|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() شذرات من زهديات أبي نواس محمد حماني الزُّهد من الأغراض الشِّعرية التي استُحدِثَتْ في صدر الإسلام إلى جانب الشعر الدينيِّ، وشعر الفتوحات، وكان ممَّا دعا إليه الإسلام الزهدُ في الحياة الدنيا ومتاعِها الزائل، فالمسلمُ الصحيحُ مَنْ رفض متاعها، وزهد عمَّا فيها، وعاش لآخرته، وهذا لا يعني الدعوةَ إلى الرهبنة والانقطاع عن الدنيا؛ لأن الإسلام يدعو إلى العمل، والاعتدال في التمتُّع بما وهبه الله لعباده من نِعَم، بلا إسراف أو تبذير، ومن بين الشعراء الزُّهَّاد في صدر الإسلام: عروةُ بن زيد الخيل، وأبو الأسود الدؤلي، أما الشعراء الأُمَوِيُّون الذين عُرفوا بشعر الزهد: سابق البربري، ومالك بن دينار، وغيرهم، أما في العصر العباسيِّ، فقد ظهر فيه شعراءُ زهّادٌ عديدون، كمحمود الوراق، وعبدالله بن المبارك، وبشر بن الحارث، وأبي نُواس... وهلمَّ جرًّا. أبو نُواس (الحسن بن هانئ ت: 200هـ) من الشعراء المُفْلِقين في العصر العباسيِّ، وقد خلَّف ديوانًا ضخمًا؛ ورغم ما عُرف عن الشاعر من شعر المجون، وشعر الخَمْرِ؛ فإنه تاب ورجع عن فُحشه، وقد كان أبو نُواس - في صغره - يُقبل على مجالس الفقه والحديث، والمنطق وغيرها من العلوم، يقول عبدالله بن المعتزِّ (قُتل 296هـ): "كان عالمًا فقيهًا عارفًا بالأحكام والفتيا، بصيرًا بالاختلاف، صاحب نظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه" (طبقات الشعراء المحدثين، ص: 208). ويقول محقِّق ديوان أبي نُواس أحمد عبدالمجيد الغزالي: "وكان الحسن من الذكاء وتفتُّح النفس والنَّهم الشديد للعلم، بحيث لا تفوتُه ليلة لم يركب ظلامها إلى المسجد، ولا حلقة لم يجلس إليها، ولا عالم أو راوية، أو محدِّث، أو فقيه، إلا استمع إليه، ونقل عنه". هذا، وقد وقر في قلبي أن أبا نواس لا يمكن اختزالُه في شعر المُجون، بل إن للشاعر صفحةً مُضيئةً في شعره تجلَّت في زهدياته. والإسلام - كما هو معلوم - لم يقف في وجه الشعراء؛ بل رسم لهم الحدود التي يجب السير عليها، وحدَّد لهم الأغراض وَفْقَ ما يخدم الإنسان القائم على الأخلاق والفضيلة، يقول القاضي عبدالعزيز الجُرْجَاني (ت: 392هـ) في ردِّه على من يغضُّ من شعر أبي الطيِّب المتنبِّي (قُتل: 354هـ) لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة: "فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، وَلَكَانَ أَوْلَاهم بذلك أهلَ الجاهلية، ومن تَشهد الأمةُ عليهم بالكفر، وَلَوَجَبَ أن يكون كعبُ بن زهير وابن الزِّبَعْرَى وأضرابُهما ممن تناولَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بُكْمًا خرسًا، وبكاء مفحمين؛ ولكنَّ الأمرين متباينان، والدين بمعزلٍ عن الشعرِ" (الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص: 64). ومن المعاصرين لأبي نواس: الإمامُ الشافعيُّ (ت: 204ه) الذي فاضت قريحتُه - هو الآخر - فقال شعرًا مُفعمًا بالحكمة، حتى قال: فلَولاَ الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي ♦♦♦ لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ ويُحكى أن الإمام الشافعيَّ دخل على أبي نواس فوجده يجود بنفسه، فقال له: ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ♦♦♦ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا ورغم ما قيل في شأن توبة أبي نواس، واختلاف النقّاد في حقيقتها، يقول الناقد محمد نجيب البهبيتي: "إن أبا نواس يجتمع فيه النور والظلمة، والخير والشر، والإيمان الغامر، والفسوق المستهتر، وإذا كان أبو نواس قد قال ما قال في الخمر والمجون، وأبدى من نفسه ذلك الجانب العاري، فإنه أيضا قد جد فأحسن الجدَّ، وتعبَّد فأحسن العبادة، وتاب فأحسن التوبة" (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، ص: 464). ويعلق الدكتور البهبيتي على القصة التي أوردناها آنفًا بين الإمام الشافعيِّ، وأبي نواس، فيقول: "فالرجل يحبه ويشفق عليه مقتنعًا بأن ما مضت عليه أيام أبي نواس لا يصلح لأن يلقي به ذلك اليوم من أيامه، فكأنه بسؤاله ذاك يذكِّره بالتوبة، ويخفف من وقع الساعة عليه". ويضيف قائلًا: "وفي أبي نُواس إثارة من الخير، وسؤر من الإيمان، يلتمعان من وراء ذلك الاستهتار". وقبل أن نورد شذرات من زهديات أبي نواس يَحْسُنُ بنا أن نقف عند رأي الدكتور محمد مصطفى هدَّارة، وما يقوله في أبي نواس: "ألم يوجد شعراء ماجنون أشد مجونًا من أبي نواس ثم تابوا وتزهدوا والتزموا ذلك في أشعارهم؟ فلماذا نَشُكُّ في توبة أبي نواس، إن كان قال زهدياته قبيلَ وفاته، كما يذهب بعضُ المؤرخين والكتَّاب، ولماذا نَشكُّ في صدق إيمان أبي نواس؟" (اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، ص: 341). أجل، لقد حجَّ أبو نواس سنة 190 للهجرة، وحين جَنَّ الليل جعل يلبِّي بشعره ويحدو به، ويطرب، فغنّى بهذه المناجاة الرائعة والتلبية الخاشعة، وتغنّى معه كلُّ من سمعه، وهو يقول: إِلَهَنَا، مَا أَعْدلَكْ ![]() مَلِيكَ كُلِّ مَا مَلَكْ ![]() لبَّيْكَ، قَدْ لَبَّيتُ لَكْ ![]() لَبَّيكَ، إِنَّ الْحَمْدَ لكْ ![]() وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكْ ![]() وَاللَّيلَ لَمَّا أَنْ حَلَكْ ![]() وَالسَّابِحَاتُ فِي الْفَلَكْ ![]() عَلَى مَجَارِي الْمُنْسَلَكْ ![]() مَا خَابَ عَبْدٌ أَمَّلَكْ ![]() أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكْ ![]() لَولاكَ يَا رَبِّ هَلَكْ ![]() كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ ![]() وَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لَكْ ![]() سَبَّحَ أَوْ لَبَّى فَلَكْ ![]() يَا مُخْطِئًا مَا أَغْفَلَكْ ![]() عَجِّلْ وَبَادِرْ أَجَلَكْ ![]() وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ أَجَلَكْ ![]() وَالْعِزّ لاَ شَرِيكَ لَكْ ![]() (من كتاب "الأغاني"، لأبي الفرج الأصفهاني، 20/ 72). ويقول أبو نواس، أيضًا، شاكيًا ومتضرعًا: يَا رَبِّ، إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً ![]() فَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ ![]() إِنْ كَانَ لا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ ![]() فَبِمَنْ يَلُوذُ، وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ ![]() أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا ![]() فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا ![]() فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ ![]() مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا ![]() وَجَمِيلُ عَفْوِكَ... ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ ![]() وينشد أبو نواس مقطوعة يرقد تحت كَلِمِهَا اقتباسٌ قرآنيٌّ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْ ![]() قَ مِنْ ضَعِيفٍ مَهِينِ ![]() يَسُوقُهُ مِنْ هَوَاءٍ ![]() إِلَى قَرَارٍ مَكِينِ ![]() فِي الْحَجْبِ شَيْئًا فَشَيْئًا ![]() يَحُورُ دُونَ الْعُيُونِ ![]() حَتَّى بَدَتْ حَرَكَاتٌ ![]() مَخْلُوقَةٌ مِنْ سُكُونِ ![]() (الديوان، ص: 619) وإذا كان الدكتور محمد زكي العشماوي يرى بأن الزهد عند أبي نواس هو "البحث عن عالم من الطُّهْرِ ينجو فيه الإنسان من زيف الحياة ووَعَثَائِهَا"؛ فإنَّ أبا نواس يقول: لاَ تَفْرُغُ النَّفْسُ مِنْ شُغْلٍ بِدُنْيَاهَا ![]() رَأَيْتُهَا لَمْ يَنَلْهَا مَنْ تَمَنَّاهَا ![]() إِنَّا لَنَنْفسُ فِي دُنْيَا مُوَلِّيَةٍ ![]() وَنَحْنُ قَدْ نَكْتَفِي مِنْهَا بِأَدْنَاهَا ![]() حَذَّرْتُكَ الْكِبْرَ لاَ يَلْعَقْكَ مَيْسَمُهُ ![]() فَإِنَّهُ مَلْبَسٌ نَازَعْتَهُ اللهَ ![]() يَا بُؤْسَ جَلْدٍ عَلَى عَظْمٍ مُخَرَّقَةٍ ![]() فِيهِ الخُروقُ إِذَا كَلَّمْتَهُ تَاهَ ![]() يَرَى عَلَيْكَ بِهِ فَضْلًا يُبِينُ بِهِ ![]() إِنْ نَالَ فِي الْعَاجِلِ السُّلْطَانَ وَالْجَاهَ
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() مُثْنٍ عَلَى نَفْسِهِ، رَاضٍ بِسِيرَتِهَا ![]() كَذَبْتَ يَا خَادِمَ الدُّنْيَا وَمَولاَهَا ![]() إِنِّي لأَمْقُتُ نَفْسِي عِنْدَ نَخْوَتِهَا ![]() فَكَيْفَ آمنُ مَقْتَ اللهِ إِيَّاهَا ![]() أَنْتَ اللَّئِيمُ الَّذِي لَمْ تَعْدُ هِمَّتُهُ ![]() إِيثَارَ دُنْيا إِذَا نَادَتْهُ لَبَّاهَا ![]() يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ قَدْ شَابَتْ مَفَارِقُهُ ![]() أَمَا تَخَافُ مِنَ الأَيَّامِ عُقْبَاهَا ![]() وأحب أن أختم هذه الجولة في زهديات أبي نُواس بهذه الأبياتِ التي تعكس حُرقته على شبابه الذي ضاع منه، وقد صَاغ هذه الحسرة في ثوب شعري أنيق، وكأني به يحاول رقع ما تخرَّق من ثوب أيامه التي ضاعت في اللهو والمجون؛ وهو يحس بقرب أجله، فيقول: سَهَوْتُ، وَغَرَّنِي أَمَلِي ![]() وَقَدْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي ![]() وَمَنْزِلَةٍ خُلِقْتُ لَهَا ![]() جَعَلْتُ لِغَيْرِهَا شُغُلِي ![]() يَظَلُّ الدَّهْرُ يَطْلُبُنِي ![]() وَيَنْحُونِي عَلَى عَجَلِ ![]() فَأَيَّامِي تُقَرِّبُنِي ![]() وَتُدْنِينِي إِلَى أَجَلِي ![]() (الديوان، ص: 614)
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |