بين يدي سورة ق - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1074 - عددالزوار : 126938 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          عظات من الحر الشديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          المشي إلى المسجد في الفجر والعشاء ينير للعبد يوم القيامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          القلب الناطق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الظلم الصامت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          من أدب المؤمن عند فوات النعمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          عن شبابه فيما أبلاه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          بلقيس والهدهد وسليمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار وتجويع في التاريخ الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-11-2024, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي بين يدي سورة ق

بين يدي سورة ق (الجزء الأول)

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمدُ للهِ الذي كانَ بعبادهِ خبيرًا بصيرًا، و﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان:1].. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء:44].. والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا، صـلوات اللهُ وسلامهُ عليـه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ الأخيار، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا..

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا للهِ تبارك وتعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تغنموا وتربحوا.. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال:24]..

معاشر المؤمنين الكرام: القرآنُ الكريم: حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِين، وَنُورُه المبِين، وصراطهُ المستقيم.. ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود:1].. كتابٌ مجيد: لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، ولا تُقلِعُ سحائِبُه، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ.. كلما ازدادت البصائرُ فيه تأمُّلًا وتفكُرا، زادها هدايةً وتبصُرًا، ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:8].. كتابٌ عجيب: يخاطبُ القلبَ فيخشع، والنفْسَ فتخضع، والعقلَ فيقتنع، والعينَ فتدمع، ووالله لو أُنزلَ على جبلٍ أصمٍّ، لانهارَ وتضعضع..

وبين أيدينا سورةٌ كريمة، ذاتُ دِلالاتٍ عظيمة، سورةٌ جليلةٌ مهيبة، شديدةُ الوقع، قويةُ الجرْس، بليغةُ التأثير..

سورةٌ عظيمةٌ، تضمنت أصولَ الإيمان، واشتملت على ابتداء الخلق، واثباتِ البعثِ والنشور، والقيامةِ والحساب، والجنةِ والنار، وذكر الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. ولذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثرُ قراءتها ويخطبُ بها في الجُمَع والأعياد والمجامعِ الكبار، حتى أن كثيرًا من الصحابة حفِظها من كثرة سماعها.. إنها يا عباد الله سورة: (ق).. ففي صحيح مسلم أنَّ أم هشام بنت حارثة قالت: (ما حَفِظْتُ ق، إلَّا مِن في رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ بهَا كُلَّ جُمُعَةٍ).. وهذا يَدُلُّ عَلى أنَّها مِن أعْظَمِ السُّوَرِ شأنًا، وأقواها أثرًا.. فهيَّا لنتفيَّأ ظلالَ هذه السورة المباركة، إحياءً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتماسًا لهداياتها، وترقيقًا للقلوب بها..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ ق والقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:1-8]..

﴿ ق والقُرْآنِ المَجِيدِ ﴾ [ق:1].. القاف من حروف الشِّدةِ والجهر، ومخرجهُ من أقصى الحلق، وهو موجودٌ في أكثر من ثلاثين كلمةً قويةً من كلمات هذه السورة العجيبة.. مثل لفظة (الحق، تنقص، باسقات، يتقلى المتلقيان، قعيد، رقيب، سائق، قرينه، قرن، تشقق).. وغيرها كثير..

وفي مطلع هذه السورة العظيمة يُقسم الله تعالى بالقرآن المجيد، ﴿ ق والقُرْآنِ المَجِيدِ ﴾ [ق:1].. أي: الكتاب الواسعِ المعاني، المتعددِ المقاصد والدِلالات، الكثيرِ الهدايات والبركات، الَّذِي بلغ من الفصاحةِ قمتها، ومن المعاني أعمّها، ومن الهدايات أتمها، ومن المواعظ أبلغها، والذي علا وشرفُ عَلى كُلِّ كَلامٍ سواه.. مما يوجبُ على المسلم حُسنَ الانصاتِ له، والحرصَ على الاهتداء به، وشكرُ اللهِ على إنزاله..

وأمّا جوابُ القسم: فهو ما تتضمنه السورة كُلها، من تقرير النبوة، وإثباتِ البعثِ والحساب، وغيرها من الموضوعات الهامة..

﴿ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ ﴾ [ق:2].. ومم يتعجب الكفار؟.. أمن إرسال الرسول؟.. فمن الطبيعي أن يختارَ اللهُ من الناس واحدًا منهم، يتكلمُ بلغتهم، ويفهمُ واقعهم، ويجيدُ التعامُل معهم، فيرسلهُ الله إليهم ليبلّغَهم رسالته، ويعلّمَهم شريعته، ويبشّر المستجيبين، وينذِر المخالفين..

أم أنَّ عجبَهم من البعث بعد الموت، ولمَ يعجبون؟ ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة:36].. ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون ﴾ [المؤمنون:115].. كيفَ وأعمالُ الناس متباينة، وسعيهم شتى، فمنهم المحسن ومنهم المسيء، المحسنُ ينتظرُ الثواب، والمسيءُ يستحقُ العقاب، لكنهم لجهلهم بقدرة الله تعالى قالوا: ﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ق:3]، وما البعيدُ في الأمر.. فما حدثَ مرةً فتكرارهُ ممكن، بل هو أهون.. ثم إنّ البعثَ والإحياءَ يقعُ أمامهم في كل لحظة، وهذا ما تُذكّرهم به آياتُ السورة المباركة.. وتبينهُ لهم بكل وضوح.. ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظ ﴾ [ق:4].. فالناس إذا ماتوا وتحولوا إلى التراب شيئًا فشيئًا، فإنهم لا يذهبون سُدىً، ولكن الله الذي خلقهم يعلمُ بمآلهم، ويعلم ما تنتقِصهُ الأرضُ منهم، بل ويعلمُ بكلِ شيءٍ من أمورهم.. وهو مُسجلٌ عنده بكل دقةٍ في كتابٍ حفيظ.. وأمَّا ما تستنكرونه من بعثِ الأموات الذين تحولوا ترابًا، فلا فرق بينها وبين عمليات الخلقِ والإِحياءِ الجديدة، التي ترونها تتكررُ أمامكم في كل وقتٍ، وذلك هو الحقُّ الذي لا تريدون قبوله، ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾ [ق:5]، وحالهم حالٌ مضطرب، وهكذا سيكونُ حالُ كُل من يُعانِد الحقّ الراسخ ويتركه، فإنه سيقعُ في الحيرة والاضطراب، والشك والارتياب.. أمّا من اتبع الحقّ فهو واثقُ الخطى، ثابتُ الإيمان، مُستقرُ النفس، راسخٌ كرسوخ الكونِ من حوله.. ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج ﴾ [ق:6]، أَفَلم يلتفتوا إلى هذه السَّمَاء العظيمة فهي فَوْقَهُمْ، فينظروا كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا بناءً شامخًا محكمًا، راسخًا مُستقرًا.. وزينّاها بالنجوم الجميلة المضيئة.. وحفظناها من الخلل والاضطراب، فلا عيب ولا فروج.. ﴿ وَالْأَرْضَ ﴾ مثل ذلك ﴿ مَدَدْنَاهَا ﴾ ووسّعناها؛ ﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا ﴾ الجبال ﴿ رَوَاسِيَ ﴾ فهي ثابتةٌ مُستقرة، ﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ق:7]، يسرُّ الناظرين.. وما فعلنا ذلك إلا ﴿ تَبْصِرَةً ﴾ للمعتبرين، وموعظةً ﴿ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾، يخضعُ للحقِّ ويستجيب..

وهكذا يا عباد الله: فالكون كلهُ هو كتابُ الحقّ المفتوح، كتابٌ متاحٌ للجميع، والكلُ يطالعهُ بقدر إدراكهِ ورغبته، ليأخذَ منه زادهُ من الموعظةِ والذكرى، ويثمرُ في قلبه الخشيةَ والإنابة والتقوى، ويثبتَ على الحق والهدى، ويوقنَ أنَّ الذي بنى السماء ورفعها، وزينها بالنجوم وحرسها، وسلَّمها من العيوب وأتقنها، والذي مدّ الأرضَ وبسطها وأوسعها، وأحياها بالمياه والزروع ونوَّعها، وارساها بالجبال وثبتها.. لهو قادرٌ سبحانه على أن يُحييَ الأجساد يوم القيامة ويبعثها؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [العنكبوت:20].. أما المكذِّبُ والمُعرضُ فما تغني الآيات والنذرُ عن قومٍ لا يؤمنون..

ونكملُ بإذن الله ما تيسرَ من تدبر الآياتِ في الخطبة الثانية.. فبارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى..

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب ﴾ [الزمر:18]..

معاشر المؤمنين الكرام: وتستمر مشاهدُ السورةِ في تأكيد قوة الحق وثباته، وجماله وروعته.. ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكًا ﴾ [ق:9]، أنزلنا برحمتنا مطرًا غزيرَ النفعِ والفائدة، ﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ ﴾ كثيرةَ الأشجار، وأخرجنا به أصنافًا متعددةً من الزروع والثمار، ﴿ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ ﴾ الصالحِ للأكل والادخار، وَكذلك انبتنا به ﴿ ٱلنَّخْلَ ﴾ الطوال الـ﴿ بَـٰسِقَـٰتٍ ﴾، التي ﴿ لَّهَا طَلْعٌ ﴾ بهيٌ، وثمرٌ ﴿ نَّضِيدٌ ﴾ شهي، مُتراصٌّ فوقَ بَعضه كالعقد المنضود..

كل ذلك ﴿ رِزْقًًا ﴾ يسوقه الله بفضله ﴿ لِلْعِبَادِ ﴾ وإن لم يشكروه، ﴿ وَأَحْيَيْنَا ﴾ بِهِذا الماء ﴿ بَلْدَةً ﴾ كانت أراضيها ﴿ مَيْتًا ﴾ لا زرعَ فيها ولا حياة.. فلئن كان هذ مألوفًا لديكم؛ وترونه يحدث دائمًا فيما حولكم، فـ(كَذَلِكَ) سيكونُ ﴿ الْخُرُوجُ ﴾ وبعثُ الأجسادِ يوم القيامة.. فلماذا العجبُ وفيمَ الانكار؟.. أم أنَّ هذا هو ديدنُ وطبعُ جميعِ الكفار، على مختلف العصور والأمصارِ، ولذلك فبعدَ عرض تلك الصفحاتِ المبهرةِ من كتاب الكونِ المفتوح، عقَّب بذكر موقف بعض الأمم السابقة من رسلهم، وأنهم كذبوهم فحقَّ عليهم الوعيد، ونزل بهم عذابُ الدنيا قبل عذاب الآخرة.. ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ق:12-14].. نعم فمن كذَّبَ برسوله فقد كذَّبَ بكل الرسل؛ لأنَّ رسالتهم واحدة: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل:36]..

ويتكررُ سؤالُ السورة المحوري.. لمَاذا يُنكرُ المشركون البعثَ؟، فهل كان صعبًَا على الله إيجادهم وخلقهم ابتداءً، ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ﴾ [ق:15]، عِلمًا أنّ المشركين لا يشكون في قُدرةِ الله على الخلق، ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان:25]، لكنهم في شكٍّ من قدرته تعالى على البعث وإعادة الخلق مرةً أخرى.. ﴿ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق:15].. ومرةً أخرى لماذا؟ ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيم ﴾ [يس:81].. ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [الأحقاف:33].. ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم:27].. كان هذا يا عباد الله: ثلثُ السورة تقريبًا، وما تبقى نؤجلهُ لخطبٍ أخرى..

فاتقوا الله عباد الله وتعاهدوا كتاب ربكم، وأكثروا من تلاوته وتدبرهِ والعنايةِ به، فلَا شَيْءَ أَصْلَحُ لأحْوَالِ المسلمِ، ولا أعظمَ لهُ بركةً ونفَعًَا، مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الكريمِ، ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب ﴾ [ص:29].. جعلني الله وإياكم ومن نحب من أهل القرآن..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

اللهم صل على محمد..

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-12-2024, 04:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بين يدي سورة ق

بين يدي سورة ق

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

بين يدي سورة ق (الجزء الثاني)


الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ العليِّ الكبيرِ، العزيزِ القديرِ، ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر:1]، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى:11]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحديد:2]، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، ومصطفاه وخليله، البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المُنيرُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحابتهِ المغاويرِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم المصير.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق التقوى، واعلموا أن من تواضعَ لله رفعَهُ، ومن تكبرَ على الله وضعَهُ، ومن كان مع الله، كان اللهُ معَهُ، وإذا أردت أن تعرفَ قدركَ عندَ اللهِ، فانظر في هواكَ، وما تميلُ إليهِ نفسُكَ.. ﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت:34].

معاشر المؤمنين الكرام: تدارسنا في الخطبة الماضية الثلث الأول من سورة ق، والذي عالج انكار المشركين للرسالة المحمدية ومبعثهم بعد الموت، بأنه من الطبيعي أن يختارَ اللهُ واحدًا من الناس، ليبلغهم رسالته، ويعلّمَهم شريعته، وأما البعث بعد الموت، فإن إعادة الخلقِ أهونَ من ابتدائه.. وأن من يتبصر في كتاب الكون المفتوح، يوقنَ بقدرة الله المطلقة على الخلق، وأنَّه قادرٌ سبحانه على أن يُحييَ الأجساد يوم القيامة ويبعثها.. وحيث أن ديدن جميعِ الكفار، هو العناد والإصرار، فقد ذكّر الله بمآل بعض من كذب الرسل من الأمم السابقة؛ تَسليةً لِرَسولِه صلى الله عليه وسلم، ولعل قومه يحذرون.

ثم يأتي الثلث الثاني من السورة: استطرادًا مع قضية البعث، التي عالجها سابقًا؛ ولكن بلمساتٍ جديدة، رهيبة شديدة.. فهي تتحدث عن علم الله الشامل بالإنسان، وأنه في قبضة الله المحكمة، وتحت رقابته الصارمة الدائمة.. وإنه لأمرٌ يملأ القلب خشيةً ورهبة.. كيف لا؟.. والانسان لو شعرَ أن جواسيسًا يراقبونهُ عن كثب، ويتتبعونه أينما ذهب، لخاف منهم واضطرب، ولا نقلب حاله رأسًا على عقب، علمًا أنه مهما كانت إمكانياتهُم فهم لا يرصدون إلا ظاهره.. كما أنه من الممكن أن يفلت منهم، بينما قبضةُ الجبار قبضةٌ محكمة، وسلطانه سلطان عامٌ مطبق، (أين ما تكونوا يأتي بكم الله جميعًا، إنّ الله على كل شي قدير) [البقرة:148]، ورقابتهُ جل وعلا رقابةٌ صارمة، فلا تخفى عليه خافية، (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر:19].. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:7]، تأمل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق:16].. (ولقد خلقنا الإنسان).. فيها إشارةٌ إلى أن صانع الشيءِ أدرى بصنعته، فكيف بالخالق جل وعلا؟ ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ [الملك:14].. فالله مطلعٌ على ظاهر الإنسانِ وباطنة، وإلى أدق الوساوسِ والخطرات الخفيةِ في أعماق صدره، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).. وفي الآية تأكيدٌ على سَعةِ عِلمِ اللهِ تعالى بأحوالِ عباده، وتحذيرٌ لهم من مجرد التفكير بما يغضبه تَعَالَى، فهو بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ سبحانه، وَبمَلَائِكَتِهِ المكلفين، أقربُ إِلَى عَبْدِهِ مِنْ عِرق الوريد الَّذِي فِي رَقَبَتِهِ.. ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].. وكل هذا يؤكدُ إحكام سيطرة الجبار، وقوة رقابته، ودقة متابعته.. ﴿ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار ﴾ [الرعد:10]، ووالله لو استحضر العبد هذا الأمر بحسه، واستيقنه بقلبه، ما تجرأ على شيءٍ مما لا يرضى ربه.. ولاَستَحى من الله أن يَراه حيثُ نهاه، أو أن يَفقِدَهُ حيثُ أَمَره، ولحاسب نفسه على كل تفريطٍ وتقصير.. فها هي الآيات تستطرد في بيان قوة الرقابة، ودقة المتابعة.. فإذا الإنسانُ يعيشُ حياته كلها محاصرًا بين ملكين كريمين مكلفين به، أحدهما عن يمينه يرصد الحسنات، والآخرُ عن شماله يرصد السيئات.. ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق:16].. أي حاضرٌ رقيبٌ، لا يغفَلُ ولا يغيب، يرصده على مدار اللحظة.. قال الإمام سفيان الثوري لأصحابه يومًا: لو كان يجلس معكم مَن يرفع حديثكم إلى السلطان، أَكُنتُم تتكلمون بشيء يُغضِبه؟.. قالوا: لا، ومَن يجرؤ على ذلك.. قال: فاعلَموا أنّ الملائكة ترفع حديثكم إلى ربّكم.. وعن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أنْ تَبلُغَ ما بَلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ له بها رِضوانَه إلى يومِ القيامةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أن تَبلُغَ ما بلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ بها عليه سَخَطَه إلى يومِ القيامةِ)، فكان عَلْقمةُ يقولُ: (كم مِن كَلامٍ قد مَنَعَنيه حديثُ بلالِ بنِ الحارِثِ)..

قال تعالى: ﴿ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بالحقَّ ﴾ [ق:19].. جاءت شَدائِدُ الموت وغمراته، لينكشف للمكذب ما كان ينكره من الحقّ، وليرى حقائق الآخرة كاملة، وليتيقن منها عيانًا، لكن بعد فوات الأوان، وحين لا ينفع اليقين.. ﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق:19]، فالموت هو أشدُّ ما يحاول الانسانُ أن يهربَ منه ويروغ، وأنى له ذلك: فالموت زائرٌ لا يخلف الميعاد؛ وطالبٌ لا يفوته ما يطلب، ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ [الجمعة:8]، وإنّ مما يزيد الموت رهبةً شدة السكرات، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «لا إله إلا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ».. اللهم فارحمنا وهون علينا سكرات الموت..

ثم ينتقل الخطاب من سكرة الموت، إلى هول الحشر والحساب: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق:20].. ويا له من مشهد، ففي الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيفَ أنعَمُ وصاحِبُ الصُّورِ قد التقَم القَرْنَ وحَنَى جبهتَه ينتظِرُ متى يُؤمَرُ أنْ ينفُخَ".. ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق:21].. فالنفس إذن هي التي تحاسب، وهي التي تتلقى الجزاء. وهي حين تأتي يأتي بها سائقٌ من الملائكة يسوقها، وشاهدٌ من الملائكة يشهدُ لها أو عليها.. وهذا المشهد المروع أشبهُ بما يحدث للمتهم في المحكمة، ولكن بين يدي الجبار جلّ وعلا، فلا مقارنة.. حيثُ يوبخ المكذِّبُ في هذا الموقف العصيب، فيقال له: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ﴾ [ق:22]، (لَقَدْ كُنْتَ) فِي الدنيا (في غَفْلَةٍ) وشكٍ (مِنْ هَذَا) الموقف العصيب، فلم تصدق به، ولم تستعد له، (فَـ) اليوم حين (كَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ)، وظهرت لك الحقيقة كاملة، وأبصرت من الأهوال والنكال ما لم يخطر لك ببال، وتيقنت أن ما تعاينه ليس وهمًا ولا خيال.. (فـ) إن (بَصَرُكَ الْيَوْمَ) قويٌّ (حَدِيدٌ)..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين ﴾ [النمل:87]..

ونكمل بإذن الله ما تيسر من التدبر في الخطبة الثانية..

أقول ما تسمعون...

الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.. أما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب ﴾ [الزمر:18]..

معاشر المؤمنين الكرام: بعد أن تنكشف حقائق الآخرة للمكذب وقبل أن يستيقظ من هو الصدمة، يتقدم قرينهُ من الملائكة ليشهد عليه، وهو الرقيب العتيد الذي كان يدون كل ما يصدر عنه في سجل أعماله: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا)، هو السجل الذي رصدت فيه كل (مَا) عمله في الدنيا، ها هو (لَدَيَّ) جاهزٌ (عَتِيدٌ).. ويقول الحق جل وعلا: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون ﴾ [الزخرف:29].. وبما أنّ كل ما في سجل اعمال هذا المكذب أعمالٌ كفّريةٌ مُشينة، تُدِينُه وتودِي به إلى الهلاك.. وبما أنّ الحكم العام على كل مشرك مُعاندٍ لله ورسوله، هو الخلود في جهنم، لذلك يأمر الله الملكين بإلقائه فيها.. ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾ [ق:24].. وعندها يفزع قرينه من الجن ويخاف، ويبادر إلى إبعاد التهمة عن نفسه، ﴿ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيد ﴾ [ق:27].. هكذا يتبرأ من اغوائه وإضلاله؛ ويتهمه أنه كان بطبعه بَعيدًا عن الحَقِّ والهدى، ميالًا من تلقاء نفسه نحو الضَّلالِ والردى.. بل ويصفه بأنه كان شديد الضلال والغواية.. وحيث أن هذا النزاع لن يفيد الخصمين شيئًا، فإنّ الله يحسم الأمر: ﴿ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد ﴾ [ق:28].. لا تختصموا أمامي فقد سبَق وأن حذرتكم وأرسلت لكم الرسل، وانزلت عليكم الكتب، وأقمْتُ عليكم الحُجَّةَ في الدُّنيا، فما لكم من عذر، وحُكمي لا يتغير ولا يتبدل، فإني أجازي كل عاملٍ بحسب عمله، ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ [الزلزلة:7]، ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف:49]..

بهذا ينتهي مشهدُ الحساب الرهيب، لينتقل إلى مشهد الجزاء الأرهب: ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق:30].. وسؤال الجبار جل وعلا لنار جهنم وجوابها, يتجلى فيه مشهدٌ مرعبٌ مخيف.. فنارُ جهنمَ رغم كثرة ما يُقذفُ فيها من الكفار، إلا أنها حين تُسأل: ﴿ هل امتلأت ﴾، تتلمظ وتزفر غضبًا لربها؛ وغيظًا على المكذبين.. (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).. فيا له من هولٍ مرعب.. بينما في الجهة الأخرى مشهدٌ على الضد من ذلك.. مشهد جميلٌ رائق، إنه مشهدُ الجنة وهي تقتربُ من المتقين، نعم الجنةُ تقترب من المتقين, ليتأملوها من قريب، ويروا ما فيها من الملك العظيم، والنعيم المقيم: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [ق:31].. ويقال لهم على وجه التهنئة والترحيب: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾ [ق:32]، هذه هي الجنة التي وعدَ الله بها كلَّ (أوَّابٍ حفيظ) قلبه متعلقٌ بربه، سريع الرجوع والأوبة إليه، حفيظٌ لحدود الله؛ محافظٍ على أداء الفرائض والواجبات.. ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:33]، ملازمٌ لخشيةِ الله في الخلوات، كثير الإنابة والتوبة والطاعات، حريصٌ على ما يرضي ربه، بعيد عن كل ما يسخطه.. ثم يؤذن لهم بدخولها: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَام ﴾ [ق:34].. أدخلوها بسلامٍ آمنين.. آمنينَ من كل ما يكدر صفو نعيم هم.. ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق:34].. فنعيمهم دائمٌ لا يزول عنهم، لا يزولون عنه.. ثم يعلن في الملأ الأعلى، تنويهًا بشأنهم، وبيانًا لما لهم من الكرامة عند ربهم: أنّ ﴿ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد ﴾ [ق:35].. وهو كقوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف:71]، فمهما اقترحوا، ومهما تمنوا ومهما تخيلوا، فإنهم لن يبلغوا ما أعده الله لهم.. فالمزيد من ربهم غير محدود..

وأعظم ذلك وأفضله رضوان الله الدائم عليهم، مع لذة النظرِ إلى وجه الله الكريم؛ والتمتعُ بسماع كلامه الجميل؛ والتنعّمُ بقربه الجليل.. في صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: "يكشف الحجابَ؛ فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس:26].. نسأل الله من واسع فضله، وعظيم كرمه..

وبقي لنا مع هذه السورة المباركة وقفة أخيرة، نتدارسها بإذن الله في خطبة قادمة..

فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

اللهم صل على محمد..

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-12-2024, 04:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بين يدي سورة ق

بين يدي سورة ق

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

بين يدي سورة ق (الجزء الثالث)


الحمدُ للهِ الذي خَلقَ الخلقَ ليعبدوهُ، وأسبغَ عليهم نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً ليحمدوهُ ويشكروهُ، وأنزلَ عليهم كُتبَهُ وأرسلَ إليهم رُسلَهُ ليعرِفُوهُ، ويعظِمُوهُ ويوقِرُوهُ، ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 155]، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ [البقرة: 235].. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادة عبدٍ يُحِبهُ ويخافُه ويرجوهُ، ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾ [الأنعام: 102].. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، أحسن النَّاسِ خُلقًا، وأصحهم منهجًا، وأفضلهم عملًا، فطوبي لمن آمنوا به واطاعوه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ، وعلى أله وصحبهِ وكلُّ من على الحقِّ اتبعوهُ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

معاشر المؤمنين الكرام: تدارسنا في خطبتين سابقتين، الجزء الأول والثاني من سورة ق، وبقي معنا الجزء الأخير من هذه السورة المباركة.. والذي يأتي كالخلاصة والخاتمة.. وفيه إعادةٌ لأقوى ما تقرر سابقًا في السورة من الموضوعات المهمة، ولكن بطريقةٍ سريعة مركزة، ليكون لها في الحس وقعٌ آخر وتأكيد أقوى.. وهذه من خصائص القرآن العظيم.. ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ﴾ [الزمر: 23].

يقول الله تعالى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [ق: 36].. تأمل كيف بدأ اللهُ هذا الْـمَشْهَد الأَخِيـر لهَذِهِ السُّورَةِ العظيمة، بتهديدٍ شديد: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ﴾، (وكم أهلكنا ودمرنا من الأمم السابقة، ممن عاشوا أزمنةً طويلة، وكانوا ﴿ هُمْ أَشَدُّ ﴾ من كفار قريشٍ قوة، وأكثر ﴿ مِنْهُمْ ﴾ جيوشًا و﴿ بَطْشًا ﴾ وجبروتًا، فقد ﴿ نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ ﴾، وسيطروا على بقاعٍ كثيرةٍ من الأرض، وجمعوا ثرواتٍ هائلة، وشيدوا حضاراتٍ عظيمةٍ.. فما أغنت عنهم قوتُهم ولا أموالُهم ولا جيوشهم من الله شيئًا.. و﴿ هَلْ ﴾ لمن نزل بهم عذاب الله ﴿ مِنْ ﴾ وسيلةٍ تنقذهم، أو ﴿ مَحِيصٍ ﴾ يهربون إليه.. ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾ [غافر: 82].. فخذوا منهم العظة والعبرة: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].. (إنَّ فِي ذَلِكَ) الإهلاك لتلك الأمم الغابرة لَعبرةً و﴿ ذِكْرَى ﴾ مؤثرة، وإنّ في مصرعهم لموعظةً نافعة، ينتفعُ بها كل ﴿ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾، حيٌ سليم، وعقلٌ زكيٌ فهيم؛ يُذعنُ للحقّ ويستجيب، ومِثلهُ من ﴿ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾، وأصغى لآيات الله بانتباهٍ وتركيز؛ وأنصتَ لها بقلبٍ وعقلٍ حاضرٍ ﴿ شَهِيد ﴾.. فإنه أيضًا سينتفعُ ويستفيد.. ففي القرآن لمن كان هذا شأنهُ موعظةً وذكرى؛ وهدىً وشفاء، أمّا المعرضُ والمستكبر فهذا لن يستفيدَ شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146].. وقال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].. ثم ينوه اللهُ تَعَالَى بقدرته العظيمة؛ التي أوجد بها جميع المخلوقات، فيقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَه ُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38].. ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ ﴾ على ضخامتها، ﴿ وَالْأَرْضَ ﴾ على سِعتها، وخلقنا ﴿ مَا بَيْنَهُمَا ﴾ من عوالم ومخلوقاتٍ لا حصّر لها، خلقناها كلها ﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا ﴾ بسبب ذلك ﴿ مِنْ ﴾ تعبٍ ولا (لُغُو بٍ).. وفي هذا إِشَارَةٌ إِلَى أنّ أمرَ الْـخَـلْقِ وَالإِنْشَ اءِ سهلٌ عَلَى اللهِ، وبالتالي فإنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وبعثهم سيكون أهَونَ وأسهل.. ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ [ق: 39].. ﴿ فَاصْبِرْ ﴾ يا محمد ﴿ عَلَى ﴾ هؤلاء المشركين، وعلى ﴿ مَا يَقُولُونَ ﴾ ـه فيك مِن الأقاويل المؤذية، ولَا تأبه بها.. فـ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [فصلت: 43]، وانشَغِلْ عنهم بكثرة الذكر والصلاة، فإن فيها سلوةٌ لك؛ وعونٌ على تبليغ الدعوة.. ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ كثيرًا، خصوصًا في الأوقات الفاضلة، ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ﴾ فجرًا، ﴿ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴾ عصرًا.. ﴿ وَ ﴾ كذلك ﴿ مِنَ ﴾ آناء ﴿ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ﴾ وعقب الصلوات ﴿ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾.. ثم إنَّ الأمر بالصبر والتسبيحِ والصلاةِ، إنما هو تزودٌ واستعدادٌ لذلك اليوم العظيم، ولذا قَالَ اللهُ بعدها: ﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج ﴾ [ق: 41].. ﴿ وَاسْتَمِعْ ﴾ يا محمَّدُ وتأهب ﴿ يَوْمَ ﴾ يَنفَخُ صاحبُ الصورِ نفخةُ البعث، و(يُنادِ) ذلك ﴿ المنادِ ﴾ الناسَ ﴿ مِن مَكانٍ قَريبٍ ﴾، قريبٍ من أرض المحشر؛ فكل الخلقِ في ذلك الـ﴿ يومَ ﴾ سيصِلُهم ذلك النداءُ الرهيب، و﴿ يسمَعُون ﴾ تلك ﴿ الصَيحةَ ﴾ الهائلة، فهي صيحةُ البَعثِ ﴿ بالحَقِّ ﴾ اليقين، فـ﴿ ذلك ﴾ اليَومُ العظيمُ هو ﴿ يَومُ ﴾ الإحياء و﴿ الخُروجِ ﴾ مِن القُبورِ للحَشرِ والحِسابِ.. كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود ﴾ [هود: 103].. وفي ذلك المشهد العظيم تتجلى قدرة الخالق جل وعلا، ولهذا قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ﴾ [ق: 43]، فالله وحدهُ من يحيي الموتى، ومن يميت الأحياء، وإليه سبحانهُ في ذلك اليوم العظيم مَصِيرُهم ومرجعهم جميعًا.. ويا لهُ من مشهدٍ عجيب: ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ق: 44].. ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ ﴾ عَنْ أجسادهُمْ، وتتفتحُ القبورُ ﴿ عَنْهُمْ ﴾ وهم أحياء؛ فيَخرجون منها ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾ [القمر: 7]، ويُساقُون ﴿ سِرَاعًا ﴾ إلى أرض المحشر، ورغم كثرتهم الهائلة، فلن يتخلفَ منهم أحد، لأن الذي يحشرهم هو الذي خلقهم، وهو العليم الخبير، قال تعالى: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47]، ثم يؤكدُ اللهُ سهولةَ الأمرِ عليه فيقول: (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلينَا يَسِيرٌ).. ثمّ يتوجهَ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مثبَّتًا ومذكرًا.. ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].. ﴿ نَحْنُ ﴾ يا محمد ﴿ أَعْلَمُ ﴾ بكل ما يصدر عن هؤلاء المشركين المكذبين، ونحن من سيتولى محاسبتهم ومجازاتهم بكل ما فعلوا، ولست عليهم بمصيطر، ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾، فترغمهم على الإيمان والتصديق، ﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِير ﴾، و﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة: 272]، ﴿ إن عَلَيك إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ [الشورى: 48]، وأنْ تُذكِّرهُم بِالقرآنِ، فهو أعظمُ واعظٍ ومذِّكرِ، لمن كان فِي قلبِهِ خوفٌ مِن ﴿ وَعِيدِ اللهِ وعذابه.. كما قال تعالى: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾، أمّا من عداهم فكما حكى الله عنهم: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُون ﴾ [فصلت: 5].. وهذا الختام الرائع للسورة: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].. قد جاء متناسبًا مع افتِتاحِ السورة ومقاربًا له في المعنَى، حيثُ جاءَ أوَّلُ السُّورةِ: ﴿ ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1]، وقال في آخِرِها: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].. فيا لبلاغة القرآن العظيم..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون ﴾..

أقول ما تسمعون..

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى،
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين...

معاشر المؤمنين الكرام: لقد تضمنت هذه السورة العظيمة كثيرًا من الدروس والفوائد التربوية الهامة..

من أهمها) أنّ النَّظَر والتّفكرَ في خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ، وما فيهما من الآيات والمخلوقات، يقوي الإيمان، ويزيدُ المسلم بصيرة وإنابة إلى الله.. ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾ [الذاريات: 20]..

كما أنّ في الآيات لفتةٌ جميلةٌ: وهي أنّ انتفاعَ المسلم بمخلوقات اللهِ تذكرًا واستبصارًا أهمُ من انتفاعه بها ماديًا بما في ذلك الاستمتاعُ والبهجة..

وثاني الدروس) أنَّ العقولَ عندما تُخضِع للإلف والعادة، والتقليد والهوى، ولا تتجردُ للحق، فإنها ستنكرُ البدِيهِيات، وتعارضُ المُسلّمات، وبالتالي فإنها ستعيشُ كما أخبر القرآن قلقة مضطربةً وفي أمرٍ مريج..

وثالثها) أنَّ من وطّنَ نفسه على قبول الحقِّ متى علمهُ وتثبت منه، فسيُفتحُ له من الفهم والتوفيق والفلاح ما لا يُفتحُ لغيره، تأمل: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾ [النور: 51].. وأمّا من يتردَّدُ في قبول الحقَّ عنادًا وهوى، فسيشقى بالشك والحيرة والانصراف عن قبول الحق، قال تعالى: ﴿ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون ﴾ [التوبة: 45]، وقال تعالى ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]..

ورابع الدروس) بيانُ قوةِ تأثيرِ القرآن الكريم وكفايتهِ في الدعوة إلى الحق، ومواجهة الباطل: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]، وقال تعالى: ﴿ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9 ]..

وخامسها) أنَّ تكذيبَ الرُّسلِ عاقبتهُ وخيمة: قالَ تَعالَى: ﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ق: 14].. وقال تعالى: ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير ﴾ [سبأ: 45].. وقال تعالى: ﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَاب ﴾ [ص: 14]..

وسادسها) أنّ على المسلم أن يحذرَ من الغفلة، وأن يبادر ويستعدَ للقاء الله، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22].. وقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُون ﴾ [الأنبياء: 1]..

وسابعها) تربية النفس على تقوى الله وخشيته، لينال المسلم موعود الله: قَالَ تعالى: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 32].. وقال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان ﴾ [الرحمن: 46]..

وثامن الدروس) الحرص على طهارة القلب وسلامته لكي ينتفعَ بالمواعظ والذكرى: ﴿ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ ﴾ [ق: 47].. ولكي ينجو ويسلم يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ﴾ [الشعراء: 88]..

وتاسعها) المداومة على الذكر والإكثارُ منه، فإنه فيه طمأنينة للقلب، وسلّوة للنّفس، وعونٌ على الطاعة، قال تعالى: ﴿ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ [ق: 39].. وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين ﴾ [الحجر: 97]..

وعاشرها) أنّ دعوة الناسِ للحق ليست بالإكراه والإجبار، وإنما على التخيير، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]، وقال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر ﴾ [الغاشية: 22].. وقال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]..

فاتقوا الله عباد الله وتعاهدوا كتاب ربكم وتدبروا آياته، واستلهموا منه الهدى وتخلقوا بتوجيهاته، تُحَقِقوا مُرادِ اللهِ، وتنَالُوا مَرْضَاتِهِ.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

اللهم صل على محمد....



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 97.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 94.51 كيلو بايت... تم توفير 2.55 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]