فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 9 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تعملها إزاي؟.. كيف تجهز iPhone الخاص بك لنظام التشغيل iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ما الذي يساهم فى إطالة عمر الكمبيوتر المحمول؟.. تقرير يجيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          هكذا يمكنك الوصول إلى قائمة "البلوك" على حسابك بفيس بوك.. خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          كيفية توفير مساحة تخزين الهاتف الذكي دون حذف الصور؟.. تفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          كيفية قفل الخلايا فى Excel.. وما معناها فى خطوات؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          جوجل تستخدم الذكاء الاصطناعى لتحويل ملاحظاتك النصية إلى بودكاست: وإليك الطريقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          تعرف على طرق استعادة جهات الاتصال المحذوفة على جهاز آيفون الخاص بك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كيفية العثور على التكرارات فى Excel وإزالتها فى خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          كيفية إعادة ضبط وحدة جهاز ps5 فى 6 خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          بضغطة واحدة.. Chrome يتيح الآن للمستخدمين "إلغاء الاشتراك" من تنبيهات المواقع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #81  
قديم 12-03-2022, 06:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (81)

من صــ 321 الى صـ
ـ 328

وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْهُنُودِ.
وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.

فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ.
فَكَيْفَ يُظَنُّ مَعَ هَذَا بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ:وَيُقَالُ: ثَانِيًا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ حُرِّفَتْ بَعْدَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا، وَلَكِنَّ جَمِيعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا.
وَهَذَا مِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى جَمِيعُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.
وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى فِي فِرَقِهِمْ، أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِيمَا تُفَسِّرُ بِهِ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى تُفَسِّرُ التَّوْرَاةَ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْإِنْجِيلِ بِمَا يُخَالِفُ مَعَانِيهَا وَأَنَّهَا بَدَّلَتْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فَصَارَ تَبْدِيلُ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا تَغْيِيرُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بُدِّلَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَهُمْ كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَمَا لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.
أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.
ومن هذا الباب عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.
فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.
كما قال - تعالى -:{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} [البقرة: 151].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى - هو وإسماعيل - الكعبة بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال - تعالى -:
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127] (127) {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: («ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»).
فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.
وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا».
يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.
والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.
وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.
ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.
(وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب).
وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة; فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.
وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.
وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.
ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.
وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء - عليهم السلام - فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح - عليه السلام - بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم -.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #82  
قديم 12-03-2022, 06:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (82)

من صــ 329 الى صـ
ـ 336

وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه».
وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح - عليه السلام - واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.
وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح - عليه السلام - إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.
فالدين الذي اجتمع عليه - صلى الله عليه وسلم - المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال - تعالى - له:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.
فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.
الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.
فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال - تعالى -:
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وقال - تعالى -: عن الخليل وابنه إسماعيل.

{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه:
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.
منها: أن القرآن معجز.
ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.
ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.
وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.
والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.
وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.
وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.
فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.
وما قاله - عليه السلام - فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله.
يقول الله - تعالى -: «من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب» ونحو ذلك ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.
وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #83  
قديم 12-03-2022, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (83)

من صــ 337 الى صـ
ـ 344

هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.
ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.
بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.
ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.
ثم كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.
وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح - عليه السلام -، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.
(فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: {ولكن شبه لهم} [النساء: 157] عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.
والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح - عليه السلام - فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق،

ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح،، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.
واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)

[مسألة السعي بين الصفا والمروة]
مسألة: (والسعي).

يعني به بين الصفا والمروة.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه ; فروي عنه: أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به ; قال - في رواية الأثرم - فيمن انصرف، ولم يسع: يرجع فيسعى وإلا فلا حج له.
وقال - في رواية ابن منصور - إذا بدأ بالصفا والمروة يرجع قبل البيت لا يجزئه.
وقال - في رواية أبي طالب - في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى: فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يقصر فعليه دم، إنما العمرة الطواف والسعي، والحلاق.
وروي عنه: أنه سنة، قال - في رواية أبي طالب -: فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامدا، فلا ينبغي له أن يتركه، وأرجو أن لا يكون عليه شيء.
وقال - في رواية الميموني -: السعي بين الصفا والمروة تطوع، والحاج والقارن والمتمتع عند عطاء واحد إذا طافوا ولم يسعوا.
وقال - في رواية حرب - فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه.
وقال القاضي في المجرد ... وغيره، هذا واجب يجبره دم، هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه.
فمن قال: إنه تطوع احتج بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]
{فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] فأخبر أنهما من شعائر الله، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون، دون زيادة على ذلك، إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] ثم قال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما - كما سيأتي إن شاء الله -: فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما. وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك. فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما، وإماطة الشبهة العارضة. فأما زيادة على ذلك: فلا. ثم قال تعالى: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه، ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع، كان دليلا على أنه تطوع، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة.
وعن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن لا يطوف بهما).
وعن عطاء في قراءة ابن مسعود، أو في مصحف ابن مسعود، (أن لا يطوف بهما) رواهما أحمد في الناسخ والمنسوخ.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #84  
قديم 12-03-2022, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (84)

من صــ 345 الى صـ
ـ 352

وعن أنس قال: «كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: عن عاصم بن سليمان قال: " سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]، فذكر إلى " بهما ".
فهذا أنس بن مالك: قد علم سبب نزول الآية، وقد كان يقول: " إنه تطوع " فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع.
وأما من قال: إنها واجبة - في الجملة - وهو الذي عليه جمهور أصحابنا، فإن الله قال: هما {من شعائر الله} [البقرة: 158] وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت، فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه، ويتعبد فيها له، وينسك حتى صارت أعلاما، وفرض على الخلق قصدها، وإتيانها. فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له، ويكون الخلق مخيرين بين قصده، والإعراض عنه ; لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم الشعائر واجب لقول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها، ووصى بها في غير موضع، وذم من لا يتقي الله، ومن استغنى عن تقواه توعده، وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما، وتعظيمهما من تقوى القلوب، والتقوى واجبة، كان الطواف بهما واجبا، وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما، كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن التي شرفها الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية.
وأما قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف، بحيث يستوي وجوده وعدمه، لأنهما جعلهما من شعائر الله، ثم قال: {فلا جناح عليه} [البقرة: 158] والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء، علم أنه علة، فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج، ثم أتبع ذلك بما يدل على الترغيب،
وهو قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] الآية. نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173] وقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93] الآية، فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار، والموجب للصلاة موجود حال السفر، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان، قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية، خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك، وقد تقدم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية.
وعن الزهري «عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت: " أرأيت قول الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158])، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أخي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله:
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها -: وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر طواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية.

قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما ; في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت» " متفق عليه.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: «قلت لعائشة - وأنا حديث السن - أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول: كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: «إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا، أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ".»
وفي لفظ له: «إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة».
وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي، نصب بين الصفا صنما يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير، ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما، ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون لها، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، لمكان الصنمين الذين عليهما: نهيك مجاود الريح، ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج، وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب، وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وذكره بإسناده عن ابن السائب، قال: كانت صخرة لهذيل، وكانت بقديد.
فقد تبين: أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها.
أما الأنصار في الجاهلية: فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له، ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة.
وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية - غير الأنصار - كانوا يعظمونهما، ولم يجر لهما ذكر في القرآن. وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين، وتعظيما لشعائر الله. فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]، وأوجب حجها على البيت، فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله، كان الأظهر إيجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت، ولذلك سن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من المزدلفة، فأفاض من عرفات، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة، ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا. فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه، أوجب الله النسك فيه.
وأما قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الاستجابة والانقياد، يقال: طوعت الشيء فتطوع أي سهلته فتسهل كما قال: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} [المائدة: 30]، وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية.
ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة، وانقيادا صرفا، وذلا للنفوس، وخروجا عن العز، والأمور المعتادة، وليس فيها حظ للنفوس، فربما قبحها الشيطان في عين الإنسان، ونهاه عنها، ولهذا قال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] قال رجل من أهل العلم: هو طريق الحج، وقال بعد أن فرض: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام، فلا يرى حجه برا،
ولا تركه إثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة، فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما، فقال سبحانه: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فاستجاب لله وانقاد له، وفعل هذه العبادة طوعا، لا كرها، عبادة لله، وطاعة له ولرسوله. وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر، وتطوع الخير خلاف تكرهه.

فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها، فهو متطوع خيرا، سواء كان واجبا، أو مستحبا، نعم ميز الواجب بأخص اسميه، فقيل: فرض، أو واجب وبقي الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين، كلغة الدابة والحيوان وغيرهما.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #85  
قديم 12-03-2022, 07:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (85)

من صــ 353 الى صـ
ـ 360


وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طاف في عمرته، وفي حجته، والمسلمون معه بين الصفا والمروة، وقال:
" «لتأخذوا عني مناسككم» "، والطواف بينهما من أكبر المناسك، وأكثرها عملا، وخرج ذلك منه مخرج الامتثال لأمر الله بالحج في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وفي قوله: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة: 196]، ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر، فكان فعله هذا على الوجوب، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات، وأما جنس تام من المناسك، ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة، فلا يجوز أصلا، وبهذا احتج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال عمرو بن دينار: " «سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة، فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة» " متفق عليه، وزاد البخاري: " «وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بالصفا والمروة» ".
وأيضا: فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: " «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، وذكر الحديث» " متفق عليه. وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة، وفي ضمنه أشياء كلها واجب.
وعن عائشة قالت: " «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل» " متفق عليه، فأمره بالحل بعد الطوافين، فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك.
وعن أبي موسى قال: " «أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت» "، وفي لفظ: " «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل» " متفق عليه. . .
ثم من قال: هو واجب يجب بتركهما هدي، قال: قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن، لأن المناسك ; إما وقوف، أو طواف، والركن من جنس الوقوف نوع واحد، فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا ; لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع.
ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام، فإنه إذا وقف بعرفة، ثم مات فعل عنه سائر الحج، وتم حجه، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط. والسعي لا يقصد بإحرام، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت، كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة، لأنه وقوف بعد وقوف، وطواف بعد طواف، ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول ; فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت، ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات، وقد دل على ذلك قوله {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] وقوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] الآية، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا ; لأن الأمر بذلك في القرآن أظهر ; وذلك لأن ما لا يفعل إلا تبعا لغيره، يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع، والناقص عن الركن هو الواجب ; ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب، وطرد ذلك أركان الصلاة، فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض ;
فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة، والركوع ابتداء في صلاة المسبوق، والسجود عند التلاوة والسهو، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده، فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض، وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده.
ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة.
ولأنه لو كان لتوقت أوله وآخره كالإحرام والطواف والوقوف، والسعي لا يتوقت.

ومن قال: إنه ركن احتج على ذلك بما روت صفية بنت شيبة أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: " «نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدة السعي، حتى أقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» "، وفي رواية: " «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» " رواه أحمد،ورواه أيضا عن صفية امرأة أخبرتها «أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة - يقول: كتب عليكم السعي فاسعوا» ".
وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد، وأمره على الوجوب كما تقدم، وما ثبت وجوبه: تعين فعله، ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل.
وأيضا: فإنه نسك يختص بمكان، يفعل في الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف بالبيت، وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته.
واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع، وقد قيل: نسك يتكرر في النسكين، فلم ينب عنه الدم كالطواف والإحرام.
وأيضا: فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا، لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا ; لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته، والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج، والسعي لا يختص بوقت.
وأيضا: فإن أفعال الحج على قسمين ; مؤقت وغير مؤقت، فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته، أو يجبر بدم، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله. وأما غير المؤقت: إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه، لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات، والطواف والسعي: ليسا بمؤقتين في الانتهاء فإلحاق أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار ; لأن ذلك يفوت بخروج وقته، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم. كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء.
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم. وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم. وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين.
فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم؛ وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم؛ فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه. وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك.
ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره. وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع: أكثر مما تستعظم ذلك من غيره؛ بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته؛ وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن. ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي؛ فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم: يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم.

(والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166)

وصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم.
وفي الآية " قولان ": قيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأوثانهم.
وقيل: يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم وهذا هو الصواب؛ والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم الإرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله؛ مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

من أحب غير الله ووالى غيره كره محب الله ووليه ومن أحب أحدا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه وكلاهما ضرر عليه. قال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}. قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا كانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #86  
قديم 12-03-2022, 07:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (86)

من صــ 361 الى صـ
ـ 368


فصل:
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئا جذبه إليه بحسب قوته ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته فإن المحب علته فاعلية والمحبوب علته غائية وكل منهما له تأثير في وجود المعلول والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها؛ فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل؛ فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضي انجذاب المحب إليه كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله وإلى امرأة ليباشرها وإلى صديقه ليعاشره وكما تنجذب قلوب المحبين لله ورسوله إلى الله ورسوله والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق لأجلها أن يحب ويعبد. بل لا يجوز أن يحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته والرب تعالى هو الذي يجب أن يحب لنفسه وهذا من معاني إلهيته و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء وحب النساء لما في ذلك من حفظ الأبدان،

وبقاء الإنسان؛ فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل. والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.

وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته فإن من تمام حبه حب ما يحبه وهو يحب الأنبياء والصالحين ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبا إلى حب الله وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه؛ كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله كما قال تعالى: {حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتجالسين في وحقت محبتي للمتباذلين في وإن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله وهم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال يتباذلونها ولا أرحام يتواصلون بها إن لوجوههم لنورا وإنهم لعلى كراس من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس} فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله.

كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله.

وهكذا إذا كان الحب لغير الله كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل فإن المحب يطلب المحبوب والمحبوب يطلب المحب بانجذاب المحبوب فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبا مجذوبا من الوجهين فيجب الاتصال ولو كان الحب من أحد الجانبين لكان المحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لكن المحبوب لا يقصد جذبه والمحب يقصد جذبه وينجذب وهذا " سبب التأثير في المحبوب " إما تمثل يحصل في قلبه فينجذب وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام ويلبس الثوب ويسكن الدار ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها.
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
وسئل:
عن الاجتهاد؛ والاستدلال: والتقليد؛ والاتباع؟

فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} في البقرة وفي المائدة وفي لقمان {أولو كان الشيطان يدعوهم} وفي الزخرف: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} وفي الصافات: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} وقال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} الآيات.
وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} وقال: {فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار} وفي الآية الأخرى: {من عذاب الله من شيء} وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه.
والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم.
أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون.
وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل.
وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة.
وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
(ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

بين الله السمع عن الكفار في غير موضع كقوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} وقوله: {ولا يسمع الصم الدعاء} وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس الحركة وإيجاب علم القلب حركة القلب فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعالى:
{إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله}. ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أي يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها - من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني - السمع الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم؛ فقال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}.
(ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها}.

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره: {الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر}. وكذلك قال للرسل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم}





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #87  
قديم 12-03-2022, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (87)

من صــ 369 الى صـ
ـ 376

وقال الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال الله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}. فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة والله إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه الله من الصيد وهو محرم والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه. ولهذا ميز سبحانه وتعالى بين خطاب الناس مطلقا وخطاب المؤمنين فقال:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين: أن يكون طيبا وأن يكون حلالا.
ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}. فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره؛ فما سواه لم يكن محرما على المؤمنين ومع هذا فلم يكن أحله بخطابه؛ بل كان عفوا كما في الحديث عن سلمان موقوفا ومرفوعا: {الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه}.
وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها}. وكذلك قوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة}. نفى التحريم عن غير المذكور فيكون الباقي مسكوتا عن تحريمه عفوا والتحليل إنما يكون بخطاب؛ ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}. إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات وقبل هذا لم يكن محرما عليهم إلا ما استثناه. وقد {حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير} ولم يكن هذا نسخا للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك ولكن سكت عن تحريمه فكان تحريمه ابتداء شرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وأبي هريرة وغيرهم: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن؛ فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه}.
وفي لفظ: {ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر. ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع}. فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب. وأن الله حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط. إنما أحل الطيبات وهذه ليست من الطيبات وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها؛ لا مأذونا في أكلها. وأما " الكفار " فلم يأذن الله لهم في أكل شيء ولا أحل لهم شيئا ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه؛ بل قال: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}. فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالا؛ وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا.
ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكا شرعيا؛ لأن الملك الشرعي هو القدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم والشارع لم يبح لهم تصرفا في الأموال إلا بشرط الإيمان؛ فكانت أموالهم على الإباحة. فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهرا يستحلونه في دينهم وأخذوها منهم؛ صار هؤلاء فيها كما كان أولئك.

والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها ملكوها شرعا لأن الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات. ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين " فيئا "؛ لأن الله أفاءه إلى مستحقه أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته.

وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه؛ فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر}. وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته} رواه أحمد وابن خزيمة في " صحيحه " وغيرهما. فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه كما يكره فعل معصيته.
وبعض الفقهاء يرويه: {كما يحب أن تؤتى عزائمه}. وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث: {القصر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته}. ولأنه بها تتم عبادته وطاعته.

(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

والذين قالوا لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن " الباغي " هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله و " العادي " هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق. قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه. وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد.
وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر. قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة. أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية:
الأنعام والنحل وفي المدنية: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين؛ بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه.
وأيضا فقوله {غير باغ} حال من {اضطر} فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: {فلا إثم عليه} ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى. والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان. فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى:
{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد؛ لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ " نوعان ": نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة. ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون في قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث.
وكثير من الكتب المصنفة في " أصول علوم الدين " وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في " المسألة العظيمة " كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب؛ بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه كما في قوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} وقال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.

وقد {خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه}. ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #88  
قديم 12-03-2022, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (88)

من صــ 377 الى صـ
ـ 384

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ... (177)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وكذلك لفظ " البر " يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ " التقوى " وكذلك " الدين أو دين الإسلام " وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية وقد فسر البر بالإيمان وفسر بالتقوى وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله والجميع حق وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: {جاء رجل إلى أبي ذر فسأله عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية؛ فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فقرأ عليه الذي قرأت عليك فقال له الذي قلت لي.

فلما أبى أن يرضى قال له: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها}. وقال: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد {أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية} وروي بإسناده عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فسألتهم فلم يجيبوني فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال:
سبحان الله أما يقرءون الآية التي في البقرة: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}؟. قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} - إلى قوله - {وأولئك هم المتقون} فقال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم.
(فصل في حديث جبريل: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث» لماذا قال: الإسلام هذه الخمس؟)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس؛ فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيام العبد بها يتم إسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
و " التحقيق " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين. وهذه هي الخمس وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح فلا يعم وجوبها جميع الناس؛ بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا؛ وإقراء وتحديث وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه وقد يسقط بإسقاطه. وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب والعواري والودائع والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض؛ إنما هي حقوق الآدميين وإذا أبرئوا منها سقطت.
وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام وحقوق الزوجة والأولاد والجيران والشركاء والفقراء.
وما يجب من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والإمارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد؛ كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب؛ فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس؛ فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله؛ والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه ولم تطلب من الكفار.
وحقوق العباد لا يشترط لها النية ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار وما يجب حقا لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد وفيها شوب العقوبات فإن الواجب لله " ثلاثة أنواع ": عبادة محضة كالصلوات وعقوبات محضة كالحدود وما يشبهها كالكفارات. وكذلك كفارات الحج وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد وهو واجب في ذمته.
وأما " الزكاة " فإنها تجب حقا لله في ماله. ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم ويجب حمل العاقلة ويجب قضاء الديون ويجب الإعطاء في النائبة ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية. لكن بسبب عارض والمال شرط وجوبها كالاستطاعة في الحج فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه؛ حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلدة أخرى وهي حق وجب لله تعالى. ولهذا قال: من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها فلا تجب على الصغير والمجنون.
وأما عامة الصحابة والجمهور كمالك والشافعي وأحمد فأوجبوها في مال الصغير والمجنون لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما بخلاف بدنهما.
فإنه إنما يتصرف بعقلهما؛ وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية. وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما. والصلاة والصيام إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء.
(فصل جامع في الآية الكريمة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس {عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية} "
وقد دلت على أمور:
أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون وعامة هذه الأمور فعل مأمور به.

والثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهلها هم الصادقون يعني في قوله: (آمنا) وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه.

وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} {وإن الفجار لفي جحيم} وقال: {أم نجعل المتقين كالفجار} {إن المتقين في جنات ونهر} وقال: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم: وهم المتقون والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة وقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} وقوله لبني إسرائيل: {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا}. وقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} في " سبحان " " والروم " فإتيان ذي القربى حقه صلة الرحم والمسكين إطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العاني واليتيم نوع من إطعام الفقير. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم " {عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني} "
وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: " {لو صدق السائل ما أفلح من رده} ".
وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم في هود: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي الشعراء:{ألا تتقون} {فاتقوا الله وأطيعون} وقال تعالى: {ولكن البر من اتقى} وقال تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} وقال: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}.
فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التي يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فإن الواجب إما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به. وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد؛ وذلك أن التقوى إما تقوى الله:

وإما تقوى عذابه كما قال: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمي ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الإثم بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة فإن هذا هو المستحب الذي له أن يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى. ونقول ثانيا: إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي أن قيل ذلك كما في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى}





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #89  
قديم 12-03-2022, 07:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (89)

من صــ 385 الى صـ
ـ 392

بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به. ونقول
ثالثا: إن أكثر بني آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به لا تتصور تقوى وهي فعل ترك وقط؛ فإن من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلا بد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التي أمروا بها وتمنعهم من السيئات التي تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فإن وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد فلا يسلم له؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى كما قال تعالى: {والعاقبة للتقوى} {والعاقبة للمتقين} {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}.
وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه وكانت عاقبته سليمة. وغير المتقي بمنزلة من خلط من الأطعمة؛ فإنه وإن اغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه أمراضا إما مؤذية؛ وإما مهلكة. ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الأغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التي تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة؛ وقد يخاف عليه العطب وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة. فالأول نظير من ترك المأمور به
والثاني نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والثالث نظير المتقي الذي فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط؛ فإنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار فمن سلم من النار دخل الجنة ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب والنعيم جميعا. فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولا بد: تضمنا أو استلزاما وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب.
(فصل: في اليتيم وتعظيم أمره)
وقال - قدس الله روحه -:
فصل:

" اليتيم " في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه هو الذي يهذبه؛ ويرزقه؛ وينصره: بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده؛ وكان نفقته عليه وحضانته عليه والإنفاق هو الرزق. و " الحضانة " هي النصر لأنها الإيواء ودفع الأذى. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول والمظلوم عاجز ضعيف فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضى ومن جهة ضعف المانع ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم؛ الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه وفجور الآدمي الذي لا وازع له. فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} - إلى قوله - {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين}

وقوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} وقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} - إلى قوله - {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} وقوله:

{وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} - إلى قوله - {وبذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن} - إلى قوله - {وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقوله: في الأنعام: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وقوله:
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} وقوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} وقوله: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} وقوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {فذلك الذي يدع اليتيم} {ولا يحض على طعام المسكين}.

(ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)
قال أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -:

في قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية وفيها قولان:
أحدهما: أن القصاص هو القود وهو أخذ الدية بدل القتل كما جاء عن ابن عباس أنه كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فجعل الله في هذه الأمة الدية فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء} والعفو هو أن يقبل الدية في العمد {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كان على بني إسرائيل والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. قال قتادة: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وكان الحي إذا كان فيهم عدد وعدة فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن يقتل به إلا حر تعززا على غيرهم وإن قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا لن يقتل بها إلا رجلا فنزلت هذه الآية وهذا قول أكثر الفقهاء وقد ذكر ذلك الشافعي وغيره.
ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد لقوله: {والعبد بالعبد} فينقض ذلك عليه بالمرأة فإنه قال: {والأنثى بالأنثى} وطائفة من المفسرين لم يذكروا إلا هذا القول.
" القول الثاني " أن القصاص في القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عصبية وجاهلية فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء فأمر الله تعالى بالعدل بين الطائفتين بأن يقاص دية حر بدية حر ودية امرأة بدية امرأة وعبد بعبد فإن فضل لإحدى الطائفتين شيء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف ولتؤد الأخرى إليها بإحسان وهذا قول الشعبي وغيره وقد ذكره محمد بن جرير الطبري وغيره وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات؛ لكن المعنى الثاني هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه؛ بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى وما ذكرناه يظهر من وجوه.
أحدها أنه قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} و " القصاص " مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصا ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر والقصاص في القتلى إنما يكون إذا كان الجميع قتلى كما ذكر الشعبي فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت فهنا المقتول لا مقاصة فيه ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره وفي اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء قيل: تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمي ولا حر بعبد وهو قول الأكثرين مالك والشافعي وأحمد وقيل لا تعتبر المكافآت كقول أبي حنيفة والمكافآت لا تسمى قصاصا.
وأيضا فإنه قال: {كتب عليكم القصاص} وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب وإن أريد به استيفاء القود فذلك مباح للولي إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال: هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه فيقال له: هو تعالى قال:
{كتب عليكم القصاص في القتلى} وليس هذا خطابا للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول بدليل قوله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ثم لا يقال للقاتل: كتب عليك القصاص في المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه.
و " أيضا " فنفس انقياد القاتل للولي ليس هو قصاصا؛ بل الولي له أن يقتص وله أن لا يقتص وإنما سمي هذا قودا لأن الولي يقوده وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشتري ثم قال تعالى: {الحر بالحر} فكيف يقال مثل هذا قصده القاتل؛ بل هذا خطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة في القتل.
{والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: كتاب الله القصاص لما كسرت الربيع سن جارية وامتنعوا من أخذ الأرش فقال أنس بن النضر: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم بالأرش فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} كقوله تعالى:

{والجروح قصاص} يعني " كتاب الله " أن يؤخذ العضو بنظيره فهذا قصاص لأنه مساواة ولهذا كانت المكافآت في الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء وإن قيل القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء قيل: نعم وهذا قصاص في الأحياء لا في القتلى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #90  
قديم 12-03-2022, 07:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (90)

من صــ 393 الى صـ
ـ 400



(الثاني أنه قال: {في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر والحر يقتل بالحر وبالأنثى أيضا عند عامة العلماء وقيل:
يشترط أن تؤدى تمام ديته وإذا كان كذلك فقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر وينظر أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل أما في القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين.
(الثالث أنه قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} لفظ (عفي)هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال: (عفي) (شيء) ولم يقل: (عفا) (شيئا) وهذا إنما يستعمل في الفعل كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه عفوت عن القاتل فولي المقتول بين خيرتين: بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شيء؛ بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين. وقد قال بعضهم: {من أخيه} أي من دم أخيه أي ترك له القتل ورضي بالدية؛ والمراد القاتل يعني أن القاتل عفي له من دم أخيه المقتول أي ترك له القتل فيكون التقدير أن الولي عفا للقاتل من دم المقتول شيئا وهذا كلام لا يعرف لا يقال: عفوت لك شيئا ولا يقال: عفوت من دم القاتل وإنما الذي يقال: إنه عفا عن القاتل فأين هذا من هذا؟.
وأما على القول الأول فالمتقاصان إذا تعادا القتلى فمن عفي له أي فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى أي هذا الذي فضل له فضل كما يقال: أبقي له من جهة أخيه بقية {فاتباع بالمعروف} فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف وذلك يؤدي إلى هذا بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} أي من أن كل طائفة تؤدي قتلى الأخرى فإن في هذا تثقيلا عظيما له {ولكم في القصاص حياة} فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشيء فحيي هؤلاء وحيي هؤلاء بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون وتقوم بينهم الفتن التي يموت فيها خلائق كما هو معروف في فتن الجاهلية والإسلام إنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين وإلا فمع التعادل والتناصف الذي يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة. وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو آذاهم بسبب ما بينهم من الدم {فله عذاب أليم} وهذا كقوله:

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} و " الأخوة " هنا كالأخوة هناك وهذا في قتلى الفتن.

وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل أو من هو أكثر من القاتل أو اثنين بواحد وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه كما قيل: إنه كان بين قريظة والنضير لكن هذا لم تثر به الفتن بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة ولم يكن في الأمم من يقول إن القاتل الظالم المتعدي مطلقا لا يقتل فهذا لم يكن عليه أحد من بني آدم؛ بل كل بني آدم مطبقون على أن القاتل في الجملة يقتل لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل.

وقول من قال: إن قوله: {ولكم في القصاص حياة} معناه أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان في ذلك حياة له وللمقتول يقال له: هذا معنى صحيح؛ ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس وهو مغروز في جبلتهم وليس في الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله؛ بل كلهم مع التساوي يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس. . . (1)

إذا كان كل من قدر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية؛ بل هذا مما يدخل في معناه وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص في المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فجعل دية هذا كدية هذا ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم في الدماء والديات وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التي توجب هلاكهم كما هو معروف وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به وإذا علم أن التقاص يقع للتساوي في الديات علم أن للمقتول دية.

ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة فيدل على أن الله أوجب العدل والإنصاف في أمر القتلى فمن قتل غير قاتله فهو ظالم والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل. وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} وإذا دلت على العدل في القود بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال ولم يقل: فلم لا قال: والعبد بالعبد والحر؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به في القتلى ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة والمرأة بالمرأة لا بالحر والعبد بالعبد. فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة في الآية.
ودلت الآية حينئذ على أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين في الدم وبدله هو الدية ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر ولا لها مفهوم ينفي ذلك؛ بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى كذلك تدل على هذا أيضا؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى.
وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفي ولا إثبات ولا لها مفهوم يدل عليه لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان في المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوي الديات دل ذلك على قتل النظير بالنظير والأدنى بالأعلى. يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية ليس في الآية تعرض له فإنه لم يقصد بها ابتداء القود وإنما قصد المقاصة في القتلى لتساوي دياتهم.
فإن قيل: دية الحر كدية الحر ودية الأنثى كدية الأنثى ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة؟.
قيل: عبيدهم كانوا متقاربين القيمة وقوله: {والعبد بالعبد} قد يراد به بالعبد المماثل به كما يقال: ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة فذاك مما عفي له وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب فإن المقتولين في الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم فهذا يكون مع العلم بتساوي القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين قيل ثوب بثوب وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين:
يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك في أحدهما فكيف إذا كان من الطرفين؟. فظهر حكمة قوله: {والعبد بالعبد} وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به ويحقن به دماؤهم ويحيون به ودخل في ذلك ما ذكره الآخرون من العدل في القود.

ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات فدل على ثبوت الدية على القاتل وأنها مختلفة باختلاف المقتولين وهذا مما من الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أثبت القصاص والدية. وأما كون العفو هو قبول الدية في العمد وأنه يستحقها العافي بمجرد عفوه فالآية لم تتعرض لهذا.

ودلت هذه الآية على أن الطوائف الممتنعة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى من دم ومال بطريق الظلم لقوله: {من أخيه} بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار والكفار للمسلمين. وأما القتال بتأويل " كقتال أهل الجمل وصفين " فلا ضمان فيه أيضا بطريق الأولى عند الجمهور فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون فالمسلمون المتأولون أولى أن لا يضمنوا. ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوي فيه الردء والمباشر لا يقال: انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال: ديته عليكم كلكم فإنكم جميعا قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له وعلى هذا دل قوله:
{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التي ذهبت إليهم فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التي يقدر المسلمون عليها مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها فيعطي المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التي يستحقه الكفار لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بضعها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذي تزوج بالمرتدة لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا صارت كالشخص الواحد.
ولهذا لما قتل خالد من قتل من بني جذيمة وداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالدا نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول وكذلك عمرو بن أمية وعاقلته خالد بن الوليد لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه وقد تنازع الفقهاء في خطأ ولي الأمر هل هو في بيت المال أو على ذمته؟ على قولين.
ولهذا كان ما غنمته السرية يشاركها فيه الجيش وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض فإذا اشتركوا في المغرم اشتركوا في المغنم وكذلك في العقوبة يقتل الردء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء كما قتل عمر رضي الله عنه ربيئة المحاربين وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهو مذهب مالك في القتل قودا وفي السراق أيضا.
وبيان دلالة الآية على ذلك أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولي الحر من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره؛ لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى.

فإن قيل: إذا كان مستقرا في فطر بني آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل وليس في الآدميين من يقول إنه لا يقتل فما الفائدة في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها} - أي في التوراة - {أن النفس بالنفس والعين بالعين} الآية. إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم؟. قيل لهم: فائدته بيان تساوي دماء بني إسرائيل وأن دماءهم
__________
Q (1) بياض بالأصل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 304.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 298.61 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.92%)]