|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (138) صـ30 إلى صـ 40 فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم ، وذلك ما دلت عليه السورة ، وليس فيه تخصيص على هذا بوجه [ ص: 30 ] وأما قوله : إنكم وما تعبدون الآية [ الأنبياء : 98 ] فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها ، وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون [ ص: 31 ] [ الأنبياء : 98 ] في الأصنام التي كانوا يعبدون " وما " لما لا يعقل ; فكيف تشمل الملائكة والمسيح ؟ ! . والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ; فقوله : وما تعبدون [ الأنبياء : 98 ] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون ، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك ; فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق ، وغفلة عما قصد في الآيات . وما روي من قوله : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب ; لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يهتدي للمعنى المراد ، ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [ الأنبياء : 101 ] بيانا [ ص: 32 ] لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء ، فكتموه إياه وأخبروه بغيره ; فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم . ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ آل عمران : 187 ] كذلك حتى قوله : يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 188 ] ; فهذا من ذلك المعنى أيضا [ ص: 33 ] وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة ، وإن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لابد من تحصيله ، وبه يحصل فهمها ، وعلى طريقه يجري سائر العمومات ، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة ، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ، ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر ، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل . [ ص: 34 ] فلقائل أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق ، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل ، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى . ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة ، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام ، كما كان يلبس المرقع في خلافته ; فقيل له : لو اتخذت طعاما ألين من هذا ؟ . فقال : أخشى أن تعجل طيباتي ، يقول الله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] الحديث . وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ ص: 35 ] [ الأحقاف : 20 ] وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، ولذلك قال : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ثم قال : فاليوم تجزون عذاب الهون [ الأحقاف : 20 ] فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ، ومع ذلك ; فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا ، وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يوسع على أمتك ; فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه . فاستوى جالسا ; فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن [ ص: 36 ] معاوية قال : صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها [ هود : 15 ] إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية ، وهي في الكفار ; لقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [ هود : 16 ] إلخ ; فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا . وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن ; قال : قطع على أهل المدينة بعث ; فاكتتبت ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فأخبرته ; فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله عز وجل : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ النساء : 97 ] فهذا أيضا من ذلك ; لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم [ ص: 37 ] الآية [ الأنبياء : 284 ] دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; فأنزل الله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت الحديث إلخ ، فهموا من الآية العموم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وهي [ ص: 38 ] قاعدة مكية كلية ; ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه . وكذلك قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية ; فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة ، وأن مخالفه عاص ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم . وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه [ هود : 5 ] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله : ليستخفوا منه [ هود : 5 ] أي : من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ; فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع [ ص: 39 ] أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير ، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار ، وقالوا : كفر دون كفر [ ص: 40 ] فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب ، وفيه من الخلاف ما علم ; فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ، ولا فائدة زائدة . ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (139) صـ41 إلى صـ 50 والجواب : إن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية ; لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم ، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم ، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ; ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء ، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم ; فيجتهد رجاء أن يدركهم ، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم ; فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه ، وفيما يشبهه ، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم ; فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه ; لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال [ ص: 41 ] الاجتهاد لا فرق ، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي ، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ النساء : 97 ] ويظهر أيضا في قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] وما سوى ذلك ; فإما من تلك القاعدة ، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة ، لا أن المقصود التخصيص ، بل بيان جهة العموم ، وإليك النظر في التفاصيل ، والله المستعان . [ ص: 42 ] [ ص: 43 ] فصل إذا تقرر ما تقدم ; فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل . فإن كان بالمتصل ; كالاستثناء ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض ، وأشباه ذلك ; فليس في الحقيقة بإخراج لشيء ، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد ، وهو ينظر إلى قول سيبويه : " زيد الأحمر " عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه ، وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم ، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما ، وهكذا إذا قلت : " الرجل الخياط " فعرفه السامع ; فهو مرادف " لزيد " فإذا المجموع هو الدال ، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت : عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك : سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب [ ص: 44 ] وإذا كان كذلك ; فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ، ولا يصح أن يقال : إنه مجاز أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك : ما رأيت أسدا يفترس الأبطال وقولك : ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز ، والثاني حقيقة ، والرجوع في هذا إليهم ، لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام . وأما التخصيص بالمنفصل ; فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ ، حسبما تقدم في رأس المسألة ، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون . فإن قيل : وهكذا يقول الأصوليون : إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة ; فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع ، وليس بمراد الدخول تحتها ، وإلا كان التخصيص نسخا ، فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت ; فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون ؟ . فالجواب : إن الفرق بينهما ظاهر ، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي ، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص ; فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ ، وهم قالوا : إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه ، [ ص: 45 ] وبينهما فرق ; فالتفسير الواقع هنا نظير البيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه ، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز ; كقولك : رأيت أسدا يفترس الأبطال . فإن قيل : أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا ، أم لا ؟ فإن كان باطلا ; لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ ، والأمة لا تجتمع على الخطأ ، وإن كان صوابا وهو الذي يقتضيه إجماعهم ; فكل ما يعارضه خطأ ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ ، فالجواب : أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ، ولو سلم أنه ثابت ;لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي ، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام ; رجعوا إلى اعتباره : كل على اعتبار رآه ، أو تأويل ارتضاه ; فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال ، بلا [ ص: 46 ] خلاف بيننا وبينهم ; إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ، ولا يجود محصول كلامهم ، وبالله التوفيق . فصل فإن قيل : حاصل ما مر أنه بحث في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، ومثله لا ينبني عليه حكم . فالجواب أن لا ، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام : منها : أنهم اختلفوا في العام إذا خص ; هل يبقى حجة أم لا ؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين ; فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات ، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص ; صار معظم الشريعة مختلفا فيها : هل هو حجة أم لا ؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه ، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور ; لم يبق الإشكال المحظور ، وصارت العمومات حجة على كل قول [ ص: 47 ] ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى ، وهي أن عمومات [ ص: 48 ] القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم ، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص ، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية ، وإسقاط الاستدلال به جملة ; إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن ، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم ، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية ، وتضعيف الاستناد إليها ، وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس ; أنه قال : ليس في القرآن عام إلا مخصص ، إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا ، بحسب قصد العرب في اللسان ، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام . وأيضا ; فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون ، وأقرب ما يمكن في التحصيل ، ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في [ ص: 49 ] القرآن جوامع ، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر ; فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة ، وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح ; فيحتمل التأويل . فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي ، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع ; فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل ، وبالله التوفيق [ ص: 50 ] المسألة الرابعة عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها ; فليست بمخصصة لها في الحقيقة ، بل العزائم باقية على عمومها ، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها ; فإطلاق مجازي لا حقيقي . والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة ; إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق ، أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة ; إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها ، وإنما يقال هنا : إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق ; فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى ، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام ; فليس بمخاطب بالقيام ، بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر ، وهو العزيمة عليه ، وإن كان الثاني ; فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف ; فلا جناح عليه ، لا أنه سقط عنه فرض القيام . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (140) صـ51 إلى صـ 60 والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك . وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة . وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله . فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر . وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي : [ ص: 53 ] المسألة الخامسة والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال [ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم [ ص: 55 ] والموضع الثاني : إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ [ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة . ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح . فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر . [ ص: 57 ] المسألة السادسة العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول . والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع . والثاني : أن التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص [ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي [ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة [ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (142) صـ71 إلى صـ 80 فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه ; فالتمسك بمجرده فيه نظر ; فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين ; لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف [ ص: 71 ] ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات ; فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه . وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا فإن قيل : قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا ؟ وكذلك دليل مع معارضه ; فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأيضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم . [ ص: 72 ] [ ص: 73 ] إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء [ ص: 74 ] وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك [ ص: 75 ] وقال الله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 50 ] وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله ، وقال عند ذلك : صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم إلى غير ذلك . وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره ، وهذا كله مبين في الأصول ، ولكن نصير منه إلى معنى آخر ، وهي : [ ص: 76 ] وذلك أن العالم وارث النبي ; فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح [ ص: 77 ] ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة ، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها ; فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة ، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ . والثاني : ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء ; فقد قال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [ البقرة : 42 ] ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ البقرة : 140 ] والآيات كثيرة . وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ; فسلطه على هلكته [ ص: 78 ] في الحق ورجل آتاه الله الحكمة ; فهو يقضي بها ويعلمها وقال : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل . والأحاديث في هذا كثيرة ، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء ، والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة ; فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهي :[ ص: 79 ] فنقول : إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل ; فلابد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم ، كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس ، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله ، فلا نطول به هاهنا لأنه تكرار . إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول ; فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات ، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا ; إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه ، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر . فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي ، ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته ، كما فعل [ ص: 80 ] به جبريل حين صلى به ، وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك ، وإن جاء فيها بيان بالقول ; فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (143) صـ81 إلى صـ 90 وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص ; فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها ; فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك ، وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ، ولو تركنا والنص ; لما حصل لنا منه كل ذلك ، بل أمر أقل منه ، وهكذا نجد الفعل مع [ ص: 81 ] القول أبدا ، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة ، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول ; كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال ، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط ، ووجد له نظير في المعتاد ، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فبه حصل البيان لا بمجرد القول ، وإذا كان كذلك ; لم يقم القول هنا في [ ص: 82 ] البيان مقام الفعل من كل وجه ; فالفعل أبلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى : وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص ، في الأحوال والأزمان والأشخاص ; فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها ، بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله ، وعلى زمانه ، وعلى حالته ، وليس له تعد عن محله ألبتة ، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ; لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين ، وعلى هذه الحالة المعينة . فيبقى علينا النظر : هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة ، أو يختص بهذا الزمان ، أو هو عام في جميع الأزمنة ، أو يختص به وحده ، أو يكون حكم أمته حكمه ؟ . ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله : من أي نوع هو من الأحكام الشرعية ؟ . وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل ; فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان ; فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه ، وهذا بين بأدنى تأمل ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال حين بين بفعله العبادات : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ، ونحو ذلك ; ليستمر البيان إلى أقصاه . فصل [ ص: 83 ] وإذا ثبت هذا ; لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين ; فلا يقال : أيهما أبلغ في البيان ; القول ، أم الفعل ؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق ; فيقوم أحدهما مقام الآخر ، وهنالك يقال : أيهما أبلغ ، أو أيهما أولى ؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا ; فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك [ ص: 84 ] والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله ; فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه ، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه فيختص بالقول [ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك . وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] . وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب . ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه . وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به . ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم . لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه . وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " . ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين . وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (144) صـ91 إلى صـ 100 [ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق . فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة . والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه . فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة . والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم . وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث . وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول : وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان . [ ص: 97 ] المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب ، لا في القول ولا في الفعل ، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد ، فإن سوي بينهما في القول أو الفعل ; فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد ، وبيان ذلك بأمور أحدها : أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق ، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب ، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة ، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم ، وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة ; كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته [ ص: 98 ] بقيام وقوله : " لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته " بينه حديث ابن عمر ، قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر ، فقال لي عبد الله بن عمر : ما منعك أن تنصرف عن يمينك ؟ قلت : رأيتك فانصرفت إليك قال : أصبت إن قائلا يقول : انصرف عن يمينك وأنا أقول : انصرف كيف شئت ، عن يمينك وعن يسارك . وفي بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج . [ ص: 99 ] [ ص: 100 ] وقال الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (145) صـ101 إلى صـ 110 وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب : لا حرج قال الراوي : فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر ; إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب ، لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد [ ص: 101 ] ونهى عن التبتل مع قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ونهى عن الوصال وقال : خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد . ومسلك آخر ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به ; خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ، قالت عائشة : وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها [ ص: 102 ] وقد قام ليالي من رمضان في المسجد ; فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ، ثم كثروا فترك ذلك ، وعلل بخشية الفرض . ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يفرض بالوحي ، وعلى هذا جمهور الناس . والثاني : في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب ، وهو تأويل متمكن . والثالث : أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة ، وكانوا أئمة يقتدى بهم ; فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة ; فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته ، وقال إني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ; فيقولون : هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر [ ص: 103 ] مطلوب وقال حذيفة بن أسيد : " شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة " وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ، ويقول [ ص: 104 ] لعكرمة : " من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ، وكان غنيا وقال بعضهم : إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ; مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري : " كنا نضحي عن النساء وأهلينا ; فلما تباهى الناس بذلك تركناها " ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة . وقال ابن عمر في صلاة الضحى : إنها بدعة وحمل على أحد [ ص: 105 ] وجهين : إما أنهم كانوا يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض ، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ; لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع : أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل ; فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك [ ص: 106 ] للعلة المتقدمة ، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح ; لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان . قال القرافي : " وقد وقع ذلك للعجم " وقال الشافعي في [ ص: 107 ] الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير ، وسد الذريعة أصل عنده متبع ، مطرد في العادات والعبادات ; فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا . فصل والتفرقة بينهما تحصل بأمور : منها بيان القول إن اكتفي به وإلا ; فالفعل وهو أحرى بل هو في هذا النمط مقصود ، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه ، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه . وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص ، وأما المنصوصة فلا كلام فيها ، فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى ; لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه . [ ص: 108 ] فصل وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه . ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح . وفي الحديث الحسن عن أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول [ ص: 109 ] وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة ، وهو الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي . وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره . وقال بعضهم في حديث عمر " بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب . وفي الحديث : " واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث . ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت . قال ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (146) صـ111 إلى صـ 120 ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث [ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه . وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه . وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور . وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] [ ص: 112 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس . وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " . ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا [ ص: 113 ] ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه . ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك ; فقال له مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال . [ ص: 114 ] المسألة السابعة المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات ; فإنها إن سوي بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به . وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة ; فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام ، فقال : ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك : إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال : لم ؟ قال : ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأي الأعاجم ، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك : أأترك يا أبا عبد الله ؟ قال : إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك : ولا نأمر الرجل أن لا يغسل [ ص: 115 ] يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه ; فلا ، أميتوا سنة العجم ، وأحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم . وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته ; فظهر حكمه . وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله : أحرام هو ؟ قال : لا ولكني أكرهه من أجل ريحه وفي رواية أنه قال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي [ ص: 116 ] وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ففعل ; فنزلت : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا الآية [ النساء : 128 ] فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة ; حتى يصير كالمكروه ، وليس بمكروه . والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات . [ ص: 117 ] المسألة الثامنة المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات . أما الأول ; فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات ، وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم . ولا يقال : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه ; لأنا نقول : البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ; ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني ، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له : أنكتها هكذا من غير كناية ، مع أن ذكر هذا اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع ؟ غير أن التصريح هنا آكد ، فاغتفر لما يترتب عليه ; فكذلك هنا ، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه ؟ [ ص: 118 ] وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله : إن تصدق الطير ننك لميسا مثل هذا لا حرج فيه . وأما الثاني ; فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا ، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد ، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية ، والمحاضر الجمهورية ، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات ، بل ومن المباحات ; كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك . فصل ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية ، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم [ ص: 119 ] الجاهل منها الوجوب ، إذا كان منظورا إليه مرموقا ، أو مظنة لذلك ، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة ; لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه ، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب ; فحمله على الوجوب ، ثم استمر على ذلك ; فضل . وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى ، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه ، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه ، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع . ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس ، قرأها في كرة أخرى ، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود ; فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء ; فقال : أيحب أن يذبح ؟ إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء [ ص: 120 ] ونقل عن عمر ; أنه قال : لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني : في الوضوء ، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله . ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة . ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو : لو فعلتها لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر . ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (147) صـ121 إلى صـ 130 ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال : لا ، الوضوء مرتان مرتان ، أو ثلاث ثلاث ، مع أنه [ ص: 121 ] لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ . قال اللخمي : وهذا احتياط وحماية ; لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك ، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به . والأمثلة كثيرة ، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به ; فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال : إن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة ; فلا بأس ، وكذا قال مالك في المرة الواحدة : حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء ، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به ، فلا بأس وهو جار على المذهب ; لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت . فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه ; فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس ، لأنه إن كان كذلك ; فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ، ولا يكون كذلك شرعا ; فلابد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات ، ولابد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات ، وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة [ ص: 122 ] ولا يقال : إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته لأنا نقول : كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال ، فإذا ترك في بعض الأوقات ; لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام ، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات : إنهم غير مداومين عليها ; فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا ، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية ، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة . ولما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل ، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك ، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك ، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص ; إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور ، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها ، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو [ ص: 123 ] جائز غير جائز أو مطلوبا ، أو تعريضهم لسوء القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك ، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم ; لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل ; إما لحال غالبة ، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح ، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء ، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه ، وهذا كله محظور . [ ص: 124 ] المسألة التاسعة الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة ، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام ; فلا تفعل ولا يسامح في فعلها ، وهذا ظاهر ، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر ، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي ، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ، ولا كلام في مترتبات الآخرة ; لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد . كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها . فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم ; فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر ; لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها ; فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا . ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال : إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف ; كان الحكم الشرعي فيه مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع ، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ، ووقع بيانه مخالفا ; فيصير المنتصب [ ص: 125 ] لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله ; فيجري فيه ما تقدم ، فإذا رأى الجاهل ما جرى ; توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه ، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر ; حصلت الريبة ، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه ، وكل ذلك فساد ، وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها ; في أنفسها ، وفي لواحقها ، وسوابقها ، وقرائنها ، وسائر ما يتعلق بها شرعا ; حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام ، وإلا ; كان من الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 [ ص: 126 ] المسألة العاشرة لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية ، بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع ; فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية ، لازم بيانها قولا وعملا ، فإذا قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت ; حصل بيانها للناس ، فإن قررت ، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل ، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل ، أو مع فقدانها فلم يعمل ; وافق القول الفعل ، فإن عكست القضية وقع الخلاف ; فلم ينتهض القول بيانا ، وهكذا الموانع وغيرها . وقد أعمل النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر ، وأعمل الأسباب ، ورتب الأحكام حتى في نفسه ، حين أقص من نفسه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في غيره ، والشواهد على هذا لا تحصى ، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة ، والتنبيه كاف [ ص: 127 ] المسألة الحادية عشرة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته ; لأنه لذلك بعث ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ولا خلاف فيه . وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه ; فلا إشكال في صحته أيضا ، [ ص: 128 ] كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ المائدة : 6 ] وإن لم يجمعوا عليه ; فهل يكون بيانهم حجة ، أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين : أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ; فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ; صح اعتماده من هذه الجهة . والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب . فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة ، فإن خالف بعضهم ; فالمسألة اجتهادية [ ص: 129 ] مثاله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا ; فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة ; فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء [ ص: 130 ] آخر داخل في التعمق المنهي عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار ; فندب المسلمون إلى التعجيل . ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (148) صـ131 إلى صـ 140 وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد [ ص: 131 ] غروب الشمس فبين عثمان بن عفان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس . وتأمل ; فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها وما لا يعمل به ، وما يقيد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره . ومما بين كلامهم اللغة أيضا ، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] وفي معنى الإخوة أن السنة مضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم [ ص: 132 ] معاني الكتاب والسنة . لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ; لأنا نقول : نعم ، هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ; إلا لهم لما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر ; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم ، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ; انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ، ولما جاء في [ ص: 133 ] السنة من اتباعهم والجريان على سننهم ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث ; فإنها عاضدة لهذا [ ص: 134 ] المعنى في الجملة أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين ; فهم ومن سواهم فيه شرع سواء ; كمسألة العول ، والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا ; فدعوا الربا والريبة ، أو كما قال ; فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين ، وفيه خلاف بين العلماء أيضا ; فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ; كالأحاديث والاجتهادات النبوية ، وهو مذكور في كتب الأصول ; فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا [ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة . وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات . وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل . وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه . وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام . فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات . فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر . الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود . والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة . وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |