تسبيح الجمادات والمخلوقات غير العاقلة: حقيقة أم مجاز؟ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14083 - عددالزوار : 750821 )           »          عون المعبود شرح سنن أبي داود- الشيخ/ سعيد السواح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 684 - عددالزوار : 95313 )           »          سلسلة تذكير الأمة بشرح حديث «كل أمتي يدخلون الجنة» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 1670 )           »          مكانة إطعام الطعام في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          منهج القرآن في بيان الأحكام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          قبسات من الإعجاز البياني للقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          يعلمون.. ولا يعلمون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العلي، الأعلى، المتعال) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          تفسير قوله تعالى: ﴿وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا..﴾ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3092 - عددالزوار : 350444 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 17-06-2025, 04:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,486
الدولة : Egypt
افتراضي تسبيح الجمادات والمخلوقات غير العاقلة: حقيقة أم مجاز؟

تسبيح الجمادات والمخلوقات غير العاقلة: حقيقة أم مجاز؟

فائدة من كتاب: "إتمام الرصف بذكر ما حوته سورة الصف من الأحكام والوصف"

د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر

الحمد لله الذي خلَق السماوات والأرض وما بينهما، وأتقَن كلَّ شيء خلقه بحكمته وإرادته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يتناول هذا البحث إشكالية علمية وعقَدية تتعلق بمفهوم تسبيح الجمادات والمخلوقات غير العاقلة في الإسلام، يستعرض العملُ أطروحات العلماء ومناهجهم في تحليل هذه الظاهرة بناءً على النصوص الشرعية، مع البحث في الدلالات اللغوية والنقلية التي تكشف عن أبعادها.

تتجلى أهمية هذا الموضوع في كونه يتجاوز الجانب التفسيري للنصوص؛ ليؤكد أبعادًا عقدية تعزِّز الإيمان بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، وتُبرز إبداعه في خلقه، لذلك يُعد هذا البحث إسهامًا في إثراء النقاش العلمي والمعرفي في هذا المجال.

ذكر الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد النقيب أستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية التربية، جامعة المنصورة، مصر - في الكتاب الماتع: "إتمام الرصف بذكر ما حوته سورة الصف من الأحكام والوصف" عند تفسير قول الله عز وجل: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الصف: 1].

قال الشيخ حفظه الله: (وهنا إشكال): هل يستفاد من ظاهر اللفظ (ما) أن السماوات والأرض وما فيهما من جمادات ومخلوقات غير عاقلة، تسبِّح الله تسبيحًا حقيقيًّا؟

القول الأول: التسبيح الحقيقي: من يحمل التسبيح على حقيقته؛ ليقوم به الكون كله عاقله وغير عاقله دون تأويل؛ يقول الأزهري: ومما يدل على تسبيح هذه المخلوقات تسبيحًا تعبَّدت به: قول الله عز وجل للجبال: ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ[سبأ: 10]، ومعنى (أوِّبِي): سبِّحي مع داوُدَ النهار كله إلى الليل، وكذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ[ الحج: 18]، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها، لا نفقهُها عنها كما لا نفقه تسبيحَها، وكذلك قوله: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ[البقرة:74]، وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرِّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أُعلِمنا، ولا ندَّعي بما لا نكلِّف بأفهامنا من علمٍ...[1].

من ذلك قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس: 65]، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[فصلت: 20].

القول الثاني: التسبيح المجازي: نعم يتصوَّر وقوعُ التسبيح من الذوات العاقلة، أما غير العاقلة فإن الإشكال قائمٌ؛ إذ يترتب عليه إيقاعُ التمييز للجمادات، وهذا ما لا يُسلم به غيرُ واحد من أهل العلم، ووجَّهوا كل النصوص التي يُفهم من ظاهرها إفادةُ التمييز من (تسبيح - سجود - إرادة - إباء - إشفاق)، ووجودها على غير ظاهر اللفظ[2].

القول الأول بالتسبيح الحقيقي هو القول الراجح:
والحق أن القول الأول بالتسبيح الحقيقي تؤيِّده النصوص الصحيحة الصريحة وتظهره، ومن ذلك قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكَل)[3]؛ يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: (إن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غالبًا)[4].

وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - "كان للنبي صلى الله عليه وسلم جِذع نخلة يخطب عليه، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فسمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العِشار (*)، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها فسكنَت[5]، وفي رواية أخرى: (يَئِنُّ أنينَ الصَّبي الذي يُسَكَّن)[6].

وأيضًا عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]، ومن ذلك أيضًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منَعته الطعام والشهوة، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفِّعني فيه، قال فيشفعان)[8].

قول الشيخ الألباني في المسألة بترجيح التسبيح الحقيقي:
قال العلامة الألباني رحمه الله تعالى: "وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسِّد الله ثوابهما، ويخلق الله فيه النطق"، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، ويحتمل بأنه على ضرب من المجاز والتمثيل، والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا، وفي أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها: كتجسيد الكنز شجاعًا أقرع، ونحوه كثير، وتأويل مثل هذه النصوص ليس من طريقة السلف رضي الله تعالى عنهم، بل هي طريقة المعتزلة ومَن سلك سبيلهم من الخلف، وذلك مما ينافي في أول شرط في الإيمان ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3][9].

ومن ذلك أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله الخلق حتى إذا فرَغ منه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلَك وأقطَع من قطعك؟ قالت بلى يا رب، قال: فهو لك[10].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى" قوله: (قامت الرحم فقالت)، قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون بلسان الحال، ويحتمل أن يكون بلسان المقال، قولان مشهوران، والثاني أرجح، وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي، أو يخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلًا؟ قولان مشهوران، والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك، ولِما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولِما يلزم منه مِن حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيءٌ[11].

ومن ذلك أيضًا ما أخرجه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلِّم علىَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)[12] ؛ يقول النووي رحمه الله تعالى: "فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثباتُ التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ[البقرة: 74]، وقوله: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ[الإسراء: 44].

وفي هذه الآية خلافٌ مشهور، والصحيح أنه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله تعالى فيه تمييزًا بحسبه[13]؛ ا.هـ.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن جبل أحد: (هذا جبل يُحبنا ونُحِبه)[14].

ومن ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)[15].


قول الشيخ العلامة محمد الشنقيطي في المسألة بترجيح التسبيح الحقيقي:
والأحاديث والنصوص الدالة على إثبات التمييز للجمادات أو الحيوانات أو النباتات حتى حيوان البحر، ذلك كله لعبادة الله تعالى، والنصوص كثيرة دالة على هذا المطلوب[16]، وممن أصَّل لهذه المسألة وأفاض فيها، فأتى بالكلام المانع والقول الماتع العلامة محمد الشنقيطي؛ حيث يقول[17]: "ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى (ما) دون (من) إلا في موضوع واحد، هو قوله تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ[الإسراء: 44]، وهذا شاهد على شمول (ما) وعمومها المتقدم صراحة بذواتهنَّ، وهنَّ من غير العقلاء بما في كل منهنَّ من أفلاك وكواكب وبروج أو جبال ووهاد وفِجاج، ثم عطف على غير العقلاء بصيغة (من) الخاصة بالعقلاء، فقال: (ومن فيهنَّ)، وإن كانت (من) قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلنَ منزلة العقلاء؛ كما في قول الشاعر[18]:
أَسَرْب القَطا هل مَن يُعير جناحَه
لعلي إلى مَن قد هَويت أَطير




وبهذا شَمل إسنادُ التسبيح كلَّ شيء في نطاق السماوات والأرض، عاقل وغير عاقل، وقد أكَّد هذا الشمول بصريح قوله تعالى: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ[الإسراء: 44]، وكلمة شيء أعم العمومات؛ كما في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، فشملت السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن، والطير والحيوانات والنبات والشجر والمدر، وكل مخلوق لله تعالى.

وقد جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة إثباتُ التسبيح من كل ذلك على حِدَة:
أولًا: تسبيح الله تعالى نفسه: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا[الإسراء: 1]، ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُون[الروم: 17]، ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون[الأنبياء: 22].

ثانيا: تسبيح الملائكة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، وقوله: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ[الزمر: 75]، وقوله: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 20].

ثالثًا: تسبيح الرعد: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ[الرعد: 13].

رابعًا: تسبيح السماوات والأرض: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْض[الإسراء: 44].

خامسًا: تسبيح الجبال: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق [ص: 18].

سادسًا: تسبيح الطير: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ[الأنبياء: 79].

سابعًا: تسبيح الإنسان: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ[الحجر: 98]، ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ[الواقعة: 74]، ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا[مريم:11].

فهذا إسنادُ التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصَّلة ومبينة واضحة، وجاء مثل التسبيح ونظيره، وهو السجود مسندًّا لعوالم أخرى، وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ[الحج: 18].

ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولًا لمن في السماوات ومن في الأرض، (ومن) هي للعقلاء؛ أي: الملائكة والإنس والجن، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهنَّ من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهذا شمول لم يبقَ كائن من الكائنات ولا ذرة في فلاة إلا شَمله.

وبعد بيان هذا الشمول والعموم، يأتي مبحث العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، وهل عموم (ما) هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص؟ قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس: إن العموم باق على عمومه، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد، وقال قوم: إن العموم باق على عمومه لم يَدخله خصوصٌ، ولكن التسبيح يختلف، ولكل تسبيح بحسبه، فمن العقلاء: بالذكر والتحميد والتمجيد؛ كالإنسان والملائكة والجن، ومن غير العاقل - سواء الحيوان والطير والنبات والجماد - فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه، ويدل على أن الله تعالى خالق قادرٌ، وقال قوم: قد دخله التخصيص.

ونقل القرطبي عن عكرمة، قال: الشجرة تسبِّح، والأسطوان لا يسبح، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبِّح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبِّح مرة[19].

يريد أن التسبيح من الحي أو النامي سواء الحيوان أو النبات، وما عداه فلا[20]، وقال القرطبي: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من وضع الجريد الأخضر على القبر، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (لعله يخفِّف عنهما ما لم يَيبسا)[21] ؛ أي: بسبب تسبيحهما، فإذا يَبسا انقطع تسبيحهما؛ ا.هـ.

والصحيح من هذا كله الأول[22] الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور:
أولًا: لصريح قوله تعالى: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44].

ثانيًا: أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة، هو تحكيم الحس والعقل، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوَّره العقول، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا، وحظر[23]على العقل تصوُّره بقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44].

ثالثًا: قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء: 79]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [ص: 18]، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون، لَما كان لداود عليه السلام خصوصية على غيره.

رابعًا: أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكًا تامًّا كإدراك الإنسان وأشد منه؛ قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[ الأحزاب: 72]، بينما سجل على الإنسان ظلمًا وجهالة في تحمُّله إيَّاها، ولم يكن هذا العرض مجرَّد تسخير، ولا هذا الإباء مجرَّد سلبية، بل عن إدراك تام؛ كما في قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11]، فهما طائعتان لله، وهما يأبيان أن يحملا الأمانة إشفاقًا منها.

وفي أواخر هذه السورة الكريمة - سورة الحشر - قوله تعالى: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ[الحشر: 21]، ومثله قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ البقرة: 74]، وهذا هو عينُ الإدراك أشد من إدراك الإنسان.

وفي الحديث: (لا يسمع صوت المؤذن من حجرٍ ولا شجر إلا شهِد له يوم القيامة)، فبمَ سيشهد إن لم يكُن مدركًا الأذان والمؤذن.


وعن الطير قال تعالى عن الهدهد يخاطب نبي الله سليمان عليه السلام: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ[النمل: 22-24].

ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد، ويُفصح عنها لنبي الله سليمان عليه السلام:
الأولى: إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان.

الثانية: معرفته بسبأ بعينها دون غيرها، ومجيئه منها بنبأ يقينٍ لا شك فيه.

الثالثة: معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم.

الرابعة: إدراكه ما أُوتيت به سبأ من متاع الدنيا من كل شيء.

الخامسة: أن لها عرشًا عظيمًا.

السادسة: إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله.

السابعة: إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى.

الثامنة: أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم.

التاسعة: أن هذا ضلال عن السبيل القويم.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 119.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 117.81 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]