تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 37 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الصبر على الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          حصر الواقع ! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          حديث عجيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فمِنكَ وحدَك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          علة حديث: (من غسَّل واغتسل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          معنى أن الله - عز وجل - يصلي عليك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          غباء الأذكياء!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          نواقض الإسلام العشرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          كم ركعة تصل في اليوم تطوُّعاً ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #361  
قديم 24-10-2022, 10:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (361)
صــ 139 إلى صــ 146



واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .

قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين " روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إسرائيل توفي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجنان والقصور، وكان الآخر زاهدا في الدنيا، فكان إذا عمل أخوه شيئا من زينة [ ص: 139 ] الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدمه لآخرته، حتى نفد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلا للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة . وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج تعرض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثت عن أبيك، فقال: أنفقته في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتعت به جنانا وغنما وبقرا، والله لا أعطيتك شيئا أبدا حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلم فأدخله جنانه يطوف به فيها، ويرغبه في دينه . وقال مقاتل: اسم المؤمن: يمليخا، واسم الكافر: قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المثل [ ضرب ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه .

قوله تعالى: " وحففناهما بنخل " الحف: الإحاطة بالشيء، ومنه قوله: حافين من حول العرش [ الزمر: 75 ]، والمعنى: جعلنا النخل مطيفا بها . وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " إعلام أن عمارتهما كاملة .

قوله تعالى: " كلتا الجنتين آتت أكلها " قال الفراء: لم يقل: آتتا ; لأن " كلتا " ثنتان لا تفرد واحدتهما، وأصله: ( كل )، كما تقول للثلاثة: ( كل )، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب ( كل )، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في ( كلتا )، وكذلك فافعل بـ( كلا، وكلتا، وكل )، إذا أضفتهن إلى معرفة وجاء الفعل بعدهن، فوحد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ مريم: 96 ]، ومن الجمع: وكل أتوه داخرين [ النمل: 87 ]، والعرب قد تفعل أيضا في ( أي ) فيؤنثون ويذكرون، قال الله تعالى: وما تدري نفس بأي أرض تموت [ لقمان: 34 ]، ويجوز في الكلام: ( بأيت أرض )، وكذلك: [ ص: 140 ] في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار: 8 ]، ويجوز في الكلام ( في أيت )، قال الشاعر:


بأي بلاء أم بأية نعمة تقدم قبلي مسلم والمهلب


قال ابن الأنباري: " كلتا " وإن كان واقعا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقة بمعرفة المخاطب به، ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: ( كلتا الجنتين آتتا أكلها )، ويقول آخرون: ( كلتا الجنتين آتى أكله ) ; لأن " كلتا " تفيد معنى ( كل )، قال الشاعر:


وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي فلا الموت أهواه ولا العيش أروح


يعني: وكلهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون، فوحدوا للفظ ( كل ) وجمعوا لتأويلها . وقال الزجاج: لم يقل: ( آتتا ) ; لأن لفظ " كلتا " لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها . " ولم تظلم " ; أي: لم تنقص، " منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا " فأعلمنا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب . وقال الفراء: إنما قال: " فجرنا " بالتشديد، وهو نهر واحد ; لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه كله . قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: ( وفجرنا ) بالتخفيف . وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل: ( خللهما ) . وقرأ أبو العالية وأبو عمران: ( نهرا ) بسكون الهاء .

قوله تعالى: " وكان له " يعني: للأخ الكافر، " ثمر " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( وكان له ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بضمتين . وقرأ عاصم: ( وكان لهم ثمر )، ( وأحيط بثمره ) بفتح الثاء والميم فيهما . [ ص: 141 ] وقرأ أبو عمرو: ( ثمر ) و( بثمره ) بضمة واحدة وسكون الميم . قال الفراء: ( الثمر ) بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال . وقال ابن الأنباري: ( الثمر ) بالفتح: الجمع الأول، و( الثمر ) بالضم: جمع الثمر، يقال: ثمر وثمر، كما يقال: أسد وأسد، ويصلح أن يكون الثمر جمع الثمار، كما يقال: حمار وحمر، وكتاب وكتب، فمن ضم قال: الثمر أعم ; لأنها تحتمل الثمار المأكولة والأموال المجموعة . قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: ( ثمر ) يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب وكتب، فتخفف، فيقال: كتب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ( ثمر ) واحدا، كعنق وطنب .

وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه الذهب والفضة، قاله مجاهد .

والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثمرة، وثمار، وثمر .

فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين، وقد علم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكا له، وإنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس .

والثاني: أن ذكر الثمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري .

والثالث: إنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر: الأموال من الأنواع، وذكرنا [ ص: 142 ] أنها الذهب والفضة، وذلك يخالف الثمر المأكول، قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب والورق، فإنما قيل لذلك: ( ثمر ) على التفاؤل ; لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجنى أشبه من الذهب والفضة . ويقوي ذلك: " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " ، والإنفاق من الورق لا من الشجر .

قوله تعالى: " فقال " يعني: الكافر، " لصاحبه " المؤمن، " وهو يحاوره " ; أي: يراجعه الكلام ويجاوبه .

وفيما تحاورا فيه قولان:

أحدهما: أنه الإيمان والكفر .

والثاني: طلب الدنيا وطلب الآخرة . فأما ( النفر ) فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، [ ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها . وقال ابن فارس اللغوي ]: النفر: عدة رجال من ثلاثة إلى العشرة .

وفيمن أراد بنفره ثلاثة أقوال:

أحدها: عبيدة، قاله ابن عباس . والثاني: ولده، قاله مقاتل . والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان .

قوله تعالى: " ودخل جنته " يعني: الكافر، " وهو ظالم لنفسه " بالكفر، وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: " وما أظن الساعة قائمة " ، وهذا شك [ منه ] في البعث، ثم قال: " ولئن رددت إلى ربي " ; أي: كما تزعم أنت . قال [ ابن عباس ]: يقول: إن كان البعث حقا، " لأجدن خيرا منها " قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( خيرا منها )، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة . وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: ( خيرا منهما ) بزيادة [ ص: 143 ] ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام . قال أبو علي: الإفراد أولى ; لأنه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله: " ودخل جنته " ، والتثنية لا تمتنع لتقدم ذكر الجنتين .

قوله تعالى: " منقلبا " ; أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه .
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

قوله تعالى: " قال له صاحبه " يعني: المؤمن، " وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " يعني: خلق أباك آدم، " ثم من نطفة " يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شك في البعث كان كافرا .

قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: ( لكن هو الله ربي ) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف . وقرأ نافع في رواية المسيبي بإثبات الألف وصلا ووقفا . وأثبت الألف ابن عامر في الحالين . وقرأ أبو رجاء: ( لكن ) بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين . وقرأ ابن يعمر: ( لكن ) بتشديد النون من غير ألف في الحالين . وقرأ الحسن: ( لكن أنا هو الله ربي ) [ ص: 144 ] بإسكان نون ( لكن ) وإثبات ( أنا ) . قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنا، ولكن، ولكنه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:


وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي


وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حذفت الألف الأولى، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى فشددت . قال الزجاج: وهذه الألف تحذف في الوصل وتثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمت، فأثبت الألف، قال الشاعر:


أنا سيف العشيرة فاعرفوني [ حميدا قد تذريت السناما ]


وهذه القراءة جيدة ; لأن الهمزة قد حذفت من ( أنا )، فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة .

قوله تعالى: " ولولا إذ دخلت جنتك " ; أي: وهلا، ومعنى الكلام: التوبيخ . قال الفراء: " ما شاء الله " في موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: [ هو ] ما شاء الله، وإن شئت أضمرت فيه: ما شاء الله كان، وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض [ الأنعام: 35 ]، ليس له جواب ; لأنه معروف . قال الزجاج: وقوله: " لا قوة إلا بالله " الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا ريب فيها [ الكهف: 21 ]، ويجوز " لا قوة إلا بالله " على الرفع بالابتداء، والخبر " بالله " ، المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله . [ ص: 145 ]

قوله تعالى: " إن ترن " قرأ ابن كثير: ( إن ترني أنا ) و( يؤتيني خيرا ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا ووقفا . " أنا أقل " وقرأ ابن أبي عبلة: ( أنا أقل ) برفع اللام . قال الفراء: ( أنا ) هاهنا عماد إن نصبت ( أقل )، واسم إذا رفعت ( أقل )، والقراءة بهما جائز .

قوله تعالى: " فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك " ; أي: في الآخرة، " ويرسل عليها حسبانا " وفيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك . وقال أبو صالح عن ابن عباس: نارا من السماء .

والثاني: قضاء من الله يقضيه، قاله ابن زيد .

والثالث: مرامي من السماء، وأحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة وابن قتيبة . قال النضر بن شميل: الحسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما حجارة أو بردا، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب .

والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله الشمس والقمر بحسبان [ الرحمن: 5 ] ; أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عليها عذاب حساب ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج .

قوله تعالى: " فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا " قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوى، والزلق: الذي تزل عنه الأقدام، والغور: الغائر، [ ص: 146 ] فجعل المصدر صفة، يقال: ماء غور، ومياه غور، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، كما يقال: رجل نوم، ورجل صوم، ورجل فطر، ورجال نوم، [ ونساء نوم ]، ونساء صوم . ويقال للنساء إذا نحن: نوح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرا في الأرض ; أي: ذاهبا فيها . " فلن تستطيع له طلبا " فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأرشية . وقال ابن الأنباري: " غورا " : إذا غور، فسقط المضاف وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه . وقرأ أبو الجوزاء وأبو المتوكل: ( غؤورا ) برفع الغين والواو [ الأولى ] جميعا وواو بعدها .
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

قوله تعالى: " وأحيط بثمره " ; أي: أحاط الله العذاب بثمره، وقد سبق معنى الثمر . " فأصبح يقلب كفيه " ; أي: يضرب يدا على يد، وهذا فعل النادم . " على ما أنفق فيها " ; أي: في جنته، و " في " هاهنا بمعنى ( على ) . " وهي خاوية " ; أي: خالية ساقطة، " على عروشها " والعروش: السقوف، والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف . " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره [ به ] أخوه في الدنيا، ندم على شركه حين لا تنفعه الندامة . وقيل: إنما يقول هذا في القيامة . " ولم تكن له فئة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( ولم تكن ) بالتاء .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #362  
قديم 24-10-2022, 10:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (362)
صــ 147 إلى صــ 154



وقرأ حمزة، [ ص: 147 ] والكسائي، وخلف: ( ولم يكن ) بالياء . والفئة: الجماعة، " ينصرونه " ; أي: يمنعونه من عذاب الله .

قوله تعالى: " هنالك الولاية " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: ( الولاية ) بفتح الواو، و( لله الحق ) خفضا . وقرأ حمزة: ( الولاية ) بكسر الواو، و( لله الحق ) بكسر القاف أيضا . وقرأ أبو عمرو بفتح الواو ورفع ( الحق )، ووافقه الكسائي في رفع القاف، لكنه كسر ( الولاية ) . قال الزجاج: معنى الولاية في [ مثل ] تلك الحال: تبيين نصرة ولي الله . وقال غيره: هذا الكلام عائد إلى ما قبل قصة الرجلين، فأما من فتح واو ( الولاية ) فإنه أراد: الموالاة والنصرة، ومن كسر أراد: السلطان والملك، على ما شرحنا في آخر ( الأنفال: 72 ) . فعلى قراءة الفتح في معنى الكلام قولان:

أحدهما: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة .

والثاني: هنالك يتولى الله أمر الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين . وعلى قراءة الكسر يكون المعنى: هنالك السلطان لله . قال أبو علي: من كسر قاف ( الحق ) جعله من وصف الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة للولاية .

فإن قيل: لم نعتت الولاية وهي مؤنثة بالحق وهو مصدر ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري:

أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقيا، فحملت على معنى النصر، والتقدير: هنالك النصر لله الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: وأخذ الذين ظلموا الصيحة [ هود: 67 ] .

والثاني: أن الحق مصدر يستوي في لفظه المذكر والمؤنث، والاثنان [ ص: 148 ] والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق، ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار ( هو ) .

قوله تعالى: " هو خير ثوابا " ; أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل .

قوله تعالى: " وخير عقبا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( عقبا ) مضمومة القاف . وقرأ عاصم وحمزة: ( عقبا ) ساكنة القاف . قال أبو علي: ما كان [ على ] ( فعل ) جاز تخفيفه، كالعنق والطنب . قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى، والعاقبة، بمعنى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره .
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا " ; أي: في سرعة نفادها وذهابها، وقيل: في تصرف أحوالها، إذ مع كل فرحة ترحة، وهذا مفسر في سورة ( يونس: 24 ) إلى قوله: فأصبح هشيما . قال الفراء: الهشيم: كل شيء كان رطبا فيبس . وقال الزجاج: الهشيم: النبات الجاف . وقال ابن قتيبة: الهشيم من النبت: المتفتت، وأصله من هشمت الشيء: إذا كسرته، ومنه سمي الرجل هاشما . و " تذروه الرياح " تنسفه . وقرأ أبي، وابن عباس، وابن أبي عبلة: ( تذريه ) برفع التاء وكسر الراء بعدها ياء ساكنة وهاء مكسورة . وقرأ ابن مسعود كذلك، إلا أنه فتح التاء . والمقتدر: مفتعل، من قدرت . قال المفسرون: " وكان الله على كل شيء " من الإنشاء والإفناء، " مقتدرا " . [ ص: 149 ]
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .

قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " هذا رد على المشركين الذين كانوا يفتخرون بالأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أن ذلك مما يتزين به في الدنيا، [ لا ] مما ينفع في الآخرة .

قوله تعالى: " والباقيات الصالحات " فيها خمسة أقوال:

أحدها: أنها " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " ; روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، وعن العدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فقولوها فإنهن الباقيات الصالحات " ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك . وسئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات، فقال هذه الكلمات، وزاد فيها: ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي مثله سواء .

والثاني: أنها " لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا قوة إلا بالله " ، رواه علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثالث: أنها الصلوات الخمس، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم . [ ص: 150 ]

والرابع: الكلام الطيب، رواه العوفي عن ابن عباس .

والخامس: هي جميع أعمال الحسنات، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وابن زيد .

قوله تعالى: " خير عند ربك ثوابا " ; أي: أفضل جزاء، " وخير أملا " ; أي: خير مما تؤملون ; لأن آمالكم كواذب، وهذا أمل لا يكذب .
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

قوله تعالى: " ويوم نسير الجبال " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( ويوم تسير ) بالتاء ( الجبال ) رفعا . وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( نسير ) بالنون ( الجبال ) نصبا . وقرأ ابن محيصن: ( ويوم تسير ) بفتح التاء وكسر السين وتسكين الياء ( الجبال ) بالرفع . قال الزجاج: " ويوم " منصوب على معنى اذكر، ويجوز أن يكون منصوبا على: والباقيات الصالحات [ ص: 151 ] خير يوم تسير الجبال .

قال ابن عباس: تسير الجبال عن وجه الأرض، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم تكسر فتكون في الأرض كما خرجت منها .

قوله تعالى: " وترى الأرض بارزة " وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، وأبو العالية: ( وترى الأرض بارزة ) برفع التاء والضاد . وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إلا أنه فتح ضاد ( الأرض ) .

وفي معنى " بارزة " قولان: أحدهما: [ ظاهرة ] فليس عليها شيء من جبل، أو شجر، أو بناء، قاله الأكثرون . والثاني: بارزا أهلها من بطنها، قاله الفراء .

قوله تعالى: " وحشرناهم " يعني: المؤمنين والكافرين، " فلم نغادر " قال ابن قتيبة: أي: فلم نخلف، يقال: غادرت كذا: إذا خلفته، ومنه سمي الغدير ; لأنه ماء تخلفه السيول . وروى أبان: ( فلم تغادر ) بالتاء .

قوله تعالى: " وعرضوا على ربك صفا " إن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عبر [ عنه ] بالماضي ؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه يجري مجرى المعاين، كقوله: ونادى أصحاب الجنة [ الأعراف: 43 ] .

وفي معنى قوله: " صفا " أربعة أقوال:

أحدها: أنه بمعنى جميعا، كقوله: ثم ائتوا صفا [ طه: 64 ]، قاله مقاتل .

والثاني: أن المعنى: وعرضوا على ربك مصفوفين، هذا مذهب البصريين .

والثالث: أن المعنى: وعرضوا على ربك صفوفا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: ثم نخرجكم طفلا [ الحج: 5 ] .

والرابع: أنه لم يغب عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري . وقد قيل: إن كل أمة وزمرة صف . [ ص: 152 ]

قوله تعالى: " لقد جئتمونا " فيه إضمار ( فيقال لهم ) .

وفي المخاطبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الكل . والثاني: الكفار، فيكون اللفظ عاما والمعنى خاصا . وقوله: " كما خلقناكم أول مرة " مفسر في ( الأنعام: 94 ) . وقوله: " بل زعمتم " خطاب الكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا " ألن نجعل لكم موعدا " للبعث والجزاء .

قوله تعالى: " ووضع الكتاب " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الكتاب الذي سطر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب . والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل . وقال ابن جرير: وضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا الكتاب اسم جنس .

قوله تعالى: " فترى المجرمين " قال مجاهد: [ هم ] الكافرون . وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذكر في القرآن، فالمراد به: الكافر .

قوله تعالى: " مشفقين " ; أي: خائفين " مما فيه " من الأعمال السيئة، " ويقولون يا ويلتنا " هذا قول كل واقع في هلكة . وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: يا حسرتنا [ الأنعام: 31 ] .

قوله تعالى: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها، وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة . وقد يتوهم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك ; إذ ليس الضحك والتبسم مجردهما من الذنوب، وإنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة [ ص: 153 ] بذلك ; فعلى هذا يكون ذنبا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه . ومعنى " أحصاها " : عدها وأثبتها، والمعنى: وجدت محصاة . " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ; أي: مكتوبا مثبتا في الكتاب . وقيل: رأوا جزاءه حاضرا . وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وعدوا العفو عنها إذا اجتنبوا الكبائر، إنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها .

قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن ولا يزاد في سيئات الكافر . وقيل: إن كان للكافر فعل خير، كعتق رقبة وصدقة، خفف عنه به من عذابه، وإن ظلمه مسلم أخذ الله من المسلم فصار الحق لله .

ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما أورثه الكبر، فقال: " وإذ قلنا " ; أي: اذكر ذلك .

وفي قوله: " كان من الجن " قولان:

أحدهما: أنه من الجن حقيقة لهذا النص، واحتج قائلوا هذا بأن له ذرية - وليس للملائكة ذرية - وأنه كفر، والملائكة رسل الله، فهم معصومون من الكفر .

والثاني: أنه كان من الملائكة، وإنما قيل: " من الجن " ; لأنه كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم: الجن، قاله ابن عباس، وقد شرحنا هذا في ( البقرة: 34 ) .

قوله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: خرج عن طاعة ربه، تقول العرب: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، قاله الفراء وابن قتيبة . [ ص: 154 ]

والثاني: أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه عن أمر ربه . قال الزجاج: وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وهو الحق عندنا .

والثالث: ففسق عن رد أمر ربه، حكاه الزجاج عن قطرب .

قوله تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ; [ أي ]: توالونهم بالاستجابة لهم . قال الحسن وقتادة: ذريته: أولاده، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . قال مجاهد: ذريته: الشياطين، ومن ذريته زلنبور صاحب راية إبليس بكل سوق وثبر، وهو صاحب المصائب، والأعور صاحب الرياء، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيطرحها على أفواه الناس فلا يوجد لها أصل، وداسم صاحب الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله، فهو يأكل معه إذا أكل . قال بعض أهل العلم: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت في شهوة فارجه، فإن معصية إبليس كانت بالكبر، ومعصية آدم بالشهوة .

قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: بئس الاتخاذ للظالمين بدلا . والثاني: بئس الشيطان . والثالث: بئس الشيطان والذرية، ذكرهن ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض " وقرأ أبو جعفر وشيبة: ( ما أشهدناهم ) بالنون والألف .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #363  
قديم 24-10-2022, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (363)
صــ 155 إلى صــ 162


وفي المشار إليهم أربعة أقوال:

أحدها: إبليس وذريته . والثاني: الملائكة . والثالث: جميع الكفار . والرابع: جميع الخلق، والمعنى: إني لم أشاورهم في خلقهن، وفي هذا بيان للغناء عن الأعوان وإظهار كمال القدرة . [ ص: 155 ]

قوله تعالى: " ولا خلق أنفسهم " ; أي: ما أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا استعنت ببعضهم على إيجاد بعض .

قوله تعالى: " وما كنت متخذ المضلين " [ يعني: الشياطين ]، " عضدا " ; أي: أنصارا وأعوانا . والعضد يستعمل كثيرا في معنى العون ; لأنه قوام [ اليد ] . قال الزجاج: والاعتضاد: التقوي وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان ; أي: استعنت به .

وفي ما نفى اتخاذهم عضدا فيه قولان:

أحدهما: أنه الولايات، والمعنى: ما كنت لأولي المضلين، قاله مجاهد .

والثاني: أنه خلق السماوات والأرض، قاله مقاتل . وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر: ( وما كنت ) بفتح التاء .
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

قوله تعالى: " ويوم يقول " وقرأ حمزة: ( نقول ) بالنون، يعني: يوم القيامة، " نادوا شركائي " أضاف الشركاء إليه على زعمهم، والمراد: نادوهم لدفع العذاب عنكم أو الشفاعة لكم، " الذين زعمتم " ; أي: زعمتموهم شركاء، " فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " ; أي: لم يجيبوهم، " وجعلنا بينهم " في المشار إليهم قولان:

أحدهما: أنهم المشركون والشركاء . والثاني: أهل الهدى وأهل الضلالة .

وفي معنى " موبقا " ستة أقوال:

أحدها: مهلكا، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك . وقال ابن قتيبة: [ ص: 156 ] مهلكا بينهم وبين آلهتهم في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه ; [ أي: أهلكته ] . قال الزجاج: المعنى: جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم ; أي: يهلكهم، فالموبق: المهلك، يقال: وبق، ييبق، ويابق، وبقا، ووبق، يبق، وبوقا، فهو وابق . وقال الفراء: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا ; أي: مهلكا لهم في الآخرة، فالبين على هذا القول بمعنى التواصل، كقوله تعالى: لقد تقطع بينكم [ الأنعام: 94 ] على قراءة من ضم النون .

والثاني: أن الموبق: واد عميق يفرق به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، قاله عبد الله بن عمرو .

والثالث: أنه واد في جهنم، قاله أنس بن مالك ومجاهد .

والرابع: أن معنى الموبق: العدواة، قاله الحسن .

والخامس: أنه المحبس، قاله الربيع بن أنس .

والسادس: أنه الموعد، قاله أبو عبيدة .

قال ابن الأنباري: إن قيل: لم قال: " موبقا " ، ولم يقل: ( موبقا ) بضم الميم ; إذ كان معناه: عذابا موبقا ؟

فالجواب: أنه اسم موضوع لمحبس في النار، والأسماء لا تؤخذ بالقياس، فيعلم أن ( موبقا ) مفعل، من أوبقه الله: إذا أهلكه، فتنفتح الميم كما تنفتح في ( موعد، ومولد، ومحتد )، إذا سميت الشخوص بهن .

قوله تعالى: " ورأى المجرمون النار " ; أي: عاينوها وهي تتغيظ حنقا عليهم، والمراد بالمجرمين: الكفار . " فظنوا " ; أي: أيقنوا " أنهم مواقعوها " ; أي: [ ص: 157 ] داخلوها، ومعنى المواقعة: ملابسة الشيء بشدة . " ولم يجدوا عنها مصرفا " ; أي: معدلا، والمصرف: الموضع الذي يصرف إليه، وذلك أنها أحاطت بهم من كل جانب، فلم يقدروا على الهرب .
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

قوله تعالى: " ولقد صرفنا في هذا القرآن " قد فسرناه في ( بني إسرائيل: 41 ) .

قوله تعالى: " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " فيمن نزلت قولان:

أحدهما: أنه النضر بن الحارث، وكان جداله في القرآن، قاله ابن عباس .

والثاني: أبي بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم قد رم، فقال: أيقدر الله على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قال الزجاج: كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل، والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا .

قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال المفسرون: يعني: أهل مكة، " إذ جاءهم الهدى " وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام، " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " وهو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:

أحدها: ما منعهم من الإيمان إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، قاله الزجاج .

والثاني: وما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا إلا لأن تأتيهم سنة الأولين ; أي: منعهم رشدهم لكي يقع العذاب بهم، ذكره ابن الأنباري . [ ص: 158 ]

والثالث: ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب . وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، قاله الواحدي .

قوله تعالى: " أو يأتيهم العذاب " ذكر ابن الأنباري في " أو " هاهنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها بمعنى الواو .

والثاني: أنها لوقوع أحد الشيئين ; إذ لا فائدة في بيانه .

والثالث: أنها دخلت للتبعيض ; أي: أن بعضهم يقع به هذا، وهذه الأقوال الثلاثة قد أسلفنا بيانها في قوله عز وجل: أو كصيب من السماء [ البقرة: 19 ] .

قوله تعالى: " قبلا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( قبلا ) بكسر القاف وفتح الباء . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( قبلا ) بضم القاف والباء . وقد بينا علة القراءتين في ( الأنعام: 111) . وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ( قبلا ) بفتح القاف من غير ياء، قال ابن قتيبة: أراد: استئنافا .

فإن قيل: إذا كان المراد بسنة الأولين: العذاب، فما فائدة التكرار بقوله: " أو يأتيهم العذاب " ؟

فالجواب: أن سنة الأولين أفادت عذابا مبهما يمكن أن يتراخى وقته وتختلف أنواعه، وإتيان العذاب قبلا أفاد القتل يوم بدر . قال مقاتل: " سنة الأولين " : عذاب الأمم السالفة، " أو يأتيهم العذاب قبلا " ; أي: عيانا قتلا بالسيف يوم بدر .
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي [ ص: 159 ] وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

قوله تعالى: " ويجادل الذين كفروا بالباطل " قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم، وجدالهم بالباطل أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم ; " ليدحضوا به الحق " ; أي: ليبطلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل: جدالهم: قولهم: أإذا كنا عظاما ورفاتا [ الإسراء: 49 ]، أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذكر البعث والجزاء . قال أبو عبيدة: ومعنى " ليدحضوا " : ليزيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دحض ; أي: مزل لا يثبت فيه قدم ولا حافر .

قوله تعالى: " واتخذوا آياتي " يعني: القرآن . " وما أنذروا " ; أي: خوفوا به من النار والقيامة، " هزوا " ; أي: مهزوءا به .

قوله تعالى: " ومن أظلم " قد شرحنا هذه الكلمة في ( البقرة: 114 ) . و " ذكر " بمعنى: وعظ . وآيات ربه: القرآن، وإعراضه عنها: تهاونه بها . " ونسي ما قدمت يداه " ; أي: ما سلف من ذنوبه، وقد شرحنا ما بعد هذا في ( الأنعام: 21 ) إلى قوله: وإن تدعهم إلى الهدى وهو الإيمان والقرآن، " فلن يهتدوا " هذا إخبار عن علمه فيهم .

قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إذ لم يعاجلهم بالعقوبة . " بل لهم [ ص: 160 ] موعد " للبعث والجزاء، " لن يجدوا من دونه موئلا " قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى ; لأن المنجى ملجأ، والعرب تقول: إنه ليوائل إلى موضعه ; أي: يذهب إلى موضعه، قال الشاعر:


لا واءلت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم


يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:


وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل


أي: ما ينجو . وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجأ، يقال: وآل فلان إلى كذا: إذا لجأ .

فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته ؟

فعنه جوابان: أحدهما: [ أن ] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر . فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب . والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا فإنهم ينالون منها العافية والرزق .

قوله تعالى: " وتلك القرى " يريد: التي قصصنا عليك ذكرها، والمراد: أهلها ; ولذلك قال: " أهلكناهم " والمراد: قوم هود وصالح، ولوط وشعيب . قال الفراء: قوله: " لما ظلموا " معناه: بعدما ظلموا . [ ص: 161 ]

قوله تعالى: " وجعلنا لمهلكهم " قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام . قال الزجاج: وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مصدرا، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم .

والثاني: أن يكون وقتا، فالمعنى: لوقت هلاكهم .

وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك . وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إهلاكهم .
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه . . . " الآية، سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر، ما روى ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ; قال موسى: يا رب فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فانطلق [ ص: 162 ] معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: "أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة . . . " إلى قوله: "عجبا،" قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، "فارتدا على آثارهما قصصا" . قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ! من أنت ؟ قال: أنا موسى . قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ; فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول عمدت


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #364  
قديم 24-10-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (364)
صــ 163 إلى صــ 170

[ ص: 163 ] إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها . . . إلى قوله: عسرا ؟ ! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل ; إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية إلى قوله: يريد أن ينقض، فقال الخضر بيده [ هكذا ]، فأقامه . فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا . قال: هذا فراق بيني وبينك . . . الآية " . هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " ، وقد ذكرنا إسناده في كتاب " الحدائق " ، فآثرنا الاختصار هاهنا .

فأما التفسير فقوله تعالى: " وإذ قال موسى " المعنى: واذكر ذلك . وفي موسى قولان:

أحدهما: أنه موسى بن عمران، قاله الأكثرون . ويدل عليه ما روي في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، قال: [ ص: 164 ] كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب . . . . فذكر الحديث الذي قدمناه آنفا .

والثاني: أنه موسى بن ميشا، قاله ابن إسحاق، وليس بشيء ; للحديث الصحيح الذي ذكرناه . فأما فتاه فهو يوشع بن نون من غير خلاف، وإنما سمي فتاه ; لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه .

ومعنى " لا أبرح " : لا أزال . وليس المراد به: لا أزول ; لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا، فهو مثل قولك: ما برحت أناظر عبد الله ; أي: ما زلت، قال الشاعر:


إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع


أي: أثقلتك، والمعنى: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ; أي: ملتقاهما، وهو الموضع الذي وعده الله بلقاء الخضر فيه . قال قتادة: بحر فارس، وبحر الروم، فبحر الروم نحو المغرب، وبحر فارس نحو المشرق .

وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان:

أحدهما: إفريقية، قاله أبي بن كعب . والثاني: طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي .

قوله تعالى: " أو أمضي حقبا " وقرأ أبو رزين، والحسن، وأبو مجلز، وقتادة، والجحدري، وابن يعمر: ( حقبا ) بإسكان القاف . قال ابن قتيبة: الحقب: الدهر، والحقب: السنون، واحدتها حقبة، ويقال: حقب وحقب، كما يقال: قفل وقفل، وهزؤ وهزؤ، وكفؤ وكفؤ، وأكل [ ص: 165 ] وأكل، وسحت وسحت، ورعب ورعب، ونكر ونكر، وأذن وأذن، وسحق وسحق، وبعد وبعد، وشغل وشغل، وثلث وثلث، وعذر وعذر، ونذر ونذر، وعمر وعمر .

وللمفسرين في المراد بالحقب هاهنا ثمانية أقوال:

أحدها: أنه الدهر، قاله ابن عباس . والثاني: ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمرو وأبو هريرة . والثالث: سبعون ألف سنة، قاله الحسن . والرابع: سبعون سنة، قاله مجاهد . والخامس: سبعة عشر ألف سنة، قاله مقاتل بن حيان . والسادس: أنه ثمانون ألف سنة، كل يوم ألف سنة من عدد الدنيا . والسابع: أنه سنة بلغة قيس، ذكرهما الفراء . والثامن: الحقب عند العرب وقت غير محدود، قاله أبو عبيدة . ومعنى الكلام: لا أزال أسير، ولو احتجت أن أسير حقبا .

قوله تعالى: " فلما بلغا " يعني: موسى وفتاه، " مجمع بينهما " يعني: البحرين، " نسيا حوتهما " وكانا قد تزودا حوتا مالحا في زبيل، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت بلل البحر . وقيل: توضأ يوشع من عين الحياة فانتضخ على الحوت الماء فعاش، فتحرك في المكتل، فانسرب في البحر، وقد كان قيل لموسى: تزود حوتا مالحا، فإذا فقدته وجدت الرجل . وكان موسى حين ذهب الحوت في البحر قد مضى لحاجة، فعزم فتاه أن يخبره بما جرى فنسي . وإنما قيل: " نسيا حوتهما " توسعا في الكلام ; لأنهما جميعا تزوداه، كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم . قال الفراء: ومثله قوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن: 22 ]، وإنما يخرج ذلك من الملح لا من العذب . وقيل: نسي يوشع [ ص: 166 ] أن يحمل الحوت، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء ; فلذلك أضيف النسيان إليهما .

قوله تعالى: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " ; أي: مسلكا ومذهبا . قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقا إلا صار الماء جامدا . وقد ذكرنا في حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .

قوله تعالى: " فلما جاوزا " ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النصب، فدعا موسى بالطعام، فقال: " آتنا غداءنا " ، وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة . والنصب: الإعياء . وهذا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى . " قال " يوشع لموسى: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " ; أي: حين نزلنا هناك، " فإني نسيت الحوت " فيه قولان:

أحدهما: نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني: نسيت حمل الحوت .

قوله تعالى: " وما أنسانيه " قرأ الكسائي: ( أنسانيه ) بإمالة السين [ مع كسر الهاء ] . وقرأ ابن كثير: ( أنسانيهي ) بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء . وروى حفص عن عاصم: ( أنسانيه إلا ) بضم الهاء [ في الوصل ] .

قوله تعالى: " واتخذ سبيله في البحر عجبا " الهاء في السبيل ترجع إلى الحوت . وفي المتخذ قولان:

أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان:

أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يرى عجبا ويحدث عجبا . والثاني: أنه لما قال الله تعالى: [ ص: 167 ] " واتخذ سبيله في البحر " ، قال: اعجبوا لذلك عجبا، وتنبهوا لهذه الآية . والثالث: أن إخبار الله تعالى انقطع عند قوله: " في البحر " ، فقال موسى: عجبا، لما شوهد من الحوت . ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .

والثاني: [ أن ] المخبر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت .

والقول الثاني: أن المتخذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا، فدخل في المكان الذي مر فيه الحوت فرأى الخضر . وروى عطية عن ابن عباس، قال: رجع موسى إلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، حتى انتهى به إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر .

قوله تعالى: " قال " يعني: موسى، " ذلك ما كنا نبغ " ; أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا . قرأ ابن كثير: ( نبغي ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع، وأبو عمرو ، والكسائي بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء في الحالين .

قوله تعالى: " فارتدا على آثارهما " قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر . والقصص: اتباع الأثر .

قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا " يعني: الخضر .

وفي اسمه أربعة أقوال:

أحدها: اليسع، قاله وهب ومقاتل . والثاني: الخضر بن عاميا . والثالث: أرميا بن حلفيا، ذكرهما ابن المنادي . والرابع: بليا بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

فأما تسميته بالخضر ففيه قولان: [ ص: 168 ]

أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة: الأرض اليابسة .

والثاني: أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله، قاله عكرمة . وقال مجاهد: كان إذا صلى اخضر ما حوله . وهل كان الخضر نبيا أم لا ؟ فيه قولان ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إلى أنه كان نبيا، وبعضهم يقول: كان عبدا صالحا . واختلف العلماء هل هو باق إلى يومنا هذا على قولين، حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبح قول من يرى بقاءه ويقول: لا يثبت حديث في بقائه . وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء ؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " .

قوله تعالى: " آتيناه رحمة من عندنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال: [ ص: 169 ]

أحدها: أنها النبوة، قاله مقاتل . والثاني: الرقة والحنو على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري . والثالث: النعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى: " وعلمناه من لدنا " ; أي: من عندنا، " علما " قال ابن عباس: أعطاه علما من علم الغيب .

قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .

قوله تعالى: " أن تعلمني " قرأ ابن كثير: ( تعلمني مما ) بإثبات الياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر وعاصم بحذف الياء في الحالين .

قوله تعالى: " مما علمت رشدا " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( رشدا ) بضم الراء [ وإسكان الشين ] خفيفة . وقرأ أبو عمرو: ( رشدا ) بفتح الراء والشين . وعن ابن عامر بضمهما . والرشد والرشد لغتان، كالنخل والنخل، والعجم والعجم، والعرب والعرب، والمعنى: أن تعلمني علما ذا رشد . وهذه القصة قد حرضت على الرحلة في طلب العلم، واتباع المفضول للفاضل طلبا للفضل، وحثت على الأدب والتواضع للمصحوب .

قوله تعالى: " إنك لن تستطيع معي صبرا " قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي ; لأني علمت من غيب علم ربي .

وفي هذا الصبر وجهان:

أحدهما: على الإنكار . والثاني: عن السؤال . [ ص: 170 ]

قوله تعالى: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " الخبر: علمك بالشيء، والمعنى: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر، وأنت لا تعلم باطنه ؟

قوله تعالى: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " قال ابن الأنباري: نفي العصيان منسوق على الصبر، والمعنى: ستجدني صابرا ولا أعصي إن شاء الله .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #365  
قديم 13-11-2022, 10:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (365)
صــ 171 إلى صــ 178


قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

قوله تعالى: " فلا تسألني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( فلا تسألني ) ساكنة اللام . وقرأ نافع: ( فلا تسألني ) مفتوحة اللام مشددة النون . وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: ( فلا تسألن عن [ ص: 171 ] شيء ) بتحريك اللام من غير ياء والنون مكسورة، والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله، " حتى أحدث لك منه ذكرا " ; أي: حتى أكون أنا الذي أبينه لك ; لأن علمه قد غاب عنك .

قوله تعالى: " خرقها " ; أي: شقها . قال المفسرون: قلع منها لوحا، وقيل: لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، وأنكر عليه ما فعل بقوله: " أخرقتها لتغرق أهلها " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( لتغرق ) بالتاء ( أهلها ) بالنصب . وقرأ حمزة والكسائي: ( ليغرق ) بالياء ( أهلها ) برفع اللام . " لقد جئت شيئا إمرا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: منكرا، قاله مجاهد . وقال الزجاج: عظيما من المنكر . والثاني: عجبا، قاله قتادة وابن قتيبة . والثالث: داهية، قاله أبو عبيدة .

قوله تعالى: " لا تؤاخذني بما نسيت " في هذا النسيان ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه على حقيقته وأنه نسي، روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الأولى كانت نسيانا من موسى " .

والثاني: أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، قاله أبي بن كعب وابن عباس .

والثالث: أنه بمعنى الترك، فالمعنى: لا تؤاخذني بما تركته مما عاهدتك عليه، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ولا ترهقني " قال الفراء: لا تعجلني . وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: لا تغشني . قال أبو زيد: يقال: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذلك . قال الزجاج: والمعنى: عاملني باليسر لا بالعسر . [ ص: 172 ]

قوله تعالى: " فانطلقا " يعني: موسى والخضر . قال الماوردي: يحتمل أن يوشع تأخر عنهما ; لأن الإخبار عن اثنين، ويحتمل أن يكون معهما ولم يذكر ; لأنه تبع لموسى، فاقتصر على حكم المتبوع .

قوله تعالى: " حتى إذا لقيا غلاما " اختلفوا في هذا الغلام، هل كان بالغا أم لا ؟ على قولين:

أحدهما: أنه لم يكن بالغا، قاله ابن عباس، ومجاهد، والأكثرون .

والثاني: أنه كان شابا قد قبض على لحيته، حكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا، واحتج بأن غير البالغ لم يجر عليه قلم، فلم يستحق القتل . وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:


[ شفاها من الداء العضال الذي بها ] غلام إذا هز القناة سقاها


وفي صفة قتله له ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه اقتلع رأسه، وقد ذكرناه في حديث أبي . والثاني: كسر عنقه، قاله ابن عباس . والثالث: أضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير .

قوله تعالى: ( أقتلت نفسا زاكية ) قرأ الكوفيون وابن عامر: ( زكية ) بغير ألف والياء مشددة . وقرأ الباقون بالألف من غير تشديد . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وهما بمنزلة القاسية والقسية .

وللمفسرين فيها ستة أقوال:

أحدها: أنها التائبة، روي عن ابن عباس أنه قال: الزكية: التائبة، [ وبه ] قال الضحاك . [ ص: 173 ]

والثاني: أنها المسلمة، روي عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أنها الزكية التي لم تبلغ الخطايا، قاله سعيد بن جبير .

والرابع: أنها الزكية النامية، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: القويمة في تركيبها .

والخامس: أن الزكية: المطهرة، قاله أبو عبيدة .

والسادس: أن الزكية: البريئة التي لم يظهر ما يوجب قتلها، قاله الزجاج .

وقد فرق بعضهم بين الزاكية والزكية، فروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثم تابت . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: الزاكية في البدن، والزكية في الدين .

قوله تعالى: " بغير نفس " ; أي: بغير قتل نفس، " لقد جئت شيئا نكرا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( نكرا ) خفيفة في كل القرآن، إلا قوله: إلى شيء نكر [ القمر: 6 ]، وخفف ابن كثير أيضا ( إلى شيء نكر ) . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ( نكرا ) و( إلى شيء نكر ) مثقل . والمخفف إنما هو من المثقل، كالعنق والعنق، والنكر والنكر . قال الزجاج: والمعنى: لقد أتيت شيئا نكرا . ويجوز أن يكون معناه: جئت بشيء نكر، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب نكرا . و " نكرا " أقل منكرا من قوله: " إمرا " ; لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر من قتل نفس واحدة .

قوله تعالى: " قال ألم أقل لك " .

إن قيل: لم ذكر لك " هاهنا واختزله من الموضع الذي قبله ؟

فالجواب: أن إثباته للتوكيد واختزاله لوضوح المعنى، وكلاهما معروف [ ص: 174 ] عند الفصحاء . تقول العرب: قد قلت لك: اتق الله، وقد قلت لك: يا فلان اتق الله، وأنشد ثعلب:


قد كنت حذرتك آل المصطلق وقلت يا هذا أطعني وانطلق


فقوله: يا هذا، توكيد لا يختل الكلام بسقوطه . وسمعت الشيخ أبا محمد الخشاب يقول: وقره في الأول، فلم يواجهه بكاف الخطاب، فلما خالف في الثاني واجهه بها .

قوله تعالى: " إن سألتك عن شيء " ; أي: سؤال توبيخ وإنكار، " بعدها " ; أي: بعد هذه المسألة، " فلا تصاحبني " وقرأ كذلك معاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو المتوكل، والأعرج، إلا أنهم شددوا النون . قال الزجاج: ومعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك . وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة، ويعقوب: ( فلا تصحبني ) بفتح التاء من غير ألف . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والأعمش كذلك، إلا أنهم شددوا النون . وقرأ أبو رجاء، وأبو عثمان النهدي، والنخعي، والجحدري: ( تصحبني ) بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصاد والباء . قال الزجاج: فيهما وجهان:

أحدهما: لا تتابعني في شيء ألتمسه منك، يقال: قد أصحب المهر: إذا انقاد .

والثاني: لا تصحبني علما من علمك .

" قد بلغت من لدني " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( من لدني ) مثقل . وقرأ نافع: ( من لدني ) بضم الدال مع تخفيف النون . وروى أبو بكر عن عاصم: ( من لدني ) بفتح اللام مع تسكين الدال . وفي رواية أخرى عن عاصم ( لدني ) بضم اللام وتسكين الدال . قال الزجاج: [ ص: 175 ] وأجودها تشديد النون ; لأن أصل ( لدن ) الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نونا، ليسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، فتسكن النون ثم تضيف إلى نفسك فتقول: من لدني، كما تقول: عن زيد وعني . فأما إسكان دال ( لدني ) فإنهم أسكنوها، كما تقول في عضد: عضد، فيحذفون الضم . قال ابن عباس: يريد: إنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، يعني: أنك قد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا .

قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية " فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها أنطاكية، قاله ابن عباس . والثاني: الأبلة، قاله ابن سيرين . والثالث: باجروان، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " استطعما أهلها " ; أي: سألاهم الضيافة، " فأبوا أن يضيفوهما " روى المفضل عن عاصم: ( يضيفوهما ) بضم الياء الأولى وكسر الضاد وتخفيف الياء الثانية . وقرأ أبو الجوزاء كذلك، إلا أنه فتح الياء [ الأولى ] . وقرأ الباقون: ( يضيفوهما ) بفتح الضاد وتشديد الياء الثانية وكسرها . قال أبو عبيدة: ومعنى " يضيفوهما " : ينزلوهما منزل الأضياف، يقال: ضفت أنا، وأضافني الذي ينزلني . وقال الزجاج: يقال: ضفت الرجل: إذا نزلت عليه، وأضفته: إذا أنزلته وقريته . وقال ابن قتيبة: [ يقال ]: ضيفت الرجل: إذا أنزلته منزلة الأضياف، ومنه هذه الآية، وأضفته: أنزلته، وضفته: نزلت عليه . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " كانوا أهل قرية لئاما " .

قوله تعالى: " فوجدا فيها جدارا " ; أي: حائطا . قال ابن فارس: وجمعه [ ص: 176 ] جدر، والجدر: أصل الحائط . ومنه حديث الزبير: " ثم دع الماء يرجع إلى الجدر " ، والجيدر: القصير .

قول تعالى: " يريد أن ينقض " وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء: ( ينقاض ) بألف ممدودة وضاد معجمة . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: ( ينقاص ) بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد . قال الزجاج: فمعنى ينقض: يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة: ينشق طولا، يقال: انقاصت سنه: إذا انشقت . قال ابن مقسم: انقاصت سنه، وانقاضت - بالصاد والضاد -على معنى واحد .

فإن قيل: كيف نسبت الإرادة إلى ما لا يعقل ؟

فالجواب: أن هذا على وجه المجاز تشبيها بمن يعقل، ويريد: لأن هيأته في التهيؤ للوقوع قد ظهرت كما يظهر من أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالإرادة ; إذ كانت الصورتان واحدة، وقد أضافت العرب الأفعال إلى ما لا يعقل تجوزا، قال الله عز وجل: ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف: 154 ]، والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه، وقال: فإذا عزم الأمر [ محمد: 21 ]، وأنشدوا من ذلك:


إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان


وقال آخر: [ ص: 177 ]


يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل


وقال آخر:


ضحكوا والدهر عنهم ساكت ثم أبكاهم دما لما نطق


وقال آخر:


يشكو إلي جملي طول السرى [ صبرا جميلا فكلانا مبتلى ]


وهذا كثير في أشعارهم .

قوله تعالى: " فأقامه " ; أي: سواه ; لأنه وجده مائلا .

وفي كيفية ما فعل قولان: أحدهما: أنه دفعه بيده فقام . والثاني: هدمه ثم قعد يبنيه، روي القولان عن ابن عباس .

قوله تعالى: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( لتخذت ) بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لاتخذت ) وكلهم أدغموا، إلا حفصا عن عاصم، فإنه لم يدغم مثل ابن كثير . قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ في معنى: اتخذ يتخذ . وإنما قال له هذا ; لأنهم لم يضيفوهما .

قوله تعالى: " قال " يعني: الخضر، " هذا " يعني: الإنكار علي، " فراق بيني وبينك " ; أي: هو المفرق بيننا . قال الزجاج: المعنى: هذا فراق بيننا ; [ ص: 178 ] أي: فراق اتصالنا، وكرر ( بين ) توكيدا، ومثله في الكلام: أخزى الله الكاذب مني ومنك . وقرأ أبو رزين، وابن السميفع، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: ( هذا فراق ) بالتنوين ( بيني وبينك ) بنصب النون . قال ابن عباس: كان قول موسى في السفينة والغلام لربه، وكان قوله في الجدار لنفسه، لطلب شيء من الدنيا .
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

قوله تعالى: " فكانت لمساكين " في المراد بمسكنتهم قولان:

أحدهما: أنهم كانوا ضعفاء في أكسابهم . والثاني: في أبدانهم . وقال كعب: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر .

قوله تعالى: " فأردت أن أعيبها " ; أي: أجعلها ذات عيب، يعني: بخرقها، " وكان وراءهم " فيه قولان:

أحدهما: أمامهم، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: ( وكان أمامهم ملك ) .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #366  
قديم 13-11-2022, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (366)
صــ 179 إلى صــ 186




والثاني: خلفهم، قال الزجاج: وهو أجود الوجهين، فيجوز أن يكون رجوعهم في طريقهم كان عليه، ولم يعلموا بخبره، فأعلم الله تعالى الخضر خبره . [ ص: 179 ]

قوله تعالى: " يأخذ كل سفينة غصبا " ; أي: كل سفينة صالحة . وفي قراءة أبي [ بن كعب ]: ( كل سفينة صحيحة ) . قال الخضر: إنما خرقتها ; لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها .

قوله تعالى: " وأما الغلام " روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: ( وأما الغلام فكان كافرا ) . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " . قال الربيع بن أنس: كان الغلام على الطريق لا يمر به أحد إلا قتله أو غصبه، فيدعو ذلك عليه وعلى أبويه . وقال ابن السائب: كان الغلام لصا، فإذا جاء من يطلبه حلف أبواه أنه لم يفعل .

قوله تعالى: " فخشينا " في القائل لهذا قولان:

أحدهما: الله عز وجل . ثم في معنى الخشية المضافة إليه قولان: أحدهما: أنها بمعنى العلم . قال الفراء: معناه: فعلمنا . وقال ابن عقيل: المعنى: فعلنا فعل الخاشي . والثاني: الكراهة، قاله الأخفش والزجاج .

والثاني: أنه الخضر، فتكون الخشية بمعنى الخوف للأمر المتوهم، قاله ابن الأنباري . وقد استدل بعضهم على أنه من كلام الخضر بقوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " . قال الزجاج: المعنى: فأراد الله ; لأن لفظ الخبر عن الله تعالى هكذا أكثر من أن يحصى . ومعنى " يرهقهما " : يحملهما على الرهق، وهو الجهل . قال أبو عبيدة: " يرهقهما " : يغشيهما . قال سعيد بن جبير: خشينا [ ص: 180 ] أن يحملهما حبه على أن يدخلا في دينه . وقال الزجاج: فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فرضي امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره، خير له من قضائه فيما يحب .

قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم: ( أن يبدلهما ) بالتخفيف . وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد .

قوله تعالى: " خيرا منه زكاة " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: دينا، قاله ابن عباس . والثاني: عملا، قاله مقاتل . والثالث: صلاحا، قاله الفراء .

قوله تعالى: " وأقرب رحما " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( رحما ) ساكنة الحاء . وقرأ ابن عامر: ( رحما ) مثقلة . وعن أبي عمرو كالقراءتين . وقرأ ابن عباس، وابن جبير، وأبو رجاء: ( رحما ) بفتح الراء وكسر الحاء .

وفي معنى الكلام قولان:

أحدهما: أوصل للرحم وأبر للوالدين، قاله ابن عباس وقتادة . وقال الزجاج: أقرب عطفا وأمس بالقرابة . ومعنى الرحم والرحم في اللغة: العطف والرحمة، قال الشاعر:


وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم


والثاني: أقرب أن يرحما به، قاله الفراء . وفيما بدلا به قولان: [ ص: 181 ]

أحدهما: جارية، قاله الأكثرون . وروى عطاء عن ابن عباس، قال: أبدلهما به جارية ولدت سبعين نبيا .

والثاني: غلام مسلم، قاله ابن جريج .

قوله تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة " يعني: القرية المذكورة في قوله: " أتيا أهل قرية " ، قال مقاتل: واسمهما: أصرم وصريم .

قوله تعالى: " وكان تحته كنز لهما " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان ذهبا وفضة، رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: كان مالا .

والثاني: أنه كان لوحا من ذهب، فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي ; وفي الشق الآخر: أنا الله لا إلا إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن الأنباري: فسمي كنزا من جهة الذهب، وجعل اسمه هو المغلب .

والثالث: كنز علم، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال مجاهد: صحف فيها علم، وبه قال سعيد بن جبير والسدي . قال ابن الأنباري: فيكون المعنى على هذا القول: كان تحته مثل الكنز ; لأنه يتعجل من نفعه أفضل مما [ ص: 182 ] ينال من الأموال . قال الزجاج: والمعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد، فمعناه: المال المدفون المدخر، فإذا لم يكن المال، قيل: عنده كنز علم، وله كنز فهم، والكنز هاهنا بالمال أشبه، وجائز أن يكون الكنز كان مالا، مكتوب فيه علم، على ما روي، فهو مال وعلم عظيم .

قوله تعالى: " وكان أبوهما صالحا " قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحا . وقال جعفر بن محمد عليه السلام: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء . وقال مقاتل: كان أبوهما ذا أمانة .

قوله تعالى: " فأراد ربك " قال ابن الأنباري: لما كان قوله: ( فأردت ) ( وأردنا ) كل واحد منهما يصلح أن يكون خبرا عن الله عز وجل وعن الخضر، أتبعهما بما يحصر الإرادة عليه ويزيلها عن غيره، ويكشف البغية من اللفظتين الأوليين . وإنما قال: " فأردت، فأردنا، فأراد ربك " ; لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه مع تساوي المعاني ; لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعا في الأسماع، فيقول الرجل: قال لي فلان كذا، وأنبأني بما كان، وخبرني بما نال . فأما " الأشد " فقد سبق ذكره في مواضع [ الأنعام: 152، ويوسف: 22، والإسراء: 34 ]، ولو أن الخضر لم يقم الحائط لنقض، وأخذ ذلك الكنز قبل بلوغهما .

قوله تعالى: " رحمة من ربك " ; أي: رحمهما الله بذلك . " وما فعلته عن أمري " قال قتادة: كان عبدا مأمورا .

فأما قوله: " تسطع " فإن استطاع واسطاع بمعنى واحد . [ ص: 183 ]
ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا .

قوله تعالى: " ويسألونك عن ذي القرنين " قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [ الإسراء: 85 ] .

واختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال:

أحدها: عبد الله، قاله علي عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه عبد الله ابن الضحاك . والثاني: الإسكندر، قاله وهب . والثالث: عياش، قاله محمد بن علي بن الحسين . والرابع: الصعب بن جابر بن القلمس، ذكره ابن أبي خيثمة .

وفي علة تسميته بذي القرنين عشرة أقوال:

أحدها: أنه دعا قومه إلى الله تعالى، فضربوه على قرنه فهلك، فغبر زمانا ثم بعثه الله، فدعاهم إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فهلك، فذانك قرناه، قاله علي عليه السلام . والثاني: أنه سمي بذي القرنين ; لأنه سار إلى مغرب الشمس وإلى مطلعها، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس . والرابع: لأنه رأى في المنام كأنه امتد من السماء إلى الأرض وأخذ بقرني الشمس، فقص ذلك على قومه، فسمي بذي القرنين . الخامس: لأنه [ ص: 184 ] ملك الروم وفارس . والسادس: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، رويت هذه الأقوال الأربعة عن وهب بن منبه . والسابع: لأنه كانت له غديرتان من شعر، قاله الحسن . قال ابن الأنباري: والعرب تسمي الضفيرتين من الشعر: غديرتين، وجميرتين، وقرنين ; قال: ومن قال: سمي بذلك لأنه ملك فارس والروم، قال: لأنهما عاليان على جانبين من الأرض، يقال لهما: قرنان . والثامن: لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت ذوي شرف . والتاسع: لأنه انقرض في زمانه قرنان من الناس وهو حي . والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو إسحاق الثعلبي .

واختلفوا هل كان نبيا أم لا ؟ على قولين:

أحدهما: أنه كان نبيا، قاله عبد الله بن عمرو والضحاك بن مزاحم .

والثاني: أنه كان عبدا صالحا، ولم يكن نبيا ولا ملكا، قاله علي عليه السلام . وقال وهب: كان ملكا ولم يوح إليه .

وفي زمان كونه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه من القرون الأول من ولد يافث بن نوح، قاله علي عليه السلام .

والثاني: أنه كان بعد ثمود، قاله الحسن . ويقال: كان عمره ألفا وستمائة سنة .

والثالث: [ أنه ] كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، قاله وهب .

قوله تعالى: " سأتلو عليكم منه ذكرا " ; أي: خبرا يتضمن ذكره . " إنا مكنا له في الأرض " ; أي: سهلنا عليه السير فيها . قال علي عليه السلام: إنه أطاع الله فسخر له السحاب فحمله عليه، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان [ ص: 185 ] الليل والنهار عليه سواء . وقال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران ; فالمؤمنان: سليمان بن دواد وذو القرنين، والكافران: النمرود وبختنصر .

قوله تعالى: " وآتيناه من كل شيء سببا " قال ابن عباس: علما يتسبب به إلى ما يريد . وقيل: هو العلم بالطرق والمسالك .

قوله تعالى: " فأتبع سببا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( فأتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا ) مشددات التاء . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( فأتبع سببا ) ، ( ثم أتبع سببا )، ( ثم أتبع سببا ) مقطوعات . قال ابن الأنباري: من قرأ: ( فأتبع سببا ) فمعناه: قفا الأثر . ومن قرأ: ( فأتبع ) فمعناه: لحق، يقال: اتبعني فلان ; أي: تبعني، كما يقال: ألحقني فلان، بمعنى: لحقني . وقال أبو علي: ( أتبع ) تقديره: أتبع سببا سببا، فأتبع ما هو عليه سببا، والسبب: الطريق، والمعنى: تبع طريقا يؤديه إلى مغرب الشمس . وكان إذا ظهر على قوم أخذ منهم جيشا، فسار بهم إلى غيرهم .

قوله تعالى: " وجدها تغرب في عين حمئة " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: ( حمئة )، وهي [ قراءة ابن عباس . وقرأ ] ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ( حامية )، وهي قراءة عمرو، وعلي، وابن مسعود، والزبير، ومعاوية، وأبي عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، وأبي جعفر، وشيبة، وابن محيصن، والأعمش، كلهم لم يهمز . قال الزجاج: فمن قرأ: ( حمئة ) أراد: في عين ذات حمأة، يقال: حمأت البئر: إذا أخرجت حمأتها، وأحمأتها: إذا ألقيت فيها الحمأة . [ وحمئت ] فهي حمئة: إذا صارت فيها الحمأة . ومن قرأ: ( حامية ) بغير همز، أراد: حارة . وقد تكون حارة ذات حمأة . وروى قتادة عن الحسن، قال: [ ص: 186 ] وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور، " ووجد عندها قوما " لباسهم جلود السباع، وليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس من الدواب إذا غربت نحوها، وما لفظت العين من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس . وقال ابن السائب: وجد عندها قوما مؤمنين وكافرين، يعني: عند العين . وربما توهم متوهم أن هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في عين ماء، وليس كذلك، فإنها أكبر من الدنيا مرارا، فكيف تسعها عين [ ماء ؟ وقيل: إن الشمس بقدر الدنيا مائة وخمسين مرة، وقيل: بقدر الدنيا مائة وعشرين مرة، والقمر بقدر الدنيا ثمانين مرة ] . وإنما وجدها تغرب في العين كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان، فوجد عينا حمئة ليس بعدها أحد .

قوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين " فمن قال: إنه نبي، قال: هذا القول وحي، ومن قال: ليس بنبي، قال: هذا إلهام .

قوله تعالى: " إما أن تعذب " قال المفسرون: إما أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه، وإما أن تأسرهم فتبصرهم الرشد . " قال أما من ظلم " ; أي: أشرك، " فسوف نعذبه " بالقتل إذا لم يرجع عن الشرك . وقال الحسن: كان يطبخهم في القدور، " ثم يرد إلى ربه " بعد العذاب، " فيعذبه عذابا نكرا " بالنار .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #367  
قديم 13-11-2022, 10:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (367)
صــ 187 إلى صــ 194



قوله تعالى: " فله جزاء الحسنى " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( جزاء الحسنى ) برفع مضاف . قال الفراء: " الحسنى " : الجنة، وأضيف الجزاء إليها، وهي الجزاء، كقوله: وإنه لحق اليقين [ الحاقة: 51 ]، و دين القيمة [ البينة: 5 ]، ولدار الآخرة [ النحل: 30 ] . قال أبو علي الفارسي: المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى ; لأن الإيمان والعمل الصالح خلال . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ويعقوب: ( جزاء ) [ ص: 187 ] بالنصب والتنوين . قال الزجاج: وهو مصدر منصوب على الحال، المعنى: فله الحسنى مجزيا بها جزاء . وقال ابن الأنباري: وقد يكون الجزاء غير الحسنى، إذا تأول الجزاء بأنه الثواب، والحسنى: الحسنة المكتسبة في الدنيا، فيكون المعنى: فله ثواب ما قدم من الحسنات .

قوله تعالى: " وسنقول له من أمرنا يسرا " ; أي: نقول له قولا جميلا .
ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا .

قوله تعالى: " ثم أتبع سببا " ; أي: طريقا آخر يوصله إلى المشرق . قال قتادة: مضى يفتح المدائن، ويجمع الكنوز، ويقتل الرجال، إلا من آمن، حتى أتى مطلع الشمس، فأصاب قوما في أسراب عراة، ليس لهم طعام إلا ما أحرقت الشمس إذا طلعت، فإذا توسطت السماء خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم مما أحرقته الشمس . وبلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، فيقال: إنهم الزنج . قال الحسن: كانوا إذا غربت الشمس خرجوا يتراعون كما يتراعى الوحش . وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محيصن: ( مطلع الشمس ) بفتح اللام . قال ابن الأنباري: ولا خلاف بين أهل العربية في أن المطلع والمطلع كلاهما يعنى بهما المكان الذي تطلع منه الشمس . ويقولون: ما كان على فعل يفعل ، فالمصدر واسم الموضع يأتيان على المفعل، كقولهم: المدخل للدخول، والموضع الذي يدخل منه، إلا أحد عشر حرفا جاءت مكسورة، إذا أريد بها المواضع، وهي: المطلع، والمسكن، والمنسك، والمشرق، والمغرب، والمسجد، والمنبت، والمجزر، والمفرق، والمسقط، [ ص: 188 ] والمهبل الموضع الذي تضع فيه الناقة ; وخمسة من هؤلاء الأحد عشر حرفا سمع فيهن الكسر والفتح: المطلع والمطلع، والمنسك والمنسك، والمجزر والمجزر، والمسكن والمسكن، والمنبت والمنبت ; فقرأ الحسن على الأصل من احتمال المفعل الوجهين الموصوفين [ بفتح العين وكسرها ]، وقراءة العامة على اختيار العرب وما كثر على ألسنتها، وخصت الموضع بالكسر وآثرت المصدر بالفتح . قال أبو عمرو: ( المطلع ) بالكسر: الموضع الذي تطلع فيه، و( المطلع ) بالفتح: الطلوع . قال ابن الأنباري: هذا هو الأصل، ثم إن العرب تتسع فتجعل الاسم نائبا عن المصدر، فيقرؤون: ( حتى مطلع الفجر ) [ القدر: 5 ] بالكسر، وهم يعنون: الطلوع ; ويقرأ من قرأ: ( مطلع الشمس ) بالفتح على أنه موضع بمنزلة المدخل الذي هو اسم للموضع الذي يدخل منه .

قوله تعالى: " كذلك " فيه أربعة أقوال:

أحدها: كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها .

والثاني: أتبع سببا كما أتبع سببا .

والثالث: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم، كذلك وجد هؤلاء عند مطلعها وحكم فيهم .

والرابع: أن المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك، ثم استأنف فقال: " وقد أحطنا بما لديه " ; أي: بما عنده ومعه من الجيوش والعدد . وحكى أبو سليمان الدمشقي: " بما لديه " ; أي: بما عند مطلع الشمس . وقد سبق معنى الخبر [ الكهف: 68 ] .

ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن [ ص: 189 ] يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

قوله تعالى: " ثم أتبع سببا " ; أي: طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب، " حتى إذا بلغ بين السدين " قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية . وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: الجبلان من قبل أرمينية وأذربيجان . واختلف القراء في " السدين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين . وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضمها .

وهل المعنى واحد أم لا ؟ فيه قولان:

أحدها: أنه واحد . قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه، فهو سد وسد، نحو: الضعف والضعف، والفقر والفقر . قال الكسائي وثعلب: السد والسد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج .

والثاني: أنهما يختلفان .

وفي الفرق بينهما قولان:

أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل [ ص: 190 ] الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة . قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين .

والثاني: أن ( السد ) بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، و( السد ) بضمها: الغشاوة في العين، قاله أبو عمرو بن العلاء .

قوله تعالى: " وجد من دونهما " يعني: أمام السدين، " قوما لا يكادون يفقهون قولا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( يفقهون قولا ) بفتح الياء ; أي: لا يكادون يفهمونه . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: معناه: أنهم يفهمون بعد إبطاء، وهو كقوله: وما كادوا يفعلون [ البقرة: 71 ] . قال المفسرون: وإنما كانوا كذلك ; لأنهم لا يعرفون غير لغتهم . وقرأ حمزة والكسائي: ( يفقهون ) بضم الياء، أراد: يفهمون غيرهم . وقيل: كلم ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا .

قوله تعالى: " إن يأجوج ومأجوج " هما اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم . قال الليث: الهمز لغة رديئة . قال ابن عباس: يأجوج رجل ومأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء، وهم شبر وشبران وثلاثة أشبار . وقال علي عليه السلام: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، ولهم من الشعر ما يواريهم من الحر والبرد . وقال الضحاك: هم جيل من الترك . وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجه . وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: " يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة [ ألف ] أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه كل قد [ ص: 191 ] حمل السلاح . قلت: يا رسول الله ; صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز . قلت: يا رسول الله ; وما الأرز ؟ قال: شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش، ولا جمل ولا خنزير، إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية " .

قوله تعالى: " مفسدون في الأرض " في هذا الفساد أربعة أقوال:

أحدها: أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط، قاله وهب بن منبه .

والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز .

والثالث: يخرجون إلى الأرض الذين شكوا منهم أيام الربيع، فلا يدعون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه إلى أرضهم، قاله ابن السائب .

والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجا " قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم: ( خرجا ) بغير ألف . وقرأ حمزة والكسائي: ( خراجا ) بألف . وهل بينهما فرق ؟ فيه قولان:

أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة والليث .

والثاني: أن الخرج ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء . قال المفسرون: المعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك ؟ [ ص: 192 ]

قوله تعالى: " ما مكني " وقرأ ابن كثير: ( مكنني ) بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة . قال الزجاج: من قرأ: ( مكني ) بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونين . ومن قرأ: ( مكنني ) أظهر النونين ; لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر .

وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان:

أحدهما: أنه العلم بالله وطلب ثوابه .

والثاني: ما ملك من الدنيا . والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي .

قوله تعالى: " فأعينوني بقوة " فيها قولان:

أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد ومقاتل .

والثاني: الآلة، قاله ابن السائب . فأما الردم فهو الحاجز ; قال الزجاج: والردم في اللغة أكبر من السد ; لأن الردم: ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم: إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة .

قوله تعالى: " آتوني زبر الحديد " قرأ الجمهور: ( ردما آتوني ) ; أي: أعطوني . وروى أبو بكر عن عاصم: ( ردم ايتوني ) بكسر التنوين ; أي: جيئوني بها . قال ابن عباس: احملوها إلي . وقال مقاتل: أعطوني . وقال الفراء: المعنى: إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف . فأما الزبر فهي القطع، واحدتها: زبرة، والمعنى: فأتوه بها فبناه، " حتى إذا ساوى " روى أبان: ( إذا سوى ) بتشديد الواو من غير ألف . قال الفراء: ساوى وسوى سواء . واختلف القراء في " الصدفين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( الصدفين ) بضم الصاد والدال، وهي لغة حمير . وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: ( الصدفين ) بضم الصاد وتسكين الدال . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، [ ص: 193 ] وحفص عن عاصم، وخلف بفتح الصاد والدال جمعيا، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب . وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر: ( الصدفين ) بفتح الصاد ورفع الدال . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال . قال ابن الأنباري: ويقال: صدف، على مثال: نغر، وكل هذه لغات في الكلمة . قال أبو عبيدة: الصدفان: جنبا الجبل . قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل: صدفان، إذا تحاذيا لتصادفهما ; أي: لتلاقيهما . قال المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم " قال انفخوا " فنفخوا، " حتى إذا جعله " يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إلى ما بين الصدفين، " نارا " ; أي: كالنار ; لأن الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار . " قال آتوني " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( آتوني ) ممدودة، والمعنى: أعطوني . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: ( إيتوني ) مقصورة، والمعنى: جيئوني به أفرغه عليه .

وفي القطر أربعة أقوال:

أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج . والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة . والثالث: الصفر المذاب، قاله مقاتل . والرابع: الرصاص، حكاه ابن الأنباري . قال المفسرون: أذاب القطر ثم صبه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر . قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء .

قوله تعالى: " فما اسطاعوا " أصله: فما استطاعوا، فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد، أحبوا التخفيف فحذفوا . قال ابن الأنباري: إنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفا، كما قالوا: سوف يقوم، وسيقوم، فأسقطوا الفاء . [ ص: 194 ]

قوله تعالى: " أن يظهروه " ; أي: يعلوه، يقال: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه، والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وإملاسه . " وما استطاعوا له نقبا " من أسفله ; لشدته وصلابته . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعودون إليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس " ، وذكر باقي الحديث، وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب " الحدائق " فكرهت التطويل هاهنا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #368  
قديم 13-11-2022, 10:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (368)
صــ 195 إلى صــ 202




قوله تعالى: " قال هذا رحمة من ربي " لما فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا . وفيما أشار إليه قولان: [ ص: 195 ]

أحدهما: أنه الردم، قاله مقاتل، قال: فالمعنى: هذا نعمة من ربي على المسلمين ; لئلا يخرجوا إليهم .

والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج .

قوله تعالى: " فإذا جاء وعد ربي " فيه قولان:

أحدهما: القيامة . والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج .

قوله تعالى: " جعله دكا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( دكا ) منونا غير مهموز ولا ممدود . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( دكاء ) ممدودة مهموزة بلا تنوين . وقد شرحنا معنى الكلمة في ( الأعراف: 143 ) .

قوله تعالى: " وكان وعد ربي حقا " ; أي: بالثواب والعقاب .
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .

قوله تعالى: " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " في المشار إليهم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم يأجوج ومأجوج . ثم في المراد بـ " يومئذ " قولان: أحدهما: أنه يوم انقضى أمر السد، تركوا يموج بعضهم في بعض من ورائه مختلطين لكثرتهم، وقيل: ماجوا متعجبين من السد . والثاني: أنه يوم يخرجون من السد، تركوا يموج بعضهم في بعض .

والثاني: أنهم الكفار .

والثالث: أنهم جميع الخلائق ; الجن والإنس يموجون حيارى . فعلى هذين القولين، المراد باليوم المذكور: يوم القيامة . [ ص: 196 ]

قوله تعالى: " ونفخ في الصور " هذه نفخة البعث . وقد شرحنا معنى " الصور " في ( الأنعام: 73 ) .

قوله تعالى: " وعرضنا جهنم " ; أي: أظهرناها لهم حتى شاهدوها .

قوله تعالى: " الذين كانت أعينهم " ، يعني: أعين قلوبهم " في غطاء " ; أي: في غفلة " عن ذكري " ; أي: عن توحيدي والإيمان بي وبكتابي، " وكانوا لا يستطيعون سمعا " هذا لعداوتهم وعنادهم، وكراهتهم ما ينذرون به، كما تقول لمن يكره قولك: ما تقدر أن تسمع كلامي .
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا .

قوله تعالى: " أفحسب الذين كفروا " ; أي: أفظن المشركون " أن يتخذوا عبادي " في هؤلاء العباد ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس . والثاني: الأصنام، قاله مقاتل . والثالث: الملائكة، والمسيح، وعزير، وسائر المعبودات من دونه، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى: " من دوني " فتح هذه الياء نافع وأبو عمرو . وجواب الاستفهام في هذه الآية محذوف، وفي تقديره قولان:

أحدهما: أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء، كلا بل هم أعداء لهم يتبرؤون منهم .

والثاني: أن يتخذوهم أولياء ولا أغضب ولا أعاقبهم . وروى أبان عن عاصم، وزيد عن يعقوب: ( أفحسب ) بتسكين السين وضم الباء، وهي قراءة علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن يعمر، وابن محيصن، ومعناها: أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء ؟ [ ص: 197 ]

فأما ( النزل ) ففيه قولان:

أحدهما: أنه ما يهيأ للضيف والعسكر، قاله ابن قتيبة .

والثاني: أنه المنزل، قاله الزجاج .
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .

قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " فيهم قولان:

أحدهما: أنهم القسيسون والرهبان، قاله علي عليه السلام والضحاك .

والثاني: اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص .

قوله تعالى: " أعمالا " منصوب على التمييز ; لأنه لما قال: " بالأخسرين " كان ذلك مبهما لا يدل على ما خسروه، فبين ذلك في أي نوع وقع .

قوله تعالى: " الذين ضل سعيهم " ; أي: بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم، فرؤساؤهم يعلمون الصحيح ويؤثرون الباطل لبقاء رئاستهم، وأتباعهم مقلدون بغير دليل . " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم " جحدوا دلائل توحيده وكفروا بالبعث والجزاء، وذلك أنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، صاروا كافرين بهذه الأشياء، " فحبطت أعمالهم " ; أي: بطل اجتهادهم ; لأنه خلا عن الإيمان، " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وقرأ ابن مسعود والجحدري: ( فلا يقيم ) بالياء . [ ص: 198 ]

وفي معناه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة، وإنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له .

والثاني: أن المعنى: لا نقيم لهم قدرا . قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن ; أي: قدر ; لخسته . فالمعنى: أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب، فلا يزن جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " .

والثالث: أنه قال: " فلا نقيم لهم " ; لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ذلك جزاؤهم " ; أي: الأمر ذلك الذي ذكرت من بطلان عملهم وخسة قدرهم، ثم ابتدأ فقال: " جزاؤهم جهنم " ، وقيل: المعنى: ذلك التصغير لهم وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال .

قوله تعالى: " بما كفروا " ; أي: بكفرهم واتخاذهم " آياتي " التي أنزلتها " ورسلي هزوا " ; أي: مهزوءا به . [ ص: 199 ]

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .

قوله تعالى: " كانت لهم جنات الفردوس " قال ابن الأنباري: كانت لهم في علم الله قبل أن يخلقوا . وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيها، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس " . قال أبو أمامة: الفردوس: سرة الجنة . قال مجاهد: الفردوس: البستان بالرومية . وقال كعب والضحاك: جنات الفردوس: جنات الأعناب . قال الكلبي والفراء: الفردوس: البستان الذي فيه الكرم . وقال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، [ ص: 200 ] والأغلب عليه العنب . وقال ثعلب: كل بستان يحوط عليه فهو فردوس، قال عبد الله بن رواحة:

في جنات الفردوس ليس يخافون خروجا عنها ولا تحويلا

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: قال الزجاج: الفردوس أصله رومي أعرب، وهو البستان، كذلك جاء في التفسير، وقد قيل: الفردوس تعرفه العرب، وتسمي الموضع الذي فيه كرم: فردوسا . وقال أهل اللغة: الفردوس مذكر، وإنما أنث في قوله تعالى: يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ المؤمنون: 11 ] ; لأنه عنى به الجنة . وقال الزجاج: وقيل: الفردوس: الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، وقيل: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، قال: والفردوس أيضا بالسريانية كذا لفظه: فردوس، قال: ولم نجده في أشعار العرب إلا في شعر حسان، وحقيقته أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين ; لأنه عند أهل كل لغة كذلك، وبيت حسان:


فإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد


وقال ابن الكلبي بإسناده: الفردوس: البستان بلغة الروم . وقال الفراء: وهو عربي أيضا، والعرب تسمي البستان الذي فيه الكرم فردوسا . وقال السدي: الفردوس أصله بالنبطية ( فرداسا ) . وقال عبد الله بن الحارث: الفردوس: الأعناب . وقد شرحنا معنى قوله: " نزلا " آنفا .

قوله تعالى: " لا يبغون عنها حولا " قال الزجاج: لا يريدون عنها تحولا، [ ص: 201 ] يقال: قد حال من مكانه حولا، كما قالوا في المصادر: صغر صغرا، وعظم عظما، وعادني حبها عودا، قال: وقد قيل أيضا: إن الحول: الحيلة، فيكون المعنى: لا يحتالون منزلا غيرها .

فإن قيل: قد علم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم يبغون عنها حولا ؟

فالجواب: أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إلى دار أخرى، وقد يمل، والجنة على خلاف ذلك .
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

قوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء: 85 ]، قالت اليهود: كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس . ومعنى الآية: لو كان ماء البحر مدادا يكتب به . قال مجاهد: [ والمعنى ]: لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب . قال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء . وقرأ الحسن والأعمش: ( مددا لكلمات ربي ) بغير ألف .

قوله تعالى: " قبل أن تنفد كلمات ربي " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم: ( تنفد) بالتاء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( ينفد ) بالياء . قال أبو علي: التأنيث أحسن ; لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن ; لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإنما لم تنفد كلمات الله ; لأن كلامه صفة من صفات [ ص: 202 ] ذاته، ولا يتطرق على صفاته النفاد . " ولو جئنا بمثله " ; أي: بمثل البحر " مددا " ; أي: زيادة، والمدد: كل شيء زاد في شيء .

فإن قيل: لم قال في أول الآية: " مدادا " ، وفي آخرها: " مددا " ، وكلاهما بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف ؟

فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: لما كان الثاني آخر آية، وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفعل والفعل، كقوله: " نزلا " ، " هزوا " ، " حولا " ، كان قوله: " مددا " أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد، واتفاق المقاطع عند أواخر الآي، وانقضاء الأبيات، وتمام السجع والنثر، أخف على الألسن وأحلى موقعا في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه [ العلة ] . وقد قرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن: ( ولو جئنا بمثله مدادا )، فحملوها على الأولى ولم ينظروا إلى المقاطع . وقراءة الأولين أبين حجة وأوضح منهاجا .
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم " قال ابن عباس: علم الله تعالى رسوله التواضع ; لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #369  
قديم 13-11-2022, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (369)
صــ 203 إلى صــ 210


قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه " سبب نزولها أن جندب بن زهير الغامدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل [ لله تعالى ]، فإذا اطلع عليه [ ص: 203 ] سرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، ولا يقبل ما روئي فيه " ، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن عباس . وقال طاووس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الجهاد [ في سبيل الله ]، وأحب أن يرى مكاني، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيذكر ذلك مني وأحمد عليه، فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية .

وفي قوله: " فمن كان يرجو " قولان: أحدهما: يخاف، قاله ابن قتيبة . والثاني: يأمل، وهو اختيار الزجاج . وقال ابن الأنباري: المعنى: فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه . قال المفسرون: وذلك يوم البعث والجزاء . " فليعمل عملا صالحا " لا يرائي به، " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " قال سعيد بن جبير: لا يرائي . قال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن .
[ ص: 204 ]

سُورَةُ مَرْيَمَ

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ سَجْدَتِهَا فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ . وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ الْمُفَسِّرُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آَيَتَيْنِ مِنْهَا، قَوْلُهُ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَالَّتِي تَلِيهَا [ مَرْيَمَ: 59، 60 ] .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " كهيعص " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ( كَهَيَعص ذِكْرُ ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ، وَتَبْيِينِ الدَّالِ الَّتِي فِي هِجَاءِ ( صَادٍ ) . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: ( كَهَيَعص ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَيُدْغِمُ الدَّالَ فِي الذَّالِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَلْفِظُ بِالْهَاءِ وَالْيَاءِ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَلَا يُدْغِمُ الدَّالَ الَّتِي فِي هِجَاءِ ( صَادٍ ) فِي الذَّالِ مِنْ ( ذِكْرِ ) . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْكِسَائِيُّ لَا يُبَيِّنُ الدَّالَ، وَعَاصِمٌ [ ص: 205 ] يُبَيِّنُهَا . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَيُدْغِمَانِ . وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: ( كَهُيَعص ) بِرَفْعِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ ( الْبَقَرَةِ ) مَا يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْمَذْكُورَةَ هَاهُنَا بِأَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْكَافِ مِنْ أَيِّ اسْمٍ هُوَ، عَلَى أَرْبَعَةِ . أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ . وَالثَّانِي: مِنَ الْكَرِيمِ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الْكَافِي، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلِكِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ . فَأَمَّا الْهَاءُ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: هِيَ مِنِ اسْمِهِ الْهَادِي، إِلَّا الْقُرَظِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: مِنِ اسْمِهِ اللَّهُ . وَأَمَّا الْيَاءُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ حَكِيمٍ . وَالثَّانِي: مِنْ رَحِيمٍ . وَالثَّالِثُ: مِنْ أَمِينٍ، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَأَمَّا الْعَيْنُ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ عَلِيمٍ . وَالثَّانِي: مِنْ عَالِمٍ . وَالثَّالِثُ: مِنْ عَزِيزٍ، رَوَاهَا أَيْضًا سَعِيدُ [ بْنُ جُبَيْرٍ ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا مِنْ عَدْلٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . وَأَمَّا الصَّادُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنْ صَادِقٍ . وَالثَّانِي: مِنْ صَدُوقٍ، رَوَاهُمَا سَعِيدُ [ بْنُ جُبَيْرٍ ] أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الصَّمَدِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ " كهيعص " قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: [ يَا ] كهيعص اغْفِرْ لِي . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَسَمُ بِهَذَا وَالدُّعَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ يَدُلُّ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ فَدَعَا بِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا كَافِي، [ ص: 206 ] يَا هَادِي، يَا عَالِمُ، يَا صَادِقُ، وَإِذَا أَقْسَمَ بِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَافِي الْهَادِي الْعَالِمُ الصَّادِقُ، وَأُسْكِنَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ ; لِأَنَّهَا حُرُوفُ تَهَجٍّ، النِّيَّةُ فِيهَا الْوَقْفُ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ .

وَالرَّابِعُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالُوا: هَايَا، وَلَمْ يَقُولُوا فِي الْكَافِ: كَا، وَفِي الْعَيْنِ: عَا، وَفِي الصَّادِ: صَا، لِتَتَّفِقَ الْمَبَانِي كَمَا اتَّفَقَتِ الْعِلَلُ ؟

فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، فَقَالَ: حُرُوفُ الْمُعْجَمِ التِّسْعَةُ وَالْعِشْرُونَ تَجْرِي مَجْرَى الرِّسَالَةِ وَالْخُطْبَةِ، فَيَسْتَقْبِحُونَ فِيهَا اتِّفَاقَ الْأَلْفَاظِ وَاسْتِوَاءَ الْأَوْزَانِ، كَمَا يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ فِي خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ، فَيُغَيِّرُونَ بَعْضَ الْكَلِمِ لِيَخْتَلِفَ الْوَزْنُ وَتَتَغَيَّرَ الْمَبَانِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْذَبَ عَلَى الْأَلْسُنِ وَأَحْلَى فِي الْأَسْمَاعِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ " قَالَ الزَّجَّاجُ: الذِّكْرُ مَرْفُوعٌ بِالْمُضْمَرِ، الْمَعْنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُو عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى: ذِكْرُ رَبِّكَ عَبْدَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَ " زَكَرِيَّا " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " إِذْ نَادَى رَبَّهُ " النِّدَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ .

وَفِي عِلَّةِ إِخْفَائِهِ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ .

وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يَسْأَلُ الْوَلَدَ عَلَى الْكِبَرِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يُعَادِيَهُ بَنُو عَمِّهِ وَيَظُنُّوا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَلُوا مَكَانَهُ بَعْدَهُ، ذَكَرَهُ [ ص: 207 ] أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِسْرَارُ الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ " .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي " وَقَرَأَ مُعَاذُ الْقَارِئُ وَالضَّحَّاكُ: ( وَهُنَ ) بِضَمِّ الْهَاءِ ; أَيْ: ضَعُفَ . قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: وَهَنَ الْعَظْمُ، وَوَهِنَ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْمُسْتَقْبَلُ عَلَى الْحَالَيْنِ كِلَيْهِمَا: يَهِنُ . وَأَرَادَ أَنَّ قُوَّةَ عِظَامِهِ قَدْ ذَهَبَتْ لِكِبَرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَظْمَ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي التَّرْكِيبِ . وَقَالَ قَتَادَةُ: شَكَا ذَهَابَ أَضْرَاسِهِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا " يَعْنِي: انْتَشَرَ الشَّيْبُ فِيهِ كَمَا يَنْتَشِرُ شُعَاعُ النَّارِ فِي الْحَطَبِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَاتِ . " وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ " ; أَيْ: بِدُعَائِي إِيَّاكَ، " رَبِّ شَقِيًّا " ; أَيْ: لَمْ أَكُنْ أَتْعَبُ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ أَخِيبُ ; لِأَنَّكَ قَدْ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ، يُقَالُ: شَقِيَ فُلَانٌ بِكَذَا: إِذَا تَعِبَ بِسَبَبِهِ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ " يَعْنِي: الَّذِينَ يَلُونَهُ فِي النَّسَبِ، وَهُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعُصْبَةِ، " مِنْ وَرَائِي " ; أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي .

وَفِي مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَرِثُوهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . [ ص: 208 ]

فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ فَقَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُنَفِّسَ عَلَى قَرَابَاتِهِ بِالْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟

فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا، وَالنَّبِيُّ لَا يُورَثُ، خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ فَيَأْخُذُوا مَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْبَشَرِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّى مَالَهُ وَلَدُهُ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

قُلْتُ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَلَّى مَالَهُ وَإِنْ َلَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا، فَأَحَبَّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَدُهُ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَافَ تَضْيِيعَهُمْ لِلدِّينِ وَنَبْذَهُمْ إِيَّاهُ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .

وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ أَبِي شُرَيْحٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ: ( خَفَّتْ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى ( قَلَّتْ ) ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِنَّمَا خَافَ عَلَى عِلْمِهِ وَنُبُوَّتِهِ أَلَّا يُورَثَا فَيَمُوتُ الْعِلْمُ . وَأَسْكَنَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ يَاءَ ( الْمَوَالِيَ ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " مِنْ وَرَائِي " أَسْكَنَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ الْيَاءَ، وَفَتَحَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ قُنْبُلٍ . وَرَوَى عَنْهُ شِبْلٌ: ( وَرَايَ )، مِثْلُ: ( عَصَايَ ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ " ; أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، " وَلِيًّا " ; أَيْ: وَلَدًا صَالِحًا يَتَوَلَّانِي .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ " قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ ) بِرَفْعِهِمَا . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: ( يَرِثْنِي وَيَرِثْ ) بِالْجَزْمِ فِيهِمَا . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ [ ص: 209 ] فَهُوَ عَلَى الصِّفَةِ لِلْوَلِيِّ، فَالْمَعْنَى: هَبْ لِي وَلِيًّا وَارِثًا، وَمَنْ جَزَمَ فَعَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ وَهَبْتَهُ لِي وَرِثَنِي .

وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا المِيرَاثِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: يَرِثُنِي مَالِي، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو صَالِحٍ .

وَالثَّانِي: يَرْثِي الْعِلْمَ، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ الْمُلْكَ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ دُونَ الْمُلْكِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .

وَالثَّالِثُ: يَرِثُنِي نُبُوَّتِي وَعِلْمِي، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ أَيْضًا، قَالَهُ الْحَسَنُ .

وَالرَّابِعُ: يَرِثُنِي النُّبُوَّةَ، وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ الْأَخْلَاقَ، قَالَهُ عَطَاءٌ . قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ زَكَرِيَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ آَلَ يَعْقُوبَ كَانُوا أَخْوَالَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِيَعْقُوبَ أَبِي يُوسُفَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ هَذَا وَعِمْرَانَ - أَبُو مَرْيَمَ - أَخَوَيْنِ .

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِيرَاثَ الْمَالِ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ " . [ ص: 210 ]

وَالثَّانِي: [ أَنَّهُ ] لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَسَّفَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَى مَصِيرِ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِذَا وَصَلَ إِلَى وَارِثِهِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ شَرْعًا .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: أَيْ: مَرْضِيًّا، فَصُرِفَ عَنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا قَالُوا: مَقْتُولٌ وَقَتِيلٌ .
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

قوله تعالى: " يا زكريا إنا نبشرك " في الكلام إضمار، تقديره: فاستجاب الله له، فقال: " يا زكريا إنا نبشرك " . وقرأ حمزة: ( نبشرك ) بالتخفيف . وقد شرحنا هذا في ( آل عمران: 39 ) .

قوله تعالى: " لم نجعل له من قبل سميا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: لم يسم يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن زيد، والأكثرون .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #370  
قديم 13-11-2022, 10:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (370)
صــ 211 إلى صــ 218




فإن اعترض معترض فقال: ما وجه المدحة باسم لم يسم به أحد قبله، [ ص: 211 ] ونرى كثيرا من الأسماء لم يسبق إليها ؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولى تسميته، ولم يكل ذلك إلى أبويه، فسماه باسم لم يسبق إليه .

والثاني: لم تلد العواقر مثله ولدا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى: لم نجعل له نظيرا .

والثالث: لم نجعل له من قبل مثلا وشبها، قاله مجاهد . فعلى هذا يكون عدم الشبه من حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية . وما بعد هذا مفسر في ( آل عمران: 39 ) إلى قوله: " وكانت امرأتي عاقرا " .

وفي معنى " كانت " قولان:

أحدهما: أنه توكيد للكلام، فالمعنى: وهي عاقر، كقوله: كنتم خير أمة [ آل عمران: 110 ] ; أي: أنتم .

والثاني: أنها كانت منذ كانت عاقرا، لم يحدث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار الأول .

قوله تعالى: " وقد بلغت من الكبر عتيا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( عتيا )، و( بكيا ) [ مريم: 58 ]، و( صليا ) [ مريم: 70 ] بضم أوائلها . وقرأ حمزة والكسائي بكسر أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إلا في قوله: ( بكيا ) فإنه ضم أوله . وقرأ ابن عباس ومجاهد: ( عسيا ) بالسين . قال مجاهد: ( عتيا ): هو قحول العظم . وقال ابن قتيبة ; أي: يبسا، يقال: عتا وعسا بمعنى واحد . قال الزجاج: كل شيء انتهى فقد عتا يعتو عتيا، وعتوا وعسوا وعسيا .

قوله تعالى: " قال كذلك " ; أي: الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكبر، " قال ربك هو علي هين " ; أي: خلق يحيى علي سهل . [ ص: 212 ] وقرأ معاذ القارئ وعاصم الجحدري: ( هين ) بإسكان الياء . " وقد خلقتك من قبل " ; أي: أوجدتك . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( خلقتك ) . وقرأ حمزة والكسائي: ( خلقناك ) بالنون والألف . " ولم تك شيئا " المعنى: فخلق الولد كخلقك . وما بعد هذا مفسر في ( آل عمران: 39 ) إلى قوله: " ثلاث ليال سويا " . قال الزجاج: " سويا " منصوب على الحال، والمعنى: تمنع عن الكلام وأنت سوي . قال ابن قتيبة ; أي: سليما غير أخرس .

قوله تعالى: " فخرج على قومه " وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها امرأته، " من المحراب " ; أي: من مصلاه، وقد ذكرناه في ( آل عمران: 39 ) .

قوله تعالى: " فأوحى إليهم " فيه قولان:

أحدهما: أنه كتب إليهم في كتاب، قاله ابن عباس .

والثاني: أومأ برأسه ويديه، قاله مجاهد .

قوله تعالى: " أن سبحوا " ; أي: صلوا، " بكرة وعشيا " قد شرحناه في ( آل عمران: 39 )، والمعنى: أنه كان يخرج إلى قومه فيأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا، فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة إشارة .
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

قوله تعالى: " يا يحيى " قال الزجاج: المعنى: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى، " خذ الكتاب " يعني: التوراة، وكان مأمورا بالتمسك بها . وقال ابن الأنباري: [ ص: 213 ] المعنى: اقبل كتب الله كلها إيمانا بها واستعمالا لأحكامها . وقد شرحنا في ( البقرة: 63 ) معنى قوله: " بقوة " .

قوله تعالى: " وآتيناه الحكم " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد . والثاني: اللب، قاله الحسن وعكرمة . والثالث: العلم، قاله ابن السائب . والرابع: حفظ التوراة وعلمها، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد زدنا هذا شرحا في سورة ( يوسف: 23 ) . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: من قرأ القرآن [ من ] قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحكم صبيا .

فأما قوله: " صبيا " ففي سنه يوم أوتي الحكم قولان:

أحدهما: أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني: ثلاث سنين، قاله قتادة ومقاتل .

قوله تعالى: " وحنانا من لدنا " قال الزجاج: أي: وآتيناه حنانا . وقال ابن الأنباري: المعنى: وجعلناه حنانا لأهل زمانه .

وفي الحنان ستة أقوال:

أحدها: أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد:


تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا


[ ص: 214 ] قال: وعامة ما يستعمل في المنطق على لفظ الاثنين، قال طرفة:


أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض


قال ابن قتيبة: ومنه يقال: تحنن علي، وأصله من حنين الناقة على ولدها . وقال ابن الأنباري: لم يختلف اللغويون أن الحنان: الرحمة، والمعنى: فعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له . والثاني: أنه التعطف من ربه عليه، قاله مجاهد . والثالث: أنه اللين، قاله سعيد بن جبير . والرابع: البركة، وروي عن ابن جبير أيضا . والخامس: المحبة، قاله عكرمة وابن زيد . والسادس: التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح .

وفي قوله: " وزكاة " أربعة أقوال:

أحدها: أنها العمل الصالح، قاله الضحاك وقتادة .

والثاني: أن معنى الزكاة: الصدقة، فالتقدير: إن الله تعالى جعله صدقة تصدق بها على أبويه، قاله ابن السائب .

والثالث: أن الزكاة: التطهير، قاله الزجاج .

والرابع: أن الزكاة: الزيادة، فالمعنى: وآتيناه زيادة في الخير على ما وصف وذكر، قاله ابن الأنباري .

قوله تعالى: " وكان تقيا " قال ابن عباس: جعلته يتقيني لا يعدل بي غيري .

قوله تعالى: " وبرا بوالديه " ; أي: وجعلناه برا بوالديه، والبر بمعنى [ ص: 215 ] البار، والمعنى: لطيفا بهما محسنا إليهما . والعصي بمعنى العاصي . وقد شرحنا معنى الجبار في ( هود: 59 ) .

قوله تعالى: " وسلام عليه " فيه قولان:

أحدهما: أنه السلام المعروف من الله تعالى . قال عطاء: سلام عليه مني في هذه الأيام، وهذا اختيار أبي سليمان .

والثاني: أنه بمعنى السلامة، قاله ابن السائب .

فإن قيل: كيف خص التسليم عليه بالأيام، وقد يجوز أن يولد ليلا ويموت ليلا ؟

فالجواب: أن المراد باليوم: الحين والوقت، على ما بينا في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة: 3 ] .

قال ابن عباس: وسلام عليه حين ولد . وقال الحسن البصري: التقى يحيى وعيسى، فقال يحيى لعيسى: أنت خير مني، فقال عيسى ليحيى: بل أنت خير مني، سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي . وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال: أثنى الله عليك وأنا أثنيت على نفسي . وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن، يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله تعالى يحيى فيها بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى [ ص: 216 ] يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

قوله تعالى: " واذكر في الكتاب " يعني: القرآن، " مريم إذ انتبذت " قال أبو عبيدة: تنحت واعتزلت، " مكانا شرقيا " مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربي .

قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم " يعني: أهلها، " حجابا " ; أي: سترا وحاجزا، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها ضربت سترا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أن الشمس أظلتها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، [ وروي ] هذا المعنى عن ابن عباس أيضا .

والثالث: أنها اتخذت حجابا من الجدران، قاله السدي عن أشياخه .

وفي سبب انفرادها عنهم قولان:

أحدهما: [ أنها ] انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس .

والثاني: لتفلي رأسها، قاله عطاء .

قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وهو جبريل في قول الجمهور . وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا وهو جبريل . والروح بمعنى: الروح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإبطال طريق المصدر، ويجوز أن يراد بالروح هاهنا: الوحي، وجبريل صاحب الوحي .

وفي وقت مجيئه إليها ثلاثة أقوال:

[ ص: 217 ] أحدها: وهي تغتسل . والثاني: بعد فراغها ولبسها الثياب . والثالث: بعد دخولها بيتها . وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: [ الروح ] الذي خلق منه عيسى، حكاه الزجاج والماوردي، وهو مضمون كلام أبي بن كعب فيما سنذكره عند قوله: ( فحملته ) . قال ابن الأنباري: وفيه بعد ; لقوله: " فتمثل لها بشرا سويا " ، والمعنى: تصور لها في صورة البشر التام الخلقة . وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه، جعد قطط حين طر شاربه . وقرأ أبو نهيك: ( فأرسلنا إليها روحنا ) بفتح الراء من الروح .

قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " المعنى: إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك، هذا هو القول عند المحققين . وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجرا، فظنته إياه، ذكره ابن الأنباري والماوردي . وفي قراءة علي عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء: ( إلا أن تكون تقيا ) .

قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك " ; أي: فلا تخافي، " ليهب لك " قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( لأهب لك ) بالهمز . وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: ( ليهب لك ) بغير همز . قال الزجاج: من قرأ: ( ليهب ) فالمعنى: أرسلني ليهب، ومن قرأ: ( لأهب ) فالمعنى: أرسلت إليك لأهب لك . وقال ابن الأنباري: المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلت رسولي إليك لأهب لك .

قوله تعالى: " غلاما زكيا " ; أي: طاهرا من الذنوب . والبغي: الفاجرة الزانية . قال ابن الأنباري: وإنما لم يقل: ( بغية ); لأنه وصف يغلب على النساء، فقلما تقول العرب: رجل بغي، فيجري مجرى حائض وعاقر . وقال غيره: [ ص: 218 ] إنما لم يقل: ( بغية ) ; لأنه مصروف عن وجهه، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) . ومعنى الآية: ليس لي زوج ولست بزانية، وإنما يكون الولد من هاتين الجهتين . " قال كذلك قال ربك " قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسير على أن أهب لك غلاما من غير أب . " ولنجعله آية للناس " ; أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب . قال ابن الأنباري: إنما دخلت الواو في قوله: " ولنجعله " ; لأنها عاطفة لما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربك: خلقه علي هين، لننفعك به ولنجعله عبرة .

قوله تعالى: " ورحمة منا " ; أي: لمن تبعه وآمن به، " وكان أمرا مقضيا " ; أي: وكان خلقه أمرا محكوما به، مفروغا عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه .
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

قوله تعالى: " فحملته " يعني: عيسى .

وفي كيفية حملها له قولان:

أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فاستمر بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقا من قدامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 400.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 394.68 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]