|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
بين رؤية الشوق والسرور ورؤية الفوق والغرور عامر الخميسي من أبلغ مشاهد القرآن وأكثرها عُمقًا وإيحاءً: تلك التي تَعرض الفارق الدقيق بين قلبين: قلب نبي قانت متواضع يفيض حبًّا وشوقًا لله، وقلوب قوم عنيدين قُساة يطلبون من الله معجزة بذهنية المفاوض المشترِط، لا العابد المشتاق، فحين نتأمل في قصة طلب موسى عليه السلام لرؤية الله بجملته الخاشعة المؤثرة: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، ونقارنها بجملة قومه القاسية: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، نجد أنفسنا أمام درس أخلاقي وروحي رفيع حول الأدب مع الله، وحول طبيعة الإنسان في ظل الشوق والإيمان، أو الجحود والعناد. سرُّ العبارة ونبرة القلب: يبدأ موسى عليه السلام دعاءه بنداء "ربي"، كلمة عظيمة تختصر مشاعر الضعف والأُنس، والحب والخضوع معًا، فيها استحضار للربوبية، وإعلان للعبودية، وتذلُّل وافتقار ظاهر، كأنه يفتح قلبه لعطاء الرحمة قبل أن ينطق برغبته، ثم جاء طلبه في غاية رقة الأسلوب والأدب: لم يشترط، لم يحتج، بل عبَّر عن شوق صادق: "أرني أنظُر إليك"، بلاغة التعبير هنا عميقة المعنى، فهو يطلب الرؤية علامةَ حبِّ الشوق وغايته، لا اختبارًا للقدرة ولا عنادًا في الطلب. إن موسى عليه السلام بعد أن سمع كلام ربه، ورأى من الآيات والكرامات، وُلِدَ في قلبه شوق عظيم لملاقاة الله، فهو يعلم يقينًا عظمة خالقه، ولا يحتاج دليلًا على وجوده، إنما الجمال كله في أن هذا النبي يتلمس بلوغ منزلة ما بعدها من الأنس والقرب، فيطلب على استحياء ما ليس له وليس لغيره من البشر: الرؤية، وطلبه جملة دعائية متأدبة، فيها التسليم لإرادة الله وعدم الإصرار أو إساءة الأدب، كأنه يرجو ويعلم في الوقت نفسه أن الأمر لله وحده. أما طلب قوم موسى فوجه آخر من المشهد ذاته: حين خاطب بنو إسرائيل نبيهم في لحظة عناد، قالوا بصراحة: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، هنا غابت كل معاني الأدب والحياء؛ إذ جاء طلبهم مقرونًا بالتشدد والاعتراض ليس من باب الشوق أو الإيمان، بل اشتراط رؤية الله دليلًا ماديًّا حتى يحققوا الإيمان المطلوب منهم، لم يُفتَح الدعاء بنداء أو توسُّل، ولا حضر التواضع ولا روح العبودية، بل بدت الصيغة شبيهة بالمفاوضات، وكأنهم يريدون أن يَروه بالحواس حتى يقبلوا رسالة موسى. هنا الفرق الشاسع: طلب موسى قمة الحب والأنس بالله، وطلب قومه قمة الجفاء وقسوة القلب، بين شوق مشتعل وعناد بارد، موسى طلب الرؤية هائمًا بحب ربه، وهم طلبوها شرطَ إيمانٍ، كأنهم يريدون اختبار الله لا محبتَه، فاستحقوا العقوبة بالصاعقة جزاءً لقسوتهم وغرورهم. دروس في التربية القرآنية: يعلِّمنا هذا المشهد مركزيَّة الأدب مع الله في الدعاء: الشوق الصادق يفتح أبواب القرب، بينما التشدد والتعالي يُغلقانها، ليست العبرة بكثرة الطلب والإلحاح، بل بجمال الروح وخضوع القلب. دعاء موسى يعكس التواضع وغاية الأدب، فقد ابتدأه باسم الربوبية وذاق طعم القرب، وطلب ما يُطلب بالأدب مع كامل التسليم لله، بينما قومه أساؤوا الأدب وغلُظت قلوبهم، فجاءهم الحرمان. الفرق الجوهري أن هناك طلبًا يفتح لك أبواب السماء، وهو مَنشؤه الحب والشوق، وآخر يُغلقها إذا جاء عن عناد وجمود قلب؛ لذلك علَّم الله موسى عليه السلام أن الرؤية غير ممكنة للبشر في الحياة الدنيا برحمة ولطف، بينما عاقب بني إسرائيل فورًا لما قابَلوا النعمة بالتعالي. مصداق ذلك في حياة الإنسان: من نظر في القصص القرآني يُدرك أن لكل مؤمن نصيبًا مما كان عليه الأنبياء والصديقون، وأن الأصل في العبادة والاستجابة هو الصدق في التوجه والأدب في الطلب، القلب الذي يحيا ويخشع ويرجو، لا يفرض ولا يعاند، بل يبكي ويطلب، ويقبل ما قسَمه الله بطمأنينة؛ أما القلب القاسي فيجادل ويشترط، ويُبعِد نفسه عن نور القرب؛ لهذا جاء في الحديث: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ". الدعاء لله سلوك قلبي قبل اللفظ، وحياة القلب بالإيمان والحياء هي التي تزيِّن الطلب وتُقرِّب الاستجابة. وفي النهاية يذكِّرنا القرآن بهذا الفارق بين القلوب، ويَحُثُّنا أن نكون أقرب لأدب موسى عليه السلام: قلوبًا يَملؤها الحب، تستشعر الغنى بالله، وتتعلم التواضع بين يديه، فلا تدخل في جدل ولا خصام مع ربها، بل تجعل الأدب تاج الدعاء، وتَفهم أن أعظم الطلب ما كان عن محبة وشوق لا عناد ومِراء.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |