إدارة المعرفة الإسلامية.. من النظرية إلى التطبيق - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5083 - عددالزوار : 2324477 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4668 - عددالزوار : 1616426 )           »          تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 139 - عددالزوار : 1399 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21917 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20505 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 103 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 97 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 111 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 96 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-11-2025, 11:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,362
الدولة : Egypt
افتراضي إدارة المعرفة الإسلامية.. من النظرية إلى التطبيق







إدارة المعرفة الإسلامية.. من النظرية إلى التطبيق


  • لا يمكن إدارة المعرفة بفعالية دون منظومة أخلاقية تضبطها فالمعرفة في الإسلام ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لبناء الإنسان وتنمية المجتمع
  • أهمية المؤسسات الوقفية والتعليمية بوصفها ضمانا لاستدامة المعرفة بعيداً عن التقلبات السياسية والاقتصادية مع الحرص على التكامل بين التخصصات فالعلم في التراث الإسلامي وحدة متكاملة
  • الحاجة ماسة إلى تفعيل مبادئ الوقف العلمي وتأسيس شبكات المعرفة العربية والإسلامية وتطوير المناهج التعليمية لتشجيع التفكير النقدي والإبداعي بدلاً من التلقين
  • ينطلق التصور الإسلامي لإدارة المعرفة من مبدأ الربانية والتوحيد؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- هو مصدر المعرفة؛ فقد علّم آدم الأسماء كلها، وجعل غاية المعرفة والعلم تحقيق عبوديته وإعمار الأرض وفق منهجه
  • إن التأمل في التجربة الإسلامية في إدارة المعرفة يكشف عن منظومة حضارية متكاملة تصلح أن تكون إطاراً مرجعيا لإدارة المعرفة
  • في عصر تدفق المعلومات تبرز (إدارة المعرفة) بوصفها إحدى أهم الحقول المعرفية الحديثة التي تستهدف تنظيم المعلومات واستثمارها
  • ضرورة تجديد إدارة المعرفة بأساليب العصر (الرقمنة والذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات المفتوحة) وذلك على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئ العدالة المعرفية
  • جعل الإسلام المعرفة فريضة اجتماعية، لا تقتصر على دعوة الفرد إلى التعلم؛ بل أوجب على الأمة إقامة مؤسسات علمية تحفظ المعرفة وتنميها وتنقلها للأجيال
  • يحفل تراثنا الإسلامي بمخزون استراتيجي هائل من الحكمة والخبرة، يمكنه أن يلهم حاضرنا ويصنع مستقبلنا
  • يُعدّ مفهوم إدارة المعرفة من أبرز المفاهيم التي تتصدر الفكر الإداري الحديث؛ إذ يمثل الأساس في بناء المؤسسات القادرة على التعلم والتطور واستثمار المعرفة لتحقيق التميز
يُعدّ مفهوم إدارة المعرفة (Knowledge Management) من أبرز المفاهيم التي تتصدر الفكر الإداري الحديث؛ إذ يمثل الأساس في بناء المؤسسات القادرة على التعلم والتطور واستثمار المعرفة لتحقيق التميز والاستدامة، غير إن المتأمل في التراث الإسلامي يكشف أن هذا المفهوم ليس وليد الفكر الغربي المعاصر؛ بل له جذور عميقة في الحضارة الإسلامية؛ حيث كان المسلمون الأوائل رواداً في تنظيم المعرفة، وتوثيقها، ونشرها، وتوظيفها في خدمة الإنسان والمجتمع.
الأساس الشرعي والمعرفي:
تقوم المعرفة في التصور الإسلامي على ثلاثة مسارات مترابطة: وهي معرفة الله، ومعرفة النفس، ومعرفة الكون. ومن هنا، فإن إدارة المعرفة ما هي إلا رؤية شمولية تتكامل فيها الغايات الإيمانية مع الوسائل التنظيمية. وهكذا ينطلق التصور الإسلامي لإدارة المعرفة من مبدأ الربانية والتوحيد؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- هو مصدر المعرفة؛ فقد علّم آدم الأسماء كلها، وجعل غاية المعرفة والعلم تحقيق عبوديته وإعمار الأرض وفق منهجه، كما في قوله -سبحانه وتعالى-: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، وكما في الحديث الشريف: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة»، فهذه النصوص تؤكد أن العلم في الإسلام عبادة وطريق إلى الكمال الإنساني، وأن المعرفة لا تُطلب لذاتها بل لتحقيق مقاصد الشرع في الهداية والعمران، وكما قيل: «العلم ميراث الأنبياء، والجهل سبب الفناء، ومن أحيا العلم فقد أحيا الأمة.»
أهمية إدارة المعرفة:
في عصر تدفق المعلومات والبيانات، تبرز (إدارة المعرفة) بوصفها إحدى أهم الحقول المعرفية الحديثة، التي تستهدف تنظيم المعلومات واستثمارها، وتحويلها إلى حكمة وسلوك ورسالة، وقد يظن كثيرون أن هذا المفهوم وليد الحضارة المعاصرة، لكن الناظر في تراثنا الإسلامي يكتشف أن أسس إدارة المعرفة كانت حاضرة بقوة في مشروعنا الحضاري الإسلامي؛ بل كانت أحد أركان نهضتنا عبر القرون.
المفهوم الإسلامي للمعرفة:
لقد أسس الإسلام رؤية شاملة للمعرفة، تجعل طلبها فريضة، والتعامل معها مسؤولية، كما في قوله -تعالى- في أول ما نزل من القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وهذا التوجيه الرباني يؤسس لقاعدة تحويل المعرفة إلى عبادة يبتغى بها وجه الله؛ لأنها السبيل إلى عمارة الأرض وخدمة الخلق؛ ولذلك كان «طلب العلم فريضة على كل مسلم»؛ لأن العلم هو الذي يهدي إلى العمل الصالح، ويضبط السلوك، ويحقق الاستخلاف الرشيد في الأرض، وكذلك ما ورد في بيان فضل العلماء في قوله -تعالى-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر:9)؛ فإن هذه الآية وغيرها تؤسس لمركزية العلم في التمييز بين الناس، ولم تكن المعرفة في الرؤية الإسلامية مجرد حشو للمعلومات؛ بل كانت عملية متكاملة تبدأ بالتعلم (الاستماع، القراءة)، ثم الفهم (التدبر، والتحليل)، ثم النقل (التعليم، والكتابة)، وانتهاء بالتطبيق (العمل، والسلوك)؛ فهي منظومة من الإدراك والوعي والسلوك والتطبيق؛ كما كان - صلى الله عليه وسلم - يحث على طلب العلم وكتابته ونشره، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بلّغوا عني ولو آية» وهذه كلها تشكل نواة لمنظومة متكاملة لإدارة المعرفة الشخصية؛ كما جعل الإسلام المعرفة فريضة اجتماعية، لا تقتصر على دعوة الفرد إلى التعلم؛ بل أوجب على الأمة إقامة مؤسسات علمية تحفظ المعرفة وتنميها وتنقلها للأجيال، كما قال -تعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.
أسس إدارة المعرفة في الحضارة الإسلامية:
لقد تميّز التراث الإسلامي بنظام معرفي منظم يمكن تسميته بـ«إدارة المعرفة الحضارية»، يقوم على مبادئ متينة، كوّنت نواة كل حركة علمية لاحقة، ويمكن تلخيص تلك الأسس فيما يلي: ١- الأمانة العلمية والإسناد: ويعدّ نظام «الإسناد» في علم الحديث من أروع ما أنتجته البشرية في مجال إدارة المعرفة وضبطها؛ فهو ليس مجرد رواية للمعلومة، بل عملية دقيقة لربط المعلومة بمصدرها عبر سلسلة من الرواة العدول، مع التشديد على الصحة والضبط، وقد تضمنت تلك الآلية عناصر التوثيق، والجودة، والحوكمة، وهي أساسيات إدارة المعرفة الحديثة. ٢- التصنيف والتبويب: حيث امتاز العلماء المسلمون ببراعتهم في تصنيف العلوم وتبويبها، ما سهل الوصول إلى المعلومة واسترجاعها؛ وهكذا ظهرت المصنفات الموسوعية، والمعاجم، والفهارس، وكتب الطبقات والتراجم، ويعدّ كتاب «الفهرست» لابن النديم مثالاً مبكراً على «قاعدة بيانات» شاملة للمعارف في عصره. ٣- النقد والتمحيص: فلم يكن التراث الإسلامي مجرد ناقل للمعرفة؛ بل كان منقحاً وناقداً؛ حيث ظهرت علوم نقد الحديث (الجرح والتعديل)، وعلم (مصطلح الحديث)، والنقد الأدبي، والمناظرات العلمية التي تخضع الأفكار للحوكمة العقلية، ويعدّ هذا التوجه النقدي روح عملية «تحديث المعرفة» وتطويرها. ٤- التكامل بين العلوم: لم تعرف الحضارة الإسلامية التجزئة الحادة بين العلوم؛ فقدكان العالم الفلكي طبيباً، والفقيه أديباً، والمهندس فيلسوفاً، وقد شجع هذا التكامل على «الابتكار المعرفي» عبر تلبية العلوم بعضها بعضاً، بما يحقق التكامل بينها. ٥- الحوار والمناظرة: حيث كانت حلقات العلم في المساجد والمجالس العلمية منابر للحوار الحرّ وتبادل الأفكار، وقد شجعت تلك الثقافة على «تشارك المعرفة» وإثرائها عبر تعدد وجهات النظر. ٦- القيم الأخلاقية للمعرفة: لم تكن المعرفة في التراث الإسلامي محايدة، بل مؤطرة بالمقاصد الشرعية والأخلاقية، وقد وضع العلماء ضوابط للعلم النافع، مؤكدين أن الغاية من العلم العمل به ونفع الناس، لا التفاخر أو التعالي. هذا التوجه القيمي هو ما يعطي لإدارة المعرفة الإسلامية بُعدها الإنساني والإصلاحي.
أركان إدارة المعرفة:
يمكننا تلخيص أركان منظومة إدارة المعرفة في المنظور الإسلامي كما يلي: 1- اكتساب المعرفة: حيث اعتنى المسلمون باكتساب المعرفة من جميع المصادر المشروعة، فجمعوا بين النقل والعقل، وبين الوحي والتجربة؛ كما دعا القرآن إلى النظر والتفكر؛ فكان طلب العلم يشمل العلوم الشرعية والطبيعية والإنسانية، وقد رحل العلماء من الأندلس إلى خراسان طلباً للحديث أو الفقه أو الطب، ما يعكس ثقافة التعلم مدى الحياة، وهي من ركائز إدارة المعرفة المعاصرة.
  1. حفظ المعرفة وتوثيقها: وقد برز في التراث الإسلامي اهتمام بالغ بتوثيق العلم وصيانته من الضياع والتحريف، ومن أعظم صور ذلك ما فعله المحدثون في «علم الإسناد»، الذي يعد نظاماً دقيقاً لإدارة المعرفة ونقلها بثقة؛ فقد ابتكر المسلمون منهج التثبت من الرواة والنصوص، وهو ما يشبه اليوم أنظمة «ضمان الجودة المعرفية»؛ كما ظهرت مؤسسات وقفية متخصصة في حفظ الكتب والمخطوطات، مثل بيت الحكمة في بغداد، ودار العلم في القاهرة، ومكتبة القرويين في فاس، التي كانت مراكز لإدارة المعرفة العلمية والأدبية والشرعية.
  2. تنظيم المعرفة وتصنيفها: وقد كان المسلمون أول من وضع أسس تصنيف العلوم وتنظيمها بطريقة منهجية، كما فعل الفارابي في «إحصاء العلوم»، والغزالي في «إحياء علوم الدين»، وابن خلدون في «المقدمة» حين تحدث عن منهجية العلوم العمرانية، وهذا التصنيف لم يكن نظرياً فحسب؛ بل ساعد على توجيه الجهود العلمية، وتحديد التخصصات، وربط العلوم بعضها ببعض وفق رؤية توحيدية تجعل كل معرفة خادمة للمقاصد العليا للشريعة.
  3. نشر المعرفة وتداولها: لم تُحبس المعرفة في نخبة العلماء؛ بل كانت متاحة لعامة الناس؛ فالمساجد والمدارس والزوايا كانت منابر مفتوحة لتداول العلم، وكان العلماء يدرّسون مجاناً ابتغاء وجه الله؛ كما كانت «الإجازة العلمية» نظاماً دقيقاً لضمان جودة التعليم وتوثيق انتقال المعرفة من الشيخ إلى التلميذ.
وقد كان للرحلات العلمية دور محوري في نشر المعرفة؛ حيث تنقل العلماء بين الأمصار لتبادل الخبرات والمناهج، مما أسهم في بناء شبكة معرفية عالمية سابقة لعصرها.
مناهج العلماء في إنتاج المعرفة:
تميّز العلماء المسلمون بمنهج علمي في التفكير والبحث، يُعد حجر الزاوية في إدارة المعرفة الإسلامية ومن تلك المناهج ما يلي:
  • المنهج النقدي: لم يكن النقل دون تمحيص مقبولاً، بل سادت ثقافة النقد والمراجعة، وقد مارس المحدّثون منهج التحقيق والمقارنة بين الروايات والأقوال.
  • المنهج الاستقرائي: حيث اعتمد العلماء التجربة والملاحظة في العلوم الطبيعية، كما فعل ابن الهيثم في البصريات والرازي في الطب، ويعد هذاالمنهج نموذجاً مبكراً في إدارة المعرفة التجريبية وتوثيق نتائج الأبحاث.
  • المنهج الشمولي: الذي يجمع بين النقل والعقل، والهدي الإلهي والخبرة الإنسانية، وبذلك اتخذت المعرفة طابع التوحيد والتكامل.
مؤسسات إدارة المعرفة في الحضارة الإسلامية:
يُقدّم التاريخ الإسلامي العديد من النماذج الرائدة التي يمكن أن تُعد تطبيقات مبكرة لمفهوم إدارة المعرفة:
  • بيت الحكمة في بغداد: وقد مثّل نموذجاً أوليا لمراكز البحث الحديثة؛ حيث كانت تتم فيه عمليات جمع المخطوطات وترجمتها من اليونانية والسريانية والفارسية، ثم تصنيفها وإعادة إنتاجها في مؤلفات جديدة، وقد كانت هناك فرق عمل متخصصة، تتابع مراحل الإنتاج العلمي من الترجمة إلى التحليل والنشر.
  • دُور العلم والمكتبات الوقفية: مثل دار الحكمة في القاهرة، ومكتبة قرطبة، كانت مؤسسات مفتوحة للعلماء والطلاب، تتيح الوصول للمصادر بانتظام، وتضع قواعد للإعارة والنسخ والتوثيق، مما يوفر بيئة متقدمة لإدارة المعرفة وتداولها.
  • نظام الإجازات العلمية: يمثّل أحد أبرز أدوات توثيق المعرفة وضمان جودتها؛ إذ يتم منحها فقط بعد التحقق من حفظ الطالب لمتون العلم وفهمه للمناهج. إنها أقدم أشكال «شهادات الاعتماد» في إدارة المعرفة البشرية.
  • الوقف العلمي: حيث استخدم المسلمون الوقف لتمويل المؤسسات التعليمية والعلمية وضمان استدامتها، ما ساعد على استمرار المعرفة ونقلها عبر الأجيال دون انقطاع. فالوقف جعل من إدارة المعرفة عملية مجتمعية مشتركة لا تخضع لتقلبات السياسة أو السوق.
  • ويضاف إلى ذلك أيضا: المساجد والمدارس النظامية؛ حيث كانت المساجد تمثل الجامعة الأولى في الإسلام، فهي تجمع بين العبادة والعلم، مثل المسجد النبوي وجامع الأزهر والزيتونة والقيروان، وكذا المدارس النظامية كتلك التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك في القرن الخامس الهجري، فكانت نموذجاً للتعليم المؤسسي المنظم، ببرامج ومناهج وأوقاف مستدامة.
القيم الحاكمة لإدارة المعرفة:
تميزت إدارة المعرفة في التراث الإسلامي بارتكازها على منظومة قيمية أصيلة، من أبرزها:
  • الإخلاص لله: فالمعرفة - من نقل أو قول أو فتوى أو بحث - في الإسلام عبادة، لا تطلب للرياء أو الشهرة؛ بل لخدمة الحق والإنسانية.
  • الأمانة العلمية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، وهي قاعدة تأسيسية للنزاهة المعرفية.
  • التكامل بين العلم والعمل: فلا قيمة للمعرفة دون تطبيقها، وقد كان العلماء قدوة في الجمع بين الفكر والممارسة.
  • التكامل الحضاري: حيث انفتح المسلمون على المعارف الأجنبية دون ذوبان ودون فقدان لهويتهم الأصيلة؛ فدرسوا تلك العلوم وأعادوا إنتاجها وفق مقاصدهم الشرعية، وهو نموذج مبكر للعولمة المعرفية المتوازنة.
  • التجديد والاجتهاد: وهو ما يعبر عن المرونة الفكرية والاستجابة المستمرة لاحتياجات الزمان والمكان، وهي خاصية أساسية لإدارة المعرفة المتجددة في الإسلام.
  • العدل المعرفي: أي عدم احتكار العلم، بل نشره وتعليمه، وفي فضل العلم يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «العلم خير من المال؛ فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال».
نموذج إدارة المعرفة الشخصية:
كان العلماء قدوة في إدارة معارفهم الشخصية؛ حيث نقرأ عن الإمام البخاري - على سبيل المثال- كيف كان يدوّن الحديث ويحققه ويرتبه في صحيحه، في عملية استغرقت ست عشرة سنة من الجمع والفرز والتحقيق، وكان الإمام الغزالي يكتب كل ما يخطر بباله من فوائد على قصاصات صغيرة، يحملها معه أينما ذهب، وإن مثل هذه الممارسات تعكس وعياً عميقاً بأهمية توثيق المعرفة وتنظيمها.
الرؤية المعاصرة لإحياء إدارة المعرفة:
تحتاج الأمة - في ظل الثورة التقنية - إلى نظام معرفي معاصر، يستلهم روح التراث ويستفيد من أدوات العصر، ونعني بذلك رقمنة التراث الإسلامي وحفظه في قواعد بيانات مفتوحة تيسر الوصول إليه، مع الحرص على تطوير المناهج التعليمية لربط العلم بالقيم والمقاصد، والعمل على إحياء نظام الوقف العلمي لدعم البحث المستقل والمشاريع المعرفية، مع الحرص على تشجيع التعاون بين العلماء والخبراء والتقنيين لبناء «منصات معرفة إسلامية» موثوقة، وتضمين القيم القرآنية في إدارة المعلومات، مثل الصدق، والأمانة، والعدالة.
التوصيات:
وبناء على ما سبق فإنه يمكننا استلهام هذا التراث الغني في عصرنا الحديث من خلال ما يلي:
  • بناء المؤسسات المعرفية الرائدة: ينبغي أن تستلهم جامعاتنا ومراكز أبحاثنا نموذج «بيت الحكمة»، لتصير منارات لإنتاج المعرفة لا مجرد ناقلة لها.
  • إحياء ثقافة «الأمانة العلمية»: فنحن أحوج ما نكون - في عصر «النسخ واللصق» وانتشار الشائعات - إلى إحياء قيمة الإسناد والنقل الأمين للمعلومة، والتحقق من مصادرها.
  • التكامل بين التراث والمعاصرة: يمكننا استخدام أدوات إدارة المعرفة الحديثة (قواعد البيانات، الذكاء الاصطناعي) لتنظيم تراثنا الهائل وفهرسته وإتاحته للباحثين بطرق مبتكرة.
  • تربية جيل من «العلماء الموسوعيين»: وذلك من خلال تشجيع التعليم المتعدد التخصصات الذي يجمع بين العلوم الشرعية والإنسانية والتطبيقية، لينشأ جيل قادر على فهم التعقيدات وإيجاد الحلول الإبداعية.
  • إدارة المعرفة في خدمة المجتمع: وذلك من خلال تحويل المعرفة إلى مشاريع تنموية تطبيقية تخدم المجتمع وتحل مشكلاته، تحقيقاً لمعنى «العلم النافع».
  • إعادة بناء الوعي المعرفي من خلال ربط المسلم بهويته الفكرية الأصيلة، وتعليم الأجيال تاريخ العلم في الإسلام بوصفه ركيزة للنهضة، لا مجرد ماضي مجيد.
  • تحديث المؤسسات العلمية بآليات إدارة المعرفة الحديثة، مثل قواعد البيانات الذكية، وتوثيق الأبحاث رقميا، واعتماد منصات التعاون الافتراضي بين العلماء والباحثين عبر العالم الإسلامي.
  • تعزيز ثقافة الوقف المعرفي عبر تحويل تمويل البحث العلمي والتعليم إلى مشاريع مجتمعية مستدامة؛ فكما كان الوقف في القديم مصدراً لدور العلم والمكتبات، يمكنه اليوم أن يكون محركاً للابتكار الرقمي والمعرفي.
  • دمج التعليم بالقيم والعمل عبر تطوير مناهج تجمع بين علوم الشريعة والعلوم الإنسانية والتطبيقية بأسلوب تفاعلي يرسخ مفهوم تطبيق المعرفة لخدمة الصالح العام.
  • إحياء فقه الاجتهاد والتجديد ليكون الإطار المرجعي لأي تطور علمي أو فكري، مما يحمي المعرفة من الانفصال عن قيمها ويضمن مواكبتها للعصر دون تفريط.
وإننا اليوم - في ظل الثورة الرقمية- أحوج ما نكون إلى استلهام روح إدارة المعرفة الإسلامية، التي تجمع بين القيمة والوظيفة، والإيمان والعقل، لتكون منطلقاً لإحياء نهضة معرفية معاصرة تحقق الاستخلاف الرشيد وتنهض بالأمة نحو مستقبل أكثر وعياً وعدلاً ونوراً، ولتكن إدارة المعرفة في حاضرنا امتداداً لتلك الرسالة الخالدة التي أنارت تاريخنا، وتستطيع أن تنير مستقبلنا من جديد.
الخاتمة:
يحفل تراثنا الإسلامي بمخزون استراتيجي هائل من الحكمة والخبرة، يمكنه أن يلهم حاضرنا ويصنع مستقبلنا، وإن إدارة المعرفة في تراثنا الإسلامي كانت فلسفة حياة، تجمع بين أصالة المصدر، ودقة المنهج، وأمانة النقل، وإبداع الإضافة، وغائية التطبيق، ويمكننا من خلال إحياء هذه الروح، واستلهام مثل تلك النماذج، وتطويعها بأدوات العصر، أن نعيد بناء مشروعنا الحضاري، الذي يقدم المعرفة في إطار من القيم، ويجعل من طلبها عبادة، ومن تطبيقها جهاداً، ومن غايتها رضوان الله -تعالى- وخدمة الإنسانية جمعاء.


اعداد: ذياب أبو سارة









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 63.61 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]