|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() المغالاة في الديات إبراهيم الدميجي الحمد لله تعالى الحكيم في تشريعه، اللطيف في تدبيره، العليم الخبير ببواطن الأمور وظواهرها؛ أما بعد: فإن كِبارَ الأمور وجلائل الأخطار قد تكون نتيجة لصغير الأشياء؛ كما قال طرفة: قد يبعث الأمرَ الكبير صغيرُهُ ![]() حتى تظل له الدماء تصببُ ![]() ![]() ![]() فلربَّ كلمة هنا أو عمل هناك ترتب عليهما خير عظيم أو شر جسيم، والأمور بمقاصدها، والحكيم الفقيه هو من عرَف خير الخيرين وشر الشرين، وحبس نفسه على مقتضى علمه وحكمته؛ قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، وليست العبرة بقول لا يعضِّده عمل، ولا بعمل لا يقوم على نية خالصة، فإن استقامت الثلاثة، قام الدين ونهضت الشريعة واستقام الحال في العباد، والسعيد حقًّا من قفا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبدِّل ولم يقصر. وهذه الأمة مبتلاة في دمائها من عدوها ومن أنفسها، والشيطان حريص على تزيين الشر وإملائه، ولا يزال يوسوس ويملي، حتى إذا اندفق الدم الحرام تبرأ منه، والسعيد من وُعظ بغيره، والشقي من وعظته نفسه، ولات حين منزِع ورجوع! وإذا تبِع الناس كبراءهم في العلم والحلم والعقل، أوشكوا بإذن الله تعالى أن يفلحوا؛ فعن ذي الرمة قال: "شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم، فتكلم فيه وقال: احتكموا، قالوا: نحتكم ديَتَيْنِ، قال: ذاك لكم، فلما سكتوا قال: أنا أعطيكم ما سألتم، فاسمعوا: إن الله قضى بدِيَة واحدة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية واحدة، وإن العرب تعاطى بينها دية واحدة، وأنتم اليوم تطالِبون، وأخشى أن تكونوا غدًا مطلوبين؛ فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سَنَنْتُم، قالوا: ردها إلى دية". ابتداءً أدعو الله تعالى أن يعتق رقاب المسلمين من سيوف الدنيا ونيران الآخرة، وأن يفك أسْرَاهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام، ويجمعهم في رحاب الجنات، إله الحق آمين. إنَّ شرع الله هو الخير بحذافيره، وعين الحكمة بتفاصيلها، وحسن العاقبة في الدارين، وأي زيادة أو نقص عنه فهو انحراف عن الحق والهدى والسعادة بقدره، ومن ذلك: التعامل مع القتل العمد، فالحالات فيه تختلف بحسب الأحوال، ولكن يجمعها تخيير أهل الدم بين الثلاث: العفو مجانًا لوجه الله تعالى، أو القَود بالقتل قِصاصًا، أو الدَّيَة، فلهم العفو أو القَود أو العقل[1]؛ وهي مقدار مائة من الإبل، وتقوَّم من المال بمثلها. أما الصلح المسمى الآن بشراء الرقبة، وهو العفو عن القصاص إلى أكثر من الدية، ففيه خلاف، فمن أباحه، فقد فسر به الحديث الذي رواه أحمد بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جَذَعَةً، وأربعون خِلْفةً، وما صُولحوا عليه فهو لهم))[2]، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما صولحوا عليه فهو لهم))، هو الصلح المستأنف بما زاد أو نقص عن الدية، فقالوا: إنه نص في محل النزاع، فلا يجوز بحال العدول عنه، إلا لمرجح ومسوغ، وألحقوه بالدية، رفقًا بالقاتل وأهله، وتوسعة على ذوي المقتول، ولم يأتِ في الشرع منعه حتى نحتاج لمرجِّح، فهو صلح على خصومة، وهذا قول الأكثرين، بل نُقل إجماعًا، وإن كان الخلاف ثابتًا؛ قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية، وبقدرها وأقل منها، لا أعلم فيه خلافًا"[3]، وهو قول الحنفية[4]، والمالكية[5]، والشافعية في قول[6]، والحنابلة في الأصح المشهور[7][8]. وقد نقل ابن عساكر رحمه الله تعالى أن هدبة بن خشرم قُتل قتيلًا، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله[9]، وقالوا أيضًا: إنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض[10]؛ ولأنه عوِضٌ عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه؛ كالصداق وعوض الخُلع. وجواز الصلح هو الراجح؛ لجودة سند الحديث وعمل الصحابة به، ولكن هذا لا يمنع الإمام – خاصة مع قوة الخلاف - من تقييد إطلاق الحكم بما يدفع المفسدة، ويرفع الحرج، ويدفع الضرر إثر توسع الناس فيه، والضرر يُزال، فلا بأس بقيود تمنع من التزيد والمبالغة الشديدة، وإرهاق الناس وإحراجهم، وليس في هذا تعطيل للحكم، بل هو قَصْرٌ له على ما وُضع له، ومنع الناس من الزيادة عليه، فغرضه معلوم وعلته معقولة؛ وهي إرضاء أهل الدم بزيادة على الدية؛ ترغيبًا لهم في العفو بمقابل إذ لم يرتضوه مجانًا لوجه الله تعالى، وضابط الزيادة هنا هو المبالغة عرفًا، وبخاصة إن صحِبها مشقة شديدة، ولهذا نظائر في الشريعة؛ كجلد الشارب ثمانين، وإمضاء طلاق الثلاث ونحو ذلك، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والعلة هنا هي مراعاة حق أهل القتيل وأهل القاتل، أما القتيل نفسه، فحقه باقٍ حتى قيامة الأشهاد بين يدي رب العباد. قال الجبرين رحمه الله تعالى: "والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالًا كثيرًا، فإن لهم ذلك، وقد رُوي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات... وهذا يدل على أنه يجوز أن يُزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحًا عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله"[11]. أما من منعوا الصلح، فقد فسروا الحديث بأن القصد بالصلح فيه إنما هو تخيير أهل القتيل بين الدية أو القَود إن لم يعفوا، وليس لهم غير ذلك؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما صُولحوا عليه))؛ أي: وما تصالح واتفق القاتل وأولياء الدم عليه من القِصاص أو الدية، وقوله: ((فهو لهم))؛ أي: فما اتفقوا عليه من القصاص أو الدية هو الواجب لهم؛ أي: لأولياء الدم ((وذلك))؛ أي: كون الدية من الأصناف الثلاثة المذكورة؛ من الحقة والجذعة والخلفة ((تشديد العقل))؛ أي: تشديد الدية وتغليظها؛ لكون القتل عمدًا[12]. وعليه؛ فلم يرد ما يسمى بصلح الدم في التنزيل كتابًا وسنة، ولم يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حكم به، وما نسب إليه من ذلك لا يحتمله لفظه، وقد قال بذلك المنع: الشافعية في قول، والحنابلة في قول، اختاره ابن عقيل[13]، وبعض المتأخرين كابن القيم[14]، ومال إليه العثيمين احتياطًا[15]، وعللوه بعدم قصده في الحديث، ولفظ الحديث عام يحتمل غيره، كأن يكون بطيب نفس بلا اشتراط وغير ذلك، فيبقى الأمر بقصر تخيير أولياء الدم على الثلاث على بابه؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قُتل له قتيل فهو بخير النَّظَرين: إما أن يُودَى وإما أن يُقاد))[16]، فذكر الدية أو القصاص، وهذا يدل بمفهوم المخالفة على أنه لا خيار له فيما سوى ذينك، إن لم يرد العفو لله تعالى ابتداءً. وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله تعالى: "الدم له دية مقدرة شرعًا لا يُزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحًا، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول - أي: المنع من الزيادة على الدية - ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن صالحوا فلهم ما أخذوا))؛ أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسَّنها غير واحد، ومِلنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا؛ يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات؛ وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل[17]، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحد أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة، فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جانٍ قد لا يستحق أن يُبذَل له ذلك، وقد يكون شريرًا؛ كل هذا لا يجوز. فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يُقتصَر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يُصالَح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة... والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا، فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية[18]. وقال أيضًا: "ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يُعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدِّرون أباكم، وأبوكم لا يقدَّر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا، ولربما هددوهم بالقطيعة - والعياذ بالله تعالى - وهذا من مضادة شرع الله تعالى، ومن المحادة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وهؤلاء - نسأل الله تعالى السلامة والعافية - بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل ألَّا يأخذ شيئًا"[19]. وبعد؛ فمن تأمل مفاسد المغالاة في الديات ظهر له خطر ما يتجه إليه بعض الناس في هذا الزمن، فمن مفاسد المغالاة في الديات الآتي: أولًا: أن العاقلة - وهم العصبة - لا تتحمل شرعًا دية القتل العمد، إنما تتحمل - ندبًا لا إلزامًا - دية الخطأ وشبه العمد، فكيف يحملونهم الآن دية القتل العمد، ثم يضاعفونها عليهم بعد ذلك أضعافًا كثيرة؟ فإن فعلوا وإلا وقع عليهم لوم الجهال. ثانيًا: أن الدية ليس القصد منها بيع دم القتيل، بل هي تعويض لأهله عن بعض فقدهم له، لذلك رُوعي قدرها أن تكون مائة من الإبل أو ما يساوي قيمتها، وهي عند أوساط العرب كافية مدى حياة ذويه إن أحسنوا تدبيرها، فهي كفاية العائل وزيادة، أما حقه الخاص، فموفور عند الله تعالى. وعليه؛ فإن المبالغة في طلب مبلغ الصلح كأن فيه نوعًا من بيع دم القتيل، وفي هذا إرخاص له مهما بلغت الأموال التي سعروا بها دم، والدنيا بأسرها لا تساوي عند أهله قيمته، وهذا المعنى الرديء غير مراد للشارع البتة، فليس للمؤمن الحر ثمنٌ سوى الجنة. ثالثًا: أن في المغالاة تعجيز ومشقة وإضرار وتحريج للناس، وقد كانت دية الملوك في الجاهلية ألفًا من الإبل، أي: عشر ديات عادية، فأبطل الاسلام ذلك، فجاءنا اليوم من يطلب مائة دية بل تزيد، وصرنا نسمع من يطلب عشرات الملايين كستين مليونًا، بل مائة مليون ريال، وهذا مبلغ يوازي مائتين وخمسين من الديات، فانظر كيف انتقلوا – لما تجاوزوا دية الشرع - من دية ملوك الجاهلية عشر ديات إلى خمسين ومائتي دية، فأين هذا من الإسلام؟! فأمر الجاهلية مذموم مرذول مطرح؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ذهب أمر الجاهلية))[20]. رابعًا: أنها سبب لقطع أواصر القربى والأرحام، بيان ذلك: أن ذوي القاتل يقطعون وجوه أبناء عمومتهم، بل أفراد قبيلتهم وإن تباعدت بطونهم، في السعي لما يسمونه إعتاق الرقبة التعجيزي، ويلزمونهم بسيف الحياء بالمساهمة في جمع المبالغ حتى وإن كانوا فقراء مدقعين لا يجدون قوت عيالهم، فيضطرهم دفع معرة تنقُّص الناس لهم - إن لم يساهموا - إلى إثقال ظهورهم بالاستدانة أو دفق ماء وجوههم بالاسترفاد. وصاروا على علاتهم وفاقتهم يحاولون صيانة وجوههم، وستر أعراضهم عن مقاريض الناس، فيستدينون كيما يساهموا بمبالغَ لم يكلفهم الله بها ابتداءً، إنما يفعلون ما يفعلون دفعًا لعادية الشامتين بأن فلانًا - فعل الله به كذا وكذا - لم يقف مع قومه، ولم يساهم معهم في عتق تلك الرقبة القاتلة، ويتهمونه بالبخل والشح، والازورار عن مواقف القبيلة، وينتقصون رجولته، ويزدرون شيمته، ويغمزونه بنقص مقداره؛ لأنه لم يساهم في تحمل تلك الملايين التي ما أنزل الله بها من سلطان، أما من عجز عن المشاركة، فحسبه اقتلاعهم شيمته، وتسويدهم وجهه، وإثلامهم عرضه، فينشأ عن ذلك البغي قطيعةٌ وإحن وشحناء وبغضاء، وهذا الأمر ليس محصورًا في المساهمة في ديات الدماء، بل في غيرها، ولست في ذلك مبالغًا، فقد تأذى فيه فئام عندي خبرهم، علمًا أن الفقير لا يُطلَب لعقل الدم، والله المستعان. هذا، وقد تأخذ القبيلة النخوة والحميَّة والعصبية لإنقاذ ابنهم القاتل عمدًا وعدوانًا من السيف، وقد لا يكون صالحًا، بل ولا عاقلًا رشيدًا، ولا مأمون الغائلة، ويعقدون الاجتماعات والاحتفالات والمخيمات، وينشدون ما يسمى بالشيلات، مع الغفلة المطبقة لدى كثير منهم عن محاويج القبيلة وأيتامها وأراملها. ولا يعني ذلك بحال ذم التعاون؛ إذ إن التعاون على البر والتقوى قد أمر به الرحمن تبارك وتعالى، ويشكر كثيرًا من فعله، وساهم فيه ودل عليه وأعان، وهو باب شريف عزيز من أبواب الجنة، وشعائر الشريعة، وشعب الإيمان، وأصل المساهمة في جمع الدية - حتى وإن كانت على صلح - هي من شيم الإيمان وأعمال البر والتزكية، فأُوصِي نفسي وغيري بالمبادرة إليها، والمشاركة في سهمانها رأيًا وجاهًا وجهدًا ومالًا في سبيل رفع السيف عمن استحقه قضاءً، بإرضاء ذوي الدم بما يقدر عليه أوساط الناس، فإن غالوا وأعجزوا الناس، وأشبهوا الأمر ببيع الدماء؛ افتخارًا واستطالة وعلوًّا، فهنا يختلف الحال، فينبغي والحال هذه الاحتسابُ في هذا الأمر بردِّه إلى جادة عمل المسلمين عبر القرون بالدية المشروعة أو بالصلح المعروف، أما التزيد والمغالاة فليست من أعمال البر بسبيل. وبالجملة، فلا بد قبل الهمِّ بالمساهمة والتعاون على احتمال الدية من ملاحظة أمرين: الأول: أن هذا المأمور به هو من البر والتقوى، لا الفخر والبغي وإرادة العلو في الأرض. الثاني: أن يكون بقدر الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهي في الأصل مندوبة مستحبة لا فريضة لازمة، وكل امرئ له أولويات، فقوتُ العيال أولى وألزم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت))[21]، أما إن زاد ماله عن حاجة عياله وكفايتهم، فجاد الله على مَن جاد، ((والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه))[22]. خامسًا: أن الغلواء في قيمة الدية لا يخلو من مفاخرة بقيمة الدماء، لسان حالهم: نحن القوم نفتدي صاحبنا بعشرات الديات، وإنا قد جمعناها في وقت يسير، أو يقول الآخرون: لا يذهب وترنا إلا بها لعلو كعبنا على من سوانا، فيفتخر الطرفان بتلك المغالاة، فانقلب الصلح فخرًا، وسبيل المعروف منكرًا، وشعار البر شرًّا. واعتبر ذلك بما تراه من احتفالات ورقص، وأشعار ومفاخرة على غيرهم من الناس بأن قيمة الرجل منهم عن دياتِ كثيرٍ ممن دونهم، وهذا معنًى أبطله الإسلام جملة، وصار حالهم فيه شبه من وجه بمعاقرة الأعراب فخرًا وسمعة وصيتًا؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب))[23]، ومعاقرة الأعراب: أن يتبارى الرجلان من العرب في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلًا، ويعقر هذا إبلًا، حتى يعجِز أحدهما صاحبه، وهذا من فخر الجاهلية، وإنما نُهِيَ عنه لأنهما لم يريدا به وجه الله تعالى، وإنما أرادا إتلاف المال رياءً وسمعة ومفاخرة. وإن من علل تحريم النياحة منعَ الفخر، فكانت العرب إذا مات شريفهم يعظِّمون أمر موته، وينحرون الجُزُر، ويطعمون الطعام، وينعَونه في القبائل لينتشر ذكره وصِيته في الناس، فرجع بنا الحال للفخر، ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب))[24]. سادسًا: أن فيها تسهيلًا لقتل النفس التي حرم الله؛ لأن القاتل يغلب على ظنه فداء قبيلته له، ولو بعديدِ الديات، فيترتب على ذلك التساهل في سفك الدم الحرام، وقد يقول حمال الحطب للغر الطائش: اقتل فلانًا وسيسعى الناس في فكاكك... ونحو ذلك، فيتخوض في الدماء المعصومة بغير حق. وقتل المؤمن بلا حقٍّ هو أعظم الجرائم في الإسلام بعد الشرك بالله تعالى، والله تعالى يقول: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتاه، فقال: ((أرأيت رجلًا قتل رجلًا متعمدًا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال: لقد أُنزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه: رجل قتل رجلًا متعمدًا، يجيء يوم القيامة آخذًا قاتله بيمينه، أو بيساره، وآخذًا رأسه بيمينه، أو بشماله، تشخَبُ أوداجه دمًا في قِبل العرش، يقول: يا رب، سَلْ عبدك فيم قتلني؟))[25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فَسْحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا))[26]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |