|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#591
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (455) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] كانت المرأة في الجاهلية إذا آلى الرجل منها تظل بقية حياتها معلقة؛ لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فلما جاء الإسلام وضع لذلك حداً، فجعل للرجل مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يؤمر الزوج بأن يفيء أو يطلق. وللإيلاء أحكام ومسائل ينبغي معرفتها، منها: صفة الإيلاء، وبماذا يكون، ومن الذين يصح منهم الإيلاء، وغيرها من المسائل المذكورة في باب الإيلاء. تعريف الإيلاء وأحكامه أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] الإيلاء في لغة العرب: مأخوذ من قولك: آلى الرجل يولي إيلاءً، والأليَّة: الحلفة يحلفها الرجل، ويسمى الحلف واليمين إيلاءً كما قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] ، فإن هذه الآية من سورة النور سببُ نزولها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يحسن إلى مسطح، فلما تكلم في حادثة الإفك حلف بالله أن لا يعطيه وأن لا يحسن إليه، فبيّن الله تبارك وتعالى له السبيل الأكمل والأفضل من أن يديم إحسانه ومعروفه عليه. الشاهد: أن هذه الآية تدل على أن الإيلاء يستخدم بمعنى الحلف. والمراد بالحلف هنا: الحلف المخصوص؛ وهو الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته على شيء مخصوص، وهو: ترك جماع المرأة ووطئها مدةً مخصوصة، وهي أكثر من أربعة أشهر، على أن يكون هذا الحلف متعلقاً بالزوجة، وأن يكون متعلقاً بالوطء في المحل المعتبر وهو الفرج. صفة الإيلاء يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بإيلاء الأزواج وحلفهم على عدم وطء زوجاتهم المدة المعتبرة شرعاً. ونظراً إلى أن هذا النوع من المسائل بيَّن الله حكمه في كتابه، وكذلك فصّل العلماء رحمهم الله جملة المسائل المتعلقة به، ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكره في كتاب النكاح. وإنما أخر الكلام عليه وجعله بعد الطلاق؛ لأن الإيلاء في بعض الأحيان يكون وسيلة إلى الطلاق، والسبب في هذا: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا غضب الرجل من امرأته حلف أن لا يطأها أبداً، فتبقى المرأة معلقة؛ لا هي مطلقة ولا هي زوجة، فرفع الله الظلم عن الزوجات ببيان حكم هذه المسألة، فجعل الأمر على العدل والوسط، فجعل للزوج مدة يمكنه أن يؤدب فيها زوجته ويمكنه أن يحلف فيها، ولكن إذا جاوز الحد المعتبر شرعاً فإنه حينئذٍ يوقفه القاضي الشرعي ويقول له: أنت بالخيار بين أحد أمرين: إما أن تكفر عن اليمين التي حلفتها وترجع إلى زوجتك. وإما أن تطلقها. فإذا حلف وكان حلفه فوق الأربعة الأشهر؛ كأن يقول يخاطب زوجته: والله لا أجامعك ستة أشهر، فحينئذٍ وصل إلى الحد المعتبر شرعاً وهو أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف هذه اليمين فإنه يوقفه القاضي عند استتمام الأربعة الأشهر، ويقول له: إما أن تكفر عن يمينك وتؤدي حق زوجك وتتقي الله ربك في أهلك، وإما أن تطلق الزوجة وتسرحها بإحسان. فإذا امتنع طلق عليه القاضي، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السموات والأرض {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون. فالله سبحانه وتعالى حكم بهذا الحكم فأعطى الزوج حقه، وأعطى الزوجة حقها، فإنه ربما أساءت المرأة إلى زوجها، وأراد الزوج أن يؤدبها فحلف اليمين لأسباب معتبرة وهي صحيحة، وتعتبر مبررات لإيقاف الزوجة عند حدودها، فإذا حلف وكان الحلف دون المدة التي تضر الزوجة، فإنه حينئذٍ يحقق ما يريده من مصلحة، فإذا جاوز الحد فإن هذا من الظلم. وفي شرعية هذا النوع دل الكتاب بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227] ، فهذه الآية من سورة البقرة أصل لبيان حكم الإيلاء. وهذا الحكم دليل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها حفظت حقوق المرأة كما حفظت حقوق الرجل، فليست بشريعة جائرة، كما يجور أهل زماننا فينظرون لجنس على حساب حقوق الجنس الآخر، ويتبجحون بالحقوق إذا كانت من مصالحهم أو أغراضهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ الحقوق، فمتى اعتدى أحد الطرفين على الآخر أوقفه عند حده، وزجره وبيّن له ما ينبغي بيانه والتزامه لحدوده وشرعه. بيان أن الإيلاء لا يكون إلا بحلف الزوج بالله تعالى أو صفته قال رحمه الله: [وهو حلف زوج بالله تعالى] . قوله: (وهو) أي: الإيلاء (حلف زوج) أي: حقيقته عندنا معشر الفقهاء: أنه حلف زوج، فالإيلاء لابد فيه من اليمين والقسم. ولذلك جاء في قراءة أُبي وفي قراءة لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (للذين يقسمون) بدل {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:226] ، فدل على أن المراد بالإيلاء القسم. وقوله: (حلف زوج) ، يدل على أن الإيلاء لا يكون إلا من زوج، فلا يكون الإيلاء من زوجة؛ لأن الزوجة لا تملك الطلاق، والإيلاء يتركب منه الطلاق. ويدل أيضاً على أن الحلف على الأجنبية لا يتحقق به الإيلاء، فلو قال لامرأة أجنبية: والله لا أطؤك سنة، لم يكن مولياً، وفي مخاطبة الأجنبية بمثل هذا -ما لم تكن هناك دوافع أو مبررات شرعية- إذا رفع إلى القاضي عزره وعاقبه؛ لأن هذا فيه مساس بحرمة الناس. وقد اختلف العلماء في تعليق هذا الحلف على الزواج، فقال بعض العلماء: إذا علقه على زواجها فإن الإيلاء يتعلق كما يتعلق الطلاق في قوله: إن نكحتك فأنت طالق، وإن تزوجتك فأنت طالق، وإن زُوِّجت منك فأنت طالق، وإن تزوجتني فأنت طالق. وقد تقدم معنا شرح هذه المسألة، وبينا أن الصحيح أن الطلاق لا يقع؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] ، فجعل الطلاق من الناكح، ومن لم ينكح فليس له أن يطلق فيكون كلامه لغواً. وأكدت هذا السنة فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، وجاء في الحديث الآخر وهو حديث صحيح قال عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق فيما لا يملك) ، فإذا كان الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً على الزواج من الأجنبية، ففرعه أن الإيلاء لا يقع. وقال بعض العلماء: الأصل أن التعليق يوجب المؤاخذة، فلما سقط في الطلاق بالدليل بقي الإيلاء على الأصل، فلو قال لها: إن تزوجتك فإني والله لا أطؤك سنة أو لا أطؤك ستة أشهر، فحينئذٍ قالوا: يكون إيلاءً. وهذا الوجه الثاني له قوة من حيث الأصل. قوله: (بالله تعالى أو صفته) . الحلف لا يكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمسلم أن يحلف بغير الله عز وجل، وقد عظم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال في الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) . فالحلف نوع من العبادة، والعبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده لا شريك له، ولذلك يتضمن الحلف تعظيم المحلوف به. ولو قال قائل: كيف يكون هذا والله قد حلف وأقسم بالمخلوقات؟ ف الجواب أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه لحكمة يعلمها سبحانه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] . وهل كل شيء جاز لله عز وجل يجوز للمخلوق؟! فالله له الحق، وله أن يقسم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ، وليس على المخلوق إلا أن يطيع ربه ويلتزم بشرعه، وحلف الله عز وجل بما حلف من مخلوقاته لتنبيه عباده وتعظيم نعمته ومنته. وقال بعض العلماء: إن قسم الله عز وجل وحلفه بمخلوقاته يزيد من الإيمان به سبحانه وتعالى؛ لأن المعرفة بحقيقة هذه المخلوقات وعظمة خلقها يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو تعظيم للخالق جل جلاله، فمن تأمل قول الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] دخل الإيمان في قلبه، ووقر اليقين في فؤاده، وازداد تعظيماً لله جل جلاله. وعلى كل حال: ذكرنا أنه لا تنعقد يمين الإيلاء إلا بالله؛ لأن الإيلاء تصرف قولي تترتب عليه الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية لا تترتب على الأيمان المحرمة شرعاً؛ لأن هذا النوع من الأيمان ساقط وغير معتد به شرعاً. فعلى كل حال: لابد أن يكون القسم بالله عز وجل أو بصفة من صفاته. الإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء قال رحمه الله: [على ترك وطء زوجته في قبلها] . الحلف قد يكون على فعل الشيء أو تركه، وقد يكون الحلف في إثبات شيء أو نفيه، فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج ما لو حلف على وطء الزوجة، فإنه لا يكون إيلاءً ولا يسمى إيلاءً؛ لأن ضرر الزوجة إنما يكون بالامتناع عن وطئها؛ لأن هذا يعرضها للفتنة، وإذا صبرت فإنها قد لا تستطيع الصبر إلى مدة الإيلاء. فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج الحلف على غير الوطء، كأن يقول: والله لا أُقبلك سنة، فهذا ليس بإيلاء؛ لأن الضرر بالامتناع عن القبلة ليس كالضرر من الامتناع عن الوطء، فحق المرأة وعفة المرأة تتحقق بغير التقبيل، وهكذا إذا حلف على بقية الأشياء من مقدمات الجماع. وقوله: (على ترك وطء) ، يدل على أنه لابد أن يكون الحلف على عدم وطء الزوجة، ويكون على عدم الوطء باللفظ الصريح أو بلفظ الكناية، فإذا قال: والله لا أجامعك، فهذا من صريح الإيلاء. وبعض العلماء يرى أنه يبين فيه، فلو قال: والله لا أقربك سنة، قالوا: يبين فيما بينه وبين الله تعالى فيما إذا كان مراده غير الوطء، كأن يكون مطلق القربان، قالوا: ومطلق القربان لا يستلزم عدم الوطء من كل وجه. قالوا: ومنها القربان، ومنها المس؛ كأن يقول: والله لا أمسك سنة، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] يعبر به عن الجماع ويكون في حكم الجماع. أما بالنسبة للكنايات وما يتضمن معنى الوطء احتمالاً، فهذا يسأل فيه عن قصده، فلو قال: والله لا يجتمع رأسي ورأسك سنة، فهذا لفظ محتمل، ويمكنه أيضاً أن يحقق إذا كان مراده بالجماع فلا إشكال، وحينئذٍ ينعقد إيلاءً، فلو قال: قصدت الجماع فهو إيلاء. وإن قال: قصدت أن رأسي لا يقترب من رأسها، فأكره أن أرى وجهها أو نحو ذلك، فإن هذا لا يمنع من الجماع، ويمكنه أن يجامعها دون أن يكون هناك اجتماع لرأسه مع رأسها، وعلى حال لا يقع به المحلوف عليه، فهذا لا يكون صريحاً في الحلف على ترك الوطء. وإن قال: والله لا أغتسل منك سنة، قال بعض العلماء: قوله: لا أغتسل منك، كناية عن الجماع، وحينئذٍ يكون إيلاءً. فالمقصود: أنه لابد من وجود اللفظ الدال على الامتناع من الوطء، فإن جاء بلفظ لا يدل على الوطء لا صراحة ولا ضمناً، كمقدمات الوطء، فحينئذٍ لا يكون إيلاءً، ويمكنه أن يمتنع عن هذا الشيء المحدود، ويبقى على الأصل من الاستمتاع بالزوجة وإعطائها حقها في الفراش دون أن يقع منه إخلال يمينه من يمينه، ولا يكون إيلاءً. ثم إذا حلف على شيء محتمل للوطء وغيره فإنه يبين. إذاً هنا صور: الصورة الأولى: أن يحلف على غير الوطء، فهذا ليس بإيلاء. الصورة الثانية: أن يحلف على الوطء صراحة، فهذا إيلاء، كأن يقول: والله لا أجامعك، أو إذا عبر بإدخال الفرج كما صرح العلماء، قالوا: هذا كله من الصريح، ولا يسأل عن نيته بحيث يؤاخذ إذا مرت المدة ويلزمه حكم الإيلاء فيها. وأما إذا جاء بلفظ محتمل فإنه يسأل عن قصده: ماذا أردت؟ فإن قال: أردت به الجماع، فهو إيلاء، وإن قال: لا أريد به الجماع، فإنه ليس بإيلاء. وقوله: (في قبلها) ؛ لأنه هو الموضع المعتبر شرعاً للجماع، ولا يجوز الوطء في الدبر، وما يحكى من الأقوال الشاذة فقد تقدم الكلام عليها وبينّاها، وبينّا أن ما حكي عن بعض السلف في هذه المسألة وإن صح ثبوته فإنه قول شاذ. كما صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بالمسائل الغريبة، إما إبقاءً على أصول، وإما أخذاً بعمومات لا يراد منها العموم فسرتها نصوص أخر لم يطلعوا عليها، أو حكموا بشيء منسوخ، كما أفتى ابن عباس بحل ربا الفضل، وأفتى بجواز نكاح المتعة ونحو ذلك مما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذه المسألة. فهذه كلها أمور تحفظ ولا يعول عليها، ويعتذر لأصحابها؛ لاحتمال الاجتهاد فيها، لكن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دال كل منهما على أن الوطء لا يكون إلا في موضع الحرث، كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] ، فالله أمرنا أن نأتي النساء في موضع مخصوص وعلى صفة مخصوصة، فلا يجوز تبديل فطرة الله التي فطر الناس عليها {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] . فالإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء في الموضع، فلو حلف أن لا يفاخذ المرأة، وأن لا يطأها في الدبر فليس بإيلاء. مدة الإيلاء قال رحمه الله: [أكثر من أربعة أشهر] . هذه كلها شروط: أولاً: الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته. ثانياً: أن يكون من زوج، فلا يكون من أجنبي. ثالثاً: أن يكون على عدم وطء الزوجة، فخرج مفهوم هذا من الصفات على وطئها الذي هو عكس العدم، أو الاستمتاع بغير الوطء. رابعاً: قوله: (قبلها) هذا شرط مفهومه أن الدبر أو المفاخذة لا يدخل في الإيلاء. والشرط الأخير: أن يكون أكثر من أربعة أشهر. لقد شرع الله عز وجل النكاح من أجل أن يعف الرجل امرأته وتعف المرأة زوجها، فإذا أصبح النكاح وسيلة للإضرار؛ كأن يحبس الرجل امرأته فيمتنع من وطئها فيعرضها للحرام والفتنة، أو تمتنع المرأة من زوجها ولا تعطيه حقه في الفراش، فحينئذٍ يحكم الشرع بحرمة الأمرين، حتى ورد الوعيد بالنسبة للمرأة أنها لو دعاها زوجها فامتنعت من إجابته باتت الملائكة تلعنها والعياذ بالله! فهذا أمر عظيم ووعيد شديد. وكذلك أيضاً بالنسبة للزوج، وقد افترق الأمر بالنسبة للرجال والنساء، فالله عز وجل له الحق أن يفرق بين المجتمع وأن يجمع بين المفترق وهو أعلم وأحكم، وهي من الأمور التي يختلف فيها الحكم بين الرجل والمرأة. ولا شك أن الحياة الزوجية المستقيمة التي تحرص فيها المرأة على حسن التبعّل لزوجها لا يقع فيها مثل هذا، قالوا: لأن الغالب أن الزوج لا يحلف هذه الأيمان إلا إذا قصرت المرأة. ومن هنا يقول بعض العلماء: أن المرأة إذا حرصت كل الحرص على المحافظة على العشرة لزوجها بإطفاء غريزته واحتواء شهوته، ولو بالتجمل والتزين، وهذا أمر تقره الشريعة؛ فإنها تثاب على حسن تجملها وتزينها لزوجها، كما أنها تثاب على صلاتها وزكاتها، إذا قصدت أن تعفه عن الحرام وخاصة في هذا الزمان. وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن الإيلاء لا يقع إلا من امرأة في الغالب ضيعت إكرامها لبعلها في فراشه؛ لأنها لو كانت تحسن التبعّل له فلا يمكن أن يفرط الزوج في هذا، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يحلف بالله ويغلظ الامتناع منها إلا إذا فشلت في كسب وده واحتواء أمره، ولذلك ينبغي على المرأة المسلمة الصالحة الدينة أن تحسن النظر في هذه الأمور. وليس هذا بعيب، فإن بعض الصالحين يشتكي من بعض الصالحات اللاتي فيهن خير أنه ربما عاتبها على أنها لا تحسن التزين له، فيأمرها أن تتزين، فتمتنع من ذلك وتقول: هذه شهوة عاجلة، وتحقر من هذه الأمور إن هذه فطرة وغريزة جعل الله لها مسلكها، وجعل لها وضعها وطريقها، ولا يمكن لأحد أن يستدرك على الله عز وجل. فالمرأة مطالبة شرعاً أن تتجمل لزوجها، وأن تحسن التبعل له، حتى لا يأتي يوم من الأيام فيزهد فيها الرجل وفي فراشها، ولا يحسن الإكرام لها حتى إنه يحلف على عدم وطئها. والإيلاء لابد أن يكون له مدة وهي أربعة أشهر، والمرأة قد تصبر على زوجها الشهر والشهرين والثلاثة على مضض، والرابع على شدة، ومن هنا جعل الله عز وجل مدة الإيلاء أربعة أشهر، وليست هي الحلف، فلابد أن يكون الحلف فوق الأربعة الأشهر. ومن هنا لو أنه حلف حلفاً زائداً على أربعة أشهر بزمان ولو قليل فهو مول، ولكن لو حلف أربعة أشهر فليس بمولٍ على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله. ومن هنا ندرك أن تحديد الحدود الشرعية لا يقتضي أمراً معهوداً شرعاً، ولربما تجد الحد الزماني والمكاني يختلف الحكم فيه بهذا التحديد الشرعي، حتى إنك لو نظرت إلى حد الحرم، فإنك لو خطوت خطوة واحدة فأنت داخل الحرم، وإذا خطوت خطوة فأنت خارج الحرم، فإذا عملت أعمالاً داخل الحرم فلها حكم، وإذا عملت بعض الطاعات والمعاصي في الحرم فلها حكم آخر. وهذا يدل على أن التقييد صحيح حتى ولو كان في القصر في الصلاة، وبعض المتأخرين يعيب على جمهور العلماء فيقول: كيف يحدون بثمانين كيلو أو خمسة وسبعين كيلو متراً؟ فنقول: هذا حكم الله عز وجل، ولسنا الذين حددنا، ولكن الله هو الذي حدد، فكما أنك تقول في الحرم: لو خطا خطوة واحدة كان داخل الحرم، ولو تأخر خطوة واحدة كان خارج الحرم، فكذلك الأربعة أشهر، فلو زاد عليها ولو بقليل حكم بالإيلاء، ولو اعتد بالأربعة الأشهر ولم يزد عليها فإنه ليس بإيلاء على أصح قولي العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] . ثم جعل الحكم مركباً على تمام الأربعة الأشهر، ولذلك قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] ، فدل على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] ، وهذا إنما يكون بعد تمام المدة. فدل على أن المدة بعينها -وهي الأربعة الأشهر- ليست بإيلاء، وفائدة ذلك: أنه بمضي الأربعة الأشهر واستتمامها سقطت يمينه وحلت له زوجته، لكن إذا حلف أكثر من الأربعة الأشهر فلا تسقط اليمين، ومن هنا اشترط أن تكون أكثر من أربعة أشهر، وأن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي لثبوت حكم الإيلاء. بيان من يصح منهم الإيلاء قال رحمه الله: [ويصح من كافر وقن ومميز وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه وممن لم يدخل بها] . الكافر قوله: [ويصح من كافر] . يستوي في الإيلاء الكافر والمسلم، فلو حلف كافر على أنه لا يطأ زوجته سنة أو ستة أشهر، فإنه يصح منه. وفائدة هذه المسألة: إذا كان المولي من أهل الذمة وحلف على زوجته أنه لا يقربها أكثر من أربعة أشهر، ورفعته زوجته إلى قضاء الإسلام وتحاكموا إلينا، فحينئذٍ يوقفه القاضي ويقول له بعد تمام الأربعة الأشهر: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك الزوجة. وهذا خلافاً لمن قال: إنه لا يقع بالنسبة للكفار، على المسألة المتقدمة معنا في مخاطبتهم بفروع الإسلام. والأصل في صحته من الكافر عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] . القِن قال: (وقن) . القن هو العبد، فلا يشترط الإسلام ولا الحرية، فلو تزوج عبد من أمة نكحها ثم حلف بالله أن لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، انعقد إيلاؤه، فإذا تمت الأربعة الأشهر اشتكته زوجته إلى القاضي، فيوقفه القاضي عند تمام المدة ويقول له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك زوجتك. المميز قال: (ومميز) . أي: الصبي المميز، وقد اختلف فيه العلماء: فالجمهور على أنه لا يصح من الصبي المميز، وهذا هو الصحيح، خلافاً للحنابلة، فعندهم رواية على أن المميز يعاملونه معاملة المكلف بمسائل منها هذه المسألة، والصحيح: أن المميز ليس بمكلف، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم) والمميز دون الاحتلام؛ لأن الصبي إما أن يكون مميزاً وإما أن يكون غير مميز. وقد تقدم معنا في أكثر من موضع أن العلماء اختلفوا في ضابط التمييز؛ فمنهم من يضبطه بالسن، ومنهم من يضبطه بالصفة، ومن ضبطه بالسن قال: سبع سنوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة لسبع سنوات، ومنهم من قال: عشر سنوات، ومنهم من يقول: إحدى عشرة سنة، وقيل: اثنا عشرة سنة، كما في مسائل الطلاق التي تقدمت معنا. ومنهم من ضبط المميز بضابط الصفة فقال: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب. والصحيح: أن المميز وغيره لا يصح منهم الإيلاء؛ لأن الإيلاء يتوقف على اليمين، واليمين تنعقد من البالغ ولا تنعقد من غير البالغ، وإنما يباح له وهو صبي، فلو قال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فإن يمينه لا تنعقد؛ لأنه مرفوع عنه القلم؛ فحينئذٍ لا يقع بين الخيار؛ لأنه ليس ممتنعاً عن وطء زوجته بيمين. وعلى هذا فمذهب الجمهور على أنه يشترط البلوغ، فلا يصح الإيلاء من غير البالغ، سواء كان مميزاً أو غير مميز. الغضبان وقوله: (وغضبان) . الغضب حالة تعتري الإنسان، وهو نوع من الهياج واختلال المزاج، وتسوء فهي أفعال الإنسان ويعكر صفوه. وقد بينّا في مسائل طلاق الغضبان أن الغضب على ثلاث مراتب: غضب يوصل إلى الجنون؛ فلا يعي الإنسان معه ما يقول، وهذا يثبت لأحوال متعددة، فهناك من الناس من عنده هذا البلاء، فعندما يشتد غضبه يفقد عقله تماماً، ويتكلم بكلام لا يعرفه، فمثل هذا لا يؤاخذ بقوله ولا يؤاخذ بفعله، فلو ثبت لدى القاضي أن غضبه يوصل إلى درجة الجنون، وشهد الشهود العدول، وشهد الأطباء المختصون أن هذا النوع من المرض أو المزاج العصبي يوصله إلى حد عدم التمييز وعدم الإدراك في حال هيجانه؛ فإن هذا تسقط مؤاخذته بالأقوال والأفعال كالمجنون سواءً بسواء. وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من المحققين؛ كالإمام ابن قدامة، والإمام النووي وغيرهما رحمة الله على الجميع. المرتبة الثانية من الغضب: بداية الشدة وبداية التعكر في المزاج، والذي لا يختل معه الشعور ولا يذهب معه الإدراك، فهو يعلم أن التي أمامه زوجته، ويعلم أن الذي أمامه مسلم محرم الدم والعرض والمال، فهذا يؤاخذ على أقواله وأفعاله، ولو طلق لزمه الطلاق، والطلاق عادةً لا يقع إلا من غضب، فليس هناك رجل يطلق زوجته وهو يضحك معها، فالأصل أن الطلاق لا يقع إلا عند اختلال المزاج، وعند وجود ما يعكر صفو الإنسان ويخرجه عن طوره. المرتبة الثالثة من الغضب: هي المرتبة التي تكون بين الجنون وبين بداية الغضب، وهي محل الإشكال عند العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: هذا النوع من الغضب لا يسقط التكليف، فلو طلق يؤاخذ بطلاقه، ولو تكلم كلاماً يوجب الردة كسب الدين أو نحو ذلك والعياذ بالله فإنه يحكم بكفره، ويؤاخذ على أقواله وأفعاله؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف، وما دمنا شككنا في وصوله إلى درجة سقوط التكليف، فالأصل بقاء ما كان على ما كان. وقال بعض العلماء: إن الغضب في الأصل يعزب عن الإنسان رشده وصوابه، فإذا دخل في هذه الحالة فإن الأصل أنه لا يؤاخذ حتى يثبت أنها حالة غير مؤثرة، وهو يرى أنها حالة جنون؛ لأن الغضب نوع من أذية الشيطان للإنسان، ولذلك تنتفخ أوداجه، ويجري منه الشيطان مجرى الدم ويؤثر عليه، فقالوا: إن هذا النوع من الجنون الأصل أنه لا يؤاخذ فيه، والقول الأول أشبه بالأصول وأقوى. ويقول الذين يسقطون عنه التكليف: الأصل أنها زوجته، فلماذا نطلقها في حالة مشتبهة وغير واضحة؟ وكذلك هنا في الإيلاء يقولون: إذا غضب وحلف وهو في حالة غضب وهيجان فالأصل أنها زوجته، ولا يؤاخذ باليمين حتى يكون عنده إدراك وكل هذه التعليلات لمن قال: إنه لا يؤاخذ، ولكن القول الذي يقول بالمؤاخذة أشبه وأقوى. ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وغضبان) أي: يصح الإيلاء من الغضبان، لكن إذا وصل الغضب إلى حد الجنون -كما ذكرنا- فهذه حالة مستثناة ولا يؤاخذ فيها.
__________________
|
#592
|
||||
|
||||
![]() السكران قوله: (وسكران) . السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران. وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً. والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً. القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة. فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه. والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] . ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله. أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـ علي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه. فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله. وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله. فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه. وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون. المريض المرجو برؤه أي: ويصح الإيلاء من مريض يرجى برؤه، والمريض ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم معنا هذا في أحكام تصرفات المريض مرض الموت. وأصل المرض عند الأطباء -كما عرفه صاحب التذكرة وغيره-: أنه خروج البدن عن حد الاعتدال، فالبدن إذا اعتدلت فيه الأمزجة الأربعة المعروفة استقامت الصحة، وإذا اختل واحد منها فإنه يوصف البدن بكونه مريضاً وسقيماً، ومن هنا عُرف المرض بأنه: خروج البدن عن حال الاعتدال. إذا ثبت هذا فالمرض إما أن يكون مرضاً يرجى برؤه؛ كالزكام والصداع، فهذا النوع من المرض لو حلف صاحبه أن لا يجامع زوجته سنة فإنه يصح إيلاؤه؛ لأن المرض يرجى برؤه. أما إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه؛ كمرض الموت الذي لا يملك معه أن يتمكن من الوطء؛ لأن المرض يمنعه ويعيقه، فهذا لو حلف وقال: والله لا أجامعك سنة، فإنه أصلاً ليس بمجامع، ومن هنا قالوا: إنه لا إيلاء في حقه؛ لأن عنده عجزاً حسياً يمنعه من الجماع، فلا يعاقب، إنما يعاقب القادر، وهذا غير قادر، فإنه لو انحلت يمينه ليس بمجامع زوجته. ومن هنا قالوا: إن السبب في الإيلاء أن الزوج يضر الزوجة ويمنعها عن حقها، فإذا كان الزوج لا يستطيع الجماع لمرض لا يرجى برؤه، فهذا لم يضر، وحينئذٍ لا يقع الإيلاء. وقد نص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله. الزوج إذا لم يدخل على الزوجة أي: ويصح الإيلاء من الزوج إذا كان لم يدخل بامرأته فقال لها: والله لا أجامعك سنة، وهو لم يدخل بها، ففي هذه الحالة يقع الإيلاء ويصح، فلا يشترط فيه الدخول على الزوجة. لكن لو كان بحال يمنعه فقد فصل فيه بعض العلماء، وأشار إلى هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله، لكن من حيث الأصل أن من لم يدخل يصح الإيلاء منه. الأسئلة حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس السؤال لو انتهت الأربعة الأشهر عند بداية حيض أو نفاس، فما الحكم في ذلك؟ الجواب بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختار طائفة من العلماء في هذه الحالة: أنه يؤخر إلى أن ينتهي الحيض وإلى أن ينتهي النفاس؛ لأن الإيلاء لا يقع، ثم يطالب بأحد أمرين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق. لأنهم يقولون: إذا دخل العذر فلا يقع الإيلاء، ولا يكون من حق الزوجة المطالبة حتى ينتهي العذر. فلو آلى منها أكثر من أربعة أشهر، وقبل مدة الإيلاء التي هي الأربعة الأشهر أو عند انتهائها في اليوم الأخير جاءها حيض أو نفاس، فقالوا: ينتظر؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفيء، فلو قال له القاضي: يلزمك أن تفيء إلى زوجتك، فإنه لا يستطيع؛ لأن هناك مانعاً شرعياً يمنع من وطئها، فلا يوقفه القاضي إلا بعد انتهاء وزوال هذا المانع الشرعي. هذا اختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إليه الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله على الجميع. والله تعالى أعلم. حكم انصراف المأموم قبل الإمام السؤال ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟ الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته. ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة: فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم. وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية. وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس) . فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه. وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة. فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية. وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة. وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى. ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين. وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية. ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده) ، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟! ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول: قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً) . قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد. فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم. وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة. ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا. وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته. فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم. قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين. وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً. وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] ، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى. ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور. والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه. فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب. فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله. فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر. وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن: فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا ل حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض السؤال ما حكم الفرقعة بالأصابع في المسجد؟ وما حكم تشبيك الأصابع بعد الانتهاء من صلاة الفرض؟ الجواب بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن فرقعة الأصابع لم يثبت دليل على تحريمها والمنع منها، ولذلك فإن فتوى البعض بأنها حرام أمر محل نظر؛ لأن تحريم الأشياء يحتاج إلى نص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والناس يختلفون، وقد يعتاد البعض فرقعة أصابعه دون شعور، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريمها، وما يُحكى عن قوم لوط أنهم كانوا يفعلون هذا، فهذه أمور تحتاج إلى توثيق، وتحتاج إلى ثبوت النص بتحريمها وإنكارها وعدم جوازها. لكن بعض العلماء عد ذلك من خوارم المروءة، ولكن ليس على كل حال يعتبر من خوارم المروءة، فقد يكون الشخص اعتاد ذلك، أو يفعله لا شعورياً بسبب الإلف، فهذا أمر موسع فيه، أما إذا كان على سبيل التكسر والتخنث فهذا أمر معروف حكمه، حتى إن لباس الثوب لو كان على صفة فيها تكسر، أو المشية لو كانت على صفة فيها تكسر، فهي محرمة لعارض لا لأصل. ففرقعة الأصابع شدد فيها بعض العلماء وعدها من خوارم المروءة، لكن الحكم بالتحريم يحتاج إلى نص؛ لأن خوارم المروءة ليست بمحرمة؛ لأنها في أشياء مباحة، قال الناظم: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فهو مباح في الأصل؛ كالأكل أمام الناس، والأكل في الأسواق، والضحك بصوت عال في مجامع الناس، وفي أمكان لا يصلح فيها الضحك ونحو ذلك من الأمور التي تدل على نقصان عقل صاحبها، فهذه من خوارم المروءة؛ لأن المروءة هي الكمال. والأصل في الدليل الشرعي في ضابط خوارم المروءة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فإذا فعل الإنسان هذه الأمور أمام من ينبغي الحياء منه؛ كالعالم والوالد والشيخ أو الكبير أو الذي له مكانة، فمثل هذه الأمور تخرم المروءة، ولكنها لا تقتضي الحكم بالحرمة. وأما تشبيك الأصابع فله حالتان: الحالة الأولى: تشبيك الأصابع قبل الصلاة، فهذا منهي عنه شرعاً، فمن خرج من بيته فلا يجوز له أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجل إذا خرج من بيته فهو في صلاة فلا يشبكن بين أصابعه؛ لأن التشبيك شعار اليهود في عباداتهم. ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس مما يسبق الصلاة: أنهم وهم جالسون بعد أداء السنن أو أداء تحية المسجد تجد الشخص يشبك أصابعه بعضها ببعض، مع أنه قبل الصلاة ممنوع منه، وينصح الناس وينبهون على ذلك. الحالة الثانية: بعد الصلاة؛ وفيها أحاديث صحيحة منها حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -شك من الراوي- فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع كالغضبان وشبك بين أصابعه) ؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت. ومن هنا قالوا: لا بأس به، ومما يدل على أن التشبيك في غير الموضع المنهي عنه جائز: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، كما في الحديث الصحيح لما قال: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام) . فهذا يدل على أنه لا بأس في الأصل، لكن في العبادات وأثناء الصلاة، أو في انتظار الصلاة، أو في الطريق إلى الصلاة، هذا ممنوع منه ومحظور. والله تعالى أعلم. حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم السؤال اعتنى بعض الناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما الحكم في ذلك؟ الجواب لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية المولد، بل هذه أمور أحدثت، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا فعلها أهل القرون المفضلة، وقد مرت أربعمائة سنة ما فعل أحد منهم المولد، وهذا أمر لا نقوله نحن، فمن أراد أن يبحث ويطلع فله ذلك. فإن قال قائل: إنه عبادة، فنقول: إن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، وهذا رسول الأمة عليه الصلاة والسلام تمر عليه أيام مولده في سنواته كلها، فما عظم ليلة منها يوماً من الأيام، ولا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عظم ليلة واحدة، فإما أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن نعتقد أننا خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نستدرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. وإذا كان الاحتفال قربة وطاعة فلماذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؟ ومن فعله فاسألوه؛ لأنه لا نستطيع أن نفتي الناس أن يفعلوا أشياء ثم نقف بين يدي الله نسأل عنها. نحن نقول: إنه غير مشروع؛ لأننا لم نجد في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في هدي السلف الصالح شيئاً من هذا، فإذا لم نجد شيئاً من هذا فإننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الأمر بدعة وحدث أُحدث في دين الله عز وجل. والعجب أنك تجد البعض يحافظ على ليلة المولد ويحافظ على حضورها وخشوعها ربما أكثر من خشوعه في صلاته وعبادته! وربما يعتقد في فضائل هذه الليالي ما لا يفعله في العشر الأواخر من رمضان، وربما يُنفق الرجل على إطعام الطعام وعلى الذبائح وغيرها، مع أنه لو جاءه رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسغبة -كما ذكر بعض المشايخ رحمة الله عليهم- يعرض عليه أنه محتاج لما أقرضه. فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، نحن لا نحتكم للدين بالعواطف، ولا نحدث بآرائنا ولا بأهوائنا، ولكن دين وشرع {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ، فنحن مأمورون باتباع ومأمورون باقتداء، وهذا شيء تعبدي لا يجوز أن يزيد فيه الإنسان ولا أن ينقص. والنبي صلى الله عليه وسلم نحبه محبة ترضي ربنا، ونحبه محبة تدعونا إلى متابعته وتجريد هذه المتابعة، فنؤثره عليه الصلاة والسلام على أنفسنا وأهلينا، وعلى أهوائنا وآرائنا. فانظر رحمك الله إلى كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فما وجدت فيهما فالتزمه، وما خالفهما فاتركه، ولو جرى عليه أهواء الناس، ولو جرت عليه عادة الناس، والذي ندين الله عز وجل به أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا الشيء. وعلى هذا: فإنه لا يشرع فعله، ولا يجوز للمسلم أن يحدث في دين الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم -أي: الزموا- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) ، ولذلك قال قبلها: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، فأمرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الاختلاف أن يرجعوا إلى سنته صلى الله عليه وسلم، فالواجب الاحتكام إلى هذه السنة وإلى هديه عليه الصلاة والسلام. وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام يوم الإثنين وقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأحب أن أصومه) ، فمن أراد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه أن جعله تابعاً لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فليشكرها بما ورد، وليتبع ولا يبتدع، فيصوم يوم الإثنين. لكن هل كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول؟ لم يخص الرسول اثنيناً معيناً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له؛ لأنه قد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم فعل المولد؛ لأنه صام يوم الإثنين، فنقول: لا، النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ما خص اثنيناً معيناً، فهذا أصل عندنا ودليل على عدم جواز تخصيص ليلة مولده عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام بين طريق الشكر، فقطع الطريق على من يقول: نحن نفعل المولد شكراً لله عز وجل على النعمة؛ لأنك أمام أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وشكر ربه على أتم الوجوه وأكملها وهو يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم) ، وإما -وحاشاه- أن يكون دون ذلك وجئنا نكمله، فهو عليه الصلاة والسلام صام الإثنين، وصيام الإثنين دل على أن الشكر لهذه النعمة يكون بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، فتصوم هذا اليوم، لكن لا تخصه بيوم معين من الآن. ولماذا لا نخصه؟ لأنه ليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الأضحى وعيد الفطر، ولو أن الأمة جعل لها يوم مخصص ليوم نبيها لضلت؛ ولذلك أغلق هذا الباب، وجُعل يوم الإثنين من سائر أيام السنة، ونحن نحمد الله عز وجل ونشكره أن شرفنا وكرمنا، فليست هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام، ومن أزكى وأعظم ما يكون أن يختار الله لك أشرف الرسالات وأفضل الرسالات وأفضل الأنبياء، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك. فهذه النعمة لا يستطيع الإنسان أن يقدرها حق قدرها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى. ومما زادني شرفاً وتيهاً كدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلوات الله وسلامه عليه، والله إننا نحبه محبة تجري في دمائنا وعروقنا، ولا نعتقد أن هذا ينقص من مكانته أبداً؛ بل ينبغي علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا سبيل للجنة إلا بمحبته ومتابعته عليه الصلاة والسلام أبداً؛ لأن الله أحبه، وهذا الفضل الذي خصه الله عز وجل به. ووالله لو أن الإنسان رزق من العلم والبصيرة ما يتأمل فيه آيات الكتاب في إجلال الله لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وإكرامه له عليه الصلاة والسلام، لوجد شيئاً يكاد يصل به إلى درجة عظيمة من المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم تكفينا عن كثير من الأشياء والمحدثات. فتأمل كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك) ، أي مقام وصل إليه أحد مثل هذا المقام الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؟ ثم مع هذا كله إذا عاتبه سبحانه يعاتبه ويجعل العفو قبل المعاتبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] ، فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قبل أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إكراماً لنبيه، وإشعاراً لنا بأن نقدره ونوقره عليه الصلاة والسلام ونملأ قلوبنا بحبه وإكرامه. ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يبيّن هذا الفضل الذي خصه به ربه ويقول: (أنا رحمةٌ مُهداة) ، فيا له من مقام! ويا لها من منزلة! نحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتقد بأن عندنا بينات من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعرفنا بقدره، وتعرفنا بحقه ومنزلته، فإن الله لم يخاطبه باسمه المجرد: يا محمد! بل قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] . وعندما يعاتبه -كما ذكرنا- يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] حتى إنك عندما تقرأ الآية لا تدري من الذي عبس، فلم يقل له: عبست؛ بل قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] ، ثم تأتي آيات القرآن كلها تشريفاً لهذا النبي في دلالاتها وسياقاتها تدل على مقامه وعلو شأنه عليه الصلاة والسلام. فكل مؤمن يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، ولا يظن أحد أن من يقول بأن المولد بدعة أن معناه: أنه انتقص مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أو مس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم لا. فإن هذا هو الغلو. ومن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أننا نريد أن نتبع وأن نسير على نهج علمنا العلم الجازم أنه لا يرضى عليه الصلاة والسلام ولا يرضى ربه الذي أرسله إلا بهذه المثابة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ، وأدب الله نبيه على الاتباع فقال له: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] ، فلا زيادة ولا نقص، فلا يجوز للمسلم أن يزيد، ولا يجوز له أن ينقص، ولا يجوز له أن يبدل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرته. وأوصي طلاب العلم -إذا نبهوا الناس- بأمر مهم جداً وهو: أننا ننصح الناس بالتي هي أحسن، ولا ننفر، فينبغي أن نبين الحق وأن نبين السنة والبدعة، ولكن ينبغي أن لا يغلو الإنسان في نصح الغير وتوجيههم؛ لأنك إذا كنت صاحب سنة فينبغي أن يظهر حبك للسنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أساليبك وطريقة توجيهك وإرشادك، فكم من أناس رأيناهم وهم يتمسكون بأمور يظنون أنها سنة، والله يعلم من قرارة قلوبهم أنهم يريدون الخير، فلما نصحناهم ووجهناهم عدلوا عن ذلك.
__________________
|
#593
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (456) صـــــ(1) إلى صــ(23) شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [2] ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها وما يترتب عليها من الحقوق الشرعية، كما ذكر الفقهاء تلك الأحكام وبينوها وفصلوا فيها، ومنها أن الإيلاء لا يصلح من المجنون ولا من المغمى عليه، ولا من العاجز عن الوطء، ومنها أن للإيلاء صيغا، فتارة يكون بالتأبيد، وتارة بأكثر من أربعة أشهر، وتارة بأمر يبعد حصوله، وتارة بطلب شيء أو حدوثه. بيان من لا يصح منهم الإيلاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يحكم فيها بعدم الاعتداد بالإيلاء؛ ومنها: الجنون؛ لأن الإيلاء ينعقد باليمين، ويمين المجنون لا تنعقد، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) . فدل هذا على أن المجنون لا يصح إيلاؤه، وهذا محل إجماع بين العلماء، فلو قال من جن لزوجته: والله لا أطؤك سنة، فإنه لا ينعقد اليمين، ولا تترتب عليه أحكام الإيلاء. المجنون قال رحمه الله: [لا من مجنون] . أي: لا يصح الإيلاء من مجنون، والجنون: مأخوذ من جن الشيء إذا استتر، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر من فيه؛ وذلك لأن ظلال الأشجار والزروع تمنع من رؤية الغير لمن هو تحتها، فسمي الجنون جنونا؛ لأنه يغطي العقل ويغيبه. والمجنون ينقسم عند العلماء إلى قسمين: إما أن يكون جنونه مطبقا؛ فلا إشكال. وإما أن يكون الجنون متقطعا؛ فإن كان متقطعا حكم بما ذكرنا حال الجنون، وحكم بالتكليف حال الإفاقة. المغمى عليه قال رحمه الله: [ومغمى عليه] . أي: ولا يصح إيلاء المغمى عليه، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيه: فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: المغمى عليه مكلف. ومنهم من يقول: المغمى عليه ليس بمكلف، وهو في حكم المجنون، وقد تقدمت معنا مسائل عديدة في كتاب العبادات والمعاملات تتفرع عن هذا الخلاف، وأن الصحيح والأقوى: أن المغمى عليه في حكم المجنون، ولذلك لا يصح إيلاؤه، ولا تنعقد الأحكام المترتبة على وجود العقل مع مسلم. العاجز عن الوطء قال رحمه الله: [وعاجز عن وطء لجب كامل أو شلل] : الإيلاء -كما ذكرنا- أن يحلف الزوج اليمين على أنه لا يطأ زوجته المدة المعتبرة للإيلاء، التي هي أكثر من أربعة أشهر، وهذا الحلف يتضمن الإضرار بالزوجة كما ذكرنا وبينا، وإذا ثبت أنه يضر بالزوجة فالشريعة قصدت دفع الضرر، فإذا كان الشخص عاجزا عن الوطء أصلا، فهذا لا يتحقق فيه السبب الذي من أجله حكم بالإيلاء؛ لأنه عاجز عن الوطء أصلا، فمثله ليس بممتنع على وجه فيه ضرر. والشريعة تحمل القادر، وهذا غير قادر، ولذلك قال رحمه الله: (وعاجز عن وطء) ، فلا يصح الإيلاء من عاجز عن وطء؛ وهو الذي لا يستطيع وطء زوجته. وقوله: (لجب) أي: لسبب قطع العضو؛ فليس عنده عضو. وقوله: (لجب كامل) أي: إذا كان العضو مقطوعا قطعا كاملا، فلو قال: والله لا أطؤك سنة. فإن هذا أمر غير موجود فيه أصلا، فحلفه وجوده وعدمه على حد سواء. لكن أن يكون قادرا مستطيعا للوطء ويقول: والله لا أطؤك، فهنا كان هذا من ظلم الزوج للمرأة؛ لكن إذا كان مقطوع العضو وقال: والله لا أطؤك، فهذا وجود اليمين وعدمه فيه سواء. ومفهوم قوله: (كامل) أنه إذا كان المقطوع بعض العضو، فالشريعة تفرق بين إزالة العضو كاملا وبقائه كاملا، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا بقي من العضو ما يمكن معه الوطء، فهذا ظالم، وحلفه اليمين يتحقق به الظلم، ولذلك يؤمر بالفيء والتكفير عن يمينه، وإلا طلق عليه الحاكم. وقوله: (أو شلل) أي: شلل في عضوه؛ لأنه لا يستطيع أن يجامع أصلا، أعاذنا الله وإياكم. صيغ التعليق في الإيلاء قال رحمه الله: [فإذا قال: والله لا وطأتك أبدا، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر، أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال، أو حتى تشربي الخمر، أو تسقطي دينك، أو تهبي مالك ونحوه فمول] . قوله: (فإذا قال: والله لا وطأتك أبدا) : ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها، وما يترتب عليها من حقوق شرعية، وهذا الإيلاء يفتقر إلى وجود صيغة ولفظ، وهذا اللفظ تارة يكون بذكر الأشهر أو المدة التي يتحقق بها الإيلاء، وتارة يعلق على صفة يتحقق بها ويوجد بها ما يوجد في التعليق على مدة الإيلاء، وتارة يكون بألفاظ محتملة. ولذلك درس العلماء والأئمة رحمهم الله ألفاظ الإيلاء، وعلينا أن ندرك أن هذه الأمثلة الغريبة حينما يسمعها الإنسان ويستغرب منها، ليست القضية هي المثال نفسه، إنما القضية أصل المثال، وهذا هو الذي ينبغي على من يدرس الفقه. صيغة التأبيد وعلى طالب العلم أن ينتبه إلى أن الزوج إذا علق امتناعه عن وطء زوجته فإما أن يعلق على التأبيد ويقول: والله لا أطؤك أبدا، أو والله لا أطؤك الدهر كله، أو والله لا أطؤك عمري وحياتي ومدة بقائي فهذا كله يتحقق به الإيلاء؛ لأنه متضمن لمدة الإيلاء وزيادة، فتتحقق به مدة الإيلاء، وهي أكثر من أربعة أشهر. وهذه يسمونها: صيغة التأبيد، أي: لم يجعل حدا من الزمان أو مدة من الزمان. والفرق بين المؤقت والمؤبد: أنه لو أقت بمدة معينة كأن يقول: والله لا أطؤك خمسة أشهر، أو لا أطؤك سنة، فيمكن أن تقول الزوجة: أنا سأصبر عليك سنة، وسأصبر عليك خمسة أشهر، لكن لو قال: والله لا وطأتك الدهر كله، أو لا وطأتك عمري، أو لا وطأتك أبدا، أو لا أطؤك ولن أطأك أبدا، فكل هذه تدل على أنه لا يريد التأقيت وإنما يريد تأبيد الامتناع. تعليق الإيلاء على مدة تزيد على أربعة أشهر قال رحمه الله: (أو عين مدة تزيد) . وهذه فائدة قراءة المتون الفقهية: أنها تربي في طالب العلم ملكة التركيز والتسلسل، فتعرف من الأشياء في بعض الأحيان مقابلة بعضها لبعض، فحينما يقول: والله لا وطأتك أبدا، فهذا تأبيد، وإذا عين مدة، فنفهم أنه ضد الصورة الأولى. لكن لو قرأت الأمثلة مجردة، فإنك لا تستطيع أن تدرك الخبايا والمقاصد التي وضع العلماء من أجلها هذه الأمثلة، فهو عندما قال: (أو عين مدة) ، فحينئذ تفهم أن (أو) هنا للمقابلة، وأن قصده أن يأتي بصورة وهو يريد أن يقابل؛ لأنه لو اقتصر على قوله: والله لا وطأتك أبدا، أو لا وطأتك الدهر، لظن ظان أن الإيلاء لا يقع إلا إذا كان مؤبدا؛ ولذلك قال رحمه الله: [أو عين مدة تزيد على الأربعة الأشهر] ، فمدة الإيلاء إما أن تزيد على أربعة أشهر، أو تكون أقل من أربعة أشهر، أو تكون أربعة أشهر، فهذه ثلاثة أحوال: والله لا أطؤك شهرا، والله لا أطؤك أربعة أشهر، والله لا أطؤك خمسة أشهر أو سنة. الحالة الأولى: إذا قال: والله لا أطؤك شهرا أو شهرين أو ثلاثة، فهذه أقل من مدة الإيلاء باتفاق العلماء رحمهم الله، وجماهير السلف والخلف على أنه لا يكون إيلاء، إلا أن بعض السلف يقول: يكون إيلاء، وهو قول شاذ، والذي نص عليه القرآن أن الإيلاء لا يقع إلا بالمدة المعتبرة وهي أكثر من أربعة أشهر. الحالة الثانية: أن يقول: والله لا أطؤك خمسة أشهر، أو أربعة أشهر ويوما، أو أربعة أشهر وأسبوعا، فحينئذ ذكر مدة الإيلاء، وشبه متفق عليه عند العلماء رحمهم الله أنه إذا زاد على أربعة أشهر فإنه مول. الحالة الثالثة: أن يذكر الأربعة الأشهر بنفسها فيقول: والله لا أطؤك أربعة أشهر، فهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الأربعة الأشهر وحدها ليست بمدة الإيلاء، وأنه لابد أن يزيد في إيلائه على الأربعة الأشهر؛ لأن الله يقول: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226 - 227] . ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأحكام المترتبة بما بعد الأربعة الأشهر، ولم يجعلها دون الأربعة الأشهر على تمامها وكمالها، فدل هذا على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي ما لم يزد عليها، فلو حلف وقال: والله لا أطؤك أربعة أشهر؛ فإنه مباشرة بعد انتهاء الأربعة الأشهر ستنحل اليمين، فلا وجه لإيقاف القاضي له. وهذا وجه مذهب الجمهور رحمهم الله: أنه في تمام الأربعة الأشهر لا يكون موليا، وأنه لابد في الإيلاء من ذكر مدة أكثر من أربعة أشهر. وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه يشترط في المدة المعتبرة في الإيلاء أن تكون أكثر من أربعة أشهر، فقال: (أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر) ، سواء كان بالأشهر كأن يقول: لا أطؤك خمسة أشهر، أو ستة أشهر، أو عاما أو سنة، أو سنتين أو ثلاث سنوات أو نحو ذلك. تعليق الإيلاء على أمر يبعد حصوله قال رحمه الله: [أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال] . الآن فهمنا أن الصورة الأولى للتأبيد، والصورة الثانية للتأقيت. وقوله: (حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال) هذه أمثلة أخرى غير الأمثلة التي كنا فيها، وهي أن يعلق الإيلاء على أمر يبعد حصوله، بحيث يغلب على الظن أنه سيجاوز الأربعة الأشهر. قال بعض العلماء: هذه الثلاث الصيغ إذا تلفظ بها انعقد الإيلاء؛ لأن الغالب أن هذه الأشياء لها أمارات وعلامات يغلب على الظن أنها لا تقع إلا بعد أربعة أشهر، بمعنى أنها تزيد على الأربعة الأشهر، هذا ما اختاره بعض العلماء والأئمة وبعض المحققين مثل الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره. وبعض العلماء يقول -وهو الأوجه الأقوى-: إنه لا يكون إيلاء بمجرد التلفظ، وإنما ينتظر مضي المدة التي هي الأربعة الأشهر، فإذا تمت المدة وزادت على الأربعة الأشهر فحينئذ يقع الإيلاء، بمعنى: أننا لا نعلم؛ لأن هذه أمور غيبية، فقد يكون خروج عيسى عليه السلام بعد أسبوع أو بعد شهر، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم، ولربما جاءت أمارات الساعة تلو بعضها والله على كل شيء قدير، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه إذا ذكر هذه الأشياء يكون موليا مباشرة. والذي يظهر -كما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله-: أنه ينتظر إلى أن تمضي مدة الأربعة الأشهر، ثم بعد ذلك يحكم بكونه موليا. والفرق بين القولين: أن القول الأول يعتبره موليا بمجرد صدور هذا الأمر منه، والقول الثاني لا يعتبره موليا حتى يستتم الأربعة الأشهر ويتحقق أنه قد ذكر مدة يعتد بها للإيلاء. وقوله: (أو يخرج الدجال) ، هذه الأشياء ذكرها العلماء كأمثلة على ذكر ما يستبعد وقوعه ويغلب على الظن وقوعه بعد مدة الإيلاء. تعليق الإيلاء على طلب شيء أو حدوثه قال رحمه الله: [أو حتى تشربي الخمر] . ذكرنا التأقيت والتأبيد في الزمان، لكن الذي معنا هنا هو التعليق على حدوث شيء أو طلب شيء، وهذا فيه تفصيل: فتارة يعلق على أمر بيد المرأة أن تفعله. وتارة يعلق على أمر خارج عن إرادة المرأة، كأن يقول: لا أطؤك حتى يأتي أبي، أو لا أطؤك حتى أسترد مالي ونحو ذلك. أو يعلق على أمور مستحيلة، سواء طلب من الزوجة أو غيرها. ولذلك شرع المصنف رحمه الله في هذا النوع من التعليق فقال: (أو حتى تشربي الخمر) والعياذ بالله! قالوا: فإذا علق على فعل من المرأة فينقسم إلى قسمين: إما أن يعلق على فعل مباح، أو يعلق على فعل محرم. وإذا علق على فعل مباح بيد المرأة أن تفعله فلا يخلو أيضا من ضربين: إما أن يعلق على فعل مباح تتضرر المرأة بفعله، وإما أن يعلق على فعل مباح لا تتضرر منه المرأة ولا مشقة عليها في الفعل. كأن يقول لها: والله لا أطؤك حتى تفتحي الباب، أو والله لا أطؤك حتى تقفلي الباب، فهذا أمر مباح، ويمكنها أن تقوم به دون وجود مشقة أو ضرر عليها. فهذا النوع قالوا: ليس بإيلاء أصلا؛ لأن هذا أمر بيد المرأة، وقد أصبح الشيء بيد المرأة؛ فإذا أرادت الوطء قامت به، وإن لم ترد فهذا أمر يرجع إليها، قالوا: فلا يقع به الإيلاء؛ لأنه ليس فيه ضرر، وليس بالأمر الممتنع الذي يتحقق به الإضرار بالزوجة. أما إذا علق على فعل مباح تتضرر المرأة به وتجد فيه المشقة والعناء، فكأن يقول لها: والله لا أطؤك حتى تسقطي دينك علي، أو حتى تسقطي مؤخر الصداق، أو حتى تتنازلي عن حقك في كذا وكذا. والحقوق المالية لاشك أن المرأة بإمكانها أن تفعل، وهو مباح لها شرعا أن تسامح زوجها، ومن حقها أن تعطيه المال، ولكن إذا كان بدون رضى منها فهذا فيه إضرار وفيه أذية ومشقة، وهو من الأنواع التي يقع بها الإيلاء. وأما الحالة الثانية: وهي أن يعلق على فعل محرم على المرأة، مثل قوله -والعياذ بالله-: حتى تشربي الخمر أو تزني، فهذا أيضا يتحقق به الإيلاء؛ لأنه علق على أمر محرم، فيجعل الضرر على المرأة، والضرر على المرأة في هذا وارد. وأما إذا طلب منها أمرا ليس بيدها أن تفعله، كأن يقول لها: حتى تصعدي إلى السماء -كما ذكر العلماء- أو حتى تقلبي الحجر ذهبا أو نحو ذلك، فقال رحمه الله يبين هذه الصور: (أو حتى تشربي الخمر) أي: أن يعلق الزوج امتناعه عن وطء زوجته على فعلها لمحرم من شرب خمر أو زنى أو غير ذلك -والعياذ بالله- فهذا إيلاء. وقوله: (أو تسقطي دينك) أي: يعني تتنازلي عن الديون التي لك علي، أو تسقطي دينك عن أبي أو أمي، أو عن الناس، أو عن قرابتي. وقوله: (أو تهبي مالك ونحوه) ، نحو الشيء ما كان مثله أو قريبا منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثله أو قريبا منه. والحاصل: أن المصنف رحمه الله يقول: إذا طلب منها فعلا مباحا فيه ضرر عليها، أو طلب منها فعلا محرما شرعا، فهذا كله يتحقق به الإيلاء، لكن فيه ضرر على المرأة. وقوله: (فمول) ، أي: يحكم بكونه موليا. الواجب على المولي إذا انتهت مدة الإيلاء قال رحمه الله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قنا، فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء، وإلا أمر بالطلاق، فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثا أو فسخ] . قوله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه] . بعدما بين المصنف رحمه الله الصيغ التي يتحقق بها الإيلاء، والأشخاص الذين يصح منهم الإيلاء؛ شرع في الأحكام المترتبة على الإيلاء. فإذا قال رجل لزوجته: والله لا أطؤك سنة، فعند جمهور العلماء أنه يوقف بعد مضي المدة المعتبرة للإيلاء، وحينئذ يطلب منه القاضي ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تكفر عن اليمين؛ لأنه قال: والله لا أطؤك سنة، أو تطلقها. والسبب في هذا: أن المرأة -كما ذكرنا- لا تصبر أكثر من هذه المدة، ولذلك لما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والناس أشاروا عليه، وقيل: إن ميمونة أشارت عليه رضي الله عنها وقالت: إن المرأة تصبر عن زوجها الشهر والشهرين، وتصبر الثالث على مضض، ولكنها في الرابع في الغالب لا تستطيع أن تصبر. فهذا يدل على الحكمة العظيمة التي من أجلها جعل الله هذه المدة. فإذا مضت الأربعة الأشهر، وقد أقسم بالله، فاليمين تمنع، والزوجة تطالب، ولا يمكن أن نلغي اليمين؛ لأن اليمين يمين شرعي منعقد، فحينئذ بينت الشريعة الحكم وهو أننا نقول له: كفر عن يمينك وراجع زوجتك. وهذا عين العدل والإنصاف؛ فإما أن يكفر عن يمينه ويراجع زوجته، ويعود إلى زوجته ويفيء، وإما أن تطلق عليه؛ لأن هذا ليس من المعروف، والله قد أمر بعشرة النساء بالمعروف. ومن هنا إذا مضت المدة فقد بين المصنف رحمه الله أنه يوقف ويطالب منه الرجوع والفيء، قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226 - 227] ، فرتب الله في الآية على الإيلاء حكمين شرعيين: أحدهما: أن يفيء الرجل ويرجع إلى زوجته، فيقال له: كفر عن يمينك، على أصح أقوال العلماء رحمهم الله؛ لأنه يمين شرعي منعقد. الثاني: {وإن عزموا الطلاق} [البقرة:227] ، فإذا قال: لا أريدها، ولا أريد أن أرجع إليها، وما حلفت هذا اليمين من فراغ؛ بل أنا أكرهها ولا أريدها، فيقول له القاضي: طلقها وإلا طلقتها عليك. فشرع المصنف رحمه الله في تأكيد هذا فقال: (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه) ، فإذا حلف اليمين مثلا في أول محرم، فننتظر محرم وصفر وربيع الأول إلى انتهاء ربيع الثاني، ثم من حق المرأة أن ترافعه إلى القضاء؛ لكن لو جاءت ترافعه في محرم أو في صفر أو في ربيع الأول، أو قبل تمام ربيع الثاني، فليس هذا من حقها، إنما يكون الإيقاف وطلب الفيء أو التطليق بعد تمام المدة. ولو أن المرأة رضيت وقالت: لقد حلف علي خمسة أشهر، وأنا أريد أن أصبر، فإنها تصبر ولا حرج عليها، وهذا حقها. وبناء على ذلك يوقف بعد تمام الأربعة الأشهر -هذا الحكم الأول- ثم يخير بين الفيء وهو الرجوع إلى زوجته وبين تطليقها. وقوله: (ولو قنا) القن: هو العبد (ولو) هنا إشارة إلى خلاف في المذهب، والمصنف رحمه الله يختار أن الحر والعبد في الإيلاء على حد سواء، وهذا هو الصحيح؛ لعموم قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} [البقرة:226] . الإيلاء من المطلقة رجعيا وفي الحقيقة كان المنبغي التنبيه على مسألة -ونحن لا نستدرك على المصنف رحمه الله؛ لأن المصنف يذكر الأمهات وهذا من حقه، لكن نريد أن ننبه على مسألة مهمة- وهي: أننا نحتسب المدة من صدور لفظ الإيلاء؛ بشرط أن لا تكون المرأة مطلقة طلاقا رجعيا، فمثلا: زيد من الناس آلى من امرأته وهي مطلقة الطلقة الأولى، فنقول: إنها في حكم الزوجة، كما تقدم معنا، وبناء على ذلك يلحق بها الإيلاء، فإذا قال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فإننا ننتظر، فإذا صدر منه في منتصف محرم، فمعنى ذلك أنه في منتصف جمادى يحق للمرأة أن ترافع وتطالب على الأصل، لكن الواقع بخلاف هذا؛ فالمطلقة رجعيا لا يبحث في مسائل الإيلاء منها إلا إذا راجعها الزوج قبل نهاية العدة، فلو راجعها وكان قد آلى منها أثناء العدة فحينئذ يرد الإشكال. فلو أنه وقع منه لفظ الإيلاء في منتصف محرم -كما ذكرنا- وراجعها في أول شهر صفر؛ فحينئذ تحتسب مدة الإيلاء من بداية مراجعته لها إذا كان قد راجعها في آخر محرم الذي هو بداية صفر، فإننا نضيف شهرا ونحتسب الإيلاء من بعده؛ وذلك لأنه في هذه الحالة من بعد إرجاع الزوجة يكون من حقه أن يطأ ويتأتى مطالبته بالوطء. وبناء على ذلك تتضرر الزوجة بعد الرجعة، ولا تضرر في حال كونها رجعية، فإن هذا لا يترتب عليه حكم إلا اعتبار أن الإيلاء منعقد من حيث الأصل، فقال العلماء رحمهم الله: إنه إذا آلى منها وكانت رجعية، فأن مدة الإيلاء تحتسب من بداية الرجعة.
__________________
|
#594
|
||||
|
||||
![]() حصول الفيء بالوطء قال رحمه الله: [فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء] . يشترط في اعتبار المدة التي هي الأربعة الأشهر أن لا يقع فيها جماع، أو أن لا يقع فيها وطء، فلو وطأ أثناء الأربعة الأشهر ولو مرة واحدة فقد حنث في يمينه ويلزمه التكفير، ويسقط حق المرأة في مطالبتها برجوعه عن اليمين؛ لأنه إذا وطأ ولو مرة واحدة فإنه يحكم بارتفاع اليمين ووجوب الكفارة عليه؛ لأنه حلف في يمينه وقال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فجلس الشهر الأول والشهر الثاني، وفي الشهر الثالث وطأها مرة واحدة، ولذلك قال رحمه الله: (فإن وطأ) . وإذا قلنا بأن الوطء يلغي الإيلاء ويوجب التكفير فيرد السؤال ما هو الحد المعتبر للوطء؟ الأصل عند العلماء والأئمة رحمهم الله: أن الوطء يحكم به بتغييب الحشفة؛ وهي رأس الذكر كما ذكرنا، ويترتب على هذا ما لا يقل عن ثمانين حكما شرعيا ومنها هذه المسألة. وبناء على ذلك: فإن حصل منه وطء لامرأته بتغييب الحشفة أو قدرها من المقطوع -كما تقدم معنا- سقط الإيلاء ووجب عليه التكفير، وتعتبر فيئة منه ورجوعا عن اليمين. إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم قال رحمه الله: [وإلا أمر بالطلاق] . قوله: (وإلا أمر) أي: يقال له: طلق، فإذا قال: لا أطلق ولا أرجع لزوجتي، فحينئذ يرفع إلى القاضي ويشتكى به، فإذا اشتكته امرأته إلى القاضي طالبه بالقضاء وقال له: ارجع إلى زوجتك، وكفر عن يمينك وأت الذي هو خير، فإذا قال: لا. فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، فأصبح لا يريد أن يطلق، ولا يريد أن يكفر عن يمينه، فحينئذ يطلق القاضي عنه، ويكون من حق القاضي أن يتولى الطلاق، على خلاف عند العلماء، والصحيح أنه ينزل منزلته؛ لأن هذا من الظلم والإضرار، وقد بين الله عز وجل أن من حق الزوج هذه المدة، وإذا جاوزها التقط حقه، فإذا لم يفئ فإنه غير معاشر بالمعروف، فمن حق الحاكم والقاضي أن يطلق عليه. قال رحمه الله: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثا أو فسخ] . الحاكم: هو القاضي ومن في حكمه ممن ينصب لفض المنازعات وقطع الخصومات على الوجه الشرعي، وتكون أهليته على الوجه المعتبر، وتتحقق فيه الأهلية المعتبرة شرعا. فالقاضي إذا نظر حال الزوج مع الزوجة ووجده ظالما مؤذيا مضرا، وأنه قد تعدى حدود الله، ولا مصلحة في رجوع المرأة إليه، فإن من حقه أن يطلقها عليه بالثلاث، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف على أن الثلاث بلفظ واحد ماضية، وبينا هذا وبينا وجهه ودليله. فمن حق القاضي أن يطلق ثلاثا لكي يمنعه أو يحول بينه وبين هذه المرأة التي آذاها وأضر بها، وكذلك من حقه أن يطلق الطلقة الأولى والثانية، فلو نظر أن من المصلحة أن يطلقها طلقة واحدة طلق طلقة واحدة، وهكذا لو كان الزوج قد طلق طلقتين وبقيت له طلقة واحدة، وجاء القاضي وأمر الزوج بالتطليق فلم يطلق، وأمره بالفيء فلم يفئ؛ طلق عليه الطلقة فكانت ثالثة، وسواء طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا. وقوله: (أو فسخ) أي: يقول: فرقت بينكما، وفائدة الفسخ أنه لا يمتلك الزوج إرجاع الزوجة إلا بعقد جديد، ولذلك بعض العلماء يرى أن الطلاق هنا طلاق غير رجعي ولو كان طلقة واحدة؛ لأنه لو كان طلاقا رجعيا لأمكن أن يقول: راجعتك، وتبقى المرأة في الضرر. والصحيح أنه طلاق رجعي، وذلك لأن الحكم أن من حق القاضي أن يطلق أو يفسخ، فإن نظر المصلحة في الطلاق طلق، وإن نظر المصلحة في الفسخ فسخ، وإذا رأى أن يطلق فإن شاء طلق الطلقة الأولى، وإن شاء طلق الطلقة الثانية، وإن شاء طلق الطلقة الثالثة، ولو طلق عليه الطلقة الأولى والمرأة صارت رجعية فقال الزوج: راجعتك، فحينئذ أيضا يحتسب له بحكم الإيلاء، ويوقف مرة أخرى ويقال له: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وهذا هو اختيار جمع من العلماء رحمهم الله. والسبب في هذا: أن المرأة مظلومة ومتضررة، ولا شك أنه إذا راجعها ولم يطأها فمعنى ذلك أنه يريد رجعتها من أجل الإضرار بها، والله يقول: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} [البقرة:231] . فبين أنه ظالم وأنه معتد لحدود الله، فمن حق القاضي أن يمنعه، فلو طلق عليه الطلقة الأولى فراجعها مباشرة فاشتكته إلى القاضي وقالت: ما رجع إلي ولا فاء، فأمره القاضي بالرجوع فأبى، فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، ففي هذه الحالة له أن يطلق عليه الطلقة الثانية، وكذلك لو راجعه بعد الثانية فله أن يطلق عليه الطلقة الثالثة، فله أن يصدرها مفرقة وله أن يصدرها مجتمعة؛ لأن الأمر عائد إلى النظر في مصالح الخصوم، والقاضي له حق النظر في مصالح الخصوم وله أن يفسخ. ولماذا يلجأ إلى الفسخ؟ يلجأ إلى الفسخ إذا رأى أن الرجل يريد الإضرار، وأنه ليس من مصلحته أن يستخدم هذا الإضرار، فيفسخ نكاحها حتى يبعدها عن هذه المشاكل باحتمال أن يعود إليها، فيمكن أن يوجد زوج عنيد، ويعلم أن المصلحة أن تعود له زوجته، لكنه لا يريد أن يعيدها، ففي هذه الحالة لو أنه أعادها له بطلقة واحدة رجعية ربما فاتت الثلاث تطليقات بالإيلاء؛ فحينئذ يلجأ إلى الفسخ، فتحتسب له طلقة واحدة أفضل من أن تحسب له ثلاث طلقات، وهذا يرجع إلى فقه القاضي ودرايته بحال الخصومة. فالعلماء رحمهم الله نصوا على هذا؛ لأن مقصود الشريعة دفع الضرر عن الزوجة بوجه لا يتضمن أيضا الضرر على الزوج، ما لم يكن الزوج متسببا في إدخال الضرر على نفسه؛ لأنه هو الذي حلف، وهو الذي صدر منه اليمين. قال رحمه الله: [وإن وطأ في الدبر أو دون الفرج فما فاء] . بعد أن بين رحمه الله أن الوطء يرفع اليمين، بين أنه لا يعتد بوطء غير شرعي وهو الوطء في الدبر، وهذا من كبائر الذنوب، ومن الأمور المحرمة، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام نفيس في بدائع الفوائد وغيره من كتبه كعادته رحمه الله، فقد بين أمورا عجيبة -والعياذ بالله- في وقوع الزوج في هذا الأمر المحرم وهو إتيان الزوجة من الدبر؛ أنه يفسد الزوجة، ويفسد القلب ويظلمه -نسأل الله السلامة والعافية- وله العواقب الوخيمة على المرأة وعلى الزوج. ولذلك فإن هذا النوع من الوطء محرم شرعا، ولا يعتد به، فلو حصل وطء به فإنه لا يعتبر فيئا، ولا يسقط حكم الإيلاء. مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء قال رحمه الله: [وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطأها وهي ثيب صدق مع يمينه] : شرع رحمه الله في بيان مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء، وقد تقدم معنا في مسائل المعاملات أن العلماء رحمهم الله من عادتهم أن يذكروا مسائل القضاء في آخر كل باب على حدة فيما يختص به من المسائل. فهنا عندنا مسألة وهي: إذا وقع الإيلاء وجاءت المرأة بعد أربعة أشهر واشتكت، قلنا: إن الوطء يقطع حق المرأة ويزيل حكم الإيلاء، فإن قال الرجل: وطأتها، وقالت المرأة: نعم. وطأني، فحينئذ لا إشكال، وقد ثبت عندنا أنه حصل وطء، ويعتبر الوطء فيء ورجوع. لكن الإشكال لو قال: وطأتك -يخاطب زوجته أمام القاضي- وطأتك خلال مدة، فليس من حقك أن تخاصميني، فقالت: ما وطأني وما حصل وطء، وأنكرت الوطء، فهل نصدق الزوج أو نصدق الزوجة؟ للعلماء وجهان في هذه المسألة: فمن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأنه يبقي حكم النكاح -وهذا هو الأصل- ولا نصدق الزوجة؛ لأنها تدعي أمرا يئول بالنكاح إلى ارتفاعه؛ لأنه ربما رجعت المسألة إلى الطلاق. وبناء على ذلك: قالوا: إنه يصدق الزوج؛ لكن هذا التصديق مبني على مسألة التهم، وفي مسائل التهم إذا صدق القول مع التهمة فإنه يطالب باليمين التي تسمى عند العلماء في القضاء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء- بيمين التهم، ويمين التهمة تقوي جانب الخصم على خصمه، قال الناظم: فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي أي: باليمين يعتبر القول الذي يعارضه غيره مع وجود التهمة؛ لأنه يحتمل أن تكون المرأة صادقة وأنه ما وطأها. والسبب في الخلاف: أن بعض العلماء يقول: تصدق الزوجة؛ لأن الأصل عدم وجود الوطء؛ لأنه قال: والله لا أطؤك، فالأصل أنه ما وطأ لأن عنده يمينا تمنعه من الوطء، فقالوا: نصدق الزوجة ونقبل قولها ونطالب الزوج بالفيء أو التطليق. ومن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأن المرأة في ادعائها أنه لم يطأ تدعي أمرا خلاف الأصل، مما يوجب رفع النكاح كما تقدم معنا. فهذا وجه الخلاف بين القولين، ولكل قول وجهه. قال رحمه الله: [وإن كانت بكرا وادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صدقت] . الخلاف الأول: إذا كانت ثيبا، وهي التي لا علامة فيها ولا أمارة تميز وجود الوطء وعدمه، لكن إذا كانت بكرا فهناك علامة تؤكد أو ترجح، ولذلك قالوا: قد يقع جماع البكر دون افتضاض لبكارتها، وهذا أمر نادر، والشرع لا يبني الحكم على النادر؛ لكن بعض العلماء لا يعتد بهذا الوطء. وعلى كل حال قالوا: إذا ادعت بأنه لم يطأها وكانت بكرا والبكارة موجودة؛ لأنه ربما تكون المرأة قد أزيلت بكارتها قبل النكاح، وليس زوال البكارة يدل على أن المرأة فاسدة في كل الأحوال؛ لأنه ربما زالت بكارتها بسبب قفز أو بسبب غير الوطء، وهذا أمر ثابت طبيا. ولذلك فمسألة وجود البكارة وعدمها قرينة أو مرجحة، لكنها لا توجب القطع ولا توجب الثبوت من كل وجه، وهي ترجح جانب المرأة، فلو أنها قالت: ما وطأني، وأنا بكر، كامرأة عقد عليها زوج وهي بكر ثم حلف أنه لا يطؤها ومكن من الدخول ثم حلف أن لا يطأها، فاشتكته إلى القاضي بعد أربعة أشهر فقالت: ما وطأني، وقال الرجل: بل وطأتها، فقالت المرأة: تزوجني وأنا بكر ولا زالت بكارتي موجودة، فقيل للرجل: ماذا تقول؟ قال: لا أزال مصرا على قولي، وفي هذه الحالة ينتدب القاضي امرأة أو طبيبة شرعية يوثق بقولها شرعا للنظر والتأكد مما ذكرت، فإن وجدت البكارة كما هي فلا إشكال، لكن الإشكال أن هذا كان موجودا في زمان الأولين حين يتعذر إعادة البكارة، لكن في زماننا يمكن إعادة البكارة؛ ولذلك فهذه المسائل بعضها يحتاج إلى نظر وتحرير، وهو مختلف في الحكم باختلاف الأزمنة. وهذا النوع هو الذي يسميه العلماء: تغير الفتوى بتغير الزمان، وليس المقصود بتغير الفتوى -كما يظنه البعض- التلاعب بالنصوص الشرعية، والدعوة إلى الأمور المحرمة كمسائل السفور ونحوها تحت غطاء تغير الفتوى بتغير الزمان هذا لا يصدر من إنسان عالم قرأ نصوص الكتاب والسنة، وفكر في دين الله وشرع الله. لكن قد توجد أمور تقتضي تغير الأحكام بتغير الأزمنة؛ ومنها هذه المسائل، فإن العلماء حكموا بأنها أمارة ودليل ربما يستأنس به، لكن في زماننا يمكن رتق غشاء البكارة. وهذا النوع من الجراحة لا أشك في حرمته شرعا، فلم أجد نصا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يبيح هذا النوع من الجراحة، مهما ادعي من الادعاءات، حتى ولو أن المرأة اغتصبت وأوذيت بالباطل، فليس من حق الطبيب أن ينظر إلى فرج المرأة، ولا أن يستبيح الإيلاج، ولا أن يستبيح اللمس، وليس من حق حتى المرأة مع المرأة؛ لأن الفرج هو العورة المغلظة المشدد في حرمتها. فإذا قالت: إنها ستعيدها، بناء على أن هذه المرأة اغتصبت، بقي حق الزوج، فكيف يدخل على امرأة يظنها بكرا، وتعامله معاملة البكر، ويعطيها مهر البكر، فأين حق الزوج؟ وهذا اختلال في النظر، ولذلك فإن بعضهم -أصلحهم الله- يفتي بمسألة رتق غشاء البكارة تحت العواطف وتحت المبررات، مع أن هذا أمر من ناحية شرعية ليس له مبرر فيما ظهر لي بعد دراسة هذه المسألة والنظر في أدلة من يجيزون هذا النوع من الجراحة. ولا أشك أن هذا النوع من الجراحة المحرم لا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يقوما به؛ لأنه ليس هناك مبرر شرعي للقيام به، وكل ما في الأمر أنه إذا اعتدي عليها واغتصبت، فإنه إذا جاء من يخطبها فإن الله أمرنا بأن ننصح ونبين فنقول له: إن أردت أن تسترها فأنت مأجور، ولا شك أن من فعل ذلك له عند الله عظيم الأجر وعظيم الثواب، إذا احتسب وقصد من ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يأجره. فيطلع على الحقيقة، ويبين له أن المرأة صالحة وأنها مستقيمة، وأنها اعتدي عليها، أو يثبت ذلك بالوسائل الموجودة في زماننا ثم يعرض الأمر عليه، فإذا ارتاحت نفسه واطمأنت أن يحتسب الأجر عند الله، وأن يطلب من الله عز وجل أن يخلف عليه في مصيبته، فهذا فضل وخير منه، والله يأجره على ذلك، وإذا لم يرد فلا بأس، أما أن يرتق غشاء البكارة، ويدل الرجل على المرأة على أنها بكر، فلا يجوز. ثم إن هذا النوع من الجراحة فتح -والعياذ بالله- باب الفساد، فتجد المرأة لا تبالي أن تقدم على الحرام تحت طمأنينتها أن غشاء البكارة يمكن رتقه، فإبطال هذا النوع وقفل بابه لا شك أنه يقفل باب مفاسد كثيرة وشرور عظيمة. فمنع هذا النوع كلية والحيلولة بين الطبيب من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية يمنع المفاسد المترتبة؛ لأنه لو وجد عذر لبعض فئات من المجتمع، فإنه لا يوجد العذر في الفئة الثانية التي ربما تقع في الحرام حقيقة، ثم تدعي أنها اغتصبت أو أنه فعل بها هذا بدون حق. فالشاهد: أن مسألة ادعاء البكارة من المسائل التي تحتاج إلى أن يفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي أمكن فيه عود الغشاء كما لا يخفى. امتناع الزوج عن وطء زوجته إضرارا بها بدون يمين قال رحمه الله: [وإن ترك وطأها إضرارا بها بلا يمين ولا عذر فكمول] هذه المسألة الأخيرة التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب، وهي مسألة امتناع الزوج من وطئه لزوجته على سبيل الإضرار بها. فإذا امتنع الرجل من وطء زوجته أربعة أشهر واشتكت إلى القاضي، فإن القاضي يوقفه ويقول له: إما أن تعود إلى المرأة وتفيء وتجامعها وتعطيها حقها وتعفها عن الحرام، وإما أن تطلقها أو نطلقها عليك. وقد قصد المصنف رحمه الله من هذا بعدما بين أحكام الإيلاء التي هي الأصل، أن يشرع في بيان ما يقاس على الإيلاء، فالشريعة حينما أعطت المرأة هذا الحق، وهو مخاصمة زوجها بعد تمام المدة وهي الأربعة الأشهر وهي إيقافه شرعا، فكذلك المعنى الذي من أجله شرع للمرأة أن تطلب بفيء زوجها وتطليقه موجود في حال امتناعه عن وطئها بدون يمين. فمن حقها أن توقفه وتسأله الرجوع أو التطليق، ومما ينبغي أن يتنبه له كل مسلم أن الزواج له حقوق ومسئوليات وواجبات؛ ومنها: أنه يجب على الرجل أن يعف امرأته عن الحرام، كما أنه يجب على المرأة أن تعف زوجها عن الحرام، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وكثرت فيه المحن، فالواجب على المرأة أن تحفظ زوجها وتحافظ عليه، وكذلك الزوج الواجب عليه أن يحافظ على زوجته، ويحول بينها وبين الحرام، خاصة إذا كانت صالحة وكان الزوج صالحا. وبعض الأزواج يتساهل في هذا الأمر، وينظر إلى أن الاستمتاع بالمرأة مجرد شهوة ولا يبالي، فيكثر من السفر، وربما يغيب الأشهر العديدة، دون أن ينظر إلى حق زوجته في فراشها وحاجتها إلى من يعفها. وكذلك المرأة ربما عاشت مع زوجها فلا تتجمل له، ولا تحسن التجمل له حتى تحفظه من الحرام، حتى لربما -والعياذ بالله- زلت قدمه ووقع في الحرام، وتعاطى الأسباب لا يخلو الإنسان من الإثم -والعياذ بالله- والحرج. ولذلك المرأة التي تقصر في حق زوجها في فراشه ربما كانت سببا في وقوعه في الزنا والعياذ بالله! وهذا ستسأل عنه أمام الله عز وجل. والرجل الذي يقصر في حقوق امرأته ويغيب عنها، ولا يشترط أن يمتنع من وطئها أربعة أشهر، فإن بعض النساء قد لا تصبر شهرا أو شهرين؛ كالمرأة حديثة العهد بالعرس، أو المرأة التي تعيش في اختلاط، أو في بيئة يصعب فيها الصبر، أو حال يدعو إلى الحرام، مثل أن تكون بين أبناء عمومته أو أبناء خئولته، ويكون مجتمعه فيه نوع من الاحتكاك والأخذ والعطاء، أو يكون وضعها الاجتماعي يوقعها في مثل هذه المحرمات، أو مخالطة الرجال، فهذا كله يشدد في أمره. والواجب على الرجال أن يتقوا الله في النساء، والواجب على النساء أن يتقين الله في أزواجهن، وأن يحسن التبعل للأزواج، وأن يحسن الرجل إلى زوجته، وأن يعلم أن من كمال الله عز وجل وكمال شرعه أن المؤمن يحتسب الثواب عند الله حتى في شهوته، قالوا: (يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟) ، فهذا يدل على كمال هذه الشريعة وسموها. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم. الأسئلة حكم تكفير الزوجة عن زوجها يمين الإيلاء السؤال إذا طلب الزوج المولي من زوجته أن تكفر هي من مالها يمين الإيلاء، فهل تصح الكفارة؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإذا لم يكن عنده مال، ولم تكن عنده قدرة على أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإنه يصوم ثلاثة أيام، فإذا وكلها في إخراج الكفارة ورضيت بذلك وقالت: أنا أخرج من عندي، فلا بأس، وهذا أمر يرجع إليها، فإذا فعلت فالإيلاء ساقط والكفارة معتبرة. والله تعالى أعلم. بيان أن النشوز ليس كالإيلاء السؤال هل النشوز الذي يكون من المرأة يعتبر مقابلا للإيلاء، كما لو أقسمت أن لا تمكنه من نفسها؟ أثابكم الله. الجواب لا يجوز للمرأة أن تحلف وتقول لزوجها: والله لا أمكنك من نفسي؛ لأن الملائكة ستلعنها حتى تصبح. وهذا يدل على أن المرأة ينبغي لها أن تأخذ الحذر في معاملتها لزوجها؛ لأن الزنا والحرام من الرجل أسهل من المرأة، وإذا امتنعت المرأة ربما نفر منها الزوج كلية؛ لأن الزوج بمجرد أن يشعر أن امرأته لا تحبه فإنه يترتب على ذلك الكثير من المفاسد والشرور. والمرأة تستطيع أن تعلم أن زوجها لانشغاله أو لأي أمر إذا صرف عن محبتها في وقت فإنه سيعود لها، فهناك فرق بين الرجل والمرأة، ولذلك عظم الشرع امتناع المرأة، وعظم أيضا امتناع الرجل، لكن جعل للرجل حدا لم يجعله للمرأة، والله يحكم وله أن يفضل وله أن يميز. وهذا يدل على أن الشريعة تراعي أمورا دقيقة جدا في هذه المسائل، فعلى المرأة أن تتقي الله، ولا يجوز لها أن تمتنع ليلة واحدة، بل حتى إذا دعاها إلى الفراش وامتنعت من ليلتها -والعياذ بالله- فقد جاء في الحديث الصحيح في رواية: (كان الذي في السماء عليها غضبان حتى تصبح) ، وفي الحديث الآخر: (أيما امرأة دعاها زوجها فأبت باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) نسأل الله السلامة والعافية. والله تعالى أعلم. امتناع الزوج عن امرأته بقصد تأديبها السؤال لو أراد الزوج من عدم معاشرته لأهله ووطئه أن يردعها حتى تتوب إلى الله وتقيم الصلاة، فهل هو مول إن طالت المدة، خصوصا وأنه يريد الإصلاح لا الإضرار؟ الجواب النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه وحلف أنه لا يطأ شهرا، وآلى من نسائه، وهذه أمور يرجع فيها إلى الزوجين، وهما أعرف، لكن لو كانت المدة دون مدة الإيلاء وقصد بها الإصلاح فما على المحسنين من سبيل، فالزوج أدرى بأهله وأدرى بزوجه، سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا، ولذلك أمر الله عز وجل بتأديب الزوجة إذا نشزت. والأفضل والأكمل -كما ذكر بعض العلماء والحكماء- أن لا يلجأ الزوج إلى المعاقبة بالعواطف إلا عند الضرورة، فلا يصل إلى طريقة تشعر بها المرأة بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنه لا يريدها، فإن هذا من أسوأ ما يكون، وتترتب عليه العواقب الوخيمة، والعكس من المرأة أيضا؛ فلا تشعر الزوج لا بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنها لا تريده؛ لأن هذا هو دمار البيوت، وبه تتهدم الأسر وتتشتت؛ لأن الله جعل الرباط بين الزوج والزوجة قائم على المودة والرحمة. فمن هنا التلاعب بالعواطف والتأثير بها أمر لا تحمد عقباه، فالمرأة لا تستطيع أن تتحكم بنفسها؛ لأنه بمجرد أن تشعر أن زوجها لا يريدها أو أن زوجها ليس راغبا فيها، ربما -والعياذ بالله- أفسدت نفسها ودخلت عليها وساوس الشيطان وأصابتها الأمراض النفسية. وانظر إلى حكمة الشريعة الإسلامية في كثير من المسائل التي بين الزوجين كيف أن الشرع جعل لها الحل، وانظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يقبل زوجته إذا خرج من البيت إلى الصلاة التي جعل الله قرة عينه فيها صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقبلها حتى يكون آخر العهد ما يدل على الرباط وعلى المودة والمحبة، وعلى الرحمة والإلف والتواصل، وهذا ليس منقصة للرجل، وإنما هو كمال؛ لأنه فعله أكمل الرجال وأكمل الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فليس ديننا بالدين الذي حجز الناس بالرهبانية وفي المساجد، وعزلهم عن الأسر وإقامتها بالمعاملة اللطيفة، فكل شيء جعل الإسلام له حقه وقدره. فكما أن الجهاد يقوم ببذل الأنفس، وتسيل فيه الدماء لوجه الله عز وجل ولإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعداء الله عز وجل، كذلك في الأسر تجد المودة والرحمة، وتجد التعاطف واللين، وتجد الكمال الذي قامت عليه هذه الشريعة الإسلامية خاصة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تلاعب الزوج بالعواطف وتلاعبت الزوجة بالعواطف فعندها لا تحمد العواقب؛ لأن المرأة إذا عاشت في مواقف محرجة ووجدت الزوج يعطف عليها، وعاشت في غلطات تصدر منها مع الزوج ومع ذلك تجد منه الدلائل التي تشير إلى حبه لها، ضحت من أجله وصبرت. وهذا معروف في قصص الأولين وأخبارهم، كما ذكر الحكماء في القصص الهادفة الحقيقية المبنية على وقائع صادقة، فإن المرأة ربما أحبت زوجها وامتحنته واختبرته بمواقف عاطفية معينة صدق معها فيها، حتى وقفت معه في آخر عمره في أحلك الظروف وأشدها. ولربما ذهب جماله في عز شبابه، ولربما ذهبت قوته وذهبت صحته، حتى إن المرأة تحب زوجها بصدق بسبب المواقف التي رأتها منه؛ من صدق المشاعر وصدق المودة، فإذا انصرف عنه كل شيء جاءت عند قدميه محبة، ولم يختلف حبها وودها بل لربما زاد أكثر. وهذا كله يحتاج إلى أن يضحي الإنسان من أجله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسس التي ينبغي على الإنسان أن يراعيها فقال: (خيركم خيركم لأهله) ، وهذه الخيرية تحتاج منا أن لا يمس الإنسان المشاعر، فالمرأة والرجل ينبغي عليهما الحذر في الأمور التي يعاقب فيها خاصة في أمور الفراش. يقول تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء:34] {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} ، فجعل الأمر مرتبا؛ لأن المرأة المؤمنة الصالحة التي تخاف الله عز وجل إذا ذكرها زوجها بالله تذكرت، وإذا رأت زوجها يسهر الليل ويتأخر عنها ويضيع حقها قالت له: يا هذا اتق الله. والمطلوب من الزوج إذا قالت له امرأته: اتق الله، أن يجعل الجنة والنار أمام عينيه، وأن لا ينظر إلى نفسه نظرة الكمال، وقد كان السلف إذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ جلس يبكي من خشية الله عز وجل وخوفه، ولذلك سمت نفوسهم إلى العلياء وإلى الخيرات، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة. فعلى المسلم دائما إذا قالت له زوجته: اتق الله، أن يتقي الله، ويعتقد أنه مقصر ويقول لها: أنا مقصر؛ حتى يسمو بنفسه عن أذية الزوجة. قال الله تعالى عن النساء: {فعظوهن} [النساء:34] ، ثم قال: {واهجروهن في المضاجع} [النساء:34] ، فجعل العقوبة بالأفعال لا بالأقوال، وهذا يدل على كمال الشريعة؛ لأن الكلمة النابية من الزوج وقعها أليم وجرحها عظيم، ويبقى أثرها في المرأة ربما سنوات، ولا يمكن أن تنسى هذه الكلمة، خاصة إذا مست مشاعرها. وهذا يدل على أن المشاعر والعواطف التي بين الزوج والزوجة ينبغي لكل منهما أن يحذر المساس بها، والسعيد من وفقه الله ووعظ بغيره وانزجر عن هذه الأمور، ولم يصل إليها إلا إذا بلغ الأمر مبلغه. إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها فهذه أحوال خاصة وأمور خاصة يحكم فيها ويفتى بحسب وجود الحاجة وبقدرها. والله تعالى أعلم. جلوس الإمام المنهي عنه بعد الصلاة الجواب بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيجلس الإمام ووجهه للقبلة قدر ما يستغفر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام) كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، ثم ينصرف. والسبب في هذا: أنه يعطي الناس ظهره، ولا ينبغي للإنسان إذا جلس أمام الناس أن يعطيهم ظهره إلا من حاجة، فلما انتهت الحاجة وهي إمامته بالناس وصلاته رجع إلى الأصل من الإقبال على الناس بوجهه، ولذلك جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينصرف إلى المصلين. والانصراف ينبغي أن يكون كاملا، فيقبل على الناس ويجلس حتى تكون ميمنة الصف ميسرة له، وميسرة الصف ميمنة له، وأما الانصراف الجزئي كأن يجلس ويعطي الناس شقه الأيمن؛ فهذا في حالة ما إذا صليت ببعض الناس المتأخرين، فإذا سلمت فلا تستطيع أن تكون في وجههم، فاستحب العلماء أن تجلس وتعطيهم كتفك الأيمن إذا كانوا يتمون لأنفسهم، حتى لا يظن من يرى من بعيد أنه يسجد لمن أمامه. فمن هنا كرهوا الجلوس أمامه مباشرة؛ لأنه سيكون كالساجد له، وإنما يعطيه كتفه الأيمن، وإذا صليت بشخص معك ثم جاء أناس في الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أو في آخر الصلاة، فإذا سلمت ستجد أمامك صفا أو بعض الصف وأنت أمامه، فاستحب العلماء رحمهم الله أنه لا يقبل عليهم إقبالا كاملا ولا يجلس بين القبلة. أما مسألة الانصراف من المصلى، فيكون بعد الانتهاء من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين، وقول تمام المائة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، وفي رواية: (بيده الخير وهو على كل شيء قدير) ، قالوا: لأنه إذا انصرف قبل هذا فستكون له مزية على الناس، ولا يجوز لأحد أن يتميز عن الناس؛ لأن منهم من هو أكبر منه، وقد يكون فيهم من هو أعلم منه وأفضل منه، وقد يكون فيهم والده. ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس في مصلاه إلا في موضعين: منها صلاة الفجر؛ فقد كان يجلس إلى طلوع الشمس، وبعض الأحيان يقوم قبل طلوع الشمس؛ لما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يأتونه ويجالسونه بعد صلاة الفجر، ويتحلقون عليه حلقة حتى يخوضون في أمور الجاهلية وما كانوا فيه، فيضحكون ويتبسم، كما في صحيح مسلم وغيره. فهذا يدل على أنه بعد صلاة الفجر يجلس في مصلاه، كأن يأتي سائل أو يأتي مستشكل ويحبسه في مصلاه، فيكون عند الضرورة والحاجة، أما في غير الضرورة والحاجة؛ كأن يريد أن يمكث في المسجد، فيقوم إلى سارية في مكان آخر، ولذلك كان العلماء والأئمة يجعلون مجلسا للفتوى ومجلسا للصلاة، فكان أحدهم إذا انتهى من الصلاة يقوم لمجلسه الذي برز فيه للناس حتى يأتون للفتوى والسؤال. وهذا من أنسب ما يكون، وهو من فقه الإمامة وآداب الإمامة كما ذكر بعض أئمة العلم رحمهم الله. والله تعالى أعلم. حكم جهر المأموم بالتكبير وأذكار الركوع والسجود السؤال هل يشرع للمأموم الجهر بالتكبير وأذكار الركوع والسجود في صلاة الجماعة؟ الجواب إذا كان يريد الإثم وأذية الناس والإضرار بهم يفعل ذلك، فإن الجهر من المأموم يشوش على من بجواره، ويشوش على المصلين، وهذا مجرب ومشاهد. وأذكر عشرات المرات أنني كنت في بعض الأحيان لا أستطيع أن أقرأ التشهد، ولا أستطيع أن أسبح أو أخشع في تسبيحي لأن من بجواري يرفع صوته. فهذا لا ينبغي ولا يجوز، وهذا من الإضرار، وخاصة أذية المصلين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الثوم والبصل حتى لا يؤذي الناس ببخره، فإذا كان هذا بالبخر والرائحة فكيف بمن يؤذيهم في خشوعهم وذكرهم لله عز وجل؟! ولربما التبس على الناس، حتى إن بعض الأئمة قد يلتبس عليه، فالمأموم لا يشرع له أن يرفع صوته، ولا يشرع إلا في مسائل نادرة؛ منها: أن يكون الصف طويلا، وأن تكون هناك صفوف بعيدة جدا ولا يمكن التبليغ إلا يرفع الصوت، فيجوز عند الضرورة والحاجة. وهذا القول له دليل: وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرض الوفاة، فإنه كان يرفع صوته يسمع الناس من ورائه. هذا هو الذي يشرع في رفع صوت المأموم، أو يريد أن ينبه الإمام، أو الأذكار التي ورد رفع صوت المأموم بها من التأمين، فإن هذا مستثنى، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن فيه أذية وإضرارا وتشويشا على المصلين. ولا شك أنه في بعض الأحيان يشوش علينا؛ لكن إذا كمل خشوع الإنسان فقد لا يضره مثل هذا؛ لكن الغالب أنه يضر ويشوش. فالواجب على المأموم أن يخفض صوته بقدر ما يحرك به شفتيه، وهذا هو حد الإجزاء. والله تعالى أعلم. المقصود بالعدل بين النساء السؤال من كان يتحرى العدل بين نسائه هل يلزمه أن يعدل أيضا في الوطء والفراش؟ أثابكم الله. الجواب العدل هو في الفراش، كما هو في غيره من النفقات ونحوها، والعدل في الفراش فيه جانبان: الجانب الأول: مسألة أن ينام معها ويبيت، وهذا حق مجمع عليه؛ لأن النصوص الشرعية دالة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) نسأل الله السلامة والعافية. قيل: (شقه مائل) أي: نصفه مشلول، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- في عرصات يوم القيامة. وقيل: (شقه مائل) أي: أن كفته -والعياذ بالله- تميل بالسيئات والأوزار والآثام. وهذا يدل على عظم ظلم النساء، ويدل عليه حديث البخاري في الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) ، فجعل حق المرأة مع اليتيم، وهذا يدل على أن الإخلال به فيه وزر عظيم، ولذلك قال: (جاء يوم القيامة وشقه مائل) ، فلابد أن يعدل في البيتوتة فيبيت عندها. لكن لو أنه جامل، فقد تكون امرأة أجمل من أخرى، وقد تكون أكثر أدبا، وقد تكون أكثر إكراما له، فتكون محبتها له أكثر من جهة القلب، فهذا لا ملامة فيه. والقوة في الجماع والإتيان ليست مطلوبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) ، فهذا شيء لا يملكه الإنسان، فقد تكون المرأة من أجمل النساء ولكنها من أسوأ النساء لسانا، فتمقتها النفوس وتنفر منها الطباع، وقد تكون المرأة أقل جمالا، ولكنها أكثر صلاحا وأكثر أدبا وحشمة، وأدرى بطريقة حفظها لزوجها ومحافظتها على وده ومحبته، فتكون أكثر حظوة. ومن هنا يرجع الأمر إلى اجتهاد المرأة، فالمرأة الموفقة هي التي تعرف كيف تحرص على ود زوجها وإرضائه. وعلى كل حال: المطلوب أن يبيت؛ لكن مسألة قوة الجماع وضعفه هذه مسألة لا يطالب فيها بالعدل، فالمرأة التي هي أكثر حظوة ليست كغيرها، والأمر مرده إلى الإنسان في ذلك، حتى إنه لا يستطيع أن يملك نفسه. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، وقد استأذن زوجاته أن يمرض عند عائشة، ولما سئل كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أي نسائك أحب إليك؟ قال: عائشة. قيل: من الرجال؟ قال: أبوها) . فهذا يدل على أنه قد تقع المرأة في مكان الحظوة لكمال دينها واستقامتها وجمالها، وهذا أمر يختلف فيه النساء، وليس الزوج مسئولا عن تحقيق العدل في مثل ذلك لتعذره وصعوبته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
|
#595
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (457) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [1] مما قد يعرض على المسلم في حياته مسألة الظهار، وهي مسألة يجهلها الكثير، فما حد الظهار في الكتاب والسنة وفي لغة العرب، وما هي شروطه وأركانه، وسبب مشروعيته، وحكمه في الكتاب والسنة، وما هي كفارته، وكل ذلك قد بينته هذه المادة. أحكام الظهار تعريف الظهار لغة واصطلاحا وذكر أركانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] الظهار في لغة العرب وجمهور أئمة العلم رحمهم الله عليهم: مشتق من الظهر، كما صرح به صاحب اللسان والإمام الأزهري وغيرهما من أئمة اللغة رحمة الله على الجميع. والسبب في ذلك أن المظاهر يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي. فنظرا لوجود هذا التشبيه بهذا الموضع قيل له: ظهار، فهو فعال من الظهر. والظهر من الكاهل إلى العجز، والكاهل في لغة العرب يشمل الست الفقرات الأول من الأعلى من ظهر الإنسان، والعجز آخر الفقرات من جهة مؤخرة الإنسان. وبعض العلماء قال: إن الظهار فعال من الظهور، بمعنى الارتفاع والعلو، يقال: ظهر على الشيء إذا علاه، ومنه قوله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} [الكهف:97] أي أن الله عز وجل لم يمكنهم من العلو على ذلك السد الذي جعله ذو القرنين. وأما في اصطلاح الشرع فإن المراد بالظهار: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه على التأبيد. فهو تشبيه الزوج زوجته ومنكوحته بامرأة تحرم عليه حرمة مؤبدة كأمه وأخته وعمته وخالته وبنت أخته وبنت أخيه، ونحوهن من النساء اللاتي يحرمن عليه حرمة مؤبدة في قول بعض العلماء. وقال بعض العلماء: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه. ولم يفرق بين الحرمة المؤبدة والحرمة المؤقتة. والفرق بين القولين أن أصحاب القول الأول يخصون الظهار بمن تحرم على التأبيد، فلو قال لزوجته: أنت علي كظهر أختك فلا يكون ظهارا؛ لأنها ليست محرمة على التأبيد. وعلى القول الثاني لو قال لها: أنت علي كأختك، أو: أنت علي كظهر أختك فإنه يقع الظهار. فقولهم رحمهم الله: (تشبيه) . التشبيه: تفعيل من الشبه، يقال: هذا: يشبه هذا إذا كان مثلا له، والتشبيه: هو الدلالة على أن أمرين أو شخصين أو شيئين اجتمعا واشتركا في أمر أو أمور، أو في شيء أو في أشياء. فحينما يقول الإنسان: محمد كالأسد. يكون هذا تشبيها، حيث شبه محمدا بالأسد، لكنه ليس من كل وجه، إنما مراده أن محمدا في الشجاعة والقوة كالأسد، أو يقول: محمد كالبحر. أي أنه كثير العلم ككثرة البحر، أو كثير الكرم والجود والعطاء كالبحر. والمقصود أن التشبيه تمثيل، ولا بد في الظهار من وجود التشبيه، وهذا التشبيه يستلزم أربعة أركان: مشبه ومشبه ومشبه به وصيغة يقع بها التشبيه. فالمشبه هو الزوج. والمشبه هي الزوجة المنكوحة التي عقد عليها. والمشبه به هي المرأة المحرمة حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة، على التفصيل المعروف عند أهل العلم رحمهم الله. والصيغة هي اللفظ الدال على الظهار والتحريم به، ويستوي أن يخاطبها أو يقول في غيبتها، فالمهم أن يقع التشبيه باللفظ، فلا بد من وجود الصيغة الدالة على الظهار والتحريم به. فهذه أربعة أركان لا بد من وجودها. أما المشبه -وهو الزوج- فيشترط فيه أن يكون بالغا عاقلا مختارا، فلا يصح الظهار من الصبي، فلو أن صبيا عقد له أبوه على زوجة فقال الصبي: هذه الزوجة علي كظهر أمي. فإنه لا يقع الظهار، والسبب في هذا أن لفظ الصبي غير معتد به شرعا في المؤاخذات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة ... ) ، وذكر منهم الصبي حتى يحتلم. كذلك المجنون فإنه لا يصح ظهاره بالإجماع، وفي حكم المجنون السكران ومن تعاطى المخدرات -والعياذ بالله- سواء أكان معذورا أم غير معذور. وقد تقدمت معنا هذه المسألة في طلاق السكران، وبينا مراتب السكر وأوجه السكر، وأقوال العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران به في الطلاق، وفصلنا في ذلك، وأن الصحيح أن السكران كالمجنون لا يؤاخذ لا على طلاقه ولا على ظهاره إذا بلغ به السكر إلى درجة لا يتحكم فيها في قوله؛ لدلالة قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] ، فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه لا يؤاخذ به. وكذلك ذكرنا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة. ويشترط أن يكون مختارا بحيث لا يهدد ولا يكره، فلو كان مكرها فإن الإكراه يسقط المؤاخذة بالألفاظ، ولذلك المرتد إذا أكره على لفظ الردة فإنه لا يؤاخذ إذا كان مطمئن القلب بالإيمان كما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، فدل على أن المكره ساقط القول؛ لأن الله أسقط عنه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونها. فمعنى ذلك أنه لا بد وأن يكون الزوج المظاهر بالغا عاقلا مختارا. ولا تشترط فيه حرية، فالرقيق والحر في هذا على حد سواء، فيؤاخذ ويلزمه ما يلزم الحر. وأما المشبه -وهي الزوجة- فيقول لها: أنت. أو: زوجتي فلانة، أو: نسائي، أو: امرأتي، ونحو ذلك مما يدل على المنكوحة، سواء أكانت مدخولا بها أم غير مدخول بها. فكل زوجة عقد عليها الإنسان فإنه يصح ظهاره منها إذا كان العقد صحيحا، ولا يشترط دخوله بها، فلو عقد عليها الساعة ثم قال مباشرة: هي علي كظهر أمي. أو: زوجتي علي كظهر أمي وقع الظهار، ولا يشترط الدخول، فهذا بالنسبة للمنكوحة حقيقة. وأما من في حكم المنكوحة والزوجة فهي المطلقة طلاقا رجعيا، فلو أن امرأة طلقها طلاقا رجعيا فقال: هي علي كظهر أمي، أو: أنت علي كظهر أمي، أو: فلانة مني كظهر أمي ونحو ذلك وقع الظهار. ويستوي أن يشبه المرأة كلها أو بعضها، فيقول: أنت، أو: بدنك، أو: ذاتك، أو: جسمك، أو: كلك، أو يذكر عضوا من الأعضاء المتصلة، على تفصيل سنذكره إن شاء الله. وأما المشبه به -وهي كما ذكرنا المرأة المحرمة عليه، ومن أهل العلم من يقول: حرمة مؤبدة- فيختص بثلاثة أنواع: الأول: المحرمات من جهة النسب. الثاني: المحرمات من جهة المصاهرة. الثالث: المحرمات من جهة الرضاع. وقد فصلنا هذه الثلاث المحرمات، وبينا أدلة الكتاب والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله على التحريم بهن على التفصيل في مسائل النكاح. فأي واحدة يختارها من المحرمات على التأبيد من جهة النسب السبع يقع بها الظهار، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، أو: بنتي، أو: أختي، أو: بنت أخي، أو: بنت أختي، أو: عمتي، أو: خالتي، فهؤلاء كلهن من المحرمات حرمة مؤبدة. وكذلك المحرمات من جهة المصاهرة، كما لو قال لها: أنت علي، أو أنت مني كأمك، أو: أنت علي كظهر أمك. فإن أم الزوجة محرمة حرمة مؤبدة بالشرط المذكور في القرآن، فلو خاطبها بذكر أمها أو ذكر بنتها فقال لها: أنت علي كبنتك فإن هذا أيضا يدخل في المحرمات؛ لأنها محرمة من جهة سبب المصاهرة. كذلك أيضا أن يقول لها: أنت علي كزوجة أبي، أو: كفلانة التي هي زوجة أبي؛ لأنها محرمة إلى الأبد لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء:22] ، أو يذكر زوجة ابنه فيقول: أنت علي كزوجة ابني، أو: أنت علي كفلانة ويقصد زوجة ابن من أبنائه وإن نزل، فهذا كله يشمله الظهار، وفي الرضاع مثل النسب. والتشبيه هنا قد يقع صريحا أو كناية، فيسأل عن قصده، فالصريح أن يقول لها: أنت علي كظهر أمي. والكناية أن يأتي بلفظ محتمل لقصد الظهار وعدمه. وعند بعض العلماء إذا قال لها: (أنت كأمي) ولم يذكر الظهر أنهذا اللفظ محتمل؛ لأنه يحتمل: أنت كأمي محرمة. أو: أنت كأمي مكرمة. فيريد أن يكرمها ويجلها فيقول لها: أنت كأمي، أو ما أنت مني إلا كأمي؛ تكريما لها وإجلالا. أو يذكر جزء المحرمة، فيقول: أنت كعين أمي، أو: كرأس أمي، أو: كصدر أمي، فهذه المواضع -العين والصدر والرأس- مما يحتمل التكريم ويحتمل الظهار، فإذا تلفظ بلفظ الظهار وقع الظهار، فإما أن تكون صيغته صريحة، وإما أن تكون صيغته كناية متضمنة الدلالة على الظهار، فإن كان شيئا صريحا أخذنا به وحكمنا به ظهارا، وإن كان شيئا محتملا سألناه عن قصده؛ لأن الله عز وجل جعل لكل شيء قدرا، والصريح لا ينزل غيره منزلته إلا إذا كان محتملا. سبب نزول آيات الظهار الظهار كان في الجاهلية، وجاء الإسلام فبين حكمه وما يترتب على التلفظ به، وكان أهل الجاهلية إذا تلفظوا بالظهار يعتبرونه طلاقا، وصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك رواية مرفوعة -ذكرها الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله- أن خولة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه واشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله طلاقا. فمذهب بعض العلماء أنه كان في الجاهلية طلاقا، وحكى الإمام الشافعي رحمه الله عن بعض أئمة السلف وأهل العلم أنهم كانوا يقولون: كان الطلاق في الجاهلية بثلاثة أشياء: بالطلاق المعروف، وبالظهار، وبالإيلاء، فكانت العرب إذا تلفظت بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء عدت ذلك كله طلاقا، فجاء الإسلام وهذب الأحكام، فجعل الطلاق طلاقا، وجعل الظهار موجبا للكفارة، وجعل الإيلاء على التفصيل الذي تقدم معنا. واختلف العلماء في ظهار أهل الجاهلية، فقال بعضهم: كانوا في الجاهلية إذا تلفظ أحدهم بالظهار يعتبرونه طلاقا محرما للمرأة إلى الأبد، فكان من عظيم الظلم للنساء، فتبقى المرأة لا هي زوجة ولا هي مطلقة تبين منه حتى ينكحها غيره من الناس، فتصبح معلقة محرومة من الأزواج ومحرومة من زوجها، محرومة من زوجها بالظهار، ومحرومة من الأزواج بالطلاق المؤبد فتحرم على غيره حرمة مؤبدة. وقال بعض العلماء: إنها حرمة مثل حرمة الطلاق. وعلى كل حال كان هذا اللفظ موجودا في الجاهلية، وشاء الله عز وجل أن وقع الظهار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في حادثة مشهورة هي حادثة أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل بدر الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) . وكان من أهل بيعة الشجرة الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وهو صحابي له مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه. وقد عمر حتى توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان في أواخر خلافته رضي الله عنه وأرضاه، وتوفي بالشام ببيت المقدس بالرملة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه. فهذا الصحابي الجليل كان به ضعف وكانت فيه شدة، وفي يوم من الأيام راجعته زوجته في أمر من الأمور فحصل الغضب منه فقال: أنت علي كظهر أمي. فظاهر منها، فخرج إلى أصحابه وجلس في النادي مع قومه، ثم رجع، فلما رجع إليها أراد منها ما يريد الرجل من امرأته -أي: أن يستمتع بها- فمنعته، وامتنعت من أن تمكنه من نفسها. وكانت حاله وحالها على فقر رضي الله عنهما وأرضاهما، فانطلقت إلى بعض جيرانها وأخذت ثوبا منهم، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكسرة القلب حزينة مما أصابها من قول زوجها -وكان ابن عم لها- فذكرت شكواها، وبينت أنها أمضت حياتها وعاشرته على أحسن ما تكون العشرة، فنثرت له ما في بطنها، ومكنته من نفسها حتى رق عظمها وشاب رأسها، فظاهر منها رضي الله عنه، فاشتكت إلى الله عز وجل. قال بعض العلماء: حصلت المجادلة بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ثم نزل الوحي. وقيل: إن المجادلة أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل بينه وبينها بعض المراجعة. وثبت في الحديث الصحيح من رواية أحمد في المسند أنها ما انتهت من كلامها إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذه الحادثة العظيمة تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني والله لفي طرف البيت ما بيني وبينها إلا ستر رقيق يخفى علي بعض كلامها وسمعها الله من فوق سبع سموات. سبحانه وتعالى. ولذلك قال تعالى: {قد سمع الله} [المجادلة:1] و (قد) تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون شك فيه ولا مرية، ولا يؤتى بها إلا في الأمر الثابت الذي لا إشكال فيه. وأتى بلفظ الجلالة الظاهر، وما قال: قد سمعت بل قال: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} [المجادلة:1] . يقول بعض العلماء: من بديع دلالات القرآن أن ينفي الأشياء المحتملة التي ليست بحقيقة؛ لأنه لما قال: {قد سمع الله قول التي تجادلك} [المجادلة:1] قد يظن ظان أنه سمع قولها ولم يسمع قول غيرها، فقال الله: {والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} [المجادلة:1] ، فأثبت لنفسه هذه الصفة التي تليق بجلاله وكماله، فوالله ما وقعت حبة في ظلمة إلا علمها الله، وما من نملة ولا أصغر من ذلك على صفحة حجر أملس في ليلة ظلماء إلا سمع الله صوتها وعلم مكانها وأجرى رزقها، لا يعجزه شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره. وقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} [المجادلة:1] فيه دليل على أن الشكوى إلى الله أمرها عظيم؛ لأن هذه المرأة قالت: إلى الله أشكو أوسا، وإلى الله أشكو أمري، فذكرت أنها تشتكي إلى الله جل وعلا، والله إليه منتهى كل شكوى. وفي هذا دليل على أن من اشتكى إلى الله فقد جعل أمره عند من تنتهي إليه الشكوى سبحانه وتعالى، وهو سامع كل شكوى، لذلك كان يقول الأئمة: إلى الله المشتكى، أي أنه هو نهاية كل شكوى سبحانه. تأملات في آيات الظهار يقول تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور} [المجادلة:1 - 2] . آيات عظيمة ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها قبل بيان الحكم في حقيقة الشيء الذي يتكلم عنه، وانظر إلى جمال أسلوب القرآن وجلاله وكماله، وصدق الله إذ يقول: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام:115] ، فأول ما جاءت الآيات جاءت بحكاية الحال، وحكاية الحال تورث الشغف، وتورث المحبة والتلهف لمعرفة الحكم. ولذلك يستحب العلماء عند إعطاء الأحكام التمهيد لها؛ لأن ذلك يورث الإنسان المحبة، ويورث السامع الشوق لمعرفة الأحكام، فذلك أتم وأكمل في شرع الله عز وجل. ولذلك ما جاء الحكم مباشرة، وإنما جاء بحكاية القصة، وأنت تجد في القرآن كل شيء حتى مبادئ كتابة الرسائل كقوله تعالى: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} [النمل:30 - 31] . وقد ذكر بعض العلماء أن الأئمة وأهل العلم في فنون الرسائل استنبطوا كثيرا من علوم الرسائل من القرآن، ومن ذلك القصة، فإن أهم شيء في القصة هو ما يكون فيها من المعاناة، فكون القرآن يأتي بمعاناة الظهار قبل بيان حكمها وبيان ما حدث ووقع، حتى إنك حينما تسمع صدر الآية تحس بمعاناة قريبة من معاناة تلك المرأة وتحس أنه أمر عظيم، ثم تكون التهيئة لقبول الحكم. وفيه دليل على عظم أمر الظهار وخطورته وشدة حرمته؛ لأن الله مهد له بهذه الأشياء التي تنفر وتقبح، وتجعل النفوس لا تستسيغه ولا تقبله، فلما جاء الحكم قال: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم} [المجادلة:2] ، فأول ما كان أن بين الله منزلة هذا القول أنه ظلم وزور وكذب وجور فقال: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم} [المجادلة:2] . وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} [المجادلة:2] فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول لغيره من الرجال والنساء وصفا في الأبوة والأمومة إلا إذا كان حقيقيا. ومن هنا كره بعض العلماء أن يقول الرجل لغيره: (يا أبتي) . واختلفوا في قول الرجل لغيره: (يا والد) ؛ لأنها تحتمل أن تكون وصفا له، فكل شخص له أولاد فهو والد، فهو يقول له: (يا والد) من باب التكريم، قالوا: لا بأس بها ولا حرج، ولكن يشدد فيه بعض العلماء؛ لقوله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} [المجادلة:2] وآباؤهم ما هم إلا الذين ولدوهم. فقالوا: من هنا يمتنع أن يقول الإنسان هذه المقالة تشريفا وتكريما للوالدين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينزل منزلة الوالدين. ومن هنا حرم بعض العلماء كلمة: (فداك أبي وأمي) أن تقال إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم رخص فيها لأئمة العلم، وكل هذا من باب تعظيم الشرع لوصف الأبوة والأمومة، وإن كان الحكم عاما. فقوله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} [المجادلة:2] أي: ما أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم. فهو أسلوب حصر وقصر، وهذا يدل على أن الظهار قول خرج عن الأصل، فقال تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} [المجادلة:2] ، وفيه تأكيد، وصيغة التأكيد (إنهم) واللام في (ليقولون) والقول معناه أنه صدر من إنسان تلفظ به، فجمع الله بين كونه منكرا وزورا، وفيه فوائد: الفائدة الأولى: كونه منكرا من جهة الإنشاء، وكونه زورا من جهة الخبر؛ لأن قوله: أنت علي كظهر أمي يشتمل على أمرين: تحريم ما أحل الله، والإخبار بأنها كالأم. فالأول من جهة الإنشاء؛ حيث إن الله عز وجل ما جعل الزوجة أما، وإنما جعل الزوجة حلالا محللة مباحة، فهو نقلها من الحل إلى الحرمة، ووقع في المنكر؛ لأنه لا يتفق مع شرع الله عز وجل، وزور لأنه من جهة الخبر قال لها: أنت كأمي، أو: كأختي، أو: كبنتي، فهي ليست أما له وليست بنتا له حقيقة، فكان كذبا في الخبر ومنكرا في الإنشاء، فجمع الله بين الوصفين {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} [المجادلة:2] . الفائدة الثانية: أخذ العلماء من هذه الآية تحريم هذا القول وهو محل إجماع. الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: مظاهرة الرجل لامرأته كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك وصف الله أنه منكر وزور، وترتيب العقوبة الشديدة التي جعلها الله في قتل الأنفس، وجعلها في جماع نهار رمضان، ولم يجعلها إلا في الكبائر، فقالوا: هذا يدل على أن الظهار كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية. ثم انظر إلى سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} [المجادلة:2] ولطفه بعباده وحلمه على خلقه، كيف وهو الودود الرحيم سبحانه وتعالى، والجواد الكريم الذي لن تنفعه طاعة الطائعين ولن تضره معصية العاصين. وانظر إلى التأكيد، فما قال: إن الله عفو، بل قال: {إن الله لعفو غفور} [المجادلة:2] ، وهذا يدل على سعة رحمته سبحانه وتعالى. ثم بين الحكم فقال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3] . فأوجب الله سبحانه وتعالى الكفارة، وبين ما يترتب على الظهار -وهذا ما سنفصله إن شاء الله- من وجوب عتق الرقبة، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم فإنه يطعم ستين مسكينا. ولما نزلت الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأمره بعتق الرقبة، فقالت: لا يجد يا رسول الله، ولا يملك إلا نفسه. فأمرها أن تأمره أن يصوم شهرين فأخبرته أنه شيخ ضعيف لا يستطيع الصوم ولا يطيقه، فأمرها أن تأمره بإطعام ستين مسكينا فقالت: من أين له أن يجد ذلك؟ ثم قالت: يا رسول الله إن عندي عرقا من تمر -والعرق فيه خمسة عشر صاعا، أي: فيه ما يقارب سبعة آصع ونصف- فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا أعينه بعرق آخر، واستوصي بابن عمك خيرا) . فقد كان من خيار الصحابة، فكانت الكلمة الأخيرة أن جزاها خيرا بمعونتها له على الكفارة ثم قال لها: (واستوصي بابن عمك خيرا) ، فدل على كرم خلقه صلى الله عليه وسلم ووصيته بالأزواج. وكذلك وصيته للزوجات بالصبر، وأن المرأة تحتسب عند الله سبحانه وتعالى الثواب، وأن الله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، ولا يضيع لمن أحسن أجره، فقال عليه الصلاة والسلام هذه الوصية، وهي وصية لكل امرأة صالحة ترجو لقاء الله عز وجل ابتليت بزوج أساء إليها أن تحتمل هذه الإساءة، وأن تستوصي به خيرا؛ لأن الزوج حينما يكون من القرابة حقه عظيم، والزوجة حينما تكون من القرابة حقها عظيم، فلذلك قال: (واستوصي بابن عمك خيرا) ، فهي وصية لكل زوج وكل زوجة قريبة أن يتقيا الله عز وجل في القرابة وفي الرحم. وقد أجمع العلماء على حرمة الظهار كما ذكرنا، وأنه من كبائر الذنوب في قول طائفة من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك. فقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] . أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالظهار، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله أن كتاب الطلاق وكتاب الإيلاء وكتاب الظهار بينهما اشتراك من جهة التحريم، فالطلاق فيه تحريم للزوجة على مراتبه المعروفة، والإيلاء نوع تحريم؛ لأنه مؤقت بزمان، والظهار نوع من التحريم؛ لأنه يصف المرأة بأنها كالمحرمة، فناسب بعد انتهائه من بيان حكم الإيلاء أن يذكر حكم الظهار. ومن دقة المصنف -وهذا منهج العلماء- أن قدم كتاب الإيلاء على كتاب الظهار؛ لأن كتاب الإيلاء ألصق بالطلاق من الظهار؛ فإن الظهار ليس بالطلاق، لكنهم قالوا: لما كان في الجاهلية طلاقا وفيه شبه بالإيلاء من جهة التحريم ناسب أن يذكر بعده. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الأسئلة حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح السؤال ما حكم الدخول بالمرأة التي عقد عليها قبل إعلان النكاح؟الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: من حيث الحكم الشرعي المرأة حلال للزوج إذا عقد عليها عقدا شرعيا صحيحا، لكن هناك أمور مرتبطة بالعرف لا نحرم بها ما أحل الله ولا نحلل بها ما حرم الله، ولكن نقول: أمور تترتب عليها أضرار ومخاطر ينبغي المحافظة عليها والتحفظ فيها. فالزوجة إذا اتفقت مع زوجها على أن يدخل بها دون علم أهلها ربما دخل عليها بصفة سرية، أو كان يختلي بها في بيتها، فإذا توفي هذا الزوج، وكان قد جامعها أو أصابها وهي بكر فمن الذي يصدق أن الزوج أتاها؟ ومن الذي يثبت أنه قد دخل بها؟ فهذه أمور خطيرة جدا ينبغي أن يتريث فيها. ولو أن امرأة عقد عليها الزوج، وحصل بينها وبين زوجها جماع قبل الدخول العلني، وشاء الله أن تحدث مشاكل بين الأسرتين فقالوا: لا يدخل عليها ولا يأتيها. وخاف الزوج أن يخبر أباه بهذا الأمر، أو حدثت أمور خطيرة بين أهل الزوجين. فما استطاع أن يبين الحقيقة، ثم ظهرت المرأة حاملا، فمن الذي ينفي عنها التهمة؟ ومن الذي يثبت أن هذا نسب صحيح؟ فهذه أمور فيها مخاطرة، وأمور مضرة ينبغي التريث فيها من ناحية شرعية وعرفية وأدبية، فقد يكون الشيء مباحا للإنسان لكنه أدبا وأخلاقا غير مباح. فهناك أمور ينبغي الحياء فيها ومراعاة الذمة، فأبو المرأة له حق عندي أني لا أدخل على بنته حتى يأذن لي، والله يقول: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء:1] ، فهذا طعن في حق الوالد وحق الوالدة؛ لأنه جرى العرف أنه لا بد من استئذان أهل الزوجة بالدخول. فتواطؤ الزوجين وخروج الزوجة مع زوجها، وغير ذلك من الأمور التي فيها نوع من التوسع بين أهل الزوجين ينبغي قفل بابها، خاصة عند فساد الزمان، وخاصة إذا وجد من الشباب والأحداث من لا يبالي بحدود الله عز وجل، ولا يبالي بإنكار ما كان منه من إتيان زوجته وحملها منه. إن حصل بينهما شيء واتهمت بسببه. بل قد حدثت حوادث كان الرجل فيها يستخدم هذه الطريقة للإضرار بالزوجة، فتكون بكرا فيعبث بها ويستغلها، فيفتض بكارتها ثم يهددها بما شاء، فليس هناك دليل يثبت دخوله بها، فهذه أمور خطيرة ليست من الحكمة ولا من العقل. وهنا أنبه على أنه ينبغي على الزوج أن يكون متفهما لوضع أهل الزوجة، فالوالد والوالدة حينما يحرصان على المحافظة على البنت ومراقبة الزوج عند دخوله بطريقة معقولة فهذا أمر ليس فيه غضاضة وليس فيه منع؛ لأنه يخشى من أمور لا تحمد عقباها. فعلى كل حال لا بد وأن توضع الأمور في نصابها، وأن يتقي الله كلا الزوجين وأهل الزوجين، فإذا كان الدخول على وجه تضمن فيه الحقوق وتصان، ولا يحدث منه ضرر فهذا مما أذن الله عز وجل به، فالزوجة حلال لزوجها، لكن إذا كان التساهل في مثل هذه الأمور يترتب عليه أضرار على أهل الزوجة والزوجة فالأصل منع ذلك. ومن الحوادث التي وقعت أن امرأة كانت أكبر أخواتها، وشاء الله عز وجل أن ترتبط بزوج، وكان -نسأل الله السلامة والعافية- فيه استهتار. فدخل بها وحصل الجماع وافتضها وهي بكر، ثم بعد ذلك حصلت مشاكل بين أهله وأهلها، واستحيا أن يخبر أباه، وحنق في نفسه على أمها، وجعل الانتقام من الأم عن طريق البنت، وتوسلت البنت إليه ورجته وسألته، وما استطاعت أن تكشف الأمر لأهلها إلا بعد أن ظهر الحمل بها. ولما ظهر الحمل بها اتهمها أهلها بالفاحشة، فقالت: إنه ولده! فقال: أنت ما تكلمت من قبل! قالت: ما كنت أعلم أن هناك حملا. واتهمت البنت، واتهمت في أهلها حتى إن أخواتها أسيء إليهن ولم يزوجن من بعدها، وحصل للبيت وللأسرة ما حصل، وبعد مرور سبع سنوات جاء ذلك الزوج المستهتر يسأل نادما عن حكم ما فعله. فالشاهد أن هذه أمور لا يتساهل فيها، خاصة في هذا الزمان. ولا بأس أن يأتي الرجل بأدب فيجلس مع زوجته ويسلم عليها، وأنبه على أنه لا تنبغي المبالغة في مثل هذه الأمور، خاصة أن بعض الأزواج والزوجات يبالغون في إطالة الجلوس والكلام والحديث، وهذه أمور ينبغي أن ترتبط بالآداب وبالأخلاق وبالحياء وبالخجل. فالإنسان إذا أتى يسلم على زوجه، ويجلس معها، ويباسطها في وقت يستطيع أن يتحكم فيه، كقبل الصلاة بوقت، حيث يستطيع أن يجد له عذرا، أما أن يأتي ويجلس من بعد العشاء إلى ساعات فلا، حتى إن بعضهم شكى لي أن الزوج العاقد يجلس معها إلى بزوغ الفجر، فهذه أمور لا تنبغي، وقد يحصل منها تضايق أهل الزوجة وإخوانها وقرابتها. فهذه أمور ينبغي أن يتحفظ فيها، خاصة الأزواج، فإنهم ينبهون على أن الزوجة ولو كانت حلالا، إلا أن هناك أمورا مرتبطة بالعرف، وهناك أمورا أدبية جاءت بها مكارم الأخلاق التي تدعو إليها الشريعة وتحبذ فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، وإن بعض الأزواج ليستحي أن يجلس مع والد زوجته في بعض المجالس؛ حتى لا يحرج في بعض الكلام أو بعض الحديث. وكذلك تجد بعضهم يذوب خجلا ولا يستطيع أن يأتي يقابل أخاها أو قريبها، ولا شك أن الأمر بين الإفراط والتفريط، فلا يمتنع الإنسان كلية ولا يبالغ، فالوسط والعدل هو المأمور به شرعا، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل. والله تعالى أعلم. حكم مظاهرة الرجل لامرأته ومملوكته السؤال ظهار الرجل من أمته ومملوكته هل يأخذ حكم ظهار الحرة؟ الجواب الأمة لا ظهار منها؛ لأن الله تعالى يقول: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة:3] ، ويقول: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] ، فجعل محل الظهار النساء، والأمة ليست من النساء، فيقال: (نساء الرجل) لزوجاته، ولا يقال: (نساء الرجل) لإمائه، فالأمة لا توصف بكونها من النساء، إنما النساء في هذا الوصف للزوجات. وعلى كل حال فالإجماع منعقد على أن الأمة لا يظاهر منها، وهناك خلاف بين العلماء في أم الولد؛ لأنها شبيهة بالحرة وفيها شبه بالأمة، ولكن الأصل يقتضي أنها كالأمة ولا يقع الظهار عليها. والله تعالى أعلم. حكم تقييد السلام على القبور بالدخول عليها فقط دون المرور بها السؤال هل السلام على أهل القبور مقيد بزيارة، أم يكون ولو بالمرور بجوارها بالسيارة ونحوها؟ الجواب السلام على الأموات جائز حتى ولو لم تمر بالقبر، فأنت تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وما مررت بقبره. والسلام دعاء بالسلامة، لكن كونك تذهب إلى القبر وتقف على القبر فهذا أكمل وأعظم أجرا؛ لما فيه من الزيادة في القربة، ولما فيه من الاتعاظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) . أما لو مر بالمقبرة فالذي أعرفه من كلام العلماء والأئمة -وهذه دواوين العلماء كلها موجودة- أن من مر بالمقابر يسلم عليها، ولا يوجد أحد من العلماء يفرق بين أن تدخل المقبرة وبين أن تمر بها، بل المقابر القديمة ما كانت مبينة، وما كان عليها حيطان، بل كان الإنسان يمر عليها مرورا. فهذا أمر واضح جدا في كتب العلماء، وتجد في كثير منها: ويستحب لمن زار القبر أو مر به أن يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) .
__________________
|
#596
|
||||
|
||||
![]() لأن المراد به الترحم والدعاء للأموات، وهذا مما رحم الله عز وجل به عباده، فجعل للأموات نصيبا عند الأحياء أن يذكروهم من بعد موتهم، وهذا من فضل الأخوة في الإسلام ومن بركاتها، وما أكثر بركات الدين وأعظمها، فإن أخوة الدنيا تنتهي بانتهاء الدنيا، ولكن أخوة الدين لا تنتهي أبدا حتى في الجنة، كما قال تعالى: {إخوانا على سرر متقابلين} [الحجر:47] ، فهي الأخوة التامة الدائمة؛ لأنها مستمدة من كمال الدين، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة:3] ، والمبني على الكمال كمال. فهي الأخوة الكاملة الباقية، فإذا مات قريب الإنسان، أو من يعرفه، أو من لا يعرفه من عموم المسلمين، فمر على مقابرهم وسلم عليهم وترحم عليهم وسأل الله لهم العافية فهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدين دين رحمة. ولذلك قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، والرحمة كما تكون للأحياء تكون للأموات؛ فإنك إن وقفت على القبر وترحمت على صاحبه قد لا تستطيع أن تدرك مقدار الخير الذي أسديته لهذا الميت من إخوانك المسلمين، فلا يعلم ذلك إلا الله وحده لا شريك له علام الغيوب. وقد تقف على معذب وتسترحم له فيرحمه ربه، وقد تقف على من ضيق عليه قبره فيوسع عليه بدعائك له بالرحمة، وقد تقف على مذنب يعذب بذنب فتسأل الله له المغفرة فيقبل الله شفاعتك فيشفعك فيه، والمسلم لا يذكر الأموات إلا ويسأل الله لهم الرحمة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل المظلم ليزور أهل القبور، كما في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة قالت: (افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، فقام في آخر الليل فتبعته، حتى أتى بقيع الغرقد ووقف مليا ... ) الحديث، أي: وقف وقوفا طويلا ورفع كفيه يدعو كما في الرواية الصحيحة. ولذلك فرق العلماء بين الدعاء للميت بعد دفنه وزيارة القبور، فعند زيارتها يشرع أن يرفع كفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع كفيه، ولكن بعد دفنه مباشرة ما ثبت عنه، بل قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت) ولم يرفع. فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل المظلم، ووقف على القبور وترحم على أهلها ودعا لهم، وفي الحديث الصحيح في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد -أي: تنظفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بشأنها قال: (هلا آذنتموني!) ثم انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها فصلى ودعا لها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) . فأهل القبور يحتاجون من إخوانهم المسلمين أن يذكروهم بخير وأن يدعوا لهم، خاصة الأقرباء والوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات، والمسلم إذا دخل المقبرة وفيها قريب له فلا بأس أن يقف على قبره ويستغفر له ويترحم عليه ويسأل الله له العافية. وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله يميل إلى تحسينه وثبوته والعمل به- أنه إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه. وهذا يدل على أنه إذا كان له فيها قريب فالأفضل والأكمل أن ينزل وأن يسلم عليه، وأن يقف على نفس قبره، وأن يدعو له وأن يترحم عليه؛ لأن هذا فيه خير كثير للميت، وفيه خير كثير للحي؛ لأن الحي يكتب له الأجر، وحسنة المؤمن على أخيه المؤمن مكتوبة وثوابها مرفوع عند الله سبحانه وتعالى، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله عز وجل. وقد كانت الأمة في سالف زمانها مرحومة، فتجد الأحياء لا ينسون الأموات من صالح دعواتهم، ولا يذكرونهم إلا بخير ويترحمون عليهم، ولا يمر على الولد يوم إلا وقد ذكر والديه بدعوة وسؤال ورحمة، فالذي ينبغي أن المؤمن لا ينسى إخوانه المسلمين. ومن العبر التي يحكيها العلماء كما ذكر أبو نعيم في الحلية بسنده أن مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي الجليل رحمه الله برحمته الواسعة كان ينزل البصرة ويصلي فيها الجمعة، وكانت له ضيعة -بستان خارج البصرة-، فإذا جاء يوم الجمعة ينزل ليلة الجمعة ويصلي ثم يرجع إلى ضيعته، وكان إذا دخل البصرة يمر بالمقبرة على طريقة، فكان يقف ويترحم على أهلها، ثم يمضي إلى منزله، ثم يصلي ويخرج. فشاء الله أنه في جمعة من الجمع كانت ليلة مطيرة ولم يقف المطر فنام رحمه الله، فرأى كأن أمما كثيرة تأتيه وتقول: إن الله يفرج عنا من الجمعة إلى الجمعة بدعائك. وهذا أمر له أصل في الكتاب والسنة، فالمسلم إذا شفع لأخيه المسلم وترحم عليه فالله ينفعه بذلك؛ لأن الله يقول: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر:10] . فهذا يدل على أن من السنة ومن الهدي أن يذكر المسلم إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، وأن يترحم عليهم، فينبغي على المسلم ألا ينسى إخوانه المسلمين، فلا نزهد في الدعاء للأموات. أما أن نمنعه أن يدعو ويترحم على إخوانه المسلمين وهو مار على القبور إلا أن ينزل فلا دليل على ذلك، والنصوص كلها مطبقة على الترحم على المسلمين والدعاء لهم وسؤال الله عز وجل لهم الرحمة، ولا فرق بين كونه راكبا وماشيا. فإذا كان لا بد أن ينزل فلا يقال: يدخل المقبرة، أو: يقف على بابها. ثم إذا وقف في المقبرة يقف في أولها، أو وسطها، أو آخرها، ولا يشدد في هذه المسائل. فلو كان الأمر متعينا لفصله الشرع ولبينه، والفقه أن تعلم مقصود الشرع، ونحن عندنا في فتاوى السلف والأئمة رحمهم الله أنه لا فرق بين من مر ومن وقف، وأنه يشرع الدعاء للأموات وأن تقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولهذا تدرك أن حرمة المسلم حيا كحرمته ميتا. فالقول بأنه لو مررت على أخيك المسلم فلا يجوز لك أن تسلم عليه إلا إذا نزلت، لا يصح، وما أحد قال هذا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في سنن ابن ماجة -وصححه غير واحد-: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا) ، أي: في الإثم، فجعل الحرمة للحي والميت -كما يقول العلماء- واحدة. فإذا ثبت أن هذا الحي إذا مررت عليه تسلم عليه سواء أصافحته ونزلت، أم مررت مرورا كما جاء في حديث أنس: (أن النبي لما مر على النسوة أشار إليهن بكفه وسلم) . فهذا يدل على أنه لا بأس، ولا فرق بين المار والنازل، ولا شك أن النزول والاتعاظ والرؤية أعظم أثرا وأكثر فائدة؛ لأن كونه ينزل ويقف على القبر ويترحم على أموات المسلمين أعظم؛ لأنه زيارة، والزيارة أعظم أجرا لأنها مأمور بها في قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) . فالأفضل والأعظم أجرا والأكثر عظة أن الإنسان إذا وقف على قبر الميت وكان عنده قلب حي أن تزداد حياة قلبه بهذه العظة، فوالله إنه لمن غرائب ما يقع أنني أدخل في بعض الأحيان بقيع الغرقد، وأعرف قبور بعض الناس الذين لهم عمائر وبنايات بجوار البقيع فأنظر إلى قصره وأنظر إلى قبره وأتعظ عظة عظيمة. وروي أن هارون الرشيد رحمه الله مر على رجل كان حكيما فقال له: عظني. قال: يا أمير المؤمنين! بماذا أعظك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم. أي: بماذا أعظك! إن جئت وجدت الشخص يشيد دنياه ويعمرها ثم فجأة يخرج منها. فالقبر فيه عظة عظيمة ويكسر القلب، ويورث الخشوع، ويذهب الكبر والقسوة والغفلة، والمتأمل في القبور وهذه الدور المتقاربة يجد بينها كما بين السماء والأرض، فكم من قبر بجوار قبر بينه وبين أخيه ومن بجواره كما بين السماء والأرض. فقبور تجدها في ظلمة مظلمة وكهوف معتمة، لكنها ملئت على أهلها أنوارا من الله جل وعلا، وقبور تمر عليها حولها الناس يسرحون ويمرحون وحولها الضياء والفرح والسرور قد ملئت على أهلها جحيما وسعيرا. فلا يعلم ما في القبور إلا الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب أن العبد الصالح إذا سئل وفتن في قبره، فسلمه الله من فتنته، وثبت الله قوله، وسدد كلامه فسح له في قبره مد البصر. سبحان الله فالقبور قد تكون كلها قبور صالحين، وكل يمد له مد البصر بأمر الله جل وعلا، وبقدرة الله جل وعلا، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا في قبورنا، وأن يلطف بنا إنه ولينا. والله تعالى أعلم. الفرق بين قول الشيخ: (في رواية) وقوله: (في لفظ) السؤال يقال عن الحديث أحيانا: (في رواية) ، وتارة (في لفظ) ، فهل هناك فرق بين الاصطلاحين؟ الجواب اللفظ يكون مع اتحاد الرواية، كما يخرج البخاري -مثلا- حديثا بلفظين مع اتحاد الرواية، ويختلف في اللفظ الرواة، وأما الرواية فتكون عن صحابي آخر كرواية عن أبي هريرة وجابر، فهذه رواية أبي هريرة، وهذه رواية جابر. وقد تقول -مثلا-: متفق عليه، ولـ مسلم. أي: قد ينفرد مسلم بلفظ ولم يتفقا عليه، فهذه كلها مصطلحات يقصد منها بيان أنواع الرواية، وأنواع التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. إذا رضعت البنت من جدتها أم أبيها السؤال رجل له ابنة، فأرضعت أمه هذه البنت، فما الحكم في ذلك؟ الجواب هذه البنت صارت أختا له من الرضاعة وبنتا له من النسب، فتصير أختا له من الرضاعة إذا أرضعتها أمه، وإذا أرضعتها جدته أم أبيه تصبح عمة له من الرضاعة وبنتا له من النسب، وهذا من الأمور الغريبة التي كثيرا ما تقع في مسألة صغار السن وكبار السن، ففي بعض الأسر تعمر الجدة حتى ترضع بنات أبنائها، أو أبناء أبنائها ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يرتفع الرضيع إلى درجة فوق الدرجة التي هو فيها. وبعض الأحيان العكس، فقد يرضع من بنت بنت ويكون -مثلا- عما، فينزل إلى درجة من جهة الرضاعة إلى أسفل، أي: في النسبة، فيقول لأخيه: يا عمي. ويعتبر أخاه عما له من جهة الرضاعة، ويكون أخا له من جهة النسب. وكذلك لو أن أخاه أرضعته بنت بنت أخت، فحينئذ ينزل من مستواه الأصلي، ويصير خالا لهم، ويصير خالا لأمه في بعض الأحيان. فالرضاعة لها أحوال عجيبة جدا من جهة رفع الإنسان ومن جهة وضعه، حتى كانوا يذكرون هذا في طرائف العرب القديمة، فالرجل يكون معه ابنه فيقول لأبيه من باب المداعبة: اسكت فإني عمك. وهذا قد يكون في بعض الأحيان من العقوق؛ لأنهم يمنعون من هذه الألفاظ خاصة مع الوالدين، فمن الطرائف التي تحدث أنه انتقل بالرضاعة إلى درجة يصل فيها فوق الوالد وفوق والدته. وعلى كل حال هذا أمر شرعه الله عز وجل، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) . والله تعالى أعلم. حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضا نسيئة ثم ارتفع ثمنها السؤال مجموعة من الإخوة مشتركون في أرض، فأرادوا بيعها، فرغب أحد الإخوة بشرائها، فوافق الجميع دون تحديد للأجل الذي يدفع فيه المال، ثم بعد سنوات ارتفع سعر الأرض، فما صحة هذا البيع، وبأي سعر يتم البيع؟ الجواب إذا اتفق البائع والمشتري على السلعة وحددا قيمة السلعة فالبيع صحيح، ومسألة الدين هل يشترط فيه التأجيل أو لا يشترط تتعلق بمسألة قبض الثمن، فإذا قال: آخذ منك هذه العمارة بمائة ألف إلى ميسرة، يعني: إلى أن ييسر الله عز وجل علي فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، ولذلك قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280] ، وأطلق الأجل. وأما قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} [البقرة:282] ، فهذا من جهة الديون المؤجلة؛ لأنها هي التي يحدث فيها النزاع والخصومة. وأما الديون غير المؤجلة -وهي المرسلة والمقيدة بأوصاف- فهذه على حسب ما يتفق عليه الطرفان، وعلى كل حال فإنه يصح هذا البيع. أما هل يدفع الثمن المتفق عليه قبل عشر سنوات أو الثمن الحالي، فإجماع العلماء على أنه ليس له إلا الثمن المتفق عليه، وأنه إذا جاء يطالب بزيادة وأفتى أحد بذلك فقد أفتاه بالربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه، وهكذا في الديون، فمن استدان ريالا واحدا قبل مائة سنة وجاء ورثته يريدون أن يقضوا دينه لا يقضون إلا ريالا واحدا، فهذا شرع الله عز وجل. وفقه المسألة أنه لو استدنت منه مائة ريال قبل خمسين سنة، فالمائة ريال إذا أعطاك إياها تعتبر في الشريعة من باب الرفق، ومعنى كونه من الرفق أي: من باب الإحسان، فليس أحد فرض على صاحب المال أن يدين، فلست أنت الذي فرضت عليه أن يعطيك المال حتى تتضح الصورة. فإذا رضي أن يعطيك مائة ريال وقال لك: خذها إلى أن ييسر الله لك، ولم ييسر الله إلا بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، أو بعد ثلاثين سنة فمعنى ذلك أنه متحمل لارتفاع قيمتها ورخصها، ولذلك لو أن هذه المائة أصبحت تساوي عشرات أضعافها لطالبك بالمائة ولم يطالبك بقيمتها. وليس في هذه المسألة إلا شذوذ عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وقول بعض أهل الرأي، فيقولون: إنه إذا أعطاه دينا في القديم يقدر في وقت القضاء، وهذا يميل إليه بعض المعاصرين، حتى إن بعضهم ناقشناهم فوجدناهم يتعصبون للرأي أكثر من الأصل؛ لأن الله عز وجل قال: {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة:279] وهذا في الديون. فبين أن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض في الديون وقرضاتها أنه يعطى نفس الدين دون زيادة ودون نقص. والسبب في هذا أنه رضي بغنمه وغرمه، أي: هو راض لو ارتفع السعر أو نقص، فهذا أمر مسلم به؛ لأنه أعطاه المال على أنه يأخذه منه كالوديعة، فلا يتحمل أحد الغلاء ولا الرخص، ولا يعطى إلا عين ماله. والفتوى بأنه يقدر وينظر كم قيمته، لو فتح بابها لكان كل دين يحتاج إلى دراسة؛ لأنه ما من يوم إلا ويختلف سعر المال عن أمسه وعن غده، وهذا باب لو جيء لتمريره فالشريعة أغلقته، وقالت: الأصل في هذا المال أنه أعطي معاوضة بدون مكافأة وبدون بخس. بمعنى أنك لما أعطيته المائة أعطيتها على سبيل الرفق بأخيك، فأنت أعطيت مائة وتأخذ المائة، فلم تعطها مرابحة حتى تطلب عوضها إذا خسر، ولم تقايض فيها بالعوض حيث تستطيع أن تأخذ قيمتها ومثل قيمتها، فليس لك إلا رأس مالك، وهذا الذي ندين الله به، وهذا الذي عليه فتاوى أهل العلم سلفا وخلفا، فأصحاب الديون لا يستحقون إلا ديونهم. لكن بقيت مسألة وهي: لو أني استلفت من شخص عشرة ريالات قبل خمس سنوات أو عشر سنوات، وأصبحت لا تساوي شيئا فالسنة المكافأة على الدين. فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، ثم جاء الرجل يريد حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أده. فقال: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعين -يعني: لا أجد إلا سنا أفضل من السن الذي أعطاه- فقال عليه الصلاة والسلام: أعطه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءا) . فأخذ العلماء من هذا دليلا على أن الشريعة فتحت باب المكافأة، كمن استدان خمسة آلاف ريال، ثم وسع الله عليه وبسط له في الرزق فأرجعها وزاد مكافأة عليها ساعة أو قلما أو ألف ريال ليس على سبيل الاشتراط. وأصح قولي العلماء أنه تجوز الزيادة حتى ولو كانت من نفس الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس أحسنهم قضاء) . فلا فرق بين القضاء بالذهب والفضة وغيرها، وهذا الذي تطمئن إليه نفسي، وهو أنه تشرع المكافأة عند الدين ولو كانت من الذهب والفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) قوله: (سمحا إذا قضى) أي: عنده سماحة، فيطيل لك في الأجل سماحة منه، وبعضهم إذا استدان قضى قبل حلول الأجل سماحة منه أيضا، كما أنه أحسن إليك تحسن إليه، قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص:77] ، فكما أحسن الله إليك بتوسعة حالك تحسن إليه فتبادر. ومن هذا الإحسان أنه إذا أعطاك خمسة آلاف تعطيه ألفا أو ألفين أو ثلاثة آلاف زيادة عليها، لكن بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الاشتراط؛ فإنه تجوز الزيادة بدون شرط؛ لأن الشريعة عممت في حسن القضاء. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#597
|
||||
|
||||
![]() حكم استحضار النية في صلاة الاستخارة السؤال الذي يريد أن يصلي صلاة الاستخارة هل ينوي لها ركعتين خاصة بها، أم أنه يمكن ينويها في النوافل كسنن الرواتب؟الجواب صلاة الاستخارة لا تشترط لها النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة) ، وقوله: (ركعتين من غير الفريضة) عام، ولذلك قال بعض العلماء: لو صلى راتبة، أو سنة الوضوء، وبعدها بدا له أن يستخير في أمر فدعا فإنه يشرع له أن يدعو في التشهد، ويشرع له أن يدعو بعد السلام. والأفضل والأكمل أن يكون دعاؤه بعد التشهد وقبل تسليمه. الشاهد أنه لا تشترط لصلاة الاستخارة ركعتين مستقلتين. والله تعالى أعلم. حكم من كان يصوم يوما ويفطر يوما إذا وافق صومه يوم جمعة أو وافق فطره يوم إثنين أو خميس السؤال من كان يصوم يوما ويفطر يوما فهل يفطر إذا وافق فطره إثنين أو خميس؟ وهل يصوم إذا وافق صومه يوم جمعة؟ الجواب الفضل العام عند بعض العلماء مقدم على الفضل الخاص؛ لأنه تفضيل من الوجوه كلها، وورود الفضل الخاص لا يستلزم أنه أفضل من العام. من أمثلة ذلك: تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر مع أنه قال لـ سعد بن أبي وقاص: (فداك أبي وأمي) فجعل له الفداء بالأب والأم، وجعل المناصب الخاصة لبعض الصحابة، لكنها فضائل خاصة لا تقتضي التفضيل على الفضل العام الوارد في الشرع. فالفضل العام في الصوم الذي هو المرتبة العليا صوم يوم وإفطار يوم، قال بعض العلماء: إذا التزمه يستمر عليه، ويبقى العارض الذي لا يتكرر إلا في السنة مرة، مثل يوم عاشوراء ومثل صيام ست من شوال، قالوا: إنه إذا قصدت بعينها يصومها بعينها. لكن بعض العلماء يقول: لا يستثنى إلا يوم عرفة وعاشوراء اللذين ورد الفضل فيهما، أما الست من شوال فإنها تدخل تحت صوم يوم وإفطار يوم، لكن لابد وأن ينويها. فالشاهد أن بعض العلماء يقول: إذا صام يوما وأفطر يوما لا يحتاج إلى أن يصوم الإثنين والخميس؛ لأن الفضل العام مقدم على الفضل الخاص، والفضل العام جاء بترتيب معين وهو صوم يوم وإفطار يوم، وبعض العلماء يقول: لا تعارض بين العام والخاص، كما أنه يشرع له أن يصوم يوم عاشوراء للسبب المعين، أي: السبب الخاص الوارد. فيرى أن هذا لا يقدح في صوم يوم وإفطار يوم، فيرون أنه يصوم الإثنين والخميس ويبقى على ترتيبه في صوم يوم وإفطار يوم؛ لأنه لسبب وموجب. وعلى كل حال كلا القولين له وجه، ونحن إذا قلنا: كلا القولين له وجه ففي بعض الأحيان نقول هذا لعدم وجود مرجح ما، وبعض الأحيان نقول: لكلا القولين وجهه من باب التنبيه على أنه لا ينكر على من فعل هذا، ولا ينكر على من فعل هذا، ولا نقصد أن الحق متعد؛ لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، ولم يخالف في هذه المسألة إلا العنبري من أئمة الأصول وقوله شاذ؛ لأنه قال: إن الحق متعدد. ويحكى عن بعض أئمة الأصول لكن الصحيح أن الحق لا يتعدد. والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال:68] ، فبين سبحانه وتعالى أن الحق واحد، وأما الاجتهاد الأول فقال عنه: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، فبين أن الأمر فيه صواب وفيه خطأ، وهذا من حيث الأصل. وقد دلت السنة على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر واحد) ، فبين أن الاجتهاد إما صواب وإما خطأ، فلا يتعدد الحق. وحينما نقول: لا ينكر على هذا ولا على هذا. فمرادنا أن بعض طلاب العلم إذا ترجح عنده قول استهجن قول غيره وتعصب لشيخه -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يبلغ به الغرور أنه لا يعتقد عالما يصيب السنة إلا شيخه، وهذا لا يجوز في المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأئمة الأربعة، فتجده أبدا لا يلتفت إلى مذهب غير مذهب الحنابلة، أو مذهب المالكية، أو مذهب الشافعية، أو مذهب الحنفية، وهذا هو التعصب المذموم الممقوت. وقد ينهى عن التعصب ويقع في تعصب أسوأ منه، فتجد الحنفي أو الشافعي إذا خالفه غيره يقول: له دليله. لكن هذا إذا خالفه غيره قال عنه: عدو للسنة. فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فالمسائل الفرعية التي وردت فيها نصوص محتملة لا ينكر فيها ما دام أن هناك أئمة من السلف قالوا فيها، فإن جاء شخص وقبض بعد الركوع، والآخر يرى أن القبض بعد الركوع بدعة فلا يأت يقول للذي قبض بعد الركوع: أنت مبتدع. ولا يأت يقول للذي يترك القبض: أنت تارك للسنة. فهذه مسائل فرعية اختلف فيها الصحابة والأئمة، وأجمع السلف ودواوين العلماء وأهل العلم -كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، والإمام الحافظ ابن عبد البر من قبلهم، وكذلك العلماء رحمهم الله في مسألة الخلاف الفرعي على أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها فرعيا، فكل له دليله وكل له قوله، فلا يعتدى على الإنسان، ولا يعاتب الشخص إذا أخذ بقول يخالف قولي ما دام أن عنده سنة ودليلا، أورأى أن هذا الحديث حسن، وأنا أرى أنه ضعيف، أو شيخي يرى أنه ضعيف، فلا آتي وأقول له: يا أخي! أنت تتمسك بالأحاديث الضعيفة. إن كان له شيخ يرجع إليه في الأسانيد، فكما أن شيخي يمكن أن يصيب ويخطأ كذلك شيخه يمكن أن يصيب ويخطأ، وكما أن شيخي يمكن أن يصيب الصواب ويمكن أن يخطأ الصواب. كذلك أيضا شيخه يمكن أن يصيب الصواب، وهذا أمر محتمل، والشريعة ما جاءت به محتملا إلا لحكمة يعلمها الله عز وجل. ومن هنا شملت الشريعة الإسلامية بهذا الخلاف كثيرا من المسائل والنوازل والمشكلات المعاصرة، ولولا الله ثم هذا الخلاف وهذه التفريعات والتفصيلات ما تفطنت الأذهان، ولا حصلت المناقشات، ولا ضبطت الأصول، ولا فرعت الفروع، ولا عرفت القواعد، ولا عرفت الأمهات إلا بفضل الله ثم بهذا الخلاف. وتجد كل عالم يقول بقول وله دليل من كتاب الله من آية تحتمل أو حديث يحتمل، فلا ينكر على من أخذ بدليل وحجة ما دام أن قوله ليس بشاذ، وليس بقول بدعة وحدث، فنحن نرى أن ما اختلف فيه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان واحتملته النصوص لا إنكار فيه، وهذا الذي نعرفه من كلام العلماء والأئمة. ومما ذكر أن من الواجب على العالم النصيحة للأمة في مسألة الخلاف، ومن النصيحة للأمة أنه في بعض الأحيان تتضح السنة ويخالفها دليل ضعيف، فيبين وجه ضعفه، وينبغي أن يتربى طلاب العلم على المناقشة للأدلة نفسها، ويتعودون على التأصيل للمسائل بأدلتها. فاقرأ في دواوين العلماء، لتجد في كتب العلماء كل الخلاف الموجود فيها، وتجد عفة الألسن، فلا يخطئون إلا الأدلة، واقرأ في بدائع الصنائع وغيره، فستجدهم يقولون: ولا يجوز عندنا كذا وكذا، وعند الشافعية رحمهم الله يجوز، ودليله كذا وجوابه كذا، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولا قال للشافعي: مخالف للسنة. والعجيب أن تجد شخصا يستدل بقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7] وكأنه يقول: السنة عندي فقط. وهذا ليس من النصيحة للأمة؛ لأني إذا عودت طلابي ذلك علمتهم التعصب لي، وعودتهم أن يعتقدوا ألا حق إلا فيما أقوله، وهذا لم يكن عليه العلماء رحمهم الله. واقرأ كتب العلماء في المسائل الفرعية، فإذا كان هناك أدلة محتملة من الكتاب والسنة يوسع فيها ما وسع الله؛ لأنه الله وسعنا، كالذي ورد بدلالة محتملة، وما ورد بدلالة نصية صريحة، فالشيء الذي ورد بدلالة نصية صريحة. إذا أتى شخص يشذ، أو يخالف، أو يأتي بآراء أو بأهواء يصادم بها النصوص يرد عليه قوله كائنا من كان. لكن أن تأتي في المسائل المختلف فيها قديما بين العلماء والسلف والأئمة، وتبدع المخالف فلا، والصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا، كما قال شيخ الإسلام: كانوا يختلفون فيترحم بعضهم على بعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض. فالأصل أن تجعل مناقشاتك للأدلة، ومن هنا تربي طلاب علم يحفظون للسلف مكانتهم، ويحفظون للخلف مكانتهم، وتجدهم يحفظون للعلماء رحمهم الله مكانتهم، أما إذا جاء العالم أو الشيخ في قراءته للفقه وقراءته للأحاديث والأدلة يوهم طلاب العلم أنه هو وحده الذي يفهم، وهو وحده الذي يعرف السنة، فلا ينبغي هذا. فهذا ليس من النصيحة، إنما النصيحة أن تبين لهم أنك تقول قولا محتملا للصواب والخطأ، وإن كان الصواب في قولك أقوى، فتعذر غيرك الذي خالفك لدليل وحجة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعل الحق ملتبسا علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم. رفع اليدين بعد الانصراف من الصلاة للدعاء السؤال ما حكم رفع اليدين بعد انقضاء الصلاة مباشرة للدعاء؟ الجواب رفع اليدين في الدعاء إذا كان في المواضع المخصوصة والعبادات المخصوصة يمنع منه إلا في حدود ما ورد في الشرع، فما يفعله بعض الناس عند انتهائه من الأذكار، أو عند انتهائه من السلام يرفع يديه ويدعو، أو الإمام يفعله والمأمومون يؤمنون -كما يفعل في كثير من المواضع وبعض البلدان- هذا كله من الحدث. وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله من المتأخرين الذين اطلعوا على هذا العمل على أنه بدعة وحدث؛ لأنه شعار خاص في عبادة مخصوصة. ولذلك تجد من يعتاد هذه الأمور إذا صلى في مسجد، وصلى به إمام ولم يرفع يديه أنكر عليه؛ لأنه صار يعتقد ذلك عبادة، حتى إن العوام يعتقدون أنه من الشرع والدين، وهذا من الحدث. ولكن لو أن إنسانا فرغ من الأذكار الشرعية الواردة، وكانت عنده كربة أو نكبة أو فاجعة أو ضيق ففعل أحيانا دون أن يجعلها عادة وسنة له، فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله. أما الشخص الذي يجعله إلفا وعادة وداوم على ذلك فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إنما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ الأذكار التي تلي الصلاة، ثم قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ... ) إلى آخر الحديث، ولم يرفع يديه عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه ليس من السنة، خاصة أنه إذا كان يدعو بصوت والمأمومون يؤمنون على دعائه فهذا من الحدث والبدعة، نسأل الله السلامة والعافية. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة. والله تعالى أعلم. حكم المغالاة في المهور لزيادة مكانة المرأة ورفع قدرها السؤال يظن بعض الآباء أن المغالاة في مهر ابنته يزيد من مكانتها، ويشعر بقدرها ولو كان على حساب إرهاق الزوج، فما القول في ذلك؟ الجواب المغالاة في المهور تمحق بركة الزواج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء أيسرهن مئونة) ، فدل على أن البركة والخير في الزواج ألا تكون فيه كلفة، وألا يحمل الزوج ما لا يطيقه، ولذلك نهى عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور وقال: لو كان مكرمة لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته. فالسنة ألا يغالي الرجل في مهر ابنته، وأن يطلب العدل والمعروف، وكلما يسر كان ذلك أعظم لأجره، لكن إذا احتاجت البنت المهر، واحتاج والد البنت المهر لكلفة زواجها وأمور محتمة عليه لا بد من وجودها فلا بأس أن يكون أمرا نسبيا متفقا مع العرف، فيطلب مهر ابنته بالعرف، فإذا كان العرف درج على أن البكر ثلاثين ألفا وأن الثيب خمسة عشر أو عشرين ألفا فلا مانع أن يزوجها حتى ولو بخمسة وعشرين ألفا، أو بعشرين ألفا. ثم هناك أمور نسبية، وهي أنه ينظر في حال الزوج، فإذا كان الزوج غنيا ثريا مليئا أخذ منه المعروف الذي هو الثلاثين، وإذا كان الزوج ليس عنده مئونة ولا مال فزوجه بخمسة آلاف أو عشرة آلاف، وفاعل هذا لا شك أن الله سيبارك له في الزواج الذي يقع لابنته، وهذا معلوم ومعهود وسنة من الله عز وجل، ولا تتبدل سنة الله ولا تتغير. والذي ينبغي على الآباء أن يرحموا بناتهم وأن يرحموا الأزواج؛ فإن الزوج إذا تحمل أمور الزواج بالدين أول ما يقع الضرر على البنت؛ لأنه ربما طلقها، وربما ضيق عليها حتى تفتدي منه ويحصل الخلع، ولربما ساءت أخلاقه؛ لأنه يحس كأنه اشتراها. لكن الوالد الذي يخفف في المهر إذا جاءت البنت تخطئ أو تسيء أو تتجاوز بعض الأمور التي لا ينبغي مجاوزتها تجد الزوج يستحيي أن يشكوها إلى والدها؛ لأن المعروف كثر عنده وأخرس لسانه، فجعل عينه غاضه عن كل خطأ وعيب في البنت، وجعل لسانه أخرس لا يستطيع أن يتكلم؛ لأن الكريم يكسر بالمعروف. لكن إذا بالغ في المهر فالخطأ اليسير كبير، والزلة اليسيرة كبيرة، فهذه كلها أمور يجعلها الله عز وجل مسددات، فاليسر سبب في اليسر، والتعسير سبب في التعسير، فمن ضار ضار الله به، ومن عسر عسر الله عليه. والذي ينبغي أن يلتفت إليه هو كثرة العوانس في بيوت المسلمين، فكم من نساء ينتظرن من يتزوجهن، وكم من شباب لا يستطيعون الإقبال على الزواج للتكاليف الموجودة في الزواج. فعلى الآباء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرحم من يرحم، وقل أن تجد إنسانا يرحم في الحقوق وفي الأمور التي يليها مثل بناته وأخواته إذا زوجهن، ويساعد الزوج في زواجه، ويقف في المواقف الحميدة الكريمة إلا بارك الله له في ماله ورزقه، وبارك في هذا الزواج الذي جرى على يده، وجعل عواقبه كلها خيرا وبركة. فعلى المسلم أن يأخذ بهذه السنة التي كان عليها سلفنا الصالح تبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير في أمور الزواج. كذلك أيضا ينبغي إلغاء الأمور التي فيها ضرر على الزوج من اشتراط الكلفات والأمور التي لا تحمد عقباها وقل أن يعظم نفعها، فالشخص إذا أراد أن يتزوج عليه أن يقتصر على دعوة القرابة وبعض من يعرفه، وليس هناك داع للتوسع في أمور الزواج وللبذخ فيها. فليت الآباء والأمهات والأزواج والزوجات يتقون الله عز وجل في أنفسهم ويتعقلون كثيرا في هذه الأمور التي لا تعود على الناس بالخير، وما هي إلا مظاهر فانية، ووالله مهما فعل فإنه لا يسلم، ومن العجيب الذي ذكره بعض الإخوان أنه قال: حضرت زواجا قد تكلف صاحبه وكان ثريا غنيا، وكان مظهر جعل زواجه من أجمل وأحسن وأكمل ما يكون عليه الزواج، قال: فحضرت مع بعض أقربائه. فإذا بهم يسبون هذا الغني الثري ويقولون: قبحه الله! فعل وفعل وفعل وفعل. فأصبحت المباهاة سببا في الذلة، لقد طلب الكرامة في معصية الله فأهانه الله، وطلب العزة بمعصية الله فأذله الله عز وجل. قال: ثم حضرت زواجا بعد ذلك مقتصدا ميسرا مخففا لا كلفة فيه، فكان أن قالوا: فعل الله بأهل الزوج والزوجة. أي: ما أطعم الضيوف وما فعل الذي أرادوه. فما أحد يسلم من الناس، لا الذي أعطاهم وأشبع بطونهم، ولا الذي أخذ بالقصد. فإذا كان الشخص في الزواج دعا العشرات ولم يزد على عدد معين، وجاءته أمة من الناس فهل العتب عليه، أو على هذا الطفيلي الذي جاء بدون دعوى?! وعلى كل حال فهناك تجاوز من الناس خاصة في هذا الزمان، والذي أحب أن أقوله هو أني أتمنى من الخطباء والأئمة وطلاب العلم أن يقرعوا قلوب الناس في هذا الأمر وأوصيهم بذلك، والأجر في هذا عظيم إذا ذكروهم، وأن يذكروا كل ظالم كم في بيته من بناته اللاتي لم يتزوجن، وليذكروا كل والد أن يسأل نفسه كم من بنت جاوزت العشرين، بل الخمسة والعشرين، بل الثلاثين ولم تنكح بعد. فليسأل نفسه وليبحث عن الأسباب، والعيب أن نرى أخطاءنا موجودة ونسكت عنها، فهناك أسباب موجودة، وعلينا أن ننبه الناس، وأن نكثر من هذه الخطب التي تبين للناس هذا الخطأ الفادح؛ فإن كثرة الفواحش والمنكرات هي بسبب كثرة المطلقات والمرملات والعوانس من الأبكار اللاتي لا يحصى عددهن، وقد ذكر لي أن في بعض المدن مالا يقل عن أربعين ألف بنت عانس، والسبب في هذا تكاليف المهر التي ذكرناها، وهي عامل كبير جدا أثرت على كثير من الناس. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يلطف بنا في العاقبة والمآل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#598
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (458) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [2] مما قد يقع فيه العبد المسلم الظهار، وهو أمر خطير، ولابد أن يدرك المسلم مدى عظم هذا الأمر عند الله، وأدلة حرمته من الكتاب والسنة، ومقاصد الشرع من تحريم هذا الأمر، وما يلتحق به من الأحكام التي ينبغي معرفتها. أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] تقدم معنا بيان بعض المقدمات المتعلقة بكتاب الظهار، وبينا حقيقة الظهار وأركان الظهار، ونبهنا على بعض المسائل المتعلقة بتلك المقدمات. ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الظهار، فقال: [وهو محرم] . أجمع العلماء رحمهم الله على أنه محرم، والأصل في تحريمه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، كما أن دليل العقل يدل على تحريمه. فأما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى بين أن الظهار منكر من القول وزور، كما قال تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} [المجادلة:2] ، والمنكر والزور محرمان، فلما وصف الله عز وجل هذا القول بهذا الوصف أشعر بالتحريم، وبين أنه غير جائز شرعا، فعند علماء الأصول أنه إذا ورد الذم للشيء في الكتاب أو السنة فإن هذا يدل على حرمته، خاصة إذا كان الذم قويا مرتقيا إلى درجات الكراهة التحريمية. والذم ينقسم إلى قسمين: الذم الشرعي، والذم الطبعي. فهنا ذم شرعي؛ لأن الوصف بكونه منكرا وزورا مذموم شرعا، فدل على أنه محرم، وهذا أولا. ثانيا: أن الله سبحانه وتعالى بين وجوب الكفارة على من قال الظهار وأراد أن يعود، فإيجاب الكفارة على الظهار دال على حرمته، كما أن إيجاب الكفارة على الجماع في نهار رمضان دال على حرمته، وإيجاب الكفارة على القتل الخطأ دال على حرمته في الأصل، كما قال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، فدل على أنه شيء في الأصل محرم، فالمقصود أن الآيات الكريمة دلت على حرمة الظهار من هذه الوجوه، ومنها قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} [المجادلة:2] ، فبين أنه يعفو ويغفر، فدل على أن هناك موجبا للإساءة والذنب الذي يترتب عليه العفو والمغفرة. فلما ختم آية الظهار في قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] بهذين الوصفين -العفو والمغفرة- دل على أن الظهار موجب للذنب والإساءة من قائله. أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أوس رضي الله عنه وأرضاه ظهاره لامرأته، وأوجب عليه التكفير، وهذا يدل أيضا على ما دل عليه دليل الكتاب من حرمة الظهار. كذلك أيضا أجمع العلماء على أن الظهار محرم. وأما دليل العقل فلأن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك أن الزوجة إذا امتنع زوجها منها وقال لها: أنت علي كظهر أمي. فإن هذه مفسدة عظيمة؛ لأنها تحرم الرجل على امرأته، وتحرم المرأة على زوجها. وحينئذ يتعرض الرجل للحرام وتتعرض المرأة للحرام، ولا شك أن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، وهذا من أعظم الضرر، ثم إن الشريعة أقامت النكاح على الإمساك بالمعروف، فأصول الشريعة دالة على أن الزواج والنكاح ينبني على العشرة بالمعروف، فيمسك المسلم زوجته بالمعروف، وليس من المعروف أن يجعلها بمثابة الأم وهي ليست بأم له، فيمتنع من عشرتها، ويمتنع من الإحسان إليها والقيام بحقوقها، بناء على هذا اللفظ. فدليل العقل أن الظهار يتضمن الضرر والإساءة، وذلك موجب للوصف بالتحريم؛ لأن كل ما فيه ضرر على المسلم والإساءة إلى المسلم فإنه محرم شرعا، والسبب في كون ما يوجب الإساءة والأذية والضرر محرما أن فيه اعتداء، والله عز وجل يقول: {ولا تعتدوا} [البقرة:190] ، وقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] فهذا اعتداء؛ لأن الزوج اعتدى على زوجته. ومن هنا جاءت امرأة أوس وشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: نثرت له ما في بطني، ولما رق عظمي وضعف بدني ظاهر مني، إلى الله أشكوه. فهذا يدل على أنه فيه ضررا وإساءة، والشريعة جاءت لدفع الضرر والإساءة والاعتداء على الغير. فمن هذا كله نخلص إلى القول بإن الظهار محرم. وهذه الحرمة من أعظم أنواع الحرمات، أي أنه محرم لأنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن المحرمات فيها ما هو صغير وفيها ما هو كبير، فالظهار من كبائر الذنوب، وكبائر الذنوب تنقسم إلى: كبائر متعلقة بالاعتقاد. وكبائر متعلقة بالقول. وكبائر متعلقة بالعمل. فالظهار من الكبائر المتعلقة بالأقوال، ويشارك غيره من الكبائر القولية، أي أنه ليس بذنب معتاد، أما الدليل على كونه كبيرة فعند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه إذا ترتبت الكفارة المغلظة على فعل دل ذلك على حرمته في الأصل، وأنه من الكبائر. ومن هنا أوجب الله عز وجل على من جامع في نهار رمضان كفارة، واعتبر ذلك من كبائر الذنوب من حيث الأصل؛ لما فيه من الاعتداء إذا تعمد جماع امرأته في نهار رمضان، ومن هنا يقول بعض العلماء: إن ورود العقوبة على فعل الشيء -سواء أكانت بدنية أم مالية- تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب. ومن هنا قالوا: إن شرب الخمر كبيرة، وإن الزنا كبيرة؛ لأن فيها عقوبة شرعية مقدرة، والكفارات نوع من العقوبة؛ لأنها عقوبة في البدن وعقوبة بالمال، وعقوبتها بالمال أن فيها تكفيرا للرقبة، وفيها إطعام ستين مسكينا، وهذه عقوبة مالية؛ لأن الرقبة مال، فيحتاج أن يشتري رقبة ليعتقها، ويشتري طعاما ليطعم ستين مسكينا، وفيها عقوبة بدنية؛ لأنه يصوم شهرين متتابعين. وعلى هذا لا يشك أحد أن مثل هذا القول الذي عوقب عليه بهذه العقوبة في أنه يصل إلى حد الكبائر، ولو كان من صغائر الذنوب لما ترتب عليه الكفارة؛ لأن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من صغائر الذنوب، وأمرها أيسر من الكبائر ولو أن الكل ذنب وخطيئة. قوله رحمه الله: [وهو محرم] الضمير عائد إلى الظهار، وابتدأ المصنف رحمه الله كتاب الظهار ببيان حكمه لأن أول ما يحتاجه طالب العلم في الشيء معرفة مقدمات تخص ذلك الشيء، وبعد ذلك معرفة موقف الشرع منه، فهل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزا فهل يلزم به الشرع أو لا يلزم؟ وإذا ألزم به فهل هو في مقام الواجبات أو المستحبات؟ وإذا كان غير جائز شرعا فهل هو محرم أو مكروه؟ وهل حرمته مغلظة أو غير مغلظة؟ فقال رحمه الله: [وهو محرم] . كيفية وقوع الظهار وتحققه قوله: (فمن شبه زوجته أو بعضها) يقال: هذا يشبه هذا: إذا كان مثيلا له واشترك معه في شيء أو أشياء، تقول: محمد يشبه البحر: إذا كان كريما غزيرا كثير الخير، كما أن البحر يكثر خيره، أو غزيرا في علمه كما أن البحر يكثر نفعه. وكذلك تقول: علي كالأسد، أي: في الشجاعة والقوة ونحو ذلك، فالتشبيه عند العلماء: هو الدلالة على أن شيئين اشتركا في أمر أو أمور، وبناء على ذلك لا بد من وجود التشبيه في الظهار. وقد بينا من قبل أن التشبيه يحتاج إلى أربعة أركان: مشبه ومشبه، ومشبه به، ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهه. فهنا المشبه هو الزوج، فالزوج إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي فهو المشبه، فلو قال أجنبي قلنا ليس بظهار، كذلك لو قال من يستمتع بالمرأة على غير وجه الزوجية، كالسيد مع أمته فإنه ليس بظهار. والمشبه هو الزوجة التي في عصمة الزوج، والزوجة زوجتان: زوجة حقيقية وزوجة حكمية. ومشبه به وهي الأم أو من في حكمها من المحرمات بالنسب أو السبب أو الرضاع كما سيأتي. ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهة هي اللفظ الدال على الظهار، فهذه هي أركان التشبيه الأربعة. قال رحمه الله: [فمن شبه زوجته] سواء أكانت زوجة حقيقية أم زوجة حكمية، والزوجة الحقيقية: هي كل امرأة عقد عليها الرجل عقدا شرعيا صحيحا. فالمرأة إذا عقد عليها صح الظهار منها، فلو عقد عليها وبعد العقد مباشرة قال لها: أنت علي كظهر أمي فظهار. فلا يشترط أن يكون قد دخل بها، بل مجرد العقد كاف، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] ، فبين أن المشبه هي المرأة التي من نساء المشبه، وكل امرأة عقد عليها الإنسان فهي من نسائه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء:23] ، فوصف المرأة بكونها من نساء الرجل مدخولا بها أو غير مدخول بها. والحكمية هي الزوجة المطلقة إذا كان طلاقها طلاقا رجعيا وكانت في العدة، فإنها أثناء العدة إذا ظاهر منها فإنه يحكم بوقوع الظهار وبصحته. وقوله: [فمن شبه زوجته] أي: من شبه كل زوجته، كأن يقول لها: أنت، أو يقول: فلانة -سواء أكانت حاضرة في المجلس أم كانت غائبة- مني كظهر أمي. أو: زوجتي مني كظهر أمي. وهي غير حاضرة في المجلس، أو يخاطبها كفاحا فيقول لها في وجهها: أنت علي كظهر أمي. فهذا بالنسبة لمن شبه زوجته كلها، وفي حكم ذلك من يقول: كلك. أو: جسمك، أو: جسدك، واختلف في قوله روحك، واختار جمع من العلماء أنه ظهار؛ لأن التعذيب بالروح يراد وليس المراد به استقرار الروح، والروح ليست منفصلة عن الجسد. فهذه كلها ألفاظ بمعنى واحد، فمن شبه زوجته، أي: شبه كل الزوجة، بقوله لها: أنت، أو: فلانة، أو: زوجتي فلانة، أو: أنت كلك، أو: جسدك، أو: جسمك، أو: ذاتك، أو: روحك، أو: نفسك فكل هذا آخذ حكم قوله: أنت. قوله: [أو بعضها] أي: بعض الزوجة، كقوله لها: رأسك. صدرك. يدك. ظهرك، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله. والصحيح أن اختيار الجزء للتعبير بالظهار كاختيار الكل على تفصيل: فإما أن يكون دالا على ذلك بدون وجود احتمال، وأما أن يكون دالا على ذلك بالنية، فلو قال لها: رأسك. وقصد الإكرام فليس بظهار، ولو قال لها: رأسك. وقصد الظهار فظهار. لكن حينما يعبر -مثلا- بالفرج أو بأعضاء يحرم النظر إليها في أعضاء من جسدها يكون في حكم الكل، مثل قوله: يدك. فلو قال لها: يدك علي كظهر أمي. أو: ظهرك علي كظهر أمي فظهار. والدليل على ذلك أن الله عبر باليد عن الكل، فقال تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد:1] ، والتباب متعلق بكل أبي لهب وليس بيده وحدها، وقال تعالى: {فبما كسبت أيديكم} [الشورى:30] ، وقال تعالى: {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} [الحج:10] ، فذكر الجزء وأراد الكل، فلا يوجد زوج يقول لامرأته: يدك علي كظهر أمي، ويقصد اليد استقلالا، لكن بعض العلماء يقول: يسري في الظهار ما يسري في الطلاق، وقد تقدم معنا تفصيل هذه المسألة، وذكر أقوال العلماء فيها والأدلة. وأما هل يسند التحريم للجزء أو لا يسند فمذهب بعض العلماء -وهو الذي اخترناه- أنه يسند التحريم للجزء ويسري على الكل ثم يفصل، فإذا قال لها: يدك طالق، أو يديك علي كيد أمي، أو كظهر أمي، أو كأمي، فبعض العلماء يرى أنه إن قال ذلك تصبح المرأة كلها محرمة من بداية اللفظ، يعني أن الجزء معبر به عن الكل. وبعض العلماء يقول: لا يتعلق التحريم مباشرة، وإنما تحرم اليد ثم يسري إلى جميع البدن؛ لأن اليد متصلة بالبدن. وقد بينا فائدة هذا الخلاف في الطلاق، وهي أنه لو قال لها: يدك طالق فإن المذهب الأول يقول: تطلق مباشرة، والمذهب الثاني يقول: لو قال لها: يدك طالق إن دخلت الدار. وقبل دخولها للدار قطعت يدها فلا طلاق، لأنهم يرون أنه أول شيء يقع باليد ثم يسري، فلو قطعت اليد التي علق الطلاق بها فإنه لا يسري؛ لأن الطلاق لم يصادف محلا يتعلق به حتى يحكم بالسريان. ومسألة الظهار تتفرع على مسألة الطلاق، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، والخلاصة أن نقول: إن شبه الكل فقال: (أنت) ، أو شبه بعضا من أعضائها المتصلة كقوله: يدك رجلك بطنك فرجك رأسك، ونحو ذلك فالكل سواء، فاختيار الجزء للتعبير بالظهار كاختيار الكل، أما لو كانت منفصلة فسيأتي الكلام عنها. النساء المعتبر التشبيه بهن في الظهار قال المصنف رحمه الله: [ببعض أو بكل من تحرم عليه أبدا] النساء اللاتي يحرمن على الإنسان ينقسمن إلى محرمات على التأبيد ومحرمات على التأقيت، والمحرمات على التأبيد هن المحرمات من النسب والسبب والرضاع، وقد تحرم المرأة على التأبيد لعارض مختص مثل مسألة الملاعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع اللعان فرق بينهما فراقا إلى الأبد، فلا يجتمعان أبدا، ولذلك قال الزهري رحمه الله: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا. والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي! قال: إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها) . فالمفارقة بين الملاعن والملاعنة فرقة أبدية، لكن هذا التحريم الأبدي لا يوجب المحرمية. وأما بالنسبة للمحرمات فهن من جهة النسب والسبب، فأما من جهة النسب فسبع، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأما من جهة السبب فأربع، وهن أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن، والمحرمات من جهة الرضاع هن جهة اللاتي يحرمن من جهة النسب. فهؤلاء المحرمات تحريمهن مؤبد، وفي الرضاع والنسب جمهور العلماء -ما عدا الظاهرية والشافعية في قول عندهم على تفصيل- متفقون على أن هذا التحريم تحريم مؤبد. وهؤلاء السبع النسوة المحرمات بالنسب إذا شبه زوجته بواحدة منهن فإنه يقع الظهار، لكن الظاهرية يخصون الظهار بالأم، والجمهور على أن غير الأم والأم سواء بالنسبة للمحرمات. فلو ظاهر من زوجته فشبهها بمحرمة من المحرمات من النسب فعند جمهور العلماء لو قال: أنت علي كبنتي، أو: كأختي، أو: كخالتي، أو: كعمتي، أو: كبنت أخي كبنت أختي فإنها محرمة ظهارا، هذا من حيث الأصل عندهم. لكن بالنسبة للمحرمات من جهة السبب فبعض العلماء لا يرى أن تشبيه الزوجة بالمحرمات من جهة السبب يوجب الظهار، فلو قال لها: أنت علي كزوجة أبي، أو: كزوجة ابني، أو: كحليلة ولدي، أو: كفلانة وهي زوجة أبيه أو زوجة ولده فإنه لا يقع عندهم الظهار. والصحيح مذهب الجمهور أنه يقع الظهار بالسبب كما يقع بالنسب. أما الرضاع فمن العلماء من أطلق وهو مذهب الجمهور، ومنهم من فصل وقسم الرضاع إلى رضاع طارئ ورضاع أصلي، فقالوا: إذا كانت المرأة المحرمة من جهة الرضاع تحريمها منذ ولادته فهذا رضاع موجب للتحريم أصلا، مثاله: لو أن أمه أرضعت امرأة فصارت بنتها من الرضاع، وبعد سنتين أو ثلاث من الرضاع ولدته أمه، فإن هذه الأخت من الرضاع محرم له منذ ولادته، وهذا رضاع أصلي. أما لو طرأ الرضاع وولد وهي أجنبية، أو ولدت بعد ولادته ثم رضعت من أمه فهذا التحريم من الرضاع ليس في الأصل، فلو شبه بها لا يقتضي التحريم. والسبب في هذا أن الشافعية رحمهم الله الذين عندهم هذا التفصيل يرون أن النص جاء بالأم، والأم فيها وصف تحريم مؤبد. ولذلك فرق عندهم بين الشيء الطارئ وبين الشيء المؤبد، والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن المحرمات من جهة النسب أو السبب أو الرضاع، إذا شبه بهن الزوجة يوجب الظهار. والدليل على ذلك واضح؛ لأن المرأة حكم بكونها محرمة على الرجل، وشبهها بامرأة محرمة بغض النظر عن كونها من قبل كانت حلالا له أو في المستقبل على الوجه الثاني الذي سيأتينا إن شاء الله في التحريم المؤقت، فالأصل عندنا أن الله تعالى يقول: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} [المجادلة:2] ، فجعل المسألة قائمة على التحريم، وقائمة على الامتناع من الزوجة، وتنزيلها منزلة من تحرم عليه ولا يحل له نكاحها كل هذا من المنكر ومن قول الزور، وهو موجود في تشبيه الزوجة بالأخت من الرضاعة، أو بالبنت من الرضاعة، أو بالعمة من الرضاعة، وغيرهن من المحرمات اللاتي ذكرن. وبناء على ذلك فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن كل امرأة تحرم بنسب أو سبب أو رضاع تدخل في الظهار، وأن الأمر ليس فيه التفصيل الذي ذكروه؛ لأن الموجب للتحريم موجود في الكل، فيكون الحكم ووجه الاشتراك بين الأم وغيرها موجود في النسب والسبب والرضاع. أما المحرمات من جهة التأقيت فكأخت الزوجة، وكعمة الزوجة وخالة الزوجة؛ لأن الله حرم أن نجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبناء على ذلك قال بعض العلماء: المحرمة مؤقتا إذا شبه زوجته بها فلا ظهار، أي: لو أنه قال لها: أنت علي كأختك قالوا: لا ظهار. والصحيح والأقوى الذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول أنه ظهار؛ لأن المعنى موجود فيه، فهو يشبهها بها في حال حرمتها عليه، فيقول: أنت علي كأختك. وأختها محرمة عليه، أو قال لها: أنت علي كظهر أختك. فهذا كله يعتبر في حكم الظهار. حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها للعلماء وجهان في قوله تعالى: {الذين يظاهرون} [المجادلة:2] وذلك في لفظ الظهار، وهو قوله: أنت علي كظهر أمي، فهل المراد بالظهر هنا الحقيقة وهو العضو المعروف من الكاهل إلى العجز، أم أن المراد به الظهر المركوب؛ لأن العرب تعبر بالظهر عن المركوب. ولذلك لما سأل رسول الله المرأة فقال لها: (ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! ما معنا ظهر -أي: ما عندي ظهر- ليس لنا إلا ناضح قد حج عليه أبو فلان) الحديث، وفيه: فقال لها: (فإذا كان رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة في رمضان كحجة معي) . ومما يدل على أن الظهر المراد به المركوب، قوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر مركوب بنفقته) ، فالظهر المراد به المركوب والناقة التي تركب، فيعبر به ليكنى به عن الشيء المركوب. فإذا قيل: إن الظهر المراد به المركوب فالمراد به الجماع وإتيان المرأة؛ لأن الرجل يجامع زوجته، فكأنه حرم جماعها، فهو يقول لها: جماعك علي حرام كجماع أمي، أو: جماعك علي حرام، كجماع من سمى ممن تحرم عليه. الوجه الثاني يقول: إنما المراد به الظهر نفسه حقيقة، والعرب عبرت بالظهر وهو مجمع الإنسان؛ لأن حركة الإنسان كلها موقوفة على هذا الظهر، وقيام الإنسان كله بهذا الظهر، فهو يشبه شيئا بشيء، يعني الذات بالذات. وعلى كلا الوجهين لو قلنا: إن المراد به الظهر فمعنى ذلك أن الظهار حكم الله بكونه ظهارا مع أنه تشبيه بالجزء. ولذلك من العجيب أن بعض الظاهرية رحمهم الله رحمة واسعة -وهذا ليس من النقص لهم، فلا يظن أحد أننا ننتقص هؤلاء الأئمة والعلماء- قالوا: لو قال لها: أنت علي كأمي لا يقع الظهار، وإذا قال: أنت علي كظهر أمي يقع الظهار. وقولهم مرجوح، لكن لا ينقص من مكانتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وهذه الأمور التي تقع من بعض الفقهاء ينبغي أن يعلم أنها من الغيرة على النص والالتزام بظاهر النص والتقيد بالشرع، ولو أنه في بعض الأحيان يزاد في ذلك ويتجاوز به عن حده. لكن انظر إلى مدى الاهتمام بالفقه الإسلامي، وكيف بلغ من التقيد بالنصوص؛ حيث إن الظاهرية يتقيدون بالنص كما ورد، حتى إن بعضهم قال في مسألة البول: لو بال في إناء وصبه لما شمله التحريم كالبول مباشرة. وصحيح أن هذا كله من الجمود على الظاهر، لكن المقصود هنا أن نقول: إنه إذا حذف الظهر أو أبقاه فالحكم واحد. والدليل على هذا أن الشريعة تعبر بشيء وتنبه على أن ما هو أعلى منه من باب أولى أن يدخل تحت النص؛ لأنه إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي فمن باب أولى إذا قال لها: أنت علي كأمي. فإذا كان الظهر وحده أوجب التحريم فمن باب أولى إذا ذكر الكل. وعلى كل حال فكل المحرمة أو بعضها يوجب الظهار، لكن ليس كل أجزاء المرأة المحرمة عند العلماء رحمهم الله يقع التحريم بالتشبيه به، فالحنفية خصوا الأعضاء التي يحرم النظر إليها، فلو قال: أنت علي كظهر أمي فظهر الأم يحرم النظر إليه، ويحرم أن ينظر إلى فرجها أو فخذيها أو بطنها، فهذه هي الأشياء التي عندهم فيها الظهار. لكن لو قال لها: أنت علي كيد أمي قالوا: لا يقع الظهار؛ لأن اليد يجوز النظر إليها وليست بمحرمة، ويجوز أن يصافحها وأن يمس يدها، فقالوا: هذا لا يقتضي التحريم. وهذا اجتهاد منهم رحمهم الله، فهم نظروا إلى أن الظهار فيه لفظ الظهر، وأعملوا المعنى ونقحوا مناط النص، فنظروا إلى أن الظهر يحرم النظر إليه ويحرم الاستمتاع به، وجمعوا أوصافا موجودة في هذه الأربع دون غيرها وقالوا: الحكم مختص بهذه الأربع دون غيرها، فلو قال لها: أنت علي كرأس أمي لا ظهار ولو نوى به الظهار، فلا يقع عندهم ظهارا. ومذهب المالكية رحمهم الله من أوسع المذاهب في مسألة الظهار، فعندهم لو أنه قال لها: أنت علي كريق أمي. أو قال لها: كلي، أو: اشربي ناويا به الظهار وقع الظهار؛ لأنهم يوسعون في ذلك، كما هو أيضا عندهم في مسائل الطلاق، وفائدة معرفة الأقوال الفقهية والخلافات معرفة مسالك العلماء رحمهم الله في الأبواب. فالمالكية رحمهم الله يشددون في التحريم في الطلاق وفي الظهار، وقد تقدم معنا بيان مسائل عديدة، وبينا أدلتهم في ذلك، ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله فصلوا، فقال الشافعية في تفصيلهم: إما أن يذكر عضوا يعبر به عن التكريم والإجلال، أو يذكر عضوا لا يعبر به عن ذلك، فإن ذكر عضوا يعبر به عن التكريم والإجلال سألناه عن نيته، فإن قال لها: أنت علي كعين أمي، أنت عندي كرأس أمي، قالوا: نسأله هل قصدت الظهار؟ فإن قال: قصدت الظهار ليكون ظهارا، وإن قال: لم أقصد ظهارا، وإنما قصدت إعزازها وإكرامها وأنها عندي بمنزلة أعز شيء من الناس وأغلاهم عندي وهو أمي، وأعز شيء في الإنسان رأسه، فقلت لها: أنت كرأس أمي فحينئذ لا ظهار. وهذا القول صحيح وأميل إليه، فإذا ذكر أعضاء يقصد بها التشريف والتكريم كالرأس والصدر، وقصد من هذا إكرامها فليس بظهار، وإن قصد الظهار فهو ظهار. ثم أيضا فصلوا مع الحنابلة في مسألة الأعضاء المتصلة والمنفصلة، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الطلاق إذا أسند الطلاق إلى عضو متصل أو إلى عضو منفصل، فإذا كان في الأجزاء المنفصلة فإنه ليس بظهار، وإن كان في الأجزاء المتصلة فإنه ظهار على التفصيل الذي ذكرناه. وأجزاء الإنسان منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل أو في حكم المنفصل، وما في حكم المنفصل متردد بين المنفصل والمتصل، ورجح أنه في حكم المنفصل، فالدمع والريق واللعاب كله في حكم المنفصل، فلو قال لها: أنت كريق أمي ليس بظهار؛ لأنه ليس بعضو متصل، ولم يقع التشبيه بالوارد فيه النص من كل وجه، ولذلك لا يقتضي التحريم من كل وجه. فالأعضاء التي اختلف فيها هل هي متصلة أم منفصلة هي كالشعر والظفر، وقد ذكر هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس (القواعد الفقهية) ، وذكر شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل. وهذه المسألة تتفرع عليها ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الفقه، ومنها هذه المسألة، فإن قلنا: إن الشعر في حكم المتصل فإن قال لها: أنت علي كشعر أمي، أو شعرك مني كشعر أمي، أو شعرك عندي كشعر أمي فظهار. وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل فليس بظهار، وإن قال لها: شعرك طالق فليس بطلاق إن كان منفصلا، وهو طلاق إن كان في حكم المتصل. ففصل العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والصحيح أن الشعر والعظم والظفر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل. قوله: [بنسب أو رضاع] . بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وهن السبع اللاتي سمى الله عز وجل، والرضاع مثلهن، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وفي حكمه التحريم بالرضاع من جهة المصاهرة. قوله: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل] (من) بيانية، فسواء أذكر الظهر وهو الأصل، أم البطن أم عضوا آخر كاليد، لكن بشرط أن يكون غير منفصل، فالشعر ينفصل لأنه يقص فينفصل، فلو قال لها: أنت عندي كشعر أمي فشعر أمه منه ما يتساقط، فليس ذلك موجبا للتحريم من كل وجه. الألفاظ الدالة على الظهار قوله: [بقوله لها: أنت علي أو معي أو مني كظهر أمي] . قول المظاهر: أنت علي، أو: معي، أو: مني، أو: عندي، أو: لي كل هذا يعتبر دالا على الظهار. وكذلك قوله: أنت كأمي دون قوله: عندي، ولا: معي، ولا لي، فسواء أذكر هذه الصفة أم لم يذكرها فالحكم واحد ويقع الظهار. قوله: [أو كيد أختي] الأصل أن يذكر الظهر، وما لا ينفصل يكون حكمه كحكم الظهر. قوله: [أو وجه حماتي] . الأم هي الأصل، وتمثيله بالأخت والحماة فيه نوع من التسلسل في الأفكار عند الفقهاء رحمهم الله في المتون الفقهية، وهذا يزيد طالب العلم فائدة، ويزيده علما وبصيرة إذا أراد أن يخطب، أو يفتي، أو يوجه، أو يعلم، والعلماء بعض الأحيان يذكرون أشياء عجيبة، لكن يقصدون مغزى ومعنى، وهذا نبهنا عليه أكثر من مرة. فقوله: [ظهر أمي] المراد بذلك القاعدة المتفق عليها والمجمع عليها، وهي أنه إذا قال: كظهر أمي فهو ظهار. ثم قال: [كيد أختي] فخالف في العضو الذي هو الظهر فاختار اليد، وخالف في الذات التي هي الأخت، فهذا مثال للمحرمة من جهة النسب من غير الأمهات. فجمع لك بين الأمرين، فتفهم منه أنه لا يشترط أن يذكر الظهر، وأنه يمكن أن يذكر بدلا عنه أي عضو بشرط أن يكون متصلا، وكذلك أيضا لا يشترط أن يكون الظهار منحصرا في الأم، ولذلك قال: [كيد أختي] . وقوله: [أو وجه حماتي] لو قال: كيد حماتي ربما شك شاك أن العضو ينفصل في اليد، لكن قال: [كوجه] فانتقل إلى الوجه، والحماة: هي أم الزوجة، والأحماء: هم أقارب الزوجة. فقوله: (كوجه حماتي) استفدنا منه أنه لا يشترط العضو في المشبه به، ثانيا: التشبيه بالمحرمة من جهة السبب، وهنا استدرك بعض المتأخرين رحمة الله عليهم على المصنف فقالوا: كان الذي ينبغي أن يقول: بنسب أو سبب، أو رضاعة، فيذكر السبب. والحقيقة أنه لو ذكر السبب كان أفضل في الإشارة إلى المحرمات من جهة المصاهرة، لكن لما قال: [وجه حماتي] كان هذا بديعا منه في الدلالة على أنه يرى أن المحرمات من جهة المصاهرة كالمحرمات من جهة النسب والرضاع. وبعض العلماء ربما يذكر في المتن قسيمين يدخل بينهما ثالث ولا ينبه على الثالث من باب الذوق في الألفاظ، فالعلماء رحمهم الله كانت عقولهم فذة في صياغة الكلام، لكن فرق بين أن تصاغ هذه المتون لقوم يعقلون يعرفون هذه النكت والأفكار، وبين من يتهجم أو يأتي يستدرك ويلاحظ، فيقول: هذا خطأ، وهذا كذا. إلخ، وهذا ليس إلا نوعا من اللطائف البديعة. فيذكر النسب ويذكر الرضاع والقسيم الثالث داخل بينهما من جهة السببية، وبعض الأحيان إذا ذكروا الرضاع مع النسب ينبهون على أن السببية تابعة له، خاصة في مسائل النكاح، لكن كما قال تعالى: {سيذكر من يخشى} [الأعلى:10] . فهؤلاء العلماء رحمهم الله يحذر من الاستدراك عليهم والتعقيب عليهم، خاصة إذا اشتمل الاستدراك على التهجين لرأيهم، نسأل الله السلامة والعافية، بل كانوا رحمهم الله على دقة، وأحيانا يتركون الأمور الظاهرة والأمور الخفية لأجل مخاطبة العلماء؛ لأن هذه الكتب غالبا ما كان يقرؤها إلا العلماء. ولذلك تجد العالم لما يأتي إلى تلك المتون يجد أمرا معتادا، وطالب العلم المتمكن يجد أمرا يعمل فيه فكره أكثر، فيتعود على الدقة. ومن الفوائد التي أوصي بها طالب العلم، وأوصي بها كل شخص يتحرى الحق والصواب أنه من المجرب أنك إذا قرأت تآليف العلماء -وأقصد العلماء الأئمة الجهابذة خاصة أئمة السلف- وكان عندك اعتقاد في قرارة قلبك بعلمه وفضله ودقته وتركيبه للمسائل، ووجدت شيئا في ظاهره الخطأ ستتعب في تحصيل السبب وكشف الأمر الذي من أجله أغفل هذا الأمر الذي لا ينبغي إغفاله، أو ترك ذكر هذا الشيء الذي ينبغي ذكره، فما إن تعمل فكرك وأنت عندك هذا الشعور إلا تفتح لك من العلم والفهم ما الله به عليم. وهذا شيء نحن جربناه ووجدناه، والعكس، فلن تجد شخصا -والعياذ بالله- لا يقدر أهل العلم، ولا ينظر إليهم بما هم أهله، خاصة أئمة السلف، إلا وجدته سريع التخطئة، عجلا في الفهم، قاصرا في الإدراك، بعيدا عن مستوى الأذكياء؛ لأنه لا يفهم العالم إلا عالم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، وهذا من أراد أن يجربه في نفسه، أو في من يتعقب غيره أو ينتقد غيره سيجده جليا. ومن أغرب ما ذكر لي أن شخصا كنت أعرفه -نسأل الله السلامة والعافية- من بعض طلاب العلم، كان بعض مشايخنا يحذره كثيرا، وكان كثير الجرأة على تخطئة العلماء رحمهم الله وتتبع عثراتهم. فذات يوم كان يقرأ في كتاب (الإمامة) فقرأ قوله: (فإن استووا في القراءة فأطولهم ذكرا -أي: لله عز وجل- فصحفها وقال: فأطولهم ذكرا، وأخذ يشنع على من قال هذا فنحن نقول هنا: لما ذكر المصنف النسب وذكر الرضاع فالقسيم الثالث لهما وهو السببية داخل في التحريم، فلو أنه شبهها بهن فالمعنى موجود في المحرمات من جهة السبب كالمحرمات من جهة النسب. وقوله: (ونحوه) . نحو الشيء مثله، أو شبيهه، المراد: نحوه في الجانبين في الأعضاء، وفي التحريم، فنحوه في الأعضاء كاليد والرأس والرجل والظهر وغيرها من الأعضاء المتصلة، ونحوه في المحرمات كالأخت والعمة والخالة وغيرها.
__________________
|
#599
|
||||
|
||||
![]() حكم قول: أنت علي حرام أو كالميتة والدم قوله: [أو أنت علي حرام] . هذه الكلمة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرة أقوال لأهل العلم رحمهم الله، وكان يحكي بعض العلماء أن هذه المسألة بلغت عشرين قولا من كلام السلف والخلف رحمهم الله، وهي قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، أو أنت مني حرام. أو: أنت لي حرام. وبعضهم يلحق بها: أنت الحرام، وحرمتك، وأنت محرمة، وعلي الحرام منك، ونحو ذلك. فهذه الألفاظ اختلف فيها، فبعض العلماء يقول: توجب الطلاق. ثم اختلفوا على أقوال: فمنهم من يقول: تقع ثلاث تطليقات. ويروى هذا عن بعض السلف منهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من يقول: طلقة بائنة. ومنهم من يقول: طلقتان، ومنهم من يقول: طلقة إن نوى فيها. ثم قال آخرون: إنه ليس بطلاق، وإنما هو لغو لا شيء على قائله وبه قالت الظاهرية وغيرهم. ومنهم من يقول: إنه يمين يوجب الكفارة. وهذا مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيره. ومنهم من يقول: إنه إذا قال لها: أنت علي حرام فظهار، ويروى عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل. والحقيقة أن هذه المسألة ذكرنا الأقوال فيها والأدلة والمناقشة والردود في باب الطلاق، والصحيح في هذه المسألة أن هذا الكلام ليس بظهار مطلقا، وإنما العبرة بالنية، فإن قال: أنت علي حرام قاصدا الطلاق فطلاق، ثم ينظر في قصده إن قصد الطلقة فطلقة، وإن قصد الطلقتين فطلقتين والثلاث فثلاث، إلا أن فيه وجها أن الطلقة تكون بائنة كطلقة الفسخ. وأما إذا قال: قصدت الظهار فإنه ظهار، وإذا قال: لم أقصد شيئا فالأشبه والأفضل أنه يكفر كفارة يمين خروجا من الخلاف، وهناك وجه بأنه لا شيء عليه؛ لأن الله لم يحرمها؛ لأنه إذا قال: أنت علي حرام لم يوافق الأصل الشرعي، فليست بحرام حقيقة ولا شرعا. فهذا ما يقال في قوله: أنت علي حرام، ويستوي في هذا: أنت حرام، وأنت الحرام، وحرمتك، وأنت علي أو مني أو معي. قال: [أو كالميتة والدم] . قوله: [أو كالميتة] إذا قال لها: أنت علي كالميتة، فهذه ألحقوها بقوله: أنت علي حرام، والحنابلة قياسا يرون قوله: أنت الحرام ظهارا، وعندهم قول الصحابي حجة، فلما أفتى عثمان بأنه ظهار قالوا: إن هذا يدل على أن لفظ التحريم في الأصل يقتضي الظهار، فإذا ذكر محرما كالميتة والخنزير والخمر فشبهها به يكون في حكم الظهار. ومنهم من يقصر على الميتة. لكن الصحيح ما ذكرناه، فإذا قال لها: أنت كالميتة يسأل عن نيته. وعند المالكية رحمهم الله إذا قال لها: أنت كالميتة فإنه طلاق بالثلاث فتحرم عليه. وهذا قول قوي جدا، وهو أنها تكون محرمة عليه بالثلاث، بخلاف قوله: أنت علي حرام، أما أنت علي حرام فتدخل في الاحتمالات؛ لأن الله قال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] ثم قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:2] ، لكن إذا قال لها: أنت كالميتة، فهذا الوجه في تشبيهه إذا قصد به الظهار فظهار، وإذا قصد به الطلاق فطلاق، لكنه أشبه ما يكون أن يقع ثلاثا. لكن لو قال لامرأته: أنت علي كالميتة فهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن القاضي يعزره ويؤدبه، فإذا رأى تأديبه بالسجن سجنه، أو بالضرب ضربه، أو بالتوبيخ وبخه، فلابد أن يزجره؛ لأن هذا مما يوجب التعزير عند العلماء رحمهم الله. قوله: [والدم] كذلك لو قال لها: أنت علي كالدم. قوله: [فهو مظاهر] أي: كل ما تقدم يحكم بكونه مظاهرا. حكم قول الزوجة لزوجها: أنت علي كظهر أبي قال رحمه الله تعالى: [وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته] في هذه الجملة سيبين المصنف رحمه الله أن الظهار لا يصح إلا من الزوج، فلا يصح من الزوجة أن تظاهر من زوجها بأن تجعله في مقام أبيها أو أخيها أو ابنها، أو نحو ذلك ممن هم من القرابة، وعلى هذا جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، واستدلوا بقوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] ، وقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة:3] . فدلت هذه الآية الكريمة على أن الظهار إنما يقع من الزوج لزوجته، ولهذا لو قالت المرأة لزوجها: أنت علي كأبي، أو أنت علي كأخي، أو نحو ذلك فليس بظهار. قوله: (وعليها كفارته) . اختلف العلماء رحمهم الله في الواجب عليها، فجمهور الأئمة على أن المرأة لو خاطبت زوجها وقالت له: أنت علي كأبي قاصدة الظهار، فإنه لغو ولا شيء عليها، فلا كفارة يمين ولا كفارة ظهار، وإنما قالت منكرا من القول وزورا مما لا يعتد به ولا يشتغل به، ولكن لا شك أنها قالت أمرا يحرم عليها قوله، فتستغفر الله وتتوب إليه. وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو قالت لزوجها: أنت علي كأبي، فإنها تكفر كفارة اليمين، كما قاله الإمام الأوزاعي الفقيه الشامي المشهور. وقال بعض العلماء: بل تكفر كفارة الظهار. والصحيح القول الأول: أنه لا كفارة عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على ثبوت كفارة الظهار في الظهار المعتبر، وهذا ليس بظهار، وثبوت كفارة اليمين في اليمين المعتبرة، وهذا ليس بيمين، وبناء على ذلك فإنه لا يصح إلحاقها بالزوج في إيجاب الكفارة عليها. ولذلك لو قال رجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي لزمته الكفارة بالعود -أي: بالجماع- ولم تلزمه لمجرد القول، فما دام أنهم يقولون: إن الظهار لا يقع فمعنى ذلك أنها تعود إلى زوجها، ولذلك يقوى القول بأنه لا تجب عليها الكفارة أصلا، وأن هذا لغو، ولا شيء عليها إلا الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل. وهذا إذا لم تقصد بقولها: أنت علي كأبي التكريم؛ لأنها ربما قالت لزوجها وبعلها -من باب الإكرام-: أنت علي كأبي. أو أرادت أن تعزه وتجله فتقول له: أنت في مقام أخي، أو: أنت علي كأخي، ولا تقصد بذلك تحريما. الأسئلة حكم قول الزوج: أنت علي حرام كحرمة مكة السؤال قول الرجل لامرأته: أنت حرام علي كحرمة مكة، هذا يكون طلاقا أو ظهارا؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالتحريم ذكرنا فيه الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وهنا شبه تحريمها بمحرم؛ لأن مكة لها حرمة، وأصل الحرام مأخوذ من: حرم الشيء يحرم حرمة فهو حرام، والحرام هو الممنوع؛ لأن مكة لها حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) وقال -كما في الصحيحين-: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض) . فهذا يدل على أن لها حرمة، وتشبيه الزوجة بأنها محرمة عليه وممنوعة منه كالممنوع من مكة مما حرم الله عز وجل لا يختلى خلاها ولا يقطع شوكها ولا يسفك بها الدم، هذا وجه شبه واضح من جهة التحريم، فالمعنى فيه كما لو شبهها ببقية المحرمات. وأما هل هو ظهار؟ أم طلاق فهذا يفصل فيه على ما تقدم من خلاف العلماء رحمهم الله في مسألة التحريم، وهو أنه يسأل عن نيته إن قصد به الطلاق فهو طلاق؛ لأنها تحرم عليه وتمنع منه كما حرم أي شيء من المحرمات، فإذا قصد به الطلاق فهو طلاق، وإن قصد به الظهار فهو ظهار؛ لأن المعنى موجود، وإن قصد به اللغو فقال: خرج مني هذا اللفظ ولا أقصد معناه فلغو، لكنه يعزر. والله تعالى أعلم. حكم ثقب إذن المرأة لتعليق الذهب السؤال ما حكم ثقب الأذن للنساء لتعليق الذهب وغيره؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف، لكن جمهور العلماء وجماهير أئمة السلف والخلف على جواز ثقب أذن المرأة من أجل وضع الحلي، والذين قالوا: إنه لا يجوز؛ قالوا لأنه مثله وتعذيب للصبية، وتعذيب للإنسان نفسه إذا كان كبيرا ولأن الزينة مرتبة كمالات، وتعذيب البدن لا يجوز إلا في الضروريات والحاجيات. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز ثقب أذن الصبية، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن أم زرع أنها قالت: (وأناس من حلي أذني) وهذا لا يكون إلا بالقرط المعلق في الأذن، وفي الصحيحين من حديث بلال رضي الله عنه: (فجعلن يلقين من حليهن وأقراطهن) ، والقرط لا يثبت في الإذن إلا بالوخز والحفر، فهذا الدليل يدل على مشروعية وجواز ثقب أذن الصبية، ولا بأس في ذلك ولا حرج فيه. والله تعالى أعلم. حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر السؤال إذا حملت المرأة في الشهر الأول وأرادت أن تسقط حملها لأنها مريضة، هل يجوز لها القيام بذلك؟ الجواب في إسقاط الجنين قبل الأربعة الأشهر الجمهور على أنه لا يجوز؛ إعمالا للأصل، ومن العلماء رحمهم الله من رخص بجواز إسقاط الأجنة قبل الأشهر الأربعة، ومن حيث الأصول الشرعية لا شك أنه لا يجوز التعرض للأجنة إلا بدليل شرعي واضح. وحديث ابن مسعود: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) يدل على أنه خلق، والجمع هذا جزء من الخلق، ولا يجوز التعرض للخلق، والشريعة لا تجيز للأطباء أن يتدخلوا في أبدان الناس إلا في جانبين: الجانب الأول: الطب الوقائي. والجانب الثاني: الطب العلاجي والدوائي. وغير هذين الجانبين لا يجوز للطبيب أن يتدخل في بدن الإنسان، ولذلك نقول: قالوا في تعريف الطب المشروع: حفظ الصحة حاصلة واستبدادها زائلة بإذن الله عز وجل، فقولهم: (حفظها حاصلة) : هذا الطب الوقائي، فالطبيب يعطي المريض إرشادات ونصائح تحافظ على صحته ولا يبتلى بمرض، فهذا من حفظ الصحة حاصلة. وقولهم: (واستبدادها بإذن الله زائلة) كمريض أصابه المرض يعالج، وغير هذين الجانبين عبث، وتدخل في خلق الله عز وجل، واعتداء على حدود الله ومحارمه. فلا يجوز للأطباء أن يقدموا على شيء يخرج عن هذين الهدفين، وما خرج عن هذين الهدفين يعتبر تدخلا في خلق الله عز وجل مثل العبث في الجينات الوراثية، ومثل تغيير صفات الجنين قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف:54] ، فقوله: {ألا له الخلق} [الأعراف:54] هذا أسلوب حصر وقصر، أي: ليس لأحد أن يتدخل في الخلق، فالخلقة للخالق، فهو الذي يصور، وهو الذي يدبر سبحانه وتعالى {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف:54] . فإذا جاء الطبيب يريد أن يتدخل في الخلقة جاءته اللعنة، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة والمتفلجة، وهي المرأة لا تستطيع تفلج أسنانها إلا بطبيب يحسن ذلك، فلعن الله المرأة التي تفعل، ولعن الله من يقوم بذلك الفعل، الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة، كلهن مغيرات للخلقة، ثم قال في: (المغيرات خلق الله) . والطبيب يحافظ على الصحة في الأبدان، ويدفع عنها بإذن الله؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله) ، وأمر إنزال الجنين خرج عن هذا فليس بطب بل هو عبث ومجاوزة للحدود الشرعية، فالخلق إذا تخلق في بطن الأم نقول: فيه تفصيل، ولو كان يعرف الجنين بليلة واحدة، فلا نستطيع أن نقول: افعل أو لا تفعل إلا بنص شرعي، فهذه أبدان لها حرمات، وهذه أمور لا يجوز التسرع فيها؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى كما في الحديث: (فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة) تعظيما منه سبحانه وتعالى لما يفعله المصورون، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون) ؛ لأنه تدخل في الخلقة، ولو بالمشاكلة، فحينما يرسم تمثالا، أو يرسم صورة تأتيه اللعنة ويعذب (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) . فإذا كان هذا في مشاكلة الخلقة فكيف بالذي يتصرف بالخلقة نفسها، فهذه أمور لا تجوز، وهناك أمور ينبغي أن يسلم بها تسليما، فنقول لهم: افعلوا كل شيء فيه مصلحة أو دفع مضرة، فإذا جئتم في أمر خارج عن هذا فليس من اختصاصكم. فإن قال: نريد أن نتصرف في هذا الجنين، أو: نريد أن نسقطه نقول: أعطونا المبررات، كما لو كان خوفا على الأم فعلا وقرر ذلك الأطباء، ويسمى هذا النوع من الحل الحل المنتدب والمهاجر والقانوني. فإن حملت فتخلق الجنين في القناة، وغلب على الظن أنه سينفجر ويقتل الأم ويموت، فلا الجنين باق ولا الأم باقية، فلهذا المعنى يمكن أن يتدخل الطبيب ويسقط الجنين، فلا يتدخل إلا لحفظ النفس المحرمة، ومحافظة على الروح، وهذا له مبرور. فهذا إجراء وقائي وداخل تحت الطب الوقائي، لكن أن يقال: ثبت ومن خلال الجينات والمعادلات أن هذا الجنين مشوه، فإن هذا ليس من اختصاصك، فالكون له رب، والخلق له رب يدبره ويصرفه، فلست أنت الذي تستدرك على الله عز وجل، وكم من مشوه في الخلقة فاق الكامل بصيرة وعلما وخبرة، فـ عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم كان أشل أفطس مولى رحمه الله برحمته الواسعة، فالذي يأخذ ويعطي هو الله، وهذه أمور لها حكم ولها أسرار، فترى شخصا مشلولا فإذا رأيته تذكرت نعمة الله عليك، فهذه أمور لها حكم ترفع درجات المبتلى، وينبه غير المبتلى. وهي أسرار وحكم إلهية ليست من اختصاص الأطباء، والأطباء لهم علم معين محدود لكن هناك أمور إلهية وأمور عقدية، وأمور لها تبعات، ولها أسرار وحكم، ولا يستطيع أحد أن يقف عليها. ولذلك ينبغي أن يتقيد بهذا الأصل، وأقول من ناحية شرعية: إنه ينبغي على الإنسان أن يعلم أنه لا يحل لأحد أن يتصرف في خلقة الله عز وجل إلا بدليل شرعي، فإذا وجد الدليل الشرعي سار وفقا له، فإن قالوا: لا ينفخ الروح فيه إلا بعد مائة وعشرين يوما فهل نفخ الروح شرط في جواز إسقاط الأجنة، بحيث يجوز إسقاطها قبل؟! فأين المسوغ الشرعي للتصرف؟ وفي بعض الأحيان تجرى بعض العمليات بالكشف عن العورة، أو بالإيلاج في العورة، أو بالنظر إلى العورة، فأين الأدلة التي تعطي هذه المبررات؟! حتى إن بعض الأطباء يفتي بالجواز، دون النظر في حقيقة الإسقاط وطريقته والمحاذير الموجودة فيه، فهل كل امرأة جاءت تشتكي من أنها تتألم أو تجد بعض المتاعب في حملها نعطيها حبوبا لمنع الحمل أو نسقط أجنتها؟ فهذا كله مخالف للأصول الشرعية. الأصول الشرعية والضوابط الشرعية ينبغي للأطباء والعلماء أن يتقيدوا بها، وإسقاط الأجنة ليس أمره من السهولة بمكان، وعلى كل عالم أن يذكر الناس بنعمة الله في الولد، أو يذكره بالعقيم الذي لا ينجب، وأن يذكر المرأة بالعقيم التي لا تنجب، وأن المسألة فيها أجور وحسنات، فالحمل كره والوضع كره، فلا يوجد حمل مبني على الراحة والطمأنينة.
__________________
|
#600
|
||||
|
||||
![]() ولماذا جعل الله فضل الأم على الأب مضاعفا؟ ولماذا جعل الله طاعتها من البر والحق؟ وجعل لها رفعة الدرجة حتى جعل النفساء التي تموت في نفاسها شهيدة، فأعلى درجتها ومكانتها لهذه الأمور، وهذه أمور قدرها الله عز وجل لا يتدخل الإنسان فيها طبيبا ولا غيره، حتى الأصول الشرعية العامة تمنع، فعندما يتأمل أي إنسان عنده ذرة من الفقه أن مقصود الشرع تكثير نسل وسواد الأمة يعلم أن هذا مصان. حتى النكاح ما وجد إلا من أجل كثرة الأمة، فكيف يقال: يجوز أن تسقط؟ وبكل سهولة تأخذ المرأة حبوب منع الحمل، وتأخذ ما يسقط الأجنة، وتعمل العمليات التي تسقط الأجنة، وكل هذا بناء على أن الجنين لم يكتمل خلقه إلا بعد مائة وعشرين يوما. مع أن حديث ابن مسعود فيه اختلاف في اللفظ، ويحتمل أن النفخ يكون في الأربعين يوما. وهذا أمر ينبغي أن يدرك، حتى إن بعض الأطباء يستشكل هذا، وعلى كل حال فالذي أريد أن أنبه عليه ألا يتوسع في الفتاوى، وأن تدرس بعمق، وأوصي طلاب العلم -خاصة في هذا الزمن- بعدم قبول أي فتوى طبية تصدر دون أن يكون الذي أفتى بها قد جلس مع الأطباء، ودرس وعرف المصلحة أو المفسدة من تلك الفتوى. وأنا أحببت أن أنبه على هذا لأهمية الأمر، ووالله ثم والله إنه لأمر يحزن أن تجد المسلمين يتناقصون وأعداء الإسلام يكثرون، ففي بلاد الكفر لا يمكن أن تصرف حبوب منع الحمل إلا بوصفات طبية، وتحت إشراف الأطباء، ونحن على عكس ذلك، وهم لا يريدون من المسلمين أن يكثروا. والمرأة تجدها تشتكي تقول: إنها قد كان منها حمل قبل ذلك. ولا تنظر إلى أمها التي حملت أربعة عشر ولدا، ومن النساء من أنجبت عشرين ولدا، وأنجبت وهي ترعى الغنم في الصحراء والقفار، وما ازدادت الأمة إلا عزة ومنعة وكرامة، لكن هذه أمور ينبغي أن تدرس بعناية، وعلى من يفتي فيها أن يكون عنده إلمام ونضج تام بالأمور الشرعية. فالخلقة خلقة الله، والمسألة عقدية يرد فيها اللعن. فالشاهد من هذا كله مدى خطورة الأمر؛ لأنه متعلق بالاعتقاد. والقضية الأخيرة التي أنبه عليها أنه قل أن تجد أحدا يسأل في مسائل إسقاط الأجنة من النساء أو الرجال إلا وجدت عنده خللا في الاعتقاد، إلا من كان له مبرر شرعي. فامرأة لا تريد الولد، وفي الظاهر تقول: الأولاد أتعبوني هي امرأة تنظر إلى المادة وتنظر إلى المال، فينبغي للفقيه أن يدرك وأن يكون بعيد النظر، فهذه ليست مبررات، وكل امرأة تعلم أن هناك تعبا وعناء، لكن المسألة راجعة إلى فساد الاعتقاد. ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: يرد الشرع باللعن على الواشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة بالحسن المغيرة لخلق الله عز وجل؟ قال: لما تأملت وجدت الأمر يرجع إلى الاعتقاد؛ لأن التي نمصت شعر حاجبها، أو شعر وجهها، أو التي تفلجت بحسن كأنها لم ترض بخلقة الله عز وجل لها بهذا الشكل، ولذلك جاء في آخر الحديث: (المغيرات خلق الله) ، فجعل الأمر راجعا إلى محبة تغيير الخلقة. فعلى كل حال علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نعلم علم اليقين أن ما نقول عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك سنحاسب عنه، وأن المسائل الاجتهادية والأمور التي تنبني على الرأي ينبغي أن تفهم، وأن يكون هناك تصور كامل للوقائع والنوازل، وألا تستغل الفتاوى، وأن يكون هناك علم وبصيرة عند تناول المسائل، خاصة المستجد منها. ومن الأمور التي ينبغي للفقيه والعالم أن يدركها أنه كلما أكثر من الجلوس مع الأطباء تكشفت له أمور لم تكن له بالحسبان، وقد تجد أقوالا متناقضة، فتجد الأول يقول لك: هذه عملية بسيطة، وما فيها شيء، ونسبة النجاح فيها (90%) ، وتجد الثاني يقول لك: هذه عملية خطرة، ونسبة النجاح فيها (30%) . فتجد التضارب الذي تستطيع أن تصل به إلى الحق في الأمر، وتكون أنصح للأمة وأتقى في فتاويك وفي أقوالك، وأنا أوصي بذلك طلاب العلم؛ لأن بعض الناس أصبح يتس حكم قضاء الوتر وقت الضحى واندراج الضحى في القضاء السؤال رجل فاته الوتر من الليل ثم قضاه بعد طلوع الشمس -أي: في وقت الضحى- فهل يقوم قضاؤه هذا مقام صلاة الضحى أم لا؟ الجواب النوافل تنقسم إلى قسمين: نوافل مقصودة، ونوافل غير مقصودة. فالنوافل المقصودة التي يتحقق مقصود الشرع في الاندراج فيها يحكم فيها بالاندراج، والنوافل التي لا يتحقق بها مقصود الشرع في الاندراج لا يحكم فيها بالاندراج. فمثلا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك ... ) الحديث، فلو صلى الضحى، أو صلى راتبة الظهر القبلية أو البعدية، وبعدها استخار يصح؛ لأنه قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة) . وقال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) ، فلو دخل وصلى راتبة الظهر القبلية أجزأت عنه؛ لأن مقصود الشرع ألا يجلس حتى يصلي، لكن إذا كان مقصود الشرع الراتبة بعينها -أي: للنافلة بعينها- فبالاندراج لا يحصل مقصود الشرع، فلا يحكم بالاندراج. ومن ذلك: مسألة الوتر، فإن الوتر إذا قضي في النهار يشفع، فيضيف ركعة واحدة ويصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها- صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة. فدل على أن قضاء الوتر في النهار يكون شفعا، فإذا صلى الوتر فالصلاة ليلية في الأصل وليست بنهارية، ومقصود الشرع في كلا الصلاتين معتبر، فلليل صلاته وللنهار صلاته، وحينئذ لا يحكم بالاندراج، فيصلي الضحى بركعتين خاصتين على الأقل، وإن شاء أن يزيد بأربع، أو ست، أو ثمان إلى اثنا عشر فإنه أفضل وأكمل، وأما للاندراج فإنه لا يتحقق في مسألة قضاء الوتر. والله تعالى أعلم. حكم إعطاء الزكاة في شراء بضاعة لمن لديه بقالة بها بضاعة قليلة حتى يتحسن دخله السؤال أخي معاشه لا يكفيه هو وعائلته، وعنده بقالة بها بضاعة قليلة، فهل يجوز أن أعطيه من زكاة المال لكي يشتري بضاعة للمحل فيتحسن دخله ومعاشه؟ الجواب لا يجوز صرف الزكاة لأخيك إلا إذا أصابه النقص في نفقته على ولده، فتعطيه المال من باب استخدامه في الإعانة ثم هو وشأنه إن أراد أن يصرفه في الدكان، أو أراد أن يصرفه في تجارة، لكن لا تشتر أنت له البضاعة، ولا تقل له: خذ هذا المال واشتر به بضاعة. فإذا كان الأخ عنده -مثلا- مال، أو سيارة يستخدمها أجرة، ودخله في اليوم -مثلا- ثلاثون ريالا، وهو مع أسرته يحتاج إلى خمسين ريال، فالعجز عنده يصل إلى العشرين، ففي هذه الحالة تعطيه زكاة تغطي هذا العجز، وكونه يملك هذا الشيء لا يمنع أن يكون من أهل الزكاة؛ لأن الله تعالى يقول: {أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف:79] ، فأثبت أنهم مساكين مع أنهم يملكون سفينة. وهذا يدل على أن الأمر يتأثر بالعرف، فإذا جرى العرف أنه يكون في حدود المسكنة فهو مسكين، فإذا كان لا يكفيه دخل الدكان تعطيه من الزكاة على أنه سد لعوزه وعجزه، والفرق بين كونك تعطيه على أنه سد لمسكنة أو فقر وكونك تعطيه من أجل الدكان أنه ربما كان الدكان يحتاج لإصلاحه إلى خمسة آلاف ريال، وهو في عجزه يحتاج إلى ألفين، فحينئذ واجب أن تعطيه الألفين ولا تعطيه الثلاثة الآلاف الزائدة، وإذا أعطيته الثلاثة الآلاف وجب عليك قضاؤها؛ لأنها ليست بزكاة. فهذا إذا كان عنده عجز، لكن إذا كان يريد أن يشتري بضاعة هناك حل آخر، وهو أنه يمكن أن يتحمل ليشتري هذه البضاعة ويستدين بالدين، فإذا وقع في الدين وكان هذا في حدود ما يصرح به دون زيادة فإنه في هذه الحالة يجوز أن تسدد من دينه على قدر حاجته وسد عوزه، وهذا من باب سهم الغارمين، فتعطيه سدادا لدينه من جهة الغرم؛ لأن الغرم إذا كان لسبب شرعي ليس فيه سفه أو حرمة فإنه يجوز صرف الزكاة سدادا للدين فيه. والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين إنكار المنكر وستر المسلم السؤال كيف نميز بين إنكار المنكر وستر المسلم؟ الجواب يمكن أن تنكر المنكر وتستر، فإذا رأيت عاصيا ارتكب معصية وأطلعك الله على معصيته. جئته وقلت له: يا فلان اتق الله! فهذا الذي تفعله لا يجوز، ولا يرضي الله عز وجل، فخف من الله سبحانه وتعالى. فتأمره وتنهاه، ثم تستره، فلا تذهب تقول للناس: فعل فلان. وهنا أنبه -كما يذكر بعض العلماء رحمهم الله- أنه كم من مذنب شقي الصالح بذنبه، فتجده مذنبا لكنه في قرارة قلبه نادم، ويتألم على هذا الذنب، ويتمنى أن الله يعافيه، ويبكي كلما أصاب الذنب، ويسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه، وآخر يشمت به، ويكشف ستر الله عز وجل عليه، ويجلس في المجالس يتحدث عنه إما تصريحا وإما تلميحا، حتى -والعياذ بالله- يأخذ من حسناته على قدر ظلمه له حتى يشقى والعياذ بالله. فهذا من الشقاء؛ لأنه -والعياذ بالله- يتحمل السيئات بشماتته بالمذنب، فهذه مصيبة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية، فيخسر من حسناته، ولربما فنيت حسناته بالكلام في الناس، كما قالوا: رب قائم صائم حسناته إلى غيره، نسأل الله السلامة والعافية، وكل هذا بآفات اللسان التي يطلقها الإنسان في عورات المسلمين دون رادع وخوف. وأعظم ما يكون كشف الستر إذا كان في الأمانات، فلو جاء شخص وبث له سرا من أسراره فإن تكلم بذلك وأخبر به فقد خان وضيع الأمانة، ووزره عظيم، وبعض أئمة المساجد والخطباء يأتيه المذنب ويتكلم معه، فيذهب يقول: فلان يفعل. وهذا من أعظم الذنوب، ومن أعظم الخيانة للأمة. وحدث للوالد رحمة الله عليه حادثة ذات مرة أنه كان معه شخص يستفتيه في مسألة، وكنت صغير السن، فسألته عن بعض ما استفتاه، فقال لي: يا بني! والله لو ضربت مني هذه ما أخبرتك، فهذه أسرار وعيوب الناس. فوالله ما نشأت من الصغر إلا وأنا أستشعر هذه الكلمة، وقل أن يأتي أحد عنده مشكلة زوجية، أو أمر خاص إلا تذكرت قوله: لو تضرب مني هذه ما أفشيت منها سرا. فهذا أمر عظيم جدا، فالذي يكتب للقاضي عليه أن يتقي الله، وأي شخص يبتلى بمسئولية أمام الناس فتأتيه أسرارهم فلا يهتكها، ولو كانوا عصاة، ولو كان مجرمين فلا تتكلم فيهم وتهتك ستر الله عز وجل عليهم. ولذلك لما تنتشر الأخبار بالسيئات يدمر المجتمع، ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إنكم تسمعون عن الرجل زلة فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام. فالله ستير، ويحب الستر من عباده، وهو الذي ستر المذنب وأمده بعفوه وعافيته، وهو قادر أن يخسف به الأرض التي هو عليها. فالمقصود أن الإنسان دائما يحرص أن ينكر المنكر وأن يستر أخاه المسلم، ولذلك لما جاء ماعز واعترف بأنه زنا -وقد حرضه قومه على ذلك حتى جاء- قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (هلا سترته بثوبك) . فالله يحب الستر على عباده وأمر بالستر، فالإنسان يمكنه أن ينكر المنكر ويستر أخاه المسلم، حتى لو أنك جلست مع أخيك لحظة ورأيت فيه عيبا في كلامه، أو ملاحظة عليه في شيء فلا يجوز لك أن تخون هذه الأمانة، وإذا استأثر بك ودخلت عليه في غرفته وسكنه، ورأيت أمورا خاصة، فهذه كلها أسرار، وما قام الدين إلا على التعظيم لحرمات الله عز وجل، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم حافظون لحدود الله عز وجل فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس. ومما يعينك على أنك تستر الناس أن تنزل نفسك منزلة هذا الرجل، أو أن تنزل المرأة نفسها منزلة هذه المرأة، فما الذي تحب منها، وما الذي تنتظر منها؟ ولذلك أحب الله الستر، ومن حبه سبحانه للستر أنه يستر من ستر عباده، وأعان من سترهم. حتى إن الشخص يستر فيأتيه الشيطان يقول له: تكلم، وقل كذا، فيأتيه الشيطان يأزه لأجل هذا، فالله يمده بعونه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فالله يعينك في مدة عونك لأخيك، فمن عونك لأخيك أنه كلما رأيت أمرا فيه خير لأخيك المسلم وجب عليك أن تفعله، والشيطان يمنعك من فعله ويأتيك بمبررات، حتى إن الشيطان في بعض الأحيان يسول للإنسان المعصية باسم الطاعة، وهذا أمر -نسأل الله السلامة والعافية- يزين فيه سوء العمل ويجعله حسنا. فعلى كل إنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الستر يحبه الله عز وجل، وكم من قضايا نعرفها والله ما صلحت أحوال أهلها إلا بفضل الله ثم بالستر، وكم من بيوت استقامت، وكم من أسر حفظت، حتى إن رجلا كان مبتلى -والعياذ بالله- بشرب الخمر، وشاء الله عز وجل أن يقع في يد رجل صالح وكان من أسرة طيبة، فكاد أن يفضح، فقام هذا الرجل الصالح وستره قبل أن تبلغ الحدود إلى السلطان، فقام وستره ونصحه وذكره بالله عز وجل، ثم رده إلى بيته وهو في حال السكر، ولما أصبح الرجل وعلم بالحقيقة جاء إليه وبكى عنده، وعاهد الله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، واهتدى وصلح حاله، وهذا بفضل الستر عليه. وكل العلماء متفقون مجمعون على أن الرجل لو رأى رجلا يزني بامرأة في ستر الله عز وجل فالأفضل والأكمل ستره ما لم يكن فاجرا ينشر الفاحشة، أو امرأة -والعياذ بالله- تقود إلى بيتها وتفتح بيتها للدعارة، أو نحو ذلك من المعاصي التي ينتشر خطرها كالمخدرات ونحوها، فهذه لا تستر، ولا يجوز الستر عليها، ولا التستر على أهلها. فنحن نتكلم عن شخص وقع في معصية وذنب فيما بينه وبين الله، من شرب خمر، أو زنا، أو نحو ذلك فابتلي بهذا الشيء، فهو يحتاج إلى ستر، ويحتاج إلى أن تهيئ له الأسباب، فالله يحب الستر، ولا تغتر بالطاعة وأنت تنعم في نعم الله عز وجل فرحا بما أعطاك الله عز وجل، وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وتحس أن أخاك يقوده الشيطان ويأزه إلى الباطل أزا، فتمد له يدا أمينة صالحة تنقذه فيها لعل الله عز وجل أن يحجبك بهذا العمل عن النار. إن العبد ليعمل العمل من طاعة الله عز وجل يكون سببا في دخوله للجنة، وربما يحبه الله بسبب هذا العمل ويكون سببا في دخوله الجنة، ومن أفضل الأعمال وأحبها عند الله -كما قرره أئمة الإسلام رحمهم الله- الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين. ولذلك جعل الله فضل العلم على العبادة عظيما؛ لأنه متعد إلى الآخرين ونفعه ديني، ولذلك صرف الله النار عن عبد قاضى الناس وأعطى الناس دينا، فكان يرحمهم إذا أراد السداد، فتعدى نفعه إلى غيره، فكفاه الله عز وجل ما أهمه، وغفر له ذنبه، وقال: (يا ملائكتي نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عن عبدي) . فالإنسان إذا أحسن إلى الناس فالله سبحانه وتعالى لا ينسى المعروف، وقد قيل: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان فتأسر قلوب الناس بالمحبة لك، فإن كنت إماما أحبوك، وإن كنت واعظا رضوا بك، وإن كنت موجها قبلوك، وكل هذا بفضل الله عز وجل؛ لأنه ما يستر إلا من سكنت الرحمة في قلبه، وهل الإسلام إلا دين الرحمة قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] . فـ ماعز جاء يقول: (يا رسول الله! إني أصبت حدا فطهرني -كما في صحيح مسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) وأربع مرات يصرفه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دين الرحمة ودين الستر، فعلى المسلم أن يحرص على هذه الأعمال الصالحة الطيبة المباركة، ولا يزال العبد بخير ما نوى الخير وفعله لإخوانه المسلمين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ونسأله بعزته وجلاله أن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |