إنهم لن يضروا الله شيئا - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 856 - عددالزوار : 204001 )           »          محدّدات التعامل السوري مع الاحتلال في واقع مضطرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ترامب وقنابل التغيير هل نجح في تدمير حُلم الهيمنة الإيراني؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          القتال بين باكستان والهند تقييم إستراتيجي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الأقليات المسلمة بين اللامبالاة والعاطفة الموقوتة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          تسليط ظالم على ظالم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مرصد الأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          مفهوم النصر في الإسلام في ضوء صلح الحديبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          المنديل الأخضر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الْمُسَاكَنَة في الْمِيزان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 30-06-2025, 12:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,952
الدولة : Egypt
افتراضي إنهم لن يضروا الله شيئا

إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا

د. خالد النجار
قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 176].

أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله -عز وجل- أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهر مخبآتهم، وعاد تلويحهم صريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم.

﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِيدخلون في الكفر مسرعين من غير تريث وتدبر وتفكير، ويحرصون على أعماله، وينتقلون من درجة إلى درجة، فينتقلون من الضلال والجحود إلى التضليل ومن التضليل إلى الفتنة ثم القتال، فضلا عن التدبير الخبيث والمكر السيئ.. فهم يتوغلون فيه ويعجلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص.

وهي استعارة تمثيلية:
شبه حال حرصهم وجدهم في تكفير الناس وإدخال الشك على المؤمنين وتربصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع إلى تحصيل شيء يخشى أن يفوته وهو متوغل فيه متلبس به.

والمعنى: لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله، وذلك من شدة حرصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الناس فكان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق.

قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة؛ ولكن النبّي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8] وقال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6].

﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا نكرة في سياق النفي، تفيد العموم، أي: لن يضروا الله أي شيء في ذاته ولا في ملكه ولا في أسمائه وصفاته ولا في غير ذلك.. والآية تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم إلى الكفر.

روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ: (قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ).

وقال عطاء: يريد أولياء الله.

وقال المهايمي: أي: لن يضروا أولياء الله، لأنهم يحميهم الله، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجزيهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً.

وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه، وفيه مزيد مبالغة في التسلية.

وقيل: المنفي هنا ضرر خاص، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ، فهذا لن يقع أبداً، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم.

قال ابن عاشور: نفي أن يعطلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدين كله، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك، فنهى الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة، وبين له أنهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله، تذكيرا له بأنه وعده بأنه متم نوره.. وإذا انتفى إضرارهم لله انتفى إضرارهم للمؤمنين فيما وعدهم الله.

فإن قيل: إن الله قد أثبت أن بعض عباده يؤذيه كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:57] وفي قوله في الحديث القدسي: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [البخاري].

فنقول أنه لا يلزم من الأذية الضرر، فقد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر به أرأيت لو صلى إلى جانبك أو جلس إلى جانبك رجل قد أكل بصلاً وثوماً فإنك تتأذى برائحته ولكن لا تتضرر، فلا يلزم من الأذية الضرر، وحينئذ لا معارضة بين نفي الضرر عن الله عزّ وجل وإثبات الأذية.

﴿يُرِيدُ اللَّهُاستئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة، بعد أن بين السلامة من كيدهم في الدنيا.

﴿أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا الحظ: النصيب من شيء نافع﴿فِي الْآخِرَةِمن الثواب في الآخرة. فكفرهم ليس مراغمة لله سبحانه حتى تحزن، وإنما هو بإرادته لأنه أراد ألا يكون لهم حظ من الخير في الآخرة.

﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌذو عظمة، وعظمة كل شيء بحسبه؛ فقوله تعالى: ﴿سُبْحَنَكَ هَذَا بُهْتَانُ عَظِيمٌ [النور:16] كلمة عظيم هنا من باب الذم، وقوله: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] من باب المدح.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُااستبدلوا ﴿الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِإما بأخذه بدلاً من الإيمان الحاصل بالفعل، كما هو حال المرتدين، أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم.

والكفار ابتداء كان اختيارهم للكفر أخرجهم من الفطرة التي كانوا عليها، وهي التوحيد، فهم اشتروا الكفر بعد الإيمان الفطري.

وهذه أَخْسَرُ صفقة على وجه الأرض أن يأخذ الإنسان الكفر بالإيمان طائعاً طيبة به نفسه والعياذ بالله.

وفي هذا دلالة على أمرين:
أولهما: أن الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه، فكان هذا دليلا على تمكن الضلال، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب أن يكون متوقعا، فيهون أمره، ويضعف في النفس أثره.

ثانيهما: أن الإيمان في ملك كل إنسان، وهو الأصل الذي يجب أن يهتدي إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته، فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق، فإذا فتح قلبه للكفر، فقد باع أغلى شيء في الوجود، وهو الإيمان، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر.

﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًافيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم، كأنه قيل: وإنما يضرون أنفسهم.

فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده، ببيان علته، بتغيير عنوان الموضوع، وتصريح بلحوق ضرره بأنفسهم، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلاً، كيف وهو علم في الخسران الكلي، والحرمان الأبدي، دال على كمال سخافة عقولهم، وركاكة آرائهم، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم، ورزانة الرأي، ورصانة التدبير، من مضارة حزب الله تعالى.. فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريراً للقواعد الكلية، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام.

أو المعنى ليس في طولهم ولا في طاقتهم أن يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف، أي وتقديره دين الله أو رسوله أو المؤمنين بالله، وفي حذف المضاف إشارة إلى أن ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين.

﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم، بذكر غاية إيلامه، بعد ذكر نهاية عظمه. فهنا قال: إنه أليم، وهناك قال: إنه عظيم، فيجتمع في عذابهم -والعياذ بالله- العظيم والأليم، وأليم هنا بمعنى مؤلم وليس بمعنى شديد.

وقيل: لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة، وبتألمه عند كونها خاسرة، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك.

﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ[آل عمران: 178].

قد يرد على الخاطر: إذا كان أمر الله هو الغالب فَلِمَ يترك هؤلاء الكفار في شيء من النعيم تارة وبعض الانتصارات والعلو تارة أخرى.. فقال سبحانه:
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّالنهي عن الظن متجها للذين كفروا.. وفي قراءة ولا تحسبن ويكون الخطاب بالنهي متجها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمته.

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْالإملاء: الإمهال في الحياة، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول في المرعى، وهو مأخوذ من الملو وهو سير البعير الشديد، ثم قالوا: أمليت للبعير والفرس إذا وسعت له في القيد لأنه يتمكن بذلك من الخبب والركض.

أي: نملي لهم بتطويل أعمارهم وإمهالهم عن العقوبة وتخليتهم وشأنهم دهراً طويلاً. كقوله تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]

﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْبل هو سبب مزيد عذابهم.

﴿إِنَّمَا نُمْلِينطول أعمارهم.

﴿لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًاإلى إثمهم، بكثرة المعاصي فيزدادوا عذاباً، فهم -والعياذ بالله- لا يستفيدون من دنياهم، وإنما يزدادون فيها كفراً فيكون أخذهم به أشد.

والآية استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء، خيرا، أي ما هو بخير لأنهم يزدادون في تلك المدة إثما.

واللام لام العاقبة كما هي في قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً [القصص:8]

﴿وَلَهُمْ في الآخرة ﴿عَذَابٌ مُهِينٌذو إهانة في أسفل دركات النار.. وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر، وصف عذابهم بالإهانة، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقاً.

كقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56]، وكقوله: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44]، وكقوله: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

روي عن ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال: "ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له؛ لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198] وإن كان فاجرا فقد قال الله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً".

والآية نص في بطلان مذهب القدرية؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان.

والإملاء لزيادة الإثم مشروط باستمرارهم على الكفر، لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم، فالإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق، وبإيمانهم تنتهي هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر، فبانتهائه تزول الزيادة، بل يغفر الله -سبحانه وتعالى- ما سبق كما قال جل شأنه: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ [الأنفال:38].

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].


﴿مَا كَانَ اللَّهُاستئناف ابتدائي، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أحد من الحكم النافعة دنيا وأخرى.

﴿لِيَذَرَليترك ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِمن الالتباس بالمنافقين، بل لا يزال يبتليكم.

أي: أن هذا ممتنع غاية الامتناع على الله عزّ وجل، وهذا الامتناع ليس امتناعاً لعدم المقدرة عليه، فهو قادر، لكنه امتناع شرعي، أي: يمتنع بحسب ما تقتضيه حكمته سبحانه.

﴿حَتَّى يَمِيزَمزت الشيء أميزه إذا فرقت بين شيئين. ومنه امتاز القوم، تميز بعضهم عن بعض. ويكاد يتميز: يتقطع؛ وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:8]

﴿الْخَبِيثَالمنافق ﴿مِنَ الطَّيِّبِالمؤمن الخالص من النفاق.

فلا بُد أن يعقد سببا من المحنة والتكليف، يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه. يُعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر. يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهتك به ستر المنافقين، فظهر مخالفتهم ونُكُولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله.

وفي التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما، بما يليق به، وإشعار بعلة الحكم.

وإفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لاسيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما -أعني: المؤمنين بصيغة الجمع- للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، كما في مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف.

وفيه بيان رحمة الله عز وجل بعباده حيث لا يتركهم هكذا يشتبه بعضهم ببعض، بل لا بد من تميز هذا عن هذا. وبيان حكمة الله عز وجل في أفعاله وشرعه أيضاً.

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر.. أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم، ولكن لا يميز إلا بهذا الابتلاء الكاشف. لأنه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسسا على استفادة المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها.

يذكر أن منجما كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم.

فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب أيضا فأخطأ؛ فقال: أيها الأمير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال لا: قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.

﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِييختار ويصطفي﴿مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُباطلاعه على بعض الغيب، كما أوحى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما ظهر منهم من الأقوال والأفعال، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويخلصكم من سوء جوارهم.

والجملة استدراك حتى لا يجعله المنافقون حجة على المؤمنين، في نفي الوحي والرسالة، فيكون المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلا ما أطلع عليه رسوله فيكون كاستثناء من عموم ﴿ليطلعكم.

قال ابن القيم: هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، كما قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله. التعرض للاجتباء للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل، تقاصرت عنه همم الأمم، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين، له أصل أصيل، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام.

﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِالذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال.

خطابا للمؤمنين المقصود منه الإيمان الخاص، وهو التصديق بأنهم لا ينطقون عن الهوى، وبأن وعد الله لا يخلف، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان، لأن الحالة المتحدث عنها قد يتوقع منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين.

وتعميم الأمر في قوله تعالى: ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل، لأنه مُصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء بصحة نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً.

﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوافتصححوا الاعتقادات﴿وَتَتَّقُوافتصلحوا الأعمال.

﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌيعني ثواباً، وسمّى الله الثواب أجراً من باب التكرم والتفضل كأننا نحن مستأجرين أدينا العمل، فنطالب بالأجرة، مع أن الحق لله علينا لكنه -عز وجل- أوجب على نفسه أنه: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء:123-124]


﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[آل عمران:180].

لما بالغ تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع ههنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه.

﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَالظاهر أن هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين، فإنهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما حكى الله عنهم في سورة النساء بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [37] وكانوا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وغير ذلك، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض من المسلمين لأن المسلمين يومئذ مبرؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان، ولذلك قال معظم المفسرين: إن الآية نزلت في منع الزكاة، أي فيمن منعوا الزكاة، وهل يمنعها يومئذ إلا منافق. ولعل مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أن بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أحد.

والبخل في اللغة:
أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه. فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل؛ لأنه لا يذم بذلك.

عن جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟) قُلْنَا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبْخِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمَوحِ). قَالَ: وَكَانَ عَمْرٌو عَلَى أَصْنَامِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يُولِمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تَزَوَّجَ [لأدب المفرد وصححه الألباني].

والشح هو البخل مع حرص، روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ).

وروى النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخَرَيْ مُسْلِمٍ وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ). وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل.

﴿بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِأي من خيره؛ لأن الفضل في الأصل هو الزيادة فالإنسان قد يعمل عملاً يؤمل أن يكسب فيه ألفاً، فيكسب ألفين أو أكثر من فضل الله عزّ وجل.

وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن سبب البخل نسيان أصل المال، إذ أن البخيل يحسب أن ما يأتي إليه من مال إنما هو بجهوده وكسبه فقط، وليس فضلا من الله، وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو المعطي المانع، وأنه يرزق من يشاء بغير حساب، وأن الرجلين يسعيان ويتخذان الأسباب، فتأتي جائحة لهذا تأكل الأخضر واليابس، وينجو مال ذاك، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.

والجملة للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].

﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْلاستجلاب العقاب عليهم، والتنصيص على شريته لهم، مع انفهامها من نفي خيريته، للمبالغة في ذلك، والتنوين للتفخيم.

والجملة إضراب إبطالي، وقد يأتي الإضراب في القرآن انتقالياً كما في قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ [النمل:66] فالثاني لا يبطل الأول بل يؤكده.

﴿سَيُطَوَّقُونَسين الوعيد، أي سوف يطوقون، أو للتحقيق فكلمة ﴿سَيُطَوَّقُونَأبلغ في التحقيق من كلمة ﴿يطوقون.

﴿مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِوسمي يوم القيامة لوجوه ثلاثة: يقوم فيه الناس لرب العالمين، ويقوم فيه الأشهاد، ويقوم فيه العدل.

والآية بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به. أي: سيجعل ما بخلوا به طوقاً في أعناقهم.

وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق.

وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره، وأنه نوع من العذاب الأخروي المحسوس، وأيدوه بما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ [الشجاع: الذكر من الحيات وهو أجرؤها، والأقرع: كثير السم؛ لأن رأسه من كثرة سمه قد تمزق شعره، فهو أقرع] لَهُ زَبِيبَتَانِ [غدَّتان تُشبهان الزبيب، قد امتلأتا من السم] يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ [يقول ذلك توبيخاً له فيزداد بذلك حسرة] ثُمَّ تَلَا ﴿لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الْآيَةَ.

﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِاللام هذه للاختصاص، والجار والمجرور خبر مقدم، وتقديمه يفيد الحصر، أي: أنه له وحده عزّ وجل.

وذلك أن الذي يبخل بماله إنما يبخل به ليبقى له، فبين الله أنه لن يبقى له، ولابد أن يموت ويرثه ورثته ثم يموتون ويرثهم ورثتهم وهكذا إلى أن ينتهي الإرث إلى الله عز وجل.

أو المعنى: أنه يفني أهل السموات والأرض، ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه، كما يصير مال المورث ملك الوارث، فجرى ما هنا مجرى الوراثة، إذ كل الخلق يدعون الأملاك ظاهراً، وإلا فالكل له، وعلى هذا فهو مجاز.

وفيه بيان سلطان الله تعالى على كل ما في الوجود، فهو ملكه، وهو الذي يئول إليه، وفي ذلك بيان كمال سلطانه، وتأكيد لمعنى أنه المعطي الوهاب، والقوي الرزاق المتين، ولذلك لم يعبر عن الميراث بأنه ميراث الأموال التي نعرفها، بل ميراث كل ما حوته السماء وما حوته الأرض.

والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا، فالآية موعظة ووعد ووعيد.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌفيجازيكم على المنع والبخل، فالخبرة هي العلم الدقيق الشامل.

وخَتْمُ الآية بهذا الاسم ﴿الخبير واضح المناسبة؛ لأن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله قد لا يطلع عليهم الخلق، فالإنسان قد يكون عنده المال الكثير ولا يعلم الناس عنه، ويبخل بزكاتها ولا يُعلم عنه، فبين الله تعالى أنه خبير بعملهم.لأن الخبرة -كما قال العلماء-: هي العلم ببواطن الأمور، ومن المعلوم أن العليم ببواطن الأمور عليم بظواهرها من باب أولى.

﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]

﴿لَقَدْتأكيد بالقسم المقدر و (قد) التي تفيد التحقيق، وإنما أكده سبحانه وتعالى للمبالغة في تهديد هؤلاء.

﴿سَمِعَ اللَّهُتهديد، وهو يؤذن بأن هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهذه العبارة بدون محاشاة، ولأن الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر.

ولا يلزم من السماع ثبوت الأذن، فها هي الأرض يوم القيامة تُحدث أخبارها، أي تخبر عما فعل الناس عليها، أو عما قالوا عليها، مع أنه ليس لها أذن ولا لسان، والجلود والأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة على الإنسان بما عمل، وهي ليس لها آذان، إذن لا يجوز أن نقول: إن الله له أذن بناءً على أن الله أثبت له السمع، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 186.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 184.67 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.92%)]