شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 71 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         عالم التسبيح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من افتتن بالردود عوقب بالصدود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مفاتيح خير الدنيا والآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          عَلِّمْنِي دُعاءً أدْعُو به في صَلاتِي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          ومِن نَصرِ الله ورسوله والمؤمنين: توعيةُ المسلمين وتثبيتهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          صلاة الفجر هي ميزان الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الشريعة الإسلامية هي أساس بناء شخصية المسلم وتربيته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ثقتك بالله تصنع المعجزات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          ‏{ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          هجر المساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #701  
قديم 23-10-2025, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





الأسئلة




حكم الكفارة على من قتل نفسه خطأ

السؤال يقول الشارح: ومن قتل نفسا محرمة، ولو نفسه، فهل تجب الكفارة في ماله؟ ولمن تدفع أثابكم الله؟

الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمصنف رحمه الله يقول: (ولو نفسه) يعني: ولو قتل نفسه خطأ، هل ممكن أن يقتل نفسه خطأ؟ ممكن، مثلا: جاء يصلح سلاحه، فثار عليه السلاح وقتله، أو جاء يريد أن يأخذ السكين فحركها فسقطت عليه وقتلته، هذا هو الذي تسبب في قتل نفسه، في هذه الحالة للعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: تجب عليه كفارة نفسه، على هذا القول؛ لو توفي وله مال، أخذنا من ماله قيمة الرقبة، قبل أن نقسم التركة؛ لأنه دين لله عز وجل، نأخذها من ماله ونشتري رقبة ونعتقها كفارة لنفسه؛ لأنه قتلها، قتل هذه النفس، والمصنف قال: (ولو نفسه) لو: إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء يقولون: لا يجب عليه في قتل نفسه، وهذا أظنه أقعد وأقوى، ولذلك لا يجب عليه في قتل نفسه أن يكفر.
والله تعالى أعلم.
حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية
السؤال هل تجب على المأموم قراءة الفاتحة، مع الدليل، وبيان قول المخالفين في ذلك؟ وإذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في سكتة الإمام فهل يقرؤها والإمام يقرأ؟ وماذا عن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال على التفصيل، وقولان من حيث الإجمال: القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية وراء الإمام، وهذا هو مذهب الشافعية، وطائفة من أصحاب الحديث رحمهم الله.
واستدلوا بأدلة منها: أولا: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ... ) والقاعدة في الأصول: أن أي من صيغ العموم، تقول: أيما رجل، أيما امرأة، هذا من صيغ العموم.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ما قال: إلا إذا كان مأموما.
ثالثا: ورود الدليل النصي في موضع النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى وارتج عليه، قال: (إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!) لأن المسألة في أول الإسلام- فكانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة بعد الفاتحة، قرءوا معه، فكان إذا قرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1] وهو إمام، يقرءون هم: {إنا أعطيناك الكوثر} فقال: (إنكم تقرءون ورائي قالوا: نعم.
قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) هذا نص صريح واضح على أن فاتحة الكتاب مستثناة.
القول الثاني: الذين قالوا: إنه لا يقرأ وراء الإمام احتجوا بحديث جابر، وغيره رضي الله عن الجميع وفيه: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) : أولا: هذا الحديث من حيث السند أضعف، ومختلف في ثبوته، وبين العلماء نزاع طويل في حديث من كان له إمام) وغاية ما فيه أنه حسن لغيره عند بعض العلماء بالشواهد، ولعل القول بأنه حسن لا يرتقي إلى معارضة الصحيح الصريح؛ لأن قوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وهذا من أقوى المتون.
ثانيا: هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث حسن، هذا من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) : القراءة تحتمل أمرين: الأمر الأول: تحتمل كل شيء يقرؤه الإمام.
الأمر الثاني: تحتمل ما بعد الفاتحة؛ لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معتقدين فيه بالإمام، ولابد أن نفهم الأحاديث كما فهمها الصحابة، لا على فهمنا الآن، وهذا أمر مهم جدا يفيد طالب العلم، لأن البعض يتصور الأحاديث الآن ويحملها على صور معينة محدودة، مع أن الأحاديث في زمان التشريع لها أوجه، ومن هنا: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) كانوا يقرءون وراء الإمام، فماذا قال لهم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) ، فقراءة فاتحة الكتاب مأخوذة من هذا الحديث، وهذا الحديث يفسر ذلك الحديث.
أولا: نقول: إن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام ... ) من ناحية السند أضعف من حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .
ثانيا: من ناحية المتن، نقول: احتمل معنيين: معنى العموم، ومعنى الخصوص، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) عام، نخصصه بحديث: (إلا بفاتحة الكتاب) ، وتخصيص العموم واضح ومعروف، أو نقول: إنه محمول على قراءة غير الفاتحة، حينئذ لا إشكال؛ لأنه خرج عن موضع النزاع، وموضع النزاع في الفاتحة لا فيما بعد الفاتحة، هذا بالنسبة للذين قالوا: لا يقرأ وراء الإمام.
أما آية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] هذه الآية الكريمة لا تعارض ما نحن فيه؛ لأن الآية غاية ما فيها وجوب الاستماع للقرآن عند الإمكان، ولذلك لو أخذت بعموم هذه الآية: كأن خرجت إلى السوق وسمعت شخصا يقرأ القرآن، أيجب عليك أن تستمع له؟ لا يجب عليك؛ لأن المراد بها الفضل في قوله: {لعلكم ترحمون} أي: من أجل أن ترحموا، وبالإجماع عند العلماء رحمهم الله: أن من مر على قارئ قرآن لا يجب عليه أن يجلس ويستمع لقراءته، بل هو مخير إن أراد الرحمة جلس، وإن أراد الانصراف انصرف، وقد نزلت في الصلاة, والمراد بهذا: {فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أي: أنصتوا للقرآن، وهذا أعم من موضع النزاع؛ لأن عندنا أحاديث مستثناة خاصة، فغاية ما تقول في الآية: إنها متعارضة مع الحديث، وهذا القول لا يسلم به؛ لأنه في اعتراضات واردة، لكن لو سلم أن هذه الآية تعارض الحديث، وأنها في الصلاة، نقول: الحديث دل على ركنية الفاتحة، حتى الذين قالوا بالاستثناء؛ فإنهم يسلمون أنها ركن، إلا الحنفية رحمهم الله، فإذا كان يسلم أنها ركن، فالحديث الذي أثبت وجوب قراءة القرآن في الركنيات، وآية: {فاستمعوا له وأنصتوا} غاية ما فيها أنها في الواجبات التي هي ليست أصلا في الصلاة؛ لأن هناك واجبات من أصول الصلاة، مثل: التسبيح، والتحميد، وأذكار الصلاة، وواجبات ملحقة بأصول الصلاة، ليست هي أصلا في الصلاة، بدليل أنها لا تجب إلا في القراءة الجهرية، دون غيرها، فليست من الواجبات المؤصلة، إنما من الواجبات العارضة، وواجبات العوارض لا تعارض واجبات أصول الصلاة؛ لأن الفاتحة واجبة في الصلاة، ثم كيف تعارض ما هو ركن في الصلاة؟! حتى لو سلم أنها من واجبات الصلاة، وأنها داخلة في واجبات الصلاة، والفقه أن تعرف دلالة كل دليل، ومنزلة هذا الدليل، هل في أصول الصلاة، أو هو ملحق بالصلاة؟ وبناء على ذلك نقول: إن هذه الآية الكريمة لا يمكن بحال أن ننزلها منزلة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) الذي هو نص في موضع النزاع.
ثم نقول: إن حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وآية: {فاستمعوا له وأنصتوا} يمكن الجمع بينهما: فليقرأ الفاتحة، ويسمع القرآن، أليس عند قراءة الفاتحة يستمع للإمام، وحصل امتثال للأمر فيما هو في الإمكان؟! فجاءه عذره الشرعي، فقرأ القرآن واشتغل بما هو ركن عن واجب، وعندنا نظائر في الشريعة في الاشتغال بالأركان عن الواجبات، وبالواجبات الأهم عن الواجبات المهمة، وبناء على ذلك نقول: إننا نقدم الأقوى، والقول بوجوبها على المأموم من هذه الأوجه كلها أقوى وأحرى، ويدل على ذلك فعل السلف: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعترض عليه بهذه الآية، وقال المعترض: إن الإمام يقرأ، فقال له: إقرأها في نفسك يا فارسي! من شدة تشديده على هذا الأمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: اقرأها في نفسك، فإذا قرأها في نفسه فقد اشتغل بواجب في حظ نفسه، وحرص على إتمام ما فرض الله عز وجل عليه إتمامه.
والله تعالى أعلم.

حكم المسبوق بركعة في الرباعية مع قيام الإمام للخامسة سهوا
السؤال صليت مسبوقا بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته، وصلى خمسا، فماذا علي؟ هل أسلم معه أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقا بها أثابكم الله؟!

الجواب إذا صلى الإمام ركعة زائدة، عذر بالسهو في قيامه، لكن يسبح له المأمومون، فإن أصر على أنه بقيت ركعة، فمن ناحية شرعية يتعبد الله الإمام باعتقاده، والمأمومون يتعبدون الله باعتقادهم؛ فمن كان قد صلى أربع ركعات لا يقوم وراء الإمام إذا علم أنه في الخامسة، وإذا قام المأموم بطلت صلاته؛ لأنه قام إلى شيء زائد، وزاد ركنا في الصلاة عالما متعمدا، فتبطل صلاته.
لكن لو كان مسبوقا بركعة جاز له أن يتابع الإمام؛ لأن ركعة الإمام في حق نفسه صحيحة، وغاية الأمر أنه مفترض يتأسى بمتنفل، وحينئذ تسلم مع الإمام، ثم إذا سجد الإمام سجود السهو، سجدت معه، كمن لم يدرك سهو الإمام؛ فإنك تسجد لمكان المتابعة، فصلاتك تامة، وصلاة الإمام مجبورة.
والله تعالى أعلم.

معنى قوله: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة)

السؤال ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة) أثابكم الله؟

الجواب ( خير النساء بركة أيسرهن مئونة) : يعني: أن المرأة إذا تزوجها زوجها، فخففت في مهرها، وخففت في وليمة عرسها، وخففت في تكاليف زواجها، وضع الله البركة في ذلك النكاح، وهذا مجرب، وقد أخبرنا الثقاة: أنهم تزوجوا فبالغوا في زواجهم، فما مكثوا إلا مدة وجيزة، ثم تزوجوا وخففوا قليلا فلم يمكثوا إلا مدة أطول قليلا من التي قبلها، حتى تركوا البذخ والإسراف فتزوجوا بيسر الحال، وبقيت الزوجة الأخيرة معه مدة طويلة، ولذلك يقول لي شخص: تزوجت ودفعت قرابة ثلاثمائة ألف، قال: والله ما مكثت معها إلا شهرا ونصفا، أو قرابة شهرين، قال: ثم تزوجت الثانية: بحوالي مائتي ألف -وكان ثريا عنده مال- فمكثت معي ستة أشهر، ثم تزوجت الثالثة، ويسر الله عز وجل أن تزوجت من رجل صالح، وكانت مئونة الزواج بجميع ما فيه قرابة ستين ألفا، قال: هي الآن أم أولادي، والآن لي بلغت سبع سنوات وأنا معها، فخير النساء أيسرهن مئونة، وهذا ليس في النكاح فقط، كل من يسر على المسلمين، وأخذ الأمور بالسماحة واليسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، وأي أمر من الأمور الآن تشاهده وتجده مبنيا على السماحة واليسر، إلا وضع الله فيه البركة، ووضع الله فيه الخير؛ لأن الله يحب التيسير على عباده؛ لأنها من الرحمة، والراحمون يرحمهم الله.
والله تعالى أعلم.

حكم من صرف مالا ولم يعطه الصراف كل المال

السؤال كان عندي مبلغ من المال، فأردت أن أصرفه، فذهبت إلى الصراف، فأعطاني جزءا من المبلغ، وقال لي: تعال غدا؛ لأنه ليس لدي الباقي.
فهل هذا ربا؟

الجواب إذا لم يكن هذا هو الربا، فما هو الربا؟ هذا ربا نسيئة، وإذا قال لك الصراف: تأتي بعد عشر دقائق، أو تعال بعد خمس دقائق، فقد افترقت ولم تأخذ حقك من الصراف، وهذا عين الربا، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن يفارقك وبينكما شيء) يدا بيد، تصرف عشرة ريالات، وتأخذ عشرة ريالات حديد يدا بيد، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد، فلعنة الله على من أخذ وأعطى، فهذا عين الربا، فإذا قال شخص: هذا ورق، وهذا حديد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، نقول: لماذا تزكي الورق والحديد؟ لماذا يقال له: نصف ريال؟ ولماذا يقال له: ربع ريال؟ ولذلك هذه رصيدها فضة، فإذا صرفها ورقا، أو حديدا، ناقصة بزائد؛ فاللعنة على الآخذ والمعطي، ولو لم يكن ربا لكان من أكل المال بالباطل؛ لأنه بأي حق يأخذ الواحد عشرة من أخيه المسلم، ويعطيه تسعة، واليوم يصرفون بتسعة، وغدا سيصرفون بخمسة، يقولون: والله عندنا فتوى أنه لا بأس في ذلك، لي الحق أن أصرف بأربعة، من يمنعني؟ وقد قيل: بيعوا كيف شئتم، وحينئذ يتسلط الأغنياء على الفقراء؛ لأن السيولة موجودة عند الأغنياء غالبا، وما الذي جعل الشريعة تحرم الربا في القروض؟ لأن الغني الذي عنده رأس مال يعطي الناس قروضا، وتأتيه الأموال زائدة بالقرض ويصبح غنيا، الآن يفتح له مكتب صرافة، ويصرف العشرة بتسعة، وبعد شهر ما شاء الله يغتني، على حساب من؟ على كد الفقراء وضعفهم، تصرف من راتبك خمسمائة ريال، إذا جئت تصرف الخمسمائة تصرفها بنقص، ثم تصرفها مئات بنقص، ثم تصرفها بخمسينات بنقص، ثم تصرفها عشرات بنقص، لو لم يحرم من جهة الربا، لحرم من جهة أكل أموال الناس بالباطل، لابد أن نعي الأمور، ليس المسألة أن الإنسان يبحث عن مخرج، ثم يأتي الشخص وينشر هذه الفتوى ويعلقها، وما شاء الله! من الحق الواضح، ينبغي علينا أن نتورع وننتبه، وأن لا ننظر إذا كان الناس يفعلون هذا الأمر نقوم ونبحث لهم عن مسوغ شرعي، علينا أن نزن الأمور بموازين الشريعة، وأن ننظر إلى الأصول العامة، وإلى القواعد العامة، وأن نعرف أين هذا الأمر؟ أمر الربا أمر عظيم، فهذا هو الربا الذي حرمه الله ورسوله: (ولا يحل لكما أن تفترقا وبينكما شيء) يجب التقابض، ويجب التماثل، يدا بيد، ومثلا بمثل، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نصيحة لمن سئم مذاكرة العلم ومدارسته
السؤال ما نصيحتكم لطلبة العلم الذين سئموا المذاكرة، وأصبحت قلوبهم فيها قسوة؟ وما علاج هذه القسوة أثابكم الله؟
الجواب الله المستعان! هل أحد يسأم من العلم؟! يا أخي! والله لو تعلم مقدار نعمة الله عليك، وأنت جالس في مجلس واحد من مجالس العلم، لجثوت على ركبتيك، ولخررت ساجدا لربك حامدا لنعمته وفضله عليك، أي نعمة أنت فيها! وأنت تذاكر قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ إن لم يكن أهل العلم في جنة فلا أدري من هو الذي في الجنة؟
حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن قراءة القرآن
السؤال أنا أصلي خلف إمام مسجد الحي، وهو لا يجيد قراءة القرآن! هل يجوز أن أصلي في مسجد آخر في نفس الحي؟ وما حكم صلاة المصلين الذين يصلون خلفه أثابكم الله؟
الجواب قولك: لا يجيد قراءة القرآن، فيه وجهان: الوجه الأول: أن يكون مرادك أنه يخطئ في قراءة القرآن خطأ مؤثرا، والخطأ المؤثر عند العلماء: أن يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى، أو يبدل حرفا مكان حرف، فهذا هو الذي يسميه العلماء: الأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، فهذا لا تصح صلاته إلا بمن هو مثله أو دونه، أما إذا كان الإنسان الذي يصلي خلفه يضبط الفاتحة، فلا يصلي وراء مثل هذا، ولا يجوز تقديم أمثال هؤلاء الجهلة الذين يخطئون في قراءة الفاتحة خطأ يحيل المعنى، أو لا يتقنون إخراج الحروف على الوجه المعتبر الذي يحصل به الإجزاء، ففي هذه الحالة لا تصل معه، وينبغي نصح هذا وتعليمه، وإذا صليت وراءه تصحح له الخطأ، وتفتح عليه في خطئه، ولو امتنع تردد عليه حتى يرجع عن خطئه، فلا تصح صلاة الأمي إلا بمن هو مثله أو دونه.
الوجه الثاني: أن يكون قولك: لا يجيد القرآن: يعني: لا يحسن بعض الأحكام المتعلقة بالتجويد، فتحصل عنده بعض الأخطاء في القراءة، فإذا كان هذا في القراءة من مراعاة أحكام التجويد، فالأمر أخف، إذا كان لا يحسن هذا لا يحكم ببطلان الصلاة، لكن يعلم وينبه على أنه ينبغي عليه إتقان هذه الأشياء، إلا إذا كانت قراءته قراءة سرد وحدر، وخفف فيها في بعض الأحكام، هذا شيء آخر، لكن الظاهر أن سؤالك أنه ليس من هذا النوع.
على كل حال: إذا كان من النوع الثاني، فالذي أراه أن تصلي معه، وتحرص على تقويمه، وإعطاء ملاحظتك له بين الفينة والأخرى، فلعل الله أن يقومه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة، وعليهم خطؤهم، هذا إذا كان الخطأ لا يحيل المعنى، وليس بذاك الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة، لكنه آثم، هذا الإمام إذا أمكن أن يضبط أحكام التجويد ويتعلمها لكنه لم يتعلمها، فإنه آثم شرعا؛ لأن تجويد القرآن واجب، والقرآن ينبغي أن يقرأ كما نزل، وأما قول البعض: إن التجويد بدعة، فقوله رد عليه؛ لأن أئمة الإسلام، ودواوين العلم كلهم على إثبات هذه القراءة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المرد فيها إلى أهل العلم بالقراءة، ولذلك فالتجويد لازم، فمعنى قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل:4] أي: رتله كما نزل، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما نزل فليقرأه ... ) الحديث، فقال: غضا طريا كما نزل، وهذا يدل على أن التلقي عمن روى موجب ومتبع، ومن هنا قال العلماء: القراءة سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، فالأصل في هذا: أن هذا التجويد واجب، ولا يجوز الإخلال به، وعليه ضبطه وإتقانه، فإن قال قائل: إنه لا دليل على هذا، نقول له: أنت الآن تقول: {الم} [البقرة:1] ما الدليل على أنك تقول: ألف لام ميم؟ لماذا لم تقل: ألم، وهي مكتوبة: ألم، من الذي قال لك: إنها تقرأ: ألف لام ميم، وكذلك: {كهيعص} [مريم:1] تقرأها: كهيعص ما يمكن هذا.
لو قال شخص: إن زيادة الحرف في القرآن باعتقاد أنه من القرآن، وهو ليس من القرآن موجب للكفر، ونقص حرف من كتاب الله، وباعتقاد أنه من كتاب الله موجب للكفر، فهو يقول: {يا بني اركب معنا} [هود:42] لا ينطق بالباء، وهي قراءة حفص، لماذا تسقط حرفا من كتاب الله؟ لو جاء وقال: يا بني اركب معنا، خالف الأصل في الرواية؛ لأن هذه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تقرأ على هذا الوجه.
إذا من أين الدليل على هذه الأشياء؟ نقول: الدليل على هذه الأشياء: الرواية عن أئمة القراءة، يقول شيخ الإسلام: كل أهل علم يرجع إليهم فيه، وكل أهل فن يرجع إليهم فيه، هذا الذي أمرنا الله عز وجل أن ننزل الناس منازلهم، ونأخذ عنهم العلم، فالذين يقولون: إن التجويد بدعة، هؤلاء لا يفقهون، ولا يعرفون ما كان عليه سلف الأمة، ولو كان بدعة والله ما بقي يوما واحدا بين أئمة الإسلام، وما كانوا ليجاملوا في أعظم شيء وهو القرآن، ما شاء الله! الأمة أربعة عشر قرنا ساكتة عن هذه البدعة، وتسكت عن أئمة القراء يعلمون الناس البدع! هذا أمر ما ينبغي، إذا كان الإنسان يجهل التجويد، أو على وجه لا يحسن به التجويد، لا يأتي يهين هذه القراءة النبوية المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي جثا فيها أئمة الإسلام جيلا بعد جيل ورعيلا بعد رعيل في مجالس العلم يتلقون فيها ويكافحون ويكابدون من أجلها، فالتجويد سنة متبعة، ولذلك ينبغي الأخذ به، والأصل: أن الله عز وجل أمرنا بترتيل كتابه على الوجه الذي نزل، وقال سبحانه: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] وإبانة القرآن: إفصاحه، وإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها دون تغيير ولا تبديل، فالمقصود من هذا أنه يجب عليه أن يتعلم هذه الأحكام، وأن يلم بها؛ حتى يؤدي للقرآن حقه وحقوقه.
والله تعالى أعلم.
عدم جواز إخراج المصاحف الموقومة وغيرها من المساجد
السؤال لا يخفى على فضيلتكم ما لكتاب الله عز وجل من تأثير في النفوس، كما لا يخفى الأجر العظيم المترتب على تلاوته، وحفظه، وتدبره، وحيث أن كثيرا من أبناء العالم الإسلامي حرم هذا الأجر بسبب عدم تملكه لكتاب الله، ولضيق ذات اليد، وحيث إنه توجد أعداد كثيرة من نسخ المصحف في المساجد، وهي في حالة جيدة موضوعة في المستودعات، وعدم الحاجة إليها، مما يعرضها للتلف، والامتهان، إضافة إلى عدم الاستفادة منها، حيث أن المساجد تستقبل سنويا أعدادا جديدة من المصاحف، مما يجعل القديمة التي في حالة جيدة لا يستفاد منها، لذا اقترح بعض منسوبي بعض الجمعيات الخيرية، والتي لها نشاط واسع في أنحاء العالم، وخاصة العالم الإسلامي: مخاطبة أئمة المساجد بأخذ تلك المصاحف الموجودة في المستودعات، والتي غالبها من طبعة المجمع، ولا يحتاج لها، وإرسالها مع الدعاة إلى تلك المناطق الخارجية؛ لتوزيعها على المسلمين هناك مجانا للاستفادة منها، لذا نأمل منكم إيضاح الحكم الشرعي في هذه المسألة أثابكم الله؟
الجواب أولا: حقيقة هذه الطبعة-طبعة المجمع- من يعرف حال الطبعات قبل عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، يعلم أنه من أجل نعم الله، وأعظم نعم الله عز وجل في حفظه لكتابه وجود هذه الطبعة، هذه الطبعة التي نعرف من العلماء والأئمة الذين قاموا على تحريرها وضبطها، ممن شهد لهم في العالم الإسلامي من أئمة القراءة، ومن علماء الأزهر، ومشايخ الأزهر القدماء، الذين نعرفهم بالصلاح والاستقامة والضبط والتحرير، وبلوغ الإمامة في هذا الشأن، وغيرهم من العلماء الفضلاء، رحم الله أمواتهم! وأحسن الخاتمة لأحيائهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، هذه الطبعة: الحقيقة كنا في الحرم النبوي نجلس فتأتي طبعات من مختلف العالم الإسلامي، بعضها القرآن فيها محرف، يعني: اطلعنا على بعض طبعات محرفة، والكلام محرف، والآيات فيها سقط، وفيها تحريف، فنعمة عظيمة من الله عز وجل وجود هذه الطبعة، نسأل الله أن يعظم الأجر والمثوبة لمن كان سببا فيها؛ لأنها حقيقة أغنت العالم عن كثير من الغثاء، وعن الدخل الذي ضر المسلمين في كتاب الله، وأن الله تكفل بكتابه.
المسألة الثانية: مسألة المصاحف الموجودة في المساجد لا يجوز إخراجها من المسجد، هذا أول شيء.
والأصل أنه إذا وضع في مكان، هذا يسمونه: دلالة الفعل على خصوص الحبس، والوقف هو الحبس.
أولا: الوقف إذا وضع في مكان، كأن يضع فراشا في مسجد، نفهم من هذا الفعل أنه قصد وقفه على هذا المسجد، ولو لم يتلفظ بلسانه، فيصبح وقفا على هذا المسجد إلى أن يتلف بالكلية، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد، حتى ولو كانت قديمة، وهذا للأسف يتساهل فيه البعض، والذين أوقفوا مصاحف للمساجد، فهم يرجون الأجر والمثوبة، وفيهم أموات أوقفوا هذه المصاحف، وهذه البسط، وهذه الأجهزة، لا يجوز لأحد أن يقدم على التغيير، أو التبديل بها إلا بوجه شرعي، هذا أمر مقرر عند العلماء في الوقف.
ثانيا: حينما يقول الإنسان: أوقفت هذا، أو سبلت هذا، فقد أخرجه من ملكيته لله عز وجل، ما يستطيع أحد أن يتولى النظر فيه؛ لأنه أصبح وقفا لوجه الله عز وجل، مسبل المنافع، فلا يجوز العبث بالأشياء الموجودة في المساجد والاجتهاد فيها، إلا ممن له الشأن في ذلك، هذه المصاحف تكتبون في شأنها إلى جهات الأوقاف، هناك جهات معنية بهذا الشيء، مفوض إليها النظر في هذا الشيء، هي التي تتحمل المسئولية، أما أن يأتي كل شخص ويجمع المصاحف من المساجد ويخرجها ويرسلها إلى الخارج فلا! هذا اجتهاد باطل مردود؛ لأن هناك ضوابط شرعية.
هذا وقف مسبل على هذا المسجد، فلا يجوز إخراجه.
نعم هناك أماكن تحتاج إلى مصاحف، ليس معنى هذا أنها ما تحتاج، بل هناك حاجة وهناك فاقة، بإمكانك أن تكلم الأغنياء أن يشتروا نسخا وطبعات وترسل بها إليهم.
هناك جمعيات جزاهم الله كل خير، يعتنون بهذا الأمر، لكن ليس من حق الإنسان أن يأتي إلى طبعة موقوفة في المسجد، ويخرجها من هذا المسجد، هذا أمر لا إشكال فيه، من جهة الوقفية هناك أمور: الأمر الأول: أن من سبل أو حبس، فإنه لا يجوز لأحد أن يخرج حبسه عن مكانه إلا بوجه شرعي، ولذلك قالوا: إن الأوقاف لا تباع إلا بقضاء من القاضي؛ لأنه ليس لها ولاية، فتحتاج إلى الولاية العامة من القاضي؛ حتى يحكم ببيعها وصحة التصرف فيها.
الأمر الثاني: لا يجوز لأحد أن يأتي والمصاحف موجودة في المسجد، ويدخل مصاحف جديدة، مادام المسجد مستكفيا، ولذلك مادام أن المسجد مستكف، فاذهب بالمصاحف إلى مسجد آخر، وبدلا من أن تخرج المصاحف القديمة التي أوقفها أصحابها فبقاؤها أولى وأسبق، خذ الأشياء الجديدة وقل لهم: أرسلوها إلى من هو أحوج، أما من سبق فهو أحق، ولذلك لا ينبغي إخراج حتى الفراش، لو أن شخصا فرش مسجدا، وفتح هذا الباب، لأتى شخص وقال: والله هذا الفراش ما يعجبني، فيأتي بفراش آخر، والثاني يقول: وأنا أيضا هذا الفراش ما يعجبني، أبغي الأجر والمثوبة، ولما انتهى هذا الأمر، ولذلك الأصل أن من سبق فهو أحق، ونقول لمن لحق: ابحث عمن هو أحوج، واجعلها له، إن شئت أن توقف مصاحف، أو أن توقف أجهزة، أو أن توقف أشياء أخر، فالأصل أنه ليس من صلاحية الإمام ولا غيره النظر في هذه الأشياء، إنما توكل إلى من هو معني بهذا الأمر، تكتبون إليه، ثم يجتهد في هذا الأمر بما فيه المصلحة، نسأل الله التوفيق لذلك! أحب أن أنبه إلى ما يعانيه إخوانكم في فلسطين من الكرب العظيم، والبلاء العظيم الذي نزل بهم، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعجل بالفرج لنا ولهم وللمسلمين، وتعلمون كما لا يخفى على الجميع تكالب أعداء الإسلام عليهم، وما فعله اليهود بهم، الأمر الذي يحتم على المسلم أن يكون مع إخوانه، كما بين الله عز وجل في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك أقول: على كل مسلم أن يقدم ما يستطيع تقديمه لإخوانه، ومن أعظم ما تنصرون به إخوانكم كثرة الدعاء، فإن الدعوة فيها خير عظيم، ولعل دعوة منك تفتح لها أبواب السماوات، تفرج بها كربات المؤمنين والمؤمنات، ترفع بها إلى عالي الدرجات، وتعظم لك فيها الحسنات في الدنيا والآخرة، فاجتهدوا -رحمكم الله- في الدعاء لإخوانكم، وتصوروا كربهم حينما يقتل شيوخهم، وترمل نساؤهم، وييتم أطفالهم، وهم إخوانك في الدين والعقيدة، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله، وصدقوا رسله، فالمسألة مسألة إيمان وعقيدة، فعلى المسلم أن يجتهد في الدعاء لهم بين الأذان والإقامة، وفي السجود في الأسحار، في مظان الإجابة، عند خشوعه، وحضور قلبه، يجتهد في الدعاء لإخوانه المسلمين.
فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، اللهم!! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يكشف البلاء! ويزيل العناء! يا فاطر الأرض والسماء! لا إله إلا أنت، نسألك اللهم!! أن تجعل لإخواننا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم!! داو جرحاهم، واشف مرضاهم، وتقبل شهداءهم، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، واجمع شملهم، وأصلح ذات بينهم، يا حي يا قيوم! اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم! بارك أقواتهم، اللهم! بارك أرزاقهم وأقواتهم يا حي يا قيوم! اللهم! أنزل عليهم من الثبات والصبر أضعاف ما أنزلت عليهم من البلاء، اللهم! إن اليهود قد طغوا، وبغوا، وأسرفوا، وأرجفوا، اللهم! جبار السماوات والأرض لا إله إلا أنت، يا من يسمع الدعاء! ويكشف البلاء! يا فاطر الأرض والسماء! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تزلزل عروشهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم! اسلبهم عافيتهم، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجزك ولعنتك، إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! شتت شملهم، وشمل من شايعهم، وظاهرهم، وأعانهم، ورضي أفعالهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! شتت أمورهم، يا حي يا قيوم! اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، عجل لنا ولإخواننا بالفرج، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #702  
قديم 23-10-2025, 04:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (512)

صـــــ(1) إلى صــ(16)






شرح زاد المستقنع - باب القسامة [1]
كانت القسامة مما يعمل به العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرها وهذبها وجعل لها شروطا، فهي لا تكون في أموال أو عروض أو غيرها، وإنما تكون في القتل والدماء.
والأيمان في القسامة إما أن تكون أيمان إثبات من أولياء الدم، وإما أن تكون أيمان نفي من أولياء المدعى عليه.
مقدمة في القسامة وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسامة] .
تعريف القسامة ومشروعيتها
القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة.
والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولا: أننا لا نقتل أحدا إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمدا عدوانا، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء.
ثانيا: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلانا قتل فلانا، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظا ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص.
إذا: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلانا؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلانا قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحا يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص.
لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبدا، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئا مخالفا للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني) ، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلا وجد مع امرأته.
إلخ.
الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك) ، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك) ، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كل منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط.
ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها.
فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف.
إذا: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب: احضروا خمسين رجلا منكم يحلفون خمسين يمينا ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلا إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيمانا فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية.
ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذبا إثباتا أو نفيا، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبدا؛ لأنه يثبت أن فلانا قتل، فيقتل هذا المسكين ظلما، ومن هنا صار أمرها عظيما، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجرا، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم.
ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.
حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة
هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولا قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا.
إذا: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر.
كذلك من اللوث أيضا قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفوا، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضا لوث.
إذا: عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلا: وجدنا شخصا مقتولا ملطخا بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم.
وبناء على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضا لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة.
وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته) ، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يمينا، فيقتل به قصاصا.
ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلانا كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضا: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث.
قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله.
!) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوم أخلاقهم، وقوم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يمينا؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلانا قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة.
فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا) ، فدل على فائدة وهي: أولا: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلانا قتل فلانا، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلان بن فلان، فإذا كانوا خمسين رجلا فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يمينا) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يمينا على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي.
قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود) ، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!) ، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناء على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلا: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعا للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقنا لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام.
ومن هنا حدثت القضية لـ عمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: ال
مناسبة ذكر باب القسامة بعد كتاب الجنايات والقتل والديات
قوله رحمه الله: [باب القسامة] .
أيك في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بباب القسامة.
وكأن باب القسامة مرتب على باب القتل، فبعد أن بين لنا متى يكون القتل قتل عمد وقتل شبه عمد وقتل خطأ، وبين أحوال القتل ومن يقتص منه ومن لا يقتص منه، ثم تكلم على الجناية على الأطراف؛ شرع في باب القسامة؛ لأن إثبات الشيء أو طلب الإثبات -كما يسمى في القضاء- لا يكون إلا بعد وجود الجريمة، فلا نطالب بإثبات شيء غير ثابت في الأصل لا تتقدمه دعوى، فعلى هذا لابد أول شيء أن تثبت الجريمة على صفة معتبرة، ثم بعد ذلك يسأل عن إثباتها.
وكان المفروض أن يؤخر باب القسامة إلى باب القضاء؛ لأنه متعلق بالحجج والبينات، ولكن نظرا لأن القسامة لا تكون في شيء غير القتل -وهي خاصة بالقتل- فمن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرون الخاص في بابه الخاص، ويذكرون المتعلق الخاص في بابه، ولا يذكرونه في الأبواب العامة.
وباب الشهادات العام سيأتي الكلام فيه عن ضابط الشهادة عموما في القتل، وفي الحدود والجنايات، وفي الأموال وفي الحقوق ونحوها، ولكن في باب القتل هناك نوع من الإثبات خاص به، من المناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في بابه، ولا يذكره في الباب العام، وعلى هذا يكون ترتيب المصنف ترتيبا منطقيا راعى فيه تسلسل الأفكار، حيث بين القتل والجريمة، ثم بعد ذلك بين ما يتعلق بإثباتها.
يرد الإشكال أن المصنف رحمه الله ذكره بعد باب الجناية على النفس والأطراف، ولا شك أن هذا له عذره فيه، فقد ذكر الجناية على الأطراف لأنها مرتبة على الجناية على النفس؛ ولأنه قسيم مشارك، ثم بعد ذلك ذكر القسامة باختصاصها بهذا الحكم الذي بيناه، وهو متعلق بباب القضاء، فكان الأولى والأجدر أن يؤخر، ومن هنا يكون منهجه منهجا صحيحا راعى فيه ما ذكرناه.
ثم من المعلوم أن القسامة لا تثبت إلا في قتل مخصوص وعلى صفة مخصوصة، ومثل هذا -عند الفقهاء رحمهم الله- يسمى الباب الخاص، ويؤخر عن الأبواب العامة.
قال رحمه الله تعالى: [وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] .
قوله: (وهي) أي: القسامة، فالضمير عائد إليها، وحقيقتها عندنا -معشر الفقهاء- أيمان، وهي جمع يمين، وأصل اليمين: الحلف، والأصل في اليمين القوة، يقال: أخذها باليمين: أي: بقوة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين يعني: بالقوة، ثم تطلق على اليد، وهذا إطلاق حقيقي وليس بمجازي، وكذلك أيضا هنا تطلق على الحلف، وهو القسم، قالوا: سمي القسم يمينا لأنه يقوي جانب المقسم، فالشخص إذا حلف وأقسم قوي جانبه، وضعف جانب مكذبه؛ لأن كل من يخبر عن شيء فهو متردد بين أن يكون صادقا أو يكون كاذبا، أو مخطئا، ومن هنا إذا حلف فإنه يقوي ما يقوله، ويقوى جانبه في الخبر.
وقوله رحمه الله: (أيمان) جمع، وعبر بصيغة الجمع؛ لأن القسامة خمسون يمينا يحلفها أولياء المقتول على الصفة التي سنذكرها، فنظرا لكونها أكثر من واحدة، جمعها رحمه الله، وهذا الإجمال بينته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال -كما في الصحيحين- للمدعين: (تحلفون خمسين يمينا) ، ولذلك قال المصنف: (أيمان) ، والمراد باليمين هنا: اليمين الشرعية المعتد بها، وهي اليمين بالله سبحانه وتعالى.
وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ الأصل ألا تغلظ اليمين إلا إذا دل الدليل على تغليظها، وتغليظ اليمين أن يقول: والله الذي لا إله غيره، أو والله الذي لا إله إلا هو، فإذا أضاف هذا القيد فقال: والله الذي لا إله إلا هو فقد عظم يمينه، وإذا فجر فيها كان فجوره -والعياذ بالله- أعظم وأشد جرأة على الله سبحانه وتعالى مما لو قال: والله، فالأصل فيها أن تكون باليمين المجردة: والله.
وبعضهم يقول: يضيف قوله: والله الذي لا إله إلا هو ما قتلناه، ولا نعلم من قتله.
هذا بالنسبة لمن يدعى عليهم، وهي ما تسمى عند العلماء بيمين النفي.
أقسام القسامة
والقسامة -التي هي الأيمان المكررة- التي ذكرها المصنف، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أيمان إثبات.
والقسم الثاني: أيمان نفي.

أما أيمان الإثبات فتكون من أصحاب الدم، وهم الذين جني عليهم وهم أولياء المقتول، فأيمانهم أيمان إثبات، لابد أن يحددوا القاتل ويصفوه بما يتميز به عن غيره، وإن كان موجودا في مجلس الحكم والقضاء، يقولون: والله إن هذا -ويشيرون إليه- قتل مولينا أو فلان بن فلان.
ويذكرونه بما يتميز به أيضا.
هذه يمين الإثبات.
أما أيمان النفي: فتكون من المدعى عليهم؛ لأن الطرف الثاني وهم المدعى عليهم، إذا امتنع أولياء المقتول من الحلف طالبناهم أن يحلفوا، فيحلفون بالله خمسين يمينا أنهم ما قتلوا ولا يعلمون من قتله، فتكون اليمين على الأمرين، أما اليمين الأولى -وهي يمين الإثبات- فقد أشار إليها عليه الصلاة والسلام بقوله: (تحلفون خمسين يمينا وتستحقون بها دم صاحبكم) وفي اللفظ الآخر أيضا في الصحيح (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، فيدفع إليكم) ، وفي لفظ أحمد (تحلفون خمسين يمينا) أو (تقسمون خمسين يمينا على رجل فيدفع إليكم برمته) هذه كلها أيمان إثبات.
أما أيمان النفي فقوله: (فتبرئكم يهود بخمسين يمينا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم يهود) أي: يحلف المدعى عليهم -وهم الطرف الثاني الذين وقعت فيهم الجريمة، وادعي أنهم هم الذين قاموا بالجريمة، أو فيهم من قام بالجريمة- يحلفون خمسين يمينا.
فقوله رحمه الله: (أيمان) يشتمل على أيمان الإثبات من المدعي، وأيمان النفي من المدعى عليه.
ومن هنا كانت القسامة متضمنة للنوع الثاني من شهادة النفي، فالأصل عند العلماء أن شهادة النفي لا تعتبر حجة إلا في مسائل منها هذه المسألة؛ لأنه يحلف المدعى عليهم أنهم والله ما قتلوه، ولا يعلمون من قتله، أو يحلف الشخص الذي يدعى عليه أنه قتل، يقول: والله ما قتلته، ولا أعلم من قتله.
قوله رحمه الله: (أيمان مكررة) إن كانت من شخص واحد، سواء في الطرف الأول، إذا قلنا: الطرف الأول فهم أولياء المقتول؛ لأنهم هم الذين يبدءون أولا، وإذا قلنا: الطرف الثاني، فهم الذين يدعى أن فيهم القاتل، فأولياء الطرف الأول تكون الأيمان مكررة منهم -طبعا- على صور، منها: ألا يوجد ولي للمقتول إلا شخص واحد، كأن يكون المقتول ليس له إلا ابن، ذكر عاصب، فحينئذ -بالإجماع- تتوجه إليه الأيمان ويحلف الخمسين كاملة.
ومن حيث الأصل هناك من العلماء من قال: لا يقبل فيها أقل من شهادة اثنين، فلا يقبلون شهادة الواحد، كما هو منصوص عليه في بعض المذاهب كمذهب المالكية، لكن وعلى هذا يكون قول الجماهير على أنه يكررها.
وأيضا الصورة الثانية: تكرر الأيمان إذا كان أولياء المقتول -مثلا- ابن وأخ شقيق فبعض العلماء يرى أنها تقسم بالميراث وبعضهم يرى أنها تقسم بالعصبة، فعلى التقسيم بالعصبة يحمل الأخ الشقيق أيضا.
لو توفي في الأيمان المكررة من الوليين مثل ابنين أو أخوين شقيقين، الابنين تقسم اليمين بينهما، فيحلف أحدهما خمسا وعشرين والثاني يحلف خمسا وعشرين، فهي مكررة من هذا الوجه.

شروط القسامة




من شروط القسامة: أن تكون في قتل

قال رحمه الله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] يشترط في هذه الدعوى ألا تقع القسامة حتى يدعي أولياء المجني عليه أنه قد اعتدي على وليهم، وهذه الدعوى لا تكون إلا بالقتل، ولذلك قال: (في قتله) ، فلو أنهم ادعوا أن شخصا قطع يد شخص أو قطع يد فلان من أقربائهم، أو رجله، أو فقأ عينه، فلا تقبل في الجناية على الأطراف، لماذا؟ لأنه في الجناية على الأطراف المجني عليه يتولى الخصومة عن نفسه، وحينئذ لا تكون فيها قسامة، إلا وجه شاذ عند الشافعية، ورده بعض العلماء كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، لكن من حيث الأصل فالقسامة لا تكون إلا في القتل والدماء.
أيضا لا تكون في الأموال، فلو أن شخصا اعتدى على سيارة شخص، أو على بيته، أو على داره، وادعى أولياؤه أن فلانا عدو فلان هو الذي صدم سيارته أو أتلفها، أو أتلف مزرعته، أو أتلف ماله، لا نقول بالقسامة، إذا القسامة لا تكون في دعوى الأموال، ولا تكون في دعوى الجناية على الأطراف.
فهي تختص بالقتل، ويشترط في الدعوى أن تكون مبينة ومحررة، وما يشترط في دعوى القتل من حيث الأصل، ولابد أن تكون الدعوى بالقتل، وهذا شرط.

من شروط القسامة: أن يكون القتل مفسرا

الشرط الثاني: أن يكون القتل مفسرا، يقولون مثلا: قتله قتل عمد، فيبينون هل القتل قتل عمد، أو قتل شبه عمد، أو قتل خطأ، فإذا قالوا: قتل عمد، يقولون: إن فلانا ابن فلان قد قتل ولينا بالسيف، ضربه السيف، أو حز رقبته وطعنه بخنجر، أو أطلق عليه النار، فهذا التفسير لابد منه، فلا تقبل مجملة.

من شروط القسامة: أن تكون الدعوى على مكلف

وكذلك أيضا تكون الدعوى على شخص مكلف، فلا تقبل الدعوى على غير مكلف، فلو ادعوا أن الذي قتله صبي، أو مجنون، فإنه لا تقبل الدعوى على الصبي والمجنون، وجها واحدا عند الأئمة الأربعة رحمهم الله.
وعلى هذا لابد أن تكون هناك دعوى، وأن تكون بالقتل، فلا تقبل في غير الدماء: كالأطراف والجناية على الأعضاء، ولا تقبل في الأموال.
ويشترط في هذا القتل أن يكون لمعصوم، وهو معصوم الدم، وقد تقدم معنا هذا الأصل الشرعي في الاستحقاق للدية وللقصاص، أنه لا تستحق الدية ولا يستحق القصاص إلا إذا كان في قتل معصوم، وبينت الضوابط في ذلك، متى تستحق الدية ومتى يستحق القود والقصاص في قتل معصوم.
وهذه الدعوى لابد أن تكون في مجلس الحكم والقضاء، يأتون إلى القاضي ويدعون، والأصل في هذا -يعني لماذا وصف المصنف رحمه الله بهذا الوصف- لأن الأنصار رضي الله عنهم -وهم قوم عبد الله بن سهل - جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس القضاء والحكم، وادعوا أن اليهود قد قتلوا ابن عمهم، وادعى عبد الرحمن أنهم قد قتلوا أخاهم، وبينا سبب ذلك وهو أن عبد الرحمن أخو القتيل، لم يكن موجودا، وإنما الذي خرج إلى خيبر محيصة، وعبد الله بن سهل، قيل: إنهم كانوا يرتادون للتجارة، وقيل: إنهم كانوا يطلبون مالا، وكان هذا لا شك أنه بعد فتح خيبر، وهذا يؤكد أن القسامة كانت بعد السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، نعم.

من شروط القسامة: اللوث

قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] : اللوث: وهو العداوة الظاهرة، واللطخ، وبعض العلماء يرى أن اللوث هو العلامة التي تدل على صدق الدعوة، وفي الحقيقة أن اللوث له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، ومما يتميز به وجود العداوة، فإذا كان بين شخص وشخص عداوة، أو بين قبيلة وقبيلة عداوة، أو بين جماعة وجماعة عداوة، ووجد المقتول مقتولا في أرض الأعداء؛ فإن هذا واضح الدلالة على أنهم هم الذين قتلوه.
وبناء على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه من حيث الأصل لا تقبل القسامة في غير علامة ظاهرة، وأمارة ظاهرة.
ثم اختلف العلماء في هذه العلامة والأمارة، كلهم متفقون على أنه لو وجدت عداوة، أننا نحكم بالقسامة، لماذا؟ لأن الذي كان بين الأنصار وبين اليهود عداوة، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الأقضيات في حال مخصوص، على صفة مخصوصة، ووجدت هذه الصفة وهي صفة العداوة، فقالوا: العداوة تنقسم إلى قسمين: عداوة دينية، وعداوة دنيوية.
والعداوة الدينية: مثل ما وقع بين الأنصار واليهود؛ لأن عداوة الأنصار لليهود، وعداوة اليهود للمسلمين أصلها عداوة ناشئة من دينهم المحرف وديننا الأصلي، فهي عداوة عقدية.
كذلك أيضا تكون العداوة عداوة دنيوية مثل: أن يكون هناك تنافس بين شخصين، أو تحصل فتنة أو خصومة بين اثنين، فحلف أحدهما أن ينتقم، فتوعده وقال: سأريك، أو سأفعل بك، أو سأقتلك، فإذا توعده بالقتل، وشهد شهود أنهم سمعوا أن زيدا قال لعمرو المقتول: سأقتلك، ووجد عمرو بعد ذلك مقتولا، فإن التوعد السابق بالقتل قرينة وأمارة على اللوث، ومن هنا يستحق أولياء المقتول أن يحلفوا على هذا القاتل.
كذلك أيضا إذا كان هناك أشخاص معروفين بالأذية والإضرار: كأهل السوء والشر، ووجد بينهم مقتول، فإن هذا يكون علامة وأمارة على اللوث.
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] قال: (من شروطها) فلها عدة شروط، وهذا من شروطها، وإذا قال العلماء: من شروطها كذا، فإن هذا لا يعني الجمع لكل الشروط.
ومن هنا فائدة المتون أنها تختصر، وإذا قال: من شروطها؛ نبه القارئ على أن هناك شروطا ينبغي عليه أن يرجع إليها زائدة عن ما ذكر.
ومن هنا قلنا: أول شرط: أن تكون الدعوى في القتل.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #703  
قديم 23-10-2025, 04:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




ثانيا: أن تكون الدعوى مبينة مفسرة لهذا القتل: قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ.
ثالثا: أن يكون المدعى عليه مكلفا، إذا لم تكن الدعوى على غير مكلف.
رابعا: اللوث، وهو الذي أشار إليه رحمه الله بقوله (ومن شروطها اللوث) وهو العداوة الظاهرة.
ومن هنا فائدة في قوله: (من شروطها) ، بعض الأحيان ترد هذه العبارة في الفتاوى في كلام العلماء المتقدمين، وينبه على أن بعض العلماء مثلا لما يسأل: ما هي أسباب السعادة؟ مثلا.
فيقول: من أسبابها تقوى الله، من أسبابها كذا، ليس معنا ذلك أنه جمع كل الأسباب، وليس معنى ذلك أنه أراد استيفاء أو بيان جميع أجزاء المسئول عنه، وهذا منهج عند العلماء، أنه إذا عبر بـ (من) التي تقتضي التبعيض أنه ليس ملزما بالإحاطة والشمول.
ومن هنا فإن بعض العلماء من المتقدمين رحمهم الله يذكرون في فتاويهم بعض المسائل حينما يسألون في الفتاوى، أو يسألون في الشروط، فيذكرون بعض الشروط لأهميتها، هذا ما يسمونه بفقه الفتوى، أنهم لا يتعرضون لأشياء ظاهرة معلومة، أو يتعرضون لأشياء عظمت بها البلوى فيركزون عليها في الإجابة أكثر من غيرها، ولما يقولون: من الشروط كذا، ومن أسباب السعادة كذا، فقد حفز ونبه السامع إلى أن هناك أمورا ينبغي أن يرجع إليها، إما في كتابه أو في موضع آخر، غير الموضع الذي سئل عنه.
فهذه من فوائد الإشارة في التبعيض، وهي في الحقيقة تسقط المسئولية أمام الله عز وجل، فالمسئول إذا سئل عن أمر وهو يعجز عن إحاطته لضيق الوقت، أو عدم مناسبة المكان، وأراد أن يتخلص من المسئولية أمام الله عز وجل، فيقول: من كذا من الأسباب كذا من الشروط كذا، فهذا لا يكلف فيه بالإحاطة والشمول، وهذا منهج معروف عند العلماء رحمهم الله.
قال: [وهو العداوة الظاهرة] : (وهو) أي اللوث (العداوة الظاهرة) البينة الواضحة، وفي الحقيقة لا يختص الأمر بوجود العداوة فقد، بل تقع القسامة في القتل الخطأ، مثلا: لو أن شخصا كان في زحام، ثم سقط ميتا، وانقشع الناس عنه وهو ميت، وكان معه قريبه، فقال: هذا مات بفعل فلان وفلان، أحدهم كان أمامه والثاني خلفه، فزحماه حتى ضاق نفسه فمات.
أو أحدهما مثلا وكزه خطأ فمات، ففي هذه الحالة يكون القتل خطأ، حيث أنه لم يقصد أن يقتله، لكن في هذه الحالة لا توجد عداوة ظاهرة، مثل أن يزدحموا على بئر -كما ذكر العلماء-، أو في رمي الجمرات في الطواف، فإذا ازدحموا في مكان ومات أحدهم، يحتمل أمرين: الأول: يحتمل أن يكون مات قضاء وقدرا، وحينئذ لا يجوز لأوليائه أن يحلفوا القسامة؛ لأنه إذا مات قضاء وقدرا لا يستحقون الدية.
الثاني: يحتمل أنه مات بفعل فاعل، بإذن الله عز وجل وقدرته، فهذا الفعل تسبب في موته، وحينئذ يستحقون القسامة، فإذا استحقوا القسامة استحقوا الدية، لكن هذا يقع في صور، ويغلب على الظن فيها أن توجد الأمارات والدلائل، لكن في قوله رحمه الله (من شروطها اللوث وهو العداوة الظاهرة) طبعا في بعض الأحيان يكون القتل عمدا، ونجد علامة ظاهرة بغير لوث، مثل أن نجد شخصا حاملا لسكين ملطخة بالدماء، وهو واقف على رأس القتيل، فلما أخذ، ما أقر، قال: ما قتلته.
وإذا بثيابه ملطخة بدم القتيل قالوا: هذا أيضا من اللوث، ومما يبيح ويحل القسامة على هذا الشخص فيحلفون خمسين يمينا، ويستحقون به.
إذا: لابد للعلماء أن يضعوا شروطا لكي يحكم بالقسامة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط التي منها اللوث، وما ذكرناه من الشروط؛ فإنه حينئذ تصبح الدعوى على الأصل.
ما معنى على الأصل؟ معناه أن نقول للمدعي: أحضر البينة، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للخصم: احلف اليمين, وتنتهي القضية.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة والمدعى عليه باليمين في عجز مدع عن التبيين هذا أصل في القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة أي أن حالة العموم واضحة، فلو جاءنا أصدق الناس، وقال: فلان قتل فلانا؛ فإننا لا نقبل منه دعواه هذه، ولو كان أصدق الناس، ما لم يقم دليلا وحجة.
ولو جاءنا أفجر الناس وأفسق الناس وقال: فلان قتل فلانا، نقول: أحضر بينة؛ لأننا لا نحكم بكلامه، وإنما نحكم بالبينة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة) للخصم لما ادعى، (لو يعطى أناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم) وعلى هذا لابد من وجود البينة.
ومن هنا قال العلماء: القسامة خرجت عن الأصل، وما معنى خرجت عن الأصل؟ معنى ذلك أنها استثنيت من الأصل العام، ليس المعنى أنها شاذة، كما يفهم البعض، أو أنها شيء عقلي خرجت عن القياس أو أصبحت خارجة عن العقل والنقل، لا إنما في الشرع أصول عامة كما ذكرنا خرجت القسامة عنها، فإذا لم يتوفر شرط اللوث رجعت المسألة إلى العرف القضائي، نقول له: أحضر بينة، فإذا عجز المدعي عن دعواه، نطالبه بيمين واحدة، ما نطالبه بخمسين يمينا، ومن هنا نفهم أن القسامة باب خاص، وله أحوال خاصة -كما ذكرنا.

من شروط القسامة: وجود أثر القتل

أيضا مما يشترط إضافة إلى اللوث وجود أثر القتل عند جمهور العلماء رحمهم الله على تفصيل، قالوا: أن يكون المقتول قد وجدت به أمارة وعلامة تدل على أنه قد قتل عمدا، فإذا لم توجد فيه أمارة، قالوا: إنه يحتمل أنه توفي قضاء وقدرا، وليس مجنيا عليه، بمعنى أنه ليس هناك قتل عمد.
وعلى هذا قالوا: لابد من وجود الأمارة بأن يكون مطعونا بسكين، أو محزوز الرقبة، أو مضروبا في مقتل، أو مخدوشا في موضع في مقتل، فبعض العلماء يقول: هذا لا يشترط؛ لأنه يمكن أن يقتل بالخنق.
وفي عصرنا الحاضر، يوجد ما يسمى بعلم الطب الشرعي، وهذا علم خاص في كشف الجنايات والجرائم، ممكن أن يثبت هذا الأمر أو ينفيه، وحينئذ يمكن أن يعول على هذا الإثبات والنفي، في إثبات القسامة وعدمها، فمثلا لو قال الطبيب الشرعي: هذا جاءته سكتة قلبية، أو مثلا: حصل له عارض، فعنده نزيف داخلي، وليس له علاقة بالجناية، فحينئذ تسقط دعوى القسامة؛ لأنه ليس هناك دليل على القتل.
وأما إذا وجد عن طريق البصمات أو الآثار التي تدل على الجناية، كأن لا يوجد أي أثر للقتل، لكن ثبت أنه قتل بالخنق، أو مثلا بحقن مادة مسمومة ونحو ذلك، فالطبيب الشرعي يمكن أن يثبت هذه الأشياء بإذن الله عز وجل، فيعول عليه، ويعمل بأدلته، وتكون أيضا قرينة أو شاهدة على اللوث.
قال: [وهو العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر] : وهذا من طبيعة البشر حيث أنه إذا وقعت بينهم ثارات، أنه يطلب كل منهم ثأره عند الآخر، من هنا قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة:179] ، فبين سبحانه وتعالى أن في القصاص حياة للناس، ولعدم وجود القصاص في الجاهلية كانوا إذا قتل القتيل لربما قتلوا به المائة.
ومن هنا الحروب التي وقعت في الجاهلية كحرب البسوس وغيرها، لما قتل القتيل في حرب البسوس، وكانت من أشدها ضراوة، قال ولي المقتول: لعلك قتلته بكليب، فأطفأ الثأر، فقال له: قتلته بشسع كليب، يعني -أكرمك الله- بالنعل الذي يلبسه المقتول، فكانوا يستحلون الدم، ويجعلون المقتول إذا قتل لزعيمهم أو كبيرهم مقابل لشسعه أكرمكم الله، أو نعله، وهذا يدل على ما كانوا عليه من الجرأة على الدماء والعياذ بالله.
من هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم الحارث ... ) في قصته المشهورة في قتيل هذيل، فالمقصود من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الثارات، والإسلام قطعها، فإذا وجدت ثارات بين القبائل أو عداوة بينهم واضحة، فحصل شيء من هذا، فإنه يوجب القسامة، وهذا يرجع إلى القاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويتحرى حتى يستطيع أن يحكم بثبوت.
ما الدليل على هذا الشرط؟ طبعا نحن ذكرنا شرط دعوى القتل، والدليل عليها أن الصحابة رضوان الله عليهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا قتل يهود لـ عبد الله رضي الله عنه.
ثانيا: أن تكون دعوى القتل مبينة، بأن يكون بالقتيل أثر القتل، وهذا يشترطه بعض العلماء رحمهم الله، وهي الأمارة.
والدليل عليه: رواية الصحيح فوجد عبد الله وهو يتشحط في دمه، فلما وجده كان على صفة المقتول المعتدى عليه؛ لأن محيصة افترق عن عبد الله رضي الله عنه، ثم رجع محيصة إلى المكان الذي كان فيه، فوجد عبد الله رضي الله عنه يتشحط في دمه، فهذه أمارة.
أن تكون القسامة على مكلف، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على رجل منهم) ، والأصل أن شرائع الإسلام منوطة بالمكلف لا بغير المكلف، ولأنه مستثنى عن الأصل.
كذلك أيضا أن يكون الذي يدعيها مكلف، فلا يدعيها صبي؛ لأن الصبي لا يمكن أن يحلف أيمان القسامة، ولا تقبل يمينه.
وأن لا يدعيها مجنون؛ فالمجنون لا تقبل دعواه.
فأيضا يشترط في المدعي أن يكون كذلك؛ لأن الصحابة حرصوا على الاستدلال بهذه الصفة، بوجود اللوث وهو العداوة الظاهرة؛ لأنه كانت بين اليهود وبين الأنصار العداوة الظاهرة.
هذه كلها شروط نبه عليها الشرع، وقوله رحمه الله: (اللوث) وهو العداوة الظاهرة، والعداوة تكون ظاهرة وتكون خفية.
والمراد بالظاهرة: الواضحة الجلية، كأن يأتي شخص ويقول: وجدنا مقتولا في موضع كذا، فقال أولياء المقتول: هم الذين قتلوه، قلنا: لماذا قتلوه؟ قالوا: لأنهم أعداؤه، فنقول: هل عندكم دليل على دعواكم؟ فلو قيل في الدليل مثلا: هؤلاء فقراء وهذا غني، ودخل بثياب الغنى فقتلوه، نقول: هذه ليست علامة ظاهرة، هذه علامة يسمونها ظن التهم، والظن المرجوح، ومثل هذا صحيح، أن تكون هناك عداوة بين الأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، لكن لا تصل في الغالب إلى هذا الحد، أو إلى هذه الصفة، ومن هنا لا تكون عداوة ظاهرة.
فالمصنف رحمه الله قال: (اللوث وهو العداوة الظاهرة) .
قال: [فمن ادعي عليه القتل من غير لوث؛ حلف يمينا واحدا وبرئ] .
(فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) يعني: من غير عداوة (حلف يمينا واحدة وبرئ) .
هناك تفصيل كبير للعلماء رحمهم الله في مسألة دعوى القتل، فإذا ادعوا على شخص، سموه، أو على شخصين سموهما، مثلا: إذا قالوا: قتله بنو فلان، نقول لهم: حددوا من الذي قتله منهم، وما الدليل على التحديد؟

من شروط القسامة: تحديد القاتل

ومن شروطها: تحديد القاتل؛ لأن بعضهم أوصل الشروط إلى عشرة لكن فيها نظر، فتحديد القاتل أصل في دعوى القتل، وهو شرط معروف في دعوى القتل بأن يذكروه محددا باسمه ونسبه، ويرفعون النسب، أو يكون حاضرا في مجلس الحكم كما ذكرنا، فيشيرون إليه.
لكن لو أنهم ادعوا وقالوا: جماعة قتلته، فلا تقبل القسامة؛ حتى يحددوا، فإذا حددوا وبينوا؛ فحينئذ تقبل دعواهم.
وعلى هذا قال رحمه الله: (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) فإذا ادعوا على شخص أنه قتل موليهم، نقول لهم: أثبتوا اللوث.
كيف يثبت اللوث؟ يثبت اللوث بالعداوة بين قبيلة القاتل وقبيلة المقتول، فيشهد الشهود أن بين بني فلان وبني فلان ثارات، وقد يكون بين البيتين، فإذا ثبت بشهادة العدلين، فهو لوث.
ثانيا: يثبت اللوث أيضا -وهو العداوة- بأن تكون خصومة وقعت بين اثنين، كأن يكونا قد اختصما في أرض، أو في مال، فهذه عداوة ظاهرة.
فإذا ادعى عليه ففي هذه الحالة نحكم، لكن لو لم يثبت اللوث، بأن قالوا: فلان قتل فلانا، قلنا: هل هناك عداوة ظاهرة؟ هل هناك لوث؟ قالوا: لا، فحينئذ إذا كان هناك حال لاجتماعهم مثلا: أن يكونوا في زحام على سيارة، أو في زحام على بئر، أو في زحام على طاعة أو قربة، وتفرقوا وهذا مقتول، فحينئذ هذا لا يشترط فيه اللوث، فتقبل فيه الدعوى، لكنها دعوى على قتل خطأ، وليست على قتل عمد، ونحن نتكلم على قتل العمد.
ومن هنا ينبغي أن ينتبه إلى كلام المصنف؛ فقوله: (من غير لوث) ليس على إطلاقه.
قد تقع القسامة في غير قتل العمد كما ذكرنا، كالقتل الخطأ، وقد يكون في زحام شديد، أو طلب لحاجة أو مصلحة، فيجتمعون ويعصر بعضهم بعضا ويؤذي بعضهم بعضا، ويحصل القتل، فإذا حصل القتل من هذه الجماعة، قالوا: فلان هو الذي رأيناه أو شاهدناه يفعل كذا وكذا، وحينئذ يؤخذ ويطالب فإذا ثبتت عليه الأيمان، فإننا نحكم عليه بموجب القسامة.
لكن لو لم تكن هناك عداوة ظاهرة فيما هو من قتل العمد، ولم يكن هناك لوث، فإنه في هذه الحالة إذا قالوا: فلان قتل فلانا، قلنا لهم: أحضروا البينة، قالوا: نحلف أيمان القسامة، قلنا: لا نقبل؛ لأنه ليس هناك ما يدل على شرعية القسامة في هذه القضية، فإذا قلنا لهم: لا تحلفوا، أحضروا البينة، قالوا: لا بينة عندنا، قلنا للخصم الذي ادعي عليه: احلف اليمين، فإذا حلف اليمين بالله عز وجل أنه ما قتل، ولا يعلم من قتله، فلا إشكال، لكن لو امتنع من حلف اليمين فوجهان: قال بعض العلماء: إذا امتنع من حلف اليمين كان اللوث، وأصبح نكوله عن اليمين موجبا للتهمة فيه؛ لأنه لو برئ سيحلف، ولا تضره اليمين شيئا، فإذا نكل وامتنع، فإنه حينئذ يثبت اللوث، فيقيم القاضي القسامة، ويأذن لأولياء المقتول أن يقيموا عليه أيمان القسامة.
هذا طبعا مذهب الجمهور من حيث الأصل، حيث يذهبون إلى أنه لا تقام القسامة مجردة.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية ثانية: أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصا، ولم يكن هناك لوث، فعند عجز المدعي عن البينة يطالب المدعى عليه بأن يشهد خمسين يمينا بالله عز وجل أنه ما قتل ولا يعلم من الذي قتله، هذا الأصل.
وعلى هذا نقول: الصحيح أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصا لا نحكم بالقسامة إذا لم يكن هناك لوث، ما لم تكن في المسائل التي لا يشترط فيها اللوث، فإذا عجز أولياء المقتول عن إثبات اللوث، قلنا للخصم: احلف اليمين عند عجزهم عن إثبات اللوث، وعجزهم عن البينة؛ فإذا حلف اليمين برئ؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن اليمين على المدعى عليه) ، وفي لفظ: (ولكن اليمين على من أنكر) وفي حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، وفي لفظ: (على المدعى عليه) فنحن لا نطالب المدعى عليه بأكثر من يمين واحدة، فإذا قال: ما قتلته، فإننا نقبل قوله، ونقول له: احلف اليمين أنك ما قتلت، فإذا نكل عنها، فاختار جمع من العلماء -كما نص عليه الإمام النووي رحمه الله وبعض المحققين- أنه يكون أمارة على اللوث؛ فيستحق الأولياء بعد ذلك أن يشهدوا أيمان القسامة.


الأسئلة




إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء
السؤال أحسن الله إليكم، وأجزل لكم المثوبة والأجر، فضيلة الشيخ! التوسع في ضابط اللوث، ألا يؤدي إلى الوقوع في ظلم الغير، وهل للقاضي أن يقتصر على العداوة الظاهرة، كما في حديث عبد الله بن سهل، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كررنا النصيحة أكثر من مرة لطالب العلم بأن يكون عنده ورع، وأن يكون عنده أدب مع العلماء رحمهم الله، فكل شخص جاء ليقرأ شيئا لم يفهمه، ولم يضبط بضوابط العلماء رحمهم الله واستغربه، وأراد حصر العلماء في شيء معين؛ فهذا من الخطأ بمكان، ولن يستطيع أن يفهم طالب العلم فهم العلماء ما دام بهذه الصفة؛ فعند أن تقول: التوسع في اللوث، من الذي قال لك أن هذه الضوابط التي ذكرها العلماء توسع، بعض طلاب العلم تعود أسلوب النقد، وإلا فضبط الشيء يمنع من التوسع فيه، فهذا تناقض من السائل أصلا، توسع في ضابط اللوث! بالعكس العلماء حينما يضعون ضوابط للوث، يمنعون من التوسع فيه، حينما تأتي الشريعة بالعداوة الظاهرة بين اليهود والأنصار، ووجدت به القسامة.
فاعلم رحمك الله أن الشريعة تنبه بالنظير على نظيره، وبالمثيل على مثيله، وإلا فقد حجرت واسعا؛ لأنك إذا انطلقت من هذا المنطلق فستقول: لا أقبل إلا العداوة الدينية؛ لأن الذي ثبت في النص العداوة الدينية، أثبت لي أن العداوة بين القبائل يثبت بها القسامة، أين الدليل؟ لا دليل.
ومن هنا قال العلماء: اللوث العداوة، ثم وضعوا الضوابط فقالوا: العداوة الظاهرة، التي لا تكون مبنية على الشكوك والشبهات والتهم، وهذا صحيح؛ لأن الشريعة تعتبر أن العداوة الظاهرة هي التي تحمل على الضرر والأذى، وباب القسامة في باب الضرر والأذى؛ فينبغي أن تتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرط أن تفهم وتقعد وتأصل من خلال الفهم، أما أن يأتي شخص ويضع قواعد من عنده، فهذا توسع كما قلت، ونردها.
لكن أن يفهم شخص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الفهم محمود غير مذموم، مأجور غير مأزور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) يعني: يزيده فهما.
فإذا كان ذلك فلماذا وضع العلماء ضوابط اللوث؟ أولا: حكمة مشروعية القسامة؛ لها أبعاد أكثر مما يتصورها الإنسان القاصر في فهمه، فالأصل أن كل أهل محلة ومدينة ومنطقة وقرية وجماعة مسئولون عن محلتهم وقريتهم وجماعتهم؛ فإذا وجد القتيل بينهم طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وهذا نبه عليه الإمام الكاساني رحمه الله في (بدائع الصنائع) ، فله كلام جميل نفيس لو يرجع إليه! لماذا شرعت القسامة وطولب بها، يعني مثلا في العداواة الظاهرة حينما تكون أهل محلة وأهل قرية وأهل بلدة؟ لأنهم قصروا في حفظ محلتهم وقريتهم ومدينتهم، طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وتحملوا المسئولية ثم يلزمون بعد ذلك بأن يقوموا على محلتهم ويحفظوا دورهم.
ليست القسامة فقط أن تأتي بالناس يحلفون، فهذا له أبعاد بعيدة جدا، فأوجدت الشريعة الدية، وصوم شهرين متتابعين، وعتق الرقبة، وصوم الشهرين المتتابعين على شخص قتل خطأ، لماذا وهو قتل خطأ؟ قالوا: تعظيما للدماء، ولذلك فالمسلم يأخذ حذره، فإذا جاء يصيد في البر، فهو يعلم أنه لو أخطأ سلاحه، فقتل مسلما أنه سيلزم بديته، ويلزم بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إن عجز عنها، عندئذ يعرف أين يصيب وكيف يصيب، وكيف يحافظ على أرواح المسلمين.
وإذا جاء يقود سيارته، وهو يرى أنها قد تفضي بمن معه إلى الموت، بحيث قد تكون قديمة، فيتساهل في أشياء قد تفضي به إلى الموت، ثم تذكر ذلك دعاه ذلك إلى أن يتحفظ، ولذلك قالوا: إن القسامة شرعت في الدماء، ولم تشرع في الأطراف؛ تعظيما لأمر الدماء.
فإذا قلت: القسامة محصورة في العداوة الظاهرة، بمثل ما ورد في حديث عبد الله بن سهل، كيف تحجم السنن بهذا التحجيم؟ فعندما يلزمك بالنظير من نظيره، يصبح الحكم بالقياس، وعند هذا يستوي العلماء والجهلاء، وما على أحد -إذا أراد أن يصير فقيها- إلا أن يحفظ الأحاديث، ويطبقها مثل ما وردت على ظاهرها، ولا يعمل فكرا ولا فهما، وعندئذ يكون من حفظ السنن وفهمها على ظاهرها أعلم الناس وأعلم الخلق، فهذا ممكن أن يكون، فلابد من الفهم، ولابد من التقعيد، ليس هناك تثريب على من فهم إذا كان فهمه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن نقول هذا؛ لأننا نعرف من خلال الطلب حينما كنا مع علمائنا ومشايخنا كانوا يمنعون الطالب من النقد المشكلة الآن في العصور الأخيرة، مسألة التربية على النقد، الآن الطالب يأتي ويقول: لماذا لا نقتصر على العداوة؟ ولو جئت أسأل الآن: ما هي الشروط التي ذكرناها؟ لم يستطع أن يرددها، نقول: قبل أن تنتقد العلماء اضبط ما يقال لك، مشكلتنا اليوم أن الشخص يجلس ويستمع، فهل يفهم هذا الشيء؟ ثم هل يتقبله أو لا يتقبله؟ هنا المحك، أما أن يأخذ شيئا مستنبطا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يحاول أن يجلس ويضبط هذه الأشياء ويلخصها ويفهمها، ويقرأها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وعندها تكون منحة الله له بعد ضبط هذه العلوم، وتقريرها وتكرارها وإتقانها والإلمام بها، بعد ذلك يأتيك فتح الله عز وجل، وتصل إلى ما وصل إليه العلماء، وتضبط كما ضبط العلماء والفقهاء، ولا تعجل رحمك الله، لا تعجل فلست الآن في إطار النقد، ولا أفتح مجالا لطلاب العلم في بداية الطلب للنقد، ومن جاء ناقدا رجع فاقدا.
أول شيء نريد ضبطه هو حفظ هذا العلم، وإتقانه، ثم بعد أن تصل إلى درجة تضبط فيها أصول الفقه، الذي يسلحك بسلاح الفهم، حتى تصل إلى درجة هؤلاء العلماء، عندها تعرف لماذا قالوا هذا الكلام.
والله ثم والله، ما من طالب علم يقعد ويؤصل بتأصيل العلماء، ويفهم ويقرأ الكتاب والسنة، بحيث يحضر تفسير القرآن على يد عالم أهل لتفسير كتاب الله، ثم يحضر دروس الحديث على يد عالم أهل لتفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلس السنوات تلو السنوات وهو يضبط ويحصل ويقرر، إلا جاء اليوم الذي يستوي فيه فهمه، وينضج فيه فكره، وإنه ليقرأ كلام العلماء، فيقرأ الصفحات التي كان بالأمس يعيبها، وإذا به لا يمل ولا يسأم، ويعذر العلماء حين قعدوا وأصلوا.
كنا في القديم نقرأ بعض المطولات، فنستغرب منها -نستغفر الله- هذا شيء عايشناه، وكان الوالد رحمه الله يمنعنا من المطولات في بداية الطلب.
وأقسم بالله ما نمدح أنفسنا، لكن بعد أن قرأنا ورأينا ضوابط العلماء، أصبحنا نقرأ عشرات الصفحات، لا نمل ولا نسأم ونعرف قيمة العالم، ونتلذذ بهذه الفروع المبنية على الأصول، ثم نجد أيضا الشوارد والتتمات والفوائد والمسائل الملحقة، حتى إذا ما قررت الأصل، جاء بعد ذلك يقرر لنا دليله ووجه دلالته، وكيف دل على المسألة؟ وهل دلالته عامة أو خاصة؟ مطلقة أو مقيدة؟ بعد أن ننتهي من هذا كله، نأتي إلى تطبيقات هذه الفهوم التي فهمها العلماء رحمهم الله على ما عايشوه، فنجد كيف أنهم يختلفون في هذه التطبيقات، وكيف أن كلا منهم يدلي بحجته، ويبين سبيله ومحجته، ثم بعد ذلك تأتي أنت من نفسك تجد أشياء في داخل نفسك ربما أنها تلحق بما ذكره العلماء.
ويمكن أن تتربى فيك ملكة هذا التأصيل والفهم، ومن هنا قالوا: لا يعرف قدر العالم إلا العالم.
مثال بسيط: الشخص إذا جاء وجلس عند عالم يفتي في مسألة من المسائل، فوجد العالم يقول: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال كذا وكذا، وهذا الحديث عام، فهذا جواب، في بعض الأحيان يقول: وهذا الحديث عام، إلا أنه يستثنى منه هذه المسألة.
عامة الناس إذا سمعوا العالم يفتي بهذه الفتوى، يكون الأمر عاديا عندهم؛ لأنه مفت، فما يشعرون ولا يحسون بقيمة هذا العلم.
لكن لو جاء إنسان متمكن من الفقه، متمكن من هذا العلم، ينظر أول شيء إلى حكم الشيخ على المسألة.
ثانيا: دليله ووجه الدلالة، ثم لا يقف عند وجه الدلالة، بل يرى ما هي العبارات التي اختارها هذا الشيخ لبيان وجه الدلالة؟ وهل هذه العبارات محتملة أو غير محتملة؟ تفيد المقصود أم لا تفيد المقصود؟ هل هذه العبارات يستطيع أحد أن يستغلها في الفتوى أم لا؟ وهل العالم لما أجاب في هذه المسألة يقصد الفتوى، أو يقصد التوجيه، أو يقصد مطلق النصيحة؟ فلا يعرف العالم إلا العالم، فهل الذي تراه من الضوابط لا يعرف قدرها إلا من اشتغل بفهم النصوص وضبطها، يا سبحان الله! إذا قعد العلماء وأصلوا، قالوا: بالغوا، وإذا اختصروا ولم يسهبوا، قالوا: متون معقدة، وطلاسم غير واضحة، فلا يفهم العلماء إذا فصلوا وقعدوا، ولا يسلم الاختصار.
الآن تجد بعض المعاصرين يقول لك: يا أخي! كتب المتقدمين هذه أساليبها صعبة، وغير واضحة نحتاج الآن أن نشرحها ونوضحها، ثم بعد ذلك يقول لك: نريد أن نقتصر فقط على المطلوب والأصل.
والآخر يأتي ويقول: هذه المطولات كثيرة، نريد الآن أن نختصرها ونختصر فيها على المراد، دعونا من الذين يقولون: أسهبوا، ومن الذين قالوا: اختصروا، دعونا نأخذ علما موروثا عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أخذوا هذا العلم بحقه، دعونا نتعلم، دعونا نضبط، قالوا: تعلم ثم تكلم، أما إنسان بمجرد أن يجلس يشتغل بالنقد، فهذا لا نريده، ولا نعول على طلاب علم بهذه المثابة، وثقوا ثقة تامة، فمثل بعض الإجابات أسهب فيها؛ لعموم الحاجة إليها والبلاء فيها؛ تحذيرا من ذلك، وبعض الأحيان أكثر من عشرين مسألة، نحتاج إلى بيان حكمها؛ لأنه إذا لم يكن لطالب العلم منهج، وإذا لم يكن له سبيل يقوم ويسدد، فلا يستطيع أن يصل إلى المراد.
فنحن نقول: إن ضوابط العلماء التي ذكروها، مبنية على أصول، وهذه الأصول ما دام أن السنة قد قررتها وبينتها؛ فلا إشكال، فإذا قلت: العداوة الظاهرة، ما تستطيع أن تضع لها ضابطا.
والعداوة الظاهرة كيف نفهمها وكيف نفهمها للغير، هذا هو الذي اعتنى العلماء رحمهم الله بوضعه بالضوابط التي تستشكلها.
وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا الأدب، وأ
بر الوالدين مقدم على غيره من أعمال البر
السؤال فضيلة الشيخ! يقول السائل: يحتاج الوالدان إلى الولد كثيرا، خاصة أثناء العطلة، الأمر الذي قد يتعارض مع بعض الأنشطة، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أوصيك أخي بوالديك خيرا، وأن تبدأ بوالديك بعد حق الله عز وجل، وإذا كنت تبحث في الأنشطة عن مرضاة الله، ومحبة الله، فاعلم أن محبة الله في رضا الولدين، وأن الله رضي عمن رضي عنه والداه، فمن أرضى والديه أرضاه الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك حق قرنه الله بحقه -ونبه عليه سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعد حقه وتوحيده- مثل حق الوالدين، فاتق الله في والديك، واعلم أن الله سيفتح عليك -إن كنت تطلب العلم- بفضله ثم برضا الوالدين، وأن الله سيبارك أنشطتك، وأمورك الخيرية بعد رضا والديك، كم من بار بوالديه بكت عيناه، وتفطر قلبه، وعظم حزنه، حينما كان مشغولا في دراسته، وكان يتمنى أن يكون عند رجل أمه وأبيه، وكان يتمنى ساعات رضا من والديه، وحيل بينه وبين ذلك بأمور قاهرة أثناء تعلمه وانشغاله.
هاهي العطلة سويعات ولحظات، وأيام وليال، فهل لك أن تشتري مرضاة الباري في رضا والديك، اجتهد في رضا الوالدين، وقدم والديك على الناس، الله أعلم كم قدمتك أمك على غيرك، وعلى نفسها، الله أعلم كم قدمك أبوك على نفسه وماله وأهله والناس أجمعين، فاتق الله في والديك.
وأحسن كما أحسن الله إليك، فإن وجود الوالدين نعمة عظيمة من الله عز وجل، هنيئا لبار لزم والديه فقام بحقهما وحقوقهما، وأدخل السرور عليهما حتى فاز بمرضاة الله، والأنشطة والأمور التي فيها إدخال سرور على الأصدقاء أو على الملتزمين أو على من يريد الخير، هذه أمور تكون تبعا لرضا الوالدين، فإذا جاء الوالد أو الوالدة يطلبان أمرا، وأنت خارج لأي شيء فقل: سمعا وطاعة، واعتذر من أصدقائك، قائلا: أعتذر لأن عندي ظرفا، قلها بشرف، وبرضا وافتخار وقوة؛ لأنك تعلم أنه ليس هناك أحد أوجب أن تطيعه بعد الله عز وجل من والديك، فاتق الله في والديك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان، قال: أتريد الجنة، قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة) ، فهذا الذي أوصيك به أخي في الله! ودع عنك التأويلات، ودع عنك الاجتهادات والآراء، فوالله لن تفلح إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن توفق إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن تعان على أمرك إلا برضا الله ثم برضا الوالدين.
وكم من قابع عند قدم والديه، يقوم عليهما ويدخل السرور عليهما، حتى لربما مضت عليه أكثر أيام العطلة وهو في جهاده يبر والديه، ولم يفوت إلا أياما معدودة لإخوانه وخلانه وأصحابه، بورك له في هذه الأيام، ما لم يبارك له في غيرها من أيام العطلة كلها، البركة في أمور الدعوة وأمور الخير، إذا نزعها الله منها فلا خير فيها، فابدأ بوالديك، ابدأ بمن أمرك الله ببرهما، الشاب يخرج إلى زيارة المسجد النبوي ويسافر الأيام، ووالدته مريضة، الشاب يخرج إلى مسافات شاسعة ويسافر إلى بلدان بعيدة، وأبوه في أشد الحاجة إليه، وقد يكون الوالد مريضا، وقد تكون الوالدة مريضة، بل والله لو كانت لأبيك مصلحة -في بيع وشراء- وقبعت في دكانه ومتجره، تجاهد في بره ورضاه؛ ليفتحن الله عليك إما عاجلا أو آجلا، ما ضر البر أحدا، فالبر مفتاح لكل خير (وإن البر ليهدي إلى الجنة) ، ومن أعظم البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: بر الوالدين.
فيا رعاك الله! احرص كل الحرص على والديك واتق الله فيهما، واعلم أن الله أعطاك نعمة بقاء الوالدين أو أحدهما، فهما من أبواب الجنة، فليحرص على هذه الأبواب، حتى ينتهي به ذلك إلى حسن خير في صلاح وهدى وصواب.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقنا لذلك، أوصي كل موفق أن يحس أنه أيام الشغل كان مقطوعا عن بره لوالديه، فليحتسب العطل والإجازات في بر والديه، في ليس للمسلم عطلة وإجازة، وإنما هو أمر نسبي، فهذه فرصة يبتلي الله فيها الصادق.
بعض الناس أيام الدراسة يقول: لا أستطيع أن أقوم الليل؛ لأني إذا قمت الليل تعبت في النهار.
نقول له: الآن ما عندك شيء، فإذا تعود في أيام عطلته أن يقوم الليل، وداوم عليه، ثم شغل بدراسته ومرت عليه الشهور كلها، مشغول، كتب أجر القائم لليل، لأنه أظهر لله عز وجل أنه في فراغه لا يقصر في طاعة، يصوم الاثنين والخميس، لكن إذا جاءت أيام الدراسة لا يستطيع الصيام؛ لأن والده يمنعه شفقة عليه، فيبره، ومع ذلك إذا جاءت العطلة يصومها، فالعطلة والإجازة مدرسة للخير والصلاح والبر، مدرسة وفكر للإنسان فيها في تقديم الأهم فالمهم، أولا بر الوالدين، ثم صلة الرحم، إذا لم تصل عمك وعمتك وخالك وخالتك، , وأقرباءك وتدخل السرور عليهم في العطلة، فمتى تصلهم؟ متى تأتيهم إذا لم تأتهم في الإجازات، ليست الإجازة هملا، ولا عبثا، فما خلق الله الخلق سدا، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلا، {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} [ص:27] ، فالإنسان ينبغي عليه أن يتفكر وأن يتدبر أن الله أعطاه هذه الأيام امتحانا، فإذا كنت في أيام العطلة تحرص على بر والديك، ورضاهما؛ فقد سعدت ونجحت وأفلحت، وحينئذ يجب على المربين والدعاة، والأفاضل الذين يقومون على أبناء المسلمين أن يكونوا خير عون لهم على ذلك.
وللأسف أن البعض يستهزئ من بعض الطلاب ويقول: اذهب واجلس عند أمك، فقل له: نعم أجلس عند أمي، وهذا شرف لي أن أجلس عند أمي قبل أن أراك أو أجلس معك.
هكذا بلغنا عن بعضهم، يقول: اذهب واجلس عند أمك! هل أصبح البار بوالديه محلا للنقد والسخرية؟! هذا أمر عظيم.
قد يخرج الإنسان تاركا والديه وهما غضبانان عليه، ولربما يرجع ولا يلقاهما أبدا، فيموتان وهو عاق لهما والعياذ بالله، فهو مسئول أمام الله عن ذلك.
الشاهد: أن يأتي إنسان إلى أمه يبلغها أنه سيسافر، فلا توافقه أمه في ذلك؛ شفقة عليه وخوفا من أن يصيبه مكروه، هل تلام أمك لشفقتها عليك؟ يعقوب عليه السلام أبيضت عيناه من الحزن -وهو من أولي العزم من الرسل- على فراق ابنه، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، ويشفق أن يرسل ولده للعب يقول: {إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} [يوسف:13] ، هو يعلم أنه نبي ولا يأكله ذئب، لكن هذا نوع من الشفقة، تذكرنا بشفقة الآباء على الأولاد، وتذكرنا بشفقة الأمهات على فلذات الأكباد، فهذا شيء لا يملكه أحد.
نبي مرسل عليه الصلاة والسلام، فضله الله عز وجل وشرفه، وقد أوتي من الصبر والقوة حتى أنه يقاتل كقتال الأربعين شدة وبأسا، وحين فقد ابنه دمعت عيناه، فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) من هذا الذي يريد أن يدخل بين أم وفلذة كبدها، من هذا الذي يستطيع أن يقف بين يدي الله عز وجل وهو يربي أبناء المسلمين على العقوق، بل ربهم على المحبة والبر، وقل لهذا: قم لوالديك، واذهب إلى والديك وأدخل السرور عليهما، يجب أن تكون مجالسنا مع أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم ومن كل من يلوذ بنا التربية على بر الوالدين ومحبتهما، والحرص على بر الولدين، ولو كنا في كل درس وفي كل محاضرة نؤكد هذا، والله ما ملت منه أذن يؤمن صاحبها بالله واليوم الآخر؛ لأنه يعلم أن هذا منهج القرآن وهذا منهج الكتاب والسنة.
فالله عز وجل في أكثر من موضع يقرن هذا بتوحيده، ومع ذلك يؤكد عليه ويقول: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] الشخص حينما يقرأ: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] ثم بعد ذلك يعقبها ويقول: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] ، هل هذا كله لا يعقله الإنسان ولا يعيه، فنحن لا نربي لدعوة ولا خير ولا بر ولا ندعوا لمشاركة في دعوة وخير وبر، إلا بعد أن نرى بارا بوالديه، رضي عنه والداه، حتى إذا تكلم بارك الله في كلامه، وإذا دعا بارك الله في دعوته، وإذا نصح وفقه الله في نصحه وإرشاده أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا البر، وأن يعيذنا من العقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #704  
قديم 23-10-2025, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الديات)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (513)

صـــــ(1) إلى صــ(16)






شرح زاد المستقنع - باب القسامة [2]
القسامة هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وقد بين الشرع القسامة على صفة مخصوصة لابد من وقوعها عليها، وعلى هذا فيلزم في القسامة أن يبدأ فيها بأيمان الرجال من أولياء الدم، فإن نكلوا أو بعضهم انتقلت القسامة إلى المدعى عليه وبرئ بها.
أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة




من يبدأ بالقسامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم] : شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة القسامة، وكيف يجريها القاضي في مجلس الحكم والقضاء، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله ببيان هذه الجملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع القسامة أو بين القسامة على صفة مخصوصة، فلابد من وقوعها على هذه الصفة، فقال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال) .
هذه المسألة الأصل فيها ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه حينما ادعى حويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل، قال صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، وتستحقون دم صاحبكم) ، وفي اللفظ الآخر: (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته) .
فهذا يدل على أنه توجه أيمان القسامة إلى المدعين أولا قبل أن توجه إلى المدعى عليه، فلو ادعى شخص على شخص أنه قتل، أو ادعت جماعة على جماعة أنها قتلت، فالأصل أن نبدأ بالمدعين، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وظاهر السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم يقوي هذا القول.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم، واحتجوا برواية الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة -أي: الأنصار الذين ادعوا الدم- عن البينة بأن اليهود قتلوه، يعني عن الشاهدين، فقالوا: لا بينة عندنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (فتبرئكم يهود) فقالوا: لا نقبل بأيمان قوم ضالين، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعى عليهم قبل أيمان المدعين.
وحديثنا الذي في الصحيح أوضح وأتم وأشد بيانا، وحديثهم فيه نوع إجمال، ولا يمتنع أن يحمل على أصل القضية؛ لأن الحادثة لما وقعت وقعت على صورتين، ينبغي لطالب العلم أن يلم بهما حتى يستطيع أن يجمع بين الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الصورة الأولى: هي الأصل.

والصورة الثانية: هي المستثناة التي شرعت بها القسامة.
فأما صورة الأصل فهي أصل الحكومة والقضاء، أن كل من ادعى على شخص أنه قتل نطالبه بالبينة؛ إما إقرار القاتل، أو شهود عدول يثبتون الجريمة على الصفة المعتبرة في الشهود، فهذا الأصل، وهو أن نطالب المدعي بالبينة، فجاء حديثهم الذي ذكروه على صورة الأصل، وحديثنا على الصورة الخارجة عن الأصل، وهي أيمان القسامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الأنصار عن البينة وقالوا: لا بينة عندهم، وجه اليمين إلى اليهود، فإما أن نقول: إنها يمين الدعوى، وهي أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحينئذ تكون يمينا غير يمين القسامة، ومن هنا نقول: إن هذه جارية مجرى الأصل، ثم جاء حديثنا بالتفصيل للصورة المستثناة وهي صورة القسامة، فوجه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أيمان القسامة أولا للمدعين، وهذا الحديث واضح الدلالة، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم؛ فتستحقون دم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نر ولم نشهد، فقال: فتبرئكم يهود) ، فجعل أيمان المدعى عليه بعد أيمان المدعي، وهذا جار مجرى الأصل، وهذا هو الوجه الأول الذي نرجح به حديثنا على حديثهم.
الوجه الثاني: أن حديثنا يقوى بالأصول الشرعية، فإن الأصول الشرعية تقتضي أن المدعي هو الذي يبدأ أولا قبل المدعى عليه بالنسبة للحجج، فلما نوجه أيمان القسامة على المدعى عليه فكيف نوجهها على المدعي بعد ذاك، ومن هنا الأصل يقتضي رجحان رواية المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه جار على السنن.
والقاعدة أنه لو جاءت روايتان: إحداهما موافقة للأصول معتمدة ومعتضدة، فإنها مقدمة على غيرها مما خالف، وإلا قد يكون الذي خالف ناقل عن الأصل فيقدم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في صور من الخلاف الذي وقع بين العلماء رحمهم الله.
في هذه الجملة دليل على أننا نبدأ بالمدعي، فنقول له: احلف خمسين يمينا، وهذه الخمسين يمينا تقسم على الورثة، إما على العصبة -وهذا وجه- وإما على أقرباء الميت الذين يرثونه، وتقسم على قدر حصصهم في الميراث، فلو كان المقتول له ابن وبنت، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فالابن له ثلثا المال، والبنت لها الثلث؛ فتقسم الأيمان بين الابن والبنت، ولو توفي عن أربعة أبناء أو خمسة أبناء تقسم الأيمان على الخمسة الأبناء؛ لأن حظوظهم متساوية، فتقسم على حسب الرءوس إن حصل كسر في الخمسين ولا تنقسم الأربعين إلا بكسر على أربعة؛ فحينئذ يجبر الكسر ويتمم، فلو كانوا أربعة قلنا: يحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يمينا؛ لأنه جبر من كسر اثني عشر ونصف فيحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يمينا.
يطالبهم القاضي أن يحلفوا هذه الأيمان، ويشترط في هذه الأيمان أن تكون في مجلس القضاء والحكم؛ لأن الحجج المعتبرة مكانها مجلس القضاء، والإقرار معتد به في مجلس القضاء، فإذا حلفوا هذه الأيمان، اشترط أن يكون في مجلس القضاء، وأن تكون أيمان شرعية بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، والذي عليه العمل عند أئمة العلم رحمهم الله أن القاضي يبدأ قبل أن يحلف هؤلاء أيمانهم بتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذيرهم من غضبه وسخطه جل وعلا؛ لأن اليمين توجب غضب الله للعبد إن كانت يمينا فاجرة، فما بالك إذا كانت أكثر من يمين.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بين الكندي وأخيه خصومة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألك بينة؟ قال: ليس عندي يا رسول الله! بينة، قال: ليس لك إلا يمين، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر، ويحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب؛ ليقتطع بها حق امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان) ، وهذه يمين واحدة، وأعظم الأيمان أيمان القضاء التي تكون في مجلس الحكم، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله-، فيخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى أن يصدقوا وألا يكذبوا، ولهم الحق كما ذكرنا أن يبنوا على غالب ظنهم.
قال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال) أي: يبدأ بأيمان الرجال من المدعين قبل النساء؛ لأنهم الأصل.
قال: [ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يمينا] : (فيحلفون خمسين يمينا) تقسم هذه الأيمان على قدر حصصهم من الميراث، وإن كانوا عصبة كانت منقسمة على عدد الرءوس، ويشترط أن يستتم هؤلاء الأيمان، فلو أنهم كلهم حلفوا إلا واحدا؛ فإنه لا توجب القسامة الحكم بالدم، يعني: لا يقتل حتى يحلف الجميع، فلو حلفوا الأيمان إلا يمينا واحدا لم يقبل منهم إلا أن تكون تامة كاملة، وهذا هو الأصل، ولا يشترط الولاء المتتابع بين اليمين والأخرى، فلو حلف بعض الأيمان في مجلس، ثم أتمها في مجلس آخر -كأن يحلف خمسة أيمان، وكانت عليه عشرة أيمان، ثم تردد، ثم حلف بعدها الخمسة، أو حلف الخمسة وجاءه عذر فقضى حاجته، ثم رجع وحلف الخمسة- فهذا لا يؤثر ما دام أنه حلف العشرة الأيمان المطلوبة كاملة في مجلس القضاء والحكم.
نكول الورثة عن الحلف
قال رحمه الله: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساء؛ حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] : يحلف المدعون في الأيمان على القاتل، ويقولون: والله إن فلانا أو إن هذا قد قتل فلان ابن فلان إذا كان القاتل في مجلس الحكم، وإذا لم يكن في مجلس الحكم يذكرونه باسمه على وجه لا يشترك معه غيره، كما ذكر العلماء بأن يرفعوا نسبه، فيذكرون اسم أبيه وجده، وما يتميز به عن غيره أنه قتل فلانا قتل عمد أو قتل خطأ أو قتل شبه عمد، فيصفون القتل، وهذا حتى تكون اليمين معتبرة.
بين رحمه الله أنه يبدأ بأيمانهم، ثم إذا نكل هؤلاء بأن قالوا: لا نحلف، أو نكل بعضهم فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، فالنكول عن أيمان القسامة وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، وهذا يدل على مشروعيته، وأن من حق الإنسان أن يتورع عن القسامة، وقد وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيار الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟ ولكن في حوادث من الحوادث الأخرى يأتيك شخص تثق به ثقة كاملة، أو مثلا يقع القتل على وجه تطمئن أنت إلى صدق المخبر، ولا تعرف فيه كذب؛ فتطمئن إلى قوله، ويسبق أن هذا الرجل توعد المقتول، أو بينه وبين المقتول عداوة، أو بينه وبين المقتول ثأر، فأنت مطمئن لهذه اليمين، وإن لم تر ولم تشهد، لكنك تحلف على غالب الظن، ومن رحمة الله عز وجل وتيسيره للعباد أنه أجاز الحلف على غلبة الظن، ففي هذه الحالة لك أن تنكل وتمتنع من اليمين تورعا، وقد امتنع عن اليمين تورعا خيار الأمة من الصحابة.
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه باع عبدا، فظهر في العبد عيب، وقال المشتري: به عيب، واشتكاه إلى عثمان رضي الله عنه، فقال: ما علمت فيه عيبا، فقال له: تحلف اليمين، قال: لا أحلف اليمين، ولكن يأخذ ماله ويعطيني العبد، فتورع رضي الله عنه عن حلف اليمين، وما كان في ذلك منقصة له رضي الله عنه، وشاء الله أن يبيع العبد بأضعاف قيمته بعد ذلك؛ لأنه ما عامل أحد ربه إلا غنم في دينه ودنياه وآخرته، فهو تورع عن هذه اليمين؛ لأنه يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تبين للإنسان أن هناك حقا، وأن هناك دما، وأن هناك قاتلا ظالما، وأراد أن يشهد اليمين ويحلف بالله على هذه اليمين شهادة حق، فإنه لا ملامة عليه ولا غضاضة.
(فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟) وفي هذا دليل على أن الحلف ينبغي أن يكون على علم في الأصل، فتستفيد فائدة وهي: أن هناك أصلا، وهناك مستثنى من الأصل، فالأصل في حلف اليمين: أن يكون عن علم وبينة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] ، فجعل الشاهد لا يكون شاهدا بالحق إلا إذا كان بشيء يعلمه، قال: (وما شهدنا إلا بما علمنا) ، واليمين شهادة، {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون:1] فقالوا: نشهد، يحلفون بالله أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به من تسمية الأيمان شهادة، وكقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6] فهذا كله فيه تسمية الأيمان شهادة، فدلت على أن اليمين لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وبناء على ذلك فالأصل أنه يحلف على شيء يعلمه، فإذا كان قد غلب على ظنه -لاحظ لم ير ولم يسمع ولم يشاهد ولكن غلب على ظنه- بأن جاءه مثلا عشر نسوة أو عشرون امرأة قد شاهدن القتل، وجئن يشهدن ما تقبل شهادتهن في القتل، وبين الرجل وبين الرجل ثارات، أو بينه وبينه عداوة، أو سبق وأن توعد -كما ذكرنا- في فاطمئنت نفسه لهذا أن يشهد به، فحلف يمينه، فإنه في حكم ما ذكرناه؛ لأن الشهادة واليمين على غالب الظن معذور فيها صاحبها.
قال: [فإن نكل الورثة] : (فإن نكل الورثة) : النكول هنا يستوي فيه -كما ذكرنا- كلهم أو بعضهم، صورتها: أن يكون النكول من الورثة جميعهم بقولهم: لا نحلف، مثلما قال الأنصار، أو أن يكون النكول من بعض الورثة لا من كل الورثة، سواء كانوا أكثر أو أقل، فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، وهنا ننبه على مسألة مهمة، وهي أنه إذا امتنع البعض عن الحلف لا يكره على الحلف، كما يقع بين القرابة، حيث يغضبون عليهم ويقولون لهم: أنتم ضيعتم دم قريبنا، أنتم ليس لقريبنا عندكم حق، وليس له قدر، وهذا لا يجوز، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يلم بعضهم بعضا، وتورعوا، بل إنه إذا تورع أحد يقبل منه هذا الورع، هذا بالنسبة للنكول، وهناك صورة ثالثة وهي: أن يكون النكول من من حلف، فيحلف بعض الأيمان ويمتنع من بعضها سواء حلف أكثر مما نكل أو أقل أو استويا -الحلف والنكول- بأن تكون عليه يمينان فحلف واحدة ونكل عن الثانية، فالحكم في جميع هذه الصور واحد.
والنكول من البعض كالنكول من الكل، وإن نكول بعض الورثة كنكول جميع الورثة، وإن نكول الحالف عن بعض الأيمان كنكوله عن جميع الأيمان، ما نقول: تقسط الدية أو نقسط الحكم، أو يحكم ببعض ويترك بعض أبدا، يبقى الحكم أن يحلف الجميع أو يحكم بالنكول إذا وقع من بعضهم دون البعض.
كون الورثة نساء
قال رحمه الله: [أو كانوا نساء] إذا كان الذين يحلفون رجالا ونساء فلا إشكال، ويقولون بالاندراج، ويكون النساء مع الرجال، لكن أن يتمحضوا إناثا، فمذهب الجمهور عدم قبول شهادة النساء منفردات على الدم، وهذا له أصل؛ لأن الله عز وجل لم يجعل شهادة النساء في غير الأموال، وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فالمرأة يعتريها من الضعف والتسرع ما لا يكون في الرجل، ولذلك لا يقبل في شهادة القتل امرأة، فلا تثبت بشهادة امرأتين أو أربع نسوة، بل لابد وأن تكون شهادة القتل والزنا للرجال، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب القضاء، ونبين الأدلة، ونبين وجه الحكمة في ذلك، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى ولا تعقيب لأحد على الشريعة في هذا، فالله عز وجل إذا حكم لا يعقب على حكمه، وهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
فالمرأة لا تستطيع أن ترى مشهد قتل أو غيره، ولو وقع أمامها منظر من المناظر المؤلمة -فضلا عن القتل- سرعان ما تغيب وجهها، أو تضع يديها على عينيها، ولا تستطيع أن تستمر في المشاهدة والرؤية، وقد تستعجل من الخوف من رعب الحوادث، فتخطئ في تصور الحوادث وتسلسلها، بل إنك لو سألتها أن تصف شيئا رأته، فإنك لن تستطيع أن تنتزعه إلا على أحوال متعددة: إذ يغلبها البكاء ويغلبها الضعف، وهذا شيء جبلت عليه فلا تلام عليه، فالله يخلق القوي والضعيف، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى.
ولكن لا ينبغي لأحد أن يكابر في الحقائق، ولا ينبغي لأحد أن يحملها ما لا تتحمل، وأن يظن أنه يحسن وقد أساء؛ لأنه لا أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بخلقه منه سبحانه، بل هو أعلم بكل شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه {ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر:14] .
فالشاهد أن أيمان النساء لا تقبل؛ لأن شهادتهن في الأصل إذا انفردن لا تقبل، لكنهم اعتضدوا بالأصل هنا، وإن كان بعض العلماء لم يقبلها مطلقا في الأيمان، وهذا له أصل سنذكره إن شاء الله في باب الشهادات في مسألة الاعتضاد.

حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي
قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] قال المصنف: (ويبدأ بأيمان الرجال) ، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟
قولان للعلماء رحمهم الله: جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعا أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون دم صاحبكم) ، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يمينا -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يمينا على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته) ، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم) ، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته) ، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد.
وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالا للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد.
قال: [حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ] : فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يمينا أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يمينا ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وفي الصحيح: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر) .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي: (ليس لك إلا يمينه) ، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان.
قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ) (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يمينا -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلا من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلانا، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقا بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة.
لو حلف المدعي الخمسين يمينا، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يمينا حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #705  
قديم 23-10-2025, 11:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



الأسئلة




حكم قسامة القصار
السؤال إذا كان من بين ورثة الدم قصار فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله هل ينتظر الصبي حتى يبلغ ويطالب بالحق؟ وهذا اختاره جمع من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه بالأصول، ولكن إذا كان هناك من به عذر مثل الصبا يمنع، ولكن إن كان فيه ما يصعب انتظاره: كالجنون؛ فإنه لا ينتظر، ويكون وجوده وعدمه على حد سواء، فينتقل إلى غيره، فلا يحلف إلا من كانت به أهلية، والله تعالى أعلم.
حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد
السؤال لو حلف المدعون أيمانا كاذبة على المدعى عليه، ولم يعلم ذلك إلا بعد إنفاذ الحكم، فهل يقتلون جميعا، أثابكم الله؟
الجواب أولا: كيف يعلم أنهم كاذبون، لابد وأن يقروا ويقولوا: إنهم كاذبون في الأيمان وإنهم تعمدوا قتله، كما سيأتينا إن شاء الله في باب شهادة الزور، أن من شهد على إنسان أنه قتل، أو شهد شهود على أن شخصا قتل، ثم جاءوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإنهم قتلة، وسبقت الإشارة في مسألة القتل بالسبب، ومن القتل بالسببية شهادة الزور، أن يشهد شهود زور أن فلانا قتل فلانا، وكانوا قاصدين لقتله، لكن لو قالوا: أخطأنا؛ فهذا قتل خطأ، فهل تقبل شهادتهم الثانية؟ لأن ثبوت خطأ في الشهادة الأولى يوجب الضعف في الضبط عندهم، ومن شرط صحة الشهادة الضبط، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
لكن إذا قال الشهود، أو قال أصحاب هذه الأيمان: إنهم يعلمون علما أكيدا أن فلانا لم يقتل، وهذا لا يتأتى إلا لمن كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، فإذا كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، وعدلوا إلى شخص آخر، وحلفوا -والعياذ بالله- الأيمان الفاجرة، فلينتظروا ما يصيبهم، فقد كان يقال: من حلف اليمين الفاجرة في أي مجلس من مجالس القضاء، لا يمر عليه الحول وهو بخير.
هذه من السنن المجربة، حتى في أيمان القسامة هذه، فقد وقعت لـ عبد المطلب وجاء ولي يتيم وامتنع، فدفع المال، وهذا على سنن الجاهلية، فحلف التسعة والأربعين يمينا، فمضت السنة فلم تبق فيهم عين تطرف، كلهم ماتوا، وهذا من عجائب ما يقع، ولذلك فإن كبار السن وأهل العقول تجد الواحد منهم يدفع ماله كله ولا يحلف يمينا في مجلس القضاء، فالأيمان أمرها عظيم، خاصة في مجلس القضاء، فإنه لا يحول الحول على صاحبها بخير، وهذا مما يعلم بالسنن، ولا يشترط فيها الدليل إذا ثبتت بالتجربة، وعادة الله عز وجل وسنته لا تتخلف؛ لأنه عندنا أصل عام وهو أن الله منتقم، وينتقم من كل ظالم، ومن أظلم الظلم سفك الدماء البريئة، وأكل الأموال المحرمة، واتخاذ القضاء وسيلة للوصول إلى هذه الأغراض، ولو كان سفك الدم مباشرة أهون من أن يأتي ويكذب على القاضي، ولذلك قالوا: من كذب على القاضي بشهادة زور فقتل بها، أعظم مما لو قتل مباشرة؛ لأنه لو قتل مباشرة فهو قاتل فقط، لكن أن يستخدم القضاء وسيلة للوصول إلى غرضه -والعياذ بالله- من استباحة دماء المسلمين المحرمة وأموالهم وأعراضهم، فحينئذ يكون قد جنى فوق جنايته الأصلية الذنب والإثم، ثم جنى على القضاء، وذلك بكونه استغله لكي يبطل الحق ويحق الباطل، نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى كل حال إذا كانوا يعلمون من هو القاتل فذلك يقع بالصور التالية: الصورة الأولى: أن يعلموا من هو القاتل حقيقة، فيعدلون إلى غيره.
الصورة الثانية: أن يعلموا أن فلانا لم يكن موجودا أثناء القتل، على وجه يتحققون من أنه لم يقتل.
الثالثة: أن يكون بينهم وبين هذا الشخص الذي حلفوا عليه عداوة وأرادوا أن يقتلوه إشفاء لغليلهم، لا إحقاقا لحق، ولا وصولا إلى حق، هذه كلها من الصور التي تكون فيها الأيمان كاذبة فاجرة -والعياذ بالله- فإذا قالوا: تعمدنا قتله؛ قتلوا به جميعا، ولو كانوا مائة شخص، ولو كانوا مليونا، وقد ذكرنا هذا في قتل الجماعة بالواحد، على قول عمر رضي الله عنه: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) ، فتقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عصم دماء المؤمنين، ولو فتح الباب أن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لقامت عصابات بقتل الناس ثم يسلمون من القصاص، وفي ذلك من الشر والبلاء ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
بعض آداب طلب العلم
السؤال إن من النعم الكبيرة علي أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيرا إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟
الجواب بارك الله فيك، نعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جدا، وأي خير وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبدا من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح.
كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالا، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله.
الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسبا، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] ، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.
هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفا، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حري بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعا لنعم الله عز وجل عليهم.
يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟! طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشرا ولا بطرا ولا غرورا ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟! فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبدا، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظما لنعمة الله، لاهجا لسانه بشكر الله، معتقدا في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجرا، وأعظم عند الله ثوابا، وأكثر إخلاصا وقربا من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغا رفيعا حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه.
نعم، علينا أن نتذكر أولا مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم.
ثانيا: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها: أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلا مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئا كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا.
ثانيا: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يدريك فلعل من بينهم أئمة سيهتدى بهم غدا، وما يدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غدا، وما يدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز.
فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغارا -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل.
ثالثا: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجرا عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروما، ولا تجعلني شقيا، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه.
رابعا: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئا ثم هنيئا لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير.
من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخا له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! خامسا: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذرا، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن.
ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات.
فإذا لا تلتفت إلى عيوب إ

حكم قراءة يس عند المحتضر والميت
السؤال ما حكم قراءة سورة يس عند احتضار الميت، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالحديث في هذا حسن، وجاء في ذلك أنها تسهل خروج الروح، ولا بأس بذلك ولا حرج، وقد استحب غير واحد من الأئمة رحمهم الله حين يكون الإنسان محتضرا أن تقرأ عنده؛ لثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قراءتها بعد الدفن هو الذي لا أصل له، وهو من البدع المحدثة، والله تعالى أعلم.
جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة
السؤال في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سببا في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟
الجواب التركيز في طلب العلم مهم جدا، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيرا، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل) ، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظا وفهما وعملا، وهم من أقوى الناس حفظا، وأصفاهم ذهنا، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط.
فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلا، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلا سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهما بسيطا أو سهلا يسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ.
نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعا- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني! أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقا له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوما من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أيا كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد ألقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم.
الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط.
واكتب قليلا إن أردت تحفظ.
الحروف إن أردت تلفظ فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غدا عالما بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كما هائلا، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط.
والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درسا في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درسا، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفا علميا، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق.
هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخا منهم، فـ ابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة.
فكثرة الشتات والتنوع متعب جدا وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علما وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم
السؤال ما الحكم على من قتل حمامة في مكة بسيارته وهو غير محرم، أثابكم الله؟
الجواب الحمامة فيها شاة، قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة؛ لأنها تعب الماء، وقتل الصيد في الحرم موجب للضمان، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فمن قتل حمامة -ولو كان حلالا- فإن عليه أن يذبح شاة بمكة، على الصفة المعتبرة، وهي: الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، وأن تكون سالمة من العيوب، وتذبح وتكون صدقة للفقراء في الحرم، أو يكون عدلها طعام مساكين، والله تعالى أعلم.

حكم وضوء من لمس الكلب
السؤال هل لمس الكلب ينقض الوضوء، أثابكم الله؟
الجواب لمس الكلب لا ينقض الوضوء، ولكن إذا لمسه ففيه تفصيل: إن كان هو الطري أو الكلب؛ فقد انتقلت النجاسة، أما إذا كان لمسه وكل منهما جامد أو جاف؛ فإنه لا شيء فيه، والله تعالى أعلم.

حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام
السؤال امرأة قبل ولادتها بخمسة أيام رأت بعض السوائل تخرج منها، وذهبت إلى المستشفى وبعد خمسة أيام ولدت، فتركت الصلاة في الخمسة الأيام التي قبل الولادة، فهل تقضي الصلاة الفائتة، أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يرى أن سبق الدم للولادة متصل بالولادة في حدود الثلاثة الأيام نفاس، قالوا: لأنه يسبق، وهذا القول قوي، وأما إذا كانت خمسة أيام فلا، المحفوظ أن الخلاف في ثلاثة أيام، أما إذا كانت خمسة أيام فعليها أن تقضي هذه الأيام، والله تعالى أعلم.
حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز
السؤال سائلة تقول: لي والد عاجز لا يستطيع أن يقوم على شأنه من جهة إزالة الحدث، ورفضت أمي القيام على شأن والدي، وكذا إخوتي، فهل يجوز لي أن أقوم بتطهيره، وقد يؤدي ذلك إلى الكشف عن عورته والنظر إليه، أثابكم الله؟
الجواب أولا: لا ينبغي للأم أن تمتنع؛ لأنه لا أحد أقدر على النظر إلى عورة الرجل من زوجته، والله إنه لأمر يقرح القلوب أن يكون العشير مع عشيره، حتى إذا ضعف بدنه وخارت قواه وشاب رأسه ورق عظمه، نسي العهود التي بينه وبينه.
فعلى هذه الأم أن تتقي الله عز وجل، وعلى هذه البنت أن تذكرها الله، وأن تذكرها حق الزوج، إذا كان عندها القدرة على القيام بحقه، فأوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تحسن إلى بعلها، وأنه جنتها ونارها.
ثانيا: إذا عجزت الزوجة، فيجب على الذكر من الأبناء أن يتولى تنظيف والده؛ لأنه لا يجوز للأنثى أن تغسل الرجل ما لم تكن زوجة، وهذا أصل، ولذلك الميت إذا مات ولو كان عنده أخواته ولم يشهد موته إلا النسوة ييمم، تعظيما لأمر العورة.
فكون البنت تلمس عورة أبيها لا يجوز، وإنما الذكر يغسل الذكر، والأنثى تغسل الأنثى، وهذا هو الأصل المقرر عند أئمة الإسلام، وعليه العمل والفتوى، فأوصي هؤلاء الإخوان أن يتقوا الله عز وجل، وأن يتذكروا حق والدهم وأن يرحموا ضعفه وحاجته، وأن يتذكروا حينما كانوا صغارا كيف كان يحملهم بيديه ويحسن إليهم ويتولاهم، ويقوم برعايتهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وعليهم أن يتقوا الله عز وجل حتى ولو بالتناوب، فينوب بعضهم بعضا، وكل شخص يكون له يوم يرعى فيه والده، وأي شيء أعظم من بر الوالدين، من الناس من بر والديه فتمنى أن يقضي حاجة والده بيده حتى ينال شرف الذلة للوالد {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء:24] ، وفي ذلك قصص يعرفها الناس، وسارت بها الركبان، تبتهج بها النفوس، وتنشرح بها الصدور؛ من كمال بر الأولاد لوالديهم، فعلى الأبناء الذكور أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا برعاية هذا الوالد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #706  
قديم 23-10-2025, 11:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (513)

صـــــ(1) إلى صــ(17)






شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [1]
الحدود: هي زواجر وجوابر، فهي زاجرة عن الوقوع في المعصية، وهي جابرة ومكفرة لمن وقع فيها وأقيم عليه الحد المقدر شرعا.
وقد اهتم الشارع الحكيم ببيان هذه الحدود، لما فيها من حفظ الحقوق العباد من أن تهدر أو يتساهل بها.
الحدود الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود] .
تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمى واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.

تعريف الحدود لغة واصطلاحا

الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حد، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.
ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حدادا، وسمي السجان حدادا؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضا يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.
والحدود فيها وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدها، ووضع لها قدرا معينا، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدودا من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حد الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدودا من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعا، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلا: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالبا -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضا للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] .
وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا} [النور:17] ، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.
فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعا للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعا من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.
أنواع الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود) ، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوبات محددة مقدرة شرعا، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.
وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعا مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعا، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضا اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.
هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود) .
وهنا
السؤال هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟ منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.
أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.
وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـ البغوي، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.
والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جليا في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلا، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد: أولا: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟ أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.
ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.
ثالثا: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحا في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.
بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبع للزنا، وليس أصلا للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداء على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.
ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أمورا تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولا عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.
الأدلة على مشروعية الحدود
الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، ونص على حد القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، ونص على حد السرقة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة:38] ، ونص على حد الحرابة: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] .
كذلك أيضا في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفا عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.
وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) ، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناسا من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون) ، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.
الحكمة من مشروعية الحدود
للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظا واعتبارا، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجما لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.
ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.
قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة) ، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) ، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟) ، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزا شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) ، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر.
وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائما بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيبا إلى الرب، تائبا من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .
والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضا زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.
شروط من يقام عليه الحد
قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ] .
قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ) ، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ.
قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبيا لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) ، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلا؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغا.
قال المصنف رحمه الله: [عاقل] .
العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنونا- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنونا فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق) ، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله.
ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافا لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر.
إذا: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره.
قال المصنف رحمه الله: [ملتزم] .
الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزما بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟ الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49] ، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء.
إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.
قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم] .
وهو أن يكون عالما بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحدا منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #707  
قديم 23-10-2025, 11:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: [فيقيمه الإمام أو نائبه] .
أي: يقيم الحد الإمام أو نائبه، والأصل أن الأئمة والحكام مطالبون شرعا بالحكم بما أنزل الله عز وجل، ومطالبون شرعا بالقيام بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأصل في تنصيب الوالي في ولايته أن يطلب المصالح للمسلمين، ويدرء المفاسد عنهم، وقد أجمع العلماء والأئمة رحمهم الله على أن المعني بتنفيذ هذه الأحكام والحدود هم الحكام، وأنه ليس كل إنسان ينفذ الحد بمجرد أن يرى رجلا يفعل جريمة فيقيم عليه الحد، بل الأصل أنهم هم المخاطبون، أو من يقيمونه مقامهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الأمر بإقامة الحدود، وتولى من بعده الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إنهم قد أنابوا غيرهم في إقامة الحدود، ففي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن ماعزا لما أقر، قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمرا؟) يعني: هل أنت سكران؟ فقام رجل فاستنكهه، أي: شم رائحة فمه، فلم يجد خمرا، ثم قال: (أبه جنون؟) حتى يتأكد من شروط الإقرار، هل هو مؤاخذ بإقراره أم لا؟ فأخبر أنه غير مجنون، قال بريدة رضي الله عنه: (فأمر به فرجم) ، وهذا يدل على أن الأصل أن الوالي هو الذي يأمر بإقامة الحد، فأمر به فرجم، كذلك أيضا أناب غيره عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا -لأنها لم تكن بالمدينة- فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) ، وهذا يدل على مشروعية الإنابة، فالإمام ومن يقيمه مقامه يعتد بهم، وهذا مهم جدا حتى نحكم بتمام الحد واعتباره، ولو أن شخصا غيورا وجد زانيين فجلدهما مائة جلدة، فهذا من حيث الأصل ليس حدا، لابد وأن يكون أول شيء عن طريق الحاكم، ويثبت عند الحاكم هذا الحد، ثم بعد ذلك يقضي به وبتنفيذه، فلا بد من وجود هذه الأشياء، وإقراره في غير مجلس القضاء والحكم ليس كإقراره فيهما، ولو أنه أقر بالجريمة وعلم به الناس، ولكنه لم يرفع إلى القاضي، فلا يأخذ حكم الإقرار الشرعي، فهناك أمور لا بد من مراعاتها في هذه الجرائم والحدود، وهذا كله يدل على عظمة هذه الشريعة، ولو أن الناس قرءوا ما ذكره أئمة أهل الإسلام في كتبهم من هذه التراتيب القضائية الإدارية لتعجبوا من حسنها ودقتها، فوالله ثم والله! ما عرف العالم كيف ينظم أمره إلا عن طريق المسلمين، ولقد مرت على أوروبا قرون مظلمة، لا تعرف كيف تدبر أمورها، حتى تعلموا ذلك في مدارس المسلمين في الأندلس، وأخذوا منهم هذه التراتيب الإدارية، والشرائع الإلهية التي جاءت مقننة محددة مرتبة من الله سبحانه وتعالى، وقد فهم المسلمون كيف يسيروا أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا من فضل الله عليهم، فجاء هؤلاء فنظروا إلى نعمة الله على المسلمين فاقتبسوا كثيرا من الأمور التي يصدرونها اليوم إلى المسلمين الذين ما عرفوها، فلو نظرت إلى كتب المسلمين التي ترجمت، وإلى كتبهم التي قرئت؛ لعلمت أنهم ما تعلموا هذا الانضباط، ورتبوا أمورهم الدنيوية؛ إلا عن طريق المسلمين، ولقد عاشوا حياة مظلمة لا يعلم جحيم ما كانوا فيه إلا الله وحده، ولكن كل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذه الشريعة، والناس اليوم تنخدع بأمور الدنيا ولا تفقه، وكثير من المسلمين -إلا من رحم الله- جاهل بهذه الثروات الهائلة من الدقة والتنظيم في العبادات والمعاملات، والانضباط التام في ترتيب الأمور، وحينما كان الإسلام من مشرق الأرض إلى مغربها، وقل أن تغيب عن دولته شمس، رتبت أمور المسلمين حتى في الجرائم، وقل أن تجد أمرا صغيرا أو كبيرا إلا ووضعوا له ما يضبطه، وما يردع الناس عنه إن كان خطأ، وما يحببهم فيه إن كان صوابا، ولكن، يا ليت قومي يعلمون! ولذلك شباب المسلمين يحتاجون أن يبصروا بهذه الحقائق، فبهذا الترتيب والتنظيم لم تكن مجتمعات المسلمين فوضى، بحيث إذا وقعت الأخطاء كل يتحمس ويقيم الحد، وتجد اليوم كل يحس أنه هو وحده الذي يدافع عن الإسلام، فتجد الأمور سائرة هملا، لكن حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بهذا الانضباط وهذا التأقيت الذي ذكره العلماء والأئمة في أبواب العبادات والمعاملات؛ يجد المتأمل فيها عظيم نعمة الله على هذه الأمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فبين المصنف رحمه الله أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، أي: من ينوب عن الإمام، ويحضر الإمام إقامة الحد أو يحضر نائبه؛ لأن هذا مهم جدا، فعلى سبيل المثال في حد الزنا لو أن الزاني اعترف فمن حقه أن يرجع عن اعترافه ولو أثناء تنفيذ الحد، فلو اعترف أنه زنى ثم أقيم عليه الحد، فأحس بحرارة الحد، فأراد أن يرجع عن إقراره؛ فله ذلك، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بـ ماعز أن يرجم فرجم، جاء في الحديث: (فلما أذلقته الحجارة، ووجد حرها؛ فر إلى الحرة؛ حتى لقيه رجل فضربه بلحي جمل فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه) ، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، ومن هنا إذا كان الإمام أو نائبه موجودا؛ فإنه يستطيع أن يأمر بإيقاف الحد وبإيقاف التنفيذ، ويستطيع أن يتدارك ما يمكن تداركه من هذه الأمور، ولا يشكل على هذا ما وقع لـ ماعز؛ لأن الصحابة ما كانوا يعلمون الحكم، وكانوا يظنون أنها عزيمة ليس فيها رجعة.
حكم إقامة الحدود في المساجد
قال رحمه الله: [في غير مسجد] .
تقام الحدود في غير مسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل وهو ينشد ضالته قال: (لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا) ، والله عز وجل يقول: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، والحدود ليست مجانسة لهذا.
وقد يشكل على هذا أن القضاء يكون في المسجد، والقضاء تكون فيه المخاصمة والمشاجرة حتى تثبت الحدود، وقد استحب بعض العلماء أن يكون مجلس القاضي في المسجد، وفي القديم كان هذا متيسرا، ومن هنا قال الناظم: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد فيستحب أن يكون القضاء في المسجد تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لكن إقامة الحد شيء آخر غير القضاء، فيقام الحد في غير المسجد، وفي حديث السنن -وفيه ضعف- النهي عن إقامة الحدود في المساجد.
كيفية الجلد في الحد




كيفية جلد الرجل
قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائما بسوط لا جديد ولا خلق] .
شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضا على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضا في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطا غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق) : الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاما وتمزيقا للجسد.
ويضرب الرجل قائما في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانيا أو شاربا للخمر أو قاذفا؛ فإنه يضرب قائما، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعدا، وقال بعضهم: يضرب قائما، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائما؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعدا لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه.
وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعدا والضارب قائما زاد في الإيلام غالبا، ولكنه إذا كان قائما والجالد قائما؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعا ولم يقصر.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط] .
أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاما وأشد وقعا، سواء إذا كان منبطحا أو كان قائما فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد) ، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك) ، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان] .
مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثيابا ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصا أو قميصين ثم يضرب؟ قال بعض العلماء: يجرد صيفا وشتاء ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضا من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد] .
المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضربا يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديدا في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضربا شديدا، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطا، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصودا، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر.
وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها.
قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه] .
اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلا للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالبا، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطانا.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر.
قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه] ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم.
أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور) ، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل] .
ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.

كيفية جلد المرأة
قال المصنف رحمه الله: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة] .
والمرأة كالرجل في الضرب يفرق الضرب على بدنها، ويتقى مقاتلها على القول بأنه يفرق على البدن، وتخالف الرجل أنها تجرد اتفاقا؛ لأن الرجل اختلف فيه: هل يجرد أم لا؟ أما المرأة فاتفقوا على أنها لا تجرد، وفي مسألة تجريد الرجل ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجرد، وهو قول المالكية رحمهم الله، ومنهم من لا يرى التجريد وهو مذهب الجمهور، ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام إذا رأى المصلحة أن يجرده جرده، وإذا رأى المصلحة ألا يجرده لم يجرده، وهو قول الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، والصحيح ما ذكرناه.
وهل تضرب المرأة قائمة أو قاعدة؟ تضرب قاعدة، لأنه أمكن للستر، وهذا قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله.
قال المصنف رحمه الله: [وتشد عليها ثيابها] .
هذا أثر عن علي رضي الله عنه، وله أصل في السنة في قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها فشدت عليها ثيابها، وفي بعض الألفاظ: أمر بها فشكت عليها ثيابها؛ لأن الشوك مثل الرابط الذي يمنع من انكشاف عورتها أثناء الحركة، فإذا ضممت طرفي الرداء ووضعت الشوكة بينهما؛ انحبس الرداء وامتنع من الانكشاف، فلفظ: فشكت عليها ثيابها يعني: أنه جعل فيها الشوك بمثابة الرابط لطرفي الثوب الذي عليها ليمنعها من التكشف، وهذا واضح الدلالة على أنه يطلب سترها أثناء إقامة الحد عليها؛ لأنها تضطر إلى الحركة فتنكشف عورتها، فيؤخذ بالأسباب المانعة من انكشاف عورتها.
قال المصنف رحمه الله: [وتمسك يداها لئلا تنكشف] .
لأنها إذا ضربت وتحركت فإنه قد يحصل منها انكشاف، فقوله: وتمسك يداها، من درء المفاسد، فالمرأة عورة، وانكشافها مفض للوقوع في الفتنة، فيخرج الناس من الاعتبار بالنظر إلى الفتنة، وهذا خلاف مقصود الشرع، وهو أن يكون النظر موجبا للاتعاض والاعتبار.

الأسئلة




وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود
السؤال هل تعريف الحدود شرعا يشمل القتل، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا فصلهما المصنف عن بعض؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقوله: (عقوبة) عام؛ لأن العقوبة تكون بالقتل وغير القتل، وهذا الصحيح؛ لأن الحدود فيها قتل، فحد الحرابة يكون فيه القتل، والمرتد حده أن يضرب عنقه إذا استتيب فلم يتب، فهذا التعريف: أن العقوبة مقدرة شرعا؛ تعريف صحيح، ودخول القتل لا يمنع صحة التعريف؛ لأن من الحدود حد القتل، وعلى هذا لا يكون تعريف المصنف فيه إشكال، ولا يمنع من وجود القتل في الحدود، وانفصالها عن باب القتل؛ لأن القتل متقدم لحقوق العباد، والقتل الذي نعنيه هنا إنما هو في الغالب في حق الله عز وجل كما في حد الردة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
حكم الجلد في الحد بغير السوط
السؤال هل الضرب بالسوط بالحد متعين أم يضرب بغير السوط؟
الجواب الأشبه الضرب بالسوط، وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم في حد الخمر فقط أن منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بنعله، ومن هنا اختلف في حد الخمر هل هو حد أو تعزير؟ وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وعلى كل حال الأصل الضرب بالسوط، والله تعالى أعلم.

حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد
السؤال إذا دخلت المسجد قبل الفجر بدقائق ولم أوتر، هل تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؟
الجواب لا تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؛ لأن الأقل لا يجزئ عن الأكثر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) ، والوتر ركعة واحدة، ولذلك يجب عليك أن تقوم فتأتي بتحية المسجد تامة كاملة، ولا يحصل الاندراج في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج الأكبر تحت الأصغر، والركعة الواحدة لا تجزئ عن الركعتين كما هو معلوم، وجلوسك في الوتر له أصل، وهو مستثنى كجلوس الخطيب بعد تسليمه يوم الجمعة قبل أن يصلي صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مباشرة ويسلم ويجلس، وعلى هذا فليس فيه إشكال؛ لأنه مبني على أصل شرعي؛ لأنك جلست للعبادة، وجلوس العبادة لا يؤثر، لكن إذا انتهى الوتر فيجب عليك القيام مباشرة، والإتيان بركعتي التحية، ومن هنا لا يرخص لك بالقعود بعد سلامك من الوتر، والله تعالى أعلم.
حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها
السؤال زوجتي إذا منعتها من فعل شيء، أو من الذهاب إلى مكان أو من البقاء في مكان ولي الحق في ذلك المنع؛ تمنعني من نفسها، فما التوجيه أثابكم الله؟
الجواب أولا: أوصي هذه المرأة، أن تتقي الله عز وجل في هذه الحقوق التي فرضها الله عليها لزوجها، فلا يجوز للمرأة إذا أمرها زوجها أو نهاها عن أمر وله الحق في ذلك -بمعنى أنه مصيب في أمره ونهيه- أن تمنعه من حقه، فإذا فعلت ذلك انطبق عليها الوعيد، فلو أنها منعته من الفراش باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح والعياذ بالله! فإذا كانت لا تبالي بذلك فلتفعل، فعلى كل امرأة مؤمنة أن تتقي الله عز وجل في حقوق زوجها، وأن تؤدي هذه الحقوق كاملة، ومنها السمع والطاعة للزوج، خاصة إذا أمر بطاعة الله عز وجل، ونهى عن معصية الله.
ثانيا: على المرأة أن تحمد الله وتشكره أن رزقها زوجا يذكرها بالله إذا غفلت، ويعينها على طاعة الله عز وجل إذا ذكرت، ولم يبتلها بزوج متهتك فاجر، عاص لله سبحانه وتعالى، يجر عليها المصائب والويلات، فكم من امرأة أقض مضجعها مهرب للمخدرات، ومدمن للمسكرات، وكم آلمها، وضيع حقوقها، ولم يبال بها من لا يرعى حدود الله عز وجل ومحارمه.
فلتحمد الله المرأة المؤمنة، ولتشعر أن زوجها إذا أمرها بطاعة الله ونهاها عن معصية الله أنه يريد لها الخير، وأنه آخذ بحجزها عن نار الله، قائم بحق الله الذي فرضه عليه؛ لأن الله فرض عليه ذلك وجعله راعيا مسئولا عن رعيته، وما يحدثه أعداء الإسلام في نساء المؤمنين من التمرد، وإشعار المرأة أن على الزوج ألا يتدخل في شئونها، وأن هذا غمط لمكانتها، وانتقاص لقدرها، فأف لهم ولما يدعون، فما هم إلا ظالمون مفترون، فإن الزوج له حق القوامة شاءت المرأة أم أبت، وهذا أمر سارت عليه هذه الأمة سلفا وخلفا من السلف الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن والتابعيات وأتباع التابعين من النساء الصالحات.
وعلى المرأة أن تسمو بنفسها عن مثل هذه الدعوات التي تريد منها أن تتمرد على بعلها، وألا يتدخل في شيء من أمرها، وهذا كله خلاف الفطرة، ولا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين إلا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، فعلينا أن نرجع إلى حكم الله عز وجل، وأن نرضى بما كتب الله عز وجل لنا، وليس في هذا غضاضة أبدا، وتفضيل الرجل على المرأة لا ينقص من قدر المرأة، فإن العالم أفضل من الجاهل، لكن ليس معنى ذلك أن الجاهل قد هلك، وأنه ليس له حظ من الخير أبدا، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، والعلماء أنفسهم بعضهم أفضل من بعض، والرسل والأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، وإذا فضل ربك من يشاء؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض، ولا أن يختلق من تصرفاته ما يشعر بالاعتراض، فبعض النساء عندهن هذا الشعور، فالمرأة التي تتمرد على زوجها لعدم استشعار قوامة الزوج عليها تكون مضادة لشرع الله عز وجل، وللسنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل مسئول عن امرأته وأهل بيته، وأنه وال عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع ومسئول عن رعيته) ، فعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأذية الزوج خاصة في الفراش لا خير فيها، والمرأة التي تفعل ذلك ستجني العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من ذلك إلا تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وزجره، حتى إنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) ، والملائكة هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا لعنوا -والعياذ بالله- فلعنتهم مصيبة، فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن الأمر جد خطير.
ثالثا: هذا الأمر يفسد الحياة الزوجية، ويشعر الزوج بأن الزوجة لا تريده ولا ترغبه، وهناك خطوط حمراء - إن صح التعبير- بين الزوج والزوجة؛ وأخطر ما تكون إذا وصلت إلى المحبة، وأفسدت صدق المشاعر بين الزوجين، فإذا فعلت المرأة فعلا تنبئ الزوج أنها لا تبالي بهذا الأمر الذي بينهما؛ فإن هذا يدمر حياتهما، ويعود بالعواقب الوخيمة على الزوجين، فلتتقي الله المرأة المؤمنة.
وقد ذكرنا أهل المعاصي وما تعانيه زوجاتهم من الويلات والآهات، حتى تعرف المرأة المؤمنة نعمة ربها عليها، فلتحمد الله سبحانه وتعالى أن الله رزقها زوجا غيورا، وعلى كل امرأة أن تفهم أن غيرة زوجها من المحبة لها، ومن كمال الرجولة والفحولة فيه، وهي الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها أتقياءه الصلحاء ومن كان على نهجهم، أما من يكون ميت القلب -والعياذ بالله- ديوثا يصاب بلعنة الله؛ فلا خير فيه.
رابعا: نوصي الرجل ألا يستغل حق القوامة على المرأة، ويتخذ من هذا الحق ما يشعر بأنه مستبد ظالم، يريد أن يفرض آراءه وأقواله فقط، بغض النظر عن كونه مصيبا أو مخطئا، فهنا تكون المشاكل؛ لأن الإنسان إذا كان تقيا نقيا سويا سائرا على صراط الله عز وجل.
بارك الله في قوله، ونصحه وتوجيهه، ورزقه القبول بين أقرب الناس منه فضلا عن أبعد الناس عنه، ومن هنا على الزوج أن يتقي الله عز وجل، وأن يكون حكيما في أمر الزوجة ونهيها، فهناك أمور قد تكون دنيوية، وليس فيها ضرر في الدين، وقد تضر منك بعض الشيء في المادة، كأن تطلب المرأة مالا تتوسع فيه، وهذا الأمر فيه ضرر محدود، لكن قد يكون طلبها مرة أو مرتين في السنة، أو ثلاث مرات، وعندك القدرة، فإنك في هذه الحالة تستطيع أن تتنازل بحيث لا يفلت الزمام، وتكون التوسعة على الأهل، مع أنك ترى أن الأصلح والأفضل شيء آخر، لكنك تكسب من وراء هذا شيئا كثيرا، والحكماء والعقلاء يراعون هذا خاصة في هذه الأزمنة، فالمرأة بعض الأحيان تريد أن تخرج مع أولادها خارج المدينة في نزهة أو نحو ذلك، فتطلب ذلك من زوجها، وكان المنبغي على الزوج الكريم الصالح التقي أن يبدأ الزوجة بذلك، ولا ينتظر أن تقول له المرأة: أريد أن أخرج، وهذا إذا مضت فترة طويلة، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان دقيقا في معاملته لأهله وأولاده، ومع ذلك في بعض الأحيان كانت إذا مضت فترة -وقد كانت عنده مزرعة- يقول لي: قل لأمك تخرج معك، خذها واخرج بها؛ ويقول لي: هذه امرأة ضعيفة، محبوسة بين هذه الجدران، وأنت نفسك لو حبست في هذا الموضع لشعرت بالملل والسآمة في يوم واحد، فكان يحس ويقول: الحمد لله أننا نجد مثل هؤلاء النساء، فعلينا أن نوسع عليهن حتى يوسع الله علينا.
فالإنسان لابد أن يشعر بمشاعر المرأة، المرأة ضعيفة، خاصة إذا كانت في مكان تؤذى من نظيراتها، من أخواتها، من قريباتها، من جاراتها، وقد تأتي المرأة إلى المرأة فتذكر حسنة زوجها عليها، والله يشهد أنها لا تريد أن تذكر الحسنة، وإنما تريد أن تفسدها على زوجها، ولذلك ينبغي الحذر من هذا كله، وعلى الصالح الدين أن يحس أن المرأة الصالحة محتاجة -خاصة في هذا الزمان- إلى شيء يثبت قدمها على طاعة الله، ويكف عنها الألسنة الظالمة الجائرة التي لا تتقي الله في بيوت المسلمين ونساء المسلمين، فعليه أن يوسع على أهله، ولكن بقدر، ويوسع بنية إحسان العشرة، هناك توسيع بنية الدنيا، وهناك توسيع يراد به وجه الله عز وجل، فإذا قصد به وجه الله رحمه الله، وإذا قصد به الخير آجره الله سبحانه وتعالى.
فنوصي الزوج والزوجة بتقوى الله عز وجل، وجماع الخير كله في التقوى، فمن اتقى الله؛ جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
وأوصي الأزواج في حالة اختلاف الرأي في المسائل المباحة أن يكون هناك شيء من المرونة، الحزم مطلوب ولكن بقدر، قال الشاعر: قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم ولكنها قسوة بقدر مبنية على شوب من الحذر، ومرضاة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #708  
قديم 23-10-2025, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (514)

صـــــ(1) إلى صــ(9)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [2]
حد الزنا من أعظم وأشد الحدود الشرعية عقوبة من الله تبارك وتعالى، ويليه بعد ذلك حد القذف ثم حد السكر ثم التعزير، وقد ثبت تحريم الزنا في الكتاب والسنة، وأجمعت الشرائع كلها على ذلك؛ لما فيه من هتك للأعراض، وإفساد للذرية، وتخليط للأنساب، وقد فرق الشرع الحكيم في العقوبة بين الزاني المحصن وغيره المحصن، فأغلظ الحد في المحصن بالجلد والرجم، وجعل للمحصن شروطا لابد من توافرها من أجل إقامة الحد عليه.
بيان أشد الحدود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأشد الجلد جلد الزنا] .
تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضا، فهل يكون الجلد كله واحدا في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حد دون آخر أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حد على آخر، أو بيان أن الجلد في حد يكون أقوى من الحد الآخر.
وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر.
والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة: أولا: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقل من الزنا عددا، والسكر أقل من الزنا عددا، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلا لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى.
ثانيا: أن الله تعالى قال في الزنا: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، وقال في القذف: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} [النور:4] ، فذكر في حد الزنا الجلد مقرونا بقوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله.
وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلا في التعزير ضربا شديدا، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل، وكان رجلا مفتونا -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر: إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضربا شديدا، ثم قال له: هل تجد شيئا مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضربا شديدا، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديدا بالنسبة لغيره.
ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن.
قال رحمه الله: [ثم القذف] .
القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور:4] ، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد.
فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافا لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقا للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا.
قال المصنف رحمه الله: [ثم الشرب] .
وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساويا للقذف، ولا أقوى من القذف.
قال المصنف رحمه الله: [ثم التعزير] .
التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلا هجم على بيت، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.
حكم من مات في حد الجلد
قال المصنف رحمه الله: [ومن مات في حد فالحق قتله] .
لو أن شخصا أقيم عليه الجلد في حد الزنا، وأثناء الجلد سقط ميتا فالحق قتله، لا نقول: إن على الضارب الدية لأنه تسبب في قتله؛ لأن هذا الضرب مبني على أمر شرعي، والذي أمر به هو الشرع، فجميع ما ترتب على هذا الضرب إنما هو من الشرع، وليس منا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ويروى أن رجلا مات لما جلد الحد فقال علي رضي الله عنه: الحد قتله، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله حد الله الذي أقيم عليه، فنحن مأمورون بإقامته، وما ترتب عليه فلسنا متحملين المسئولية.
لكن إذا زاد الضارب في العقوبة، وتجاوز الحد الشرعي فإنه يضمن، فلو أنه ضربه في مقتل -وقد قلنا: لا يضرب في المقاتل- فسقط ميتا، فقد تعدى الضارب، فيتحمل المسئولية، وفي هذا تفصيل عند العلماء، ففي بعض الصور يكون من باب الخطأ، وهل يضمن بيت مال المسلمين أم يضمن الجلاد أم يضمن القاضي الذي حكم بتنفيذ الحد عليه أم تكون مسئولية مشتركة وتكون من بيت مال المسلمين؟ ثم إذا قلنا: بتضمين الجلاد، فهل الدية على عاقلته أو عليه؟ في ذلك كلام للعلماء رحمهم الله.
حكم الحفر لمن يرجم في الزنا
قال المصنف رحمه الله: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا] .
الرجم عقوبة من الله عز وجل للزاني المحصن من الرجال والنساء، فإذا زنى المحصن؛ فإنه يرجم، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم) .
والرجم يكون بالحجارة وما في حكمها، ولذلك رجم الصحابة رضوان الله عليهم حتى بالعظام الكبيرة، وقتل ماعز عندما رجم بعظم بعير، ضربه به رجل فقتله، وكان قد رجم بالفخار وبجلاميد الصخر رضي الله عنه وأرضاه، فالرجم عقوبة، وهذه العقوبة اختلف العلماء رحمهم الله فيها: هل يحفر للشخص الذي يراد رجمه أو لا يحفر؟ قال بعض العلماء: لا يحفر له، واحتجوا بما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز رضي الله عنه قال: (فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا حتى إذا استحر من الرجم ... ) الحديث، فقال: (ما أوثقناه) يعني: ما ربطناه، (ولا حفرنا له) ، وهذا يدل على أن الحفر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بـ ماعز، واستدلوا أيضا بقصة الرجل والمرأة اليهوديين الذين زنيا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لهما كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (أمر بهما فرجما -يعني الرجل والمرأة- فرأيت الرجل يجني على المرأة) ، أي يعطف عليها ويميل إليها حتى لا تأتيها الحجارة، ولو حفر لهما لما وقع هذا، فالحفر لا يشرع للرجل عند جماهير العلماء، واختلفوا في المرأة: فبعض العلماء يرى أن المرأة يحفر لها، واستدلوا بقصة ماعز في رواية بريدة، ففيها أنه حفر لها، فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، وبريدة أثبت أنه حفر له كما في إحدى روايات أحمد ومسلم، ولذا قالوا: يحفر للمرجوم، وجمع بين الروايتين بأن المثبت للحفر يعني بذلك حفرة ليست بتلك التي تمنع، ومن نفى الحفر قصد الحفرة التي تمنع، ولكن عدم الحفر أقوى من ناحية الرواية، خاصة وأن رواية خالد بن اللجلاج -وهي صحيحة- نص فيها على عدم الحفر، فتقوى رواية النفي، وقالوا: لو حفر لـ ماعز لما فر عنهم، فكيف فر عنهم وهو محفور له؟ وكيف خرج من الحفرة؟ قالوا: الأقوى عدم الحفر، خاصة أن الروايتين لما تعارضتا جاء ما يرجح إحداهما على الأخرى، وبقي الخلاف في النساء، والخلاف فيهن أقوى من الخلاف في الرجال؛ لأن الحاجة إلى الحفر للنساء أشد، وفزعهن أعظم، ومن هنا اختلف في المرأتين اللتين زنتا، لكن حديث اليهودية مع اليهودي ليس فيه حفر، والرواية واحدة والسند فيها من السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فهي من أصح الروايات، فلا إشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها.
ولذا اختار المصنف رحمه الله عدم الحفر، وهناك قول لبعض العلماء -وهو قول جميل وفيه جمع بين النصوص- وهو: أنه يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده، فإن رأى الحفر في بعض الأحوال أمر بالحفر، وإن لم ير الحفر لم يأمر به، فالأمر إليه، ويجمع بهذا القول، وهو أشبه إن شاء الله تعالى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #709  
قديم 23-10-2025, 11:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



الأسئلة




حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن
السؤال هل كان في أول الأمر إذا زنا المحصن يجلد ثم يرجم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اختلف العلماء في المحصن هل يرجم فقط أو يرجم ويجلد؟ والذي تدل عليه الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها غير واحد من أصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه والثوري، وطائفة من أئمة السلف: أنه يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو الصحيح؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم) ، فقرن بين الجلد والرجم، وطبق هذه العقوبة علي رضي الله عنه في شراحة حينما جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم رحمهم الله من فرق بين الإقرار وغيره، فمن أقر بالزنا وهو محصن، يرجم ولا يجلد، ومن قامت عليه البينة، يجلد ويرجم، وهذا القول قوي جدا، خاصة وأن النصوص التي ورد فيها الاعتراف ليس فيها إلا الرجم، كحديث (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها، (فأمر به فرجم) ، (فأمر بها، فشكت عليها ثيابها، ثم رجمت) ، وكل هذا في الاعترافات، وحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لا مانع أن يخصص بمن لم يعترف؛ لأن الذي اعترف تحمل وتجشم وصدق في التوبة إلى الله عز وجل، فلا مانع أن تخفف عنه العقوبة، وهذا القول يجمع به بين الأدلة، وهو من القوة بمكان، فيفرق على حسب حال البينة، والله تعالى أعلم.
أما أول الأمر فكانت العقوبة الحبس في البيوت، كما أخبر تعالى في آية النساء: {حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء:15] ، فكانت العقوبة إذا عثر على الزاني والزانية أن يقفل عليهما في بيتهما، ويمنعان من الخروج، ثم جاء الحديث بالعقوبة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) ، وهو الحكم المحكم في آخر الأمرين، والله تعالى أعلم.
حكم من أراد المعصية في مكة
السؤال ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام:160] ؟
الجواب أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قول باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام:160] ، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو) ، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه.
لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيم بالنسبة لغيره، فمثلا لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثلي يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثلي يناسبها، فإن وقع سب خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج.
وهناك قول ثان لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها.
بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب: أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر.
وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس.
فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم.
فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم.
فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلا حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفو عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عمل قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازما إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجه لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصدا، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها: قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} [النور:19] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها.
وقال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] ، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] ، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا علم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها) ، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس.
ومع قولهم أن هناك نصوصا أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريدا له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها.
لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جدا- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعمل قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلا من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرم في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئا بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) ، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئا مسندا إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عمل قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيرا مباحا حلالا وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عمل قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر.
ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين: إما أن يكون موافقا أو مخالفا، فإن كان موافقا أو مخالفا فإما أن يوافق ظاهرا وباطنا، أو يخالف ظاهرا وباطنا، وإما أن يوافق ظاهرا ويخالف باطنا، وإما أن يخالف ظاهرا ويوافق باطنا، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.
كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها
السؤال في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟
الجواب هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم: خواطر القلب خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط) ، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة.
هذان البيتان يقول فيهما الناظم: (خواطر القلب خمس هاجس ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطر فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا) .
وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله: وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب ما ذكرت -أخي السائل- أمر عظيم، هنيئا ثم هنيئا لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئا لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه.
مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيما له في الحرمات، وتذكيرا لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس) ، حرمها من فوق سبع سماوات.
في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبد فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس.
هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر} [المدثر:1 - 5] .
من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام.
مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟ قال عبد المطلب لـ أبرهة: أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطا للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها) ، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد) ، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمرا أو زائرا أو مجاورا ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفا عليه في بيته؟ لو أن الإنسان وهو قادم في عمرته يحس أنه ضيف على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع.
في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوب غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟ هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون.
من هنا صدر أناس جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا هم ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يوم أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعا لله، وإعظاما لهذه الحرمة التي حرمها الله.
هنيئا لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكان عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض.
قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيمانا وتسليما موحدا لله مخلصا، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحدا لله، معظما لله، سائلا الله من فضله.
يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء:5] ، وفعلا المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة:97] ، ففي هذه الكلمة (قياما للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
يأتي العبد محملا بالذنوب والخطايا، تائبا إلى الله، صادقا مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمرا، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموما مغموما مكروبا، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيبا إلى الله ضيفا على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحدا يغيثه ولا أحدا يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمنا بالله، متوكلا على الله، واثقا بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقا من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنى بالله سبحانه وتعالى.
وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منج إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات.
هنيئا ثم هنيئا لمن دخل البيت الحرام مؤمنا بالله كامل الإيمان، هنيئا لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرما وجودا سبحانه وتعالى.
فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين! آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات! آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى! آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره! ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ.
إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
كل من جاء ضيفا إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جدا.
وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفا إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده.
فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناس مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتا في مكانه.
هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول:
حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء
السؤال ما حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء؟
الجواب رفع اليدين من مضان الإجابة، وفيه خمسون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن وضعيف قابل للانجبار، وفي الصحيحين أحاديث واضحة ما فيها إشكال تدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ولكن يتوقف في العبادات التوقيفية على الوارد.
أما إنسان أصابه كرب فرفع كفه إلى الله، واستغاث بالله، ونادى ربه مستغيثا مسترحما سائلا له من فضله؛ فإنه لا ينكر عليه، والسنة دالة على هذا، بل نص الأئمة على أن من أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) يقول الحافظ ابن حجر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسباب؛ لأنه يريد أن يبين أن المطعم الحرام يرد الدعوة، فجاء بأبلغ أحوال العبد الداعي، حتى يبين أن الله قد لا يستجيب الدعاء مع هذا الاسترحام، ومع هذه الوقفة العظيمة التي قل أن يخيب الله فيها عبده، وهذه الأسباب هي: السبب الأول: أشعث أغبر، بمعنى: رثاثة الحال، أي: أنه ليس من أهل البذخ، ولذلك قال في الحديث الصحيح الآخر: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ورثاثة الحال ليس المراد بها أن الإنسان ما يلبس الطيب، ولا يعتني بمنظره، لكن الإنسان قد لا يكون عنده مال، فتأتيه الرثاثة دون تكلف، ودون تنطع، ودون مبالغة في التزهد، تأتيه طبيعة وسجية، أو يكون عنده مال ولكن يلبس الحال الذي يليق به في أوساط الناس دون مبالغة.
السبب الثاني: إطالة السفر، قالوا: وكلما بعد السفر كان رجاء الإجابة للدعاء أقرب، والمسافر مستجاب الدعوة حتى يعود إلى أهله، رحمة من الله؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فالمسافر مستجاب الدعاء، فإذا طال سفره كان أرجى لإجابة دعوته.
السبب الثالث لإجابة الدعاء: قوله عليه الصلاة والسلام: (يمد يديه إلى السماء) فهذا يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وفي الصحيح في قصة عبيد بن مالك الأشعري رضي الله عنه لما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، ورمي بسهم فقبل أن يموت قال لـ أبي موسى الأشعري: (أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى رضي الله عنه: فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبره، قام فاستقبل القبلة، ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم! اغفر لعبيدك أبي عامر، واجعله فوق كثير من خلقك يوم القيامة) ، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه.
والأحاديث في رفع اليدين كثيرة، وكما ذكرنا أنها قرابة خمسين حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف ينجبر، فالسنة رفع اليدين، فإذا رفعها بين الأذان والإقامة فلا حرج، ولا بأس، ومن تحرى السنة في هذا لا ينكر عليه.
لكن هل الأفضل أن يكون دعاؤه داخل صلاة النافلة والراتبة أو يكون بعد الصلاة؟ الجواب: إذا كان الإنسان يصلي الراتبة فليدعو فيها، ثم إذا خاف إقامة الصلاة فسلم، وبقي وقت، وأراد أن يدعو ورفع كفيه؛ فإنه لا بأس بذلك.
ونسأل الله بعزته وجلاله ونحن في هذا الوقت المبارك بين الأذان والإقامة أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين! اللهم! إنا نسألك بعظمتك ورحمتك ولطفك بخلقك، وقد عظمت الفتن والمحن، وأنت أعلم بما ظهر منها وما بطن.
يا حي يا قيوم! نسألك بعزتك وجلالك أن ترحم غربتنا، اللهم! ارحم غربتنا في هذا الزمان، والطف بنا يا رحيم يا رحمان، اللهم! ثبتنا على الدين الذي يرضيك عنا، واختم لنا بخير.
اللهم! فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين في كل زمان ومكان، اللهم! فرج عن إخواننا في فلسطين، اللهم! اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعداء الدين حيثما كانوا، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، يا حي يا قيوم! خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل عليهم بأسك ولعنتك، إله الحق، يا حي يا قيوم! إنهم طغوا وبغوا، اللهم! فعليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! من لليتامى والأرامل والضعفاء المضطهدين المشردين في مشارق الأرض ومغاربها من عبادك المسلمين.
اللهم أغثنا وأغثهم يا حي يا قيوم! وأغث كل مسلم ومسلمة يا حي يا قيوم! يا أرحم الرحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #710  
قديم 23-10-2025, 11:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,165
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (515)

صـــــ(1) إلى صــ(7)



شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [1]
الزنا حرمه الله في جميع الشرائع لعظم فحشه وكثرة أضراره، فهو يفسد الفرد، ويدمر المجتمعات، ومن رحمة الله بعباده أنه حرمه عليهم، وزجرهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزاني، ولابد من توافر شروط حتى تقام هذه الحدود.
تعريف الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد الزنا] معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبل أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاح ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجا من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح.
وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعا بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: (ولا شبهة) ، وذلك لو أن شخصا حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحا، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلا جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضا لو أن امرأة وطئها رجل، وكانت تظنه زوجا لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضا، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفا، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.
أدلة تحريم الزنا
حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] ، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام:151] ، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء:32] ، فنهانا عن القرب من الزنا فضلا عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصدا وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحا وجرما عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.
ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) [الفرقان:68] ، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.
ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] ، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دال على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، قيل في قوله: {وحرم ذلك} [النور:3] : إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقا، وكانت امرأة بغيا بمكة، وكان فقيرا، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد، ونظرا لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.
الحكمة من تحريم الزنا
الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة.
والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره) ، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه! قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرما وأعظم ذنبا من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلا، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقا، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قتل تعزيرا.
والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) ، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه.
والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاء، وأعظمها فسادا على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالا، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقا من قلبه.
قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.
رجم الزاني المحصن
قال رحمه الله تعالى: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] أي: إذا فعل الزنا في حالة كونه محصنا، وتوافرت فيه شروط الإحصان؛ فإنه يرجم حتى يموت، وهذه العقوبة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .
ونص عليه الصلاة والسلام على الرجم بالفعل؛ فإن ماعزا لما اعترف عنده قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، كما في صحيح مسلم، ورجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا، ورجم اليهودي واليهودية، فهذا كله يدل على مشروعية الرجم، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن تطاول الزمان بالناس ليقولن أحدهم: إن الرجم ليس في كتاب الله، كما يقول ذلك الآن من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون: ما نعمل إلا بالقرآن، ولا يعملون بالسنة! ألا ساء ما يقولون، وساء ما يزرون، فرد السنة كرد القرآن -والعياذ بالله-، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان ريان متكئا على أريكته) -وقد وقع هذا من بعض العظماء المتأخرين من أهل الجاه، فصدقت معجزته عليه الصلاة والسلام- قال: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث مما قلته أو أمرت به فيقول: ما نجد هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه) ، وأنكر عمر في خطبته على من ينكر الرجم لكونه غير موجود في القرآن، حيث أن الله يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] وما ذكر الرجم، فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: إنها كانت في كتاب الله ثم نسخت، قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة؛ نكالا من الله، والله عزيز حكيم) والحديث فيها صحيح، ثم نسخت، وهذا مما نسخ تلاوة وبقي حكما، وقد بينا أن المنسوخ أقسام: منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ الحكم دون التلاوة، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا من أمثلته، ومن أمثلته كذلك ما تقدم في الرضاعة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات) .
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرجم عقوبة شرعية، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ورجم الأئمة في القرون المفضلة، وكلهم على اعتبار هذه العقوبة، وأنها شرعية، وشرطها الإحصان.
حقيقة الإحصان
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح] في الزنا عقوبتان: العقوبة الأولى: للبكر، والعقوبة الثانية: للثيب، والعقوبة للبكر أخف، وهو غير المحصن، وسنبينه إن شاء الله، والعقوبة للمحصن -وهو الثيب- أشد؛ لأنه كما يقول العلماء: كفر نعمة الله عليه، فإن الله حصن فرجه بالزوجة، وحصن فرجه بالحلال، فأبى إلا أن يعتدي حدود الله عز وجل، فابتدأ المصنف رحمه الله في عقوبة الزنا بالأشد، وهي عقوبة المحصن، وبعض العلماء يبدأ بعقوبة البكر من باب التدرج بالأدنى إلى الأعلى، لكن لما كان الباب باب حدود وعقوبات؛ فالبداءة بالحد الأعظم أنسب، وفي بعض الأحيان يراعي المصنف البداءة بالأدنى تدرجا إلى الأعلى، ولكل له وجهه.
قوله: (من وطئ) يعني: من جامع امرأته المسلمة، والإحصان في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمعنى النكاح، والعفة، والحرية، والإسلام، فهذه كلها من معاني الإحصان، وأصل مادة (حصن) في لغة العرب: منع، فالإنسان الذي تتوافر فيه شروط الإحصان؛ الغالب أنها تمنعه من الوقوع في الحرام، قال: من وطئ زوجته المسلمة، ولا بد من الوطء وهو: إيلاج الحشفة، بأن يجامع زوجته، فلو عقد على امرأة ثم زنى قبل أن يدخل بها فليس بمحصن؛ لذا قال: من وطئ زوجته، فلو أن رجلا بكرا عقد على امرأة ثم -والعياذ بالله- زنى قبل أن يدخل بها، فلا نقول: إنه محصن؛ لأنه لم يتحقق شرط الدخول والوطء، فلا بد أن يكون هناك وطء، وأن يكون الوطء لزوجته، فخرج وطء الأمة، الذي هو التسري، فلو أنه وطئ أمته ومملوكته فليس بمحصن، ثم قال: (المسلمة) ، فلو تزوج من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية فهل يحصن؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، وظاهر حديث كعب بن مالك عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحصنك) ، فأخذ منه أن من تزوج كتابية فلا يتحقق الإحصان بها، فلا بد وأن تكون زوجته مسلمة، لكن في الحديث كلام.
واختار المصنف رحمه الله أن الذمية يتحقق بها الإحصان، ومن العلماء من قال: إن الوطء للكافرة سواء كانت يهودية أو نصرانية لا يتحقق به الإحصان، واحتجوا بحديث الدارقطني في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية قال له: (إنها لا تحصنك) ، واحتج الحنابلة ومن وافقهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب) ، ووطء الذمية كوطء المسلمة من حيث الأصل؛ لأنه عف بوطء شرعي معتبر.
وحديث الدارقطني فيه ابن أبي مريم، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، ومنهم الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، فعلى القول بضعفه يترجح المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أن الذمية يتحقق بها الإحصان كالمسلمة؛ لإذن الشرع بنكاح أهل الكتاب، وعلى القول بأن الحديث حسن، فهو نص في موضع النزاع، حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الذمية لا تحصن الناكح، والأشبه أنها تحصنه، لعموم حديث: (الثيب بالثيب) .
وقول المصنف رحمه الله: (في نكاح صحيح) ، خرج النكاح الفاسد، فلو أنه نكح بنكاح شغار، أو نكح بنكاح متعة، وكان يظن أن هذا جائزا، لبس عليه شخص وقال له: نكاح المتعة جائز، فجاء وعقد عقد متعة، ثم لما علم أن عقد المتعة حرام؛ ترك زوجته التي استمتع بها، ثم زنى، فهل عقد المتعة الذي وقع منه يحصل به إحصانه؟
الجواب لا؛ لأنه لا بد أن يكون الوطء في نكاح صحيح معتبر، فيخرج من هذا المختلف فيه، فلو أن حنفيا تزوج بدون ولي على مذهب الحنفية أن الولي لا يشترط، وعند الحنابلة والشافعية لا يصح النكاح بدون ولي، ولكن نحكم بصحته؛ لأنه يعتقد صحة هذا النكاح، فخرج المختلف فيه في الفروع، فالمراد: أن يكون فاسدا بحكم الشرع، فإذا كان فاسدا بحكم الشرع؛ فإن وجود هذا النكاح وعدمه على حد سواء، ونقول: ليس بمحصن فلا يرجم، وإنما يجلد.
شروط إقامة الحد على المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وهما بالغان عاقلان] .
أي: لا نحكم بكونه محصنا إلا إذا تزوج بالغة، فلو أن رجلا تزوج امرأة عمرها أربع عشرة سنة ولم تحض، فوطئها ثم زنى، فالعقد موجود، ووطء المرأة موجود، ولكنها غير بالغة؛ فإذا لم تكن بالغة فإنها لا تحصنه، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله، وخالف بعض الشافعية رحمهم الله، لكن يقول البعض: قبل خلافه لم يكن يوجد من يخالف في هذه المسألة، فلا بد من البلوغ ولا بد من العقل؛ لأن هذا محل التكليف، قالوا: ومن الأدلة عليه أنه لو أن صبيا وصبية زنيا لم يقم عليهما الحد، فكيف نحكم بثبوت الإحصان الذي هو موجب الحد؟!! قالوا: فلا بد وأن يكون بالغا، وأن تكون زوجته بالغة، حتى يثبت إحصانه، وإذا ثبت إحصانه يرجم، أما إذا تزوج صغيرة أو مجنونة، مثلا كانت قريبته مبتلاة بمس من الجن فقال: أريد أن أتزوجها وأسترها، أو رجل فقير ليس عنده مال، ولم يجد إلا امرأة مجنونة، فعقد عليها وأراد أن يسترها، أو رجل أراد أن يحتسب في امرأة مسلمة مجنونة فتزوجها، فلما تزوجها زنى بعد نكاحها، فإننا لا نحكم بإحصانه، لا بد من وجود الكمال في الاثنين، في الرجل والمرأة، فيكون بالغا وتكون بالغة، ويكون عاقلا وتكون عاقلة، وعلى هذا؛ لا إحصان إذا كان أحدهما مجنونا أو كانا مجنونين، فلو أن مجنونا زوج أثناء جنونه، ثم أفاق من جنونه فزنى، فإننا لا نحكم بإحصانه حينما كان في حال جنونه ناقص الأهلية، ولو أن ولدا صغيرا زوجه أبوه قبل البلوغ، ثم بمجرد بلوغه وقع في الزنا، فإنه غير محصن.
إذا: يشترط أن يكون الاثنان بالغين عاقلين حتى يثبت الإحصان، فالإحصان يشترط فيه: البلوغ والعقل في الزوج والزوجة.
ويقول بعض العلماء: يشترط ذلك في أحدهما، بحيث لو كان الثاني مجنونا ثبت الإحصان لغير المجنون، ولو كان أحدهما صبيا ثبت الإحصان للبالغ، فلو أن رجلا بالغا تزوج صبية، ثم وطئها، ثم زنى، حكمنا بإحصانه، ولكن هذا قول ضعيف، وهو القول الذي ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وقد وافقهم بعض أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
قال المصنف رحمه الله: [حران] .
لأن الله تعالى يقول: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء:25] ، فبين سبحانه وتعالى أن الأمة عليها نصف ما على المحصنة، فجعل الإحصان قيدا في الحرية، وهذا شبه إجماع من العلماء رحمهم الله، وهناك من يحكي قولا شاذا، لكن المعروف عند أهل العلم أن الرجم لا يكون للعبد ولا للأمة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن اختل شرط منها في أحدهما؛ فلا إحصان لواحد منهما] .
إن اختل الشرط في الاثنين فلا إشكال قولا واحدا، وإن اختل في أحدهما فالجماهير على أنه كاختلاله فيهما، وقد بينا هذا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 17 ( الأعضاء 0 والزوار 17)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 350.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 344.34 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]