
08-03-2020, 03:26 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,585
الدولة :
|
|
القراطيس.. فرائض وواجبات فرط فيها كثير من المسلمين والمسلمات (المقدمة)
القراطيس.. فرائض وواجبات فرط فيها كثير من المسلمين والمسلمات (المقدمة)
أحمد الجوهري عبد الجواد
المقدمة:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
هذا البحث،الغاية والهدف والوسيلة:
هذا بحث يرصد أهم مظاهر الحال التي يَعيشها المسلمون اليوم بعيدًا عن الإسلام، والتي هي السبب الرئيس مِن وراء انحِدارهم من الريادة إلى التبعية، ومِن القيادة إلى الجندية، ومن مقدمة قافلة الحياة إلى ذيلها، ومِن أُستاذية الدنيا التي كانت بالأمس معلِّمَها المرشد وهاديها الأمين إلى متتلمذة على موائد الفكر غربيِّه وشرقيِّه، ممَّن لا يخلو طعامهم مِن سموم تجرُّهم إلى متاهات جديدة في الطريق.
بُغية هذا البحث والغاية التي يَرمي إليها: الله والجنة.
ومناه وهدفه الذي يَرنوه: تذكير المسلمين بهذه الغاية الغالية.
ووسيلته وطريقته - كما يتَّضح من عنوانه -: التعريف بالفرائض التي شرع الله، وبلغ رسوله، وأضاعها المسلمون؛ فهو يبين حقيقتها، ويعيِّن مظاهر ضياعها وجوانب التفريط فيها، ويوضِّح عوامل فقدِها أو ضَعفِها، ثم يرسم السبل التي يَنبغي اقتفاؤها للوصول إلى إحيائها.
وأبادر إلى القول بأن البحث في فكرته وخطته، ثم في منهجه ووسائله، لا يتحيَّز لفئة من المسلمين دون فئة، ولا يتشيَّع لحرَكة أو فصيل منهم دون حركة أو فصيل؛ لذلك فإن النَّهج الذي ارتضيتُه في استقاءِ معلوماته هو كتاب الله تعالى، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، بفهم السلف الصالح الذين مضوا إلى الله تعالى بإحسان، ثم إنِّي بعدُ أستفيد من أيِّ فكر أو طرح؛ على أساس فهمٍ سليم لهذه الأسس، بما أرجو أن يكون توفيقًا من الله تعالى.
أرجو به: تذكيرَ المؤمنين وهدايتَهم الصراطَ وسواءَه، وتبصيرهم بما أفلتت أيديهم من مصابيح الطريق؛ فضلُّوها بعد وُجدٍ، ونسوها بعد ذُكرٍ، وفقدوها بعد معرفة، حتى لا نضلَّ الطريق والنور ملك يَمينِنا.
كالعِيسِ في البَيداءِ يَقتلُها الظَّما ♦♦♦ والماءُ فوق ظهورِها مَحمولُ
ولنخرج من "التِّيه" الذي نعاه الشاعر علينا مخاطبًا خير مرسل:
شعوبُك في شَرقِ البلاد وغربِها
كأصحابِ كهفٍ في عميق سُباتِ 
بأيديهمُ نورانِ ذكرٌ وسنَّةٌ
فما بالُهم في حالك الظُّلماتِ؟! 
إنَّ أجزاء الدين هي حياة المؤمن، وهي بمثابة جسده الذي به يعيش، ورُوحه التي بها يَحيا، فكما أن حياة المرء هي عبارة عن مجموع هذين - الجسد والروح - فكذلك أجزاء الدِّين هي مجموعه الذي به يقوم؛ ولذا فإن كل جزء من هذه الأجزاء يسد في مكانه من هذه الحياة ثغرًا، لا يقوم به عنه جزء غيره؛ فضياع جزء منها معناه فقْد جزء مِن تلك الحياة في مقابلِه، وكلما كَثُرت الأجزاء المفقودة كثرت الثغرات المفتوقة، وفقَد الجسد - بالتالي - القدرة على الحياة، أو عاش فيها - على الأكثر - عليلاً، فكذلك الدِّين بالنسبة لحياة المسلم.
وإذا نظرْنا اليوم إلى الكثرة الكثيرة مِن الفرائض المضيعة، ومِن الآداب والقيم المنسيَّة، ومن السنن المهجورة، وجدنا الثغرات التي فتقت في الجسد الإسلامي كثيرة جدًّا؛ لذلك - ولا غرو - يَحيا المسلمون اليوم حياةً عليلةً، نعم جزاءً وفاقًا، فأنَّى لهذا الجسد المكلوم بما لا يُحصى من الجراح أن تقوم به حياة؟!
هل السمعُ بعد العَينِ يُغني مكانَها ♦♦♦ أو العينُ بعد السمع تَهدي كما يَهدي؟
إنَّ مما يبعث الشجى في قلب كل مؤمن الحالَ التي وصل إليها اهتمام المسلمين اليوم بالإسلام؛ مِن قلة علمهم به، وتفقههم فيه، ثم عدم حرصِهم على العمل بأحكامه وتطبيقه في مجالات حياتهم.
بل لا إِخالني أعدو الحقيقة إن قلتُ: إنَّ مما يبعَث على الأسف - قبل ذلك - قلَّة رغبة أهل هذا الزمان من المسلمين في التعرُّف إلى الإسلام والتطلُّع إلى العلم به، فضلاً عن الجدِّ في التفتيش عن علومه، والتنقيب عن دقائقه، كما كان ذاك دأب سلَفِهم الأولين، الذين عُلم عنهم السعي الحثيث في تعلُّم الدِّين، والتنافُس الشديد بينهم في الإلمام بمسائله بكل سبيل تيسَّر لهم، ومهما كلَّفهم ذلك من مشاقَّ، سواء العلماء منهم والعامة في ذلك.
وأخبارهم عن هذا لا تستقصى، وأحوالهم فيه لا تكاد تُحصى، ولنضرب من حياتهم على ذلك أمثلة تكون عنوانًا لما وراءها، وبرهانًا على ما سبقها وما لحقها.
• سافر اثنتي عشرة ليلةً لأجل مسألة واحدة:
فهذا عقبة بن الحارث رضي الله عنه سافر من مكة إلى المدينة ليَلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاعٍ وقعتْ له؛ فقد روى البخاري عن عقبة بن الحارث: أنه تزوَّج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتتْه امرأة فقالت: إني قد أرضعتُ عقبة والتي تزوَّج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنَّكِ أرضعتِني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف وقد قيل؟!)) ففارَقها عُقبة، ونكحت زوجًا غيره[1].
فيالله يُسافر من مكة إلى المدينة مَسيرة يُقضى دونها النحب على ناقة، وإن كانت من النوق النجب، فلا تقصر به المدة مطلقًا عن ثمانية أيام، يَحطُّه ليل ويحمله نهار، ليسأل عن مسألة واحدة، ولكن أنى العجب وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فإن ترى أنه كانت تلك همة عُقبَة لأنها مسألة تتوقف عندها حياته ومعيشته كلها، فأجدر به أن يفعل، فتلك همة أخ له آخر، في مسألة لا يضره أنها تفوته، لكنه يسعى لأجلها مسيرة هي أكبر من هذه وأعظم!
روى أحمد، والطبراني في الأوسط، وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب عن رجاء بن حيوة قال: سمعت مسلمة بن مخلَد رضي الله عنه يقول: بينا أنا على مصر فأتى البواب فقال: إن أعرابيًّا على الباب يستأذن، فقلتُ: مَن أنت؟ قال: أنا جابر بن عبدالله، قال: فأشرفتُ عليه فقلتُ: أنزل إليك أو تصعد؟ قال: لا تنزل ولا أصعد، حديث بلغني أنك ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن جئتُ أَسمعُه، قلتُ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن ستَر على مؤمن عورةً، فكأنما أحيا موءودة))، فضرَب بعيرَه راجعًا[2].
فجاء رضي الله عنه من المدينة ليسأل عن مسألة عالمًا بها في مصر، ثم عاد مرة ثانية.
• خير خلف لخير سلف:
وعلى السبيل ذاتها سار السلف الصالح من بعد الصحابة رضوان الله عليهم على طريقتِهم تلك، يَقتفون الأثر، ومِن نوادر الرحلات ذكر عنهم أعاجيب.
فدونَك فاستمع ما صنعه هذا الإمام العظيم الحافظ أبو عبدالرحمن بقيُّ بن مخلَد الأندلسي رحمه الله؛ فقد نقل بعض العلماء من كتاب حفيده قوله: سمعتُ أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلاً بغيتُه ملاقاة أحمد بن حنبل.
قال: فلما قربتُ بلغتْني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، فاحتللتُ بغداد، واكتريتُ بيتًا في فندق، ثم أتيت الجامع، وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدُفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجتْ لي فرجة، فقمتُ إليه، فقلت: يا أبا زكريا رحمك الله، رجل غريب، ناءٍ عن وطنه، أردتُ السؤال فلا تستخفَّني.
فقال: قل، فسألت عن بعض مَن لقيتُه، فبعضًا زكَّى، وبعضًا جرح، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي: أبو الوليد صاحب صلاة دمشق، ثِقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدًا كبرًا ما ضرَّه شيئًا؛ لخيره وفضله.
فصاح أصحاب الحلقة: يَكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال.
فقلتُ وأنا واقف على قدم: اكشف عن رجل واحد؛ أحمد بن حنبل.
فنظر إليَّ كالمتعجِّب، فقال لي: ومثلُنا نحن نكشف عن أحمد، ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلُهم.
فخرجتُ أستدلُّ على منزل أحمد بن حنبل، فدللتُ عليه، فقرعتُ بابه، فخرَج إليَّ، فقلتُ: يا أبا عبدالله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالبُ حديثٍ، ومقيِّد سنَّة، ولم تكن رحلتي إلا إليك.
فقال: ادخُل الأسطوان، يعني به الممر إلى داخل الدار، ولا يقع عليك عين، فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟! قلتُ: المغرب الأقصى، فقال لي: إفريقية؟ قلتُ: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيءٌ أحب إليَّ مِن أن أحسنَ عون مثلك على مطلبِه، غير أنِّي في حيني هذا مُمتحن بما لعلَّه قد بلغك.
فقلتُ: بلى قد بلَغني، وأنا قريب مِن بلدك، مُقبل نحوك.
فقلتُ له: يا أبا عبدالله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العَين عندكم، فإن أذنتَ لي أن آتي كل يوم في زي السُّؤَّال، فأقول عند الباب ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تُحدِّثني في كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية.
فقال لي: نعم، على شرط ألا تظهَر في الحِلَق، ولا عند المُحدِّثين.
فقلتُ: لك شرطك.
فكنتُ آخذ عصا بيدي، وألفُّ رأسي بخرقة مدنَّسة، وأجعل كاغدي - أي: ورقي - ودواتي في كمي، ثمَّ آتي بابه، فأصيح: الأجر رحمَك الله، والسؤال هناك كذلك، فيخرج إليَّ ويُغلق باب الدار، ويُحدِّثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمتُ ذلك حتى مات المُمتحن له، وولي بعده مَن كان على مذهب السنَّة، فظهَر أحمد، وعلتْ إمامته، وكانت تُضرَب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنتُ إذا أتيت حلقتَه فسح لي، ويقصُّ على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يُناولني الحديث مناولة، ويقرؤه عليَّ، وأقرؤه عليه[3].
فانظر رحمك الله إلى حرصه على تحصيل العلم، يزيل به الجهالة عن نفسه، ويُزكِّي به قلبه، ويُؤجَر بتعليمه الناس بعد، ويحفظ دين الله تعالى، فأين نحن من أولئك؟!
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|