غزوة الأحزاب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 590 - عددالزوار : 333971 )           »          اكتشف الأسباب الخفية وراء انتفاخ البطن! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الكافيين: فوائده، أضراره، والكمية الآمنة للاستهلاك يوميًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التعايش مع اضطراب ثنائي القطب: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          7 أطعمة تقوي العظام! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          نصائح بعد خرم الأذن: دليلك الشامل للتعافي بسرعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ما هي فوائد التبرع بالدم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          متى يكون فقدان الوزن خطير؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          7أفكار لوجبات خفيفة للأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أضرار مشروبات الطاقة: حقائق صادمة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-07-2019, 01:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,340
الدولة : Egypt
افتراضي غزوة الأحزاب

غزوة الأحزاب (1)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



شدة البلاء والمحنة
الحمد لله؛ ابتلى عباده المؤمنين، وأجزل المثوبة للصابرين، أحمده على ما قدر من السراء والضراء، وأشكره على جزيل المنح والعطاء، وأستغفره من كل الذنوب والأخطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بصفات الجلال والكمال، ونزه عن الأنداد والأمثال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ مسته البأساء والضراء، وأحاطت به المصائب واللأواء، فصبر على عظيم الأذى، واحتمل في سبيل الله تعالى شدة الابتلاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أولي الصدق والنقاء، وأهل التضحية والفداء، ومن تبعهم بإحسان واهتدى0

أما بعد: فاتقوا الله تعالى - عباد الله - وأطيعوه؛ فلنعم زاد المؤمن تقوى الله تعالى وطاعته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].


أيها الناس: الإيمان والتقوى سببان للمحنة والابتلاء، وثمن الثبات عليهما جنة عرضها الأرض والسماء، وقد حفت الجنة بالمكاره كما حفت النار بالشهوات، وأفاضل الخلق من الرسل والأنبياء عليهم السلام كانوا أعظم الناس بلاء، وأشدهم امتحانا، وما أصابهم من البلاء لا يطيقه سواهم، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة وقع ابتلاء شديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؛ إذ رمتهم العرب عن قوس واحدة، واجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب، ونزل في وصف شدتها ومحنتها آيات بينات تتلى إلى آخر الزمان.

كانت قريش تريد الثأر لأسيادها الذين قتلوا في بدر، وشجعهم على حشد الحشود، وتحزيب الأحزاب جماعة من يهود بني النضير الموتورين بالجلاء عن المدينة إلى خيبر بعد نقضهم للعهد مع المسلمين، فوفد منهم وفد إلى مكة شجعوا المشركين على غزو المدينة، وأفتوهم بأن دين المشركين خير من دين المسلمين؛ كما روى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحُقَيق وأبو رافع ...وذكر جماعة ثم قال: فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51-52].


ثم انتقل وفد من هؤلاء اليهود إلى قبيلة غطفان وهي من أكبر قبائل نجد آنذاك فأغروها بالتحالف مع المشركين على أن لهم نصف ثمر خيبر، وخرج معهم جماعة من أشجع وبني سليم وبني مرة، وبني كنانة وأهل تهامة في جمع عظيم، سماه الله تعالى: الأحزاب، قاصدين المدينة النبوية، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم شاور أصحابه، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق لمنع المشركين من الوصول إلى المدينة فحفره المسلمون.


واجتمع عليهم مع خوف عدوهم، وتكالب المشركين عليهم، ما يجدونه من المخمصة الشديدة، والجوع المؤذي، وهم يحفرون الخندق، وكان ذلك في زمن الشتاء، والشتاء لا يخفف برده إلا الطعام ولا طعام، والحفر شاق ومرهق ولا يقدر عليه جائع، والمسلمون جوعى، فتكالب عليهم قلة ذات يد، وشدة جوع، مع خوف عدو، قال أنس رضي الله عنه يصف ما يأتيهم من طعام وهم يعملون الخندق قال: (يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن) رواه البخاري، والإهالة هي الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما، وقوله: سنخة أي تغير طعمها ولونها من قدمها؛ ولهذا وصفها بكونها بشعة.


وهذا الطعام على رداءته وجوده أحسن من عدمه، وإلا فإنهم قد يعدمونه فلا يجدون ما يأكلون كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا فانكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا) رواه الشيخان.

ويستمر بهم الجهد والجوع أياما تباعا لا يجدون ما يأكلون حتى يبلغ بهم إلى عصب بطونهم بالحجارة؛ كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كُدْية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ....وجاء في رواية أخرى: (أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع).

وهذه الحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والجوع جعلت جابرا رضي الله عنه يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ويغدوا إلى امرأته فيقول لها: (رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت:عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشعير) فلما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من طعام جابر رضي الله عنه بعد أن بارك الله تعالى فيه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام لامرأة جابر: (كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) وهذا يدل على شدة ما هم فيه من القلة والمسغبة.


وتتواصل المحن عليهم، ويعظم البلاء بهم، وهم على ما هم فيه من الأمر العصيب؛ إذ سرت في الناس شائعة أن اليهود داخل المدينة قد نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم سيحالفون المشركين على المسلمين، وأن الخطر قد أحاط بنساء المسلمين وذراريهم داخل حصون المدينة، واشتد الأمر على المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم - يعني بني قريظة- قال الزبير: أنا، ثم قال: من ياتيني بخبر القوم ؟ قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير)رواه الشيخان.


فأخبر الزبير رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببوادر نقض قريظة للعهد، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفدا من سادة الأنصار لمحاورتهم واستظهار خبرهم وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس) فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله وقالوا:لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.


ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه - أرادوا ألا يعلم الناس بالأمر كما أوصاهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين).


إنها بشارة في شدة المحنة، وتفاؤل بقرب موعود الله تعالى مع عظم الكرب، واستحكام الأمر، فيا له من يقين بالله تعالى لا يتزحزح من قلب النبي صلى الله عليه وسلم مهما عظمت المحنة، واشتد الكرب، واستحكم البلاء.


انضم إلى هذه المحن والشدائد التي تتابعت على المسلمين شدة في إثر شدة، ومحنة تنسي الأخيرة منها ما قبلها، انضم إليها ظهور النفاق، وتخذيل المنافقين في أوساط المسلمين، وإضعاف معنوياتهم ببث الشائعات والأراجيف، وتخويفهم من قوة المشركين، مع الانسحاب من الجيش على ملأ من الناس، حتى قال قائل المنافقين: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط) وقال آخر: (إن بيوتنا لعورة من العدو وذلك عن ملإ من رجال قومه فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا).


إنها محنة عظيمة، وكرب شديد، لا يصمد أمامه إلا من كان قوي الإيمان واليقين، مع تثبيت الله تعالى وربطه على القلوب، وإلا فما ظنكم باجتماع الخوف والجوع على النفس البشرية الضعيفة.. عدو شرس قد حاصر المدينة يروم استئصال المسلمين، في أعداد كثيفة لا يبلغ المسلمون الثلث منها، وعدو في الداخل قد عزم على نقض العهد، وخيانة المسلمين، وخفرهم في نسائهم وذراريهم، ومنافقون مرجفون قد فرحوا بمصاب المسلمين، وصاروا يظهرون ما يخفون، فمن ذا الذي يثبت أمام هذا البلاء العظيم، ويواجه تلك المحن المتلاحقة بثبات ويقين؟!


لقد وصف القرآن العظيم هذا البلاء بأدق وصف وأبلغه، وأفصح عما أصاب المؤمنين من عظيم الشدة والكرب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].


نعم زاغت الأبصار من شدة البلاء والكرب، ونبت القلوب عن أماكنها من الخوف والرعب فبلغت إلى الحناجر، وهو خوف من طبيعة البشر مهما كانوا، ويبين حذيفة رضي الله عنه ما أصابهم آنذاك فيقول رضي الله عنه: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقُرٌّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُم علي- أي لا تفزعهم حتى لا يشعروا بك -فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام- أي: لم يجد البرد الذي يجده الناس- حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قُرِرْتُ – أي أصابه البرد بعد انتهاء مهمته وتلك كرامة عجيبة- فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان) رواه مسلم.


وقد حكى الله تعالى مقولات المنافقين التي أرادوا بها الإرجاف، وإضعاف المؤمنين، وتقوية الكافرين عليهم، فقال سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].

لقد ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله تعالى حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وعند استحكام البلاء، وشدة الكرب يأتي الفرج من الله تعالى؛ إذ أرسل جنده على الكافرين، وخالف بينهم وبين اليهود فوقع الشر بينهم بخدعة نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حينئذ وسعى بالوقيعة بين المشركين واليهود وهم لا يعلمون إسلامه، ورأى المنافقون ما يسوؤهم من بقاء الإسلام وأهله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].


وبعد رحيل المشركين أمر المسلمون بالمسير إلى الخونة بني قريظة ناقضي العهد واستئصال شأفتهم بحكم الله تعالى الذي نطق به حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت: (أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له بن العَرِقَةِ رماه في الأَكْحَل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل، وفي رواية: لقد حكمت بحكم الملك) رواه الشيخان واللفظ لمسلم.


وبعد أن حكم فيهم سعد بحكم الله تعالى دعا وهو جريح فقال: اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها فانفجرت من ليلته فلم يَرُعْهُم إلا والدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد جرحه يَغِذُّ دما فمات منها) رواه مسلم.

ولما وضعت جنازته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: (اهتز لها عرش الرحمن) وفي رواية: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) رواه مسلم.

رضي الله تعالى عن سعد وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم، وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين...

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].


أيها المسلمون: كانت غزوة الأحزاب موطنا عصيبا من مواطن الامتحان والابتلاء، اجتازه المؤمنون الصادقون باقتدار، وأخفق فيه المنافقون، وتنزل القرآن يفضحهم، ويبدي ما أخفوه من مساوئهم، ويمدح المؤمنين على صبرهم وثباتهم، ومواجهتهم هذه الابتلاءات بالرضى والتسليم لله رب العالمين.

واللافت للنظر -أيها الإخوة- أن الآية الآمرة بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت متخللة الآيات التي عرضت لهذه الغزوة وتفصيلاتها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل .... ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال تعالى {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] اهـ.


وما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، واليقين بأن ما يعانونه في هذا العصر من أذى الكافرين، وتسلط المنافقين، وإرجافهم بالمؤمنين، قد وقع مثله وما هو أشد منه لأهل الصدر الأول من المسلمين، فصبروا على الأذى، وثبتوا على دينهم، ولم يغيروا أو يبدلوا إرضاء لأحد من الناس مهما كانت قوته، ومهما بلغ مكره وتخويفه؛ فأحسن الله تعالى لهم العاقبة في الدنيا بالنصر والتأييد على أعدائهم، ورضي فعلهم فأرضاهم ورضي عنهم، وما نال أعداؤهم إلا الهزيمة والحسرة في الدنيا والخسارة في الآخرة.


وهؤلاء المؤمنون الثابتون على دينهم في غزوة الأحزاب رغم ما مر بهم من ابتلاءات قد جعلهم الله تعالى لنا أسوة، وأمرنا بالاقتداء بهم في إيمانهم ويقينهم، وثباتهم على دينهم، وثقتهم بربهم، وتصديقهم بموعوده. فما أحوجنا -أيها الإخوة- إلى التأسي بهم، والثبات على الحق كما ثبتوا، إلى أن نلقى الله عز وجل غير مبدلين ولا مغيرين، ويتأكد ذلك في زمن اشتدت فيه المحنة على المسلمين، وزادت الضغوط والمضايقات والتسلط من الكافرين والمنافقين على المؤمنين، يريدون تبديل دينهم، وصرفهم عن شريعة ربهم، ولا ثبات على الحق إلا بتثبيت الله تعالى، فاسألوه سبحانه الثبات على الحق إلى الممات.


وصلوا وسلموا.....


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-07-2019, 01:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غزوة الأحزاب

غزوة الأحزاب (2)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




بين المؤمنين والمنافقين


الحمد لله؛ يثبت من شاء من عباده على الحق والإيمان؛ فلا تزعزعهم المحن والشدائد، ولا تميد بهم الفتن والابتلاءات، ويُضِّل من شاء من عباده فتتقاذفهم الفتن والأهواء، وتحرفهم الشبهات والشهوات {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] نحمده على هدايته، ونشكره على اجتبائه ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حفظه الله تعالى من كيد الكافرين والمنافقين، وردهم على أعقابهم خاسرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ صدقوا في إيمانهم، وجاهدوا أعداءهم، وثبتوا على دينهم، حتى لقوا الله تعالى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تطيعوا أهل الكفر والنفاق فإن الله تعالى نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن طاعتهم بعد أن أمره بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].


أيها الناس: لا يُعرف من كان صادقا في إيمانه من الكاذب، ولا المؤمن من المنافق إلا بالاختبار والابتلاء؛ ولذا كان من سنة الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من الضراء والبأساء حتى يتميز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من منافقهم، وطيبهم من خبيثهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3].

وقد ابتلي خيار هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم الابتلاء، فثبتوا على دينهم فنالوا الحسنيين: الظفر على أعدائهم، والأجر الكبير من ربهم عز وجل.

وكان من مواطن الابتلاء العظيمة التي مرَّ بها خيار هذه الأمة ما جرى عليهم في غزوة الأحزاب، حيث تحزبت أحزاب المشركين عليهم، ونقض اليهود عهودهم ومواثيقهم، وطعنوا المؤمنين في ظهورهم، وأظهر المنافقون نفاقهم، وبثوا أراجيفهم فكان موقفا عسيرا لا يثبت فيه إلا من ربط الله تعالى على قلبه بالإيمان واليقين، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والتصديق بوعده، ويكفي في وصفه قول الله تبارك وتعالى {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً} [الأحزاب10-11].


لقد كان موقفا عظيما بان فيه الصادق من الكاذب، وتميَّز المؤمن من المنافق:

أما المؤمنون فثبتوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وصبروا على عظيم البلاء، وقابلوه بالرضا والتسليم.
جاعوا أشد الجوع فما ضجروا، وتكالبت عليهم الأعداء فما انخذلوا ولا تراجعوا، وأرجف فيهم أهل النفاق فلم يطيعوهم، ولم يصغوا لأقاويلهم، ورأوا أن ما أصابهم من عظيم الابتلاء هو ما وُعدوا به في سورة البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة:214]. ولذا لما رأوا ما رأوا في الأحزاب ما زادوا على أن قالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].

إنه إيمان في أوج المحنة، ويقين حال الابتلاء والشدة، وتصديق بموعود الله تعالى في أحلك الظروف، وتوكل عليه في أصعب الساعات، فكانوا جديرين بتزكية الله تعالى لهم، حقيقين بثنائه عز وجل عليهم في قوله سبحانه {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].


إنهم ما بدلوا دينهم لردِّ عدوهم، ولا نكصوا على أعقابهم استبقاء لأرواحهم، ولم يتخلوا عن نبيهم للدفاع عن نسائهم وذراريهم، واليهود قد خفرتهم فيهم. بل قدموا رضا الله تعالى والثبات مع رسوله عليه الصلاة والسلام على كل محبوب من أنفسهم وأهلهم وأولادهم وأموالهم، فصدقوا في عهدهم، وما بدلوا تبديلا.


وأما المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بالنفاق فارتابوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وشكُّوا في دينه، وتبعهم في ريبهم وشكهم ضعاف الإيمان الذين مرضت قلوبهم بأدواء الشبهات أو الشهوات، فلم يُصدِّقوا أن الله تعالى ينصر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد تحزبت الأحزاب، واجتمعت الجموع التي لا قبل لأحد بها، وطوقت المدينة من كل جهة {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].


فانقسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض على طائفتين:

فطائفة منهم أخذوا يخذلون في المؤمنين، ويبثون الأراجيف فيهم، ويخوفونهم بأعدائهم {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] أي: لا مقام لكم في أرض المعركة؛ لكثرة عدوكم، يدعونهم إلى التخلي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وخذلانه وإسلامه إلى أعدائه.
وربما أرادوا: لا مقام لكم على دين محمد عليه الصلاة والسلام فارجعوا إلى دين الشرك؛ لتسلم لكم أرواحكم وأولادكم وأموالكم.
وربما أرادوا: لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة، فاستجيروا بالمشركين واطلبوا منهم الأمان لكم بما يريدون.
وجائز أن تكون كل هذه المعاني قد أرادها المنافقون والذين في قلوبهم مرض؛ لأن تلك المطالب هي مطالب المنافقين ومرضى القلوب في كل شدة تصيب المسلمين على أيدي الكافرين، في كل زمان ومكان، وهي تتكرر في هذا العصر.

ولئن كانت هذه الطائفة من المنافقين ومرضى القلوب تبثُّ أراجيفها بالقول فإن طائفة أخرى طبقت ذلك عمليا حين اختلقت المعاذير لتغادر أرض المعركة؛ فتفتَّ في عضد المؤمنين، وتوهن قوتهم، وتزلزل قلوبهم، وتصدع ثباتهم، وهي الطائفة التي عناها الله تعالى بقوله سبحانه {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].


إنهم يعتذرون بِخُلُوِّ بيوتهم وذراريهم من أحد يدافع عنهم، وأن العدو سيطؤهم، مع أن حال المؤمنين كلهم كحالهم فلم يعتذروا ولم يفروا، ففضح الله تعالى المنافقين ومرضى القلوب، وبيَّن سبحانه أنهم سراع إلى الفتنة، وأن المشركين لو دخلوا المدينة لانحازوا هم إليهم، وقَبلوا شركهم؛ لنفاقهم ومرض قلوبهم، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] فما أسرعهم إلى فتنة الشرك وموافقة المشركين!!


كيف يفعلون ذلك وهم لما رأوا المؤمنين قد غنموا في بدر ما غنموا عاهدوا الله تعالى أن يثبتوا في المشاهد كلها، ولا يفروا من غزوة أبدا، فنكثوا عهدهم؛ لأنه كان للغنيمة ولم يكن لله تعالى وابتغاء مرضاته، وفرقٌ بين من يعاهد للدنيا ومن يعاهد للآخرة {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} [الأحزاب:15]. فهم المعوقون عن النفير، المخذلون في صفوف المؤمنين، علم الله تعالى ذلك منهم، فقص على أهل الإيمان خبرهم {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] أي: بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله تعالى، أو بالنصر والغنيمة؛ فإن أقواما يشحون بمعروفهم، وأقواما يشحون بمعروف الله تعالى وفضله وهم الحساد.


ومن أوصافهم التي تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم أنهم أشدُّ ما يكونون خوفا إذا جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وأشدُّ سلاطة وبذاءة إذا أَمنوا، وأكثرُ الناس مطالبة بغنائم لا حقَّ لهم فيها {فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19].


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه:

تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.
وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا....، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.
وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غرَّكم دينكم.
وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.
وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي: حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم. اهـ.
وكل هذه المقولات التي حكاها ابن تيمية رحمه الله تعالى عن المنافقين في الأحزاب، وذكر أن المنافقين ومرضى القلوب في زمنه يرددونها ، هي في واقع الأمر مما يردده المنافقون والذين في قلوبهم مرض في عصرنا هذا، وستبقى ملازمة للمنافقين ومرضى القلوب في كل زمان ومكان.

ثم إن الله تعالى وصف المنافقين ومرضى القلوب بأوصاف ثلاثة تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم:

أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.

والوصف الثاني: أنهم إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم بل يكونوا في البادية يسألون عن أنبائكم: ما خبر المدينة؟ وماذا جرى للناس؟


والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا؛ لجبنهم وضعف قلوبهم، وتقديمهم الدنيا على الآخرة، فلا خير فيهم لجماعة المؤمنين، بل هم شر وبلاء وفتنة للناس.

{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20].
جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان واليقين، وكفانا شر النفاق والمنافقين، وربط على قلوبنا بالتوكل والتسليم، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152].


أيها المسلمون: يلاحظ أن الآيات الكريمة التي عرضت لغزوة الأحزاب لم يأت فيها تفصيل لهذه الغزوة العظيمة، وما جرى فيها من أحداث، بقدر ما ذكر فيها من أوصاف المنافقين ومرضى القلوب وأفعالهم، ثم وصف المؤمنين وأفعالهم.


ومجموع الآيات التي وردت في غزوتي الأحزاب وقريظة تسع عشرة آية، منها تسع آيات في وصف المنافقين ومرضى القلوب، وحكاية أقوالهم، وأربع آيات في وصف المؤمنين وحكاية أقولهم، فلم يبق إلا ست آيات فيها وصف المعركتين، وما جرى على أحزاب المشركين وبني قريظة؛ مما يدل على أن معرفة أحوال المنافقين ومرضى القلوب للحذر منهم، ومعرفة أحوال المؤمنين للتأسي بهم أهم وأولى من معرفة تفاصيل المعركتين وأحداثهما.


وما كان ذلك -والعلم عند الله تعالى- إلا لأن المنافقين ومرضى القلوب موجودون في كل عصر ومصر، يُخفون كفرهم إن رأوا في المؤمنين قوة، ويظهرونه إن رأوا فيهم ضعفا، والقرآن العظيم كتاب بيان وهداية للمؤمنين، ومن هدايته ذكر أوصاف المنافقين ومرضى القلوب، وكشف حقيقتهم التي يخفونها عن المؤمنين؛ لأخذ الحذر والحيطة منهم.


كما أن العلم بذلك سبب لثبات المؤمنين في الأزمات، وفي حال تسلط الكافرين، وظهور المنافقين؛ ليعلم المؤمنون أن ما يصيبهم من تسلط الكافرين، وتخذيل المنافقين قد أُصيب بمثله سلف هذه الأمة، فيصبروا كما صبروا؛ فإن عاقبة ذلك نصر وتمكين لهم؛ ولذا فإن الله تعالى لما ذكر أوصاف المنافقين وأفعالهم في غزوة الأحزاب ذيَّل ذلك بقوله سبحانه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].


والمعنى: كونوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في ثباتهم على دينهم، وتوكلهم على ربهم، ويقينهم بظفرهم وعلوهم، مهما كان ضعفكم وقوة أعدائكم، ولا تصغوا لأراجيف المنافقين، وتخذيل المخذلين، ولا تكونوا كالذين في قلوبهم مرض ممن فرَّوا يوم الأحزاب؛ خوفا على أنفسهم وأموالهم، واستبقاء لدنياهم ببذل دينهم؛ فإن العاقبة للمتقين في الدنيا بالظفر على أعدائهم، وفي الآخرة برضوان الله تعالى عنهم.


وفي زمننا هذا لا يخفى على أحد تسلط قوى الظلم والبغي والاستكبار من الصهاينة والصليبيين على المسلمين باحتلال ديارهم، وفرض أفكارهم، وإهانة دينهم، وتدنيس قرآنهم، والسخرية بنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ويضطلع المنافقون والذين في قلوبهم مرض بذات المهمة التي قام بها أسلافهم في غزوة الأحزاب بالتخذيل في أوساط المسلمين، وتخويفهم بالكافرين، ودعوتهم إلى نبذ دينهم، والدخول في مشاريع أهل الظلم والاستكبار؛ حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه من الاختلاف والتفرق والضعف والانحطاط.

فمن بذل دينه لأجل دنياه، وحرَّف كلام الله تعالى إرضاء للكافرين، وطاعة للمنافقين، فقد أوبق نفسه، وخسر دينه، ولن يكون حظه إلا كحظ المخذلين يوم الأحزاب.
ومن ثبت على الحق فلم يبدل دينه، ولا انحاز إلى الكافرين وما يريدون، ولا استمع إلى أراجيف المنافقين والذين في قلوبهم مرض فقد تأسى بخيار هذه الأمة المباركة، وحري به أن ينتظم في سلك من وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 81.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 79.36 كيلو بايت... تم توفير 2.09 كيلو بايت...بمعدل (2.57%)]