العلاقة بين اللغة والهوية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قصص القرآن غزوة بدر الكبرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          اجْعل لكَ أثراً في الحياة !! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أركان الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          العشر من ذي الحجة وبناء الإنسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          بشراكم دخول عشر ذي الحجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          العشر والنحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          ظاهرة العزوف عن الزواج: الأسباب والحلول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          بكاء السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          غزوة الحديبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          المسيح الدجال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-10-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,012
الدولة : Egypt
افتراضي العلاقة بين اللغة والهوية

العلاقة بين اللغة والهوية


د. فيصل الحفيان





اللغة والهوية
إشكاليات المفاهيم وجدل العلاقات




استهلال:
يهدف هذا البحث إلى الإجابة عن تساؤُل هام: ما حدود العَلاقة بين اللُّغة والهُوِيَّة؟ وهو سؤال يستبطن في داخله إقرارًا بأن ثمة علاقة بينهما، والسؤال وما استبطنه يستدعيان مجموعة من النِّقاط والأسئلة التي ترتبط بتلك الدوائر التي يلتقيان (اللغة والهُوِيَّة) فيها، وتلك التي يفترقانِ فيها إن كانت موجودةً، وعلى الرَّغم من أنَّ البحث يَنهَد إلى قضية اللُّغة والهُويَّة في إطارها العام والمجرَّد، فإنَّ الغاية - بلا شكٍّ – هي "العربية"؛ لُغتنا عربًا ومسلمين، أو منتمين إلى الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، والغاية أيضًا هي "الهُوية العربية الإسلامية" التي تجمع الشَّمْل، وتُوحِّد الصفَّ، وتعقد الآصرة، وإذًا فإنَّ ثمةَ وقفةً مع العربية بوصفها هُويَّة، وما تحمله في داخلها من عناصر قوَّة، ممَّا يُحفزنا على الإيمان بها من ناحية، والتمسُّك بها من ناحية أخرى، ثم ما تواجهه من عناصر ضعفٍ؛ لنكونَ معها في هذه المواجهة.

سنتوقَّف عند ما سبق على عجل، في استجابةٍ لِمَا تفرضه مناسبة ندوة، وحدود زمن متاح فيها، وقبلَ هذا وذاك، فإنَّ القضية أكبرُ من بحث، وأوسعُ من ندوة، وستظل مُثارةً إلى ما شاء الله.

· · ·



بعضُ الألفاظ قريبة منَّا إلى درجة أنَّنا نغفل عن دلالاتها البعيدة أو العميقة، ونستحضر دلالاتِها القريبة، أو المباشرة فحسبُ، ومع مرور الزمن، وكثرة تداولها تَخْلَق تلك الألفاظُ، وَيرِقُّ إهابُها، فتنزوي الدلالات (البعيدة أو العميقة)، حتى تختفيَ تمامًا، فلا تكاد تظهر إلاَّ عند (النُّخبة) في سياق دراساتٍ، أو بحوث متخصِّصة، يتداولها نفرٌ محدود من الناس، حتى هذا الظهور يكون محاصَرًا في الغالب داخلَ قاعات ضيِّقة، أو وراءَ جُدران سميكة.

مِن هذه الألفاظ: اللُّغة، والهُوِيَّة، ماذا بقي لنا من دلالات هذين اللفظين؟ لم يبق من الأوَّل سوى الاتصالِ أو التواصل، ولم يبقَ من الثاني سوى البطاقةِ الشخصيَّة التي تسمَّى في بعض البلاد العربية بالاسم نفسه "بطاقة"، وفي بعضها "هُوِيَّة"، وفي بعضها الآخر، وداخل شرائح من هذا البعضِ يتمُّ القفز على الأسماء العربيَّة، ممَّا يعني القفزَ على اللغة ذاتها، ويحدُث الاتجاه إلى لفظ أجنبي دخيل، قد يكون: I.D!

ولو نظرنا في هذه الدلالات القريبة (المسطَّحة)، فإنَّها لا تتجاوز في "اللغة" ما يُردِّده اللسان، أو يُلقي به لنقضيَ الحوائج اليوميَّة، ونحقِّق التواصل مع المجتمع، بدءًا مِن الأسرة والزُّملاء والأصدقاء، وانتهاءً بالغرباء، وفي أحيان التعبير عن أنفسنا في إطار مشاغل الحياة وهمومِها، (حتى هذا التعبير انحسر تحت تأثير ضجيجِ الإيقاع السريع لحياتنا العصريَّة غير الإنسانيَّة).

ولا تتعدَّى في "الهُويَّة" التعريف بـ"الأنا الفرديَّة" مقطوعة الصِّلة بـ"الأنا الجمعية" بمختلف مستوياتها: الأنا التاريخية، والجغرافية، والثقافية، والسياسية، والدِّينية... والحضاريَّة بإجمال، وداخل كلِّ مستوى مِن هذه المستويات درجاتٌ، ونحن دائمًا في الدرجة الأدنى؛ القريبة.

ومِن المفارقات اللافتة: أنَّ (العامَّة) أصبحوا اليومَ أكثر صدقًا وعفويةً في الالْتفات إلى المستويات العُليا للهويَّة، أو لـ"الأنا"، كأنَّ الوعي البسيط والعفويَّ يقترب بنا من المثل والغايات والحقائق، وفي الوقت نفسِه من المصالح وتحقيق الذات، أكثر مِن الوعي المركَّب والعاقل، وربَّما يرجع ذلك إلى أنَّ هذه (النخب) واقعةٌ تحت تأثيرِ الأنانية، وبريق المال، وسطوة الإعلام، وضغوط السُّلطة، وجاذبية الفلك القويِّ الذي لا يرحمُ مَن يقترب منه، فيبتلعه، وكأنَّه ثقبٌ من تلك الثقوب السَّوداء المنتشرة في الكون.

نحن إذًا في حاجةٍ إلى أن نتبيَّن الدلالاتِ القريبةَ والبعيدة، الظاهرة والمستترة، لكلٍّ من هذين اللفظين، حتى نصل إلى غايتنا المتوخاة.




(1)


تحديدات أولية

1/1: اللغة (الدلالات)

ترجع كلمة "لغة" في العربيَّة إلى المادة أو الجذر: "لغو"، أو "لغي"[1]، وهو جذر يدور حولَ معاني الرَّمْي والطَّرْح والإلْقاء (اللفظ)، وهي معانٍ ظلَّت مقترنةً بهذا الجذر في تصاريف المادة، وحملت معاني الرَّمي وما يتَّصل بها ظلالاً، فيها الزُّهد بالشيء، وعدم أهميَّته، وكونه منبوذًا، ذلك أنَّ ما يُرمى أو يُلقى به أو يُطرح يكون كذلك[2].

وقد استعمل العرب كلمة "لغة"، وكلمة "لغات" للدلالة على اللَّهجاتِ التي كانت منتشرةً في الجزيرة العربيَّة، وترتبط كلٌّ منها بقبيلة، أو مجموعةِ قبائلَ تعيش في حَيِّز جغرافي (الحجاز، اليمن)، وقد تُنسب اللغة إلى القبيلة، لا إلى المكان (تميم)، فكانوا يقولون: لُغة أهل الحِجاز، ولُغة أهل اليمن، أو لغة بني تميم، كما يقولون: لُغة قُرَيْش، ولُغة هُذَيل، وجاء اللُّغويُّون والذين عُنوا بجمع اللُّغة وتقعيدها، فاستخدموا "لغة" الاستخدامَ عينَه، فإذا ما أرادوا التعبيرَ عن اللغة، من حيث هي لغةُ القبائل العربيَّة جميعًا، استخدموا أيضًا "لغة"، و"العربية".

غيرَ أنَّ القرآن الكريم لم يستخدمْ لفظ "لغة"، إنَّما استبدل بها لفظ "لسان"[3]، في حين جاءتْ تصاريف" لغو"، أو "لغي" فيه لتؤدِّيَ الدلالاتِ المحمَّلة بالمعاني الأُولى "الرمي وما يتَّصل به، وما تطوَّر عنه، مِن مثل القبيح قولاً وفعلاً، والعيب، والفُحش، واليمين غير المقصودة[4]، على أنَّ العرب استخدموا تلك التصاريفَ في المعاني القرآنيَّة، وغيرها ممَّا يمكن عدُّه في دائرة الكلام البشري حينًا بظلال المعاني الأُولى المستكرَهة، وحينًا بمَعْزِل عن تلك الظِّلال.

وعلى أيَّة حال، فليس هذا موطنَ الاستغراق في هذه المسألة، إنَّ القصد مجرَّد توضيح الدلالة اللُّغوية للفظ "لغة"، والمفارقة هنا في أنَّ اللفظ الذي يدلُّ على الطَّرْح أصبح يدلُّ على ما يصدر عن عقل الإنسان، ويعكس فِكرَه، ولا يؤدِّيه إلاَّ لسانُه، لا لشيءٍ سوى أنَّه (الكلام) شيء يُلقى، أو ينبغي أن يُلقى؛ نظرًا لاشتداد الحاجة إليه في التواصل[5]، ونحن هنا لا علاقة لنا بمعنى الطَّرْح، بل بمعنى الكلام، الذي هو بدَوره صورة الفِكر، فهو المقصود.

على أنَّ الدلالتَين (الطرح، والكلام) مقصورتان على تصاريف الكلمة، أمَّا "لغة" هذا اللَّفظ المختوم بتاء مربوطة، فهو مخلَص للكلام البشري العاقل.

ذلك ما تُشير إليه المعجمات، وتنصُّ عليه كتب اللُّغة، أمَّا اللُّغويُّون والنَّحْويون العرب وهم ينظرون في "لغة" ليقيموا دراساتِهم وبحوثَهم، فلم يبعدوا كثيرًا، اللُّغة عندهم "أصوات يعبر بها كلُّ قوم عن أغراضهم"[6]، والتحليل لهذا التعريف يؤدِّي بنا إلى أن نلحظ العناصر التالية:
أصوات (الكلام)، كل قوم (الناس)، التعبير عن الأغراض (التواصل)، وثَمَّة علاقات بينيَّة بين هذه العناصر تجعل منها كلاًّ لا يمكن تجزئته؛ لأنَّ التجزئة تجعل من كلِّ عنصر شيئًا لا عَلاقة له بـ "اللغة" التي نقصد، وقد توقفتُ في بحث لي سابق ذلك، وبسطتُ الكلام فيه[7].






1/2: اللغة (التجاذبات)



اللغة واللسان:

إذا كانت تلك هي مؤشراتِ الدلالات اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة لـ "لغة"، فإنَّ الصورة لن تَظهر خطوطُها إذا لم ننظرْ في بعض التجاذبات التي تربط بين "اللغة"، وبعض الألفاظ الأخرى، سواء كانت تلك التجاذباتُ لفظيَّةً أم أقرب إليها، معنويَّة أم أقرب إليها.

وأوَّل تلك الألفاظ "اللسان"، وقد سبق أن ألْمحنا إلى تناوب اللَّفظين "اللغة" و"اللسان"، والتعبير بكلٍّ منهما عن الآخَر، لكنَّ ثمَّة فارقًا آخرَ تحسُن الإشارة إليه، وهو - وإن كان فارقًا لم يدخلْ في حسبان اللُّغويِّين العرب والمسلمين، ونبَّه عليه اللُّغويُّون الغربيُّون، وتحديدًا فرديناند دي سوسير - فارق مهم في سِياق موضوعنا، من المعلوم أنَّ دي سوسير ومدرسته في مطالع القرن العِشرين قد رأوا أنَّ اللُّغة Langue شيء، والكلام Parole شيءٌ آخَر، اللُّغة نظام اجتماعي مستقل، أمَّا الكلام فهو تَحقُّق هذا النظام في صورة رموز، بعبارةٍ أخرى: اللُّغة طرائقُ تفكير في عقل الإنسان، أو عقل الجماعة البشريَّة، أمَّا اللِّسان أو الكلام فهو: صورة الأصوات، أو الرموز الكتابيَّة التي نسمعها، أو نراها؛ لتُحقِّق لنا التعبير والتواصل، التعبير عن النَّفس، والتواصُل مع الآخرين.
هذه التفرقة مهمَّة، فاللُّغة المرتبطة بالهُويَّة هي هناك في العقل، عقل الإنسان، لا على لسانه، وهذه نقطةٌ سنتوقَّف عندها لاحقًا.



اللغة والثقافة:
بين اللُّغة والثقافة رِباط حميم، ذلك أنَّنا لا نتصوَّر لغةً ما بالمفهوم الذي ذَكرْنا لا تنتج ثقافة، أيًّا كانت اللُّغة، وأيًّا كانت الثقافة، كما أنَّنا لا نتصوَّر ثقافة لا تعتمد في جانب أساس منها على وعاءٍ لُغويٍّ يحتويها، ويتفاعل معها وينقلها، هما إذًا دائرتان متداخلتانِ لا يُمكن أن نُخَلِّص إحداهما من الأخرى، نقول ذلك دونَ أن ندخل في تعريفاتِ الثقافة وتوجُّهاتها، فليس هذا موطنَه، إذ ما يهمنا أن نؤكِّد على نقطة مهمَّة؛ هي: أنَّه إذا كانت اللُّغة هي الفِكرَ الذي يتفاعل مع الأشياء، ويقف منها أو معها مواقفَ محدَّدة، فإنَّ الثقافة هي أيضًا ذلك الشيء، أو تلك الأشياء المتشابكة، وغير الملموسة التي تُملي عليه طرائقُه في التعامل مع الأشياء، وتحدِّد استجاباتِه تُجاهها، نحن إذًا أمام وجهين لشيءٍ واحد، قد تكون الثقافة أعمَّ، إذِ اللُّغة عنصر مهمٌّ للغاية في بنائها، وتوجيه مسارها، على أنَّ للثقافة دورَها الخطير في التأثير في اللُّغة باعتبارها فكرًا، واللغة والثقافة معًا ليستَا نابعتَين من داخل الإنسان، أو ليستَا فرديَّتين؛ لكنَّهما جزءٌ من حراك الوسط الذي يعيشانِ فيه، ومِن هنا تأتي التفرقة الضروريَّة بينهما، وبين العِلم "الثقافة نظرية في السُّلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يُقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعِلم"[8].

اللغة والتواصل:
وإذا كانتِ الصلة بين اللُّغة والثقافة قد تشابكتْ بالقدر الذي افترقتَا (اللغة والثقافة) عن العِلم، فإن ثمَّة فارقًا أساسيًّا أيضًا بين اللُّغة وإحدى وظائفها الأساسيَّة (التواصل)، فعلى الرَّغم من أهمية هذه الوظيفة وحيويتها وضرورتها، فإنَّها - مجردة - ذاتُ قيمة محدودة؛ لأنَّها متحقِّقة بين الكائنات الأخرى الحيَّة بالقدر الذي تحتاجه ويكفيها، فـ"التواصل" في حدِّ ذاته ضروري؛ لكن أهميته الجوهريَّة تنبعُ مِن تأثيره المباشر عندما يرتدُّ إلى الفِكر، ويُغيِّر في طرائقه، إنَّه (التواصل) جزءٌ مهمٌّ من المحيط الذي يبني القِيَم والمشاعر والأفكار ويُشكِّلها، ويعطيها مذاقَها وخصوصيتها، ويصبغها بصبغته الفارقة، وهذا ما يُعيدنا مرَّة أخرى إلى "اللغة" التي ترتبط بعقل الإنسان وفِكره أكثرَ ممَّا ترتبط بلسانه وعلاقاته بالآخرين، كما يذكرنا بالثقافة، بالمفهوم الذي ذَكرْنا، لا بوصفها كمًّا من المعلومات والمعارف التي تجتمع في داخلِ الإنسان أو المجتمع.



1/3: الهوية (الدلالات والتجاذبات):

الهُويَّة كلمة تتمحور دلالاتُها حولَ الذات والحقيقة والماهية، وهي مع هذه المرادفات – على الرَّغم من بعض الفروق التي تقوم على اعتباراتٍ متباينة – قادمةٌ من عالَم الفلسفة، وهي لُغويًّا من قبيل المصدر الصناعي، فقد تمَّ توليدُها من النسبة إلى "هو"، أو "الهو"، الذي هو في اصطلاح الفلاسفة "الغيب"، أو "الحقيقة المطلقة"، أو "الله"[9]، وبعد الحقيقة المطلَقة أصبحتْ تُطلق على الحقيقة، حقيقة الشيء، حقيقة الإنسان أو غيره.

وللهُويَّة تعريفات عديدة عند الفلاسفة والمتصوِّفة وعلماء النفس والرِّياضيات والمنطق، وتصبُّ جميعًا في النهاية في دلالات، كنتُ حصرتُها في بحث سابق بالحقيقة والماهية والذات، والوحدة والاندماج، والانتماء والتساوي والتشابه[10].

وقد تكون "الهُويَّة" جزئيةً يسيرة خاصَّة بشيء، أو إنسانٍ بعينه، وقد تكون كليَّة مركَّبة، خاصَّة بجماعة أو شعب أو أُمَّة؛ لكنَّها في صورتها الأولى في أدنى السُّلَّم إنْ كان ثمةَ سُلمٌ يمكن وضعُه لهذا المفهوم، وكلَّما اتسعت الهويَّة لتشملَ أفرادًا أكثر كانت أكثرَ تعقيدًا وتشابكًا وتركيبًا؛ لأنَّها تصبح أعمقَ دلالة على أفرادها، وأكثرَ تعبيرًا عن رؤاهم، وأشدَّ التصاقًا بمصالحهم وغاياتهم الجمعيَّة.

على أنَّ الهُويَّة التي نتغيَّاها لا تُولد مع الإنسان، ولا تتشكَّل مرَّة واحدة، كما أنَّها ليست حراكًا في داخله؛ بل هي ذاتُ عَلاقة وثيقة بالمحيط، شأنها في ذلك شأن اللُّغة والثقافة.

إنَّ هوية الإنسان يرسمها ويحدِّد شكلَها وألوانها ما يَرِد إليه من خارجه، وما تثمره علاقاتُه بالآخرين؛ ولهذا فإنَّها لا بدَّ أن تكون - ولو في بعض صُوُرها - جزءًا من هُويَّة مجتمعه، أو تحمل على الأقلِّ بعضَ ملامح هذا المجتمع.

والمجتمع الذي نقصده هنا ليس هو المجتمعَ الحاضر فقط، أقصد الوسط الاجتماعي الذي يراه ويتعامل معه الإنسان؛ ولكنَّه أيضًا المجتمع التاريخي، أو تاريخ الجماعة التي ينتمي إليها، والتاريخ – بالطبع – كلٌّ مركَّب، فيه العلوم والمعارف، والمواقف والذكريات والمشاعر، أفراحًا وأتراحًا، والتجارِب إيجابًا وسلبًا، كلُّ ذلك يُسهم في تشكيل هويَّة الفرد، كما يسهم بالقدر نفسه - وربَّما بصورة أعمقَ - في تشكيل هويَّة الجماعة كلِّها.

وليس الزمن - ماضيًا وحاضرًا، بما فيه، ومَن فيه - هو وحْدَه صاحبَ التأثير في بناء ملامح الفرد والجماعة، فهناك أيضًا المكان (الجغرافيا)، هذا أيضًا له دَورُه في صياغة الهويَّة.

على أنَّ ثمَّة عنصرًا آخر يفوق تلك العناصر مجتمعة، هو عنصر الفِكر أو الرؤية، أو الفلسفة، وما يرتبط بذلك من ثوابت ترى الجماعةُ من خلالها أنفسَها وعلاقاتِها، والعالَمَ من حولها.

ويندرج تحت هذا العنصر الدِّين، فالدِّين ليس سوى رؤيةٍ للذات والكون والآخَر.

وكلَّما كان الفكر عميقًا قادرًا على النفاذ إلى حقائق الأشياء وجواهرها، كان أكثرَ قدرةً على بناء الإنسان، وربطِه بأولئك الذين يشتركون معه في ثوابته الفكريَّة، وتوحيده معهم، وصياغته وصياغتهم في بوتقةٍ واحدة.

وثمَّةَ عناصرُ أخرى؛ مثل الإرادة المشتركة، والدولة، والمصالح الاقتصاديَّة، يرى بعضُهم فيها عواملَ مهمَّة في بناء الهويَّة؛ لكنَّنا لن ندخل في الكشف عن أبعادها في هذا السياق.[11]
يتبع








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 108.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 106.31 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]