نبأ ابني آدم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1109 - عددالزوار : 128167 )           »          زلزال في اليمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 4749 )           »          ما نزل من القُرْآن في غزوة تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          أوليَّات عثمان بن عفان رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          القلب الطيب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          رائدة صدر الدعوة الأولى السيدة خديجة بنت خويلد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          طريق العودة من تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مسيرة الجيش إلى تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-06-2020, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي نبأ ابني آدم

نبأ ابني آدم


د. أحمد فريد





الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.


وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبين عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل، وعرفنا به، ودعا إليه وسلم تسليمًا.


قوله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 27 - 32].


هذه الآيات الكريمات في سورة المائدة تحكي لنا كيف بدأت الجريمة على الأرض، وكيف حدثت أول جريمة قتل على الأرض.

ومناسبة هذه الآيات الكريمات لما قبلها من نفس السورة، أن اليهود حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوة والرسالة، فكأن الله عز وجل يقول له: فقل لهم: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27 ].

ومناسبة هذه الآيات لما بعدها أن الله عز وجل قبل أن يشرع لنا القصاص، وأن يبين لنا أحكام القصاص، بيَّن لنا كيف بدأت الجريمة، وكيف كانت أول جريمة قتل على الأرض، كذلك في هذه الآيات الكريمات عباد الله يظهر فيها كيف يدعو الحسد أهله، وكيف أن أحد ابني آدم حسد أخاه؛ لأنه تُقبِّل منه قربانُه ولم يُتقبَّل منه، فقتله من أجل ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، ألا إنها هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)).


والحسد عباد الله هو الذي دعا إبليس ألا يسجد لآدم، وقال: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، وأبى أن يسجد لآدم تكريمًا وتنفيذًا لأمر الله عز وجل له بالسجود.

في هذه الآيات الكريمات كذلك عباد الله يظهر فيها نوعان من البشر:
النوع الأول: النوع الخير، الذي لا يستطيع أن يعمل إلا الخير، الذي يتقي الله عز وجل، ويتقبل الله عز وجل منه، والذي يخاف الله عز وجل في كل قول وعمل، إني أخاف الله رب العالمين، والذي لا تطاوعه نفسه على الشر، وعلى الإقدام على كبائر الذنوب.


والنوع الثاني عباد الله: هو الذي لا يُرزَق التوبة، ولا يخاف الله عز وجل، والذي يتجرأ على معصية الله عز وجل، وعلى الكبائر، وعلى الإفساد في الأرض دون وازع ودون رادع.

كذلك في القصة عباد الله، كيف يسول الشيطان للعبد بالمعصية، كيف يخفي عنه عواقب المعصية، وكيف يزين له الشهوات، ويدعوه إلى الإعراض عن طاعة رب الأرض والسماوات، حتى إذا وقع في معصية الله عز وجل، يكون الخسران، ويكون الندم، ويكون الصغار، ويكون الذلة، ويكون العذاب في الدنيا والآخرة.

ويقول عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

اختلف العلماء، فقال الجمهور: بأن هذين الرجلين من صلب آدم.

وقال الحسن البصري والضحاك: إنهما كانا من بني إسرائيل، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قال تعقيبًا على القصة: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].


وردَّ شيخ المفسرين ابن جرير الطبري هذا القول بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن كل لفظة في القرآن لا بد أن يكون لها فائدة، فلو كانا من بني إسرائيل ما كان لقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [المائدة: 27] فائدة.

فنسبهم الله عز وجل لآدم، فهذا يدل على أنهما كانا ابني آدم من صلبه، ولم يكونا من بني إسرائيل.


الأمر الثاني عباد الله: أن هذه أول جريمة وقعت على الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها)).

أي: نصيب من دمها؛ لأنه أول من سن القتل، ويستحيل ألا يكون في البشرية قتل حتى بني إسرائيل، فلا بد أن هذه الجريمة قد وقعت قبل بني إسرائيل، وتكررت في البشرية، وهذا معلوم.

الأمر الثالث: يبعد أن يجهل مَن هو مِن بني إسرائيل سُنَّةَ الدفن، وهذا الذي قتل أخاه كان لا يعرف سنة الدفن؛ لأن هذا كان أول قتيل؛ بل قالوا: أول رجل يموت على الأرض مات قبل آدم، وإنه احتار كيف يواري سوءته، وكيف يداري جريمته، وكيف يستر أخاه، فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض؛ أي ينقب عن شيء، أو يبحث عن شيء، أو يدفن شيئًا كما هو شأن الغراب، فتنبه بذلك إلى سنة الدفن، فوارى سوءة أخيه؛ أي دفن أخاه.


فيستحيل ألا تهتدي البشرية إلى سنة الدفن، وأن يجهل الناس سنة الدفن حتى زمن بني إسرائيل.

فهذه أوجه ثلاثة عباد الله قوية في بيان أنهما من صلب آدم.

وقد قال جمهور المفسرين بأن اسم القاتل: قابيل، واسم المقتول: هابيل، والغالب أن ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، كما قال العلامة أحمد شاكر، ولم يَرِد ذلك في كتاب الله عز وجل، ولا في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن قال الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [المائدة: 27].


وهذه التفصيلات عباد الله ليست فيها عبرة وعظة؛ ولذلك يسكت عنها القرآن، فليس في تسمية الرجلين عبرة وعظة، والقصة أن أحد ابني آدم حسد أخاه؛ لأنهما قربا قربانًا إلى الله عز وجل، وكانت علامة قبول القربان والغنائم التي يغنمها المجاهدون - أن يجعلوها في مكان، فتأتي نار من السماء فتحرقها، فهذه علامة على قبول القربان، فتُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر، قال: "لأقتلنك"، وفي الآيات حذف واختصار:
وكأنه قال: "سوف أقتلك"، وقال: "ولماذا تقتلني؟"، قال": "لأن الله عز وجل تقبل قربانك ولم يتقبل مني"، قال: "وما ذنبي"، فدفعه ذلك إلى أن يهدده بالقتل، قال: "لأقتلنك"، قال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].


وكأن هذا الرجل عباد الله يعظ أخاه بكل أساليب الوعظ الصحيحة، ويدعوه إلى الله عز وجل، وكأنه يقول له: إنما أُتِيتَ من قِبَلِ نفسك، ومن جرأتك على الله عز وجل، ومن تركك لطاعة الله عز وجل، فلو كنت متقيًا لتقبَّل الله عز وجل منك، وقال بعض السلف: ما أنعاه على كثير من السلف أعمالهم.


قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
بكى أحد السلف عند موته، فسئل عن سبب بكائه فقال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

فكيف بأعمالنا عباد الله ولم نبلغ درجة التقوى، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "لو أعلم أن الله عز وجل يقبل مني سجدة بالليل وسجدة بالنهار، لطرت شوقًا إلى الموت؛ إن الله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَْ ﴾ [المائدة: 27]".


فنصح الرجل أخاه بأنه أُتِيَ من قِبَل نفسه، وأنه لو كان يتقي الله عز وجل لتقبل الله عز وجل منه، ثم قال له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28].

يذكره بالخوف من الله عز وجل، وبأن نفس الشرير لو سولت له أن يقتل أخاه، فإن المؤمن المطيع المتقي لا يمكن أن تسمح له نفسه بذلك؛ لأن نفسه مطمئنة بطاعة الله عز وجل، وعدل عن الفعل إلى اسم الفاعل، وما قال: لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما بسطت يدي إليك لأقتلك؛ بل قال: ﴿ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28] ليدل هذا على أن هذا من سجيته، وأنه لا يمكن أن تطاوعه نفسه إلى قتل أخيه بأي حال، وأن هذا عهده، فإن قال قائل: لماذا لم يدفع عن نفسه؟ أجاب العلماء بأجوبة:


الأمر الأول: أنه قال له ذلك أولاً على سبيل التهديد، قال: "لأقتلنك" أي على سبيل التهديد، ولم يكن شرع في القتل، فنصحه أخاه وقال: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 28، 29].

فكان ذلك على سبيل التهديد، ولم يشرع في قتله حتى يدافع عن نفسه.


ويعضد ذلك ما قاله بعض المفسرين بأنه قتله عندما كان نائمًا؛ أي لم يستطع أن يدفع عن نفسه، فقتله وهو نائم.

الأمر الثاني: أنه قال له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28].

وليس معنى ذلك أنه لا يسط يده دفاعًا عن نفسه؛ أي أنه قد يبسط يده دفاعًا عن نفسه، ولكن لا تطاوعه نفسه لأن يسط يده ليقتل أخاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلِمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) فقالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه))[1]؛ أي في نيته لو تمكن منه لقتله.

فقال: ﴿ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ ﴾ [المائدة: 28]، ويجوز له أن يبسط يده ليدفع عن نفسه.


الجواب الثالث عباد الله: أنه يجوز للمؤمن إذا قصد للقتل أن يستسلم للقتل، وألا يدافع عن نفسه، كما قال سعد بن أبي وقاص للنبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن دخل علي بيتي، وبسط إلي يده ليقتلني؟".

قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل))[2]،

وفي رواية: ((كن كخير ابني آدم))[3]؛ أي المقتول، وليس القاتل.

وكما استسلم عثمان رضي الله عنه لما ألبوا عليه، ولما قصده أصحاب الفتنة وأرادوا دمه، وكان طلحة بن عبيدالله وعلي بن أبي طالب وجماعات من المؤمنين أرسلوا أولادهم للدفاع عن الخليفة؛ فعزم عليهم ألا يدافعوا عنه؛ من أجل أن يحقن دماء المسلمين، فقتلوه ظلمًا، ووقع دمه على المصحف، وكان يقرأ في المصحف، فنزل على قول الله عز وجل: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].


فقالوا: يجوز للعبد إذا قصد بأن يقتل أن يستسلم، ولا يدافع عن نفسه.

الأمر الرابع عباد الله: أنهم قالوا: لعل هذا كان في شريعتهم، أنه لا يجوز للرجل أن يدفع عن نفسه إذا قصد بالقتل، ولكل أمة شرعة ومنهاج، كما قال الله عز وجل، فالتوحيد واحد، ولكن التكاليف الشرعية والعبادات تختلف من أمة إلى أمة.


فهذه أربعة أجوبة عباد الله، وفي شريعتنا ما يسمى بدفع الصائل، إذا قصد مسلم بأن يقتل، أو ينتهك عرضه، أو يسلب ماله، فيشرع له أن يدافع عن نفسه، ويشرع له أن يدفع بالأخف، فإن كسَر يدَه فاندفع بذلك، لا يُجاوِز ذلك إلى قتله، وإن كسر رجله، فإن كان لا يندفع إلا بالقتل، فيجوز له أن يقتله، وهذا ما يسمى بدفع الصائل، والصائل: هو المعتدي، وليس له دية إذا قتل هذا الصائل؛ لأنه هو المعتدي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد))[4].

فهو إذا قُتِل وهو يدافع عن عرضه، أو عن ماله، أو عن نفسه - فهو شهيد بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهذه أجوبة لهذا العبد المقتول كيف لم يدافع عن نفسه.


فهذا أدب حسن، والقصص القرآني يقصد به التربية، ويقصد به الارتفاع بالأحوال الإيمانية في الأمة، وغرس المعاني الإيمانية الشريفة، لا يقصد بذلك عباد الله إشاعة الفواحش كما يقصد بذلك أصحاب مجلة الحوادث أو الفواحش، أو الذين يشيعون الفواحش على صفحات الجرائد، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا من أجل أن يتجرأ الناس على معصية الله عز وجل، ويستهينون بمعصية الله عز وجل، ولكن القصص القرآني قصص حق في تاريخ البشرية.


﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ﴾ [بِالْحَقِّ] [المائدة: 27]؛ أي أن هذا حق ليس كما هو في القصص الدنيوي من نسج الأفكار، ومن خيال الكُتاب، ولكنه قصص واقعي في تاريخ البشرية، يغرس الله عز وجل به المعاني الإيمانية، فكأنه يقصد كيف يفعل المؤمن إذا قصد بشر، وإذا قصد بالقتل، ما يكون جوابه؟ وكيف ينصح أولاً من يريد أن يعتدي عليه، وكيف يقول له: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 28]، المؤمن في قلبه من الخوف عباد الله ما يدفعه عن معصية الله عز وجل، وما يدفع به إلى طاعة الله عز وجل.

ثم قال له: ﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 29].


أي: أريد أن تتحمل أنت وزر أعمالك وسيئاتك، التي من أجلها لم يتقبل الله عز وجل قربانك، وتبوء أيضًا بإثمي، وكأنه يقول له: ليس لك حسنات حتى آخذها منك إذا كان يوم القيامة، ولكنك سوف تأخذ أيضًا سيئاتي، تبوء بإثم قتلي، أو تبوء بذنوبي؛ لأنه إذا كانت هناك مظلمة فإن المظلوم يأخذ من حسنات الظالم، فإن لم تبق له حسنات طُرِح عليه من سيئاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون من المفلس؟)).

قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.


قال: ((ولكن المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كأمثال الجبال، ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، طرحوا عليه من سيئاتهم ثم طرح في النار))[5].

فكأنه يقول له ويعظه: إنك سوف تتحمل أوزارك وأوزاري يوم القيامة، فكيف تتجرأ على هذا العمل؟ ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30].

طوعت له: أي سهلت له، فالعبد إذا وسوس الشيطان له بمعصية يكون هناك معركة في داخله بين نوازع الخير ونوازع الشر، نوازع الخير تقول له: لا تفعل، تذكر الآخرة، تذكر عقاب الله عز وجل، تذكر الفضيحة على رؤوس الأشهاد، تذكر الفضيحة في الدنيا.


نوازع الشر عباد الله تدفع به إلى المعصية، والشيطان يخفي عنه عواقب المعصية، فينسيه أن بعد المعصية خسرانًا، وبعدها ضنكًا وشقاء، وبعدها عذابًا أليمًا في الآخرة.
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ لَذَّتَهَا
مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا
لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ




وقال بعضهم:

وَكَمْ مِنْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً
وَمَاتَ فَخَلاَّهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا

تَصَرَّمُ لَذَّاتُ المَعَاصِي وَتَنْقَضِي
وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ المَعَاصِي كَمَا هِيَا

فَيَا سَوْءَتَا وَاللَّهُ رَاءٍ وَسَامِعٌ
لَعَبْدٍ بِعَيْنِ اللَّهِ يَغْشَى المَعَاصِيَا





فالشيطان يخفي العواقب، لا يتذكر الإنسان عند المعصية عذاب النار، ولا يتذكر الوقوف بين يدي العزيز الجبار؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))[6].


أي أنه في وقت المعصية يضعف في قلبه الإيمان جدًّا، وقيل: يخرج بالكلية ويكون فوق رأسه، فإن تاب عاد إليه مرة ثانية، وإن أصر لم يعد إليه مرة ثانية، فالشيطان يجعل العبد بإخفاء العواقب وتزيين الشهوات - كالعصفور الذي يرى الحبة في الفخ ولا يرى الفخ، فإذا أراد الحبة يكون ذلك هلاكه وعطبه، وبعد المعصية تبدأ الحسرات، ويبدأ الندم، ويتقطع قلب العبد بعد المعصية بالتوبة، إذا وفِّق إلى التوبة، أو يتقطع عندما تحق الحقائق يوم القيامة، ويرى ثواب الطائعين، وعقاب العاصين، ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ﴾ [المائدة: 30]، ما قال: فطوعت له نفسه فقتله؛ بل كرر ذكر أخيه؛ لأن قتل الرجل كبيرة من الكبائر، فكيف إذا قتل أخاه الذي يجب عليه أن يصله؟

((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))[7].


كيف يقتل من ينصره، وكيف يقتل من هو له عضد في الدنيا، ومن يقويه في الدنيا؟ ﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30]؛ أي خسر كل شيء، خسر أخاه، وخسر دينه؛ لأنه تجرأ على هذه الكبيرة، وما نال شيئًا، وإنما دفعه الحسد إلى هذه الكبيرة، فطوعت له نفسه؛ أي سهلت له نفسه، وزينت له نفسه قتل أخيه، ونسي كل العواقب الوخيمة، ونسي عذاب الله عز وجل، ونسي انتقام الله عز وجل، ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30].

وهكذا العبد عباد الله بعد المعصية يحس بالخسارة، ويحس بالندم، ويحس كذلك عباد الله بالضنك والشقاء في الدنيا قبل الآخرة.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 124.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 122.72 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]