|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() القَريبُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه الشيخ وحيد عبدالسلام بالي عَنَاصِرُ الموْضُوعِ: أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( القَرِيبِ ). ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ. ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى. رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بهذا الاسْمِ. خامسًا: المعَانِي الإيِمَانِيَّةُ. النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً » رواه البخاري. 2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1]. 3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2]. 4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ. 5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله. 6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3]. 7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4]. 8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5]. 9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6]. 10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك (4). 11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها »، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766). ثُمَّ قَدْ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى »، مُتَّفَقٌ عَلَيه. ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ: 1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المسْلِمينَ بِمَعْنَى اسْمِ الله ( القَرِيبِ ). 2- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى الدُّعَاءِ والتَّضَرُّعِ إِلَى الله لأَنَّهُ قَرِيبٌ. 3- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى الحَيَاءِ مِنَ الله لأَنَّهُ قَرِيبٌ. 4- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى التَقَرُّبِ إِلَى الله بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( القَرِيبُ ) القَرِيبُ فِي اللُّغَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ القُرْبِ.والقُرْبُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ البُعْدِ، قَرُبَ الشَّيْءُ يَقْرُبُ قُرْبًا وقُرْبَانًا أي دَنا فهو قَرِيبٌ. والقُرْبُ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ: منه قُرْبُ الَمكَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28]. وَقَرُبُ الزَّمَان نحو قَوْلِهِ: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 109]. وَقَدْ يَكُونُ القُرْبُ فِي النَّسَبِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]. وَكَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي القُرْبِ قُرْبُ الحُظْوَةِ والمَنْزِلَةِ نحو قَوْلِهِ: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم ﴾ [الواقعة: 88، 89] [7]. والقَرِيبُ سُبْحَانَهُ هُوَ الذي يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، وَهُوَ القَرِيبُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ أَقْرَبُ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ حَبْلِ الوَريِد ِكَمَا قَالَ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]. وَقَالَ أَيْضًا: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85]. وَالقُرْبُ فِي الآيتين إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ باعْتِبَارِ مَا وَرَدَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ: « ما السَّمَوَاتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِ الله إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ » [8]. وَرَوَى ابْنُ حِبان وصححه الألباني منِ حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي غ قال: « مَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِي الكُرْسِيِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ بِأَرْضِ فِلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِي كَفَضْلِ تِلْكَ الفِلَاةُ عَلَى تَلِكْ الحَلَقَةِ » [9]، فَهَذَا قُرْبٌ مُطْلَقٌ بالنِّسْبَةِ للهِ تعالى لَأَنَّهُ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلَاصِقٍ، والمخْلُوقَاتُ كُلُّها بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَتَقَارَبُ مِنْ صِغَرِها إلى عَظَمَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ بالنِّسْبَةِ لمقَاييسِنا، فَلا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِحَاطَةِ بُعْدِ مَا بَيْنَ العَرْشِ والأَرْضِ مِنْ سِعَتِهِ وَامْتِدَادِهِ. قَالَ ابنُ مَنْدَه في وَصْفِ قُرْبِ الله: « لَقُرْبُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلَاصِقٍ وبَعِيدٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ وَيَرَى، وَهُوَ بالمَنْظَرِ الأَعْلَى وَعَلَى العَرْشِ اسْتَوَى »[10]. وَقَدْ يَكُونُ القُرْبُ قُرْبَ الملائِكَةِ لأَنَّهُ ذَكَرَ فِي سِيَاقِ الآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الملائِكَةِ حَيْثُ قَالَ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 16، 17]، فَيَجُوزُ هنَا أَنْ يَكُونَ القُرْبُ قُرْبَ المَلَكَيْنِ. وَأَمَّا القُرْبُ الوَارِدُ فِي آيَةِ الوَاقِعَةِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِحَالِ الاحْتِضَارِ؛ لأَنَّ الذِي يَحْضُرُ وَقْتَهَا الَملَائِكَةُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، كَمَا أَنْ قَوْلَهُ: ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ الَملَائِكَةُ؛ إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا القَرِيبَ في نَفْسِ المَكَانِ وَلَكِنْ لا نُبْصِرُه [11]. فَاللهُ تعالى قَرِيبٌ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، عَلِيمٌ بِالسَّرَائِرِ، يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وهو قَرِيبٌ بالعِلْمِ والقُدْرَةِ فِي عَامَّةِ الخَلَائِقِ أجْمَعِينَ، وقَرِيبٌ بِاللُّطْفِ والنُّصْرَةِ، وهذا خَاصٌّ بالمؤْمِنينِ، مَنْ تَقَّربَ مِنْه شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا تَقَرَّب مِنْهُ بَاعًا، وَهُوَ أَقْرَبُ إلى العَبْدِ مِنْ عُنِقِ رَاحِلَتِهِ، وهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مِنْ عَبْدِهِ بِقُرْبِ مَلائِكَتِهِ الذي يَطَّلِعُونَ عَلَى سِرِّهِ ويَصِلُونَ إِلَى مَكْنُونِ قَلْبِهِ. ثانيًا: وُرُودُه فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ [12] وَرَدَ الاسْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في الكِتَابِ وهي:قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]. وَقَوْلُهُ: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]. وَقَوْلُهُ: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]. ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى قَالَ ابنُ جَرِيرٍ في قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]: « يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُه بِذَلِكَ: وَإِذَا سَأَلَكَ يَا مُحمدُ عِبَادِي عَنِّي أَيْنَ أنا؟ فَإِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُمْ أسْمَعُ دُعَاءَهم وأُجِيبُ دُعْوَةَ الدَّاعِي منهم »[13].وَقَالَ فِي قَوْلِه: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]: « يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُ العِبَادَةَ، وَرَغِبَ إِليه في التَّوْبَةِ، مُجِيبٌ له إذا دَعَاهُ »[14]. وِفِي قَوْلِهِ: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]: « قَالَ: إِنَّ رِبِّي سَمِيعٌ لِـمَا أَقُولُ لَكُمْ، حَافِظٌ له، وهو الُمجَازِي لِي عَلَى صِدْقِي فِي ذلك، وذلك مِنِّي غَيْرُ بَعِيدٍ فَيَتَعَذَّرُ عليه سَمَاعُ مَا أَقُولُ لكم وما تَقُولُونَ وَمَا يَقُولُهُ غَيْرُنا، وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، يَسْمَعُ كُلَّ ما يَنْطِقُ بِهِ، أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ »[15]. وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: « (القَرِيبُ) فِي اللُّغَةِ عَلَى أَوْجُهٍ: القَرِيبُ الذي ليس بِبَعِيدٍ، فاللهُ تعالى قَرِيبٌ لَيْسَ بِبَعِيدٍ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، أَيْ: أَنَا قَرِيبُ الإِجَابةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]، وَكَمَا قَالَ عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]. وَكَمَا قَالَ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84]. وَاللهُ تعالى مُحِيطٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّها عِلْمًا لَا يَعْزُبُ عنه منها شيءٌ، وَكُلُّ هَذَا يُرَادُ بِهِ - واللهُ أَعْلَمُ - إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وسُلْطَانِهِ وحُكْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ قُرْبُ الَمكَانِ وَالحُلُولِ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ جَلَّ اللُه وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [16]. وَقَالَ الخَطَّابِي: « ( القَرِيبُ ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ مِنْ خَلْقِهِ، قَرِيبٌ مِـمَّنْ يَدْعُوه بالإِجَابَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]» [17]. وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَهُوَ القَرِيبُ وَقُرْبُهُ الُمخْتَصُّ بِال ![]() دَّاعِي وَعَابِدِه عَلى الإِيمَانِ[18] ![]() ![]() ![]() وَقَالَ السَّعْدِي: « ( القَرِيبُ الُمجِيبُ ) أَيْ: هُوَ تَعَالَى القَرِيبُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَقَرْبُهُ تَعَالَى نَوْعَانِ: قُرْبٌ عَامٌّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِعِلْمِهِ وَخِبْرَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ. وَقُرْبٌ خَاصٌّ مِنْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وهو قُرْبٌ لَا تُدْرَكُ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ آثارُهُ مِنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَمِنْ آثارِهِ الإِجَابةُ للدَّاعِينَ، والإِنَابةُ للعَابِدينَ. فَهُوَ ( الُمجِيبُ ) إِجَابَةً عَامَّةً للدَّاعِينَ مَهْمَا كَانُوا وأَيْنَما كَانُوا وعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، كَمَا وَعَدَهم بهذا الوَعْدِ الُمطْلَقِ، وهو ( الُمجِيبُ ) إِجَابَةً خَاصَّةً للمُسْتَجِيبِينَ لَهُ الُمنْقَادِينَ لِشَرْعِهِ، وَهُوَ ( الُمجِيبُ ) أيضًا للمُضْطَرِّينَ ومَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهم مِنِ الَمخْلُوقِينَ وقَوِيَ تَعَلُّقُهم بِهِ طَمَعًا وَرَجَاءً وخَوْفًا » [19]. رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ 1- وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه ( قَرِيبٌ ) مِنَ الدَّاعِي والُمتَقَرِّبِ إليه بأَنْوَاعِ الطَّاعَةِ والإِحْسَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].وَثَبُتَ في الصحيحينِ عن أبي مُوسَى الأَشْعَرِي أَنَّهم كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهم بالتَّكْبِيرِ فَقَالَ: « أَيُّهَا النَّاسُ! أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فإِنَّكم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إِنَّ الذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكم مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ » [20]. وفي الصحيحينِ أيضًا عنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ». قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: « وَقُرْبُه مِنَ العِبَادِ بِتَقَرُّبِهِم إِلَيْهِ مِـمَّا يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، سَوَاء قَالُوا مَعَ ذلك: إِنَّهُ تَقُومُ به الأَفْعَالُ الاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا. وَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَ العِبَادِ بِكَوْنِهِم يُقَارِبُونَه ويُشَابِهُونَه مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ فَيَكُونُونَ قَرِيبينَ منه! وهذا تَفْسِيرُ أَبِي حَامِدٍ والُمتَفَلْسِفَةِ، فَإِنَّهم يَقُولُونَ: الفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ! وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَهم بِطَاعَتِهم، وَيُفَسِّرُ قُرْبَه بإثَابَتِهِ! وَهَذَا تَفْسِيرُ جُمْهُورِ الجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ قُرْبٌ ولا تَقْرِيبٌ أَصْلًا. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعَانِي القُرْبِ - وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُنْكِرُهُ - قَرْبُ الَمعْرُوفِ والَمعْبُودِ إِلَى قُلُوبِ العَارِفِينَ العَابِدِينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ ويَقْرُبَ مِنْ قَلْبِهِ، وَالذي يُبْغِضُهُ يَبْعُدُ مِنْ قَلْبِهِ، لَكِنْ هَذَا لَيْسَ الُمرَادُ به أنَّ ذَاتَه نَفْسَها تَحِلُّ في قُلُوبِ العَارِفِينَ العَابِدِينَ! وإِنَّمَا فِي القُلُوبِ مَعْرِفَتُهُ وَعِبَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ والإِيمَانُ به، ولَكِنَّ العِلْمَ يُطَابِقُ الَمعْلُومَ. وَهَذَا الإِيمَانُ الذي في القُلُوبِ هو ( الَمثَلُ الأَعْلَى ) الَّذِي لَهُ فِي السَّمَواتِ والأَرْضِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3]. وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذِهِ الآيَةِ طَائِفَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَالفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهم فَجَعَلُوهُ حُلُولَ الذَّاتِ وَاتِّحَادَهَا بالعَابِدِ وَالعَارِفِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الَمسِيحِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالذين يُثْبِتُونَ تَقْرِيبَهُ العِبَادَ إِلَى ذَاتِهِ هو القَوْلُ الَمعْرُوفُ للسَّلَفِ والأئِمَّةِ، وَهُوَ قُوْلُ الأَشْعَرِي وغَيْرِه من الكُلابِيَّةِ، فَإِنَّهم يُثْبِتُون قُرْبَ العِبَادِ إلى ذَاتِهِ وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى العَرْشِ بذاتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: الاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي العَرْشِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَى العَرْشِ، وهذا أيضًا قَوْلُ ابنِ عَقِيلٍ، وابنِ الزاغوني، وطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وغَيْرِهم. وَأَمَّا دُنُوُهُ نَفْسُهُ وَتَقَرُّبُه مِنْ بَعْضِ عِبَادِهِ فَهَذَا يُثْبِتُه مِنْ يُثْبِتُ قِيَامَ الأَفْعَالِ الاخْتِيَارِيَّةِ بِنَفْسِهِ، وَمَجِيئَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنُزُولَهُ، واسْتِوَاءَهُ عَلَى العَرْشِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الإِسْلَامِ المَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الحَدِيثِ، والنَّقْلُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مُتَواتِرٌ. وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فِي الإِسْلَامِ الجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهم مِنَ الُمعْتَزِلَةِ، وكَانُوا يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ والعُلُوَّ عَلَى العَرْشِ، ثُمَّ جَاءَ ابنُ كُلَّابٍ فَخَالَفَهم في ذلك وَأَثْبَتَ الصِّفَاتِ والعُلُوَّ عَلَى العَرْشِ، لَكِنْ وَافَقَهم على أَنَّهُ لَا تُقُومُ بِهِ الأُمُورُ الاخْتِيَارِيَّةُ، وَلِهَذَا أَحْدَثَ قَوْلَهُ فِي القُرْآنِ: إِنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا القَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ الُمتَوَاتِرِ عنهم أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وأَنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا ذُكِرَتُ أَلْفَاظُهم فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا. فالذين يُثْبِتُونَ أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِهِ هُمُ الذين يَقُولُونَ إِنَّهُ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَصْلُ هَؤْلَاءِ أَنَّه لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَدْنُو إِلَيْهِ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بهذا مع هذا كَانَ مِنْ تَنَاقُضِهِ؛ فَإِنَّهُ لِمْ يَفْهَمْ أَصْلَ القَائِلِينَ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ. وَأَهْلُ الكَلَامِ قَدْ يَعْرِفُونَ مِنْ حَقَائِقِ أُصُولِهم وَلَوَازِمها مَا لَا يَعْرِفُهُ مَنْ وَافَقَهم عَلَى أَصْلِ الَمقَالَةِ، ولَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَها وَلَوَازِمَها، فَلِذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ في هذا البَابِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وَآثارِ السَّلَفِ مُتَظَاهِرَةٌ بِالإِثْبَاتِ، وليس عَلَى النَّفْي دَليلٌ وَاحِدٌ لا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ، وإِنَّمَا أَصْلُهُ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ ابنُ كُلَّابٍ فَرَّقَ، وَوَافَقَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُقِرُّ بِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ وَمَا دَلَّ عليه الكِتَابُ والسُّنَّةُ، وِبِمَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ مِمَّا يُنَاقِضُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي للتَّنَاقُضِ، ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213][21]. 2- وَصْفُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفْسَهُ بِالقُرْبِ مِنْ دَاعِيهِ وَعَابدِهِ والسَّاجِدِ لَهُ وَقُرْبُه مِنْهُم فِي جَوْفِ اللَّيْل وَفِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ لا يَتَنَافَى مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقِيَّتِهِ عَلَى عِبَادِه - وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا ثَبُتَ بِالأَدِلَّةِ الُمسْتَفِيضَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَاسَ ذَاتُه على ذَوَاتِ خَلْقِهِ، أَوْ فِعْلُهُ عَلَى أَفْعَالِهم. وفي تَوْضِيحِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ: « وَأمَّا القُرْبُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]. وَ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85]. وَقَدِ افْتَرَقَ النَّاسُ في هذا الَمقَامِ أَرْبَعَ فِرَقٍ: فالجَهْمِيَّةُ النُّفَاةُ الذين يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ العَالَمِ، وَلَا خَارِجَ العَالَمِ، وَلَا فَوْقَ، ولَا تَحْتَ، لا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ، بَلِ الجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوَّلٌ أَوْ مُفَوَّضٌ. وَجَمِيعُ أَهْلِ البِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصٍ كَالخَوَارِجِ، والشِّيعَةِ، والقَدَرِيَّةِ، وَالرَّافِضَةِ، والُمرْجِئَةِ، وَغَيْرِهم، إلا الجَهْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنِ الأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ ما يَقُولُونَهُ مِنَ النَّفْي، ولهذا قَالَ ابنُ الُمبَارَكِ ويُوسُفُ بِنُ أَسْبَاطٍ: « إِنَّ الجَهْمِيَّةَ خَارِجُونَ عَنِ الثَّلَاثِ والسَّبْعِينَ فِرْقَةً، وَهَذَا أَحَدُ الوَجْهَينِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ ذَكَرَهما أبو عَبْدِ اللِه بنِ حَامدٍ وَغَيْرُه. وَقِسْمٌ ثَانٍ يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا يَقُولُهُ النَّجَّارِيَّةُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الجَهْمِيَّةِ - عُبَّادُهم، وصُوفِيَّتُهم، وعَوَامُّهُمْ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَيْنُ وجودِ الَمخْلُوقَاتِ، كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الوَحْدَةِ القَائِلُونَ بِأَنَّ الوُجُودَ وَاحِدٌ، ومَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنَ الحُلُولِ وَالاتِّحَادِ، وهم يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ الَمعِيَّةِ والقُرْبِ، وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ العُلُوِّ، وَالاسْتِوَاءِ،وكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الَمعِيَّةَ أَكْثَرُها خَاصَّةٌ بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ! وِفِي النُّصُوصِ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 1]، فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يُسَبِّحُ، والُمسَبِّحُ غَيْرُ الُمسَبَّحِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحديد: 2]، فَبَيَّنَ أَنَّ المُلْكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]. وَفِي الصَّحِيحِ: « أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ »، فَإِذَا كَانَ هُوَ الأَوَّلُ كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَه، وإذا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كان هناك ما الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلْيهِ، وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءٌ نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرِبي: « مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى ( العَلِيُّ ) عَلَى مَنْ يَكُونَ عَلِيًّا، وَمَا ثَمَّ إلا هو؟ وَعَلى ماذا يَكُونُ عَلِيًّا، ومَا يَكُونُ إلا هو؟ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ، وهو مِنْ حَيْثُ الوُجُودِ عَيْنُ الَموْجُودَاتِ، فالُمسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ العَلِيَّةُ لِذَاتِهَا، وَلَيْسَتْ إِلَّا هو »، ثُمَّ قَالَ: « قَالَ الخَرَّازُ: وهو وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَه يَعْرِفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الأَضْدَاد: فهو عَيْنُ مَا ظَهَرَ، وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ، وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ، ومَا ثَمَّ مَنْ بَطَنَ عَنْهُ سِوَاهُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نِفْسِهِ، وَهُوَ الُمسَمَّى أبو سعيد الخراز » [22]. وَالَمعِيَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى المُمَازَجَةِ والُمخَالَطَةِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ القُرْبِ، فَإِنَّ عِنْدَ الحُلُولِيَّةِ أَنَّه في حَبْل الوَرِيدِ! كما هو عندهم في سَائرِ الأَعْيَانِ! وَكُلُّ هَذَا كَفْرٌ وَجَهْلٌ بالقُرْآنِ. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |