا: تعريف فقه الواقع ********************** فقه الواقع عبارة عن مركب إضافي أشبه بالمركبات الإضافية، مثل فقه السيـرة، فـقه الحديـث، والمعـاجم لا يمكنـها أن تعطيـنـا تعـريفًا أو معنى لهذه المركبات لاحتوائها على أكثر من مفردة. ثم إن مصطلح «فقه الواقع» لم يصبح بعد علمًا قائمًا مقعـدًا له كباقي العلوم التي حظيت بتعريفات كأصول الفقه، وأصول الدين ومن ثم كان تحليل عناصره ومركباته يمثل بداية وضع تعريف واضح له. الجزء الأول من المركب هو كلمة " فقه "، وفقه الأمر يعني إدراكه وفهمه وتفطن حقيقته، والفقه هو الفهم، ويأتي بمعنى العلم، كما ورد في الحديث الصحيح " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "، أما كلمة الواقع فهي كلمة لا أصل لها في المعاجم العربية ولسان العرب وأشعارهم، فهي أقرب لئن تكون محدثة، وبالنظر في تعريفات المعاصرين من أهل العلم نجد أن جل تعريفاتهم دارت في فلك تعريف الواقع بالنشاط الإنساني بصورة عامة ،وما تجري عليه حياة الناس، في شتى مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث. ومن هنا نستطيع أن نعرف فقه الواقع بعدة معان متقاربة، فنقول هو: النزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم وما يستجد لهم في حياتهم وما يعرض لهم من نوازل وأحداث، وما هي النصوص التي تتنزل عليهم في واقعهم، في مرحلة معينة، أي أن فقه الواقع هنا مبني على دراسة الواقع اليومي الذي يعايشه الناس، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، للشيخ الألباني رحمه الله تعريف مميز لفقه الواقع، إذ عرّفه بأنه: الوقوف على ما يهم المسلمين مما يتعلق بشؤونهم أو كيد أعدائهم، لتحذيرهم والنهوض بـهم واقعيًا لا نظريًا، لا انشغالاً بأفكار الكفار وأنبائهم، أو إغراقًا بتحليلاتهم وأفكارهم. وبالجملة فإن فقه الواقع هو الفهم العميق والقراءة الواعية الصحيحة للبيئة التي يعاصرها الداعية ،وإدراك مؤثراتها وأبعادها وطبيعتها وتوصفيها على نحو صحيح. ثانيا: أهمية فقه الواقع ********************* إذا غفل الإنسان عن واقعه، وأعمى بصره وبصيرته عنه، فإنه لن يعبد الله عز وجل حق عبادته كما أمر، ومن لا يتصفح مع نصوص القرآن وصحيح الحديث حقيقة الواقع المتغير، الذي جعل الله تغيره بلاءً، يعجز عن عبادة الله وعن الاجتهاد في الدين، ولم يستطع أن يواكب المتغيرات الكثيرة والمتلاحقة، فإن دراسة المجتمعات، وفهم واقعها، وتاريخها وثقافتها ومعادلاتها الاجتماعية، هو الذي يوضح لنا كيفيات وآليات التعامل معها، ومواصفات خطابها، والفقه الذي يمكننا من التدرج في الأخذ بيدها إلى تقويم سلوكها بشرع الله، ففقه الواقع هو الذي يدلنا على منهج الاجتهاد ونوعه المطلوب، كما يفتح لنا باب التجديد، ويضع معالم التغيير، كل هذا طبعًا تحت ضوء المنهاج الشرعي واستمدادًا من أصوله. وقد تكلم الأصوليون في باب الاجتهاد عن شروط المجتهد، فكان أغلبها، إن لم نقل كلها، يتكلم عن متعلقات الحكم والنــص، بحكم أن المجتهد في تلك العصور كان واحدًا من المجتمع المسلم منخرطًا فيه، معايشًا لآمال الناس وآلامهم، فكانت الاجتهادات ضمنيًا منبعثة من أعـماق الواقع الإنساني للمجتهد ،ولكن بعد أن سد باب الاجتهاد وسيطر الجمود، منذ أواسط القرن الرابع الهجري ،وابتعد المسلمون في واقعهم عن شريعة الإسلام، واستمر الكلام عن الاجتهاد وشروطه بعيدًا عما يجب أن يكون، محلقًا في أجواء النظري فقط، وانغلق المسلمون في دائرة النص، وهذا ما زاد في تعميق أزمة الاجتهاد وعقدها، حتى عد فتح باب الاجتهاد من الخطايا التي لا تغتفر، وتعرض علماء وأئمة كبار لتهمة الاجتهاد، ونالهم أشد الإيذاء والابتلاء بسبب ذلك، وحتى أن بعضهم قد قضى نحبه في السجون بسبب بعض آرائه الاجتهادية التي ظهر بعد ذلك صوابها، مثل فتاوى الإمام ابن تيمية رحمه الله في الطلاق، وكذلك ما جرى لابن القيم والعلامة ابن الوزير والأمير الصنعاني والشوكاني والقاسمي، وغيرهم كثير ممن تعرض لشتى صنوف البلاء بسبب اجتهاداته. ولا يرتبط فقه الواقع بالاجتهاد فقط،وإنما يرتبط بالتجديد أيضًا ،وفرق بين الاجتهاد والتجديد،لأن الأول يطلق في مجال الأحكام الشرعية وتطبيق النص،والثاني فمدلوله أوسع وشامل لكل قضايا الفكر والثقافة والدين. ثالثا: أدلة فقه الواقع ******************** يقول الله عز وجل: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [يونس: 57 ]، هذه أربعة مقاصد للقرآن الكريم: موعظة، شفاء لما في الصدور، هدى، ورحمة للمؤمنين، ترينا كيف اهتم القرآن بالإنسان الذي هو (المحور) في هذا الكون، والذي من أجله خلق وسخر، فأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم لإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ورحمته، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، مغيرًا ما بالإنسان وما بواقعه من شرور وفساد، والشواهد على فقه الواقع من كتاب الله عز وجل كثيرة منها على سبيل الحصر ى الإجمال: 1 ـ القرآن المكي والمدني، فلكل واحد منهما خصائص وسمات وعلامات وأحكام وتشريعات، فمثلا لم يفرض القتال أو حتى رده في الفترة المكية، فجاءت كل الآيات داعية للصبر الطويل والعفو والصفح الجميل، وعلى الرغم من إلحاح المسلمين وطلبهم الإذن بالقتال وهم في مكة، فإن القتال كان محظورًا، فقد روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له كانت أموالهم بمكة. فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال: " إني أمرت بالعفو فلا نقاتل القوم ". 2 ـ لكل قوم هاد، ولكل رسول قضية، فالله عز وجل كان يرسل الرسول إلى قومه خاصة، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكرر ذلك في كتاب الله كثيرا خاصة في سورة الشعراء ( وإلى عاد أخاهم هودا ) ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) والمراد أخوهم في النسب والقبيلة، وليس أخوهم في الدين كما هو مفهوم، وقال تعالى ويقول الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) [إبراهيم:4]، والله سبحانه وتعالى لم يبعث رسولاً إلا لمعالجة قضية من قضايا الفساد والظلم، ويصلح وضعًا من الأوضاع المنحرفة، هذا بجانب رسالته الأصلية في دعوة الناس إلى التوحيد الخالص، فهود لمواجهة الطغيان والاستبداد والتكبر، وصالح لمواجهة الفساد في الأرض، وشعيب لمواجهة التطفيف في الميزان، وأكل أموال الناس بالباطل، ولوط لمواجهة الشذوذ الأخلاقي والسلوكي، وهذا كله من باب مراعاة واقع كل مجتمع وقضاياه الهامة وأخطر أزماته. ثالثا: أخبار الأمم السابقة، فثلث القرآن كما قال أهل العلم هو من أخبار الأمم السابقة، ومصارع الأمم، ومصير الغابرين، وجزاء المكذبين، وعاقبة المتقين، ذكرها الله عز وجل للتدبر والاعتبار والتروي والانزجار، وللقصص أثر بالغ في النفوس، تعوض عن الكثير من الكلام، إذ هي واقع حي مماثل يستعرضه علينا القرآن وكأننا نشاهده، وينقل لنا القرآن الكريم واقع الأمم السابقة، حتى نعرف أسباب الهلاك فنتجنبها وأسباب النجاة فنتبعها،فمن القصص القرآني نكتشف سنن السير في هذا الكون ومنهاج التعامل مع نعم الله عز وجل، فمشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة ترتبط فيها الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج،وذلك كله بقدرة الله عز وجل، وتلك السنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين حظي بالسعادة والنصر والفلاح، ومن سار في طريق العصاة المكذبين كانت عاقبته خسرًا ودمارًا وهلاكًا. رابعا: الإجابة على التساؤلات، ففي القرآن مواضع كثيرة يجيب الله عز وجل فيها على تساؤلات الناس المختلفة، ويبصرهم بكيفية التعامل معها، ومعظم أحكام القرآن نزلت بأسبابها، ولم تنزل ابتداء دون سبب، والنادر منها من نزل دون سؤال أو سبب، والآيات المبدوءة لكلمة " يسألونك " و " يستفتونك "، وفي نفس الوقت الذي يبين الله عز وجل فيها الأحكام، فإنه سبحانه من باب مراعاة الواقع وما فيه من مستجدات وظروف طارئة، يبين أحكام الأوضاع الاستثنائية، مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة. أما من سيرة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في مراعاة الواقع، واختلاف أحوال الناس وطبائعهم، أكثر من أن تحصر، فسيرته صلى الله عليه وسلم خصبة بمظاهر التعامل مع الواقع واعتباره، وسنقتصر هنا على ذكر وجهين فقط من مظاهر مراعاته صلى الله عليه وسلم للواقع، الأول في الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد الذي كان يوجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم من سائلين مختلفين، والثاني في صور تقدير الواقع في السيرة النبوية الشريفة. الأول: أجوبة متعددة وسؤال واحد، فإن المتتبع لكلام النبي صلى الله عليه وسلم يجد أجوبة متعددة للسؤال الواحد، نظرًا لتعدد السائلين واختلاف أحوالهم، فمثلاً: عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل ؟ نجد أجوبة متعددة فتارة الصلاة على وقتها، وتارة بر الوالدين، وثالثة الجهاد في سبيل الله وهكذا، وكذلك عندما سئل: أي الناس أفضل ؟ وحين يقال له: أوصني. أو طُلب منه عمل يُنتفع به، وغير ذلك، وفهم هذا التباين والاختلاف في الإجابة على نفس السؤال، لا يكون إلا إذا وضعنا في اعتبارنا اختلاف أحوال السائلين، وعندها يزول ما قد يتوهم من تناقض، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفقه الدعاة بواقع الناس وأحوالهم. الثاني: تقرير الواقع في الهدي النبوي، فمن يستعرض السيرة النبوية الشريفة يجد النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس حسب أفهامهم، ويعاملهم ويخاطبهم حسب قدراتهم، كما كان يراعي أحوالهم في المنشط والمكره، ويعتبر حاجاتهم ويرأف بهم وييسر عليهم، ويرفع عنهم الحرج، فهذه أمور كانت بمثابة الملامح الأساسية للدعوة النبوية، نعرض بعضًا منها لاستخلاص العبر والحكم، لتكون بذلك منهاجًا واقعيًا واسعًا شاملاً وكاملاً للدعوة إلى الله عز وجل، فمثلا عن ابن عمر رضي الله عنه قال، قال رجل: يا رسول الله، حدثني بحديث واجعله موجزًا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " صل صلاة مودع، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وإياك مما في أيدي الناس تعش غنيًا، وإياك وما يعتذر منه "، وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلامًا أقوله، قال: "قل:لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم "، فقال: هؤلاء لربي فمالي ؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني "، فانظر إلى الأعرابي، وهو المعروف بالطبع الحاد والفهم الساذج والانفعال السريع، يقول: هذا لربي، فمالي ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفه، بل علمه دعاءً وقدر فهمه، فلا يمكنه أن يعلمه ما لا يطيق أو ما يسبب له حنقًا وغضبًا على الإسلام، وكذلك الإعرابي الذي بال في المسجد، ورد فعل الصحابة ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم، مثال آخر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: " يا رسول الله، أقبل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم ؟ قال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه "، أي أن قدرة الشيخ ليست هي قدرة الشاب. أما الأمثلة على التيسير ورفع الحرج فكثيرة جدا، فغالب نصوص الشريعة جاءت برفع الحرج.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أفقاه لا يستغنى عنها الداعية (2) فقه مقاصد الشريعة شريف عبدالعزيز من آفات العمل الدعوي المعاصرة؛ النظرة الجزئية والقاصرة لنصوص الشريعة، النظرة الأحادية التي تقتصر على جانب معين من النص الشرعي، فالنصوص الشرعية مكون من نص ومعنى، بفقه النص والمعنى تتكامل الرؤيا لدى العلماء والدعاة، ففي حين ينشغل البعض بالنص ويركز عليه تماما بظاهرية يابسة، يركز البعض الآخر على المعنى بباطنية تخرجه عن الدلالات والمعاني الأصلية للنص، وبين هذا الشطط وذاك الغلو يأتي فقه مقاصد الشريعة ليضع العلماء والدعاة على الصراط المستقيم. فمن آفات انشغال كثير من الدعاة والعاملين في حقلها بالجزئيات والفروع، سيطرة الفكر التجزيئي على عقلية الكثيرين منهم، بحيث قادتهم هذه النظرة الجزئية الضيقة إلى نسيان أهداف الشريعة والدعوة الإسلامية ومقاصدها الكلية التي تحكم طريقة عمل الفروع والجزئيات، وذلك على الرغم من كون المقاصد ثابتة لا تتغير مع الزمان، والفروع قابلة للتغيير والتجدد وفق معطيات الزمان والمكان، أيضا هذا الاهتمام المتنامي والمفرط بالفروع والجزئيات من جانب بعض الدعاة أدى إلى تحويل هذه الفروع والجزئيات إلى ثوابت قطعية لا يسمح بالاقتراب منها أو التفكير في تعرضها للتجديد والتغيير، وهذه النظرة هي نفسها ذات النظرة التي سرت بين الناس في أوائل القرن الرابع الهجري وأدت إلى انسداد باب الاجتهاد شيئا فشيئا حتى أغلق بالكلية في أواخر القرن الرابع، وعدّ الاجتهاد ومخالفة أقوال الأئمة المتقدمين نوعا من الشذوذ والجناية والاعتداء الذي يستوجب العقاب، كما أدت أيضا هذه النظرة الجزئية لإضفاء هالة من القداسة على الآراء والأقوال الفقهية التي ذكرها الأئمة السابقون، بحيث من يخرج عنها يُفسق ويُبدع، وهو ما فتح بابا لم ينسد من التعصب المذهبي المقيت والذي راح في أتونه المستعر الكثير من العلماء والمجتهدين والعباقرة، بالجملة فإن الأخذ بظاهر النصوص دون الالتفات إلى معانيها وعلل أحكامها جمودٌ وظاهريةٌ تعطّل روح الشريعة، وتجرّدها عن صلاحيتها الدائمة، وهل صلاحيتها لذلك إلا بروحها ومعانيها ؟ وإذا كان الأخذ بظاهر النصوص جموداً، فإن الإيغال في اعتبار المعاني بما لا يحتمله دلالات النصوص وسياقاتها تحريفٌ للشريعة، ومصادمةٌ لنصوصها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ. من المؤسف حين تنزع لإنكار الإيغال في اعتبار ظاهر النصوص على حساب مراعاة المعاني أن تجد نفسك في نظر أصحاب هذا التوجه من المميعين للشريعة المحرفين لنصوصها، وحين تنكر على المغالين في اعتبار النظرة المقاصدية ومراعاة المعاني ولو بتأويل متكلف ممجوج لدلالة النصوص فأنت في نظرهم من أولئك الظاهرية الذين أماتوا روح الشريعة. لذلك فإن الحاجة لفقه المقاصد الشرعية تعظم للخروج من هذه الأزمات المعيقة. أولا: تعريف المقاصد الشرعية تبوأت المقاصدُ مكانةً عظمى في الدرس الأصولي، وبعد أن ظلت مهملة كفن مستقل في حقبة من الزمن، أو ما يمكن أن نسميه فترة ركود التأليف في المقاصد، أضحت المقاصد لها الاهتمام الأول على أنحاء من الأصعدة المتعددة، فلا يخلو كتاب شرعي – غالبا- من الإشارة إلى المقاصد أو الاهتمام بها أو الاعتماد عليها، سواء أكان في الدرس الأصولي أم الفتاوى، بل وتعدى ذلك للدعوة والفكر الإسلامي المعاصر، وتخطى إلى جوانب الحياة المتنوعة، حتى وصل الأمر للدعوة إلى تفعيل المقاصد في شئون الحياة الإدارية والسياسية والاقتصادية. المقاصد الشرعية هي الغايات والعِلَل والحِكَم التي تناط بها الأحكام الشرعية، فيما يتصل بالعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والآداب. وقد وُجِدت المقاصد مع وجود التشريع الإسلامي نفسه، وعرفها الصحابة والتابعون واعتبروها في اجتهاداتهم الفقهية المنثورة فيما نقل عنهم، ولكنها تبلورت بشكل تأليفي في مرحلة متأخرة، ويعد إمام الحرمين الجويني أول من كتب فيها ثم الغزالي ثم الشاطبي، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور وابن البيه والفاسي، وإن كانت اليد الطولى في المقاصد للشاطبي منظِّرها وإمامها، وذلك في كتابه " الموافقات ". وبخلاف شيخ المقاصد الإمام الشاطبي لا توجد جهودٌ بارزة باستثناء ما كتبه السيف الآمدي، ومحاولته البحث في ترتيب الضرورات الخمس، وقدم فيها النسل على العقل خلافًا لما ذهب إليه الغزالي ودرج عليه العلماء، وبعض جهود عدد قليل من العلماء؛ كابن رشد، وابن العربي المالكي، وفخر الدين الرازي، والعز بن عبد السلام، وشهاب الدين القرافي، ونجم الدين الطوفي، وابن تيمية، وابن القيم. ثانيا: أقسام المقاصد الشرعية موضوع علم المقاصد الشرعية هو المصالح والمفاسد والأحكام الشرعية؛ فالمصالح من حيث جلبها والمحافظة عليها وبيان مراتبها، ومراتب ما تجلب به ويحافظ به عليها، والمفاسد من حيث دفعها ودفع ما يدعو إليها، والأحكام من حيث جلبها للمصالح ودفعها للمفاسد، وللعلماء تقسيمان كبيران للمقاصد الشرعية كالآتي: أولا: تقسيم القدامي، وعمدتهم الإمام الشاطبي، ففي مباحث المقاصد في الإطار الذي وضعها فيه الشاطبي نجدها تتوزع بين محورين: أحدهما قصد الشارع، والثاني قصد المكلَّف. وهذا تقسيم منطقي جامع؛ لأن العلاقة في الأحكام الشرعية بين الشارع والمكلَّف؛ فالشارع لم يضع الشريعة عبثا، وإنما وضعها لتحقيق مقاصد معينة. والمكلَّف في امتثاله أو مخالفته لأحكام تلك الشريعة ينطلق من قصود معينة، وقد أدرج الشاطبي تحت المحور الأول أربعة أنواع، هي: 1. قصد الشارع في وضع الشريعة؛ ومجمل ما جاء فيه بيان لكون الشارع إنما وضع الشريعة لتحقيق مصالح الخلق بمراتبها الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وحديث في العلاقة بين المصالح والمفاسد، ومراتب كل منهما. فالضروريات كما عرفها الشاطبي: أنها تعني ما لابد منه في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين "، وهذه الضروريات خمسة كما عرفها الشاطبي هي: حفظ النفس والعقل والدين والمال والنسل. أما الحاجات والتحسينات فإنها بمثابة الأمور التكميلية، وليس معنى هذا الكلام أنها غير مطلوبة ويمكن الاستغناء عنها، ولكن هي في مرتبة دون الضروريات، ومقصود الحاجات الأساسي هو دفع المشقة ورفع الحرج أو الاحتياط لحفظ الضروريات الخمسة، أما التحسينات فهي لرفع المهابة وحفظ الكرامة. 2. قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام؛ وهو بحث في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية. 3. قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها؛ وهو حديث عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، والمشقة الناتجة عن التكليف. 4. قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة؛ وهو حديث عن العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف عند تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف، حتى يصح التزامه، أن يكون قصده تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له. وعن علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه. وعن عموم الشريعة لجميع المكلفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعنّ لهم. أما المحور الثاني فهو مقاصد المكلف في التكليف؛ وفيه تفصيل الحديث عن مقاصد المكلف في القيام بالتكاليف الشرعية، وعلاقة ذلك بالشارع. ثانيا: تقسيم المعاصرين، وعمدتهم الطاهر بن عاشور، ويندرج تحته قسمان كبيران، كالآتي: القسم الأول: مقاصد عامة، وهي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو غالبها، ومنها: 1ـ كون الشريعة مبنيَّة على الفطرة؛ بمعنى موافقة جميع أحكامها لما تقتضيه فطرة الإنسان السليمة، وقصد تلك الأحكام إلى حفظ تلك الفطرة وصيانتها من كل خرق أو اختلال. 2ـ كون الشريعة مبنيَّة على السماحة؛ وهي التَّوسُّط بين التضييق والتساهل، فهي راجعة إلى الاعتدال والعدل والتوسط. 3ـ قصد الشريعة إلى حفظ نظام الأمة الإسلامية وتحقيق الصلاح في جميع مجالات الحياة الإنسانية، واستدامة ذلك الصلاح. ويكون ذلك بتحقيق صلاح الإنسان القائم على ذلك النظام. 4ـ اتّصاف الشريعة بالعموم من حيث الأشخاص والأزمان والأماكن،وتساوي الناس في شمول أحكام الشريعة لهم، إلا لعارض يقتضي إعفاء البعض من عموم التشريع. 5 ـ أن الشريعة الإسلامية لم تشتمل على ما فيه نكاية بأتباعها، فهي قاصدة طريق التيسير والرفق. 6ـ أن الشريعة ليست قاصدة إلى تغيير جميع عوائد البشر، بل سارت على تغيير ما كان منها فاسدا، وتقرير ما كان منها من باب المعروف. 7ـ بناء الأحكام الشرعية على المعاني والأوصاف لا على الأشكال والأسماء ،وقبول ما تبيَّن منها بناؤه على معنى معقول القياس عليه. 8ـ إبطال الشريعة للتحايل على أحكامها، وسدها ذرائع الفساد، لأن في كليهما إبطال لمقاصد الشارع من شرع الأحكام. 9ـ أن الشارع قصد إلى تجنُّب التفريع في أحكام المعاملات في وقت التشريع تحقيقا للمرونة في هذا المجال، وتجنُّبا لما قد ينتج عن التفصيل من حرج على الأجيال التي تأتي في المستقبل. القسم الثاني: مقاصد التشريع الخاصة بأنواع المعاملات بين الناس، واستهلَّ هذا القسم بمقدمة عن انقسام الأحكام الشرعية إلى مقاصد ووسائل، وأن المقصد الشرعي الجامع لأحكام المعاملات بين الناس هو تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها رفعا لأسباب النـزاع والشجار، ثم تحدَّث بالتفصيل عن مقاصد أحكام العائلة، ومقاصد التصرفات المالية، ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان، ومقاصد أحكام التبرعات، ومقاصد أحكام القضاء والشهادة، والمقصد من العقوبات. ثالثا: علاقة العمل الدعوي بفقه المقاصد تمثل المقاصد أهمية كبرى للمجتهد والمفتي؛ فلا تصح الفتوى ولا الاجتهاد ولا حديث في الفقه دون رعاية للمقاصد، وقد جعل الإمام الشاطبي استحقاق العالِم أن يكون وريثًا للأنبياء منوطًا بمدى فقهه لمقاصد كل مسألة، فقال: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التعليم والفتيا، والحكم بما أراه الله "، فصحة الاجتهاد تتوقف على أن يستقبل المجتهد قبلة المقاصد كما تتوقف صحة الصلاة على استقبال الكعبة، فحيثما ولى المجتهد وجهه شطر المقاصد فثَمَّ الاجتهاد الصحيح، والحكم السديد، والفقه المؤيد. والعمل الدعوي الذي يسير على بصيرة من الله هو العمل الذي يعتمد منهجية سليمة ترغّب الناس في الإسلام وتعرض الإسلام عليهم كما هو، مع رعاية أحوال الناس، ومستوى عقولهم، واعتبار بيئاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأعرافهم، وما يفرضه ذلك كله من موازنات وأولويات في ضوء مقاصد الدعوة وغايات الشريعة في التعامل مع المكلفين وفق سنن الله الحاكمة للكون والحياة، فالبصيرة تقتضي التفطن والتبصر والفقه الدقيق للنص معنى وعملا، لذلك ينبغي أن تكون المقاصد روحا تسري في العمل الدعوي، كما هي روح تسري في العمل الفقهي على حد السواء؛ إذ الدعوة بلا مقاصد خبط عشواء يترتب عليه مشكلات ومثالب وسلبيات لا تحصر إن تفعيل المقاصد في العمل الدعوي ترشده وتقويه وتختصر الوقت والجهد والمال، وتحقق أهدافه بسرعة، ومن ثمرات مراعاة المقاصد وتفعيلها في العمل الدعوي أيضا: إحسان التعامل مع الواقع والأولويات والمآلات وغيره من أنواع الفقه، ومن فوائدها أيضا تضييق دوائر الخلاف بين الدعاة وأتباعهم، وبناء وتعزيز العقلية المقاصدية وتكسر طرق التفكير الضيقة عند بعض الدعاة والقائمين على الدعوة، ليظهر ذلك في مواقفهم وأولوياتهم ومعالجاتهم للأمور حسب مقاصدها ومراتبها ومآلاتها، ومن فوائدها أيضا تفعيل القدرة على بيان محاسن الإسلام وحِكَمه التي لا تظهر على تمامها وعلى حقيقتها إلا ببيان مقاصدها ومصالحها، والتمكن من تحسين تدين المسلمين وفي مقدمتهم أهل الدعوة أنفسهم، والارتقاء بهذا التدين من الصورية والظاهرية والتقليدية، إلى الوعي والإتقان والإحسان، وتحقيق مقاصد التكاليف الشرعية، و ترتيب الأولويات، والاختيار الصحيح للوسائل والتجديد فيها، كما أن رعاية المقاصد في الدعوة تعتبر باعثا على النشاط في العمل، وغير ذلك من الفوائد الدعوية التي تفتح آفاقا رحبة لنشر الإسلام والدعوة بين جميع شرائح المجتمع.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الداعية (3) فقه الموازنات شريف عبدالعزيز تكلمنا في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة المباركة من " أفقاه لا يستغني عنها داعية " عن " فقه الواقع " ثم عن " فقه المقاصد " وسوف نتكلم هذه المرة عن " فقه الموازنات " ومقصودنا من هذه السلسلة أن يتخرج جيل جديد من الدعاة يجمع بين الفقه وبين الدعوة، أي الداعية الفقيه الذي يدعو إلى الله -عز وجل - على بصيرة وعلم ودراية، فيتحقق بإذن الله علي يديه أكبر النجاحات، ويكون عاملا من عوامل البناء والنهوض، فليس الكلام عن هذه الأفقاه من باب الترف الفكري والتحسين الدعوي، بل هي من ركائز الدعوة الأصلية التي بدونها يكون الداعية معول هدم شره أكبر من خيره. أولا: تعريف فقه الموازنات فقه الموازنات؛ هو فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأمور، بعد تقرير المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل أو الترك، وهذا النوع من الفقه من أهم وأعظم قواعد الشريعة، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها ومن ثم يجب على الدعاة مراعاة المصالح والمفاسد في الدعوة بما يحقق أعلا المصالح ويدرأ أعظم المفاسد. قال ابن القيم - رحمه الله -" والشريعة مبناها وأساسها يقوم على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها, ورحمة كلها, ومصالح كلها, وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى البعث, فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل "، وقال شيخه ابن تيمية -رحمه الله -" جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين, وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما, وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما " ثانيا: أهميتها الدعوية الدعاة إلى دين الله -عز وجل - يعايشون واقعا مليئا بالمتغيرات والمستجدات والنوازل؛ بل إن هذه المستجدات والنوازل قد أصبحت سمة العصر، وقد تقلصت قاعدة الثوابت واتسعت قاعدة المتغيرات، فحاجات البشر لا متناهية، فكل يوم جديد ومستحدث، والأهم من ذلك أن هذه المستجدات طالت أيضا الأفكار والمناهج والأطروحات، فكل يوم يطلع علينا من الشرق أو الغرب أوراق عمل وبحث جديدة، وكلما اتسعت قاعدة المتغيرات والمتطلبات، كلما زادت حدة الاختلافات والتعارضات، والحكم على كل هذه المتغيرات، وبيان أيها أولى بالتقديم والترجيح يعتبر من أهم أولويات العمل الدعوي، وإن مراعاة فقه الموازنة بين الصالح والمفاسد من الأمور المهمة التي ينبغي لكل داعية أن يتعلمها, والدعاة فيها اليوم للأسف بين إفراط وتفريط, فطائفة لم تعتد بالمصالح الراجحة فخالفت بذلك النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وطائفة تساهلت في اعتبار المصالح وتوسعت في استعمالها على حساب النصوص الشرعية الواضحة فلم تراع (فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد)، ووفق الله طائفة فتوسعت بين هاتين الطائفتين فعملت (بفقه الموازنة بن المصالح والمفاسد) في ضوء نصوص الكتاب والسنة مراعية في ذلك الأصول والضوابط الشرعية مستفيدة من ميراث العلماء المحققين من سلف الأمة، وما قرره من قواعد وأصول عظيمة في فهم الدين. فالدعاة إلى الله وهم يعيشون واقع الدعوة ويحملون همومها قد يرون في واقع الحياة العملي تصادماً بين حكمين شرعيين على نحو يعجز معه المكلف عن الجمع بينهما, فيضطر إلى اختيار أحدهما وإعطائه الأولوية التنفيذية، وهذا التقديم لا يكون عشوائياً, أو عن هوى وغرض كما يفعل بعض المتلاعبين بالنصوص؛ بل يجب أن يكون وفق ضوابط, وهي بمثابة قوانين يستنير بها المكلف في ترجيح حكم على آخر ليفض الاشتباك الحادث عند التنفيذ. ثالثا: ضوابط فقه الموازنات الموازنة بين المصالح والمفاسد ليست عمل آحاد الدعاة أو عموم الناس، فهي مهمة العلماء الراسخين الربانين، النظر في تقدير المصالح والمفاسد وتقريرها والترجيح بينها يحتاج إلى التقوى الصادقة، والبصيرة النافذة، والدراية الواسعة، ليتمكن الداعية من تحقيق مقصود الشريعة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها. وعلى هذا فلابد من مراعاة أمر في غاية الأهمية عند ممارسة هذه الفقه الدعوي وهي: أن تحديد المصلحة من المنظور الشرعي لا المنظور العقلي المجرد, أو الهوى أو الغرض الدنيوي، وذلك بواسطة العلماء الصادقين الربانيين الواعين اليقظين. ومن أهم الضوابط المستخدمة في فقه الموازنات: الضابط الأول: تقديم أعظم المصلحتين على أدناهما ومعناه أنه في حالة تعارض مصلحتين وازدحامهما على نفس الحال، يتم تقديم المصلحة الأعلى على الأدنى، أو بعبارة أخرى تقدم المصلحة العامة على الخاصة، وذات النفع المتعدي على القاصر نفعها، فإذا تزاحمت مصلحتان لزم المكلف الحفاظ على كلهما، فإن عجز عن الجمع قام بتقديم المصلحة الراجحة والتضحية بالمصلحة المرجوحة, وليس معنى هذا أن المصلحة المرجوحة التي أهدرت, أو لم تعد مصلحة, ولكن معناه أن المكلف لم يتمكن من الجمع بينهما وبين المصلحة الراجحة, فضحى بها مضطراً لأن الشرع والعقل يحكم بلزوم الحفاظ على المصلحة العليا, ولو أدى إلى تفويت الأدنى، قال ابن القيم: "وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ", وقال العز بن عبد السلام: "إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعهما فإن علم رجحان إحداهما قدمت " والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1 ـ قوله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) [ التوبة: 19 ]، وفي سبب نزولها روى الإمام مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام, إلا أن أسقي الحاج, وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام, إلا أن أعمر المسجد الحرام, وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم, فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهو يوم الجمعة, ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه, فأنزل الله –تعالى- الآية، فيها يبين الله –تعالى- أن أعمال البر في الحج من العمارة والسقاية والرفادة, لا تساوي الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله فالإيمان بالله والجهاد في سبيل إعلاء كلمته, أعظم درجة عند الله من أعمال البر في الحج, وما عظم ثواب الإيمان والجهاد على ثواب الحج, إلا بسبب كثرة منافعهما, وهنا بيان لأن كل ما ذكر من الأعمال الصالحة إلا أن عند الموازنة بقدر الأكثر منفعة. 2 ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- في تفضيل الجهاد وتقديمه على التطوع بالنوافل في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن سلمان -رضي الله عنه-: "رباط يوم خير من صيام شهر وقيامه, وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ". وهذا التفضيل النبوي للعمل بناء على كثرة المنفعة فيه, يتمشى مع طبيعة الإنسان التي تميل إلى الأكثر منفعة، قال الإمام العز بن عبد السلام: "واعلم أن تقديم الأصلح فالصالح مركوز في طبائع العباد، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لأختار الألذ, ولو خير بين الحسن والأحسن لأختار الأحسن, لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المسرتين من تفاوت " وهذا الضابط يعتبر من الضوابط الهامة في ضبط الخطاب الدعوي، وكيفية توجيه الناس لما فيه نفعهم الخاص والعام في الدنيا والآخرة، وأيضا هو من أدوات ضبط العمل المجتمعي، حيث يتم توجيه الطاقات والملكات والإمكانات لما يعود بالخير العميم على المجتمع والبلاد ككل، وهو يستخدم كمعيار لحل كثير من إشكاليات المجتمعات المعاصرة، كما أنه يستخدم في ترشيد حركة الدعاة حيث يركزون على الأهم فالمهم، وذلك في الوسائل والأعمال على حد السواء، مثال ذلك لو تزاحمت وسيلتان للدعوة إحداهما تذكرة وعظ وإرشاد لعدد قليل من الناس، والأخرى درس علم ثابت يمكن تدوينه وتسجيله ونشره بين أعداد كبيرة، عندها يكون تقديم الدرس على الموعظة، ومثال آخر لو تزاحم عملان للداعية أحدهما في تحفيظ القرآن لعدد محدود من الشباب أو الأطفال، والآخر في الخطابة والقوافل الدعوية، قدم العمل بالخطابة والقوافل على التحفيظ على الرغم من كون تعليم القرآن من خير، ولو تعارضت تربية الداعية لبيته وتهذيب نفسه مع مشاغله الدعوية، بحيث يؤدي هذا الانشغال لحدوث خروقات تربوية لأبنائه، وجب عليه الانتباه لبيته وأبنائه. الضابط الثاني: درء أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما ومعناه إذا لم يكن هناك بد من ارتكاب إحدى مفسدتين، وقد ازدحما على نفس المكلف أو الواقعة، كان عليه أن يدفع أعظم المفسدتين ضررا بتحمل أداء أخفهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم"، والدليل على هذا الضابط مطرد في مواطن كثيرة من نصوص الشريعة منها: 1ـ قوله تعالى في شأن القتال في الأشهر الحرم مبيناً أن القتال فيها أقل مفسدة من الصد عن سبيل الله: (يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [ البقرة: 227 ]. فقد أنكر الكفار على المسلمين استباحة الأشهر الحرم والقتال فيها, فرد الله عليهم قائلاً: نعم القتال فيها كبير الإثم والجرم, ولكن الاعتداء على المسلمين والإسلام بالصد عن سبيل الله وقتل المسلمين وفتنتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم, كل هذا وغيره أعظم مفسدة وأكبر جرماً عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها, وإذا كان كذلك فإن القتال فيها ضروري وواجب لدرء هذه المفاسد الكبيرة. 2 ـ في قصة الخضر مع موسى -عليهما السلام- ما يبين تطبيق عملي لهذا الضابط، فقد دفع مفسدة غصب الملك السفن بمفسدة أخف, وهي خرق السفينة, واحتمل مفسدة قتل الولد ليدفع مفسدة إرهاق والديه طغياناً وكفراً التي هي أعظم وأشد من قتله. 3 ـ أما من السنة فقد روى البخاري عن أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس, فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: " دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء - أو ذنوباً من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين "، فبول الأعرابي مفسدة لكنها أخف مما قد يصيبه من مرض بسبب قطع بوله, لهذا قال الإمام النووي معلقاً على هذا الحديث: " فيه دفع أعظم الضرر باحتمال أخفهما لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (دعوه) لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتضرر وأصل التنجس قد حصل, فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به.والثانية: أن التنجس قد حصل في جزء يسير من المسجد, فلو أقاموه أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد " ومن الأمثلة التطبيقية في عالم الدعوة كثيرة، خاصة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تعظم الحاجة لفقه الموازنات، فمثلا إن رأى الداعية شخصا في غضبه وهياجه يشتم ويلعن فلانا أو علانا، فأنكر عليه بشدة أو بغلظة أو أنبه أمام الناس ولامه بقوة، فربما ينتقل من الشتم واللعن إلى سب الدين والجهر بالكفر، فعندها يكون من الفقه الانتظار حتى تنتهي سورة غضبه ثم ينصحه بهدوء وبعيدا عن أعين الناس، مثال أخر فلو أنكرت على الأبناء في البيت تقصيرًا في صلاة الجماعة، أو عمل محظور شرعي، ثم أدى بهم هذا الإنكار إلى أن يخرجوا من البيت ويختلطوا بالفساق، فتركهم على ما هم فيه من المنكر ثم الترفق في نصحهم والتدرج معهم حتى يدعوه، وكما يطبق هذا على الأولاد في البيت يطبق في المجتمع بعامة. الضابط الثالث: تقديم الأغلب على الأقل عند التعارض من القواعد الأصولية عند العلماء: أنه لا مصلحة صرفة، ولا مفسدة صرفة، فكل مصلحة لا تخلو من مفسدة وكل مفسد لا تخلو من مصلحة, فلا توجد مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة في أي فعل من الأفعال؛ لذا كان الحكم للجهة الراجحة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "جميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم, قد تحصل لصاحبه به منافع ومقاصد, لكن كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها, كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة, لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع فهذا أصل يجب اعتباره "، وقال الشاطبي: " فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب, فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً, وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً ". وجريا مع هذا الميزان الشرعي الذي يراعي الجانب الأقوى فإنه إذا تزاحمت المصالح مع المفاسد فإن الحكم للجهة الغالبة, إما للمصلحة وإما للمفسدة, فإن كانت المفسدة أكبر درأنها , وإن كانت المصلحة أكبر جلبناها. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا منها: 1 ـ قوله تعالى في شأن الخمر والميسر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) 2 ـ وامتناع النبي -صلى الله عليه وسلم - عن بعض الأعمال التي قد تفهم خطأ أو يسئ استخدامها فيما بعد، مثل نقض بيت الله الحرام وإعادة بنائه على أساس إبراهيم -عليه السلام-؛ لأن المصلحة في إعادة بنائه عارضها مفسدة أكبر متمثلة في امتناع قبول بعض المسلمين ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، كما ورد في حديث عائشة، ومنها عدم قتله للمنافقين على الرغم من كفرهم وشدة عداوتهم للمسلمين، حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وحتى لا تتخذ ذريعة لمن بعده في اتهام الناس في نواياهم ومحاكمتهم بناء على ذلك. ولعل أعظم تطبيقات هذا الضابط في الدعوة هو التعاون مع غير المسلمين والاستفادة فيما عندهم علوم وتقنية في الجهود الإنسانية أو العمرانية، بما يعود بالنفع على المجتمعات الإسلامية. الضابط الرابع: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهو أهم ضابط على الإطلاق، ولب فقه الموازنات في فهم وتقدير هذا الضابط، فمتى تعارضت المصالح مع المفاسد، ولم يمكن الترجيح أيهما أعظم نفعا أو ضررا، وكلاهما سواء، يكون درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، شريطة أن يكون تقدير حجم المصلحة أو المفسدة راجع للعلماء المتوافر فيهم الشروط السابقة من العدالة والصدق والتقوى والبصيرة بالواقع؛ حتى لا يأتي من يعظّم مصلحة أو يدّني مفسدة، ويلعب بهما كيف ما شاء وتوظيفا لأهدافه وأغراضه الخاصة، والشريعة جاءت باجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من فعل الأوامر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، ومن ذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرمٍ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: "اخرج معها" فالرجل أراد أن يخرج للجهاد (وهذه مصلحة محققة)؛ ولكن لما تعارضت مع مفسدة حج المرأة بدون محرم درئت المفسدة بسفر الرجل مع زوجته ليكون لها محرمًا، وتركت المصلحة وهي الجهاد. إن غياب فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد من أعظم أسباب نجاح الدعوات، ومن آكد أفقاه الداعية في عالم ملئ بالمتغيرات والمستجدات والمتعارضات، وإن غياب هذا الفقه عند بعض الدعاة , جعلهم يفعلون أموراً يحسبون أنهم يحسنون بها صنعا، وهم من حيث لا يشعرون يجلبون بها المفاسد, ويفوتون بها المصالح، ولن ينفع إخلاص وصدق، مع جهل واستعجال.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الداعية (4) فقه الأولويات شريف عبدالعزيز إن فقه الأولويات مركب إضافي من كلمتين: أولهما الفقه، ولغة هو مطلق الفهم، ولا يُقصد بكلمة الفقه هنا المعنى الاصطلاحي الذي هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وإنما مقصود به مطلق الفهم الذي جعله الله شرط بلوغ الخير وتحقق الهدي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يُرد الله به خيراً يفقه في الدين". وأما الأولويات، فهي جمع أولى. وأولى في اللغة، جاءت على معنيين هما: الأول: بمعنى أَحَقّ وأَجْدَر، والثاني: بمعنى أَقْرَب، غير أن هذا المعنى الثاني يرجع في أصله إلى المعنى الأول، فقد جاء في معجم (لسان العرب): يقال: فلانٌ أولى بهذا الأمر من فلان، أي أحق به، وفلان أولى بكذا، أي أحرى به وأجدر، وفي الحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر" [البخاري، انظر الفتح 12/11] أي أدنى وأقرب في النسب من المورث، ولمادة "أولى" استعمالات أُخَر، لكنها لا تخرج في مجموعها عن المعنى الأصلي الذي هو الأحقية، ومنها أَوْلاه على اليتيم: أَوْصَاه عليه، وأولاه معروفا: أسداه إليه، وأَوْلَى فُلانًا الأمر: جعله واليًا عليه، وأَوْلَى لك: كلمة تهديد ووعيد، أي: قاربك الشر فاحذر، ومنه قوله تعــالى ![]() وعلى هذا فإن المركّب الإضافي (فقه الأولويات) يعني: "معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق"، بمعنى أن يقدم على غيره، وهذا أيضاً تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبّق فيه الأمر، لذلك وجدنا عند علماء الفقه وأصوله عبارة "هذا خلاف الأولى"، بمعنى هذا خلاف الحكم الأجدر بالتطبيق. وبعبارة أخرى فقه الأولويات هو " العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها " وهذا يعنى أن تقديم حكم على آخر يتطلب الفقه بأحكام الشرع وبمراتب هذه الأعمال، وبالقطعي منها من الظني وبالأصل منها من الجزء، وبالكبير منها من الصغير، وبعبارة موجزة "العلم بالخريطة الشرعية للأحكام " والعلم بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم على آخر في حالة التزاحم أو في غير حالة التزاحم، كما يجب العلم بالواقع والظروف التي يتحرك فيها المسلم ، وعلى هذا فما أصدق ما قاله ابن القيم حين دعا المفتي إلى نوعين من الفهم، "أحدهما فهم الواقع، والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني هو فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. وإن من الأهمية البالغة لكل مسلم أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل منطقي وصحيح حتى لا يقدِّم المهم على الأهم، أو يحرص على المفضول ويترك الفاضل، كمن يحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويفرط في أداء الفرائض والواجبات أو يتساهل في فعل المحرمات، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسألون عن دم البعوضة، والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه. ويشير الإمام الراغب الأصفهاني إلى فقه الأولويات في كتابه الهام ( الذريعة في مكارم الشريعة ) بقوله: لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؟ ولهذا قيل لا يستطيع الوصول من ضَيَّع الأصول، فمن شَغَلَهُ الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار الله – تعالى - بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) [النَّحْل 90]. وكثيرًا ما يتم التنصيص في القرآن الكريم وفي السنة النبوية على أولوية أفعال معينة، وتقديمها على غيرها، بعضها مُدْرَك العلة، وبعضها الآخر غير مُدْرَك، فمما لا تدرك فيه العلة تفضيل مسجده -صلى الله عليه وسلم- على سائر المساجد، وتفضيل الصيام -غير الفرض- في محرم على غيره، وتفضيل بعض صيغ الذِّكْر على غيرها، فهذه التفضيلات وغيرها لا يظهر للعقل البشري وجه الحكمة فيها فالحق سبحانه يفضل أحيانًا عبادات معينة في أزمنة وأمكنة معينة. ومما يمكن تعليله: تفضيل العلم على العبادة، وتفضيل الجهاد على النوافل، وتفضيل صلاة الليل على غيرها، وتفضيل الصدقة على الأقارب على غيرهم وهكذا، وأغلب الأولويات التي تُدْرَك عللها تعود إلى أحكام المعاملات، أما الأولويات التي لا تُدْرَك علل تقديمها على غيرها؛ فتعود إلى أعمال العبادات غالبًا. ومن أمثلة الأولويات والتفضيلات في القرآن: قوله عز وجل: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [ البقرة 271]، وقوله (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [ البقرة 263]، وقوله (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [ البقرة 280]، قال تعالى(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين) [ الشورى 39ـ 40 ] ومن أمثلة الأولويات والتفضيلات في السنة النبوية المطهرة: الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية: فقد جاء عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" ( أبو داود )، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (أبو داود )، ومن الأمثلة تقديم الاهتمام بالباطن على الظاهر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم ولكن يَنْظُر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم 1987)، ومنها الصدقـة حال الصحة أولى من الوصية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (البخاري). والفهم الصحيح للدين يستلزم معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقال: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين". والمسلم في حياته الدنيا يواجه أربعة أحوال لأموره الدينية والدنيوية، حسب درجة وأهمية كل واحدة منها تتحدد حركة المسلم: الحالة الأولى: هام وعاجل، وهو ما يجب أن يبدأ به المسلم فورا ولا يصح تأخيره بأي حال من الأحوال، وهو ما طلب منه على سبيل الوجوب الوقتي والإلزام الفوري، كما لا تصح فيه النيابة والوكالة إلا في أضيق نطاق، وهو ما يجب أن يبدأ به المسلم فورا دون تأخير. الحالة الثانية: هام وغير عاجل، وهو ما أمر به المسلم وجوبا ولكن على التراخي وليس على الفور، وهو ما يجوز للمسلم أن يؤخره بما يتناسب مع إمكاناته وقدراته وبعد خلو ذمته وبراءتها من الأمور العاجلة واجبة التطبيق الفوري. الحالة الثالثة: غير هام وعاجل، وهو العمل الذي يجوز فيه الوكالة والنيابة لمن يقوم به نيابة عن المكلف الأصلي، وقلنا فيه بجواز التوكيل والنيابة لأن العمل حاز صفة الفورية أو العجول. الحالة الرابعة: غير هام وغير عاجل، وهو معظم الأعمال الدنيوية من سائر المباحات ومن صنوف اللهو والتمتع بملاذ الدنيا والتقلب في أحوالها. وفي ضوء هذه الأحوال الأربعة يستطيع الداعية أن يضع لبنات وأساسيات لحركته الدعوية والعملية تضبط هذه التحركات والقرارات، ومن أهم هذه اللبنات: اللبنة الأولى: نقطة الإصلاح الإصلاح هو الغاية العظمي للعمل الدعوى كما قال الله - عز وجل - على لسان رسله ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) [ هود 88]، ومعظم الاختلافات التي تدور داخل صفوف التيارات الدعوية هي في الأساس في كيفية تطبيق الإصلاح المجتمعي، هل نبدأ من القمة أم من القاع ؟ هل نشتغل بالعمل الجهادي أم بالعمل السياسي أم بالعمل التربوي؟ ومن خلال التصورات المتباينة تحدث الاختلافات في العمل الدعوي. ومن خلال النظر إلى مآلات التجارب المختلفة للإصلاح، يتضح لنا إن نقطة الإصلاح الحقيقية تبدأ من النفس ثم البيت ثم من يعول ثم سائر المجتمع، ومن تطبيقات هذا التدرج في الإصلاح مثلا: البدء بالإصلاح الداخلي للمجتمع المسلم وتقويته قبل الاهتمام بفضح مخططات الأعداء ومؤامراتهم، فما كان للأعداء أن يتسلطوا لولا الفساد والضعف الداخلي من الابتعاد عن دين الله – تعالى -، والظلم بشتى صوره وأشكاله، وعدم تعيين الأكفاء في المناصب، والفساد الإداري والمالي، والتقصير في محاربة الفقر، والعصبية الجاهلية سواء بين المناطق والقبائل أو بين الجنسيات، على الرغم من أن الأصل في ذلك أن لا يفرق بين أحد وغيره إلا على أساس الكفاءة والقدرة، وعدم الاهتمام بالعلم والتعليم بالشكل المطلوب، والتقصير في تقدير العلماء والمبدعين بل وقد يصل الأمر إلى محاربتهم والتضييق عليهم. ومن هذا المنطلق أيضا، يكون تقديم الاهتمام بأعمال القلوب على أعمال الجوارح، لأنه إذا صلح القلب صلح سائر العمل وإذا فسد القلب فلا عبرة بصلاح الظاهر عند فساد السرائر، فالإكثار من العبادات الظاهرة والاجتهاد فيها من غير إصلاح للباطن قد يقترن بما يحبط العمل ويفسده، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) متفق عليه، وفي رواية في البخاري: (يَقْتُلُونَ أهْلَ الإسلامِ وَيَدَعُونَ أهْلَ الأَوثَانِ)، فهؤلاء مع كثرة عبادتهم يمرقون من الدين ويخرجون منه، وقد علَّل كثير من العلماء ذلك بأنَّ في باطنهم من الكبر الخفي الذي يقودهم إلى تضليل المسلمين أو تكفيرهم ويجعلهم يعتقدون أنهم وحدهم على الحق المبين ومن سواهم على الضلال، فمدار صلاح الحياة على صلاح العمل، ومدار صلاح العمل على صلاح الحياة، وطريق الدعاة إلى الله عز وجل حافل بكثير من آفات وأمراض القلوب التي تعيق هذا السير وتحبط كثيرا من العمل. ومن هذا المنطلق أيضا يكون الاهتمام بالجوهر أعظم من الاهتمام بالمظهر، كالاعتناء باللباس أكثر من اللازم، والزعم بأن ارتداء الثياب العصرية حرام، مع أن الذي يُحَرَّم من الثياب هو ما كان بِنِيَّةِ التشبه بالكفار، فتكون هيئاتها لها خلفيات دينية أو عرقية أو مذهبية، أما الأزياء العادية التي يشترك فيها جميع الناس فتبقى مباحة للجميع، فقد ثبت -كما ذكر ابن القيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتدي ما تيسر له من الثياب، فالإسلام لم يلزم المسلم بزي معين، وإنما اشترط شروطا معينة متى توافرت جاز ارتداء ما يراه مناسبًا لظروفه، وإن لم يشبه زِيّ السلف. اللبنة الثانية: التدرج العلمي فالبدء بصغار العلم قبل كباره،كما قال الله - عز وجل -: ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) [ آل عمران 79 ] وقد قال المفسرون: الربانيون هم الذين يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، فطلب العلم بصورة تدريجية منتظمة تعتمد المنهجية الواضحة السليمة، تصل بالداعية لبر الأمان في العلم والعمل، وتقديم التربية بالقدوة الحسنة والأفعال الصالحة على مجرد الكلام الخالي من التطبيق وتكون تصرفات الداعية منضبطة سلوكيا وأخلاقيا وشرعيا، ولو نظرنا إلى سيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - لوجدناهم أكثر الخلق انضباطا بمعايير الشرع، فقد جيء إلى عمر - رضي الله عنه - بسيف كسرى ومنطقته وزبرجده قال: إن أقواماً أدوا هذا لذو أمانة، فقال علي - رضي الله عنه -: إنك عففت فعفت الرعية. وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى: أما بعد، إن أسعد الرُّعاة من سَعِدت به رعيَّتُه، وإن أشقى الرعاةِ عند الله من شقيت به رعيَّتُه، وإياك أن ترتعَ فيرتعَ عُمَّالُك. وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهل بيته فقال: إني نهيت الناس كذا وكذا، وإن الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيم الله! لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين، وفي عهد السلف كان الكثير من الناس يصحبون أهل العلم للاستفادة من سمتهم وأخلاقهم قبل أن يستفيدوا من كلامهم. ومنها تقديم الفرض والواجب على السنة والنفل، فلا يقوم أحد مثلاً بأداء بعض النوافل إذا كان في أدائها إخلال بالواجب، كمن يشق عليه صيام النفل بحيث لا يستطيع أداء واجباته على الوجه المطلوب، ومن ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - للزوجة أن تصوم تطوعاً، وزوجها حاضر إلا بإذنه، لأن حق الزوج واجب عليها، والصوم نافلة، قال بعض العلماء: " من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور". ومنها تقديم فرض العين على فرض الكفاية ومن ذلك أن رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. متفق عليه. اللبنة الثالثة: التدرج العملي وله عدة صور منها: تقديم الاهتمام بترك المنهيات على الاهتمام بفعل المأمورات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" متفق عليه، فهذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر؛ لأنَّ النَّهيَّ لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة، وعن أبي هريرة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعبدَ النَّاسِ" رواه الترمذي، وقالت عائشة رضي الله عنها: من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ فليكفَّ عن الذنوب. وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيءٍ أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه. وقال ميمون بن مِهران: ذكرُ اللهِ باللسان حسن، وأفضلُ منه أنْ يذكر اللهَ العبدُ عندَ المعصية فيمسك عنها، وقال ابنُ المبارك: لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّقَ بمائة ألفٍ ومائة ألف، حتّى بلغ ست مئة ألف، وقال مَالِكُ بنُ دِينَارٍ: لَأنْ يَترُكَ الرَّجُلُ دِرْهَماً حَرَاماً خَيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ بمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ ،وقال سفيان الثَّورِي: كُلِ الحَلالَ وَصَلِّ آخِرَ الصُّفُوفِ تُقْبَلُ مِنْكَ، وَلَا تَأكُل حَرَاماً وَتُصَلِّي أَوَّلَ الصُّفُوفِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ. ومنها: تقديم العمل المتعدي نفعه إلى الغير على العمل القاصر نفعه على صاحبه، وكمن يستطيع أن يعلم الناس علماً نافعاً في وقت من الأوقات أو يذكر الله وحده منفرداً، فقيامه بتعليم الناس أولى، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، فمن مشى في حاجة أخيه حتى يقضيها له كان خير له من اعتكاف شهر كامل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك في الأثر. ومنها: تقديم حقوق العباد على حق الله المجرد، ففي الحديث "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" (مسلم: 1886)، وتوفي رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقال: " صلوا على صاحبكم "، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الل ، ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين] أحمد وأصحاب السنن ]. ومنه يفهم تقديم حق الجماعة على حقوق الأفراد.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |