شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري - الصفحة 11 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الغيرة المدمرة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالفَحشاءِ} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ايقاظ القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          القرآن… ربيع القلوب وشفاء الصدور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          غدر اليهود ونقضهم للعهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          (معارضة الحق تزيده وضوحا وظهورا) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          تراجع الأثر الدعوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          كلمات من وراء القبور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أملات في حُسن القيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #101  
قديم 20-09-2025, 09:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 104 )

باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يَوْمِ الْجُمُعَةِ

الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
406.عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة:1-2). و{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (الإنسان:1)، وأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في صلَاةِ الْجُمُعَةِ: سُورَةَ (الْجُمُعَةِ والْمُنَافِقِونَ).
الشرح: قال المنذري: باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يومِ الْجُمُعَةِ. والحديث رواه مسلم في الجمعة (2/599) وبوب عليه النووي: باب ما يقرأ في يوم الجمعة. والحديث قد رواه البخاري في كتاب الجمعة (891) باب ما يُقْرأ في صلاة الفجر يومَ الجمعة.
قال الزين ابن المنير: مناسبة ترجمة الباب لما قبلها - وهو لبس أحسن ما يجد والطيب والسواك - أنّ ذلك من جملة ما يتعلق بفضل يوم الجمعة، لاختصاص صبحها بالمواظبة على قراءة هاتين السورتين.
ويومُ الجمعة هو أفضل الأيام، كما سبق، وهو عيد الأسبوع، فلذا خصه الشرع بجملة من الفضائل والخصائص، والأعمال الصالحة والقربات.
قوله «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في الفجر يوم الجمعة» في رواية كريمة والأصيلي «في الجمعة في صلاة الفجر».
والمراد أنه كان يقرأ في كل ركعة بسورة، وكذا بيّنه مسلم بلفظ «(الم تَنْزيل) في الركعة الأولى، وفي الثانية: (هلْ أتَى عَلى الإنسانِ)».
وفيه دليل: على استحباب قراءة هاتين السورتين، في هذه الصلاة من هذا اليوم، لما تُشعر صيغة «كان» من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو إكثاره منه.
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على حديث الباب: ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا! هكذا قال!
فرد عليه الحافظ ابن حجر بقوله: وأما دعواه أنّ الناس تركوا العمل به فباطلة؛ لأنّ أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، قد قالوا به، كما نقله ابن المنذر وغيره، حتى إنه ثابت عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف والد سعد، وهو من كبار التابعين من أهل المدينة، أنه أمّ الناس بالمدينة بهما في الفجر يوم الجمعة، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وكلام ابن العربي يُشعر بأن ترك ذلك أمرٌ طرأ على أهل المدينة، لأنه قال: وهو أمرٌ لم يعلم بالمدينة؛ فالله أعلم بمن قطعه كما قطع غيره اهـ.
قال: وقد اختلف تعليل المالكية بكراهة قراءة السجدة في الصلاة، فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض، قال القرطبي: وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث.
وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرّق بعضهم بين الجهرية والسرية؛ لأن الجهرية يُؤمن معها التخليط، لكن صحّ من حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة، في صلاة الظهر، فسجد بهم فيها، أخرجه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة.
ومنهم من علّل الكراهة: بخشية اعتقاد العوام أنها فرض، قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقاً، فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة، فينبغي أنْ تُترك أحيانا لتندفع، فإنّ المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات اهـ. وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن الصلاة يوم الجمعة بالسجدة، هل تجب المداومة عليها أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، ليست قراءة (الم) (تنزيل) التي فيها السجدة، ولا غيرها من ذوات السجود واجبة في فجر الجمعة، باتفاق الأئمة، ومن اعتقد ذلك واجباً، أو ذمّ من ترك ذلك، فهو ضالٌ مخطئ، يجب عليه أن يتوب من ذلك باتفاق الأئمة، وإنما تنازع العلماء في استحباب ذلك وكراهيته، فعند مالك: يكره أنْ يقرأ بالسجدة في الجهر! والصحيح: أنه لا يكره، كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأنه قد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في العشاء بـ (إذا السماء انشقت). وثبت عنه في الصحيحين: أنه كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم) (تنزيل) و (هل أتى).
قال: وعند مالك: يكره أنْ يقصد سورةً بعينها، وأما الشافعي وأحمد فيستحبون ما جاءت به السُنّة، مثل «الجمعة والمنافقون» في الجمعة، و«الذاريات واقتربت» في العيد، و(ألم تنزيل) و(هل أتى) في فجر الجمعة. لكن هنا مسألتان نافعتان: إحداهما أنه لا يُستحب أنْ يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة، فليس الاستحباب لأجل السجدة، بل للسورتين والسجدة جاءت اتفاقاً، فإن هاتين السورتين، فيهما ذكر ما يكون في يوم الجمعة من الخلق والبعث.
الثانية: أنه لا ينبغي المداومة عليها؛ بحيث يتوهم الجُهّال أنها واجبة، وأن تاركها مسيء، بل ينبغي تركها أحياناً، لعدم وجوبها، والله أعلم».
وقال: «النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ السورتين كلتيهما ، فالسُنة قراءتهما بكمالهما». مجموع الفتاوى (24 / 204 - 206).
قلت: وإذا لم يستطع الإتيان بهما، أتى بما يستطيع، لقوله صلى الله عليه وسلم «وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.
وقال الحافظ ابن حجر: فائدتان: الأولى: لم أرَ في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم سجد، لما قرأ سورة تنزيل السجدة في هذا المحل، إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود: من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوتُ على النبي [ يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله.
وللطبراني في الصغير: من حديث علي «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة » لكن في إسناده ضعفا.
الفائدة الثانية: قيل الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة، قصد السجود الزائد، حتى إنه يستحب لمن لم يقرأ هذه السورة بعينها، أنْ يقرأ سورة غيرها فيها سجدة! وقد عاب ذلك على فاعله غيرُ واحد من العلماء، ونسبهم صاحب (الهدي) - يعني ابن القيم - إلى قلة العلم ونقص المعرفة، لكن عند ابن أبي شيبة بإسناد قوي: عن إبراهيم النخعي أنه قال: يُستحب أنْ يقرأ في الصبح يوم الجمعة بسورة فيها سجدة.
وعنده من طريقه أيضا: أنه فعل ذلك فقرأ سورة مريم. ومن طريق ابن عون قال: كانوا يقرؤون في الصبح يوم الجمعة، بسورة فيها سجدة.
وعنده من طريقه أيضا قال: وسألت محمدا - يعني ابن سيرين - عنه فقال: لا أعلم به بأسا. قال: فهذا قد ثبت عن بعض علماء الكوفة والبصرة، فلا ينبغي القطع بتزييفه! كذا قال! ولا يخفى ما فيه.
قال: وقد ذكر النووي في «زيادات الروضة» هذه المسألة، وقال: لم أر فيها كلاماً لأصحابنا، ثم قال: وقياس مذهبنا: أنه يكره في الصلاة إذا قصده اهـ.
وقد أفتى ابن عبد السلام قبله بالمنع، وببطلان الصلاة بقصد ذلك، قال صاحب المهمات: مقتضى كلام القاضي حسين الجواز.
وقال الفارقي في (فوائد المهذب): لا تستحب قراءة سجدة غير تنزيل، فإنْ ضاق الوقت عن قراءتها، قرأ بما أمكن منها ولو بآية السجدة منها، ووافقه ابن أبي عصرون في كتاب (الانتصار)، وفيه نظر (الفتح).
وسورتا السجدة والإنسان، تشتركانِ في جملةٍ من المعاني العظيمة الجليلة، منها: قصة خلْق الإنسان، وتذكيره بهذه النعمة، ثم حياته وموته، ثم بعثه يوم القيامة، وغير ذلك، فكان من حِكمة الشارع الحكيم التذكير بذلك، والإنسان محتاج إلى تَكرار التذكير؛ لئلا ينسى أصلَه، فيكفر بالخالق أو يجحد حقه، أو يبغي على الخلق ويتكبر.
قال الإمام ابن القيم قي الزاد: وسمعتُ شيخَ الإِسلامِ ابنَ تَيْميّة يقولُ: إنّما كان النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ هاتينِ السّورتينِ في فجرِ الْجُمُعةِ؛ لأَنّهُما تَضمّنتا ما كان ويكونُ في يومها، فإِنّهما اشتملَتَا علَى خَلْقِ آدمَ، وعلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ، وحَشْرِ الْعباد، وذلك يكونُ يومَ الْجُمعةِ، وكأن في قراءَتِهما في هذا الْيومِ تَذْكيرا للأُمّة بما كان فيه ويكونُ، والسّجْدةُ جاءَتْ تَبَعًا ليستْ مقْصُودَةً حتّى يقصدَ الْمُصَلّي قراءَتها حيثُ اتّفَقَتْ. اهـ.
وكذا قال الحافظ: إنّ الحكمة في هاتين السورتين: الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم، وأحوال يوم القيامة؛ لأن ذلك كانَ، وسيقع يوم الجمعة، ذكره ابن دحية في العلم المشهور، وقرّره تقريراً حسنا.
- فائدة: ومما جاء في فضل صلاة الفجر يوم الجمعة:
قوله صلى الله عليه وسلم : «أفضلُ الصلواتِ عند الله، صلاةُ الصُبح يوم الجُمعة، في جماعة» رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب (انظر السلسلة الصحيحة 1566).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #102  
قديم 27-09-2025, 08:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 105 ) بـــاب: فـــــي غُســـــل الجمعـــــة

الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
407.عن أَبُي هُريرة قال : بَينما عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخلَ عُثْمَانُ بنُ عفَّانَ، فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ فقال: ما بالُ رِجالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟! فقال عُثْمَانُ : يا أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ، أَنْ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ ، فقال عُمَرُ : والوُضُوءَ أَيضًا؟! أَلَمْ تَسْمَعُوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إِذا جَاءَ أَحدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَلْيَغْتَسِل».
الشرح: قال المنذري : باب : في غسل الجمعة. والحديث أخرجه مسلم في أول كتاب الجمعة ( 2/580 ). ورواه البخاري في كتاب الجمعة (878 ) باب فضل الغسل يوم الجمعة .
قوله «بَينما عُمَرُ بنُ الخطابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ الجُمُعَةِ، إِذْ دَخلَ عُثْمَانُ بنُ عفَّانَ في رواية البخاري «إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
قوله: «فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ فقال: ما بالُ رِجالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟!» وفي رواية البخاري «فناداه عمر : أيةُ ساعةٍ هذه ؟» .
قوله: « فقال عُثْمانُ : يا أَميرَ الْمُؤمنينَ، ما زِدْتُ حين سَمِعْتُ النِّدَاءَ ، أَنْ تَوَضَّأْتُ ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ» في رواية البخاري «إني شُغلتُ فلم أنقلبْ إلى أهلي حتى سمعتُ التأذين». وفيه: الاعتذار إلى ولاة الأمور وغيرهم .
وفيه: إباحة العمل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء .
قوله: «فقال عمرُ: والوُضوءَ أَيضا ؟!» في رواية البخاري: « فلم أزدْ على أنْ توضأت «أي: لم أشتغل بشيءٍ بعد أنْ سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد ، في ابتداء شروع عمر في الخطبة» قاله الحافظ .
وقول عُمرُ: «والوُضوءَ أَيضا؟!» إنكارٌ عليه. والمعنى: ما اكتفيت بالتأخر، وتفويت فضيلة التبكير للجمعة، حتى تركتَ الغسل، واقتصرت على الوضوء؟!
وفيه: تفقد الإمام رعيته، وأمرهم بمصالح دينهم، والإنكار على المخالف للسُنة، وإنْ كان كبير القدر، ولو في مجمعٍ من الناس، إذا أُمنت الفتنة، ليرتدع من هو دونه بذلك .
وفيه: جواز كلام الخطيب مع الناس وسؤالهم .
وفيه: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة .
ولم يأت في الروايات جوابٌ لعثمان رضي الله -عنه -لعمر -رضي الله عنه-، والظاهر أنه سكت، واكتفى بالاعتذار الأول .
قال الحافظ : وإنما تركَ الغُسل؛ لأنه تعارضَ عنده إدراك سماع الخُطبة، والاشتغال بالغسل، وكلٌ منهما مرغّب فيه، فآثر سماع الخُطبة، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره، والله أعلم. انتهى.
ولأن الغُسل ليس شرطاً لصحة الصلاة.
قوله: «أَلَمْ تَسمعُوا رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «إِذا جاءَ أَحدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ، فَلْيَغْتَسلْ «فَلْيَغْتَسلْ»: الفاء للتَّعْقيب, وظاهره أَنَّ الْغُسْل يَعْقُب الْمَجيء , وليس ذلك الْمُراد ، وإنَّما التَّقدير: إذا أَرادَ أَحدكُم المجيء للجمعة فليغتسل, وقد جاء مُصرَّحًا به في رواية مُسلم، ولفظه: «إِذا أَرادَ أَحدُكم أَنْ يأْتي الْجُمُعَة، فَلْيَغْتَسِلْ «ونظير ذلك قولُه تعالى: ( إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) المجادلة: 12. فإِنَّ المعنى إذا أَردتُم الْمُناجاة ، بلا خِلَاف بين المفسرين .
ويُقَوِّي ذلك حديثُ أَبي هريرة وهو بلفظ «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْم الْجُمُعَة ثُمَّ رَاحَ «فهو صريحٌ في تَأْخير الرَّواح عن الغُسل, وعُرِفَ بهذا فساد قول مَنْ حَمَلَه عَلَى ظاهره، واحتُجَّ به على أَنَّ الْغُسْل لليوم لا للصَّلاةِ ! لأنَّ الحديث واحد ومُخَرِّجه واحد . ( انظر الفتح ) .
وفي رواية البخاري: «وقد علمتَ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل ؟!» .
وقد اختلف في وجوب غسل الجمعة، وقد لخّص النووي رحمه الله ذلك في شرح مسلم (133/6) فقال: واختلف العلماء في غسل الجمعة، فحُكي وجوبه عن طائفة من السلف، حكوه عن بعض الصحابة، وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك، وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، إلى أنه سُنةٌ مستحبة ليس بواجب ، قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه، واحتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث ، واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة منها: حديث الرجل الذي دخل وعمر بن الخطاب يخطب، وقد ترك الغسل ، وقد ذكره مسلم، وهذا الرجل هو عثمان بن عفان، جاء مبيناً في الرواية الأخرى، ووجه الدلالة: أن عثمان فعله وأقره عمر وحاضرو الجمعة، وهم أهلُ الحلّ والعقد، ولو كان واجباً لما تركه ولألزموه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ توضأ، فَبِها ونِعْمت، ومن تغسل فالغسل أفضل» حديث حسن في السنن المشهورة، وفيه دليل: على أنه ليس بواجب .
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «لو اغْتَسلتُم يوم الجمعة»، وهذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب؛ لأنّ تقديره لكان أفضل وأكمل، ونحو هذا من العبادات. وأجابوا عن الأحاديث الواردة في الأمر به، بأنها محمولة على الندب، جمعاً بين الأحاديث .
وقد ذهب ابن حزم لخلافه، فرجّح الوجوب، وحشد على ذلك الأدلة من السنة؛ حيث قال: «وغُسل الجمعة فرضٌ لازم لكل بالغ، من الرجال والنساء، وكذلك الطيب والسواك .
قال: برهان ذلك: قال صلى الله عليه وسلم «غُسلُ يوم الجمعة واجبٌ على كلّ محتلم، وأنْ يَستنّ ، وأنْ يَمس طيباً» .
قال: وروينا إيجاب الغسل أيضا مسنداً من طريق عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وأبي هريرة، كلها في غاية الصحة، فصار خبراً متواتراً، وممن قال بوجوب فرض الغسل يوم الجمعة : عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة -رضي الله عنهم- لم يخالفه فيه أحدٌ منهم .. إلخ كلامه في كتابه : المحلى (2/8) .
وكذا مال إليه ابن دقيق العيد في (شرح عمدة الأحكام)؛ حيث قال: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر : «غسل يوم الجمعة واجب»، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال : إكرامك عليّ واجب! وهو تأويلٌ ضعيف ! إنما يُصار إليه إذا كان المعارض راجحاً على الظاهر ، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر، حديث: «مَنْ توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث . انتهى .
وحديث : «مَنْ توضأ يوم الجمعة فَبَها ونِعمت» أُعلّ بعنعنة الحسن عن سمرة، والاختلاف فيه .
فالحاصل أن الأحاديث على أنه واجبٌ، أقوى من الأحاديث التي لا تُفيد ذلك، فينبغي المحافظة على فعله قدر الإمكان، وأيضا لما ورد من الترغيب فيه، ولما في فعله من الخروج من الخلاف المعتبر، والله أعلم .
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم الاغتسال يوم الجمعة، وهل وردت فيه أحاديث ؟
فأجاب: الاغتسال يوم الجمعة واجب على كل بالغ عاقل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم «فصرّح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه واجب، ومن المعلوم أن أعلم الخلق بشريعة الله رسول الله، ومن المعلوم أن أنصح الخلق لعباد الله: رسول الله، ومن المعلوم أن أعلم الناس بما يقول الله تعالى هو: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة، وقال: «غسلُ الجمعة واجبٌ على كل محتلم «فكيف نقول ليس بواجب؟! لو أنّ هذه العبارة جاءت في متنٍ من المتون، الذي ألّفه عالمٌ من العلماء، وقال فيه : فصل: غسل الجمعة واجب، لم يشك أحدٌ يقرأ هذا الكتاب، إلا أن المؤلف يرى وجوبه هذا، وهو آدميٌ معرض للخطأ والصواب، فكيف والقائل بذلك محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قيد هذا الوجوب بما يقتضي الإلزام؛ حيث قال: «على كل محتلم «أي بالغ، وهذا يدل على أنّ الغسل ملزم به .
قال: وأما ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غسل الجمعة: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» فهذا فيه نظر من جهة سنده، ومن جهة متنه، ثم لا يمكن أنْ يُعارض به حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين وغيرهما ، الصريح الواضح . انتهى من فتاوى نور على الدرب .
وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان أول الإسلام، لما كان يصيبهم العرق، فعن عكرمة: أن أناساً من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل: «كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الريح ، قال: «أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه». قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسّع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق. رواه أبو داود وإسناده حسن .
وهو اجتهاد منه رضي الله عنه ، وفيه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بالغسل ، والأحاديث تدل على استمرار الحكم .
ومما ورد في فضل الغسل يوم الجمعة، أنّ للمغتسل فيه، والماشي إليه، بكل خطوة أجر سنّة صيامها وقيامها، فقد روى أوس بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ غَسّل واغتسل يومَ الجمعة ، وبكّر وابْتكر، ودَنَا من الإمام فأنصت ، كان له بكل خطوةٍ يخطوها صيامُ سنة ، وقيامها ، وذلك على الله يسير» رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #103  
قديم 27-09-2025, 08:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 106 )

بـــاب: الطِّيــــب والسّــــواك يَــــوْم الْــجُـمُـــعَـــــةِ

الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
408. عن أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، ويَمَسُّ مِنْ الطِّيبِ، مَا قَدَرَ عليه».
الشرح: قال المنذري: باب: الطيب والسواك يَوْم الْجُمُعَةِ. والحديث رواه مسلم في الجمعة (2/581) وبوب عليه النووي: باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
قوله «غُسلُ يوم الجمعة على كل محتلم» هكذا ورد في هذه الرواية، وليس فيه ذكر كلمة «واجب».
لكن حرف «على» يُستفاد منه الوجوب، كما في قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} (آل عمران: 97).
ومن فضل الغسل يوم الجمعة: ما جاء عن عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه قال: دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة فقال غسلك هذا من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة، قال: أعد غُسلاً آخر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «منْ اغتسلَ يومَ الجُمعة، كان في طهارةٍ إلى الجمعة الأخرى». رواه الحاكم (1044) الصحيحة (2321).
والصحيح: أنه يكفيه غسلٌ واحد للجنابة والجمعة، وعليه الجمهور.
قال أبو حاتم: قوله صلى الله عليه وسلم : «لم يزلْ طاهراً إلى الجمعة الأخرى» يريد به من الذنوب، لأنّ مَن حضر الجمعة بشرائطها، غُفر له ما بينها وبين الجمعة الأخرى. قوله «وسواك ويمس من الطيب» معناه: ويُسن له السواك، ومس الطيب، ويجوز في «يمس» فتح الميم وضمها.
قوله «ما قدر عليه» قال القاضي: محتمل لتكثيره، ومحتمل لتأكيده حتى يفعله بما أمكنه، ويؤيده قوله «ولو من طيب المرأة» وهو المكروه للرجال، وهو ما ظَهَر لونه وخفي ريحه، فأباحه للرجل هنا للضرورة، لعدم غيره، وهذا يدل على تأكيده، والله أعلم. «وزيادة ولو من طيب امرأته» رواها أبو داود (344).
وقد رواه أحمد بلفظ: «من اغتسل يوم الجمعة، واستاك ومسَّ من طيب إنْ كان عنده، ولبسَ أحسنَ ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يَتخطّ رقابَ الناس، حتى ركعَ ما شاء أنْ يركع، ثم أنصتَ إذا خرج الإمام، فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها، وبين الجمعة التي قبلها».
وعن الْبَرَاء بن عَازِبٍ، قَالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنَ الْحَقِّ على الْمُسلمينَ، أَنْ يَغتسلَ أَحدُهم يومَ الْجُمُعَة، وأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كان عند أَهلهِ، فَإِنْ لم يكنْ عندهم طِيبٌ، فإِنَّ الْماءَ أَطْيَبُ». أخرجه أحمد (4/282) والترمذيّ (528).
وقد تساهل الناس بهذه السنن! وهي: التطيب، والتسوك، ولبس أحسن الثياب، وأما إذا كان أحدهم ذاهبًا لحفل أو مناسبة، فتراه متطيباً لابساً أحسن الثياب؟!
وقد قال تعالى أيضا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأعراف:31-32).
203- باب: فضلُ التَّهْجير يَوْم الْجُمُعَةِ
409.عن أَبي هُريرةَ يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذا كان يومُ الْجُمُعةِ، كان علَى كُلِّ بابٍ مِنْ أَبْوابِ الْمسجِدِ، ملائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فالْأَوَّلَ، فإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ، وجاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، ومَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كمَثَلِ الذي يُهْدِي الْبَدَنَةَ، ثُمَّ كالَذي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كالذي يُهْدِي الْكَبْشَ، ثُمَّ كالذي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ كالذي يُهْدِي الْبَيْضَةَ».
الشرح: قال المنذري: باب: فضل التهجير يَوْم الْجُمُعَةِ. والحديث رواه مسلم في الجمعة (2/582) وبوب عليه النووي: باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
ورواه البخاري في الجمعة ( 881) باب فضل الجمعة، وفي (929) باب الاستماع إلى الخطبة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي بدء الخلق ( 3211) باب ذكر الملائكة.
قوله «إِذا كان يومُ الْجُمُعةِ، كان على كلِّ بابٍ مِنْ أَبوابِ الْمسجِدِ، ملائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فالْأَوَّلَ»، ورواه أَحمد في مسنده (18/ 293) بلفظ: «إِذا كان يومُ الْجُمُعةِ، قَعَدَتِ الْمَلَائِكَةُ على أَبْوابِ الْمَسْجِدِ، فَيَكْتُبُونَ النَّاسَ مَنْ جَاءَ مِنَ النَّاسِ، علَى مَنَازِلِهِمْ، فَرَجُلٌ قَدَّمَ جَزُورًا، ورَجُلٌ قَدَّمَ بَقَرَةً، ورَجُلٌ قَدَّمَ شَاةً، ورَجُلٌ قَدَّمَ دَجَاجَةً، ورَجُلٌ قَدَّمَ عُصْفُورًا، ورَجُلٌ قَدَّمَ بَيْضَةً»، قَال: «فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، وجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ، ودخلوا الْمسْجِدَ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وإِسناده جيد. صحيح الترغيب (711).
وفي رواية أبي هريرة عند البخاري «منْ اغتسلَ يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة...» ويُستفاد منه: استحبابُ الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة، وفَضِيلَة التبكير.
قوله «فإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ» فيه أنه لا يستحب التبكير للإمام، وينبغي أن يدخل من أقرب الأبواب للمنبر، لئلا يتخطّى رقاب الناس.
قوله «وجاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» يدل على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة.
وقد قال جماهير الْعلماء باستحباب التبكير إلى الجمعة أول النَّهار، والساعات عندهم من أول النَّهار، والرواح يكون أول النَّهار وآخره.
وقال الأزهري: لغة الْعرب أَنّ الرواح: الذّهاب، سَوَاء كان أول النَّهار أَو آخره أَو في اللَّيْل، وهذا هو الصَّواب الَّذي يَقْتَضيه الحديث.
والْمعنى: أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أخبر أَنّ الْملائكة تكْتب مَن جاءَ فِي السَّاعة الأولى، وهو كالمهدي بَدَنَة، ثمَّ من جاءَ في السَّاعَة الثَّانِيَة، ثمَّ فِي الثَّالثَة، ثمَّ في الرابعة، ثمَّ في الْخامسة، وفي رواية النسائي: «السَّادسة» فإِذا خرج الإِمام طَوَوْا الصُّحُف، ولم يكتبوا بعد ذلك، فَدلَّ على أَنه لَا شيء من الفضيلة لمن جاءَ بعد الزَّوَال، ولأَن ذكر السَّاعات إِنما كَان للحث على التبكير إلى الجمعة وانتظارها، والترغيب في فضيلة السَّبق إليها، وتحصِيل الصَّفّ الأول، والاشتغال بالتنفل والذكر قبلها، ونحو ذلك من الأعمال، وهذا كُله لَا يحصل بالذهاب بعد الزَّوَال، ولا فضيلة لمن أَتَى بعد الزَّوال، لأَن النداء يكون حينئِذٍ، كما يحرم التَّخَلُّف عنها بعد النداء.
قال العيني في شرحه: الْحاصل أَن الْجُمهور حملوا السَّاعات الْمذكورة في الحديث، على السَّاعات الزمانية، كما في سائر الأَيَّام، وقد روى النَّسائيّ: أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «يَوْمُ الْجُمُعَة اثْنَتَا عشرَة سَاعَة». وأما أهل علم الْميقات، فيجعلون ساعات النَّهَار ابتداءها من طُلُوع الشَّمْس، ويجعلون الْحصَّة الَّتِي من طلوع الْفجر إلى طُلُوع الشَّمْس، من حساب اللَّيل، واستواء اللَيل والنهار عندهم، إذا تساوى ما بين الْمغرب وطلوع الشَّمْس، وما بين طُلُوع الشَّمْس وغروبها، فَإِن أُرِيد السَّاعَات على اصطلاحهم، فيكون ابْتداء الوقْت المرغب فيه لذهاب الْجُمُعة، من طُلُوع الشَّمْس، وهو أحد الْوجهين للشَّافعيَّة.
وقال الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّه الأَصح، ليَكُون قبل ذلك من طُلُوع الْفجْر، زمان غُسل وتأهب.
وقال الرُّوْيَانِيّ: في تهذيب الأنساب (2/ 44): إِن ظاهر كَلام الشَّافعي: أَن التبكير يكون من طُلُوع الفجر، وصححهُ الرَّوْيَانيّ، وكذلك صاحب (الْمُهذّب) قبله، ثمَّ الرَّافعيّ والنَّووي.
وقال الرَّافعي: ليس المراد من السَّاعات على اختلاف الْوُجُوه: الأَربع والعشرين، الَتي قُسم اليوم واللَيلة عليها، وإنَّما المُراد تَرتيب الدَّرجات، وفضل السَّابق على الَذي يَليه.
قَوْله «ومَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كمَثَلِ الذي يُهْدِي الْبَدَنَةَ» وفي الرواية الأخرى «قرب بَدَنَة» ورواية أحمد «فَرَجُلٌ قَدَّمَ جَزُورًا» أَي: تصدّق ببدنة متقربا إلَى الله تعالى، وقيل: المراد أَن للمبادر في أول ساعة، نظير ما لصاحب الْبَدنَة من الثَّواب في القربان، ويشهد له رواية ابن جريج عند عبدالرزاق «فله من الأجر مثل الجزور» ( الفتح 2366).
وقيل: ليس المراد بالحديثِ إلاّ بيَان تفَاوت المبادرين إِلَى الْجُمُعة، وأَن نِسْبَة الثاني من الأول، كنسْبَة الْبقرة إلَى الْبَدنَة في الْقيمة مثلا!
قَوْله «ثُمَّ كالَذي يُهْدِي بَقَرَةً» التَّاء فيها للواحدة. قال الْجَوهري: الْبَقر اسْم جنس، والْبقَرة تقع على الذكر والْأُنْثَى، وإِنما دخله الْهاء على أَنه واحد من جنس، والبقرات جمع بقرة،... وهو مُشْتَقّ من: البَقْر، وهو: الشق، فإنَّها تبقر الأرض، أَي: تشقّها بالحراثة.
قَوْله «ثُمَّ كالذي يُهْدِي الْكَبْشَ» وفي رواية «كَبْشًا أقرن» والْكَبْش: هو الْفَحْل، وإِنَما وصف بالأقرن، لأَنه أكمل وأحسن صُورة؛ ولأَن الْقرن ينْتَفع بِهِ، وفيه فضيلَة على الأجمّ.
قَوْله «ثُمَّ كالذي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ» بِكَسْر الدَّال وفتحها لُغَتَانِ مشهورتان، وَحكى الضَّم أَيْضا. والدجاجة تقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وسميت بذلك لإقبالها وإدبارها، وجمعها: دَجَاج ودجائج ودجاجات، ذكره ابن سَيّده.
ودخلت الهاء في الدَّجَاجَة؛ لِأَنَّهُ واحد من جنس. قَوْله «ثُمَّ كالذي يُهْدِي الْبَيْضَةَ» الْبيضة واحدة من الْبيض، والجمع: بيوض وبيضات.
وفيه: أَن مراتِب النَّاس فِي الْفضِيلَة على حسب أَعْمَالهم. وَفيه: أَن القربان وَالصَّدَقَة، تقع على الْقَلِيل وَالْكثير، وقد جَاءَ فِي النَّسَائِيّ بعد الْكَبْش: «بطة ثمَّ دجَاجَة ثمَّ بَيْضَة» وفي أُخرى: «دجَاجَة ثمَّ عُصْفُور ثمَّ بَيْضَة» وإسنادهما صحيح. وفيه: إِطْلَاق القربان على الدَّجَاجَة والبيضة، لِأَن المُرَاد من التَّقَرُّب التَّصَدُّق، ويجوز التَّصَدُّق بالدجاجة والبيضة وَنَحْوهما.
وَفِيه: أَن التَّضْحِيَة من الْإِبِل أفضل من الْبَقر؛ لِأَن صلى الله عليه وسلم قدمها أَولا وتلاها بالبقرة، وأَجْمعُوا عليه في الْهَدَايَا، واخْتلفُوا فِي الْأُضْحِية فمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: أَن الْإِبِل أفضل ثمَّ الْبَقر ثمَّ الْغنم كالهدايا، ومذهب مالك: أَن الْغنم أفضل، ثمَّ الْبَقر ثمَّ الْإِبِل، قَالوا: لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، وهو فدَاء إِسْمَاعِيل علَيه الصَّلَاة وَالسَّلَام، وحجَّة الْجُمْهُور: حَدِيث الْبَاب مَعَ الْقيَاس على الْهَدَايَا، وفعله صلى الله عليه وسلم لَا يدل على الْأَفْضَلِيَّة، بل على الْجَوَاز، ولَعَلَّه لم يجد غَيره، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَنه صلى الله عليه وسلم : ضحى عَن نِسَائِهِ بالبقر.
وفيه: الْمَلَائِكَة المذكورون غير الْحفظَة، ووظيفتهم كِتَابَة حاضريها. قَالَه الْمَاوَرديّ والنَّوويّ، وروى أَحمد فِي (مسنده 36/ 581): عن أبي أُمَامَة رَضِي الله عنه سمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَقْعُدُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ والثَّانِي وَالثَّالِثَ، حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ رُفِعَتِ الصُّحُفُ» حسنه في صحيح الترغيب (710) والحفظة لَا يفارقون من وكلوا عَلَيْهِم.
وفيه: حُضُور الْمَلَائِكَة إِذا خرج الإِمَام ليسمعوا الْخطْبة، لِأَن المُرَاد من قوله «يَسْتَمِعُون الذّكر» هو الْخطْبَة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #104  
قديم 27-09-2025, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 107 )

باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس

الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
410.عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَال: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ.
الشرح: قال المنذري: باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس. والحديث رواه مسلم في الجمعة (2/589) وبوب عليه النووي: باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس. ورواه البخاري في الجمعة (904): باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الجمعة حين تَميلُ الشمس.
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه منسوب إلى جدّه، واسم أبيه: عمرو، واسم الأكوع: سِنان بن عبد الله. واخْتُلف في صُحبة جدّه، وكان من أَصحاب الشَّجرة، أي: من أهل بيعة الرضوان، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أصحابها: «لا يَدْخُلُ النَّارَ- إِنْ شاء اللَّهُ - منْ أَصحابِ الشَّجرةِ أَحَدٌ، الذين بَايَعُوا تحتَها». رواه مسلم.
وعن يَزيد بن أَبي عُبيدٍ مولَى سَلَمَةَ بنِ الأَكْوعِ قال: قلتُ لِسلمةَ: على أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يومَ الحُدَيْبِيَة؟ قال: على الْمَوْتِ. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر: أول مشاهده الحديبية، وكان من الشجعان، ويَسبق الفَرَس عَدْوًا، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عند الشجرة على الموت. اهـ. قوله: «نُجمِّع» أي: نُصلّي الجمعة. قوله: «إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ» أي: إذا مالت، وهو وقت الظهر.
قوله: «ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ» وفي رواية: «وما نجد للحيطان ظلاٌ» أي: أنه ظل قليل، فكانوا يتتبعونه لقصره عن الحيطان، وذلك لشدة التبكير في صلاة الجمعة. وهذه الأحاديث ظاهرة في تعجيل الجمعة قبل الزوال.
وقد اختلف العلماء في وقت الجمعة، فمذهب الجمهور: أن وقتها هو وقت الظهر، ومذهبُ الإمام أحمد جواز فعلها قبل الزوال، أي: قبل دخولِ وقت الظهر، وقد أشبع النووي القول في المسألة، وأورد الحجج وذكر وجوه الاستدلال، وأجاد وأفاد، فقال رحمه الله في المجموع: فرع: في مذاهب العلماءِ في وقْت الجُمُعة، قد ذكرنا أَنَّ مذْهبنا: أَنَّ وقتها وقتُ الظُّهرِ، ولا يجوزُ قبله، وبه قال مالكٌ وأَبو حنيفةَ وجمهورُ العلماء من الصحابة والتَّابعين فمنْ بعدهم.
قَال القاضي أَبو الطَّيِّب: حُكِيَ عنه أَنَّه قال: في السَّاعة الْخامسة، وقال أَصحابه: يجوز فِعلها في الْوقت الذي تُفْعَلُ فيه صلاةُ العيد. وقال الخِرَقِيُّ: في السَّاعةِ السَّادسة.
قال الْعَبْدَرِيُّ قال العلماءُ كافَّةً: لا تَجوزُ صلاةُ الْجُمُعَةِ قبل الزَّوالِ، إلَّا أَحمدَ، ونقل الماوَرْدِيُّ في الحاوي عن ابن عباسٍ كَقولِ أحمد، ونقلَهُ ابنُ الْمُنْذرِ عن عطاءٍ وإسحاق، قال: ورُوِي ذلك بِإسنادٍ لا يَثْبُتُ عن أَبي بكر وعمرَ وابن مسعودٍ ومعاويةَ.
واحتُجَّ لأحمدَ بحديث جابر قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلي الجُمُعَةَ، ثمَّ نَذْهبُ إلَى جِمَالِنا فَنُرِيحُها، حين تَزُولُ الشَّمْسُ. رواه مسلم.
وعن سلَمةَ بن الْأكْوعِ قال كُنَّا نُصلِّي مع رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وليس لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ به. رواه البخاريُّ ومسلم، وفي رواية لمسلمٍ: نَجْمعُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ.
وعن سهلِ بن سعدٍ قال: ما كُنَّا نَقِيلُ ولا نَتَغَذَّى إلَا بعد الْجُمعَةِ، في عَهْدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . رواه البخاريُّ ومسلم، وليس في روايةِ الْبخاريّ: في عَهْدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
واحتَجَّ أَصحابُنا والجمهورُ بحديث أَنسٍ: أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كَان يُصلِي الْجُمُعةَ حينَ تَمِيلُ الشَّمسُ. رواه الْبخارِيُّ.
وعن سَلَمَةَ بْن الْأَكْوعِ قال: كُنَّا نَجْمَعُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ. ورواه مسلم، هذا هو المعروفُ من فعل السّلفِ والخَلْف. قال الشَّافعيُّ: صلى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأَبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ والْأَئمَّةُ بعدهم كلَّ جمعةٍ بعد الزَّوَال.
والجواب: عن احْتجاجهم بحديث جابرٍ وما بعده، أَنَّها كُلَّها محمولةٌ علَى شِدَّةِ الْمُبالغة في تَعجيلها بعد الزَّوال، مِنْ غير إبرادٍ ولَا غيره، هذا مُختصرُ الْجواب عن الْجميعِ، وحملنا عليه الْجميعَ مِنْ هذه الْأَحاديث من الطَّرفين، وعَمَلُ الْمُسلمينَ قاطبةً، أَنَّهُمْ لَا يُصلونها إلَّا بعد الزَّوال. اهـ
والراجح: أن غايةُ ما يمكن أن تدل عليه أدلة الحنابلة: جواز فعل الجمعة قبل الزوال بشيء يسير، والتبكير بها، أي في الساعة السادسة - من ساعات النهار- وهو قول الخرقي، والأحوط في هذه المسألة، الخروج من هذا الخلاف، والعمل بمذهب الجمهور، وهو عمل المسلمين عبر العصور، وهو احتياط لأمر الصلاة، ألا تصلي الجمعة إلا بعد دخول وقت الظهر.
وقال بعضهم: تصلى الجمعة في المسجد الواحد مرتين؟!
والصواب: أن هذا من البدع المحدثة، التي لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «منْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌ». متفق عليه.
وهي مدعاة لتفرق المسلمين واختلافهم.
205- باب: في اتخاذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام عليه في الصلاة
411. عن أَبي حَازِمٍ: أَنَّ نَفَرًا جاؤوا إِلَى سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قد تَمارَوْا في المِنْبَرِ، مِنْ أَيِّ عُودٍ هو؟ فقال: أَما واللَّهِ، إِنِّي لَأَعرفُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هو؟ ومَنْ عَمِلَهُ؟ ورأَيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ يومٍ جَلَسَ عليه، قال فقلتُ له: يا أَبا عبَّاسٍ، فحدِّثْنا، قال: أَرْسَلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى امرأَةٍ - قال أَبُو حازمٍ: إنه لَيُسَمِّهَا يومئذٍ - انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عليها، فَعَمِلَ هذه الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ، ثُمَّ أَمر بِها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوُضِعَتْ هذا الْموضِعَ، فهِي مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ولقد رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عليه، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وراءه، وهو على الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حتى سَجَدَ في أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صلاتِه، ثُمَّ أَقْبَلَ على النَّاسِ، فقال: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هذا لِتَأْتَمُّوا بي، ولِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي».
الشرح: قال المنذري: باب: في اتخاذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام عليه في الصلاة.
والحديث أخرجه مسلم في المساجد (1/386) باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة.
قول النووي: باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، أي: أنه لا كراهة في ذلك إذا كان لحاجة.
قوله: «قد تَمَارَوْا في الْمِنْبَرِ» تماروا في المنبر: أي اختلفوا وتنازعوا فيه، والمنبر مشتق من النَّبر، وهو الارتفاع. قوله «مِنْ أَيِّ عُودٍ هو؟» أي: من أي خشبٍ هو؟ وما هو ارتفاعه؟
قوله: «ومَنْ عَمِلَهُ؟ » أي: من صنعه؟
قوله: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا، أُكَلِّمُ النَّاسَ عليها».
وقد روى البخاري: عن جابِرِ: أَنَّ امرأَةً قالت: يا رسولَ اللَّهِ ! أَلا أَجعلُ لك شيئًا تَقْعُدُ عليه؟ فإِنَّ لي غُلَاما نجَّارًا. قال: «إِنْ شِئْتِ» فَعَمِلَتْ المنبرَ.
وهو يدل على أنها المرأة، هي التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم صُنع المنبر.
وقد جمع العلماء كالمهلب وغيره بين الحديثين الصحيحين المتعارضين في الظاهر، وهما حديث جابر وسهل رضي الله عنه ، باحتمال أن تكون المرأة في حديث جابر، قد بدأت بالسؤال وتبرّعت للرسول صلى الله عليه وسلم بعمل المنبر، فلما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقبل رغبتها، بقوله: «إِنْ شِئْتِ» شعرت أنّ في الأمر فُسحة، وأمكن الغلام أن يبطئ بعمله، فتعلّقت نفسُ النبي صلى الله عليه وسلم به، واطمأنَّ إلى صوابه، وعَلِم طيب نفس المرأة بما بذلته من صنعة غلامها، فاستنجزها إتمامَه، وإكمالَ عِدَتها. انظر: شرح ابن بطال (2/100) و(6/226).
قوله: «فعمل هذه الثلاث درجات» هذا مما ينكره أهل العربية، والمعروف عندهم أن يقول: ثلاث الدرجات، أو الدرجات الثلاث. وهذا الحديث دليل لكونه لغة قليلة. وفيه تصريح بأن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات.
قوله: «فهي من طرفاء الغابة» الطرفاء ممدودة. وفي رواية البخاري وغيره «من أثل الغابة» بفتح الهمزة. والأثل: الطرفاء، والغابة موضع معروف من عوالي المدينة.
قوله: «ولقد رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عليه، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وراءه، وهو على الْمِنْبَرِ» أي: صلى على المنبر.
قوله: «ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد» هكذا هو «رفع» بالفاء، أي: رفع رأسه من الركوع. والقهقرى: هو المشي إلى خلف، وإنما رجع القهقرى لئلا يستدبر القبلة.
قوله: «ثُمَّ أَقْبَلَ على النَّاسِ» أي: بعد انقضاء الصلاة، «فقال: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هذا لِتَأْتَمُّوا بي، ولتعلموا صلاتي» لتعلموا: هو بفتح العين واللام المشددة، أي: تتعلموا، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - أن صعوده المنبر، وصلاته عليه إنما كان للتعليم» ليرى جميعهم أفعاله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف ما إذا كان على الأرض، فإنه لا يراه إلا بعضهم ممن قرب منه.
والحديث فيه فوائد منها:
جواز صلاة الإمام على موضع أرفع من المأمومين للحاجة، كتعليمهم الصلاة أو غير ذلك.
وصلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر، ونزوله القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته. فيه: جواز الفعل اليسير في الصلاة، وإن الخطوتين ونحوهما لا تبطل بهما الصلاة، ولكن الأولى تركه إلا لحاجة، فإن كان لحاجة فلا كراهة فيه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه: أنّ الفعل الكثير كالخطوات وغيرها، إذا تفرقت لا تُبطل الصلاة» لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر في الحديث، وجملته كثيرة، ولكن أفراده المتفرقة كل واحد منها قليل، هذا الصحيح الذي دلّت عليه الأحاديث النبوية.
وفيه: جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين، ولكن يكره ارتفاع الإمام على المأموم، وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة، فإن كان لحاجة بأنْ أراد تعليمهم أفعال الصلاة، لم يُكره، بل يستحب لهذا الحديث، وكذا إنْ أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام، واحتاج إلى الارتفاع .
وقد ورد النهي عنه إذا كان بغير حاجة، فقد روى أبو داود (598): عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أمّ الرجلُ القومَ، فلا يَقم في مكانٍ أرفع من مقامهم».
وحمل بعضُهم النهي على التنزيه.
وفيه: تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة أثناء الصلاة، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته، وليس ذلك من باب التشريك في العبادة، بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم.
وفيه: استحباب اتخاذ المنبر للخطب وغيرها، واستحباب كون الخطيب ونحوه على مرتفع كمنبر أو غيره.
وفيه: مشروعية الاستعانة بأهل الصِّناعات والمقدرة، في كل ما ينفع المسلمين. انظر شرح النووي، والفتح.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #105  
قديم 27-09-2025, 08:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 109 )

باب: رفعُ الصّوتِ بالخُطبة وما يقول فيها

الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
413.عن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال: كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وعَلَا صَوْتُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يقولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» ويقولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» ويَقْرُنُ بين إِصْبَعَيْهِ - السَّبَّابَةِ والْوُسْطَى - ويقولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ، كِتَابُ اللَّهِ، وخَيْرُ الْهُدَى، هُدَى مُحَمَّدٍ، وشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، ثُمَّ يقولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، ومَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَو ضَيَاعًا، فإِلَيَّ وعليَّ».
الشرح: قال المنذري: باب: رفعُ الصّوتِ بالخُطبة وما يقول فيها.
والحديث رواه مسلم في الجمعة (2/592) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة.
قوله: «كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا خَطَبَ» إِذا خَطَبَ، أي: يوم الجمعة، ويحتمل أنها عامة لخطب الجمعة وغيرها.
قوله: «احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وعَلَا صَوْتُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ» فيه تفخيم أمر الخطبة، وتعظيم شأنها، ورفع الصوت فيها، لإسماع جميع الحاضرين، وشد انتباههم.
قال النووي: ولعل اشتداد غضبه، كان عند إنذاره أمراً عظيما، وتهديده خَطباً جسيما. انتهى.
قوله: «حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ» أي: كأنه يُنذر بقدوم جيش عدوٍ من الأعداء على البلد. «يقولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» الضمير فيها عائد على «مُنْذِرُ جَيْشٍ» أي: ربما دهمكم العدو في الصباح أو المساء، وذلك لقربه منكم.
قوله: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» «ويَقْرُنُ بين إِصْبَعَيْهِ - السَّبَّابَةِ والْوُسْطَى» هذا القدر رواه البخاري في كتاب الرقاق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (النحل:77).
قال أبو البقاء العكبري في إعراب المسند: «الساعة» بالنصب والواو فيه بمعنى «مع» قال: ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى؛ لأنه لا يقال بعثت الساعة، ولا هو في موضع المرفوع، لأنها لم توجد بعد. قال الحافظ ابن حجر: وأجاز غيره الوجهين، بل جزم عياض بأنّ الرفع أحسن، وهو عطفٌ على ضمير المجهول في «بعثت» قال: ويجوز النصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء، وزاد: أو على ضمير يدل عليه الحال، نحو: فانتظروا، كما قُدّر في نحو: جاء البردُ والطيالسة فاستعدوا.
قوله: «بُعثتُ أنا والساعة» والمراد بالساعة هنا يوم القيامة، والأصل فيها، أنها قطعة من الزمان، وهي جزء من أربعة وعشرين جزءاً من اليوم والليلة. وقد ثبت في حديث جابر المرفوع: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة».
وقوله: «كهاتين» ووقع في رواية سفيان «كهذه من هذه أو كهاتين» وفي رواية عند مسلم: «بعثت أنا والساعة هكذا»، وفي البخاري «هكذا ويشير بإصبعيه فيمد بهما».
قوله: «ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى» قوله «يقرن» هو بضم الراء على المشهور والفصيح، وحكي كسرها.
والسبابة الإصبع التي تلي الإبهام، وسُميت سبّابة؛ لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب. وفي حديث المستورد بن شداد مرفوعاً: «بعثت في نفس الساعة، سبقها كما سبقت هذه لهذه» لإصبعيه السبابة والوسطى. أخرجه الترمذي والطبري. وقوله: «في نفَس» بفتح الفاء، وهو كناية عن القُرب، أي بعثت عند تنفسها.
وقال القاضي: يحتمل أنه تمثيلٌ لمقاربتها، وأنه ليس بينهما إصبع أخرى، كما أنه لا نبي بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة، وأن التفاوت بينهما، كنسبة التفاوت بين الإصبعين تقريبا لا تحديداً.
وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} الآية 77 من النحل، كذا ذكر البخاري هذه الآية معطوفة على الحديث، وفيها: إثبات قدرة الله -تعالى- التامة التي لا تمانع، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له (كن) فيكون بلمح البصر.
قوله: «أَمَّا بَعْدُ» مضى الكلام عليها في الحديث السابق.
وقوله «السبابة» سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب.
قوله: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ، كِتَابُ اللَّهِ» هذا كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ...} (الزمر: 23).
قال ابن كثير: «هذا مدحٌ من الله عزّ وجل لكتابه: القرآن العظيم، المنزّل على رسوله الكريم».
وقال العلامة السعدي رحمه الله: يُخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه: { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، علم أنّ ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجلّ المعاني؛ لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه، متشابهاً في الحسن والائتلاف، وعدم الاختلاف بوجهٍ من الوجوه، حتى إنه كلما تدبره المتدبّر، وتفكّر به المتفكر، رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا هو المراد بالتشابه في هذا الموضع انتهى.
وقوله: «خير الهدي هدي محمد» هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضا ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين. وقال القاضي عياض: رويناه في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبالفتح ذكره الهروي، وفسره الهروي على رواية الفتح: بالطريق، أي: أحسن الطرق طريق محمد، يقال: فلان حسن الهدي، أي الطريقة والمذهب، وفي الحديث «اهتدوا بهدي عَمّار».
وأما على رواية الضم فمعناه: الدّلالة والإرشاد.
ق ال العلماء: لفظ الهدي له معنيان: أحدهما: بمعنى الدّلالة والإرشاد، وهو الذي يُضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(الشورى: 52). وقال إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ } (الإسراء: 9). ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}(فصلت: 17)، أي: بيّنا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}(الإنسان: 3)، و{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(البلد: 10). والثاني: بمعنى اللطف والتوفيق، والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرّد الله -تعالى- به، ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56).
وقالت القدرية: حيث جاء الهُدى فهو للبيان! بناء على أصلهم الفاسد في إنكار القدر!
وردّ عليهم أهل الحق، مثبتي القدر لله تعالى، بما سبق من الآيات، وبقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(يونس: 25)، ففرّق بين الدعاء والهداية.
قوله «وكل بدعة ضلالة» زاد النسائي بإسنادٍ حسن: «وكل ضلالةٍ في النار».
والبدعة لغة: ما أُحدث على غير مثالٍ سابق، يقال: جئت بأمرٍ بديع، أي: محدث عجيب لم يعرف قبل ذلك.
وفي الشرع: البدعة هي الأمر المحدَثُ المخترع، الذي لم ينص عليه في القرآن، ولا جاء في السنة النبوية.
فالبدعة في الدين هي: إحداث عبادة، لم يشرعها الله سبحانه وتعالى.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم : «وكل بدعة ضلالة» هذا عام مخصوص! والمراد به غالب البدع» اهـ. شرح مسلم (6/154).
كذا قال. والصحيح: أن لفظة «كل» تدل على العموم، وتمنع التخصيص، فلا يخرج عنها شيءٌ، إلا بدليل، ولا دليل هنا!
ثم هذا لفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى، وقد أوتي جوامع الكلم.
بل قد جاءت الأدلة الكثيرة تؤيد هذا الحديث، كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «وإياكم ومُحدثات الأمور، فإنّ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة». رواه أحمد وأهل السنن.
وقال أيضاً: عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد». يعني: فهو مردود. متفق على صحته.
وقال صلى الله عليه وسلم : «من عمل عملاً، ليس عليه أمرنا فهو رد». خرجه مسلم في الصحيح.
وأما تقسيم البدع إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهذا مما لا دليل عليه من كتابٍ ولا سنة، ولا جرى عليه عمل السلف!
كما أن فيها استدراكاً على كلام النبي[!
كما جاء في القرآن أيضا نحوها، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63).
وأما البدع الدنيوية، والمخترعات العادية: فما غلب فيها جانب المصلحة على جانب المفسدة، فهي جائزة وإلا فهي ممنوعة، ومن أمثلة ذلك: ما أحدث من أنواع المطاعم والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب كالسيارات والطائرات ونحو ذلك.
وكذا ما كان وسيلة لغيره وليس مقصوداً لذاته، كمكبرات الصوت في الأذان والصلوات، وإضاءة المساجد وتكيفها، وكطبع القرآن وكتابته وتسجيله، ونحوها من وسائل حفظه وتعلمه وتعليمه، فهو من الوسائل والتيسيرات للعبادات، وليس فيها محذور شرعي، فاستعمالها لا بأس به، إذا لم يكن في ذلك ظلم أو منكر، وليست داخلة في الأحاديث المحذرة من البدع.
أما حديث: «منْ سنّ في الإسلام سُنةً حَسنة، فله أجرها» الحديث في مسلم. فهذا معناه: إحياء السنن وإظهارها، والدعوة إليها، وتعظيمها حتى يعرفها الناس، ويعملوا بها، فيكون له مثل أجورهم، ليس معناه: ابتدع بدعة؟!
ويدل عليه سبب الحديث، فإنّ سببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ناساً عليهم آثار الفقر والحاجة، فخطب الناس وذكرهم، وحثهم على الصدقة، فجاء رجل بصرةٍ من فضة في يده، كاد كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس بالصدقات، فقال عند ذلك: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنَ في الإسلام سنةً سيئة، كان عليه وزرها، ووزر منْ عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئا».
فالمعنى: أن إظهار السنن والدعوة إليها، يكون لفاعل ذلك أجر ما فعل، ومثل أجور من اقتدى به فيها. وهكذا من دعا إلى الباطل والمعاصي، وابتدع في الدين، يكون عليه إثم ذلك، ومثل آثام من تابعه في البدعة، وليس معنى: «سن في الإسلام» يعني ابتدع؛ لأن هذا يناقض الأحاديث الصحيحة؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر البدع، وحذّر منها.
وننصح بالرجوع إلى كتاب: الاعتصام، للإمام الشاطبي، والسنن والمبتدعات، للشقيري، والإبداع في مضار الابتداع، لعلي محفوظ.
قوله: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» هو موافق لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب:6). أي: أحق؛ لأنه أرحم بهم من أنفسهم، وهو أعظم الخلق عليهم منّةً، بما حصل لهم من الخير على يديه.
قال النووي: قال أصحابنا: فكأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اضطر إلى طعام غيره، وهو مضطر إليه لنفسه، كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخذه من مالكه المضطر، ووجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم . قالوا: ولكن هذا وإن كان جائزاً فما وقع.
قوله: «ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي» هذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم : «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه». قال أهل اللغة: الضياع - بفتح الضاد - العيال، قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعا، المراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موضع الاسم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام، لا يصلي على من مات وعليه دين، ولم يخلف وفاء له؛ لئلا يتساهل الناس في الاستدانة، ويهملوا الوفاء، فزجرهم على ذلك بترك الصلاة عليهم، فلما فتح الله -تعالى- على المسلمين الفتوح، وكثر المال، قال صلى الله عليه وسلم : «من ترك دينا فعلي» أي: قضاؤه فكان يقضيه.
قال النووي: اختلف أصحابنا: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه قضاء ذلك الدين، أم كان يقضيه تكرما؟ والأصح عندهم: أنه كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم .
واختلف أصحابنا هل هذه من الخصائص أم لا؟ فقال بعضهم: هو من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يلزم الإمام أن يقضي من بيت المال دين من مات، وعليه دين إذا لم يخلف وفاء، وكان في بيت المال سعة، ولم يكن هناك أهم منه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #106  
قديم يوم أمس, 06:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 110 ) بــــــــاب: الإيــــجــــــــاز فــــــي الخـــطــبــــــة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
414.عن أَبي وائِلٍ قال : خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يا أَبا الْيَقْظَانِ، لقد أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فلو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ، فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، واقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا».
الشرح: قال المنذري: باب: الإيجاز في الخطبة. والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/594) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة.
قوله: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ « عمار هو ابن ياسر بن عامر العنْسي، أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، صحابيٌ جليل مشهور ، من السابقين الأولين، ومن البدريين، قُتل مع علي -رضي الله عنه- في صفين سنة سبعٍ وثلاثين، روى له الستة.
قوله: «فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ» أي: أطلت قليلا.
قوله: «إِنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ، وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِه» مئنة: أي علامة .
قوله: «فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ» ليس هذا مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة؛ لأن المراد هنا: أن تكون الصلاة طويلة بالنسبة إلى الخطبة، وليس تطويلاً يشق على المأمومين؛ لأن هذا يُخالف سنته المعروفة .
وجاء في حديث جابرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: «كنتُ أُصَلِّي مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، فكانتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا ، وخُطْبَتُهُ قَصْدًا» . رواه مسلم (866) .
وفي رواية: «كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا يُطِيلُ الْمَوعظَةَ يوم الْجُمُعَة، إنما هُنَّ كلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ». رواه أبو داود (1107) .
قوله: «واقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» واقْصُرُوا بهمزة وصل.
فهذه الأحاديث تدل على إقصار الخطبة، وإطالة الصلاة، وعامة الفقهاء على استحباب ما جاءت به الأحاديث من إقصار الخطبة، وعدم إطالتها.
والإطالة والإقصار من الأمور النسبية، التي لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة لغيرها، والإقصار هنا لم يرد حدٌّ لأقله، ونُقل عن الشافعي في القديم: أنّ أقل الخطبة: كأقصر سورة في القرآن، وذكر الماوردي: إنْ حَمِد الله تعالى، وصلى على نبيه ووعظ أجزأه ، ونُقِل عن ابن العربي أن أقلَّها: حمد الله، والصلاة والسلام على نبيه، وتحذير وتبشير وقرآن. الحاوي الكبير (2/443).
وقال البغوي رحمه الله تعالى: «وأقل ما يقع عليه اسم الخُطبة : أنْ يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُوصي بتقوى الله، هذه الثلاث فرضٌ في الخُطبتين جميعاً، ويجب أنْ يقرأ في الأولى آية من القرآن، ويدعو للمؤمنين في الثانية، فلو ترك واحدًا من هذه الخمس، لا تصح جمعته عند الشافعي رحمه الله» شرح السنة (4/ 364) .
وأحال ابن جُزي المالكي في مقدارها على عُرف العرب فقال: «وأقل ما يسمى خُطبة عند العرب، وقيل: حمدٌ وتصلية ووعظ وقرآن» القوانين الفقهية (ص56).
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «وأما قصر الخُطبة فسنةٌ مسنونة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله».
وقال أيضاً: «وأهل العلم يكرهون من المواعظ، ما يُنسي بعضُه بعضاً لطوله، ويستحبون من ذلك: ما وقف عليه السامع الموعوظ، فعده بعد حفظه له؛ وذلك لا يكون إلا مع القلة» الاستذكار(2/363-364 ).
وانظر: الأوسط لابن المنذر: 4/60، والمغني لابن قدامة (2/78) .
لكن ذلك لا يعني المبالغة في إقصارها، كما نقل النووي -رحمه الله- عن فقهاء الشافعية: «قال أصحابنا: ويكون قصرها معتدلاً، ولا يبالغ بحيث يمحقها». المجموع (4/448).
وقال زكريا الأنصاري رحمه الله: «القصر والطول من الأمور النسبية، فالمراد بإقصار الخطبة إقصارها عن الصلاة، وبإطالة الصلاة إطالتها على الخطبة» أسنى المطالب (1/260) .
وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام فقد قال: «الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة» مجموع الفتاوى (22/597).
فالأصل هو الإقصار، وقد أجاز بعض الفقهاء الإطالة إذا اقتضى الحال ذلك، قال الأذرعي من الشافعية: «وحَسَنٌ أن يختلف ذلك باختلاف أحوالٍ وأزمان وأسباب، وقد يقتضي الحال الإسهاب، كالحث على الجهاد، إذا طرق العدو والعياذ بالله -تعالى- البلاد، وغير ذلك من النهي عن الخمر، والفواحش والزنا والظلم، إذا تتابع الناس فيها» نهاية المحتاج (2/326).
وهذه الإطالة الطارئة لا تخرج الخطيب عن مئنة الفقه؛ كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وأحيانا تستدعى الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب أحياناً بسورة (ق)، وسورة (ق) مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً». الشرح الممتع (5/65).
والحديث الذي ذكره: هو حديث بِنْت حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ رضي الله عنها قالت: «ما حَفِظْتُ ق إلا منْ فِي رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ» رواه مسلم (873).
ومعلوم أن سورة (ق) ليست بالقصيرة، فكيف إذا ضُم إليها افتتاحه الخطبة بخطبة الحاجة، وربما أنه ذكّر ووعظ كما هو هديه صلى الله عليه وسلم في الخطبة.
وكذلك ما نقل عن عمر رضي الله عنه، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد منهم:
وهو حديث رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ: «أنه حضر عمَرَ بن الْخطابِ رضي الله عنه قَرَأَ يوم الْجُمُعَةِ على الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حتى إذا جاء السَّجدةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ الناس، حتى إذا كانت الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بها، حتى إذا جاء السَّجْدَةَ قال: يا أَيُّهَا الناس، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، ومَنْ لم يَسْجُدْ فلا إِثْمَ عليه، ولم يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه» رواه البخاري (1027) .
وظاهر الحديث أنه قرأ السورة كلها في الجمعتين، ومعلوم أن سورة النحل طويلة جداً، وبعيد أنْ يطيل الصلاة أكثر من الخطبة، وإلا لشق على الناس، وكانت خطبتاه بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُعرف منكر عليه هذا التطويل.
الذي يظهر - والله أعلم - أن تحديد خطبة الجمعة بمقدار معين من الكلام أو بزمن معين ليس مراداً، وأن ذلك تُرك لأحوال الناس والزمان والمكان، وأُنيط باجتهاد الخطباء؛ بحيث يأتون بما ينفع الناس، مع مراعاة الأصل العام وهو التخفيف؛ لأنه مئنة الفقه، دون تحديد مقدار هذا التخفيف، وأن لا تكون الخطبة طويلة مملة غير نافعة، ولو كانت قصيرة، بل تكون نافعة ولو كانت أطول من غيرها.
وبهذا تجتمع الأدلة، ولا يُضرب بعضها ببعض، ويبطل حجة من يقول: الخطباء يدعون الناس في خطبهم للالتزام بالسنة ثم يخالفونها هم في خطبهم .
ومما يعين على قصر الخطبة: أن يتصور الموضوع تصوراً صحيحاً، وذلك بجمع مادته قبل الخطبة، وكتابتها وتقسيمها وترتيبها.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #107  
قديم يوم أمس, 06:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 111 ) باب: ما لا يجوز حذفه من الخطبة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
415.عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: ومَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». قال ابنُ نُمَيْرٍ: فَقَدْ غَوِيَ.
الشرح: قال المنذري: باب: ما لا يجوز حذفه من الخطبة.
والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/594) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة.
عَدِيِّ بن حاتِم، هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس، الصحابي الشهير، الأمير الشريف، أبو وهب وأبو طريف الطائي، أبوه حاتم الطائي، الذي يضرب بجوده وكرمه المثل. وفد عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في وسط سنة سبع، فأكرمه واحترمه.
وكان ممن ثبت على الإسلام في الردة، وحضر فتوح العراق وحروب علي.
قال ابن الكلبي: مات عدي سنة سبع وستين، وله مائة وعشرون سنة.
وقال ابن سعد: سنة ثمان وستين، وقيل: سنة ست وستين. روى عنه الستة.
‏قوله «أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بئس الخطيب أنت؟! قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» أي: كره النبي صلى الله عليه وسلم كلمته هذه، فأنكرها.
وقد اختلف العلماء في جواز التشريك في الضمير بين الله والرسول صلى الله عليه وسلم :
فذهب طائفة إلى جواز ذلك: فقال النووي: قال القاضي وجماعة من العلماء: إنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى بتقديم اسمه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا يقلْ أحدُكم: ما شاءَ اللهُ وشاءَ فلان، ولكن ليقلْ: ما شاءَ اللهُ ثم شاء فلان».
قال: والصواب أنّ سببَ النهي: أن الخُطب شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز، ولهذا ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمةٍ، أعادها ثلاثاً ليفهم، وأما قول الأوليين فيضعف بأشياء، منها: أن مثل هذا الضمير قد تكرر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «أنْ يكونَ اللهُ ورسوله، أحب إليه مما سواهما» وغيره من الأحاديث.
وإنما ثنَّى الضمير هاهنا، لأنه ليس خطبة وعظٍ، وإنما هو تعليم حُكم، فكلما قلّ لفظه، كان أقرب إلى حفظه، بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظه، وإنما يراد الاتعاظ بها.
قال: ومما يؤيد هذا، ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، منْ يهد الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيرا بين يدي الساعة، من يُطع الله ورسوله فقد رَشد، ومنْ يعصهما فإنه لا يَضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا». والله أعلم. ‏
واستدلوا أيضا: بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء فقال: «أُكِلت الحُمُر، ثم جاءه جاءٍ فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أفنيتْ الحمر، فأمر منادياً فنادى في الناس: إنّ الله ورسوله يَنهيانكم عن لحوم الحُمر الأهلية، فإنها رِجسٌ، فأُكفئت القُدور وإنها لتفور باللحم» أخرجه البخاري (5208) ومسلم (3 /1540).
القول الثاني: المنع من الجمع بين اسم الله -تعالى- واسم رسوله صلى الله عليه وسلم بضمير واحد.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (الزاد) في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حِفظ المَنطق واختيار الألفاظ: «ومنْ هذا: قوله للخطيب الذي قال: منْ يطع الله ورسوله فقد رشد، ومنْ يعصهما فقد غَوى: «بئس الخطيب أنت».
قال: فهذا الحديث نصٌ في منع الجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم بالتكنية نحو: «ومنْ يعصهما» لما يوهم من التَّسوية، وفي هذا إتمامُ حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد انتهى.
وللحافظ صلاح الدين العلائي رحمه الله كلام جامع في هذه المسألة، نذكره ملخصاً؛ إذْ يقول: الجمع بين هذه الأحاديث وجوه:
أحدها: أنّ هذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعطي مقام الربوبية حقّه، ولا يتوهم فيه تسويته له بما عداه أصلاً، بخلاف غيره من الأئمة، فإنه مظنة التسوية عند الإطلاق والجمع في الضمائر، بين ما يعود إلى اسم الله -تعالى- وغيره، فلهذا جاء بالإتيان بالجمع بين الاسمين بضميرٍ واحد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين المشار إليهما، وفي قوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وغير ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم ذلك الخطيب بالإفراد، لئلا يوهم كلامه التسوية.
وثانيها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حيثُ أنكرَ على ذلك الخطيب، كان هناك من يتوهم منه التسوية بين المقامين، عند الجمع بين الاسمين بضميرٍ واحد، فمنع من ذلك؛ وحيث لم يكن هناك منْ يلبس عليه، أتى بضمير الجمع، وهذا لعله أقرب من الذي قبله.
وثالثها: أنّ ذلك المنع لم يكن على وجه التّحتُم، بدليل الأحاديث الأُخَر، بل على وجه الندب والإرشاد، إلى الأولوية في إفراد اسم الله -تعالى- بالذكر، من التعظيم اللائق بجلاله، وهذا يرجع في الحقيقة إلى ما قاله أئمة الأصول أولاً، لكن بزيادة أن ذلك ليس حتماً، وحينئذ فلا تكون الواو مقتضية للترتيب.
ورابعها: أنّ ذلك الإنكار كان مختصاً بذلك الخطيب، وكأنّ النبي صلى الله عليه وسلم فَهِم عنه أنه لم يجمع بينهما في الضمير، إلا لتسويته بينهما في المقام، فقال له: «بئسَ الخطيب أنت» فيكون ذلك مختصا بمن حاله كذلك، ولعل هذا الجواب هو الأقوى؛ لأن هذه القصة واقعة عين، وما ذكرناه محتمل، ويؤثر هذا الاحتمال فيها أنْ يحمل على العموم في حق كل أحد، فإذا انضم إلى ذلك حديث أبي داود، الذي علَّم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، كيفية خطبة الحاجة، وفيها «ومن يعصهما» بضمير التثنية، قَوِي ذلك الاحتمال، وهذا مثل ما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تفضلوني على موسى» مع قوله: «أنا سيد ولد آدم» فقيل في الجمع بينهما وجوه: منها: أنّ الذي منعه من التفضيل، فهم منه غَضّاً من منصب موسى -عليه السلام- عند التفضيل عليه، فمنعه منه، فيكون ذلك مختصا بمن هو مثل حاله، والعلم عند الله.
وخامسها: أنّ الترتيب على سبيل التعقيب، وضعوا له الفاء، وعلى سبيل التراخي وضعوا له «ثم» ومطلق الترتيب، وهو القدر المشترك بين الخاصتين معنى معقول أيضا، فلا بدّ له من لفظ يدل عليه بالوضع؛ لأن المقتضي لذلك قائم، والمانع منتف، ويلزم من ذلك أن تكون الواو هي الموضوعة له؛ إذ لا غيرها موضع له بالاتفاق.. إلخ ما قال «الفصول المفيدة في الواو المزيدة» لصلاح الدين العلائي ( ص91- 96).
والذي يترجّح في الجمع بين الأحاديث المانعة والمبيحة: إنْ كان قَصْدُ المتكلم بالتشريك في الضمير، التسوية بين الخالق والمخلوق فهو كفر! وإنْ لم يَقصد التّسوية، نظرنا فإن كان التشريك في الضمير يقتضي معنى فاسداً، مُنع منه، كإنكاره صلى الله عليه وسلم على الخطيب قوله: «ومن يَعصهما فقد غوى» لأن الغواية حاصلة بعصيان أحدهما.
وإن كان عدم التشريك في الضمير، يقتضي معنى فاسداً، منع منه وصرنا إلى التشريك، كقوله صلى الله عليه وسلم : «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» لأن محبة الله فقط، لا يتحقق بها الإيمان، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا يتحقق بها الإيمان، بل لا بد من اجتماع المحبتين، وإنْ كان التشريك وعدمه لا يقتضي معنى فاسداً، صار التشريك بذلك جائزاً، والله أعلم.
‏قوله «قال ابن نمير فقد غَوِي» ‏هكذا وقع في النسخ:غوِي بكسر الواو، قال القاضي: وقع في روايتي مسلم بفتح الواو وكسرها، والصواب الفتح، وهو من الغَيّ، وهو الانهماك في الشّر.
كما في قوله تعالى {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 2). فنزه نبيه ‏ صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه، وعن الغي في قصده، بل هو مهتد ناصح حسن القصد.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #108  
قديم يوم أمس, 06:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 112 ) باب: قراءةُ القُرآن على المِنْبر في الخُطبة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
416.عن أُمِّ هِشَامٍ بنتِ حارثَةَ بنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنها قالَت: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وتَنُّورُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا، سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وما أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إِلّا عن لِسَانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.
الشرح: قال المنذري: باب: قراءةُ القُرآن على المِنْبر في الخُطبة. والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/595) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة. أم هشام بكسر الهاء بنت حارثة بن النعمان الأنصارية، صحابية مشهورة، وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، وقد روت عنها عمرة الحديث في رواية لمسلم. روى لأم هشام: م د س ق.
قولها: «لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وتَنُّورُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا، سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ» التنور ما يُخبز به، وفيه إشارة إلى حفظها، ومعرفتها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقُربها من منزله.
قولها: «ما أخذتُ» أي: ما حَفِظت (ق والقرآن المجيد) أي هذه السورة. «إلا عن لسان رسول الله يقرؤها كل جمعةٍ على المنبر، إذا خطب الناس» أي: أنها كانت تحضر الخطبة، وتسمع قراءته لها، فحفظتها منه.
قال النووي: وفيه استحباب قراءة (ق) أو بعضها في كل خُطبة.
قال الطِّيبي: المراد أول السورة لا جميعها،؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ جميعها في الخطبة. انتهى.
قال القاري: وفيه أنه لم يُحفظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ أولها في كل جمعة، وإلا لكانت قراءتها واجبة أو سُنّة مؤكدة، بل الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعةٍ بعضها، فحفظت الكل في الكل. انتهى.
وقال ابن حجر المكي: قوله: «يقرؤها» أي: كلها، وحملها على أول السورة، صرفٌ للنص عن ظاهره. انتهى.
وقال في عون المعبود (3/449-450): القول ما قال ابن حجر المكي، وما قاله الطيبي هو خلاف الظاهر انتهى.
قلت: كان يفعل ذلك أحياناً، ونحن نصرفه عن ظاهره، بقراءته لها على خطبٍ متعددة، إذْ الحمل على كل السورة في كل خطبةٍ، مستبعد جداً! فهذا الحديث هو من العام المخصوص، بدليل أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب خطباً كثيرة، ليس فيها سورة (ق)، فقد روى مسلم أيضا (2/595): عن صفوان بن يعلى عن أبيه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر (ونَادَوا يا مَالك) الزخرف: 77.
وروى أحمد وابن ماجة بإسناد حسن: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قــرأ يوم الجمعة (تَبَارك)، وهو قائم..» الحديث.
وروى أبو داود: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم فلما بلغَ السجدةَ نزل فسَجد، وسَجد الناس معه».
وروى ابن خزيمة في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة «براءة» فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟... الحديث. ورواه أحمد وابن ماجة.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار) بعد ذكر أحاديث كثيرة في قراءة سورة من القرآن على المنبر ما نصه: والظاهر من أحاديث الباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُلازم قراءة سورة، أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرةً هذه السورة، ومرة هذه، ومرة هذه الآية انتهى.
فيؤخذ مما سبق:
1- مشروعية قراءة آياتٍ من القرآن في خطبة الجمعة، سواء قيل بالشرطية أو الوجوب أو الاستحباب. قال النووي في شرح مسلم (6/160) قوله: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر (ونَادَوا يا مَالك)(الزخرف: 77)» فيه: القراءة في الخطبة، وهي مشروعة بلا خلاف، واختلفوا في وجوبها، والصحيح عندنا وجوبها، وأقلها آية. انتهى.
وهو مذهب الحنابلة أيضا، وأنها ركنٌ من أركان الخطبة.
وقال القرطبي في المفهم (2/512): «وفي قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية - يعني قوله تعالى: (ونادوا يا مالك) - وسورة (ق) دليلٌ على صحة استحباب مالك قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وخصّ هذه الآية، وسورة (ق)، لما تضمّنته من المواعظ، والزجر والتحذير» انتهى.
وقد قال غير واحد: إن سبب اختيار سورة (ق) أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة.
2- وفيه: سُنية الخطبة بقراءة سورة (ق) بمفردها، وهو الظاهر من مراد لأنها قالت «يخطب بها كل جمعة» وفي اللفظ الآخر «وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة»، فحفظتها من كثرة ما يردد النبي صلى الله عليه وسلم آياتها في ثنايا خطبه.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/423-424): «وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم ، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان، من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمرٌ لا يُحصِّلُ في القلب إيماناً باللّه، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتُقسم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم، فيا ليت شعري أيّ إيمانٍ حصل بهذا؟! وأيِّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!.
ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذِكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوة إلى اللّه، وذِكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامِه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة اللّه وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذِكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثم طال العهد، وخفي نورُ النبوة، وصارت الشرائعُ والأوامرُ رسوماً تُقام، من غير مراعاةٍ حقائقها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيّنوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلالُ بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإِخلال بها، فرصعوا الخُطب بالتسَجيع والفِقر، وعلم البديع، فَنقَص بل عَدمَ حظُ القلوب منها، وفات المقصود بها!
فمما حُفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر أنْ يخطُب بالقرآن وسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا منْ في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مما يخطب بها أعى المنبر.
قال: وحُفظ من خطبته أيضا: الحمد لله نستعينه ونستغفره... انتهى
3- كيف يبتدئ الخطيب الخطبة إذا أراد أن يقرأ السورة؟ هل يفتتحها بالحمد كالمعتاد، أم يبدأ بالاستعاذة ثم بالبسملة، ثم يقرأ السورة؟
والجواب: أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه: البدء بخطبة الحاجة، فيبدأ بها، ثم يقرأ السورة.
4- هل تقسم السورة على الخطبتين؟ أم يقرؤها في الأولى،ثم يبين للناس في الثانية سبب قراءتها، ويوضح معانيها بإجمال شديد؟
والجواب: أنّ ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الخطبتين، ولو قرأها كاملة في الخطبة الأولى ثم فسرها باختصار، فهو أفضل.
5- هل له أن يرتّل على المنبر سورة (ق) وكذا الآيات الثلاث، وهي آية آل عمران ثم آية النساء ثم آية الأحزاب من خطبة الحاجة؟
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، فقال: «يقرأها قراءة عادية أو مرتلة، كله طيب ما فيه شيء، الأمر واسع».
انتهى من الشريط الأول من شرحه على كتاب النكاح من بلوغ المرام.
وقد وجه السؤال لللجنة الدائمة للإفتاء، وأجابت بالمنع من الترتيل:
لقد ظهر في ساحة الدعوة عندنا بعض الخطباء، وعند ذكر خطبة الحاجة عند الوصول إلى الآيات الثلاث الواردة في الخطبة، يرتلون الآيات كما لو كانوا يقرؤون في القرآن، فهل هذا مشروع، وبعضهم يزيد على الترتيل استبدال آية (يا أيها الذين آمنُوا اتقوا اللهَ وقولوا قولاَ سديداً) بآية سورة الحج (يا أيها الناس اتقوا ربكم....) الآية، فما جوابكم عليهم جزاكم الله عنا كل خير؟
الجواب:
تلاوة الآية عند الاستدلال بها في الخُطبة، تلقى كما تلقى الخطبة استشهاداً بها، وأما قراءة آية الحج فلا مانع منها، وليست هي من الآيات التي تقرأ في خطبة الحاجة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء.
وكذا قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه (تصحيح الدعاء) (ص 320)، قال: «مما أحدث الوعّاظ وبعض الخطباء في عصرنا: مغايرة الصّوت عند تلاوة القرآن لنسق صوته في وعظه أو الخطابة.
وهذا لم يُعرف عن السالفين ولا الأئمة المتبوعين، ولا تجده لدى أجلاّء العلماء في عصرنا، بل يتنكّبونه، وكثير من السّامعين لا يرتضونه، والأمزجة مختلفة، ولا عبرة بالفاسد منها، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها، والله أعلم». انتهى


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #109  
قديم يوم أمس, 06:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 113 ) باب: الإشارة بالإصْبع في الخُطبة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
417.عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه قال: رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على الْمِنْبَرِ، رَافِعًا يَدَيْهِ، فقال: قَبَّحَ اللَّهُ هاتَيْنِ الْيَدَيْنِ! لقد رَأَيْتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما يَزِيدُ على أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هكذا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ.
الشرح: قال المنذري: باب: الإشارة بالإصبع في الخطبة. والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/595) في الباب السابق: باب: تخفيف الصلاة والخطبة. عُمارة بن رُؤَيبةَ الثقفي، أبو زهير، صحابي، نزل بالكوفة، تأخرت وفاته إلى بعد السبعين، روى له: م د ت س.
وحصين الراوي عنه، هو ابن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي، تابعي ثقة، تغير في آخر عمره، روى له الجماعة.
قوله «رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على الْمِنْبَرِ» بِشر بن مروان أميرٌ أموي، أحد الأجواد، من أبناء الخليفة مروان بن الحكم، وأمه قُطَيَّة بنت بشر البدوية من بني كلاب، استعمله أخوه الخليفة عبد الملك بن مروان على الكوفة بعد مقتل مصعب بن الزبير، على صلاتها وخراجها سنة 71هـ، وفي سنة 73هـ عزل عبد الملك خالد بن أسيد عن ولاية البصرة، لإخفاقه في حرب الخوارج الأزارقة، وضم البصرة إلى أخيه بشر.
ولما مات بشر وقف الفرزدق على قبره، ورثاه بأبياتٍ، فما بقي أحدٌ إلا بكى. قال خليفة في تاريخه: مات بالبصرة سنة خمس وسبعين، وله نيف وأربعون سنة.
قوله «رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ على المِنْبَرِ» على عادة الأمراء سابقا، أنهم يتولون خطبة الجمعة.
قوله «قَبَّحَ اللَّهُ هاتَيْنِ الْيَدَيْنِ» القبح ضد الحسن، وهو إنكارٌ شديد عليه ودعاء، لمخالفته للسنة النبوية، وإقرار البقية له.
قال النووي: فيه: أَنَّ السُّنَّة أَلا يَرْفَع الْيَد في الْخُطْبة، وهو قول مالك وأَصحابنَا وغيرهم اهـ.
فالْحديثُ يَدُلُّ علَى المنع من رفْعِ الأَيْدي علَى المِنْبَر أثناء الدُّعَاءِ، للإمام والمأموم، فإنه إذا لم يُشرع رفع اليدين للخطيب، فالمأمومون مثله؛ لأنهم يقتدون به ويتابعونه. إنما ورد في شأن الخطيب يوم الجمعة، أنه إذا دعا على المنبر، يشير بسبابته فقط، ولا يرفع يديه.
وإنْ كان الأصل أنْ يرفع الداعي يديه عند الدعاء، وهو من موجبات قبول الدعاء، لقول النبيصلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْه يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» رواه الترمذي (3556).
ففي هذا الْحديث دَلالَةٌ علَى اسْتحبابِ رَفْعِ الْيدين في الدُّعاءِ، والْأَحاديثُ فيه كثيرة.
لكن إذا دعا الإمام للاستسقاء يوم الجمعة وهو على المنبر، فالسُنة أن يرفع يديه، ويرفع المأمومون أيديهم ويدعون معه.
فقد روى البخاري (933) ومسلم (897): عن أَنسِ بنِ مالكٍ قال: أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ، قامَ أَعْرَابِيٌّ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وجاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ.
زاد البخاري في رواية تعليقاً ووصلها البيهقي: «ورَفَعَ النَّاس أَيْدِيهمْ مع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ».
وهكذا قال علماؤنا المعاصرون، فقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
ما حكم رفع اليدين في الدعاء يوم الجمعة للمأمومين، ذلكم أني أرى هذه الظاهرة منتشرة بكثرة؟
فأجاب: أما حال الخُطبة، فلا يَرفع الإمام ولا يرفع المأمومون، يُنصتون ولا يرفعون أيديهم، ولا يرفع هو في الخُطبة، إلا في الاستسقاء، إذا استسقى طلب الغوث طلب المطر، يرفع يديه ويرفعون أيديهم معه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، لما استسقى عليه الصلاة والسلام، أما الخطبة العادية التي ليس فيها استسقاء، فإنّ السُنة أنه لا يرفع ولا يرفعون، ولو دعا يدعو لكن من دون رفع، وهكذا خطبة العيد ليس فيها رفع، إلا إذا استسقى، إذا طلب السُقيا: طلب الغوث، طلب المطر، فإنّ السُنة أن يرفع يديه، والمأمومون كذلك يرفعون أيديهم، في الجمعة وفي غيرها، إذا استسقى يرفعون أيديهم، حتى لو جلس العالم بين أصحابه واستسقى ورفع يديه، يرفعون أيديهم في حلقه العلم، أو في أي مكان، وهم محتاجون للغيث، قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ورفعوا أيديهم، كله طيب، لا حرج في ذلك.
قال: فرفع اليدين من أسباب الإجابة، لكن المواضع التي لم يَرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد وُجدت في عهده، لا نرفع فيها؛ لأن تركه حجة وفعله حجة عليه الصلاة والسلام، قال: وهكذا بعد الفرائض إذا سلّم من الفريضة ما كان يرفع يديه، فلا نرفع بعد الفريضة، وهكذا في دعاء آخر الصلاة قبل أن يسلم كان يدعو، قبل أنْ يسلم، ولم يرفع يديه، وهكذا بين السجدتين كان يدعو ولا يرفع يديه، فالشيء الذي ما رفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو موجود في عهده وقد فعله، نكون مثله لا نرفع أيدينا عليه الصلاة والسلام، تأسياً به صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك انتهى مختصرا من موقعه.
وكذلك سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم رفع الأيدي، والإمام يخطب يوم الجمعة؟
فأجاب: رفع الأيدي والإمام يخطب يوم الجمعة ليس بمشروع، وقد أنكر الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في خطبة الجمعة، لكن يستثنى من ذلك الدعاء بالاستسقاء؛ فإنه ثبت عن النبي أنه رفع يديه يدعو الله -عز وجل- بالغيث وهو في خطبة الجمعة، ورفع الناس أيديهم معه، وما عدا ذلك فإنه لا ينبغي رفع اليدين في حال الدعاء في خطبة الجمعة اهـ. «فتاوى أركان الإسلام» (ص 392).
وفي الحديث أيضا: مشروعية الدعاء يوم الجمعة في الخُطبة، للمسلمين والمسلمات، ولأئمة المسلمين وولاتهم، وهو قول الفقهاء رحمهم الله جميعا، وقيل هي: ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة:
قال الشيخ أبو محمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله: «ويستحب أنْ يدعو للمؤمنين والمؤمنات والحاضرين، وإنْ دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسنٌ، وقد روى منبه بن محسن: أنّ أبا موسى كان إذا خطب فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر وأبي بكر، وأنكر عليه منبه البداءة بعمر، قبل الدعاء لأبي بكر، ورَفع ذلك لعمر، فقال لمنبه: «أنتَ أوثق منه وأرشد...
قال: ولأنّ سُلطان المسلمين إذا صَلَح، كان فيه صلاحٌ لهم، ففي الدعاء له دعاءٌ لهم، وذلك مستحبٌ غير مكروه» اهـ.
وقال العلامة الزركشي رحمه الله في (شرح الخرقي): «وإنْ أراد أنْ يدعو لإنسان دعا» قال: «أي: للسلطان ونحوه؛ لأنّ صلاحه صلاح للمسلمين، ولأنّ الدعاء لمعينٍ يجوز في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة» اهـ (2/182).
وقال المرداوي في الإنصاف: «يُسن أنْ يدعو للمسلمين بلا نزاعٍ، وأشار ابن عبدالهادي في (مغني ذوي الأفهام) إلى أنّ هذا: «باتفاق الأئمة الأربعة». كما في غاية المرام للشيخ العبيكان (7/216).
وكذا قال الشافعية، فقال صاحب (المنهاج) وهو يعدّد شروط الخطبة: «الخامس: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين في الثانية، وقيل لا يجب».
قال شارحه العلامة الخطيب الشربيني: «لنقلِ الخلف له عن السلف... قال: ويستحب الدعاء لأئمة المسلمين، وولاة أمورهم، بالصلاح والإعانة على الحق، والقيام بالعدل، ونحو ذلك» اهـ.
وكذا قال ابن عابدين الحنفي رحمه الله: «لا مانع من استحبابه - أي الدعاء للسلطان- فيها كما يُدْعى لعموم المسلمين، فإنّ في صلاحه صلاحُ العالَم...اهـ. (3/22).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات (148): «إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إذا دعا».
وقال العلامة ابن القيم: «وكان يشير بإصبعه السبابة في خطبته، عند ذكر الله تعالى ودعائه» (1/428) زاد المعاد.
- والدعاء لأئمة المسلمين وولاتهم، في الخطب يوم الجمعة وغيرها، هو من عمل السلف رحمهم الله، واشتهر بين المسلمين، ولم ينكره إلا أهل البدع، فمما جاء في كتب العقائد:
قول الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإنْ جارُوا، ولا نَدْعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً، ما لم يأمروا بمعصية». ثم قال: «وندْعُو لهم بالصّلاحِ والمُعافاة».
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو كانت لي دعوةٌ مستجابة، ما جعلتها إِلا في السُلطان، فقيل له: يا أبا علي، فَسِّر لنا هذا. فقال إذا جَعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإِذا جعلتها في السلطان صَلَح، فصَلَح بصلاحه العبادُ والبلاد.
والدعاء لولي الأمر، في الخُطبة يوم الجمعة وغيرها، له فوائد كثيرة عظيمة، نُجملها فيما يأتي:
- الفائدة الأولى: أنّ المسلم حين يَدعو لولي أمره، فإنه يتعبّد لله -عز وجل- بهذا الدعاء؛ ذلك لأنّ سمعه وطاعته لولي الأمر إنما كان بسبب أمر الله تعالى له، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى يقول لعباده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء 59)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة، فيما أحبَّ وكره، إلا أنْ يُؤمر بمعصية» متفق عليه.
فالمسلم يسمع ويطيع لولي أمره، تعبداً لله عز وجل، وطاعة له وامتثالاً.
ولاشك أنّ هذا الامتثال لأوامر الله تعالى، من أعظم الأدلة على عبودية الإنسان لربه، وخضوعه له، وإيمانه به رباً وإلهاً وشارعاً.
- الفائدة الثانية: أنّ في الدعاء لولي الأمر إبراءً للذمة؛ إذْ الدُعاء من النصيحة، والنصيحة لأئمة المسلمين واجبة على كل مسلم، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «إني لأدعو له - أي السلطان - بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، والتأييد، وأرى ذلك واجباً عليّ». السُنة للخَلال (ص 38).
- الفائدة الثالثة: أنّ الدعاء لولي الأمر، من علامات أهل السُنة والجماعة، فالذي يدعو لولي الأمر، متصفٌ بصفات أهل السنة. كما قال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله: «وإذا رأيتَ الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيتَ الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سُنة إن شاء الله».
- الفائدة الرابعة: أنّ الدُعاء لولي الأمر، نفعه عائد إلى الرعية أنفسهم، فإن ولي الأمر إذا صلح، صلحت الرعية، واستقامت أحوالها، وطاب عيشها.
- الفائدة الخامسة: أن ولي الأمر إذا بلغه أنّ الرعية تدعو له، سُرَّ بذلك غاية السرور، ودعاه ذلك إلى محبتهم، والألفة بهم، والاجتماع معهم , والبحث عما فيه سعادتهم وراحتهم، وقضاء حوائجهم.
- الفائدة السادسة: أن في ذلك ترويضاً للرعية، وتربية لهم على الطاعة والانقياد، فإنّ منْ شرع الله وطاعته: طاعة ولاة الأمور، من الأمراء والعلماء، والوالدين والأزواج ونحوهم.
وإذا تربّت الأمة على ذلك، أصبحت تصرفاتها وفق إرادة الشارع، وتغلبت كلمة الشرع على العقل والقلب، والعاطفة والهوى، وعلى كل التصرفات، وتهذبت غرائزها وطباعها.
والتغلب على الهوى والنفس، فيه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
- الفائدة السابعة: أنّ بالدعاء لأولي الأمر، والطاعة لهم، تتلاحم الأمة وتتماسك، وتقوى الصلة بينهم جميعاً، ويشيع الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، وتتحقق وحدة الأمة وقوتها.
- الفائدة الثامنة: أنّ طاعة ولي الأمر والدعاء له، سببٌ للنصر على الأعداء؛ إذْ به تجتمع الكلمة، وتتلاحم الصفوف، وتحصل القوة، وهذه هي أهم مقومات النصر، ولذلك كان من أهم أسباب انتصارات المسلمين في المعارك الكثيرة: هي الطاعة لولي الأمر.
وفي قصة غزوة أُحد، دليلٌ واضح على ذلك، فالمسلمون انتصروا في أول الأمر حينما كانوا مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انهزموا حينما خالفوا أمره، فنزل الرماة من الجبل، لمشاركة الناس في جمع الغنائم، دون إذن من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فحصل ما حصل.
ومما سبق: يتضح بطلان ما عليه الخوارج، قديما وحديثاً، من كراهية الدعاء للسلطان على المنابر يوم الجمعة، بل بعضهم يدعون عليه!
وهذا من جهلهم بنصوص الوحي، وعمل السلف، ومخالفتهم لأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً.
والله تعالى أعلم،،،



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #110  
قديم يوم أمس, 06:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,533
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 114 ) باب: التَّعــلــيـــــمُ للــعـــلــــــمِ فـــــي الخُطـــبــــة


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
418-عنَ أَبُي رِفَاعَةَ رضي الله عنه قال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يَخْطُبُ، قال فَقُلْتُ : يا رسُولَ اللَّهِ ، رجُلٌ غَرِيبٌ، جاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي ما دِينُهُ؟ قال: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وتَرَكَ خُطْبَتَهُ حتَّى انْتَهَى إليَّ، فأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قال: فَقَعَدَ عليه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وجَعَلَ يُعَلِّمُنِي ممَّا علَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا.
الشرح: قال المنذري: باب: التعليم للعلم في الخطبة . والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (2/597) باب: حديث التعليم في الخطبة.
أبو رفاعة هو العدوي، صحابيٌ اسمه تميم بن أسد، وقيل: عبد الله بن الحارث، نزل البصرة، استشهد بكابل سنة أربع وأربعين . (رواه البخاري ومسلم).
قوله: «انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم وهو يَخْطُبُ، قال فَقُلْتُ: يا رسُولَ اللَّهِ، رجُلٌ غَرِيبٌ، جاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي ما دِينُهُ؟» قال النووي: فيه: استحباب تلطّف السائل في عبارته، وسؤاله العالم .
قوله « فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وتَرَكَ خُطْبَتَهُ حتَّى انْتَهَى إليَّ» فيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفقه بالمسلمين، وشفقته عليهم، وخفض جناحه لهم. وفيه: المبادرة إلى جواب المستفتي، وتقديم أهم الأمور فأهمها، ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمة. وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان، وكيفية الدخول في الإسلام، وَجَب إجابته وتعليمه على الفور.
قوله: «فأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قال: فَقَعَدَ عليه رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الكرسي بضم الكاف وكسرها، والضم أشهر .
وقعوده صلى الله عليه وسلم على الكرسي مرتفعاً، ليسمع الباقون كلامه ، ويروا شخصه الكريم.
وهذه الخطبة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها، يحتمل أنها خطبة أمرٍ غير الجمعة، ولهذا قطعها بهذا الفصل الطويل، ويحتمل أنها كانت الجمعة واستأنفها، ويحتمل أنه لم يحصل فيها فَصْلٌ طويل، ويحتمل أن كلامه لهذا الغريب كان متعلقا بالخطبة، فيكون منها، ولا يضر المشي في أثنائها.
وفي الحديث: إباحة الكلام بين الإمام والمأموم أثناء الخطبة يوم الجمعة وغيرها، إذا كان لضرورة عارضة، في حالة التعليم، والسؤال المهم، والتنبيه على أخطاء المأمومين، ونحوها من الأمور، كما صح في أحاديث، منها :
ما جاء في حديث جابر بن عبد الله قال: «دخل رجلٌ يوم الجمعة والنبيصلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: «أصليت؟»، قال: لا، قال: «فصلّ ركعتين». رواه البخاري في كتاب الجمعة (2/ 478) ومسلم برقم (1987).
ومما يدل أيضا : على جواز كلام المأموم مع الإمام، والإمام مع المأموم أثناء الخطبة، ما صح من سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم الاستسقاء في الخطبة، فعن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سَنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلكَ المالُ، وجاعَ العيال، فادْع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة؛ فوالذي نفسي بيده، ما وضعهما حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبال ، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يَتحادَر على لحيته صلى الله عليه وسلم ، فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره – فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرقَ المال، فادْع الله لنا، فرفع يده فقال: اللهم حَوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجتْ، وصارت المدينة مثلَ الجوبة، وسالَ الوادي قناة شهراً، ولم يجئ أحدٌ من ناحية إلا حدّث بالجود». صحيح البخاري برقم (933) .
وأيضا: عن أبي الزاهرية حُدير بن كريب قال: كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبيصلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال عبد الله بن بسر: جاء رجل يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبيصلى الله عليه وسلم يخطب ؛ فقال له النبيصلى الله عليه وسلم : «اجلسْ، فقد آذيتَ» أخرجه أبو داود في سننه برقم (1114). وصححه الألباني في السنن برقم (1118).
وكذا الحديث في الباب السابق: عن ابن عمر: «أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة، دخل رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شُغلت اليوم، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعتُ النداء، فلم أزدْ على أنْ توضأت، قال عمر: والوضوء أيضا! وقد علمتَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغُسل».
فكان صلى الله عليه وسلم يقطع خطبته للحاجة تعرض له أو لأصحابه، أو يتوجّه له سؤال من أحد أصحابه فيجيبه، ثم يعود إلى خطبته فيتمها، كحديث أبي رفاعة رضي الله عنه في الباب .
بل ربما نزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر للحاجة، ثم يعود إلى خطبته فيُتمّها، كما نزلَ لأخذ الحسن والحسين -رضي الله عنهما- فأخذهما ثم ارتقى بهما المنبر، فأتمّ خُطبته، فقد روى بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخطبنا، إذْ جاء الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللهصلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: «صدقَ الله {إنّما أمْوالُكم وأولادُكمْ فتنةٌ}(التغابن : 15)، نظرتُ إلى هذين الصبيين، يمشيان ويعثران، فلم أصبرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتهما». أخرجه الترمذي برقم (4027).
وهذا كله هو من قبيل تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم ما يحتاجونه، وليس ناسخاً لأحاديث الإنصات للخطبة يوم الجمعة، بل هذه حالات عارضة كانت تحدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كحديث الاستسقاء، وحديث الأمر بصلاة ركعتين لمن جلس قبل أنْ يصليهما، وغيرها، فكلها حالات خاصة، ولا تنسخ أحاديث وجوب الإنصات.
ثم هذه الأحاديث كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المأمومين، أما النهي فهو خاص بالمأمومين، كي لا يلهيهم الكلام عن سماع الخطبة التي من أجلها حضروا، فالنهي عن الكلام أثناء الخطبة موجه إلى المأمومين بعضهم مع بعض، أما كلام الإمام مع المأمومين بُغية تعليمهم أو نحو ذلك، فجائز لدلالة الأحاديث عليه، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث.
ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع فلا يقال بالنسخ، حسبما اتفق عليه الأصوليون.
وتحريم الكلام علته: الاشتغال عن الإنصات الواجب لسماع الخطبة، ولا يحصل ههنا، فمن كلّم الإمام لحاجة ضرورية، أو سأله عن مسألة، فلا حرج عليه.
قال الحافظ ابن حجر: «للخطيب أنْ يأمر في خُطبته وينهى ، ويُبين الأحكام المحتاج إليها، ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها، بل لقائلٍ أنْ يقول: كلُ ذلك يُعد من الخُطبة » فتح الباري (2/ 478).
فأحاديث النهي عن الكلام أثناء الخطبة باقية لم تُنسخ ، بالإجماع على وجوب الإنصات أثناء خطبة الجمعة، فذكر ابن حجر أن ابن عبد البر نقل إجماع الأمة على وجوب الإنصات للخطبة، وكذا النووي في شرحه لصحيح مسلم، وغيرهم من العلماء .
وقد تضافرت الأدلة على وجوب إنصات المأمومين أثناء خطبة الجمعة، حتى وإنْ كان الكلام بينهم أمراً بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو رداً لسلام، أو تشميتاً لعاطس، فإنه يعد لغواً، فقد روى الشيخان: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قلتَ لصاحبك: أنصتْ يومَ الجمعة، والإمامُ يَخطبُ، فقد لَغوت».
فقوله لصاحبه: أنصت، هو من الأمر بالأمر ، ومع ذلك عدّه لغواً.
وأخرج مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ توضأ فأحسنَ الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمعَ وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومَنْ مسَّ الحصى، فقد لَغى». وغيرها من الأحاديث .
وفي الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام، وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته، إذا عرض له أمر أو نهي، ولا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
وفي الحديث: أنه ينبغي للمعلّم أنْ يتواضع لطلابه، فيرعى حال جاهلهم، ويرحم ضعيفهم، وقد يَخصّه بمزيد بيانٍ، وشرحٍ ووقت، ولاسيما إذا كان قريب العهد بالإسلام أو الهداية .
وقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: إنّ امرأةً كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إنّ لي إليك حاجة، فقال: «يا أم فلان، انظري أيُّ السِكك شئتِ، حتى أقضيَ لك حاجتك».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 200.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 195.09 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (2.90%)]