أقسام القلوب - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 1151 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21817 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20434 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 86 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 76 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          فشكر الله له فغفر له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          وتعاونوا على البر والتقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم يوم أمس, 05:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي أقسام القلوب



أقسام القلوب

إبراهيم الدميجي

الحمد لله كثيرًا، أما بعد:
فللقلب شأنٌ عظيم في حياة صاحبة ومعيشته وتصوُّره، وعقله وإيمانه وإرادته ومصيره، ففيه العلم والإيمان والإرادة والقرار، فهو الآمر الناهي والناقد البصير، والملك المسلَّط، وعليه وقع الابتلاء الرباني، فمن أصلح الله قلبه أفلَح وأنجح، ومن فسد قلبه فقد خاب وخسِر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


ولقد ذكر ابن القيم رحمه الله قول المسيح عليه السلام للحواريين: "إنكم لن تَلِجوا ملكوت السماء حتى تولَدوا مرتين".


وذكر أن أرواح المؤمنين وقلوبهم وُلدت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولادة أخرى غير ولادة الأمهات، فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي، إلى نور العلم والإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهد دقائقَ أُخَر وأمورًا لم يكن لها به شعورٌ قبله؛ قال تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1]، ثم قال: «والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلب لا يولَد ولم يأْنِ له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال، وقلب قد وُلِدَ وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة، وتخلَّص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرَّت عينُه بالله، وقرت عيونٌ به وقلوبٌ، وأنِست بقُربه الأرواح، وذكَّرت رؤيته بالله، فاطمأنَّ بالله، وسكن إليه، وعكَف بِهِمته عليه، وسافَرت هِممُه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يَقَرُّ بشيء غير الله، ولا يَسكُن لشيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضًا، ولا يجد من الله عوضًا أبدًا، فذِكرُه حياةُ قلبه، ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قُوتُه، ومعرفته أُنسه، عدوُّه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا، ووليُّه مَن ردَّه إلى الله، وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا.


فهذان قلبان متباينان غاية التباين، وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحًا ومساءً، قد أصبح على فضاء التجريد، وآنَس من خلال الديار أشعةَ التوحيد، تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربًا إلى مَن السعادة كلها بقربه، والحظُّ كلُّ الحظ في طاعته وحبِّه، وتأبى غلبات الطباع إلا جذبَه وإيقافَه وتعويقَه، فهو بين الداعيين تارة وتارة، قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفَلَوات»[1].


إذًا فالقلوب ثلاثة: سليم صحيح، وقاسٍ ميت، ومريض سقيم.

الأول: القلب السليم:
فالقلب الأول هو القلب السليم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]؛ أي: خالص متجرِّد من الشرك، لا تشوبه شائبة مِن شركٍ، أو نفاق، أو رياء.


قال ابن القيم رحمه الله: «فالسليم هو السالم، والقلب السليم هو الذي قد صارت السلامة صفةً ثابتة له، كالعليم والقدير، وأيضًا فإنه ضد المريض، والسقيم، والعليل.


وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلِم من كل شهوة تُخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تُعارض خبره، فسلِم مِن عبودية ما سواه، وسلِم مِن تحكيم غير رسوله، فسلِم من محبة غير الله معه، ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقية العبودية التي لا تَصلُح إلا لله وحده.


فالقلب السليم: هو الذي سَلِمَ أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما، بل خلصت عبوديته لله تعالى؛ إرادةً ومحبةً، وتوكلاً، وإنابةً، وإخباتًا، وخشيةً، ورجاءً، وخلص عملُه لله، فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغض أبغَض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منَع لله، ولا يكفيه هذا حتى يَسلَم من الانقياد والتحكيم لكل مِن عدا رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فيَعقِد قلبه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحدَه، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب وهي العقائد، وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دِقِه وجلِّه، هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدَّم بين يديه بعقيدة، ولا قول ولا عملٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.


قال بعض السلف: ما من فَعْلَةٍ وإن صغُرت إلا يُنشَر لها ديوانان: لِمَ؟ وكيف؟ أي: لِم فعلت؟ وكيف فعلت؟


فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: سؤال عن المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه لا يقبل عملًا إلا بهما.
فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة[2]. فهذه حقيقة سلامة القلب الذي ضُمنت النجاة له النجاة والسعادة»[3].

الثاني: القلب الميت:
والقلب الثاني: هو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربَّه، ولا يعبُده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته وإرادته، ولو كان فيها سخطُ ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظِّه، رضي ربُّه أم سخط، فهو متعبد لغير الله حبًّا وخوفًا ورجاءً ورضًا وسخطًا وتعظيمًا، وذلًّا، إن أحب أحبَّ لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهو آثرُ عنده وأحبُّ إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائسه، والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمورٌ، وبسكرة الهوى وحبِّ العاجلة مخمورٌ، يُنادَى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيدٍ، فلا يستجيب للناصح ويتَّبع كل شيطان مريد، الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يُصِمُّه عما سوى الباطل ويُعميه، فهو في الدنيا كما قيل في ليلى:

عدوٌّ لمن عادت وسِلمٌ لأهلها
ومَن قرَّبت ليلى أحَبَّ وأَقْرَبا



فمخالطة صاحب هذا القلب سقم، ومعاشرته سُمٌّ، ومجالسته هلاك»[4].


قال القرطبي رحمه الله: «وصف الله قلوبَ الكفار بعشرة أوصاف: بالختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرَّين، والموت، والقساوة، والانصراف، والحميَّة، والإنكار، فقال في الإنكار: ﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22]، وقال في الحميَّة: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح: 26]، وقال في الانصراف: ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [التوبة: 127]، وقال في القساوة: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22]،﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74]، وقال في الموت: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام: 122]، وقال: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 36]، وقال في الرَّين: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، وقال في المرض: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10]، وقال في الضِّيق: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، وقال في الطبع: ﴿ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3]، وقال: ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155]، وقال في الختم: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7]»[5].


الثالث: القلب المريض:
فالقلب المريض له حياة وبه علةٌ، فله مادتان تمدُّه هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لِما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد، والكبر، والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، ما هو مادة هلاكه وعَطَبِه، وهو مُمتحن بين داعيين؛ داعٍ يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأدناهما إليه جوارًا.


فالقلب الأول: حي مُخبت ليِّنٌ واعٍ.
والثاني: يابس ميت.
والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أَوفى، وإما إلى العطب أَولى.


وقد جمع الله تعالى بين هذه القلوب الثلاثة في قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج: 52 - 54].


فجعل الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبًا ناجيًا، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي، والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه، وهو المطمئن إليه، الخاضع له، المستسلم المنقاد.


وذلك أن القلب وغيره من الأعضاء يُراد منه أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفة به؛ ليتأتَّى منه ما هيِّئ له وخُلق لأجله، وخروجه عن الاستقامة؛ إما ليُبسه وقساوة، وعدم التأتي لما يراد منه؛ كاليد الشَّلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذَكَر العِنِّين، والعين التي لا تُبصر شيئًا، وإما بمرض وآفة فيه تَمنعه من كمال هذه الأفعال، ووقوعها على السداد، فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة:
فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره، سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.


والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.


والقلب المريض: إن غلب عليه مرضُه، التحق بالميت القاسي، وإن غلبت عليه صحته، التحق بالسليم.


والشيطان يلقي الألفاظ في الأسماع والشُّبه والشكوك في القلوب فتنةً لهذين القلبين وقوةً للقلب السليم الحي.


قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها، نُكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكَرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض»[6].


فشبَّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا، بعرض عيدان الحصيرة - وهي طاقاتها - شيئًا فشيئًا، وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين:
قلب إذا عُرِضت عليه فتنة أُشربها، كما يشرب السفنج الماء، فتُنْكَتُ فيه نكتةٌ سوداء، فلا يزال يَشرَب كلَّ فتنة تعرض عليه حتى يسودَّ وينتكس، وهو معنى قوله: «كالكوز مُجخيًا»؛ أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودَّ وانتكس، عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك والعطب:
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم فيه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلًا، والباطل حقًّا.


الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.


وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحُه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردَّها، فازداد نوره وإشراقُه وقوته.


والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد.


وقد قسم الصحابة رضي الله عنهم القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «القلوب أربعة: قلب أجْرَدُ، فيه سراج يُزهِرُ، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عرَف ثم أنكر، وأبصر ثم عَمِيَ، وقلب تُمدُّهُ مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، فأيهما غلب كان الحكم له».


فقوله: «قلب أجرد»؛ أي: متجرد مما سوى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد تجرد وسَلِمَ مما سوى الحق، وفيه «سراج يزهر»، وهو مصباح الإيمان: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35]، فقلبه أجرد[7]؛ لسلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وفيه سراج يزهر فهو مشرق مستنير بنور العلم والإيمان.


وأشار بـ«القلب الأغلف»: إلى قلب الكافر، والأغلف هو الذي يلف عليه غلاف[8]؛ كما قال تعالى عن اليهود: ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155]، وغلف جمع أغلف وهو الداخل في غلافه، وهذه الغشاوة هي الأكنَّة التي ضربها الله على قلوبهم؛ عقوبةً لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله؛ فهي أكنَّةٌ على القلوب، وَوَقْرٌ في الأسماع، وعمى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 45، 46]، فإذا ذُكِرَ لهذه القلوب تجريد التوحيد، وتجريد المتابعة، ولَّى أصحابها على أدبارهم نفورًا.


وأشار بـ«القلب المنكوس» - وهو المكبوب - إلى قلب المنافق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88]؛ أي: نكسَهم وردَّهم في الباطل الذي كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة، فهذا شرُّ القلوب وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل حقًّا ويوالي أصحابه، والحق باطلًا ويعادي أهله، فالله المستعان.


وأشار بـ«القلب الذي فيه مادتان» إلى القلب الذي يتمكن فيه الإيمان، ولم يُزهِر فيه سراجه، حيث لم يتجرَّد للحق المحض الذي بعَث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب، وإليه يرجع[9].


وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.


[1] المصدر السابق، إحسان السلوك (ص113).

[2] لو قال «الاتباع» لكان أَولى من المتابعة، وكلاهما صحيح، فهي ألصق معنًى بالاستنان والائتساء والاهتداء، وقد جاء بها القرآن العزيز: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وللمتابعة معان أخر غير مراد المصنف، أما الاتباع فليس سوى محض الاقتداء به.

[3] إغاثة اللهفان ــ بتصرف ــ (ص43).

[4] إغاثة اللهفان (ص44).

[5] تفسير القرطبي (ص168).

[6] رواه مسلم (144).

[7] في القاموس: الجَرَدُ: فضاء لا نبات فيه (ص265).

[8] في القاموس: قلب أغلف: كأنما غُشي غلافًا فهو لا يعي (ص1272).

[9] إغاثة اللهفان ــ بتصرف ــ (1/ 45)، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (10/ 452).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 92.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 90.63 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]