|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() التزهيد في الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجِبليَّة والطَّبَعِيَّة عمرو عبدالله ناصر جرى عند كثير من المتأخرين تقسيم الأفعال النبوية في باب السنة إلى أفعال تشريعية، وأخرى غير تشريعية، ثم بُني على هذا التقسيم ترتيبات علمية في تقرير الأحكام، وتفريع المسائل، وتنزيل الأدلة في مراتبها. وهذا إذا ضُبط على المعيار الشرعي المستقيم كان سائغًا مستقيمًا، جاريًا على وفق التراتيب العلمية والاصطلاحات المستقرة، وكان عونًا على تقريب العلم، وتوضيح منازله، وتحرير مراتبه، غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن هذا التقسيم إذا جُعل حاكمًا على الحقائق الشرعية، بحيث يفرِّغ بعض الأفعال النبوية من دلالاتها، ويجعل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجِبْلَة أو العادة مجرد فعلٍ لا ارتباط له بمعاني التعظيم والاقتداء؛ كان ذلك خطأ وغلطًا. إذ الأفعال النبوية – على تنوع مراتبها – لا يجوز أن تُفصَل عن مقام النبوة، ولا أن تُجرَّد عن المعاني التي تقوم في النفوس من المحبة والتوقير والتعظيم؛ فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم ليس كمقام غيره من البشر، بل كل ما اتصل به صلى الله عليه وسلم له حظٌّ من الاعتبار، وإن تفاوتت مراتبه بين التشريع المحض، والاقتداء العام، والتأسي القلبي الذي ينشأ من محبته وتعظيمه. وعليه؛ فإن التقاسيم إنما تُجعل خادمةً لفَهم الحقائق، ومُعينة على إدراك مراتبها، لا أن تكون حاكمة عليها أو قاطعة لدلالاتها؛ ومن ثَم يظهر أن ميزان الفقه في هذا الباب إنما يقوم على الجمع بين التأصيل والاستقراء، وبين النظر في مقاصد الشريعة ومعهود الأئمة، لا على مجرد بناء نظري يقطع الصلة بما عليه الأئمة الأعلام من لزوم الاتباع والتوقير. وبذلك يظهر أن ليس من الحكمة ولا من كمال الفقه والتربية، أن يُزهد من قصد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في أفعاله العادية الجبلية، بحجة أن هذا ليس من باب التشريع المحض ولا مما يتعبد به المكلَّف؛ فإن عامة المسلمين قد امتلأ في قلوبهم حب نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقصد بعضهم قصدًا عظيمًا الاقتداء به في هيئاته وأفعاله، وربما باشر أحدهم فعلًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله لا لمحض التعبد، ولكن لمجرد المحبة والاتباع، وهذا أمر مشاهَد في الناس ومدرَك عند العامة، وهو في ذاته مقام رفيع، قد يكمل تحقيقه عند كثير منهم على وجهٍ لا يبلغ إليه بعض من يدَّعي العلم، ممن غلبت عليه التجريدات الذهنية دون أن تلامس قلبه المعاني على التمام؛ ولهذا فقد ترى بعضهم يزهِّد في تلك التصرفات أو يشنِّع على من يقاربها، كمن يحمل وينكر على متتبع الدُّبَّاء لا لامتياز مذاق عند الآكِل، ولكن لِما استقر في قلبه من حب النبي صلى الله عليه وسلم ومتابعته، وأنه كان يحب الدباء، فليس من الرشد أن يُنهى عن مثل هذا، ولا سيما إذا لم يقصد به ابتداع عبادة، ولا إنشاء هيئة زائدة على الشرع، وإنما هو من جنس الأفعال الجبلية المباحة، التي لا يترتب عليها ثواب أو عقاب بذاتها، وإنما يعتبر فيها قصد العبد ونيته، وما ينشأ عنها من تعظيم للدين، وتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم، وإجلالٍ لشعائر الله. ومن هنا يُعلم أن مثل هذه المقامات الرفيعة قد يقصر في إدراكها بعض من يغرق في التقاسيم والاصطلاحات، ويجعلها الحاكمة على الحقائق والمعارف الشرعية، مع أن التقاسيم إنما جُعلت وسيلةً لإدراك المعاني، لا أن تكون حاجزًا بينها وبين القلب، فليس من التمام أن يقسم فعل النبي صلى الله عليه وسلم تقسيمًا جامدًا بين ما كان بمحض الجبلة والعادة، وما كان تشريعًا وتعبدًا، ثم يُفرَّغ القسم الأول من كل معنًى، ويُجعل بمنزلة ما يفعله سائر البشر، دون اعتبار لما يقوم في القلوب من تعظيم وإجلال لمقام من صدر منه ذلك الفعل. ولهذا لم يكن دأب المتقدمين ولا سَمْتُهم ذلك الإلغاء المطلق، بل قد كان فيهم من يبالغ في مقاربة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الجبلي منها؛ كابن عمر رضي الله عنهما، وإن لم يكن جمهور الصحابة الكبار – كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي – يجرون على ذلك في عامة أمرهم، فالمقصود أن هذا الباب – في الجملة – له اعتبار من جهة تعظيم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاعله قد يؤجَر لا من حيث إصابة سنة تشريعية بعينها، ولكن لِما قام في قلبه من إجلال الدين، وتعظيم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما اتصل به من سننه وآثاره، ما دام أنه لم يُحدِث في الدين ما ليس منه، ولم يأتِ بعبادة مبتدعة، أو هيئة زائدة على الشرع. ولو صحَّ استدراك المستدرك في هذا الباب، لكان استدراكًا على أنس رضي الله عنه؛ فإنه قال في حديث الدباء: "فما زلت بعدُ يُعجبني الدُّبَّاء"، وقال: "فما صُنع لي طعام بعدُ أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صُنع"، فكان دوام محبته لذلك وتعمده إحضاره في طعامه من آثار ما وقر في قلبه من حب النبي صلى الله عليه وسلم، واقتدائه به، لا من مجرد ميل الطبع وحده، وهذا شاهد جليٌّ على أن النفوس المؤمنة إذا خالطها حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، انقادت إلى التأسي به في أفعاله الجبلية والعادية، وجعلت ذلك من جملة ما يقربها إليه، ويُشعرها بالأنس بسنته وآثاره؛ ولهذا يُعلم أن الشريعة لم تأتِ على صورة أوامر ونواهٍ تجريدية محضة، بل جاءت مشتملة على المقامات القلبية من الخشية والمحبة والإنابة، وعلى مقامات الاتباع والاقتداء، والتوقير للدين وتعظيمه، حتى يكون الدين كله قائمًا على الجمع بين الظاهر والباطن، وبين العمل والنية، وبين الأمر الشرعي والمقصد القلبي.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |