البدائل بين المقاصد الشرعية وشكلية العقود - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الدعاء والذكر عند قراءة القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 1102 )           »          خمس عشرة فائدة في الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          وقفات قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 50 - عددالزوار : 10957 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 48 - عددالزوار : 11848 )           »          حفر قناة السويس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 10 )           »          وِرْدُ الخَيْر أدعيةٌ وأذكار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          مع نبيين : هارون وموسى عليهما السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ضوابط العمل .. الاخلاص ، والموافقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          فلسفة حجاب المرأة المسلمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 21-08-2024, 12:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,223
الدولة : Egypt
افتراضي البدائل بين المقاصد الشرعية وشكلية العقود

البدائل بين المقاصد الشرعية وشكلية العقود

د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري

قد يصنع البديل المصرفي من عقدٍ، أو من مجموعة عقودٍ تتوافق في ظاهرها وقصدها مع مقصود الشرع وأحكامه، وقد تُصبغ بعض البدائل بصبغةٍ، توافق العقد الشرعي شكلاً وظاهرًا، وتخالف مقصوده الذي شُرع لأجله، والغاية الشرعية منه.

فكيف ندرك مقصود الشرع ومقصود العاقد من العقد؟ ومتى نحكم بأن عدم توافق القصدين يؤثر سلبًا على حكم البديل المصرفي؟؛ لتجلية كلا الأمرين، أبسطهما في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: العلاقة بين البدائل والمقاصد الشرعية:
"قصدَ الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصد الله في التشريع"،[1] فلا يكون الفعل موافقًا للشرع حتى يوافقه في الصورة والقصد، ومتى عزبت المقاصد الكلية للعقود الشرعية، والمقاصد الجزئية لكل عقدٍ من عقود المعاملات عن صانعي البدائل ابتعدت منتجـاتهم وصيغهم المبتكرة، أو المعدَّلة عن المشروعية، قال ابن تيمية: "ولا يجوز لأحدٍ أن يظنّ أن الأحكام اختلفت بمجرد اختلاف ألفاظٍ، لم تختلف معانيها ومقاصدها"[2].


وفي خصوص ما نحن فيه، يقول الدكتور يوسف الشبيلي: "وإن مما يعاب على المؤسسات المالية الإسلامية أن كثيرًا من البدائل المقدّمة لا تختلف في مآلاتها عما تقدمه المؤسسات التقليدية، مما جعل البعض ينظر نظر ريبة تجاه التعاملات المالية الإسلامية، ومدى قدرتها على حل المشكلات المالية، ومن المتعين على هيئات الرقابة المبادرة بإعادة النظر في بعض المنتجات، التي لا تتفق مع المقاصد الشرعية، وأن تجعل من ضمن أولوياتها المحافظة على المقاصد الشرعية، وإلزام الشركات بها"[3].


ولأجل التدقيق في مطابقة مقصد المكلف لمقصد الشرع من المعاملة، نحتاج لإبراز أمرين: أولها: معرفة مقصد الشرع من المعاملات المالية، وثانيها: معرفة مقصد المكلف من إنشائها.

أ‌- معرفة مقصد الشرع من المعاملات المالية:
ويتحدد ذلك بثلاثة أمور:
1- معرفة المقصد العام للشرع في حفظ الأموال:
وقد لخّص الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة في حفظ الأموال، من جهتي الوجود والعدم في قوله: "والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها"[4].

فإذا اكتسبها العبد لاحظ حصولها بوجه حقٍٍ؛ كعملٍ، أو عوضٍ، أو تبرعٍ، أو إرثٍ؛ وهو الذي سمّاه ابن عاشور (العدل فيها)؛ لذا نجد أن الشرع قد وسّع "قاعدة تداول المال، واستثماره بإباحة المبادلات النافعة، والقصد لتفتيت الثروة؛ وجوبًا عبر الميراث، وندبًا عبر الوصية والوقف"[5].

وإذا تصرف فيها، لوحظ ضرورة تقررها لأصحابها، بوجهٍ لا ضرر فيه ولا منازعة، فكلٌ يختص بملكه، وهو حرٌ في تصرفه، لا يضر بالغير، ولا ينتـزع منه ماله، والأصل في عقوده اللزوم، والأصل في شروطه الوفاء، مع دعوته لاجتناب الكنـز والبخل، وترشيد الاستهلاك، وتجنب السرف وإضاعة المال، وهذا الذي عناه بقوله: (إثباتها).

وإذا انتفع أو احتفظ بها، حرص على إبعادها عن الضرر الناتج عن سوء الإدارة، أو تضييع الأمانة، وعلى إبعادها عن التعرض للخصومات - بقدر الإمكان - بالتوثيق، وإيجاب البيان بما يدفع الجهالة، وهذا هو (وضوحها).

وإذا ثمّرها سعى إلى (رواجها)، ودورانها بين أيدي أكبر عددٍ من الناس، وحرص على ما فيه تنمية لماله، واستغلال لموارد مجتمعه فيما ينفعه، ومن ذلك أن يمتنع عما فيه مخاطرة محضة؛ كالميسر، أو استئثار للمال دون قيمةٍ مضافةٍ للمجتمع؛ كالاحتكار والربا.

وهو في هذا كله يهدف لما تسعى له الشريعة من (حفظ الأموال) في جانب العدم كذلك؛ بمنع أكلها بالباطل، والاعتداء عليها[6].

1- معرفة مقاصد الشرع في فقه الاقتصاد الإسلامي، وأبواب المعاملات المالية خاصةً:
وعلى القواعد السابقة أسس الشارع أحكام المعاملات المالية؛ لينال الناس بها حظوظهم الدنيوية، فينعمون بنعم الله تعالى دون بطرٍ، أو طغيان، وفُرّعت عليها العديد من الضوابط المالية، والمبادئ الاقتصادية للشريعة الإسلامية، ومنها:
1- مبدأ الرواج والتداول للمنافع بين الناس، ومنع الاحتكار والاكتناز؛ فشرعت الأحكام الكفيلة بدوران المال في المجتمع بما يحقق التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، ومن ذلك: الأمر بأداء الزكاة، والندب إلى المنافسة في أبواب الصدقة، والإباحة للمعاملات المالية النافعة، وتحريم المعاملات الضارة بالفرد والمجتمع[7].

2- مبدأ تبعية التمويل الشرعي للتملك، فلا بدّ من أن يتملك المموِّل موضوع التمويل، ثم يقوم بإعادة تمليك عينه، أو منفعته حالاً أو آجلاً، ولا بدّ أن يمر التمويل من خلال سلعٍ وخدمات تنتج، أو تتداول.[8]


3- مبدأ المال لا يلد المال، بل ينمو بفعل استثماره، والمشاركة في تحمل مخاطره.[9]


4- مبدأ الاعتماد على صيغ المشاركة بدرجةٍ أساسية؛ لبعدها عن الغرر، وتحقيقها لمقاصد التنمية.[10]


5- مبدأ الغنم بالغرم، أو الخراج بالضمان، فالشركاء لا يُضمن لهم من رأس المال شيء، بل يتحملون مخاطر الخسارة مقابل جنيهم للأرباح،[11] قال علي رضي الله عنه: "من قاسم الربح، فلا ضمان عليه"، أخرجه ابن أبي شيبة.[12]


6- مبدأ تجفيف منابع المديونية، والحذر من تشجيع التراكمات النقدية الناتجة عن الديون.[13]


7- ومن المبادئ الأساسية كذلك: أن يطلب العاقد من العقد ما هو موضوعٌ له، فمتى قصد العوض بعقود الإرفاق مثلاً؛ كالقرض، والكفالة، فقد أخرجها عن موضوعها،[14] وسعى بذلك في تعطيل جناحي الاقتصاد الناجح (النشاط الربحي وغير الربحي)، أو أحدهما.[15]


8- تجنب كل ما يثـير العداوة والبغضاء بين المسلمين،[16] قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾.[17]


2- معرفة مقصد الشرع في خصوص كل معاملة مالية:
لكل عقدٍ شرعي مقصدٌ خاص، ووظيفةٌ محددةٌ لا يجوز أن يطلب به غيرها،[18] فالبيع لنقل الملكية بعوض، والهبة لنقلها بغير عوض، والإجارة لتمليك المنافع بعوض، والإعارة لتمليكها بغير عوض، والرهن لتوثقة الحقوق بالأموال، والضمان لتوثقتها بالذمم، والشركة لطلب الاشتراك في الربح، والوديعة لطلب حفظ الأموال، والسبق لطلب الغلبة على الخصوم، والوكالة للنيابة عن الغير، ولكلٍ منها أنواع خاصة بحسب تأقيت العقد، أو نوع محله، وحلوله أو تأجيله، قال ابن تيمية: "ونكتة هذا: أن القصود والنيات معتبرة في العقود؛ كاعتبارها في العبادات, فإن الأعمال بالنيات, فكل من قصد بالعقد غير المقصود الذي شُرع له ذلك العقد، بل قصد به شيئاً آخر، أراد أن يتوسل بالعقد إليه فهو مخادعٌ, بمنـزلة المرائي الذي يقصد بالعبادات عصمة دمه وماله، لا حقيقة العبادة, وإن كان هذا مقصودًا تابعًا، لكنه ليس هو المقصود الأصلي".[19]


فإذا أدركنا مقصد الشريعة من العقد - مع استحضارنا لمقاصدها العامة في حفظ الأموال، وفي الفقه المالي على وجه الخصوص - انتقلنا لنختبر مطابقة ذلك مع مقصد المكلف.

ب‌- معرفة مقصد المكلف من إنشاء المعاملة:
وإذا كان ما سبقت الإشارة إليه المقاصد الشرعية للمعاملات المالية، فإن من أبرز المحددات التي تكشف لنا عن قصد العاقدَين المنشئين للمعاملة أمرين:
الأول: باعث العاقد، ونيته من إجراء المعاملة، ومنه حُكم بتحريم نكاح التحليل؛ لعدم قصد العاقد لمقصود النكاح من الدوام.[20]


والثاني: مآل المعاملة وآثارها، فقد يكشف ما تؤول إليه المعاملة عن قصد العاقد من إنشائها، ومنه حَكم جمعٌ من الفقهاء بتحريم طلاق الرجل امرأته في مرضه المخوف؛ لما يؤول إليه من حرمانها من الميراث، فيُمنع منه لقصده السيئ.[21]


ولأجل توضيح هذين الأمرين في خصوص ما يتعلق بالمعاملات المالية سأستعرضهما فيما يلي:
1- أما الباعث، فقد عُرّف بأنه: "المقصود الحقيقي غير المباشر، المحرّك لإرادة المكلف نحو تصرفٍ ما"[22].

ومعرفة باعث العاقد من إنشاء العقد به يتحدد مقصود العقد، ويُرتب عليه أحكامه، وفي ذلك يقول ابن القيم: " فإيّاك أن تهمل قصد المتكلم، ونيته، وعرفه، فتجني عليه، وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف، والمقرّ، والناذر، والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به؛ ففقيه النفس يقول: ما أردتَ، ونصف الفقيه يقول: ما قلتَ".[23]


ويعرف باعث العاقد من المعاملة بأمور:
أولها: مسلك الإقرار؛ بأن يصرّح العاقد بقصده من إنشاء العقد، وهو أقواها.[24]


وثانيها: مسلك التواطؤ؛ بأن يُضمر العاقدان القصد الحقيقي من التعامل، ولا يصرحا به،[25] وقد اُختلف في تأثيره على حكم العقد على قولين:
مسألة: هل للمواطأة المتقدمة أثرٌ على العقد؟.
القول الأول: لا أثر للمواطأة على العقد، ما لم يصرح العقدان بها عند التعاقد.

وهو رواية عن أبي حنيفة،[26] ومذهب الشافعية في المشهور،[27] ورواية لأحمد،[28] واختاره ابن حزم[29].[30]


واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول: بأن المواطأة قبل العقد لا تدل على توجه إرادة المتعاقدين إلى الالتزام بها، بدليل عدم تصريحهما بذلك عند التعاقد.[31]


ونوقش هذا الاستدلال: بأن اعتبار التلفظ في العقود إنما هو لدلالته على توجه إرادة المتعاقدين الباطنة إلى إنشاء العقد، فإذا دلّ على ذلك غير اللفظ كان معتبرًا؛ إذ القصود في العقود معتبرة.[32]


الدليل الثاني: أن العقود إنما تجري على الظاهر، والألفاظ تعبر عمّا في القلوب، والأصل فيها المطابقة والموافقة؛ كما حُكم بصحة إسلام الرجل بدون العلم بما في قلبه[33].


ونوقش هذا الاستدلال: بأن العبارات لما كانت مبيّنات لما في القلوب، لم يختلف ذلك بجمع الكلام في وقتٍ، أو تفريقه في وقتين، فلا فرق بين الشرط المتقدم المتواطئ عليه قبل العقد والشرط المقارن له، ومثل ذلك: مثل العالم يقول مثلاً: يجوز للرجل أن يوصي بثلث ماله، ولا يدخل في كلامه المجنون ونحوه؛ لأنه عُلم في موطنٍ آخر منه أن كلام المجنون لا حكم له في الشرع.[34]


القول الثاني: أن المواطأة على عقدٍ أو شرطٍ كالتصريح به؛ في وجوب الوفاء، والصحة، أو الفساد.

وهو مذهب المالكية،[35] والصحيح عند الحنابلة،[36] ورواية أخرى عن أبي حنيفة، وقول أبي يوسف،[37] ومحمد بن الحسن،[38] ووجه للشافعية،[39] واختاره ابن تيمية. [40]


واستدلوا من الكتاب، والسنة، والمعقول:
(1) استدلوا من الكتاب: بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾. [41]
ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود وما يتبعها من الشروط، ولم يفرق في ذلك بين شرطٍ سابقٍ أو مقارن، ملحوظٍ أو ملفوظ.[42]


(2) واستدلوا من السنة: بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم".[43]


ووجه الدلالة: أن المفهوم من لغة العرب أن الاتفاقات المتعلقة بالعقد - ولو تقدمت عليه- يطلق عليها اسم الشرط؛ كما يطلق على مقارنه؛ فتلزم.[44]


(3) واستدلوا من المعقول بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أن الشرط العرفي كاللفظي سواء، فمن المعلوم في العادة أن العاقدين إذا اتفقا على أمرٍ، ثم تعاقدا، بدون إعادة ذكره عند التعاقد أنهما ما تراضيا إلا على ذلك. [45]


ويمكن أن يناقش: باحتمال تغير نيتهما، أو أحدهما عند إنشاء العقد.

الدليل الثاني:أن في ذلك سدًا لباب التحايل على الشروط المحرمة؛ إذ لا يعجز العاقدان إذا أرادا شرطًا محرمًا أن يتواطآ عليه، ثم يسكتا عن ذكره في العقد؛ ليتمّ غرضهما. [46]


ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: أن في اعتبار المواطأة المتقدمة على العقد فتحًا لباب عدم استقرار المعاملات، واضطراب القضاء بين الناس.

الدليل الثالث:أن صورة القرض في الذمّة، وبيع النقد بمثله إلى أجل واحدة، والأولى قربة، والثانية معصية، فدلّّ ذلك على أن النية تؤثر في الفعل؛ حلاً وحرمةً، صحةً وفسادًا.[47]


ونوقش: أن الفارق بين القرض وبيع النقد لأجل إنما يُعرف من جهة اختلاف اللفظ.[48]


ويمكن أن يجاب من وجهين:
الأول: أن القصد كذلك اختلف؛ إذ قُصد في الأولى القرض، ومبناه على الإرفاق، وقُصد في الثانية المعاوضة، ومبناها على المشاحّة.

والثاني: أن يناقش الاستدلال كذلك: بصورة الذبح؛ فهو للأكل حلال، ولغير الله حرام، وليس بينهما إلا اختلاف النية.[49]


وسبب الخلاف في المسألة يدور على أمرين:
الأول:هل للتواطؤ قوة ملزمة في العقود؛ كالتصريح؟.[50]
والثاني:هل الشرط السابق للعقد كالمقارن له؟.[51]


القول المخـتار:
اعتبار أثر المواطأة في العقود، ولو كانت سابقة للعقد؛[52] للاعتبارات التالية:
‌أ- أن إنشاء العقد على الصحيح - وهو قول الجمهور- [53] لا يشترط فيه التلفظ، بل يجري بكل ما دلّ على التراضي؛ كالمعاطاة، فكذلك الاتفاقات المتواطئ عليها.

‌ب- أن العادة جارية بذلك، وحمل العقود على معناها العرفي مقدمٌ على المعنى اللفظي. [54]


‌ج- أن الشريعة لا تفرّق بين المتماثلات،[55] والشرط السابق كاللاحق؛ إذ مرور الأوقات ليس ناقضًا للاتفاقات، ما لم يدل على النقض دليلٌ معتبر.

‌د- أن "الأعمال بالنيات"،[56] والأصل استصحاب النية التي قصداها قبل العقد إلى وقت انعقاده، ما لم ينويا رفعها. [57]


لكن يشترط في اعتبار المواطأة أن تدل عليها دلالةٌ ظاهرة؛ قطعًا للمنازعات، وتحصيلاً لاستقرار المعاملات.

وثالثها: مسلك القرائن، قال ابن قدامة[58]: " فإنما يحرم البيع، ويبطل، إذا علم البائع قصد المشتري ذلك؛ إما بقوله، وإما بقرائن مختصّة به، تدل على ذلك"،[59] ومن تلك القرائن:
‌أ- دلالة العرف والعادة؛ كدلالة اجتماع سلفٍ وبيعٍ بأقل من ثمن المثل على قصد محاباة المقرض لأجل القرض، قال الكاساني[60]: "العرف إنما يعتبر في معاملات الناس؛ فيكون دلالة على غرضهم".[61]


‌ب- دلالة الحال؛ وتشمل أمرين:
1- دلالة حال العاقد؛ ككونه خمّارًا، واشترى عنبًا، قال ابن عبد البر[62]: "ولا يباع شيءٌ من العنب، والتين، والتمر، والزبيب ممن يتخذ شيئًا من ذلك خمرًا؛ مسلمًا كان أو ذميًا، إذا كان البائع مسلمًا، وعرف المبتاع ببعض ذلك، أو يتنبذه، واشتهر به... وبيع السلاح في الفتنة من أهل دار الحرب من هذا الباب".[63]


2- دلالة حال محل العقد؛ كبيع الجارية المعدّة للسفاح، أو الكبش النطّاح بأكثر من قيمتهما مجردين عن هذه الأوصاف، قال ابن قدامة: "قال أحمد فيمن مات، وخلّف ولدًا يتيمًا، وجاريةً مغنية، فاحتاج الصبي إلى بيعها: تباع ساذجة،[64] قيل له: إنها تساوي مغنية ثلاثين ألفًا، وتساوي ساذجةً عشرين دينارًا، قال: لا تباع إلا على أنها ساذجة".[65]


ج‌- كثرة إرادة المتعاملين بعقدٍ ما لمقصدٍ معين، ولو لم يُقصد ذلك في كل صورةٍ منه؛ كبيع العينة، وفي الشرح الصغير: "(يمنع) من البيوع (ما أدى لممنوعٍ يكثر قصده): للمتبايعين ولو لم يقصد بالفعل".[66]


مسألة: وهل تعتبر القرائن في الحكم على العقود؟.
اتفق العلماء على عدم جواز التذرع إلى ما هو محرم،[67] واختلفوا هل تعتبر القرائن دليلاً على إثبات هذا التذرع، أم لا؟.

وبالنظر في تطبيقات الفقهاء - رحمهم الله - تظهر ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: التضييق من اعتبار القرائن، فلا يعتبر إلا ما كان صريحًا في الدلالة على المقصود.

ويكثر هذا الاتجاه في تطبيقات الشافعية.[68]


بل نصّ الإمام الشافعي على ذلك، فقال: " أصل ما أذهب إليه أن كل عقدٍ كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمةٍ، ولا بعادةٍ بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية؛ إذا كانت النية لو أُظهرت كانت تفسد البيع".[69]


واستدلوا بثلاثة أدلة:
الدليل الأول: أن اعتبار ظاهر العقد، وما صرَّح به العاقدان أوجب؛ لاستقرار المعاملات بين الناس.[70]


الدليل الثاني: أن اعتبار القرائن فيه سوء ظنٍ بالمسلمين، والأصل فيهم السلامة، وقد يظن بهم السوء، ولا يقع منهم، فعلى أيِّ وجهٍ يؤثر ذلك في العقد؟.[71]


الدليل الثالث: أن الأصل في المعاملات الصحة، فلا حرمة ولا بطلان، إلا إن تُيقن في شيءٍ بعينه موجبهما.[72]


ويمكن أن يناقش ما سبق: بأن غلبة الظن يعمل بها كذلك في الأحكام الفقهية.

الاتجاه الثاني: التوسط في اعتبار القرائن؛ بحسب غلبة الظن عند المجتهد، وخصوصًا ما يتعلق منها بقرائن العرف والحال.

وهو ظاهرٌ في تطبيقات الحنفية،[73] وأكثر منهم في ذلك الحنابلة.[74]


قال الكاساني عند الحديث عن بيع العينة: "ولأن في هذا البيع شبهة الربا؛ لأن الثمن الثاني يصير قصاصًا بالثمن الأول، فبقي من الثمن الأول زيادةٌ لا يقابلها عوضٌ في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا، إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين، فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة، بخلاف ما إذا نقد الثمن؛ لأن المقاصة لا تتحقق بعد الثمن، فلا تتمكن الشبهة بالعقد، ولو نقدا الثمن كله إلا شيئًا قليلاً، فهو على الخلاف".[75]
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 172.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 170.53 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.00%)]